هي مكية، نزلت بعد سورة العاديات.
ومناسبتها لما قبلها : أنه وصف في الأولى الذي يكذب بالدين بأمور أربع : البخل. الإعراض عن الصلاة. الرياء. منع المعونة. وهنا وصف ما منحه رسوله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة، فذكر أنه أعطاه الكوثر، وهو الخير الكثير، والحرص على الصلاة ودوامها، والإخلاص فيها، والتصدق على الفقراء.
أسباب نزول هذه السورة :
كان المشركون من أهل مكة، والمنافقون من أهل المدينة، يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويلمزونه بأمور :
( ١ ) أنه إنما اتبعه الضعفاء، ولم يتبعه السادة الكبراء، ولو كان ما جاء به الدين صحيحا لكان أنصاره من ذوي الرأي والمكانة بين عشائرهم، وهم ليسوا ببدع في هذه المقالة، فقد قال قوم نوح له فيما قصه الله علينا :﴿ وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين ﴾ [ هود : ٢٧ ].
وقد جرت سنة الله في خلقه أن يسرع في إجابة دعوة الرسل الضعفاء، من قبل أنهم لا يملكون مالا فيخافوا أن يضيع في سبيل الدعوة الجديدة، ولا جاها ونفوذا فيخافوا أن يضيعا أمام الجاه الذي منحه صاحب الدعوة، وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا في دين الله وهم له كارهون، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل الله، ويأخذون في انتقاصهم، وكيل التهم لهم، تهمة بعد تهمة، والله ينصر رسله، ويؤيدهم، ويشد أزرهم.
وعلى هذا السنن سار أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدا له ولقومه الأدنين.
( ٢ ) إنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون، يقولون : انقطع ذكر محمد، وصار أبتر، يحسبون ذلك عيبا فيلمزونه به، ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه.
( ٣ ) إنهم كانوا إذا رأوا شدة نزلت بالمؤمنين طاروا بها فرحا، وانتظروا أن تدول الدولة عليهم، وتذهب ريحهم، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد.
فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون وهم ولا حقيقة له، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم، ولترد كيد المشركين في نحورهم، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة، وأن أتباعه هم المفلحون.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح المفردات : الكوثر : المفرط فيه الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر، ويقال للرجل الكثير العطاء : هو كوثر، قال الكُميت الأسدي :وأنت كثير يا بن مروان طيب | وكان أبوك ابن العقائل كوثرا |
الإيضاح :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾ أي إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير الذي يعجز عن بلوغه العدّ، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه، فإنما ذلك من فساد عقولهم، وضعف إدراكهم.
وبعد أن بشر رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم البشارة، وطالبه بشكره على ذلك، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورا ذليلا، أعقبه بقوله :﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾
﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ أي إن مبغضك -كائنا من كان- هو المقطوع ذكره من خيري الدنيا والآخرة، وأما أنت فستبقى ذريتك، ويبقى حسن صيتك، وآثار فضلك إلى يوم القيامة.
وشانئوه ما كانوا يبغضونه لشخصه ؛ لأنه كان محببا إلى نفوسهم ؛ بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة ؛ لأنه سفّه أحلامهم، وعاب معبوداتهم، ونادى بفراق ما ألفوه ونشؤوا عليه.
وقد حقق الله في شانئيه من العرب وغيرهم في زمنه صلى الله عليه وسلم ما يستحقونه من الخذلان والخسران، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر ؛ أما النبي صلى الله عليه وسلم، ومن اهتدى بهديه، فإن الله رفع منزلتهم فوق كل منزلة، وجعل كلمتهم هي العليا.
قال الحسن رحمه الله : عنى المشركون بكونه أبتر : أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله بين أن خصمه هو الذي يكون كذلك اه.
وصل ربنا على نبيك محمد الذي أعليت ذكره، وأذللت شانئه، صلاة تبقى ما بقي الدهر.