تفسير سورة الكوثر

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الكوثر من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
سورة الكوثر
مكية، وهي ثلاث آيات.
روى مسلم عن أنس قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفا إغفاءه ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال :" أنزلت علي آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرحمان الرحيم :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ١ فصل لربك وانحر ٢ إن شانئك هو الأبتر ٣ ﴾ قال : أتدرون ما الكوثر ؟ " قلنا : الله ورسوله أعلم، قال :" فإنه نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض يرد عليه أمتي يوم القيامة، أنيته عدو النجوم، فيختلج العبد منهم فأقول : رب إنه من أمتي. فيقول : ما تدري ما أحدث بعدك " ١ وأخرج الطبراني بسند ضعيف عن أبي أيوب قال : لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشى المشركون بعضهم إلى بعض فقالوا : إن هذا الصابئ قد بتر الليلة، فأنزل الله تعالى﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾، وكذا أخرج ابن المنذر عن ابن جريح. وأخرج ابن جرير عن شهر بن عطية قال : كان عقبة بن أبي معيط يقول : لا يبقى لمحمد ولد، وهو أبتر، فأنزل الله فيه ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾. وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ فصلّ لربك وانحر ﴾ قال : أنزلت يوم الحديبية. أتاه جبرائيل فقال : انحر وارجع، فقام فخطب خطبة القصر والنحر، ثم ركع ركعتين، ثم انصرف إلى البدن فنحرها، وفيه غرابة شديدة. وأخرج البزار وغيره بسند صحيح عن ابن عباس قال : قدم كعب بن الأشرف مكة، فقالت له قريش : أنت سيد أهل المدينة، ألا ترى إلى هذا المتبصر المنتبز من قومه، يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج، وأهل السقاية، وأهل السدانة. قال : أنتم خير منه. فنزلت ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف وابن المنذر عن عكرمة قال : لما أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت قريش : بتر محمد منا، فنزلت ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾. وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال : كانت قريش تقول إذا مات ذكور الرجل : بتر فلان، فلما مات ولد النبي صلى الله عليه وسلم قال العاص بن وائل : بتر محمد، فنزلت. وأخرج البيهقي في الدلائل مثله عن محمد بن علي بن الحسين، وسمى الولد القاسم. وأخرج البيهقي في الدلائل عن مجاهد قال : فنزلت في العاص بن وائل قال : أنا شأنئ محمد. وذكر البغوي أن العاص بن وائل السهيمي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من المسجد، وهو يدخل، فالتقيا عند باب بني سهم، وتحدثا، وأناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلما دخل العاص قالوا : من الذي تحدث معه ؟ قال : ذلك الأبتر. يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وكان قد توفي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة. وذكر محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان قال : كان العاص بن وائل إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعوه، فإنه رجل أبتر لا عقب له، فإذا هلك انقطع ذكره، فأنزل الله هذه السورة. قلت : والصحيح عندي أن نزول ﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾ لم يكن عند وفاة ابن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن القاسم مات بمكة قبل الهجرة، وفي رواية قبل البعثة، وما روي عن محمد بن علي فهو من رواية جابر الجعفي، وهو كذاب. وإبراهيم مات سنة عشر، جزم به الواقدي، وقال : يوم الثلاثاء بعشر خلون من ربيع الأول في سبيل الرشاد، والصحيح في نزول هذه السورة رواية مسلم عن أنس، ورواية البزار عن ابن عباس، حين قدم كعب بن الأشرف مكة، والله أعلم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الصلاة، باب: حجة من قال البسملة آية من كل سورة سوى براءة (٤٠٠)..

قوله تعالى :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ١ ﴾ قال أهل اللغة : الكوثر فوعل من الكثرة، كنوفل من النفل، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في القدر والخطر كوثرا، ومن ها هنا ما روى البخاري من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : إن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ؟ قال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه إياه. فعلى هذا حمل ابن عباس اللام في الكوثر للجنس، وزعم أن الحوض فرد من أفراده، وكذا من قال هو النبوة والقرآن، والأولى حمل اللام على العهد، تفسيره بما فسر به النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا حديث مسلم عن أنس. وفي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دخلت الجنة فإذا أنا بنهر حافتاه خيام اللؤلؤ، فضربت يدي إلى ما يجري فيه الماء فإذا مسك أذفر. قلت : ما هذا يا جبرائيل ؟ قال : هذا الكوثر الذي أعطاك الله ". ١ وعند أحمد والترمذي عنه مرفوعا قال :" هو أشد بياضا من اللبن، وأحلى من العسل، وفيه طيور أعناقها كأعناق الجزر ". قال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله إنها لناعمة قال :" آكلها أنعم منها يا عمر " ٢ وأخرج الطبراني عن أسامة بن زيد أن امرأة حمزة بن عبد المطلب قالت : يا رسول الله، إنك أعطيت نهرا في الجنة يدعى الكوثر ؟ قال :" أجل، وأرضه ياقوت ومرجان وزبرجد ولؤلؤ، هو ما بين أيلة وصنعاء، فيه أباريق مثل عدد النجوم ". وأخرج الطبراني عن حذيفة في قوله تعالى :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ١ ﴾ قال : نهر في الجنة أجوف، فيه آنية من الذهب والفضة لا يعلمها إلا الله تعالى. وأخرج أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" الكوثر نهر في الجنة، حافتاه من ذهب، والماء يجري على اللؤلؤ " الحديث٣ وأخرج البخاري عن عائشة أنها سألت عن قوله تعالى :﴿ إنا أعطيناك الكوثر ١ ﴾ قالت : نهر أعطاه الله تعالى نبيكم صلى الله عليه وسلم.
ذكر الحوض في رواية بضع وخمسين صحابيا : الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن بن علي، وحمزة بن عبد المطلب، وعائشة، وأم سلمة، وأبو هريرة، وأبي بن كعب، وعبد الرحمان بن عوف، وجابر بن عبد الله، وغيرهم، وسرد السيوطي في البدور السافرة الأحاديث الواردة فيه نحواً من سبعين.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الرقاق، باب: في الحوض (٦٥٧٨)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة طير الجنة (٢٥٤٢)..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الكوثر (٣٣٦١)، وأخرجه ابن ماجه في كتاب الزهد، باب: صفة الجنة (٤٣٣٤)..
﴿ فصلّ ﴾ الفاء للسببية، يعني فصل شكرا لله تعالى على ما أعطاك، فإن الصلاة جامعة لأقسام الشكر باللسان والقلب والجوارح، وقيل : معناه دم على الصلاة ﴿ لربك ﴾ خالصا بوجهه خلافا لمن يصلون وينحرون لغير الله، وخلافا لمن يراؤون فيها. ﴿ وانحر ﴾ البدن التي هي خيار أموال العرب، وتصدق على اليتامى والمساكين خلافا لمن يدعون اليتامى والمساكين ويمنعون الماعون، فهذه السورة كالمقابلة للسورة المقدمة. قال عكرمة وعطاء وقتادة : فصل لربك صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، فعلى هذا يثبت به وجوب صلاة العيد والأضحية. وقال سعيد بن جبير : فصل الصلاة المفروضة بجمع، وانحر البدن بمنى. وروي عن ابن الجوزاء، عن ابن عباس قال :﴿ فصل لربك وانحر ﴾ وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر.
﴿ إن شانئك ﴾ عدوك ومبغضك ﴿ هو الأبتر ﴾ أي لا عقب له، بمعنى أنه لا يعقبه ذكر حسن، ويعقبه اللعنة من الله والملائكة والناس أجمعين، فلا يرد ما قيل : إن العاص بن وائل كان له عقب وهو عمرو وهشام، فكيف يثبت له البتر وانقطاع الولد ؟ وأن عمرو وهشاما أسلما، فقد انقطعت بينه وبينهما، حتى لا يرثان، فهم من أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأزواجه أمهاتهم. وذكر خبر أن معرفاً باللام، وإيراد ضمير الفصل للدلالة على الحصر، يعني لست بأبتر، فإنه يبقى ذكرك مع الله تعالى أبدا، ويدوم حسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، والآخرة خير لك من الأولى، ويبقى ذكر المؤمنين من أمتك على ألسنة الملائكة والمؤمنين في قولهم : اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات. والله تعالى أعلم.
Icon