ﰡ
الكوثر فوعل من الكثرة، و﴿ أعطيناك ﴾ قرئ : أنطيناك، بإبدال العين نوناً، وليست النون مبدلة عن العين، كإبدال الألف من الواو أو العين في الأجوف ونحوه، ولكن كلاً منهما أصل بذاته، وقراءة مستقلة. قاله أبو حيان.
واختلف في الكوثر.
فقيل : علم.
وقيل : وصف.
وعلى العلمية قالوا : إنه علم على نهر في الجنة، وعلى الوصف قالوا : الخير الكثير.
ومما استدل به على العلمية، ما جاء في السنة من الأحاديث الصحاح، ذكرها ابن كثير وغيره.
وفي صحيح البخاري عن أنس قال : لما عرج برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : " أتيت نهرا حافتاه قباب اللؤلؤ مجوف. فقلت : ما هذا يا جبريل ؟ قال : هذا الكوثر ".
وبسنده أيضًا عن عائشة رضي الله عنها سئلت عن قوله تعالى :﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾، قالت : هو نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم، شاطئاه عليهما در مجوف، آنيته كعدد النجوم ".
وبسنده أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه.
قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير، الذي أعطاه الله إياه.
وذكر ابن كثير هذه الأحاديث وغيرها عن أحمد رحمه اللَّه : ومنها بسند أحمد إلى أنس بن مالك قال : " أغفى رسول الله صلى الله عليه وسلم إغفاءة، فرفع رأسه متبسماً إما قال لهم، وإما قالوا له : لم ضحكت ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه نزلت عليَّ آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إنا أعطيناك الكوثر ﴾، حتى ختمها، فقال : هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال : نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب يختلج العبد منهم، فأقول : يا رب إنه من أمتي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعبدك ".
وذكر ابن كثير ما جاء في صفة الحوض، وهذه النصوص على أن الكوثر نهر في الجنة، أعطاه اللَّه لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وفي الحديث الأخير عن الإمام أحمد قوله : " عليه خير كثير " يشعر بأن معنى الوصفية موجود.
ولذا قال بعض المفسرين : إنه الخير الكثير.
وممن قال ذلك ابن عباس، كما تقدم في حديث البخاري عنه.
واستدلوا على المعنى، بقول الشاعر الكميت :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب | وكان أبوك ابن الفصائل |
وقد أتت آيات تدل على إعطاء الله لرسوله الخير الكثير، كما جاء في قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا منَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ﴾ الآية.
وفي القريب سورة الضحى وفيها :﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ﴾، أعقبها بنعم جليلة من شرح الصدور، ووضع الوزر، ورفع الذكر، واليسر بعد العسر.
وبعدها في سورة التين جعل بلده الأمين، وأعطى المؤمنين الذين يعملون الصالحات أجراً غير ممنون.
وبعدها سورة اقرأ، امتن عليه القرآن، وعلمه ما لم يكن يعلم.
وبعدها سورة القدر : أعطاه ليلة خيراً من ألف شهر.
وبعدها سورة البينة : جعل أمته خير البرية، ومنحهم رضاه عنهم، وأرضاهم عنه.
وبعدها سورة الزلزلة : حفظ لهم أعمالهم، فلم يضيع عليهم مثقال الذرة من الخير.
وفي سورة العاديات : أكبر عمل الجهاد، فأقسم بالعاديات في سبيل اللَّه، والنصر على الأعداء.
وفي سورة التكاثر : تربيتهم على نعمه ليشكروها، فيزيدهم من فضله.
وفي سورة العصر : جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، تؤمن باللَّه وتعمل الصالحات، وتتواصى بالحق وتدعو إليه، وتتواصى بالصبر، وتصبر عليه.
وبعدها في سورة قريش : أكرم الله قومه، فآمنهم وأعطاهم رحلتيهم.
وفي السورة التي قبلها مباشرة، وهي سورة الماعون : يمكن عمل مقارنة تامة أولاً.
وفي الجملة، لئن كان المنافقون يمنعون الماعون، فقد أعطيناك الخير الكثير، ثانياً.
وعلى التفصيل ففي الأولى : وصف المنافقين والمكذبين بدع اليتيم، وفي الضحى قد بين له حق اليتيم ﴿ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ ﴾، فكان هو خير موكل، وخير كافل، ووصفهم هنا بأنهم لا يحضون على طعام المسكين.
وقد أوضح له في الضحى، ﴿ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ ﴾، فكان يؤثر السائل على نفسه، وهؤلاء ساهون عن صلاتهم يراءون بأعمالهم.
وفي هذه السورة ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ ﴾، أداء الصلاة خالصة لربه، وإطعام المسكين بنحر الهدي والضحية والصدقة، وكل ذلك خير كثير، يضاف إليه ما جاءت به السنة، كما في حديث : " أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأعطيت الشفاعة، وحلّت لي الغنائم، ولم تكن تحل لأحد قبلي. وكان النَّبي يبعث لقومه خاصة، فبعث للناس كافة، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ".
وقوله : " رفع لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه ".
وفي قوله تعالى :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾.
قال : " إِن الله تعالى قال : قد فعلت، قد فعلت ".
وقوله تعالى :﴿ وَمِنَ الَّليْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا ﴾، وهو المقام الذي يغبطه عليه الأولون والآخرون.
إلى غير ذلك من النصوص، بما يؤكد قول ابن عباس، عند البخاري : إن الكوثر : الخير الكثير.
وأن النهر في الجنة من هذا الكوثر الذي أعطيه صلى الله عليه وسلم.
في هذا مع ما قبله ربط بين النعم وشكرها، وبين العبادات وموجبها، فكما أعطاه الكوثر فليصل لربه سبحانه ولينحر له، كما تقدم في سورة لإيلاف قريش، في قوله تعالى :﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خوْفٍ ﴾.
وهناك ﴿ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ ﴾، وهو أكثر من رحلتيهم وأمنهم، ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ ﴾ مقابل ﴿ فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ﴾.
وقيل : إنه لما كان في السورة قبلها بيان حال المنافقين في السهو عن الصلاة والرياء في العمل، جاء هنا بالقدوة الحسنة ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ ﴾ مخلصاً له في عبادتك، كما تقدم في السورة قبلها ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ﴾.
وقوله تعالى في تعليم الأمة، في خطاب شخصه صلى الله عليه وسلم ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ﴾، مع عصمته صلى الله عليه وسلم من أقل من ذلك، والصلاة عامة والفريضة أخصها.
وقيل : صلاة العيد، والنحر قيل فيه أقوال عديدة :
أولها : في نحر الهدي أو نحر الضحية، وهي مرتبطة بقول من حمل الصلاة على صلاة العيد، وأن النحر بعد الصلاة كما في حديث البراء بن عازب " لما ضحى قبل أن يصلي، وسمع النَّبي صلى الله عليه وسلم يحث على الضحية بعد الصلاة، فقال : إني علمت اليوم يوم لحم فعجلت بضحيتي، فقال له : شاتك شاة لحم ؟ فقال : إن عندنا لعناقاً أحب إلينا من شاة، أفتجزىء عني ؟ قال : اذبحها، ولن تجزئ عن أحد غيرك ".
وتقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه مبحث الضحية وافياً عند قوله تعالى :﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾، وقد ذكروا في معاني : وانحر : أي ضع يدك اليمنى على اليسرى على نحرك في الصلاة، وهذا مروي عن علي رضي الله عنه.
وأقوال أخرى ليس عليها نص.
والنحر : هو طعن الإبل في اللبة عند المنحر ملتقى الرقبة، بالصدر.
وأصح الأقوال في الصلاة.
وفي النحر هو ما تقدم من عموم الصلاة وعموم النحر، أو الذبح لما جاء في قوله تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾.
واتفق الفقهاء على أن النحر للإبل، والذبح للغنم، والبقر متردد فيه بين النحر والذبح، وأجمعوا على أن ذلك هو الأفضل، ولو عمم النحر في الجميع، أو عمم الذبح في الجميع لكان جائزاً، ولكنه خلاف السنة.
وقالوا : إن الحكمة في تخصيص الإبل بالنحر، هو طول العنق، إذ لو ذبحت لكان مجرى الدم من القلب إلى محل الذبح بعيداً فلا يساعد على إخراج جميع الدم بيسر، بخلاف النحر في المنحر، فإنه يقرب المسافة، ويساعد القلب على دفع الدم كله، أما الغنم فالذبح مناسب لها، والعلم عند الله تعالى.
قال البخاري، عن ابن عباس رضي الله عنهما : شانؤك : عدوك ا ه.
والأبتر : هو الأقطع الذي لا عقب له.
وأنشد أبو حيان، قول الشاعر :
لئيم بدت في أنفه خنزوانة | على قطع ذي القربى أجذ أباتر |
وفي هذه الآية يخبر سبحانه وتعالى : أن مبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الأقطع.
فقيل : نزلت في العاصي بن وائل.
قال لقريش : دعوه، فإنه أبتر لا عقب له، إذا مات استرحتم، فأنزلها الله تعالى رداً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء مصداقها بالفعل في قوله تعالى : في غزوة بدر في قوله تعالى :﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ ﴾.
فقتل صناديد قريش، وصدق الوعيد فيهم.
ومثله عموم قوله تعالى :﴿ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ٤٥ ﴾.
وجاء :﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾.
فهي في معناها أيضاً.
وبقي ذكر رسول صلى الله عليه وسلم في عقبه من آل بيته، وفي أمته كلها.
كما تقدم في قوله تعالى :﴿ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾.