ﰡ
اختلف في معناه. فقيل : أن صل أمر بالصلاة على العموم في الفرائض والنوافل. وانحر : أمر بنحر الهدي والنسك ١ والضحايا. أي ليكن شغلك هذين. ولم يكن في ذلك الوقت جهاد. وقيل : هي مخصوصة بصلاة الصبح في المشعر الحرام ثم النحر بعدها بمنى، ٢ وقيل : هي مخصوصة بصلاة العيد ثم النحر بعدها، ٣ وأن الآية نزلت بالمدينة. وفي الآية على هذا القول الأمر بالضحية يوم النحر. وقد اختلف فيها : هل هي واجبة أم لا ؟ وفي المذهب القولان عن مالك، وقد روي عنه أن الضحية أفضل من الصدقة، وروي عنه أن الصدقة أفضل من الضحية. والمشهور عنه أنها سنة، ٤ والأمر في الآية محتمل للوجوب وللندب، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رفع احتمال الوجوب، قال صلى الله عليه وسلم : " أمرت بالنحر، وهو لكم سنة " ٥. وفي الآية أيضا على هذا القول – على قول من رأى أن الواو ترتب – أن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة، وإن لم نقل بأن الواو ترتب – وهو المشهور عن العرب – فقد تبين أن المراد ذلك بالإجماع. على أنه لا يجوز النحر قبل الصلاة، وبالأحاديث الواردة في ذلك كحديث أبي بردة بن نبار وغيره ٦. وقال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة فأمر أن يصلي ثم ينحر، وقاله قتادة. فهذا من نسخ السنة بالقرآن. وإنما اختلف في وقت النحر بعد الصلاة، فاعتبر مالك رحمه الله تعالى نحر الإمام بعد الصلاة، ورأى أنه من نحر بعد الصلاة قبل نحر الإمام لم يجزه وأعاد. واعتبر أبو حنيفة الصلاة خاصة دون نحر الإمام، فأجاز النحر بعد الصلاة. واعتبر الشافعي مقدار الصلاة والخطبتين، ولم يعتبر الصلاة ولا نحر الإمام، قال : فإن ذبح بعد مقدار ما توقع فيه الصلاة والخطبتان جاز، سواء صلى أو لم يصل. ودليل قول مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أبا بردة أن يعود بضحية أخرى، وكان ذبح قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال معمر عن الزهري في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ﴾ [ الحجرات : ١ ] نزلت في قوم ذبحوا قبل أن ينحر النبي صلى الله عليه وسلم وقبل أن يصلي، فأمرهم أن يعيدوا ٧، فتبين بما جاء من هذا أن المراد بالآية اعتبار الصلاة وذبح الإمام. وأما قول أبي حنيفة فهو أليق بظاهر الآية. وأما قول الشافعي فإنه يخالف ظاهر الآية والحديث ٨. وقد روي عن مالك أن من ذبح بعد الصلاة قبل ذبح الإمام أجزأه، وهو ينحو إلى قول أبي حنيفة. وفي ظاهر الآية أن الإبل والبقر أفضل من الغنم في الضحايا، وهو قول الشافعي ؛ لأنه تعالى أمر بالنحر، والنحر إنما يكون فيهما. وقال مالك رحمه الله تعالى : الغنم أفضل، لقوله صلى الله عليه وسلم : " خير الأضحية الكبش " ٩، وضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم به. ويحمل الأمر بالنحر في الآية أن جعلناها في الضحية خارجا على ما كان الأكثر عندهم في ذلك الوقت وهو الإبل، فلذلك خص النحر. وبين النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله أن الغنم أفضل، وأيضا فإنما فدي ابن إبراهيم عليهما السلام من الذبح بكبش ١٠.
وقيل في قوله تعالى :﴿ فصل لربك وانحر ( ٢ ) ﴾ : إنها نزلت يوم الحديبية وقت صلح قريش. قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم : صل وانحر الهدي. وعلى هذا تكون الآية من المدني، وهو قول ابن جبير ١١. وقيل : إنما معنى الآية : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة، وهو مروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ١٢. وفي هذا التأويل ضعف ؛ لأنه استعمل من اسم النحر فعلا، ولم يسمع من العرب. وفي صحة نقله عن علي رضي الله تعالى عنه نظر.
وقد اختلف الفقهاء في وضع اليمين على الشمال في الصلاة، فكره وأجيز واستحب. وعن مالك الروايات الثلاث. وحجة الاستحباب أو الجواز الآية على هذا التأويل. واختلف الذاهبون إلى ذلك أين يضع يديه إذا كانت كذلك. فمنهم من رأى تحت السرة ١٣، ومنهم من رأى عند النحر. وفي الآية دليل لمن قال عند النحر على هذا التأويل. وقال بعضهم : صل : أمر بالصلاة. وانحر : ارفع يديك في استفتاح الصلاة عند نحرك. وقد اختلف الفقهاء أيضا في رفع اليدين، فأجيز وكره واستحب. وفي المذهب الروايات الثلاث. وحجة الاستحباب والإجازة الآية على هذا التأويل. واختلف الذاهبون إلى ذلك أيضا إلى أين يرفع يديه ؟ فقيل : إلى الأذنين، وقيل : إلى النحر، وقيل : يرفع يديه من غير تحديد، وذلك واسع. وحجة من رأى الرفع إلى النحر الآية على هذا التأويل. وقيل معنى الآية : استقبل القبلة بوجهك ونحرك.
٢ نسبه القرطبي إلى سعيد بن جبير. فراجعه في الجامع لأحكام القرآن ٢٠/ ٢١٨..
٣ نسبه القرطبي إلى أنس. فراجعه في م. س. ، ن. ص..
٤ قال مالك: الضحية سنة وليست بواجبة ولا أحب لأحد ممن قوي على ثمنها أن يتركها. راجع الموطأ، كتاب الضحايا، باب: الضحية عما في بطن المرأة ١/ ٣٢٠..
٥ وفي مسند الإمام أحمد: "كتب علي النحر...." ١/ ٣١٧..
٦ جاء في الموطأ: حدثني يحيى عن مالك عن يحيى بن سعيد عن بشير بن يسار أن أبا بردة بن نبار ذبح ضحيته قبل أن يذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى فزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يعود بضحية أخرى. قال أبو بردة: لا أجد إلا جدعا يا رسول الله. قال: "وإن لم تجد إلا جدعا فاذبح". راجع الموطأ، كتاب الضحايا، باب: النهي عن ذبح الضحية قبل انصراف الإمام ١/ ٣١٨. وكذلك حديث عويمر بن أشقر الذي أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعود بضحية أخرى. راجع م. س. ، ن. ص..
٧ راجع لباب النقول ص ٧١٧..
٨ قال القرطبي: قال ابن العربي: ومن عجيب الأمر أن الشافعي قال: إنما من ضحى قبل الصلاة أجزأه، والله تعالى يقول في كتابه: ﴿فصل لربك وانحر (٢)﴾ فبدأ بالصلاة قبل النحر. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في البخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: "أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر. من فعل فقد أصاب نسكنا، ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء". وأصحابه ينكرونه وحبذا الموافقة. راجع الجامع لأحكام القرآن ٢٠/ ٢٢٠..
٩ الحديث أخرجه الترمذي في سننه عن أبي أمامة، كتاب الأضاحي ٤/ ٩٨..
١٠ راجع المنتقى، كتاب الضحايا، باب: ما يستحب من الضحايا ٣/ ٨٨..
١١ ذكره السيوطي في لباب النقول فراجعه في ص ٨٢٩..
١٢ وروي أيضا عن ابن عباس ومحمد بن كعب. راجع تنوير المقباس ص ٥٢٠، والجامع لأحكام القرآن ٢٠/ ٢١٩..
١٣ نسب القرطبي هذا القول إلى علي وأبي هريرة والنخعي وأبي مجلز وسفيان الثوري وإسحاق. راجع م. س. ، ن. ص..