تفسير سورة الكوثر

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة الكوثر من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿إِنَّا﴾: و ﴿إن﴾ (١): جار مجرى القسم في تأكيد الجملة. ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ يا محمد، عبر بصيغة الماضي مع أن العطايا الأخروية وأكثر ما يكون في الدنيا لم تحصل بعد إشعارًا بتحقق وقوعها.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ بالعين، وقرأ الحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني: ﴿أنطيناك﴾ بالنون، وهي قراءة مروية عن رسول الله - ﷺ -، قال الترمذي: هي لغة للعرب العاربة من أولي قريش، ومن كلامه - ﷺ -: "اليد العليا المُنطِية، واليد السفلى المُنطاة" ومن كلامه - ﷺ - أيضًا: "وانْطوا المنيحة"، وقال الأعمش:
جِيَادُكَ خَيْرُ جِيَادِ الْمُلُوْكْ تُصَانُ الْحَلَالَ وَتُنْطِيْ السَّعِيْرَا
قال أبو الفضل الرازي وأبو زكريا التبريزي: أبدل من العين نونًا، ﴿الْكَوْثَرَ﴾؛ أي: الخير المفرِط في الكثرة من العلم والعمل وشرف الدارين، والكوثر (٣) فوعل من الكثرة، وُصِف به للمبالغة في الكثرة، مثل النوفل من النفل، والجوهر من الجهر، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو القدر أو الخطر كوثرًا، ومنه قول الشاعر:
وَقَدْ ثَارَ نَقْعُ المَوْتِ حَتَّى تَكَوْثَرَا
قيل لأعرابية آب ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر؛ أي: بالعدد الكثير من الخير، فالمعنى على هذا (٤): إنا أعطيناك يا محمد الخير الكثير البالغ في الكثرة إلى الغاية.
وذكر أكثر المفسرين كما حكاه الواحدي: إلى أن ﴿الْكَوْثَرَ﴾. نهر في الجنة، وقيل: هو حوض النبي - ﷺ - في الموقف، قاله عطاء، وقال عكرمة: ﴿الْكَوْثَرَ﴾: النبوة، وقال الحسن: ﴿الْكَوْثَرَ﴾: القرآن، وقال الحسن بن الفضل: هو تفسير القرآن وتخفيف الشرائع، وقال أبو بكر بن عياش: هو كثرة الأصحاب والأمة،
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
377
وقال ابن كيسان هو: الإيثار، وقيل: هو الإسلام، وقيل: رفعة الذكر، وقيل: نور القلب، وقيل: الشفاعة، وقيل: هو المعجزات، وقيل: إجابة الدعوة، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الفقه في الدين، وقيل: الصلوات الخمس.
وذكر صاحب "التحرير" في الكوثر ستة وعشرين قولًا، والصحيح هو ما فسر به رسول الله - ﷺ -، فقال: "هو نهر في الجنة حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وعليه جمهور العلماء، كما جاء مبينًا في عدة أحاديث:
منها: ما رواه (١) الشيخان عن أنس - رضي الله عنه - قال: بينا رسول الله - ﷺ - ذات يوم بين أظهرنا إذا أغفى إغفاءة، ثم رفع رأسه متبسمًا، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال: "أنزلت علي آنفًا سورة، فقرأ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾ ثم قال: أتدرون ما الكوثر؟ قلنا: الله ورسوله أعلم قال: فإنه نهر وَعَدَنيه ربي عَزَّ وَجَلَّ خير كثير، وهو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء، فيختلج العبد منهم فأقول: رب إنه من أمتي، فيقول: ما تدري ما أحدث بعدك" هذا لفظ مسلم، وللبخاري قال: قال رسول الله - ﷺ -: "لما عُرج بي إلى السماء أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوَّف، فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، فإذا طينه - أو طينته - مسك أذفر" شك الراوي.
ومنها: ما أخرجه الترمذي عن أنس - رضي الله عنه -: سُئل رسول الله - ﷺ - ما الكوثر؟ قال: "ذلك نهر أعطانيه - يعني في الجنة - أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزور".
قال عمر: إن هذه لناعمة، فقال رسول الله - ﷺ -: "أَكَلَتُها أنعم منها"، وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
ومنها: ما رواه ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: "الكوثر نهر في الجنة،
(١) الخازن.
378
حافتاه من ذهب ومجراه على الدر والياقوت، تربته أطيب من المسك، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج" أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ومنها: ما رواه عامر بن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - قال: سألت عائشة عن قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ فقالت: نهر أعطيه نبيكم - ﷺ -، شاطئاه در مجوف، آنيته كعدد نجوم السماء. أخرجه البخاري.
ومنها: ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - ﷺ -: "حوضي مسيرة شهر، ماؤه أبيض من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء، من شرب منها لا يظمأ أبدًا" زاد في رواية "وزواياه سواء" متفق عليه.
ومنها: ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - ﷺ - قال: "أمامكم حوضي، ما بين جنبيه كما بين جرباء وأذرح" متفق عليه، وقال بعض الرواة هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاثة أيام، وفي رواية: "فيه أباريق كنجوم السماء، مَن وَرَدَهُ فشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا".
ومنها: ما رواه أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - ﷺ - قال: "ما بين ناحيتي" - وفي رواية: "لابَتَيْ حوضي، كما بين صنعاء والمدينة" وفي رواية "مثل ما بين المدينة وعمان" وفي رواية قال: "إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن، وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" متفق عليه.
ومنها: ما روي عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله ما آنية الحوض؟ قال: "والذي نفس محمد بيده، لآنِيَتُهُ أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية، آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه، يشخب فيه ميزابان من الجنة، من شرب منه لم يظمأ، عرضه مثله طوله، ما بين عمَّان إلى أيلة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل" أخرجه مسلم.
وبقي في هذا الباب أحاديث كثيرة لا يسعها هذا المختصر. قال القاضي عياض: وفي بعض هذه الأحاديث ما يقتضي كون الحديث متواترًا، وأما صفة الحوض ومقداره فقد قال في رواية "حوضي مسيرة شهر" وفي رواية: "ما بين جنبيه كما بين جرباء وأذرح" وفي رواية: "كما بين أيلة وصنعاء اليمن" وفي رواية: "مثل
379
طوله ما بين عمان إلى أيلة" وفي رواية: "إن حوضي لأبعد من أيلة إلى عدن"، فهذا الاختلاف في هذه الروايات في قدر الحوض ليس موجبًا للاضطراب فيها؛ لأنه لم يأت في حديث واحد، بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعات من الصحابة سمعوها من النبي - ﷺ - في مواطن مختلفة، ضربها النبي - ﷺ - مثلًا لبعد أقطار الحوض وسِعَته، وقرَّب ذلك على أفهام السامعين، لبعد ما بين هذه البلاد المذكورة لا على القدر الموضوع للتحديد، بل لإعلام السامعين عظم بُعد المسافة وسعة الحوض بقدر ما يعرفه كل من السامعين، وليس في ذكر القليل من هذه المسافة منع من الكثير، فإن الكثير ثابت على ظاهره، وصحت الرواية به، والقليل داخل فيه، فلا معارضة ومنافاة بينهما، وكذلك القول في آنية الحوض من أن العدد المذكور في الأحاديث على ظاهره، وأنها أكثر عددًا من نجوم السماء، ولا مانع يمنع من ذلك، إذ قد وردت الأحاديث الصحيحة الثابتة بذلك وقوله في الأحاديث" "كما بين جرباء وأذرح" جرباء قرية الشام، وأذرح مدينة في طرف الشام قريبة من الشوبك وأما عمان بليدة بالبلقاء من أرض الشام، وأيلة مدينة معروفة في طرف الشام على ساحل البحر متوسطة بين دمشق ومصر بينها وبين المدينة، نحو خمس عشرة مرحلة، وهي: آخر الحجاز وأول الشام، وأما صنعاء فهي قاعدة اليمن وأكبر مدنه، وإنما قيدها باليمن في الحديث؛ لأن بدمشق موضعًا يُعرف بصنعاء دمشق.
والمعنى: ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١)﴾؛ أي (١): إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير في يعجز عن بلوغه العد، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه، فإنما ذلك من فساد عقولهم وضعف إدراكهم؛ أي (٢): إنا بجلالنا وعظمة قدرتنا، فالإتيان بـ ﴿إن﴾ ونون العظمة؛ للتأكيد ولزيادة تشريفه - ﷺ -، والمعنى: قضينا به لك، وخصصناك به، وأنجزناه لك في علمنا، وتقديرنا الأزلي، وإن لم تستول عليه، والتصرف فيه إلا في القيامة، فالعطاء ناجز، والتمكن والاستيلاء عليه مستقبل.
إن قلت: إنه عبر هنا بالماضي، وفي الضحى بالمضارع، حيث قال: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾، فكيف الجمع بينهما؟.
(١) المراغي.
(٢) الصاوي.
380
قلت: أجيب عنه بأن في الضحى باعتبار التمكن والاستيلاء، وذلك يحصل في المستقبل في يوم القيامة، وما هنا بتقدير التقدير الأزلي.
والصحيح: أن للنبي - ﷺ - نهرين:
أحدهما: بعد دخول الجنة يسمى كوثرًا.
والثاني: قبل الصراط، ويسمى حوضًا، كما يدل عليه مجموع الأحاديث السابقة، واختُلف في الميزان والحوض أيهما قبل الآخر؟ فقيل: الميزان قبل، وقيل: الحوض قبل.
قال الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل، قلت: والمعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون من قبورهم عطاشًا، فيقدم قبل الصراط والميزان والله أعلم اهـ من "تذكرة القرطبي".
٢ - وبعد أن أكد الله سبحانه وتعالى لنبيه - ﷺ - الخبر بأن في أعطاه هو الكوثر الذي لا يُستقل عدده ولا يُنتقص قدره، وأن ما يعدونه كثيرًا وعظيمًا من خيراتهم ونعيمهم، فهو بالنسبة إليه قليل وحقير، طالبه الله سبحانه بالشكر على ذلك، فقال: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢)﴾؛ أي: وانحر له، فحذف اكتفاء بما قبله، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: فصل لنا، فانتقل إلى الاسم الظاهر؛ لأنه يوجب عظمة ومهابة، و ﴿الفاء﴾ (١) لترتيب ما بعدها على ما قبلها، فإن إعطاءه تعالى إياه - ﷺ - ما ذُكر من العطية التي لم يعطها، ولن يعطيها أحدًا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استيجاب، والنحر يكون في اللبة كالذبح في الحلق، ويصح أن تكون ﴿الفاء﴾ للإفصاح، والمعنى على الأول: فدم يا محمد على الصلاة لربك الذي أفاض عليك هذه النعمة الجليلة التي لا تضاهيها نعمة خالصًا لوجهه، كما دل عليه اللام الاختصاصية، خلافًا للساهين عنها المرائين فيها أداء لحقوق شكرها، فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، وهي ثلاثة: الشكر بالقلب؛ وهو أن يعلم أن تلك النعم منه تعالى لا من غيره، والشكر باللسان؛ وهو أن يمدح المنعم ويثني عليه، والشكر بالجوارح، وهو أن يخدمه ويتواضع له، والصلاة جامعة لهذه الأقسام، والمراد الأمر له - ﷺ - بالدوام على إقامة الصلوات المفروضة.
(١) روح البيان.
﴿وَانْحَرْ﴾ البُدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى، وتصدق بها على المحاويج، خلافًا لمن يَدُعُّهم ويمنع منهم الماعون، فالسورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وقد فسرت الصلاة بصلاة العيد، والنحر بالتضحية، وهذا يناسب كون السورة مدنية.
وعن عطية هي صلاة الفجر بجَمْعٍ، والنحر (١) بمنى، وقال محمد بن كعب: إن ناسًا كانوا يصلون لغير الله وينحرون لغير الله، فأمر الله نبيه - ﷺ - أن تكون صلاته ونحره له، وعن علي - رضي الله عنه -: النحر هاهنا وضع اليدين في الصلاة على النحر، وقال محمد بن كعب: النحر وضع اليمنى على اليسرى في الصلاة حذاء النحر، وقيل: هو، أن يرفع يديه في الصلاة عند التكبير إلى حذاء نحوه، وقيل: هو أن يستقبل القبلة بنحوه، قاله الفراء والكلبي وأبو الأحوص، وروي عن عطاء أنه قال: أمره أن يستوي بين السجدتين جالسًا حتى يبدو نحوه اهـ.
وقال سليمان التيمي: المعنى وارفع يديك بالدعاء إلى نحرك، وظاهر الآية الأمر له - ﷺ - بمطلق الصلاة ومطلق النحر، وأن يجعلهما لله عَزَّ وَجَلَّ لا لغيره، وما ورد في السنة من بيان هذا المطلق بنوع خاص، فهو في حكم التقييد له، والمعنى؛ أي (٢): اجعل صلاتك لربك وحده، وانحر ذبيحتك وما هو نسك لك لله أيضًا، فإنه هو الذي رباك، وأسبغ عليك نعمه دون سواه، كما قال تعالى آمرًا له: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)﴾
٣ - وبعد أن بشر رسوله - ﷺ - أعظم البشارة وطالبه بشكره على ذلك، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورًا ذليلًا.. أعقبه بقوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾؛ أي: إن مبغضك يا محمد كائنًا من كان كأبي جهل وأضرابه ﴿هُوَ﴾ ضمير فصل ﴿الْأَبْتَرُ﴾؛ أي: المنقطع عن كل خير على العموم، المقطوع ذكره في الدنيا والآخرة؛ لبغضه لك؛ لأن (٣) نسبة أمر إلى المشتق تفيد علية المأخذ، يقال: شنأه - كمنعه وسمعه - شنًا إذا أبغضه، والبغض ضد الحب، والبتر يستعمل في قطع الذَّنَب، ثم أجري قطع العقب مجراه، فقيل: فلان أبتر إذا لم يكن له عقب يخلفه، والمعنى: إن مبغضك على العموم هو الذي لا عقب له، حيث لا يبقى له نسل ولا
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
382
حسن ذكر، وأما أنت فتبقى ذريتك وحسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان.
وشانئوه (١) ما كانوا يبغضونه لشخصه؛ لأنه كان محببًا إلى نفوسهم، بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة؛ لأنه سفه إحلامهم وعاب معبوداتهم، ونادى بفراق ما ألفوه ونشؤوا عليه، وقد حقق الله سبحانه الذي شانئيه من العرب وغيرهم الذي زمنه - ﷺ - ما يستحقونه من الخذلان والخسران ولم يبق لهم إلا سوء الذكر. أما النبي - ﷺ - ومن اهتدى بهديه، فإن الله سبحانه رفع منزلتهم فوق كل منزلة وجعل كلمتهم هي العليا.
قال الحسن - رحمه الله تعالى -: عني المشركون بكونه أبتر أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه، والله سبحانه بيَّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك اهـ.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما (٢) -: نزلت هذه السورة في كعب بن الأشرف وجماعة قريش، وذلك أنه لما قدم كعب بن الأشرف قالت له قريش: نحن أهل السقاية والسدانة، وأنت سيد أهل المدينة، أفنحن خير أم هذا الصنبور المنبتر من قومه؟ فقال: أنتم خير منه، فنزلت فيه: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ...﴾ الآية، ونزلت في الذين قالوا: إنه أبتر ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾؛ أي: المنقطع عن كل خير، وقولهم في النبي - ﷺ -: هذا الصنبور أرادوا أنه فرد ليس له ولد، فإذا مات انقطع ذكره، شبهوه بالنخلة المنفردة يدق أسفلها، وتسمى الصنبور، وقيل: هي النخلة التي يخرج في أصل أخرى لم تغرس، وقيل: الصنابر سعفات تنبت من جذع النخلة تضر بها، ودواؤها أن تُقطع تلك الصنابر منها، فأراد كفار مكة أن محمدًا - ﷺ - بمنزلة الصنبور ينبت في جذع نخلة، فإذا انقطع استراحت النخلة، فكذا محمد - ﷺ - إذا مات انقطع ذكره، وقيل: الصنبور الوحيد الضعيف الذي لا ولد له ولا عشيرة ولا ناصر من قريب ولا غريب، فأكذبهم الله تعالى في ذلك، ورد عليهم أشنع رد، فقال: إن شانئك يا محمد هو الأبتر الضعيف الوحيد الحقير، وأنت الأعز الأشرف الأعظم. والله أعلم.
(١) المراغي.
(٢) الخازن.
383
وظاهر الآية: العموم وأن هذا شأن كل من يبغض النبي - ﷺ -، ولا ينافي ذلك كون سبب النزول هو العاص بن وائل أو غيره، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما مر غير مرة. والله أعلم بمراده.
وقرأ الجمهور (١): ﴿شَانِئَكَ﴾ بالألف، وقرأ ابن عباس: ﴿شنيك﴾ بغير ألف، فقيل: هو مقصور من شانىء، كما قالوا: بَرَر وبَر في بارِر وبار، ويجوز أن يكون بناء على فعل، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال، وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين، وقد قالوا: حذر أمورًا، ومزقون عرضي، فلا يستوحش من كونه مضافًا للمفعول، ولفظ ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون ضمير فصل؛ أي: هو المنفرد بالبتر المخصوص به لا رسول الله - ﷺ -، فجميع المؤمنين أولاده، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر، يُبدأ بذكر الله تعالى، ويثَنَّى بذكره - ﷺ -، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف - ﷺ - وعلى آله وصحبه وشرَّف وكرَّم صلاة وسلامًا دائمين ما بقي الدهر.
الإعراب
﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾.
﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة استئنافًا نحويًا. ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول، و ﴿الْكَوْثَرَ﴾: مفعول به ثان؛ ﴿فَصَلِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة تفريعية؛ لكون ما بعدها مرتبًا على ما قبلها، أو فصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت إعطاءنا إياك الخير الكثير الذي لا يُعد ولا يحصى، وأردت بيان ما يلزمك في شكره، فأقول لك صل لربك، ﴿صل﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على محمد - ﷺ -، تقديره: أنت. ﴿لِرَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿صل﴾، والجملة الفعلية على القول الأول معطوفة على جملة ﴿إن﴾، وعلى الثاني مقول لجواب إذا
(١) البحر المحيط.
384
المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَانْحَرْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿صل﴾. ﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾: ناصب واسمه ﴿هُوَ﴾ مبتدأ، أو ضمير فصل. ﴿الْأَبْتَرُ﴾: خبر. ﴿هُوَ﴾، والجملة خبر ﴿إِنَّ﴾، أو ﴿الْأَبْتَرُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مؤكدة لما قبلها، ولا أدري كيف أجاز أبو البقاء أن يُعرب هو تأكيدًا؛ لأن المُظهَر لا يؤكد بالمضمر، وعبارة ابن هشام: ووهم أبو البقاء هنا، فأجاز في ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾ التوكيد، ويحتمل أنه أراد أنه توكيد لضمير مستتر في ﴿شَانِئَكَ﴾ لا لنفس ﴿شَانِئَكَ﴾، وذلك لأن شانىء اسم فاعل بمعنى مبغضك.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْكَوْثَرَ﴾ في "القاموس": والكوثر الكثير من كل شيء، والكثير الملتف من الغبار، والإِسلام، والنبوة، وقرية بالطائف كان الحجاج معلِّمًا بها، والرجل الخير المعطاء، والسيد، والنهر، ونهر في الجنة، وعبارة الزمخشري: والكوثر فوعل من الكثرة، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر: بم آب ابنك؟ قالت: آب بكوثر، قال الكميت الأسدي:
وَأَنْتَ كَثِيْرٌ يَا بْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ وَكَانَ أَبُوْكَ ابْنَ العَفَائِلِ كَوْثَرَا
والعفائل: خيار النساء، والكوثر بليغ النهاية في الخير، والمراد به هنا النبوة والدين الحق والهدى، وما فيه سعادة الدنيا والآخرة، والكوثر فوعل من الكثرة كنوفل من النفل، وجوهر من الجهر، وفي "المفردات" وقد يقال للرجل السخي كوثر، ويقال: تكوثر الشيء إذا كثر كثرة متناهية، والواو فيه زائدة مثل كوسج وجوهر ونوفل، وعبارة ابن خالويه: والكوثر نهر في الجنة، حافتاه الذهب وحصباؤه المرجان والدر، وحاله المسك يعني الحمأة، وماؤه أشد بياضًا من الثلج وأحلى من العسل، من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدًا.
﴿وَانْحَرْ﴾ والنحر في اللبة كالذبح في الحلق.
﴿إِنَّ شَانِئَكَ﴾؛ أي: مبغضك، وفي "المصباح": شَنِئَه - كسَمِعَه ومَنَعَه - شنًا مثل فلس وشَنَآناٌ - بفتح النون وسكونها - إذا أبغضه، والفاعل شانىءٌ في المذكر، وشانئة في المؤنث، وشنئت بالأمر اعترفت به، وقال ابن خالويه: والشانِىء
385
المبغض قال الأعمش:
وَمِنَ شَانِىءٍ كَاسِفٍ وَجْهُهُ إِذَا مَا انْتَسَبْتَ لَهُ أَنْكَرَنْ
﴿هُوَ الْأَبْتَرُ﴾: هو الذي لا عقب له، وهو الذي الأصل الشيء المقطوع من بتره إذا قطعه، وحمار أبتر لا ذنب له، ورجل أُباتر بضم الهمزة؛ أي: قاطع رحمه، قال أهل اللغة: الأبتر من الرجال الذي لا ولد له، ومن الدواب الذي لا ذنب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر، وأصل البتر: القطع، يقال: بترت الشيء بترًا إذا قطعته.
وعبارة ابن خالويه: معناه أن مبغضك يا محمد هو الأبتر؛ أي: لا ولد له، والأبتر الحقير، والأبتر الذليل، والأبتر من الحيات المقطوع الذنب، والأبتر ذنب الفيل، كانت قريش والشانئون لرسول الله - ﷺ - يقولون: إن محمدًا صنبور؛ أي: فرد لا ولد له، فإذا مات انقطع ذكره، فأكذبهم الله تعالى، وأعلمهم أن ذكر محمد مقرون بذكره إلى يوم القيامة، إذا قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، والصنبور: النخلة، تبقى مفردة ويدق أسفلها، قال: ولقي رجل رجلًا، فسأله عن نخلِهِ، فقال: صنبرَ أسفله، وعششَ أعلاه، والصنبور أيضًا ما في فم الإداوة من حديد أو رصاص، والصنبور الصبي الصغير، قال أوس بن حجر:
مُخَلَّفُوْنَ وَيَقْضِيْ النَّاسُ أَمْرَهُمُ غِشَّ الأَمَانَةِ صُنْبُوْرٌ فَصُنْبُوْرُ
وفي "المختار": بتره قبل التمام وبابه نصر، والانبتار الانقطاع، والأبتر المقطوع الذنب، وبابه طرب، والأبتر أيضًا لا عقب له، وكل أمر انقطع من الخير أثره فهو أبتر اهـ.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تصدير الجملة بحرف التأكيد الجاري مجرى القسم في قوله: ﴿إِنَّا﴾ فإنه بمنزلة أن يقال: إنا نحن والله أعطيناك.
386
ومنها: التعبير بصيغة الماضي في قوله: ﴿أَعْطَيْنَاكَ﴾ مع أن العطايا الأخروية وأكثر ما يكون في الدنيا لم تحصل بعد إشعارًا بتحقق وقوعها.
ومنها: صيغة الجمع الدالة على التعظيم في ﴿نَّا أَعْطَيْنَاكَ﴾ تفخيمًا لشأن المعطى له، حيث لم يقل: أنا أعطيتك.
ومنها: المبالغة في لفظ ﴿الْكَوْثَرَ﴾.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ﴾، وكان مقتضى الظاهر أن يقول: فصل لنا، فانتقل إلى الاسم الظاهر؛ لأنه يوجب عظمة ومهابة، وفيه أيضًا التفات من التكلم إلى الغَيبة، والأصل: فصل لنا، ولكنه عدل عن ذلك؛ لأن في لفظ الرب حثًا على فعل المأمور به؛ لأن من يربيك يستحق العبادة منك.
ومنها: الاكتفاء في قوله: ﴿وَانْحَرْ﴾؛ أي: وانحر له، فحذف له اكتفاء بما قبله.
ومنها: الإضافة للتشريف، والتكريم في قوله: ﴿لِرَبِّكَ﴾.
ومنها: إفادة الحصر في قوله: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾؛ أي: إن مبغضك لا محبك من المؤمنين هو الأبتر عن كل خير.
ومنها: المطابقة بين أول السورة وآخرها يعني بين: ﴿الْكَوْثَرَ﴾ و ﴿الْأَبْتَرُ﴾، فالكوثر الخير الكثير، والأبتر المنقطع عن كل خير، فهذه السورة مع وجازتها جمعت فنونًا من البلاغة والبيان والبديع، ولولا خوف الإطالة مع كون كتابنا من المختصرات.. لأشبعنا من مباحث بلاغتها ومعانيها أوراقًا وصحائف كثيرة، كالمذهب الكلامي الذي يطول بذكره الكلام.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) إلى هنا تم تفسير هذه السورة الكريمة في اليوم السابع والعشرين من شهر الله المحرم قبيل المغرب من شهور سنة: ١٤١٧ هـ ألف وأربع مئة وسبع عشرة من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
387
سورة الكافرون
سورة الكافرون نزلت بعد سورة الكوثر مكية في قول ابن مسعود والحسن وعكرمة، ومدنية في أحد قولي ابن عباس وقتادة والضحاك، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة: يا أيها الكافرون بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت سورة يا أيها الكافرون بالمدينة، وآياتها: ست، وكلماتها: ست وعشرون، وحروفها: أربعة وتسعون.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها (١): أنه سبحانه وتعالى في السورة السابقه أمر رسوله - ﷺ - بعبادته والشكر له على نعمه الكثيرة بإخلاص العبادة، وفي هذه السورة التصريح بما أشير إليه في السالفة، سميت سورة الكافرون، لذكر لفظ (الكافرون) فيها.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة الكافرون فيها آية واحدة منسوخة، وهي قوله تعالى: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾ نُسخت بآية السيف.
فضلها: وقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث شريفة تنبه إلى أهمية هذه السورة وعظيم قدرها.
فمنها (٢): ما أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث جابر: أن رسول الله - ﷺ - قرأ بهذه السورة، وبقل هو الله أحد في ركعتي الطواف.
وفي "صحيح مسلم" أيضًا من حديث أبي هريرة ما أخرجه أحمد والترمذي وحسنه، والنسائي وابن ماجه وابن حبان وابن مردويه عن ابن عمر: أن رسول الله - ﷺ - (قرأ في الركعتين قبل الفجر والركعتين بعد المغرب بضعًا وعشرين أو بضع عشرة مرة. ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ و ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾).
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
388
ومنها: ما أخرجه الحاكم وصححه عن أُبيِّ قال: كان رسول الله - ﷺ - يوتر بـ ﴿سَبِحِ﴾، و ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ و ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾.
ومنها: ما أخرجه محمد بن نصر والطبراني في الأوسط عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾ تعدل ثلث القرآن، و ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ تُعدل ربع القرآن" وكان يقرأ بهما الذي ركعتي الفجر.
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "من قرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ كانت له عدلَ ربع القرآن"، ومنها: ما أخرجه الطبراني في "الصغير"، والبيهقي في "الشعب" عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من قرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ فكأنما قرأ ربع القرآن، ومن قرأ ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾ فكأنما قرأ ثلث القرآن".
ومنها: ما أخرجه أحمد وابن الضريس والبغوي وحميد بن زنجويه في "ترغيبه" عن شيخ أدرك النبي - ﷺ - قال: خرجت مع النبي - ﷺ - في سفر، فمر برجل يقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ فقال: "أما هذا فقد برىء من الشرك، وإذا آخر يقرأ: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾، فقال النبي - ﷺ -: بها وجب له الجنة"، وفي رواية "أما هذا فقد غفر له".
ومنها: ما أخرجه ابن أبي شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن الأنباري في "المصاحف" والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" عن فروة بن نوفل بن معاويةَ الأشجعي عن أبيه أنه قال: يا رسول الله علمني ما أقول إذا أويت إلى فراشي قال: "اقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾، ثم نم على خاتمتها، فإنها براءة من الشرك" وأخرجه سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن مردويه عن عبد الرحمن بن نوفلٍ الأشجعي عن أبيه مرفوعًا مثله.
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه عن البراء قال: قال رسول الله - ﷺ - لنوفل بن معاوية الأشجعي: "إذا أتيت مضجعك للنوم، فاقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ فإنك إذا قلتها فقد برئت من الشرك".
ومنها: ما أخرجه أحمد والطبراني في "الأوسط" عن الحارث بن جبلة، وقال الطبراني عن جبلة بن حارثة، وهو أخو زيد بن حارثة قال: قلت يا رسول الله
389
علمني شيئًا أقوله عند منامي، قال: "إذا أخذت مضجعك من الليل، فاقرأ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ حتى تمر بآخرها فإنها براءة من الشرك".
ومنها: ما أخرجه البيهقي في "الشعب" عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ - لمعاذ: "اقرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ عند منامك، فإنها براءة من الشرك".
ومنها: ما أخرجه أبو يعلى والطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: "ألا أدلكم على كلمة تنجيكم من الإشراك بالله تقرؤون ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ عند منامكم".
ومنها: ما أخرجه البزار والطبراني وابن مردويه عن خباب أن النبي - ﷺ - قال: "إذا أخذت مضجعك، فاقرأ ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ " وإن النبي - ﷺ - لم يأت فراشه قط إلا قرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ حتى يختم، وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله - ﷺ -: "من لقي الله بسورتين، فلا حساب عليه ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾ و ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾ ".
ومنها: ما أخرجه أبو عبيد في "فضائله"، وابن الضريس عن أبي مسعود الأنصاري قال: من قرأ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)﴾. ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ (١)﴾ في ليلة فقد أكثر وأطاب.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
390

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (٢) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٣) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (٤) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦)﴾.
أسباب النزول
ذكر المفسرون رحمهم الله تعالى: أن هذه السورة نزلت في نفر من قريش، منهم الحارث بن العاص السهمي، والعاص بن أبي وائل، والوليد بن المغيرة، والأسود بن عبد يغوث الزهري، والأسود بن عبد المطلب بن أسد، وأمية بن خلف في جماعة آخرين من صناديد قريش وساداتهم أتوا النبي - ﷺ -، فقالوا: له هلم يا محمد، فاتبع ديننا ونتبع دينك، ونشركك في أمرنا كله، تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة، فإن كان في جئت به خيرًا كنا قد شركناك فيه، وأخذنا بحظنا منه، وإن كان في بأيدينا خيرًا كنت قد شركتنا في أمرنا، وأخذت حظك منه، فقال: معاذ الله أن أشرك به غيره، وأنزل الله ردًا على هؤلاء هذه السورة، فغدا رسول الله - ﷺ - إلى المسجد الحرام، وفيه ملأ من قريش، فقام على رؤوسهم، ثم قرأ عليهم هذه السورة حتى فرغ منها، فأيسوا منه عند ذلك، وطفقوا يؤذون أصحابه حتى كانت الهجرة، قال ابن عباس: وفيهم نزل أيضًا قوله تعالى: ﴿قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧)﴾.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس أن قريشًا قالت: لو استلَمْتَ آلهتنا لعبدنا إلهك، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (١)...﴾ السورة كلها.
391
Icon