﴿ بسم الله ﴾ الذي لا حد لفائض فضله ﴿ الرحمن ﴾ الذي شمل الخلائق بجوده فلا رادّ لأمره ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص حزبه بالاعتصام بحبله.
ﰡ
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أنا فرطكم على الحوض، وليرفعن إلىّ رجال منكم حتى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول : أي رب أصحابي، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ». وعن ثوبان أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن عرضه فقال :«من مقامي إلى عمان »، وسئل عن شرابه فقال :«أشدّ بياضاً من اللبن، وأحلى من العسل، فيه ميزابان يمدانه من الجنة : أحدهما من ذهب، والآخر من ورق ». و عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يرد عليّ يوم القيامة رهطان من أصحابي »، أو قال :«من أمتي، فيجلون عن الحوض فأقول : أي رب أصحابي، فيقول : إنه لا علم لك بما أحدثوا بعدك. كأنهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى ».
ولمسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ترد عليّ أمّتي الحوض، وأنا أذود الناس عنه كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله، قالوا : يا نبيّ الله تعرفنا ؟ قال : نعم، لكم سيما ليست لأحد غيركم، تردون عليّ غرّاً محجلين من آثار الوضوء، وليصدنّ عني طائفة منكم فلا يصلون، فأقول : يا رب هؤلاء أصحابي. فيجيبني فيقول : وهل تدري ما أحدثوا بعدك ؟ ». وأحاديث الحوض كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية لأولي الألباب، فنسأل الله تعالى أن يروينا منه نحن وأحبابنا، ويدخلنا وإياهم الجنة بغير حساب.
قال القاضي عياض : أحاديث الحوض صحيحة، والإيمان به فرض، والتصديق به من الإيمان. وقال ابن عادل : وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأوّل ولا يختلف فيه، وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة اه. وقيل : الكوثر القرآن العظيم. وقيل : هو النبوّة والكتاب والحكمة. وقيل : هو كثرة أتباعه. وقيل : الكوثر الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه. وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما : الكوثر : الخير الكثير. قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : إن ناساً يزعمون أن الكوثر نهر في الجنة ؟ فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى إياه.
وأصل الكوثر فوعل من الكثرة، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير القدر والخطر كوثراً، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك، قالت : آب بكوثر، وقال الشاعر :
وأنت كثير يا ابن مروان طيب | وكان أبوك ابن العقائل كوثرا |
تنبيه : لا منافاة بين هذه الأقوال كلها، فقد أعطيها النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأعطي صلى الله عليه وسلم النبوّة، والحكمة، والعلم، والشفاعة، والحوض المورود، والمقام المحمود، وكثرة الاتباع، وإظهاره على الأديان كلها، والنصر على الأعداء، وكثرة الفتوح في زمنه إلى يوم القيامة، وأولى الأقاويل في الكوثر -وهو الذي عليه جمهور العلماء- أنه نهر في الجنة.
وقال محمد بن كعب : إن ناساً كانوا يصلون لغير الله تعالى، وينحرون لغير الله، فأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يصلي وينحر لله عز وجل. وقال عكرمة وعطاء وقتادة :﴿ فصل لربك ﴾ صلاة العيد يوم النحر، وانحر نسكك، واقتصر على هذا الجلال المحلي، وقال سعيد بن جبير ومجاهد : فصل الصلاة المفروضة بجمع، أي : مزدلفة، وانحر البدن بمنى. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : وضع اليمين على الشمال في الصلاة عند النحر. وعن علي أنّ معناه أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره. وقال الكلبيّ : استقبل القبلة بنحرك. وعن عطاء : أمره أن يستوي بين السجدتين جالساً حتى يبدو نحره.
واختلف المفسرون في الشانئ، فقيل : هو العاص بن وائل، وكانت العرب تسمي من كان له بنون وبنات، ثم مات البنون وبقي البنات : أبتر، فقيل : إنّ العاص وقف مع النبيّ صلى الله عليه وسلم يكلمه فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفاً، مع ذلك الأبتر، وكان قد توفيّ قبل ذلك عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان أهل الجاهلية إذا مات ابن الرجل قالوا : أبتر فلان، فلما توفي عبد الله ابن النبيّ صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل على أصحابه فقال : بتر محمد، فنزلت. وقال السديّ : إنّ قريشاً كانوا يقولون لمن مات ذكور ولده : بتر فلان، فلما مات لرسول الله صلى الله عليه وسلم القاسم بمكة وإبراهيم بالمدينة قالوا : بتر محمد، فليس له من يقوم بأمره من بعده فنزلت.
وقيل : لما أوحى الله تعالى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم دعا قريش إلى الإيمان قالوا : أبتر منا محمد، أي : خالفنا وانقطع عنا فنزلت.
تنبيه : قال أهل العلم قد احتوت هذه السورة على قصرها على معان بليغة وأساليب بديعة :
منها دلالة استهلال السورة على أنه تعالى أعطاه كثيراً من كثير.
ومنها إسناد الفعل إلى المتكلم المعظم نفسه.
ومنها إيراده بصيغة الماضي تحقيقاً لوقوعه كما في قوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ [ النحل : ١ ].
ومنها : تأكيد الجملة بأن.
ومنها بناء الفعل على الاسم ليفيد الإسناد مرّتين.
ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة.
ومنها : حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأنّ في حذفه من فرط الشياع والإبهام ما ليس في إثباته.
ومنها تعريفه ب( أل ) الجنسية الدالة على الاستغراق.
ومنها : فاء التعقيب الدالة على السبب، فإنّ الإنعام سبب للشكر والعبادة.
ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى.
ومنها أنّ الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي الصلاة قوامها وأفضلها، والأمر بالنحر إشارة إلى الأعمال البدينة التي النحر أسناها.
ومنها : حذف متعلق انحر ؛ إذ التقدير : فصل لربك وانحر له.
ومنها : مراعاة السجع، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلف.
ومنها قوله تعالى :﴿ لربك ﴾ في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى، دلالة على أنه المربي له، والمصلح بنعمه، فلا يلتمس كل خير إلا منه.
ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى :﴿ لربك ﴾.
ومنها : الأمر بترك الاهتمام بشانئه للاستئناف، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانئ، ولم يسمه ليشمل كل من اتصف بهذه الصفة القبيحة، ولو كان المراد شخصاً معيناً لعينه الله تعالى.
ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة على أنه لم يتصف إلا بمجرّد قيام الصفة به من غير أن تؤثر فيمن يشنؤه شيئاً البتة ؛ لأنّ من يشنأ شخصاً قد يؤثر شنؤه شيئاً.
ومنها : تأكيد الجملة بأن المؤذنة بتأكيد الخبر، ولذلك يتلقى بها القسم، وتقدير القسم يصلح هنا. ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلناه فصلاً، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد ؛ إذ يصير الإسناد مرّتين.
ومنها : تعريف الأبتر ب( أل ) المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة.
ومنها : إقباله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب من أوّل السورة إلى آخرها.