ونقل سعد الله الشهير بسعدي في حاشيته على تفسير البيضاوي عن البقاعي أنها تسمى ﴿ سورة النحر ﴾ وهل هي مكية أو مدنية؟ تعارضت الأقوال والآثار في أنها مكية أو مدنية تعارضا شديدا، فهي مكية عند الجمهور وأقتصر عليه أكثر المفسرين، ونقل الخفاجي عن كتاب النشر قال : أجمع من نعرفه على أنها مكية. قال الخفاجي : وفيه نظر مع وجود الاختلاف فيها.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وعكرمة هي مدنية ويشهد لهم ما في صحيح مسلم عن أنس بن مالك بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه وقال : أنزلت علي آنفا سورة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وأنحر إن شانئك هو الأبتر ﴾ ثم قال : أتدرون ما الكوثر؟ قلنا الله ورسوله أعلم. قال : فإنه نهر وعدنيه ربي عز وجل، عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة الحديث. وأنس أسلم في صدر الهجرة فإذا كان لفظ ﴿ آنفا ﴾ في كلام النبي صلى الله عليه وسلم مستعملا في ظاهر معناه وهو الزمن القريب، فالسورة نزلت منذ وقت قريب من حصول تلك الرؤيا.
ومقتضى ما يروى في تفسير قوله تعالى ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ أن تكون السورة مكية، ومقتضى ظاهر تفسير قوله تعالى ﴿ وانحر ﴾ من أن النحر في الحج أو يوم الأضحى تكون السورة مدنية ويبعث على أن قوله تعالى ﴿ إن شانئك هو الأبتر ﴾ ليس ردا على كلام العاصي بن وائل كما سنبين ذلك.
والأظهر أن هذه السورة مدنية وعلى هذا سنعتمد في تفسير آياتها.
وعلى القول بأنها مكية عدوها الخامسة عشرة في عداد نزول السور، نزلت بعد سورة العاديات وقبل سورة التكاثر. وعلى القول بأنها مدنية فقد قيل : إنها نزلت في الحديبية.
وعدد آيها ثلاث بالاتفاق.
وهي أقصر سور القرآن عدد كلمات وعدد حروف، وأما في عدد الآيات فسورة العصر وسورة النصر مثلها ولكن كلماتها أكثر.
أغراضها
اشتملت على بشارة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطي الخير الكثير في الدنيا والآخرة.
وأمره بأن يشكر الله على ذلك بالإقبال على العبادة.
وأن ذلك هو الكمال الحق لا ما يتطاول به المشركون على المسلمين بالثروة والنعمة وهم مغضوب عليهم من الله تعالى لأنهم أبغضوا رسوله، وغضب الله بتر لهم إذا كانوا بمحل السخط من الله.
وإن انقطاع الولد الذكر فليس بترا لأن ذلك لا أثر له في كلام الإنسان.
ﰡ
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَدَنِيَّةٌ، وَعَلَى هَذَا سَنَعْتَمِدُ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِهَا.
وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ عَدُّوهَا الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْعَادِيَاتِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّكَاثُرِ. وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ.
وَعَدَدُ آيِهَا ثَلَاثٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهِيَ أَقْصَرُ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَدَدَ كَلِمَاتٍ وَعَدَدَ حُرُوفٍ، وَأَمَّا فِي عَدَدِ الْآيَاتِ فَسُورَةُ الْعَصْرِ وَسُورَةُ النَّصْرِ مثلهَا وَلَكِن كلماتهما أَكثر.
أغراضها
اشْتَمَلَتْ عَلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أُعْطِيَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَأَمْرِهِ بِأَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْعِبَادَةِ.
وَأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْكَمَالُ الْحَقُّ لَا مَا يَتَطَاوَلُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالثَّرْوَةِ وَالنِّعْمَةِ وَهُمْ مَغْضُوبٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ أَبْغَضُوا رَسُولَهُ، وَغَضَبُ اللَّهِ بَتْرٌ لَهُمْ إِذَا كَانُوا بِمَحَلِّ السُّخْطِ مِنَ اللَّهِ.
وَإِنَّ انْقِطَاعَ الْوَلَد الذّكر لَيْسَ بَتْرًا لِأَنَّ ذَلِكَ لَا أَثَرَ لَهُ فِي كَمَال الْإِنْسَان.
[١، ٢]
[سُورَة الْكَوْثَر (١٠٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢)افْتَتَاحُ الْكَلَامِ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ. وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَسْتَتْبِعُ الْإِشْعَارَ بِتَنْوِيهِ شَأْنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [الْقَدْرِ: ١]. وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ الْبِشَارَةِ وإنشاء الْعَطاء لامساق الْإِخْبَارِ بِعَطَاءٍ سَابِقٍ.
وَضَمِيرُ الْعَظَمَةِ مُشْعِرٌ بِالِامْتِنَانِ بِعَطَاءٍ عَظِيمٍ.
والْكَوْثَرَ: اسْمٌ فِي اللُّغَةِ لِلْخَيْرِ الْكَثِيرِ صِيغَ عَلَى زِنَةِ فَوْعَلٍ، وَهِيَ مِنْ صِيَغِ
وَيُوصَفُ الرَّجُلُ صَاحِبُ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ بِكَوْثَرٍ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ بِالْمَصْدَرِ كَمَا فِي قَوْلِ لَبِيدٍ فِي رِثَاءِ عَوْفِ بْنِ الْأَحْوَصِ الْأَسَدِيِّ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِفَقْدِهِ | وَعِنْدَ الرِّدَاعِ بَيْتُ آخَرَ كَوْثَرُ |
وَأَنْتَ كَثِيرٌ يَا ابْنَ مَرْوَانَ طَيِّبٌ | وَكَانَ أَبوك ابْن العقائل كَوْثَرَا |
وَقَدْ فَسَّرَ السَّلَفُ الْكَوْثَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِتَفَاسِيرَ أَعَمُّهَا أَنَّهُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ فَقُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ هُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ:
هُوَ مِنَ الْخَيْرِ الْكَثِيرِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ: الْكَوْثَرُ هُنَا: النُّبُوءَةُ وَالْكِتَابُ، وَعَنِ الْحَسَنِ: هُوَ الْقُرْآنُ، وَعَنِ الْمُغِيرَةِ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ، وَعَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ: هُوَ كَثْرَةُ الْأُمَّةِ، وَحَكَى الْمَاوَرْدِيُّ: أَنَّهُ رِفْعَةُ الذِّكْرِ، وَأَنَّهُ نُورُ الْقَلْبِ، وَأَنَّهُ الشَّفَاعَةُ، وَكَلَامُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْوِيُّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ لَا يَقْتَضِي حَصْرَ مَعَانِي اللَّفْظِ فِيمَا ذَكَرَهُ.
وَأُرِيدَ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ بِشَارَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِزَالَةُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِي خَاطِرِهِ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ فِيهِ: هُوَ أَبْتَرُ، فَقُوبِلَ مَعْنَى الْأَبْتَرِ بِمَعْنَى الْكَوْثَرِ، إِبْطَالًا لِقَوْلِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ اعْتِرَاضٌ وَالْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى هَذِهِ الْبِشَارَةِ بِأَنْ يَشْكُرَ رَبَّهُِِ
_________
(١) الجورب: ثوب يَجْعَل فِي صُورَة خف وَتلف فِيهِ الرجل، والحوشب: المنتفخ الجنبين وَعظم فِي بَاطِن الْحَافِر، وَاسم للأرنب الذّكر، والثعلب الذّكر، والدوسر: الضخم الشَّديد.
وَنَاسَبَ أَنْ يَكُونَ الشُّكْرُ بِالِازْدِيَادِ مِمَّا عَادَاهُ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ قَالُوا مَقَالَتَهُمُ الشَّنْعَاءَ: إِنَّهُ أَبْتَرُ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لِلَّهِ شُكْرٌ لَهُ وَإِغَاظَةٌ لِلَّذِينِ يَنْهَوْنَهُ عَنِ الصَّلَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: ٩، ١٠] لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا نَهَوْهُ عَنِ الصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ لِوَجْهِ اللَّهِ دُونَ الْعِبَادَةِ لِأَصْنَامِهِمْ، وَكَذَلِكَ النَّحْرُ لِلَّهِ.
وَالْعُدُولُ عَنِ الضَّمِيرِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ فِي قَوْلِهِ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ دُونَ: فَصَلِّ لَنَا، لِمَا فِي لَفْظِ الرَّبِّ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْعِبَادَةَ لِأَجْلِ رُبُوبِيَّتِهِ فَضْلًا عَنْ فَرْطِ إِنْعَامِهِ.
وَإِضَافَةُ (رَبٍّ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ لِقَصْدِ تَشْرِيفِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقْرِيبِهِ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ يَرُبُّهُ وَيَرْأَفُ بِهِ.
وَيَتَعَيَّنُ أَنَّ فِي تَفْرِيعِ الْأَمْرِ بِالنَّحْرِ مَعَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ الْكَوْثَرَ خُصُوصِيَّةً تُنَاسِبُ الْغَرَضَ الَّذِي نَزَلَتِ السُّورَةُ لَهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرِ الْأَمْرَ بِالنَّحْرِ مَعَ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ فِي سُورَةِ الْحِجْرِ [٩٧، ٩٨].
وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ تَسْلِيَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَدِّ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُ عَنِ الْبَيْتِ فِي الْحُدَيْبِيَةِ، فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ أَعْطَاهُ خَيْرًا كَثِيرًا، أَيْ قَدَّرَهُ لَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالْمَاضِي لِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ كَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الْفَتْح: ١] فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي أَمْرِ الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ قَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَفَتْحٌ هَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى مَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ قَوْلَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أَمْرٌ بِأَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْحَرَ هَدْيَهُ وَيَنْصَرِفَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَأَفَادَتْ اللَّامُ مِنْ قَوْلِهِ: لِرَبِّكَ أَنَّهُ يخص الله بِصَلَاتِهِ فَلَا يُصَلِّي لِغَيْرِهِ. فَفِيهِ تَعْرِيض بالمشركين بِأَنَّهُمْ يُصَلُّونَ لِلْأَصْنَامِ بِالسُّجُودِ لَهَا وَالطَّوَافِ حَوْلَهَا.
وَعَطْفُ وَانْحَرْ عَلَى فَصَلِّ لِرَبِّكَ يَقْتَضِي تَقْدِيرَ مُتَعَلِّقِهِ مُمَاثِلًا لِمُتَعَلِّقِ
وَإِنْ كَانَتِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً، وَكَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ فَرْضِ الْحَجِّ كَانَ النَّحْرُ مُرَادًا بِهِ الضَّحَايَا يَوْمَ عِيدِ النَّحْرِ وَلِذَلِكَ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ إِنَّ قَوْلَهُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ مُرَادٌ بِهِ صَلَاةُ الْعِيدِ،
وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَقَالَ: لَمْ يَبْلُغْنِي فِيهِ شَيْءٌ.
وَأَخَذُوا مِنْ وُقُوعِ الْأَمْرِ بِالنَّحْرِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ دَلَالَةً عَلَى أَنَّ الضَّحِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ فَالْأَمْرُ بِالنَّحْرِ دُونَ الذَّبْحِ مَعَ أَنَّ الضَّأْنَ أَفْضَلُ فِي الضَّحَايَا وَهِيَ لَا تُنْحَرُ وَأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُضَحِّ إِلَّا بِالضَّأْنِ تَغْلِيبٌ لِلَفْظِ النَّحْرِ وَهُوَ الَّذِي رُوعِيَ فِي تَسْمِيَةِ يَوْمِ الْأَضْحَى يَوْمَ النَّحْرِ وَلِيَشْمَلَ الضَّحَايَا فِي الْبَدَنِ وَالْهَدَايَا فِي الْحَجِّ أَوْ لِيَشْمَلَ الْهَدَايَا الَّتِي عُطِّلَ إِرْسَالُهَا فِي يَوْمِ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا. وَيُرَشِّحُ إِيثَارَ النَّحْرِ رَعْيُ فَاصِلَةِ الرَّاءِ فِي السُّورَةِ. وَلِلْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ أَقْوَالٌ أُخَرُ فِي تَفْسِيرِ «انْحَرْ» تَجْعَلُهُ لفظا غَرِيبا.
[٣]
[سُورَة الْكَوْثَر (١٠٨) : آيَة ٣]
إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)
اسْتِئْنَافٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلًا لِحَرْفِ إِنَّ إِذَا لَمْ يَكُنْ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ يَكْثُرُ أَنْ يُفِيدَ التَّعْلِيلَ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سُبْحانَكَ لَا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٣٢].
وَاشْتِمَالُ الْكَلَامِ عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ وَعَلَى ضَمِيرِ غَائِبٍ وَعَلَى لَفْظِ الْأَبْتَرِ مُؤْذِنٌ بِأَنَّ
والْأَبْتَرُ: حَقِيقَتُهُ الْمَقْطُوعُ بَعْضُهُ وَغَلَبَ عَلَى الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهُ مِنَ الدَّوَابِّ وَيُسْتَعَارُ لِمَنْ نَقَصَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنَ الْخَيْرِ فِي نَظَرِ النَّاسِ تَشْبِيهًا بِالدَّابَّةِ الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهَا تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»
يُقَالُ: بَتَرَ شَيْئًا إِذَا قَطَعَ بَعْضَهُ وَبَتِرَ بِالْكَسْرِ كَفَرِحَ فَهُوَ أَبْتَرُ، وَيُقَالُ لِلَّذِي لَا عَقِبَ لَهُ ذُكُورًا، هُوَ أَبْتَرُ عَلَى الِاسْتِعَارَةِ تَشْبِيهٌ مُتَخَيَّلٌ بِمَحْسُوسٍ شَبَّهُوهُ بِالدَّابَّةِ الْمَقْطُوعِ ذَنَبُهَا لِأَنَّهُ قُطِعَ أَثَرُهُ فِي تَخَيُّلِ
أَهْلِ الْعُرْفِ.
وَمَعْنَى الْأَبْتَرِ فِي الْآيَةِ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ وَهُوَ رَدٌّ لِقَوْلِ الْعَاصِي بْنِ وَائِلٍ أَوْ غَيْرِهِ فِي حَقِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبِهَذَا الْمَعْنَى اسْتَقَامَ وَصْفُ الْعَاصِي أَوْ غَيْرِهِ بِالْأَبْتَرِ دُونَ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَاهُ هُوَ حَيْثُ لَمَزَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ أَبتر، أَي لاعقب لَهُ لِأَنَّ الْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ لَهُ عَقِبٌ، فَابْنُهُ عَمْرٌو الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ، وَابْنُ ابْنِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الصَّحَابِيُّ الْجَلِيلُ وَلِعَبْدِ اللَّهِ عَقِبٌ كَثِيرٌ. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ فِي «الْجَمْهَرَةِ» عَقِبُهُ بِمَكَّةَ وَبِالرَّهْطِ (١).
فَقَوْلُهُ تَعَالَى: هُوَ الْأَبْتَرُ اقْتَضَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ إِثْبَاتَ صفة الأبتر لشانىء النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَفْيَهَا عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ الْأَبْتَرُ بِمَعْنَى الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ.
_________
(١) كَذَا فِي طبعة «جمهرة ابْن حزم». وَقَالَ ياقوت: الرَّهْط مَوضِع فِي شعر هُذَيْل.
وَأَقُول: لَعَلَّه تَحْرِيف راهط وراهط مَوضِع بغولة دمشق. [.....]
وَهَبْ أَنَّهُ لَمْ يُولَدْ لَهُ الْبَتَّةَ، وَإِنَّمَا اصْطَلَحَ النَّاسُ عَلَى اعْتِبَارِهِ نَقْصًا لِرَغْبَتِهِمْ فِي الْوَلَدِ بِنَاءً عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالُهُمْ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مِنَ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْجُهُودِ الْبَدَنِيَّةِ فَهُمْ يَبْتَغُونَ الْوَلَدَ الذُّكُورَ رَجَاءَ الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ عِنْدَ الْكِبَرِ وَذَلِكَ أَمْرٌ قَدْ يَعْرِضُ، وَقَدْ لَا يَعْرِضُ أَوْ لِمَحَبَّةِ ذِكْرِ الْمَرْءِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ أَمْرٌ وَهْمِيٌّ، وَالنَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَغْنَاهُ اللَّهُ بِالْقَنَاعَةِ، وَأَعَزَّهُ بِالتَّأْيِيدِ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ لِسَانَ صِدْقٍ لَمْ يَجْعَلْ مِثْلَهُ لِأَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ، فَتَمَحَّضَ أَنَّ كَمَالَهُ الذَّاتِيَّ بِمَا عَلِمَهُ اللَّهُ فِيهِ إِذْ جَعَلَ فِيهِ رِسَالَتَهُ، وَأَنَّ كَمَالَهُ الْعَرَضِيَّ بِأَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ إِذْ جَعَلَهُ اللَّهُ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.
وَفِي الْآيَةِ مُحَسِّنُ الِاسْتِخْدَامِ التَّقْدِيرِيِّ لِأَنَّ سَوْقَ الْإِبْطَالِ بطرِيق الْقصر فِي قَوْله:
هُوَ الْأَبْتَرُ نَفْيُ وَصْفِ الْأَبْتَرِ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِن بِمَعْنَى غَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي عَنَاهُ شَانِئُهُ
فَهُوَ اسْتِخْدَامٌ يَنْشَأُ مِنْ صِيغَةِ الْقَصْرِ بِنَاءً عَلَى أَنْ لَيْسَ الِاسْتِخْدَامُ مُنْحَصِرًا فِي اسْتِعْمَالِ الضَّمِيرِ فِي غَيْرِ مَعْنَى مُعَادِهِ، عَلَى مَا حَقَّقَهُ أُسْتَاذُنَا الْعَلَّامَةُ سَالِمٌ أَبُو حَاجِبٍ وَجَعَلَهُ وَجْهًا فِي وَاوِ الْعَطْفِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الْفجْر: ٢٢] لِأَنَّ الْعَطْفَ بِمَعْنَى إِعَادَةِ الْعَامِلِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَجَاءَ الْمَلَكُ وَهُوَ مَجِيءٌ مُغَايِرٌ لِمَعْنَى مَجِيءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: وَقَدْ سَبَقَنَا الْخَفَاجِيُّ إِلَى ذَلِكَ إِذْ أَجْرَاهُ فِي حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي «طِرَازِ الْمَجَالِسِ» فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الصَّالِحِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الشَّامِ:
وَحَدِيثُ حُبِّي لَيْسَ بِالْ | مَنْسُوخِ إِلَّا فِي الدَّفَاتِرِ |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
١٠٩- سُورَةُ الْكَافِرُونَعُنْوِنَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِينَا قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا وَفِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الْكَافِرُونَ» بِإِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَى الْكافِرُونَ وبثبوت وَاوِ الرَّفْعِ فِي الْكافِرُونَ عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْقُرْآنِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا.
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّاف» و «تَفْسِير ابْن عَطِيَّة» و «حرز الْأَمَانِيِّ» «سُورَةُ الْكَافِرِينَ» بِيَاءِ الْخَفْضِ فِي لَفْظِ «الْكَافِرِينَ» بِإِضَافَةِ «سُورَةٍ» إِلَيْهِ أَنَّ الْمُرَادَ سُورَةُ ذِكْرِ الْكَافِرِينَ، أَوْ نِدَاءِ الْكَافِرِينَ. وَعَنْوَنَهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» سُورَةَ: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُونَ [الْكَافِرُونَ: ١].
قَالَ فِي «الْكَشَّاف» و «الإتقان» : وَتُسَمَّى هِيَ وَسُورَةُ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ المقشقشتين لِأَنَّهُمَا تُقَشْقِشَانِ مِنَ الشِّرْكِ أَيْ تُبْرِئَانِ مِنْهُ يُقَالُ: قَشْقَشَ: إِذَا أَزَالَ الْمَرَضَ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ الْإِخْلَاصِ فَيَكُونُ هَذَانِ الِاسْمَانِ مُشْتَرِكَيْنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سُورَةِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقَدْ ذُكِرَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ تُسَمَّى الْمُقَشْقِشَةَ لِأَنَّهَا تُقَشْقِشُ، أَيْ تُبْرِئُ مِنَ النِّفَاقِ فَيَكُونُ هَذَا مُشْتَرِكًا بَيْنَ السُّوَرِ الثَّلَاثِ فَيُحْتَاجُ إِلَى التَّمْيِيزِ.
وَقَالَ سَعْدُ اللَّهِ الْمَعْرُوفُ بِسَعْدِيٍّ عَنْ «جَمَالٍ الْقَرَّاءِ» إِنَّهَا تُسَمَّى «سُورَةَ الْعِبَادَةِ» وَفِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ» لِلْفَيْرُوزَآبَادِيِّ تُسَمَّى «سُورَةَ الدِّينِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ فِي حِكَايَةِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَابْنِ كَثِيرٍ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ.