تفسير سورة الفيل

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي خمس آيات، وعشرون كلمة، وستة وتسعون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي قدّر به في كل شيء عاملة ﴿ الرحمن ﴾ الذي له النعمة الشاملة ﴿ الرحيم ﴾ الذي يخص أهل الاصطفاء بالنعمة الكاملة.

وقوله تعالى :﴿ ألم تر ﴾ استفهام تعجب، أي : أعجب ﴿ كيف فعل ربك ﴾ أي : المحسن إليك ﴿ بأصحاب الفيل ﴾ فهو خطاب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، وهو وإن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها وسمع بالتواتر أخبارها، فكأنه رآها، وإنما قال تعالى : كيف ؛ لأن المراد ذكر ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم الله وقدرته وعزة بيته، وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم.
وكانت قصة الفيل ما روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بنى كنيسة بصنعاء وسماها القليس، وأراد أن يصرف إليها الحاج، وكتب إلى النجاشي : إني قد بنيت لك بصنعاء كنيسة لم يبن لملك مثلها، ولست منتهياً حتى أصرف إليها حج العرب، فسمع بذلك رجل من بني مالك بن كنانة، فخرج إليها فدخلها ليلاً فقعد فيها ولطخ بالعذرة قبلتها، فبلغ ذلك أبرهة فقال : من اجترأ عليّ ؟ فقيل : صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت، سمع الذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن إلى الكعبة حتى يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان له فيل يقال له : محمود، وكان فيلاً لم ير مثله عظماً وجسماً وقوّة، فبعث به إليه، فخرج أبرهة في الحبشة سائراً إلى مكة، وخرج معه بالفيل واثني عشر فيلاً غيره، وقيل : ثمانية عشر، وقيل : كان معه ألف فيل.
وقيل : كان وحده، فسمعت العرب بذلك فأعظموه ورأوا جهاده حقاً عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن - يقال له : ذو نفر- بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه أبرهة وأخذ ذا نفر، فقال له : أيها الملك استبقني، فإن استبقائي خير لك من قتلي، فاستبقاه فأوثقه، وكان أبرهة رجلاً حليماً. ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج له نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم، ومن اجتمع إليه من قبائل اليمن فقاتلوه فهزمهم وأخذ نفيلاً، فقال نفيل : أيها الملك إني دليل بأرض العرب، وهاتان يداي على قومي بالسمع والطاعة، فاستبقاه، وخرج معه يدله حتى إذا مرّ بالطائف خرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال : أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة، نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا أبا رغال مولى لهم، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره، وبعث أبرهة من المغمس رجلاً من الحبشة يقال له : الأسود بن مسعود على مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نعم الناس، فجمع الأسود إليه أموال الحرم، وأصاب لعبد المطلب مائتي بعير.
ثم إنّ أبرهة بعث بحناطة الحميري إلى أهل مكة فقال : سل عن شريفها ثم أبلغه ما أرسلك به إليه، أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت. فانطلق حتى دخل مكة فلقي عبد المطلب بن هاشم فقال : إنّ الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأت لقتال، إنما جئت لأهدم هذا البيت ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب : ما له عندنا قتال، ولا لنا به يدانا سنخلي بينه وبين ما جاء إليه، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك فوالله ما لنا به قوّة.
قال : فانطلق معي إلى الملك، قال بعض العلماء : إنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بنيه، حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقاً لعبد المطلب، فأتاه فقال : يا ذا نفر، هل عندك من غناء فيما نزل بنا ؟ فقال : ما غناء رجل أسير لا يأمن أن يقتل بكرة أو عشياً ؟ ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل، فإنه صديق لي، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير، ويعظم خطرك ومنزلتك عنده، فأرسل إلى أنيس فأتاه فقال له : إنّ هذا سيد قريش صاحب عين مكة، يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مائتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه عنده فانفعه، فإنه صديق لي أحبّ ما وصل إليه من الخير.
فدخل أنيس على أبرهة فقال : أيها الملك، هذا سيد قريش صاحب عين مكة، يطعم الناس في السهل والوحوش على رؤوس الجبال، يستأذن عليك، وأنا أحبّ أن تأذن له فيكلمك، وقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له، وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً وسيماً، فلما رآه أبرهة أعظمه وأكرمه وكره أن يجلس معه على السرير، وأن يجلس تحته، فهبط إلى البساط فجلس عليه، ثم دعاه فأجلسه معه.
ثم قال لترجمانه : قل له : ما حاجتك إلى الملك ؟ فقال الترجمان ذلك، فقال عبد المطلب : حاجتي إلى الملك أن يردّ إليّ مائتي بعير أصابها لي. فقال أبرهة لترجمانه : قل له : قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت فيك. قال : لِمَ ؟ قال : جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه لم تكلمني فيه، وتكلمني في مائتي بعير أصبتها ؟ قال عبد المطلب : أنا رب الإبل، وللبيت رب سيمنعه. قال : ما كان ليمنعه مني. قال : فأنت وذاك. فأمر بإبله فردت عليه، وقيل : عرض عليه عبد المطلب أموال تهامة ليرجع فأبى، فلما ردت الإبل على عبد المطلب خرج فأخبر قريشاً الخبر، وأمرهم أن يتفرّقوا في الشعاب، ويتحرّزوا في رؤوس الجبال تخوّفاً عليهم من معرّة الجيش، وأتى عبد المطلب الكعبة فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول :
يا رب لا أرجو سواكا *** يا ربّ فامنع منهم حماكا
إنّ عدوّ البيت من عاداكا *** أمنعهم أن يخربوا قراكا
وقال أيضاً :
لا هم إن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك
لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم عدوا محالك
جروا جموع بلادهم *** والفيل كي يسبوا عيالك
عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع *** بتنا فأمر ما بدا لك
ثم ترك عبد المطلب الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه، فأصبح أبرهة بالمغمس قد تهيأ للدخول، وهيأ جيشه، وهيأ فيله، فأقبل نفيل إلى الفيل الأعظم ثم أخذ بأذنه، وقال : أبرك محمود، وارجع راشداً من حيث جئت، فإنك في بلد الله الحرام، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه بالمعول في رأسه فأبى، فوجهوه راجعاً إلى اليمن، فقام مهرولاً، فوجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، ووجهوه إلى المشرق ففعل مثل ذلك، فضربوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم، وخرج عبد المطلب يشتدّ حتى صعد الجبل، فأرسل الله تعالى عليهم ما قصه في قوله سبحانه :﴿ ألم يجعل كيدهم في تضليل ﴾.
﴿ ألم يجعل ﴾ أي : جعل بما له من الإحسان إلى العرب، لاسيما قريش ﴿ كيدهم ﴾ أي : في هدم الكعبة ﴿ في تضليل ﴾ أي : خسارة وهلاك.
﴿ وأرسل عليهم ﴾ أي : خاصة من بين ما هناك من كفار العرب ﴿ طيراً ﴾ أي : طيوراً سوداء، وقيل : خضراء، وقيل : بيضاء ﴿ أبابيل ﴾ أي : جماعات بكثرة متفرّقة، يتبع بعضها بعضاً من نواحي شتى، فوجاً فوجاً، وزمرة زمرة. أمام كل فرقة منها طائر يقودها أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق. وقيل : أبابيل كالإبل المؤبلة. قال الفراء : لا واحد لها من لفظها، وقيل : واحدها إبالة. وقال الكسائي : كنت أسمع النحويين يقولون : واحدها أبول كعجول وعجاجيل. وقال ابن عباس : كانت طيراً لها خراطيم كخراطيم الطير، وأكف كأكف الكلاب. وقال عكرمة : لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال سعيد بن جبير : خضر لها مناقير صفر، وقال قتادة : طير سود.
﴿ ترميهم ﴾ أي : الطير ﴿ بحجارة ﴾ أي : عظيمة في الكثرة والفعل، صغيرة في المقدار والحجم، مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجليه، أكبر من العدسة وأصغر من الحمصة. وعن ابن عباس أنه رأى منها عند أم هانئ نحو قفيز مخططة بالحمرة كالجزع الظفاري، فكان الحجر يقع على رأس الرجل فيخرج من دبره، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففرّوا فهلكوا في كل طريق ومنهل. وأمّا أبرهة فتساقطت أنامله كلها، كلما سقطت أنملة اتبعها مدّة وقيح ودم، فانتهى إلى صنعاء وهو مثل فرخ الطير، وما مات حتى انصدع صدره من قلبه، وانفلت وزيره أبو يكسوم وطائر يحلق فوقه حتى بلغ النجاشي، فقص عليه القصة، فلما أتمها وقع عليه الحجر فخرّ ميتاً بين يديه ؛ لأن تلك الحجارة كانت ﴿ من سجيل ﴾ أي : طين متحجر مصنوع للعذاب في موضع هو في غاية العلو.
ولما تسبب عن هذا الرمي هلاكهم، وكان ذلك بفعل الله تعالى ؛ لأنه الذي خلق الأثر قطعاً، لأنّ مثله لا ينشأ عنه ما نشأ من الهلاك، قال الله تعالى :﴿ فجعلهم ﴾ أي : ربك المحسن إليك بإحسانه على قومك لأجلك بذلك ﴿ كعصف مأكول ﴾ أي : كورق زرع أكلته فراثته فيبس وتفرّقت أجزاءه، شبه قطع أوصالهم بتفرّق أجزاء الروث. قال مجاهد : العصف ورق الحنطة. وقال قتادة : هو التبن. وقال عكرمة : كالحبّ إذا أكل وصار أجوف ؛ لأنّ الحجر كان يأتي في الرأس فيحرق بما له الحرارة وشدّة الوقع كلما مرّ به حتى يخرج من الدبر، ويصير موضع تجويفه أسود لما له من النارية. وقال ابن عباس : هو القشر الخارج الذي يكون على حب الحنطة كهيئة الغلاف له، وروي أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة، وعن عكرمة : من أصابه جدره، وهو أوّل جدري ظهر. وعن أبي سعيد الخدري أنه سئل عن الطير فقال : حمام مكة منها، وقيل : جاءت عشية ثم صبحتهم.
واختلف في تاريخ عام الفيل، فقيل : كان قبل مولد النبيّ صلى الله عليه وسلم بأربعين سنة، وقيل : بثلاث وعشرين سنة.
والأكثرون على أنه كان في العام الذي ولد فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم، وعن عائشة قالت : رأيت سائس الفيل وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس، وقال عبد الملك بن مروان لعتاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال : النبيّ صلى الله عليه وسلم أكبر مني، وأنا أسنّ منه، ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس ؛ بل قيل : لم يكن بمكة أحد إلا رأى قائد الفيل وسائسه أعميين يتكففان الناس ؛ لأنّ عائشة مع صغر سنها رأتهما. وقال ابن إسحاق : لما ردّ الله تعالى الحبشة عن مكة المشرّفة عظمت العرب قريشاً، وقالوا : أهل الله، قاتل عنهم، وكفاهم مؤنة عدوّهم، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.
وقال بعض العلماء : كانت قصة الفيل مما نعدّه من معجزاته صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قبله ؛ لأنها كانت توكيداً لأمره وتمهيداً لشأنه.
Icon