ﰡ
- ١ - أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ
- ٢ - أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ
- ٣ - وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ
- ٤ - تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ
- ٥ - فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ
هَذِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي امْتَنَّ اللَّهُ بِهَا عَلَى قُرَيْشٍ، فِيمَا صَرَفَ عَنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ، الَّذِينَ كَانُوا قَدْ عَزَمُوا عَلَى هَدْمِ الْكَعْبَةِ وَمَحْوِ أَثَرِهَا مِنَ الْوُجُودِ، فَأَبَادَهُمُ اللَّهُ، وَأَرْغَمَ آنَافَهُمْ، وَخَيَّبَ سَعْيَهُمْ، وَأَضَلَّ عَمَلَهُمْ، وَرَدَّهُمْ بِشَرِّ خيبة، هذه قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ. يروى أن أبرهة الأشرم بنى كَنِيسَةٍ هَائِلَةٍ بِصَنْعَاءَ، رَفِيعَةَ الْبِنَاءِ عَالِيَةَ الفِناء مُزَخْرَفَةَ الْأَرْجَاءِ، سَمَّتْهَا الْعَرَبُ (الْقُلَّيْسَ) لِارْتِفَاعِهَا، لِأَنَّ النَّاظِرَ إِلَيْهَا تَكَادُ تَسْقُطُ قُلُنْسُوَتُهُ عَنْ رَأْسِهِ من ارتفاع بنائها، وعزم أبرهة عَلَى أَنْ يَصْرِفَ حَجَّ الْعَرَبِ إِلَيْهَا كَمَا يُحَجُّ إِلَى الْكَعْبَةِ بِمَكَّةَ، وَنَادَى بِذَلِكَ فِي مملكته، فكرهت العرب ذَلِكَ، وَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ، لِذَلِكَ غَضَبًا شَدِيدًا، حَتَّى قصدها بعضهم وتوصل إلى أن دخلها، فَأَحْدَثَ فِيهَا وَكَرَّ رَاجِعًا، فَلَمَّا رَأَى السَّدَنَةُ ذَلِكَ الْحَدَثَ رَفَعُوا أَمْرَهُمْ إِلَى مَلِكِهِمْ (أَبَرْهَةَ) وَقَالُوا لَهُ: إِنَّمَا صَنَعَ هَذَا بَعْضُ قُرَيْشٍ غَضَبًا لِبَيْتِهِمُ الَّذِي ضَاهَيْتَ هَذَا بِهِ، فَأَقْسَمَ أَبَرْهَةُ لَيَسِيرَنَّ إِلَى بَيْتِ مَكَّةَ وَلَيُخَرِّبَنَّهُ حَجَرًا حجراً، ذكر مقاتل أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ دَخَلُوهَا، فَأَجَّجُوا فِيهَا ناراً، وكان يوماً فيه هواء شديد فاحترقت، فَتَأَهَّبَ أَبَرْهَةُ لِذَلِكَ، وَصَارَ فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ عَرَمْرَمٍ لِئَلَّا يَصُدَّهُ أَحَدٌ عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَ مَعَهُ فِيلًا عَظِيمًا كَبِيرَ الْجُثَّةِ لَمْ يُرَ مِثْلُهُ، يقال له (محمود)، ويقال: كان معه اثنا عشر فيلاً غيره، فَلَمَّا سَمِعَتِ الْعَرَبُ بِمَسِيرِهِ أَعْظَمُوا ذَلِكَ جِدًّا، وَرَأَوْا أَنَّ حَقًا عَلَيْهِمُ الْمُحَاجَبَةُ دُونَ الْبَيْتِ، وَرَدُّ مَنْ أَرَادَهُ بِكَيْدٍ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَمُلُوكِهِمْ يُقَالُ لَهُ (ذو نفر) فدعا قومه إِلَى حَرْبِ أَبَرْهَةَ وَجِهَادِهِ عَنْ بَيْتِ اللَّهِ، فأجابوه وقاتلوا أبرهة فهزمهم، ثُمَّ مَضَى لِوَجْهِهِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ خثعم اعترض له (نفيل بن حبيب) الخثعمي في قومه فَقَاتَلُوهُ، فَهَزَمَهُمْ أَبَرْهَةُ وَأُسِرَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ، فَأَرَادَ قَتْلَهُ ثُمَّ عَفَا عَنْهُ، وَاسْتَصْحَبَهُ مَعَهُ لِيَدُلَّهُ فِي بِلَادِ الْحِجَازِ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنْ أَرْضِ الطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهَا ثَقِيفٌ وَصَانَعُوهُ خِيفَةً عَلَى بَيْتِهِمْ الَّذِي عِنْدَهُمْ الَّذِي يُسَمُّونَهُ اللَّاتَ، فَأَكْرَمَهُمْ وَبَعَثُوا مَعَهُ (أَبَا رُغَالٍ) دَلِيلًا، فَلَمَّا انْتَهَى أَبَرْهَةُ إِلَى الْمُغَمْسِ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَكَّةَ نَزَلَ بِهِ، وَأَغَارَ جَيْشُهُ عَلَى سَرْحِ أَهْلِ مَكَّةَ مِنَ الْإِبِلِ وَغَيْرِهَا،
اللهم إن المرء يمنع * رحله فامنع رحاك
وانصر على آل الصليب * وعابديه اليوم آلك
لا يغلبنّ صليبهم * ومحالهم أبداً محالك
ثم خرجوا إلى رؤوس الجبال. وذكر مقاتل أَنَّهُمْ تَرَكُوا عِنْدَ الْبَيْتِ مِائَةَ بَدَنَةٍ مُقَلَّدَةٍ، لَعَلَّ بَعْضُ الْجَيْشِ يَنَالُ مِنْهَا شَيْئًا بِغَيْرِ حق فينتقم الله منهم، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبَرْهَةُ تَهَيَّأَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهَيَّأَ جيشه، فلما وجهوا الفيل نحو مكة، برك الْفِيلُ، وَخَرَجَ (نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ) يَشْتَدُّ حَتَّى صعد فِي الْجَبَلِ، وَضَرَبُوا الْفِيلَ لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَضَرَبُوا فِي رَأْسِهِ بِالطِبْرَزِينِ وَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَ لَهُمْ فِي مراقه، فنزعوه بِهَا لِيَقُومَ، فَأَبَى، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ، فَقَامَ يُهَرْوِلُ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ،
وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى مَكَّةَ فَبَرَكَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ وَالْبَلَسَانِ مَعَ كُلِّ طَائِرٍ مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ يَحْمِلُهَا: حَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ وَحَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ أَمْثَالُ الْحُمُّصِ والعدس، لا يصيب مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ، وَلَيْسَ كُلُّهُمْ أَصَابَتْ، وَخَرَجُوا
هَارِبِينَ يَبْتَدِرُونَ الطَّرِيقَ، وَيَسْأَلُونَ عَنْ (نُفَيْلٍ) لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ، هَذَا وَنُفَيْلٌ عَلَى رَأْسِ الْجَبَلِ مَعَ قُرَيْشٍ، وَعَرَبِ الْحِجَازِ يَنْظُرُونَ مَاذَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ النِّقْمَةِ، وَجَعَلَ نُفَيْلٌ يَقُولُ:
أَيْنَ الْمَفَرُّ وَالْإِلَهُ الطَّالِبْ * وَالْأَشْرَمُ المغلوب ليس الغالب
وذكر الواقدي بإسناده: أنهم لما تعبأوا لدخول الحرم، وهيأوا الْفِيلَ جَعَلُوا لَا يَصْرِفُونَهُ إِلَى جِهَةٍ مِنْ سَائِرِ الْجِهَاتِ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا، فَإِذَا وَجَّهُوهُ إِلَى الْحَرَمِ رَبَضَ وَصَاحَ، وَجَعَلَ أَبَرْهَةُ يَحْمِلُ عَلَى سَائِسِ الْفِيلِ وَيَنْهَرُهُ وَيَضْرِبُهُ لِيَقْهَرَ الْفِيلَ على دخول الحرم، وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة على حراء ينظرون مَا الْحَبَشَةُ يَصْنَعُونَ، وَمَاذَا
وقوله تعالى: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يعني التبن الذي تسميه العامة هبور، وقال ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصْفُ الْقِشْرَةُ الَّتِي عَلَى الْحَبَّةِ كَالْغُلَافِ عَلَى الْحِنْطَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْعَصْفُ وَرَقُ الزَّرْعِ، وَوَرَقُ الْبَقْلِ إِذَا أَكَلَتْهُ الْبَهَائِمُ فراثته فصار دريناً، المعنى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَهْلَكَهُمْ وَدَمَّرَهُمْ وَرَدَّهُمْ بِكَيْدِهِمْ وَغَيْظِهِمْ، لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً، وَأَهْلَكَ عَامَّتَهُمْ ولم يرجع منهم مخبر إلاّ وهو جريح، كما يروى لأمية بن أبي الصلت بن ربيعة قوله:
إِنَّ آيَاتِ رَبِّنَا بَاقِيَاتٌ * مَا يُمَارِي فِيهِنَّ إِلَّا الْكَفُورُ
خَلَقَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَكُلٌّ * مُسْتَبِينٌ حِسَابُهُ مَقْدُورُ
ثُمَّ يَجْلُو النَّهَارَ رَبٌّ رَحِيمٌ * بِمَهَاةٍ شُعَاعُهَا مَنْشُورُ
حَبَسَ الْفِيلَ بِالْمُغَمَّسِ حَتَّى * صار يحبو كأنه معقور
خَلَّفُوهُ ثُمَّ ابْذَعَرُّوا جَمِيعًا * كُلُّهُمْ عَظْمُ سَاقِهِ مَكْسُورُ
كُلُّ دِين يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا دِين الْحَنِيفَةِ بُورُ