تفسير سورة الفيل

زاد المسير
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
سورة الفيل مكية بإجماعهم.

سورة الفيل
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفيل (١٠٥) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ فيه قولان: أحدهما: ألم تُخْبَرْ، قاله الفراء. والثاني: ألم تَعْلَم، قاله الزجاج. ومعنى الكلام معنى التعجب. وأصحاب الفيل هم الذين قصدوا تخريب الكعبة وفي سبب قصدهم لذلك قولان «١» : أحدهما: أن أبرهة بني بيعةً وقال: لست منتهياً حتى أضيف إليها حَجَّ العرب، فسمع بذلك رجل من بني كنانة، فخرج، فدخلها ليلاً، فأحدث فيها، فبلغ ذلك أبرهة، فحلف ليسرنّ إلى الكعبة فيهدِمَها، قاله ابن عباس. والثاني: أن قوماً من قريش خرجوا في تجارة إلى أرض النجاشي فنزلوا في جنب بِيعَةٍ فأوقدوا ناراً، وشَوَوْا لحماً، فلما رَحَلُوا هَبَّت الرِّيح فاضطرم المكان ناراً، فغضب النجاشي لأجل البِيَعة، فقال له كبراء أصحابه- منهم حجر بن شراحيل، وأبو يكسوم-: لا تحزن، فنحن نَهدِم الكعبة، قاله مقاتل. وقال ابن اسحاق: أبو يكسوم اسمه أبرهة بن الأشرم. وقيل: كان أبرهة صاحب جيشه وقيل: وزيره، وحِجْر من قُوَّادِه.
ذكر الإِشارة إِلى القصة
ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدِمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نَعَم الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: سل عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدِم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقيَ عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبركَ أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته
(١) انظر قصة أصحاب الفيل في «دلائل النبوة» للبيهقي ١/ ٨٥ و «السيرة النبوية» لابن هشام ١/ ٤٣ و «تفسير السمرقندي» ٣/ ٥١٢- ٥١٥ و «تفسير ابن كثير» ٤/ ٥٨٧- ٥٩١ و «تفسير البغوي» ٤/ ٤٩٤- ٤٩٧. و «الدر» ٦/ ٦٧٢- ٦٧٦ وخبر أبرهة ومحاولته هدم الكعبة، خبر مشهور بل متواتر وشهرته تغني عن الإسناد والله تعالى أعلم.
490
وحرمه، وإن يخلّ بينه وبين ذلك، فو الله ما لنا به قوة. قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وأكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتي أن يردَّ عليَّ مائتي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، حين جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمنّه، فلم تكلِّمني فيه، وكلَّمتني لإبل أصبتُها. فقال عبد المطلب: أنا ربُّ هذه الإبل، ولهذا البيت رَبُّ سيمنعه.
فأمر بإبله فَرُدَّت عليه، فخرج، وأخبر قريشاً، وأمرهم أن يتفرَّقوا في الشعاب ورؤوس الجبال خوفاً من مَعَرَّة الجيش إذا دخل، ففعلوا، فأتى عبد المطلب الكعبة، فأخذ بحلقة الباب، وجعل يقول:
يَا رَبِّ لاَ أَرْجُو لهم سِوَاكَا... يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمُ حِمَاكَا
إنَّ عَدُوَّ البيت مَنْ عَادَاكا... إمْنَعْهُمُ أن يُخْرِبُوا قُرَاكا
وقال أيضاً:
لاَ هُمَّ إنَّ المرء يمنع... رحله وحلاله فامنع حلالك
لا يغلبنّ صليبهم... ومحالهم عدوا مِحَالَكْ
جَرُّوا جميعَ بلادهم... والفيلَ كي يَسْبُوا عِيَالَكْ
عَمِدُوا حِمَاك بكيدِهم... جهلاً وما رَقَبُوا جلالك
إن كنت تاركهم وكع... بتنا فأمر ما بدا لك
ثم إن أبرهة أصبح متهيئاً للدخول، فبرك الفيل، فبعثوه فأبى، فضربوه، فأبى، فوجَّهوه إلى اليمن راجعاً، فقام يهرول، ووجَّهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك، وإلى المشرق ففعل مثل ذلك، فوجَّهوه إلى الحرم، فأبى، فأرسل الله طيراً من البحر.
واختلفوا في صفتها، فقال ابن عباس: كانت لهم خراطيم كخراطيم الطير، وأكفّ كأكفّ الكلاب. وقال عكرمة: كانت لها رؤوس كرؤوس السباع. وقال ابن إسحاق: كانت أمثال الخطاطيف.
واختلفوا في ألوانِها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كانت خضراء، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير.
والثاني: سوداء، قاله عبيد بن عمير. والثالث: بيضاء، قاله قتادة. وقال: وكان مع كل طير ثلاثة أحجار، حَجَرانِ في رجليه، وحجر في منقاره.
واختلفوا في صفة الحجارة فقال بعضهم: كانت كأمثال الحمص والعدس. وقال عبيد بن عمير:
بل كان الحجر كرأس الرجل وكالجمل، فلما غشيت القوم أرسلتها عليهم، فلم تصب تلك الحجارة أحداً إلا هلك. وكان الحجر يقع على رأس الرجل، فيخرج من دبره. وقيل: كان على كل حجر اسم الذي وقع عليه، فهلكوا ولم يدخلوا الحرم، وبعث الله على أبرهة داء في جسده، فتساقطت أنامله، وانصدع صدره قطعتين عن قلبه، فهلك، ورأى أهل مكّة الطير قد أقبلت من ناحية البحر، فقال عبد المطلب: إن هذه الطير غريبة. ثم إن عبد المطلب بعث ابنه عبد الله على فرس ينظر إلى القوم، فرجع يركض وهو يقول: هلك القوم جميعاً، فخرج عبد المطلب وأصحابه فغنموا أموالهم. وقيل: لم ينج من القوم إلّا أبو يكسوم، فسار، وطائر يطير على رأسه من فوقه، ولا يشعر به، حتى دخل على النجاشي، فأخبره بما أصاب القوم، فلما أتم كلامه رماه الطائر فمات، فأرى الله تعالى النجاشي كيف
491
كان هلاك أصحابه.
واختلفوا كم كان بين مولد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبين هذه القصة على ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وهو الأصح. والثاني: كان بينهما ثلاث وعشرون سنة، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أربعون سنة، حكاه مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ وهو ما أرادوا من تخريب الكعبة فِي تَضْلِيلٍ أي: في ذهاب.
والمعنى: أن كيدهم ضَلَّ عما قصدوا له، فلم يصلوا إلى مرادهم وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ.
وفي «الأبابيل» خمسة أقوال: أحدها: أنها المتفرِّقة من هاهنا وهاهنا، قاله ابن مسعود، والأخفش. والثاني: أنها المتتابعة التي يتبع بعضها بعضاً، قاله ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. والثالث:
الكثيرة، قاله الحسن، وطاوس. والرابع: أنها الجمع بعد الجمع، قاله عطاء، وأبو صالح، وكذلك قال أبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج: «الأبابيل» : جماعات في تفرقة. والخامس: المختلفة الألوان، قاله زيد بن أسلم. قال الفراء، وأبو عبيدة: «الأبابيل» لا واحد لها.
قوله عزّ وجلّ: تَرْمِيهِمْ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وابن يعمر وحميد وأبو حنيفة «يرميهم» بالياء. وقد بينا معنى «سجِّيل» في هود «٢» ومعنى «العصف» في سورة الرّحمن «٣» عزّ وجلّ.
في معنى «مأكول» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أراد به أنه أُخذ ما فيه من الحب فأكل، وبقي هو لا حب فيه. والثاني: أن يكون أراد العصف مأكول البهائم، كما يقال للحنطة: هذا المأكول ولمَّا يؤكل. وللماء: هذا المشروب ولمَّا يشرب، يريد أنهما مما يؤكل ويشرب، ذكرهما ابن قتيبة. والثالث:
أن المأكول هاهنا: الذي وقع فيه الأُكال. فالمعنى: جعلهم كَوَرَقِ الزَّرْعِ الذي جَفَّ وأُكل: أي: وقع فيه الأُكال، قاله الزّجّاج.
(١) قال الحافظ ابن كثير في «السيرة النبوية» ١/ ٢٠٣: كون رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولد عام الفيل هو قول الجمهور.
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٦٤٧٦. وقال ابن كثير رحمه الله في «التفسير» ٤/ ٦٥٩: سورة الفيل: هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود فأبادهم الله وأرغم آنافهم وخيّب سعيهم وأضلّ عملهم وردهم بشر خيبة، وكانوا قوما نصارى، وكان دينهم إذ ذاك أقرب حالا مما كان عليه قريش من عبادة الأوثان، ولكن كان هذا من باب الإرهاص والتوطئة لمبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فإنه في ذلك العام ولد على أشهر الأقوال، ولسان حال القدر يقول: لم ننصركم يا معشر قريش لخيرتكم عليهم، ولكن صيانة للبيت العتيق الذي سنشرفه ونعظمه ونوقره ببعثه النبي محمد صلّى الله عليه وسلم على خاتم الأنبياء.
(٢) هود: ٨٢.
(٣) الرحمن: ١٢.
492
سورة قريش
ويقال لها: سورة لإيلاف وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الجمهور. والثاني: مدنيّة، قاله الضّحّاك، وابن السّائب.
واختلف القرّاء في «لإيلاف» «١» فقرأ ابن عامر «لإلاف» بغير ياء بعد الهمزة، مثل: لعلاف. وقرأ أبو جعفر بياء ساكنة من غير همز. وروى حمّاد بن أحمد عن الشموني «٢» بهمزتين مخففتين، الأولى:
مكسورة، والثانية: ساكنة على وزن لفعلان. وقرأ الباقون بهمزة بعدها ياء ساكنة، مثل لعيلاف.
وفي لام «لإيلاف» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها موصولة بما قبلها، المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش، أي أهلك الله أصحاب الفيل لتبقى قريش. وما قد ألفوا من رحلة الشتاء، والصيف هذا قول الفرّاء والجمهور. والثاني: أنها لام التعجّب، كأنّ المعنى: اعجبوا لإيلاف قريش رحلة الشتاء والصيف، وتركهم عبادة ربّ هذا البيت، قاله الأعمش، والكسائيّ. والثالث: أنّ معناها متّصل بما بعدها. المعنى: فليعبد هؤلاء ربّ هذا البيت لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف، لأنهم كانوا في الرّحلتين آمنين، وإذا عرض لهم عارض قالوا: نحن أهل حرم الله فلا يتعرّض لهم، قال الزّجّاج: وهذا الوجه قول النّحويين الذي ترتضي أقوالهم. وقال ابن قتيبة: بعض الناس يذهب إلى أنّ هذه السورة وسورة الفيل واحدة، وأكثر الناس على أنهما سورتان، وإن كانتا متّصلتي الألفاظ. والمعنى: أنّ قريشا كانت بالحرم آمنة من الأعداء. والحرم واد جديب لا زرع فيه ولا شجر، وإنما كانت قريش تعيش فيه بالتجارة وكانت لهم رحلتان في كلّ سنة، رحلة في الشتاء، ورحلة في الصيف إلى الشام. ولولا هاتان الرّحلتان لم يكن به مقام. ولولا أنهم بمجاورة البيت لم يقدروا على التصرّف، فلما قصد أصحاب الفيل هدم الكعب أهلكهم الله لتقيم قريش بالحرم، فذكّرهم الله نعمته بالسورتين. والمعنى: أنه أهلك أولئك ليؤلّف قريشا هاتين الرّحلتين اللّتين بها معاشهم، ومقامهم بمكّة. تقول: ألفت موضع كذا: إذا لزمته، وألفنيه الله، كما تقول: لزمت موضع كذا وكذا، وألزمنيه الله، وكرّر «لإيلاف» للتوكيد، كما تقول:
أعطيتك المال لصيانة وجهك صيانة عن كلّ الناس. وقال الزّجّاج: يقال: ألفت المكان ألفا، وآلفته إيلافا بمعنى واحد.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٧٠٠: والصواب من القراءة في ذلك عندي من قرأه لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ بإثبات الياء فيهما بعد الهمزة من آلفت الشيء أولفه إيلافا، لإجماع الحجة من القراء عليه.
(٢) في الأزهرية «محمد بن حبيب الأشموني عن أبي يوسف الأعشى عن أبي بكر عن عاصم». [.....]
493
Icon