وآياتها ثماني عشر
كلماتها : ٢٤٠ ؛ حروفها : ١٠٧٠.
ﰡ
﴿ يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ( ١ ) ﴾
يتابع ويجدد التنزيه للمعبود بحق وتقديسه كل ما في السماوات وكل ما في الأرض، والسماوات والأرض ومن فيهن وما بينهن وكل موجود، وله – تبارك اسمه- ملك كل شيء، والحمد على الحقيقة لربنا – دون سواه- إذ هو المنعم بجلائل النعم ودقائقها، واقتداره –جل ثناؤه- تام لا يعجزه مراد ولا يتعذر عليه.
مولانا الكبير المتعال هو وحده –لا غيره- الخلاق الذي أوجدكم، فبعض منكم مقيم على جحود فضل الحميد المجيد، وبعض منكم مصدق مستيقن بربه وعهده وميثاقه ورسالاته وكل ما يجب الإيمان به وأداء أماناته، والله جل علاه يرى أعمال الكل، فليحرص العاقل على أن يراه ربه على كل مرضية.
مما نقل عن الطيبي : الفاء... للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة، كاللام في قوله تعالى :﴿ فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا... ﴾١، وهي كالفاء في قوله تعالى :﴿ وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ﴾٢.
مما نقل صاحب الجامع لأحكام القرآن : وقال الزجاج- وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة- : إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان. اه٣.
٢ - سورة الحديد. من الآية ٢٦..
٣ - جـ ١٨، ص ١٣٣..
ربنا وخالقنا هو كذلك- وحده- الذي خلق السماوات بطباقها وملائكها وشموسها ونجومها وفلكها، وخلق الأرض بيابسها ومائها وسهلها وجبالها، ونبتها وحيوانها، وأقواتها وأرزاقها، وإنسها وجنها، وهوائها وما يحيط بها، خلق ذلك حقا دون شك ولا شراك، وبهذا الحق المطابق للصواب والحكمة ؛ وميز الآدمي وكرمه :﴿ ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ﴾١، وسلطه على ما في الكون من عظيم ما برأ وذرا :﴿ وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه... ﴾٢. كما حسن تقويمنا، وجمل أشكالنا على أحسن تصوير وأبدعه ؛ وإليه المرجع والمآب. وحسبك من بديع صنع ربك أن جعلنا أبدع الحيوان وأبهاه صورة [ بدليل أن الإنسان لا يتمنى أن تكون صورته على خلاف ما يرى من سائر الصور ؛ ومن حسن صورته أنه خلق منتصبا غير منكب.. ]٣.
٢ - سورة الجاثية. من الآية ١٣..
٣ - ما بين العارضتين أورده القرطبي..
علمنا مولانا الحق أن قدرته محيطة، وأن علمه شامل، ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ ﴿ ... والله بما تعملون بصير ﴾ ثم يبين لنا أن علمه أدق العلوم مع إحاطته :﴿ يعلم ما في السماوات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون... ﴾ فما يكون من قول أو عمل في الخلوة أو الجلوة، نبديه أو نخفيه إلا والله يعلمه، بل ويصل علم البارئ جل وعلا إلى ما هو أخفى من السر إلى الوساوس والخواطر، وحديث النفس وطوايا الصدر.
﴿ وبال ﴾ فساد، وثقل وشدة ومكروه.
ألم تعلموا خبر الكفار السابقين وكيف جازاهم الله بكفرهم بلاء شديدا، ونكالا بفسادهم ثقل عليهم- عجل لهم ذلك في حياتهم الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب موجع يكوي ويشوي- والاستفهام تقريري، فهو وعد للمؤمنين بأن الله مخزي الكافرين، ووعيد للجاحدين لينذروا به من الوقوع في سخط الجبار الواحد القهار والتعرض لبأسه عاجلا وآجلا.
[ وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة١.
ذلك الجزاء الذي ينالونه دنيا وآخرة بسبب إعراضهم عن سبيل الله، وكفرهم برسالاته، وتكذيبهم رسله، وجحودهم أن يبعث الله بشرا رسولا، مع ما جاءت به الرسل من آيات ربنا ومعجزاته الواضحات الشاهدات بصدق المرسلين- أعم من أن تكون آيات متلوة، أو علامات في الآفاق وفي أنفسهم مرئية وحسية تشهد بأن ما يدعون إليه صلوات الله عليهم هو الحق- وربنا غني لن يضره إعراض الكافرين، ولن ينفعه انقياد الطائعين، فهو المحمود بلسان الحال مهما قل الحامدون بلسان المقال.
وقديما سارع رؤساء الكفر من قوم نوح إلى تكذيبه بالحجة الداحضة وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ﴿ فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة.. ﴾١، ومن بعدهم قال رؤساء الضلال لقومهم ما حكاه القرآن عن قيلهم :﴿ ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون ﴾٢. ثم قال الملأ من قوم فرعون صدا عما جاء به موسى وهارون :﴿ أنؤمن لبشرين مثلنا.. ﴾٣. وقال كفار مكة- يشككون في صدق النبي الخاتم :﴿ وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك.. ﴾٤ ؛ فأقام الله تعالى حجته وبين سنته- تبارك اسمه- :﴿ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق.. ﴾٥. وما يجحد بصدق الرسل إلا كل ختال كفور.
[ وارتفع ﴿ أبشر ﴾ على الابتداء. وقيل بإضمار فعل، والجمع على معنى بشر، ولهذا قال :﴿ يهدوننا ﴾ ولم يقل يهدينا. وقد يأتي الواحد بمعنى الجمع فيكون اسما للجنس، وواحده إنسان لا واحد له من لفظه.. ﴿ فكفروا ﴾ أي بهذا القول. وقيل : كفروا بالرسل وتولوا عن البرهان، وأعرضوا عن الإيمان والموعظة. ﴿ واستغنى الله ﴾ أي بسلطانه عن طاعة عباده، قاله مقاتل. وقيل : استغنى الله بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية ]٦.
٢ - سورة المؤمنون. الآية ٣٤..
٣ - سورة المؤمنون. من الآية ٤٧..
٤ - سورة المؤمنون. من الآية ٤٧..
٥ - سورة الفرقان. من الآية ٧..
٦ ما بين العارضتين مما أورده القرطبي..
ادعى الكافرون زورا أنهم لن يعودوا أحياء بعد موتهم، فأبطل القرآن ادعاءهم وأزهق افتراءهم، وأمر الرسول الكريم أن يبلغهم ومن يسمع أو يجيء بعدهم أن الله يبعث من القبور، ويخرجهم يوم النشور، ويلقى كل مكلف كتابه المنشور ﴿ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر ﴾١، والذي فطرنا أول مرة لا يعجزه أن يعيدنا- وهو أهون عليه- إذ الإعادة أسهل من الابتداء [ وله المثل الأعلى ].
[ الزعم ادعاء العلم، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل... ولما فيه من معنى العلم يتعدى إلى مفعولين، وقد قام مقامهما هنا ﴿ أن ﴾ المخففة وما في حيزها ]٢.
مما أورد ابن كثير :
وهذه هي الآية الثالثة التي أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد ووجوده، فالأولى في سورة يونس :﴿ ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين ﴾، والثانية في سورة سبأ :﴿ وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم.. ﴾، والثالثة هي هذه ﴿ .. قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم.. ﴾ اه.
٢ - ما بين العارضتين أورده الألوسي..
فاستيقنوا بجلال ربكم وبأنه حق وقوله حق ووعده حق ولقاؤه حق وجزاؤه حق، وأطيعوه، وصدقوا رسوله الذي يبلغ دعوته واتبعوه، وقدسوا قرآنه والتزموه، فإنه تنزيل الحكيم البصير، وربكم بعمل كل عامل وبسره خبير.
﴿ التغابن ﴾ التناقض، يغبن بعض الناس بعضا يوم القيامة بنزول الأشقياء منازل السعداء لو كانوا أشقياء وعكسه. وفي الصحيح :( ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا، وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ) ؛ وفيه تهكم بالأشقياء ﴿ ... إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾١.
واذكر يوم يجمع الله الأولين والآخرين وسائر المكلفين- من الملائكة والجن والناس أجمعين- في يوم مجموع له الخلق ومشهود، ذلك هو يوم يظهر غبن كل كافر بترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، ومن يلق ربه وقد كان في دنياه مؤمنا عمل الصالحات يذهب الله عنه الفضيحة بستر عيوبه، والعفو عن ذنوبه، ويسكنه روضات الجنات ومساكن طيبات تجري من حولها أنهار مختلفات، وهم يمكثون في هذا النعيم لا يرتحلون عنه ولا يخرجون منه، وذلك أعظم الربح والفلاح.
مما قال الراغب : و﴿ يوم التغابن ﴾ يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى :﴿ ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله... ﴾٢، وقوله سبحانه :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة... ﴾٣، وقوله عز وجل :﴿ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا.. ﴾٤ ؛ فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة، وفيما تعاطوه من ذلك جميعا. اه.
مما أورد صاحب تفسير غرائب القرآن : ويجوز أن يفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم، وحمل الظالم خطايا المظلوم.
٢ - سورة البقرة. من الآية ٢٠٧..
٣ - سورة التوبة. من الآية ١١١..
٤ سورة آل عمران. من الآية ٧٧..
بعد أن بشرت الآية السابقة بثواب المؤمنين الصالحين، أنذرت هذه الآية الكريمة بعقاب المكذبين الكافرين، فمن كفر بالإيمان وكذب بالبرهان- من معجزات حسية أو آيات القرآن- فمصيرهم إلى النار، ويخلدون في الحسرات والبوار، وما أتعس مصير الفجار المفسدين الكفار !
ما نزلت بلية وحلت بمن حلت به إلا بعلمه سبحانه وقضائه. [ أي ما أصاب أحد مصيبة على أن المفعول محذوف، و﴿ من ﴾ زائدة، و﴿ مصبية ﴾ فاعل، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح.. وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر... ]١.
[ وقيل : سبب نزولها أن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا، لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أفعل، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه ]٢.
﴿ ومن يؤمن بالله ﴾ وكل مستيقن بسلطان ربنا وتدبيره وحده الأمر ﴿ يهد قلبه ﴾ ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، فإذا ابتلى صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر، ﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ وعلم ربنا محيط بكل شيء ظاهر أو باطن فلا يعزب ولا يغيب عنه حال من رضى، ولا حال من سخط.
قال جار الله : يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير. اه.
٢ - ما بين العارضتين مما أورد الألوسي جـ ٢٨، ص ١٤٣.
في الآية الثامنة من هذه السورة الكريمة أمر الله بالإيمان به وبرسوله وبكتابه، وفي هذه الآية أمر بطاعته سبحانه وطاعة رسوله، فكأن الأمر الأول للتصديق واليقين العقلي القلبي، وكأن هذه للانقياد الحسي العملي، فإن أعرضتم عن إجابة الدعوة واتباع الداعي فليس على مصطفانا ومبعوثنا إلا أن يبين للخلق ما نزل إليهم، ويبلغهم عهد ربكم وميثاقه، [ فقد أعذر إليكم بالإبلاغ، والله ولي الانتقام ممن عصاه وخالف أمره وتولى عنه ]١.
ربنا الخلاق الملك الحميد هو المعبود دون سواه، فليتخذه المؤمن وكيلا فإنه نعم المولى ونعم النصير، وحسبك هذا الوكيل، المتفرد بالصمدية الذي لا يستحق العبادة غيره. [ وإظهار الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل أو الأمر به، فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية..
ومن هنا قيل : ليس في الآيات لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم من هذه الآية، لإيمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن.. ]١.
ينادي الله تعالى عباده المؤمنين يعلمهم أن بعض الأزواج وبعض الأولاد قد يفعلون فعل العدو، فرب زوج خاصمت زوجها ففجرت في خصومته، ورب رجل آذى امرأته وأهلكها، وقد يعق الأولاد ويخونون آباءهم، وربما كانت عداوتهم تحريض وليهم من زوج أو أب على المعاصي والردى، أو تعويقه وصده عن البر والهدى، فلنحذر هؤلاء أن يزينوا لنا سوء العمل، ولنحرص على أن نترك عقوبتهم على آثامهم إذا تابوا أو تسامحنا فيما يقبل المسامحة، ونصفح عنهم فنعرض عن تعبيرهم، ونغفر فنستر أوزارهم حتى لا يفضحوا بها أو يقيموا عليها- إذا فعلنا ما عرضته الآية الكريمة من عفو وصفح ومغفرة فإن ربنا يجازينا من جنس أعمالنا، ويتفضل علينا، إنه يغفر الذنوب جميعا، ورحمته وسعت كل شيء.
[ وقال غير واحد : إن عداوتهم من حيث إنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في الاكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم، كما روي عنه صلى الله عليه وسلم :( يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك ) ]١.
أخرج الترمذي والحاكم وصححاه، وابن جرير، وغيرهم عن ابن عباس وسأله رجل عن هذه الآية- قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى الآية.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك ؟ فخالفه فآمن، ثم قعد له على طريق الهجرة فقال له : أتهاجر وتترك مالك وأهلك ؟ فخالفه فهاجر، ثم قعد على طريق الجهاد فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك ؟ فخالفه فجاهد فقتل فحق على الله أن يدخله الجنة ).
[ كما أن الرجل يكون له ولده٢ وزوجه عدوا، كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه، وعموم قوله :﴿ من أزواجكم ﴾ يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية... والله أعلم... والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم الحكم ] }٣.
٢ - أعم من أن يكون ابنا أو بنتا..
٣ - ما بين العارضتين مما أورده صاحب الجامع لأحكام القرآن..
ما الأموال والأولاد إلا اختبار، فمن لم يحمله حب ماله وزوجه وولده على الفسوق والكفر والعصيان فقد فاز، وله البشرى بما أعد الله لمن أحبه من نعيم يبقى وملك لا يبلى، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ؛ وأما من غلب حب هؤلاء وغيرهم على حب الله والوفاء بعهده فقد خسر في أولاه وأخراه، يقول الله جل علاه :﴿ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾١.
فاحرصوا على مرضاة ربكم قدر استطاعتكم، أطيعوه ولا تخالفوا عن أمره، واسمعوا ما وعظكم به، واستجيبوا لما دعاكم إليه، وابذلوا وتصدقوا وأنفقوا تنالوا خيرا لأنفسكم في العاجل والآجل، ويكن خير لكم- وإنما أفرد الإنفاق مع دخوله فيما سبق الأمر به من التقوى والسمع والطاعة للتخصيص بعد التعميم ولأهمية شأنه بدليل ما جاء بعد- ومن وقاه الله الشح والبخل فهو الرابح الفائز بأعظم فوز.
أقول : اختار أبو عبد الله القرطبي في الآية رأيا خاصا في فهم أولها بينما اختار في فهم آخرها رأيا معمما، يقول رحمه الله : فكذلك معنى قوله :﴿ فاتقوا الله ما استطعتم ﴾ في الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام أن تتركوها بفتنة أموالكم وأولادكم. اه. ثم اتجه إلى التعميم في الإنفاق حيث نقل : وقال الحسن : هو نفقة الرجل لنفسه. قال ابن العربي : وإنما أوقع قائل هذا قوله :﴿ لأنفسكم ﴾ وخفي عليه أن نفقة النفل والفرض في الصدقة، هي نفقة الرجل على نفسه، قال الله تعالى :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.. ﴾١. وكل ما يفعله الرجل من خير فإنما هو لنفسه ؛ والصحيح أنها عامة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له رجل : عندي دينار. قال :( أنفقه على نفسك ) قال : عندي آخر. قال :( أنفقه على عيالك ) قال : عندي آخر. قال :( انفقه على ولدك ) قال : عندي آخر. قال :( تصدق به ) فبدأ بالنفس والأهل والولد وجعل الصدقة بعد ذلك. وهو الأصل في الشرع.
رفع ربنا – تبارك اسمه- قدر المؤمنين البررة فجعل نفقتهم في أي شأن لله تعالى فيه رضا ولنا فيه خير كأنما هي قرض يضعه المنفق في يد مولاه ثم يرد إليه مزيدا إلى أضعاف كثيرة حين يكون أحوج إلى مثقال ذرة من خير ﴿ يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم١. ﴾ وربنا يتقبل القليل ويعطينا عليه الأجر الجميل والثواب الجزيل، ومن يخطئ لا يعاجله البر الرحيم بالعقوبة لعله يتذكر أو يخشى فيتوب ويستعتب.
ربنا محيط علمه بما حضر وما غاب. لا يخفى عليه شيء ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر، وهو سبحانه بالغ القدرة وله العزة يغلب ولا يُغلب، وكامل الحكمة يقضي ويدبرها ما هو خير وصواب وحق.