هي ثمان عشرة آية وهي مدنية في قول الأكثر. وقال الضحاك : هي مكية. وقال الكلبي : هي مدنية ومكية. وأخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، وأخرج النحاس عن ابن عباس قال : نزلت سورة التغابن بمكة إلا آيات من آخرها نزلن بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم ﴾ إلى آخر السورة. وأخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار نحوه. وأخرج ابن حبان في الضعفاء، والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عبد الله ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :«ما من مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من سورة التغابن » قال ابن كثير : وهو غريب جداً بل منكر. وأخرج البخاري في تاريخه عن عبد الله بن عمرو قال : ما مولود يولد إلا مكتوب في تشبيك رأسه خمس آيات من أول سورة التغابن.
ﰡ
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ وَمَكِّيَّةٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الضُّرَيْسِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ التَّغَابُنِ بِالْمَدِينَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ مِثْلَهُ، وَأَخْرَجَ النَّحَّاسُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ التَّغَابُنِ بِمَكَّةَ إِلَّا آيَاتٍ مِنْ آخِرِهَا نَزَلْنَ بِالْمَدِينَةِ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَفَاءَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَأَنْزَلَ الله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ «١». وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ حِبَّانَ فِي «الضُّعَفَاءِ»، وَالطَّبَرَانِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي تَشْبِيكِ رَأْسِهِ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ التَّغَابُنِ» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَهُوَ غَرِيبٌ جِدًّا، بَلْ مُنْكَرٌ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُوَلَدُ إِلَّا مَكْتُوبٌ فِي تَشْبِيكِ رَأْسِهِ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ التَّغَابُنِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ٦]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
قَوْلُهُ: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَيْ: يُنَزِّهُهُ سُبْحَانَهُ جَمِيعُ مَخْلُوقَاتِهِ الَّتِي فِي سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَعَيْبٍ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يَخْتَصَّانِ بِهِ لَيْسَ لِغَيْرِهِ مِنْهُمَا شَيْءٌ، وَمَا كَانَ لِعِبَادِهِ مِنْهُمَا فَهُوَ مِنْ فَيْضِهِ وَرَاجِعٌ إِلَيْهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أَيْ: فَبَعْضُكُمْ كَافِرٌ وَبَعْضُكُمْ مُؤْمِنٌ. قَالَ الضَّحَّاكُ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ فِي السِّرِّ مُؤْمِنٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَالْمُنَافِقِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ فِي السِّرِّ كَافِرٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقٌ الْكُفْرَ. وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مع أن
ثُمَّ لَمَّا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ خَلْقَ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ أَتْبَعَهُ بِخَلْقِ الْعَالَمِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أَيْ: بِالْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ. وَقِيلَ: خَلَقَ ذَلِكَ خَلْقًا يَقِينًا لَا رَيْبَ فِيهِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ، أَيْ: خَلَقَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ، وَهُوَ أَنْ يَجْزِيَ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ. ثُمَّ رَجَعَ سُبْحَانَهُ إِلَى خَلْقِ الْعَالَمِ الصَّغِيرِ فَقَالَ:
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ قِيلَ: الْمُرَادُ آدَمُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ كَرَامَةً لَهُ، كَذَا قَالَ مُقَاتِلٌ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ جَمِيعُ الْخَلَائِقِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، أَيْ: أَنَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُمْ فِي أَكْمَلِ صُورَةٍ وَأَحْسَنَ تَقْوِيمٍ وَأَجْمَلَ شَكْلٍ.
وَالتَّصْوِيرُ: التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بِضَمِّ الصَّادِ، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْأَعْمَشُ وَأَبُو زَيْدٍ بِكَسْرِهَا. وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، لَا إِلَى غَيْرِهِ. يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ أَيْ: مَا تُخْفُونَهُ وَمَا تُظْهِرُونَهُ، وَالتَّصْرِيحُ بِهِ مَعَ انْدِرَاجِهِ فِيمَا قَبْلَهُ لِمَزِيدِ التَّأْكِيدِ فِي الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ شُمُولِ عِلْمِهِ لِكُلِّ مَعْلُومٍ، وَهِيَ تَذْيِيلِيَّةٌ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وَهُمْ كَفَّارُ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ كَقَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَالْخِطَابُ لِكُفَّارِ الْعَرَبِ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، وَالْوَبَالُ: الثِّقَلُ وَالشِّدَّةُ، وَالْمُرَادُ بِأَمْرِهِمْ هُنَا مَا وَقَعَ مِنْهُمْ مَنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي، وَبِالْوَبَالِ مَا أُصِيبُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدَّارَيْنِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أَيْ: بِسَبَبِ أَنَّهَا كَانَتْ تَأْتِيهِمُ الرُّسُلُ الْمُرْسَلَةُ إِلَيْهِمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الظَّاهِرَةِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا أَيْ: قَالَ كُلُّ قَوْمٍ مِنْهُمْ لِرَسُولِهِمْ هَذَا الْقَوْلَ مُنْكِرِينَ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنْ جِنْسِ الْبَشَرِ، مُتَعَجِّبِينَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَرَادَ بِالْبَشَرِ الْجِنْسَ، وَلِهَذَا قَالَ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا أَيْ: كَفَرُوا بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ، وَأَعْرَضُوا عَنْهُمْ، وَلَمْ يَتَدَبَّرُوا فِيمَا جَاءُوا بِهِ، وَقِيلَ:
كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ الَّذِي قَالُوهُ لِلرُّسُلِ وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَغْنَى اللَّهُ بِمَا أَظْهَرَهُ لَهُمْ مِنَ الْبُرْهَانِ، وَأَوْضَحَهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَقِيلَ: اسْتَغْنَى بِسُلْطَانِهِ عَنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ أَيْ: غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى الْعَالَمِ وَلَا إِلَى عِبَادَتِهِمْ لَهُ، مَحْمُودٌ مِنْ كُلِّ مَخْلُوقَاتِهِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ وَالْحَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا مَكَثَ الْمَنِيُّ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أَتَاهُ مَلَكُ النُّفُوسِ، فَعَرَجَ بِهِ إِلَى الرَّبِّ فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي اللَّهُ مَا هُوَ قَاضٍ، فَيَقُولُ: أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَيَكْتُبُ مَا هُوَ لَاقٍ، وَقَرَأَ أَبُو ذَرٍّ مِنْ فَاتِحَةِ التَّغَابُنِ خَمْسَ آيَاتٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ». وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْعَبْدُ يُولَدُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا، وَالْعَبْدُ يُولَدُ كَافِرًا
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٧ الى ١٣]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)
قَوْلُهُ: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزَّعْمُ: هُوَ الْقَوْلُ بِالظَّنِّ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَذِبِ. قَالَ شُرَيْحٌ: لِكُلِّ شيء كنية، وكنية الكذب زعموا، وأَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قَائِمٌ مَقَامَ مَفْعُولِ زَعَمَ، وَ «أَنْ» هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ لَا الْمَصْدَرِيَّةُ لِئَلَّا يَدْخُلَ نَاصِبٌ عَلَى نَاصِبٍ، وَالْمُرَادُ بِالْكُفَّارِ كُفَّارُ الْعَرَبِ وَالْمَعْنَى:
زَعَمَ كُفَّارُ الْعَرَبِ أَنَّ الشَّأْنَ لَنْ يُبْعَثُوا أَبَدًا. ثُمَّ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ وَيُبْطِلَ زَعْمَهُمْ فَقَالَ: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ «بَلْ» هِيَ الَّتِي لِإِيجَابِ النَّفْيِ، فَالْمَعْنَى: بَلْ تُبْعَثُونَ. ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى ذَلِكَ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ لَتُبْعَثُنَّ، أَيْ: لَتَخْرُجُنَّ مِنْ قُبُورِكُمْ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ أَيْ: لَتُخْبَرُنَّ بِذَلِكَ إِقَامَةً لِلْحُجَّةِ عَلَيْكُمْ، ثُمَّ تُجْزَوْنَ بِهِ وَذلِكَ الْبَعْثُ وَالْجَزَاءُ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إِذِ الْإِعَادَةُ أَيْسَرُ مِنَ الِابْتِدَاءِ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الْفَاءُ هِيَ الْفَصِيحَةُ الدَّالَّةُ عَلَى شَرْطٍ مُقَدَّرٍ، أَيْ: إِذَا كَانَ الْأَمْرُ هَكَذَا فَصَدِّقُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَهُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ نُورٌ يُهْتَدَى بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ. وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَقْوَالِكُمْ وَأَفْعَالِكُمْ، فَهُوَ مُجَازِيكُمْ عَلَى ذَلِكَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ «لَتُنَبَّؤُنَّ»، قَالَهُ النَّحَّاسُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعَامِلُ فِيهِ خَبِيرٌ، وَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ هُوَ اذْكُرْ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: الْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، أَيْ: تَتَفَاوَتُونَ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ «يَجْمَعُكُمْ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْعَيْنِ، وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَمْرٍو إِسْكَانُهَا، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إِلَّا التَّخْفِيفُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَوْضِعًا لَهُ، كَمَا قُرِئَ فِي وَما يُشْعِرُكُمْ «١» بِسُكُونِ الرَّاءِ، وَكَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ | إِثْمًا «٢» مِنَ الله ولا واغل «٣» |
(٢). «استحقب الإثم» : ارتكبه. [.....]
(٣). «واغل» : وغل في الشيء: أمعن فيه وذهب وأبعد.
«نَجْمَعُكُمْ» بِالنُّونِ، وَمَعْنَى لِيَوْمِ الْجَمْعِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ أَهْلُ الْمَحْشَرِ لِلْجَزَاءِ، وَيُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ كُلِّ عَامِلٍ وَعَمَلِهِ، وَبَيْنَ كُلِّ نَبِيٍّ وَأُمَّتِهِ، وَبَيْنَ كُلِّ مَظْلُومٍ وَظَالِمِهِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يَعْنِي أَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هُوَ يَوْمُ التَّغَابُنِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَغِبْنُ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْمَحْشَرِ بَعْضًا، فَيَغِبْنُ فِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَهْلَ الْبَاطِلِ، وَيَغِبْنُ فِيهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ أَهْلَ الْكُفْرِ، وَأَهْلُ الطَّاعَةِ أَهْلَ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا غَبْنَ أَعْظَمُ مِنْ غَبْنِ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ عِنْدَ دُخُولِ هَؤُلَاءِ الْجَنَّةَ وَهَؤُلَاءِ النَّارَ، فَنَزَلُوا مَنَازِلَهُمُ الَّتِي كَانُوا سَيَنْزِلُونَهَا لَوْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا يُوجِبُ النَّارَ، فَكَأَنَّ أَهْلَ النَّارِ اسْتَبْدَلُوا الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ، وَأَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ. يُقَالُ: غَبَنْتُ فُلَانًا إِذَا بَايَعْتُهُ أَوْ شَارَيْتُهُ فَكَانَ النَّقْصُ عَلَيْهِ وَالْغَلَبَةُ، كَذَا قَالَ الْمُفَسِّرُونَ، فَالْمَغْبُونُ مَنْ غُبِنَ أَهْلَهُ وَمَنَازِلَهُ فِي الْجَنَّةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ أَيْ: مَنْ وَقَعَ مِنْهُ التَّصْدِيقُ مَعَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ اسْتَحَقَّ تَكْفِيرَ سَيِّئَاتِهِ، قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يُكَفِّرْ» «وَيُدْخِلْهُ» بِالتَّحْتِيَّةِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا، وَانْتِصَابُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً عَلَى أَنَّهَا حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ التَّكْفِيرِ وَالْإِدْخَالِ، وَهُوَ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ أَيِ: الظَّفَرُ الَّذِي لَا يُسَاوِيهِ ظَفَرٌ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ الْمُرَادُ بِالْآيَاتِ إِمَّا التَّنْزِيلِيَّةُ أَوْ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْهَا. ذَكَرَ سبحانه حال السعداء وحال الأشقياء ها هنا لِبَيَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّغَابُنِ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ بِسَبَبِ التَّكْفِيرِ وَإِدْخَالِ الْجَنَّةِ لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَبِسَبَبِ إِدْخَالِ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ النَّارَ وَخُلُودِهِمْ فِيهَا مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: مَا أَصَابَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْ مُصِيبَةٍ مِنَ الْمَصَائِبِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، قَالَ الْفَرَّاءُ:
إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، أَيْ: بِأَمْرِ اللَّهِ، وَقِيلَ: إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ. قِيلَ: وَسَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا لَصَانَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ أَيْ: مَنْ يُصَدِّقُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إِلَّا مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ يَهْدِ قَلْبَهُ لِلصَّبْرِ وَالرِّضَا بِالْقَضَاءِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: يَهْدِ قَلْبَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنَ اللَّهِ فَيُسَلِّمُ لِقَضَائِهِ وَيَسْتَرْجِعُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَهْدِ قَلْبَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «١» وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ إِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ شَكَرَ، وَإِذَا ظَلَمَ غَفَرَ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: «يَهْدِ» بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، أَيْ: يَهْدِهِ اللَّهُ، وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَالسُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ عَلَى الْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ، وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ هُرْمُزَ وَالْأَزْرَقُ «نَهْدِ» بِالنُّونِ، وَقَرَأَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَعِكْرِمَةُ «يَهْدَأْ» بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ، وَرَفْعِ قَلْبُهُ، أَيْ:
يَطْمَئِنُّ وَيَسْكُنُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ أَيْ: بَلِيغُ الْعِلْمِ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَافِيَةٌ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ أَيْ: هَوِّنُوا عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْمَصَائِبَ، وَاشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ:
أَعْرَضْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرَ ذَلِكَ وَقَدْ فَعَلَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ
فاليوم أشرب غير مستحقب | إثماً من الله ولا واغل |
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي زَعَمُوا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ». وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ كَرِهَ زَعَمُوا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يَوْمُ التَّغَابُنِ مِنْ أَسْمَاءِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ قَالَ: غَبَنَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ قَالَ: هِيَ الْمُصِيبَاتُ تُصِيبُ الرَّجُلَ، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَيُسَلِّمُ لَهَا وَيَرْضَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: يَهْدِ قَلْبَهُ قَالَ: يَعْنِي يَهْدِ قَلْبَهُ لِلْيَقِينِ، فَيَعْلَمُ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أخطأه لم يكن ليصيبه.
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يَعْنِي أَنَّهُمْ يُعَادُونَكُمْ وَيَشْغَلُونَكُمْ عَنِ الْخَيْرِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ سَبَبُ النُّزُولِ دُخُولًا أَوَلِيًّا، وَهُوَ أَنَّ رِجَالًا مِنْ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يُهَاجِرُوا، فَلَمْ يَدَعْهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يَحْذَرُوهُمْ فَلَا يُطِيعُوهُمْ فِي شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُونَهُ مِنْهُمْ مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِمَا يُرِيدُهُ اللَّهُ، وَالضَّمِيرُ فِي فَاحْذَرُوهُمْ يَعُودُ إِلَى الْعَدُوِّ، أَوْ إِلَى الْأَزْوَاجِ وَالْأَوْلَادِ، لَكِنْ لَا عَلَى الْعُمُومِ، بَلْ إِلَى الْمُتَّصِفِينَ بِالْعَدَاوَةِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا جَازَ جَمْعُ الضَّمِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ الْعَدُوَّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمَاعَةِ. ثُمَّ أَرْشَدَهُمُ اللَّهُ إِلَى التَّجَاوُزِ فَقَالَ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا أَيْ:
تَعْفُوا عَنْ ذُنُوبِهِمُ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا، وَتَتْرُكُوا التَّثْرِيبَ عَلَيْهَا، وَتَسْتُرُوهَا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ بالغ المغفرة والرحمة لكم ولهم، قيل: كَانَ الرَّجُلُ الَّذِي ثَبَّطَهُ أَزْوَاجُهُ وَأَوْلَادُهُ عَنِ الْهِجْرَةِ إِذَا رَأَى النَّاسَ قَدْ سَبَقُوهُ إِلَيْهَا، وَفَقِهُوا فِي الدِّينِ، هَمَّ أَنْ يُعَاقِبَ أَزْوَاجَهُ وَأَوْلَادَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَإِنْ تَعْفُوا الْآيَةَ، وَالْآيَةُ تَعُمُّ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ خَاصًّا كَمَا عَرَّفْنَاكَ غَيْرَ مَرَّةٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَاللَّهِ مَا عَادَوْهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ حَمَلَتْهُمْ مَوَدَّتُهُمْ عَلَى أَنِ أخذوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَأَعْطَوْهُمْ إِيَّاهُ.
أَيْ: بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ وَمِحْنَةٌ، يَحْمِلُونَكُمْ عَلَى كَسْبِ الْحَرَامِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ، فلا تطيعوهم في معصية الله اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لِمَنْ آثَرَ طَاعَةَ اللَّهِ وَتَرْكَ مَعْصِيَتِهِ فِي مَحَبَّةِ مَالِهِ وَوَلَدِهِ. ثُمَّ أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ بِالتَّقْوَى وَالطَّاعَةِ فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أَيْ: مَا أَطَقْتُمْ، وَبَلَغَ إِلَيْهِ جُهْدُكُمْ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «١» وَمِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْكَلَامَ فِي قَوْلِهِ: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ «٢» وَمَعْنَى وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا أَيِ: اسْمَعُوا مَا تُؤْمَرُونَ به، وأطيعوا الأوامر. قال مقاتل: «اسمعوا» أي: اصغوا إلى ما ينزل عليكم وأطيعوا لرسوله فيما يأمركم وينهاكم.
وقيل: معنى «اسْمَعُوا» : اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي مُجَرَّدِ السَّمَاعِ وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ أَيْ: أَنْفِقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمُ الَّتِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ، وَلَا تَبْخَلُوا بِهَا، وَقَوْلُهُ: خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ منتصب بفعل دَلَّ عَلَيْهِ أَنْفِقُوا، كَأَنَّهُ قَالَ: ائْتُوا فِي الْإِنْفَاقِ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، أَوْ قَدِّمُوا خَيْرًا لَهَا، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: هُوَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: إِنْفَاقًا خَيْرًا. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ خَبَرٌ لَكَانَ الْمُقَدَّرَةِ، أَيْ: يَكُنِ الْإِنْفَاقُ خَيْرًا لَكُمْ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: هُوَ مُنْتَصِبٌ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ لأنفقوا، أي: فأنفقوا، أَيْ: فَأَنْفِقُوا خَيْرًا. وَالظَّاهِرُ فِي الْآيَةِ الْإِنْفَاقُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِالزَّكَاةِ الْوَاجِبَةِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ زَكَاةُ الْفَرِيضَةِ، وَقِيلَ: النَّافِلَةُ، وَقِيلَ: النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ، فَيَفْعَلُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْإِنْفَاقِ، وَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَتَصْرِفُونَ أَمْوَالَكُمْ فِي وُجُوهِ الْخَيْرِ بِإِخْلَاصِ نِيَّةٍ وطيب نفس يُضاعِفْهُ لَكُمْ فيجعل الحسنة بعشر أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَاخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي قِرَاءَتِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسُورَةِ الْحَدِيدِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ أَيْ: يَضُمَّ لَكُمْ إِلَى تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ غُفْرَانَ ذُنُوبِكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ يُثِيبُ مَنْ أَطَاعَهُ بِأَضْعَافٍ مُضَاعَفَةٍ، وَلَا يُعَاجِلُ مَنْ عَصَاهُ بِالْعُقُوبَةِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَيْ: مَا غَابَ وَمَا حَضَرَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أَيِ: الْغَالِبُ الْقَاهِرُ، ذُو الْحِكْمَةِ الْبَاهِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحَكِيمُ: هُوَ الْمُحْكِمُ لِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ، فَلَمَّا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ، فَنَزَلَتْ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وابن ماجة،
(٢). آل عمران: ١٠٢.
، إِنِّي لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنِ الْغُلَامَيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ لَمْ أَصْبِرْ أَنْ قَطَعْتُ كَلَامِي وَنَزَلْتُ إِلَيْهِمَا». وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَقُولُ اللَّهُ: اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي، فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَنِي، وَشَتَمَنِي عبدي وهو لا يدري، يقول: وا دهراه وا دهراه وَأَنَا الدَّهْرُ، ثُمَّ تَلَا أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ».