ﰡ
-[٦٩٠]- ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ﴾ بخالقه، منكر لرازقه ﴿وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ﴾ به، موحد له ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فمعاقبكم على الكفران، ومثيبكم على الإيمان.
وقد ذهب قوم - غفر الله تعالى لهم - إلى أن الله تعالى خلق هذا كافراً، وخلق هذا مؤمناً؛ وبذلك يكون - أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين - قد ألزم الكافر بالكفر، وألزم المؤمن بالإيمان؛ وهذا المعنى - رغم فساده وإفساده - فإنه يتنافى مع قول العزيز الجليل ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فأذع - أيها المؤمن اللبيب - فساد هذا المعنى، وقبحه، وتمسك بما نقول: تحظ بالقبول وتذكر قول الحميد المجيد ﴿وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾.
قال عليبن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: «أتظن أن الذي نهاك دهاك؟ إنما دهاك أسفلك وأعلاك؛ وربك بريء من ذاك وإذا كانت المعصية حتماً؛ فالعقوبة عليها ظلماً»
فنعم الخالق، ونعم المصور ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ المرجع؛ فيثيب الطائع، ويعذب العاصي
-[٦٩١]- يطلق على التناسي، والخسران، والضعف. وأصل الغبن: النقص في الثمن، أو رداءة المبيع في البيع. ولما كان الكافر لا يجزى عن أعماله الصالحة التي عملها في الدنيا ﴿وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً﴾ كان مثله كمثل المغبون ﴿يُكَفِّرْ﴾ يمح
وهكذا ربك يجزي دائماً الإحسان بالإحسان: يزيد من آمن إيماناً، ومن اهتدى هداية ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى﴾ أما من ضل وغوى؛ فإنه تعالى يزيده، ضلالاً على ضلاله، وخبالاً على خباله: ﴿فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً﴾
هذا وقد سار جل الناس، وأغلب المفسرين على وتيرة واحدة في فهم هذه الآية بأوسع معاني العداء: حتى لقد زعم بعض المفسرين أن «من» بيانية، لا تبعيضية؛ فتبلبلت الخواطر، وحل الإزعاج مكان الطمأنينة؛ ونظر كل والد إلى أولاده بعين الارتياب، وكل زوج إلى زوجته بعين التوجس والاحتياط ألم يقل الله تعالى: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ ألم نر بعض شرار الأبناء يقتلون
كل هذا ساعد على فهم هذه الآية ذلك الفهم الخاطىء؛ الذي لا يحتمله كتاب الله تعالى ولا يرتضيه سبحانه لمعاني كلامه المجيد فقد أنزل تعالى كتابه لتهدأ النفوس لا لتنزعج، ولتطمئن القلوب لا لترتاع والشر كما يأتي من شرار الأبناء: فقد يأتي من شرار الآباء وكما يأتي من شرار الزوجات: فإنه قد يأتي من شرار الأمهات
ولكنا لو تفهمنا هذه الآية بالعقل السليم، وعلى ضوء المنطق المستقيم، وعلى هدى الكتاب الكريم: لوجدنا أنها بعيدة كل البعد عن هذا الفهم، وهذا الزعم. وكيف يثير الحكيم العليم العداوة بين الآباء والأبناء، والأزواج والزوجات؛ ويفرض وجود العداوة بينهم فرضاً لا مرية فيه، ووجوب الحيطة والحذر منهم؛ وهو جل شأنه القائل ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ فالأساس السكن والتراحم، لا العداء والبغضاء وقد بان لنا من ذلك أن العداء المشار إليه في الآية ليس بالعداء الحقيقي الذي يكون بين الألداء يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين ﴿لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ فالذي يلهي عن ذكر الله تعالى هو العدو المبين؛ الواجب الحيطة، المستوجب الحذر فهل معنى ذلك أن الأبناء من الأعداء المستوجبين للحيطة والحذر؟ ويقول جل شأنه أيضاً: ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ﴾ والمزين هو الشيطان الواجب مخالفته، المفروض محاربته؛ فهل معنى ذلك أن قربان الزوجة إثم؛ لأنه من الشهوات؟ وحب البنين جرم؛ لأنه مما زينه الشيطان؟
وإنما أراد الله تعالى بهذه الآية الشريفة: أن من الأولاد والأزواج من يفعل بكم ما يفعله الأعداء: من تعويقكم عن الذكر والطاعات أليس الولد مجبنة مبخلة كما يقولون؟ وأي جرم أشد من الجبن، وأي إثم أحط من البخل؟
وقد أريد بهذه الآية الكريمة: الاحتياط من الانشغال عن الطاعات بالملذات، والحذر من الاشتغال بحب الأولاد عن حب الله تعالى والحرص على العبادات وأي عدو أعدى من المخلوق الذي يشغل عن الخالق، والمرزوق الذي يصرف عن الرازق؟
ومن قبل زعم المفسرون أن سليمان - وهو من خيرة الأنبياء - قتل بضعة آلاف من الخيل لأنها عطلته عن صلاة العصر؛ عند قوله تعالى: ﴿فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ﴾ وهي فرية على سليمان عليه السلام افتراها اليهود الأفاكون الملاعين
وهذا لا يمنع من وقوع بعض الهنات، من الأبناء والزوجات؛ وهو الذي أشار إليه المولى جل وعلا بقوله: ﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾.
وقد أشار المولى الكريم إلى المعنى الذي أشرنا إليه آنفاً وعضدناه بشتى الحجج والآيات بقوله عز وجل:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ