تفسير سورة سورة الفيل من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
المعروف بـحدائق الروح والريحان
.
لمؤلفه
محمد الأمين الهرري
.
المتوفي سنة 1441 هـ
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)﴾.التفسير وأوجه القراءة
١ - وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ الهمزة فيه للاستفهام التعجيبي والتقريري؛ لتقرير رؤيته - ﷺ - بإنكار عدمها، وتعجيبه بما فعله الله تعالى، والخطاب لرسول الله - ﷺ -، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له، والرؤية (١) علمية لا بصرية؛ لأنه لم يكن وقت الواقعة موجودًا، وحُذفت ألف ﴿تَرَ﴾ للجازم، والمعنى: أقر بأنك علمت قصة أصحاب الفيل. ﴿كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ﴾ يا محمد و ﴿كَيْفَ﴾ معلقة للرؤية منصوبة على المصدرية بالفعل المذكور بعدها، و ﴿رَبُّكَ﴾ فاعل، والتقدير (٢): أي فعل فعله ربك، والجملة سدت مسد مفعولي ﴿تَرَ﴾، ولا يصح نصب ﴿كَيْفَ﴾ على الحال من الفاعل؛ لأنه يلزم وصفه تعالى بالكيفية، وهو غير جائز اهـ "شهاب".
وقرأ السلمي: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ - بسكون الراء - وهو جزم بعد جزم، ونُقل عن صاحب "اللوامح": ﴿ترأ﴾ بهمزأ مفتوحة مع سكون الراء على الأصل، وهي لغة لتيم، ذكره في "البحر".
﴿بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾. وهم أبرهة بن الصباح الأشرم الحبشي ملك اليمن وقومه، ومعنى أبرهة بلسان الحبشة: الأبيض الوجه، ولُقّب بالأشرم؛ لأنه قُطع حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ أي: شُقَّت وخدشت كما سيأتي في القصة، وقيل: لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، والمراد بالفيل: هو الفيل الأعظم الذي اسمه محمود، وكنيته أبو العباس، كما سيجيء، ونسبوا إليه؛ لأنه مقدمهم، وهو الذي برك وضربوه في رأسه فأبى، وكان معه اثنا عشر فيلًا، وقيل ثمانية عشر، وقيل ألف، وأفرده حينئذ موافقة لرؤوس الآي، أو لكونه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي يقال
(١) الصاوي.
(٢) الصاوي.
(٢) الصاوي.
331
له: محمود، والفيل: حيوان معروف يُجمع على أفيال وفيول وفيلة، قال ابن السكيت: ولا تقول أفيلة، وصاحبه فيَّال، ومن شأن الفيل المقاتلة، ولذلك كان في مربط ملك الصين ألف فيل أبيض، وهو مع عظم جسمه ضعيف يخاف من السنور ويفزع منه، والمعنى: قد علمت (١) يا محمد أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل وما فعل الله بهم، فما لكم لا تؤمنون، وتعليق (٢) الرؤية بكيفية فعله تعالى لا بنفسه بأن يقال: ألم تر ما فعل ربك إلخ؛ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئات عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته، وعزة بيته وشرف رسوله، فإن ذلك من الإرهاصات، والإرهاص أن يتقدم على دعوى النبوة ما يشبه المعجزة تأسيسًا لها ومقدمةً، كإظلال الغمام له - ﷺ -، وتكلم الحجر والمدر معه، قال بعضهم: الإرهاص الترصد؛ سميت الأمور الغريبة التي وقعت للنبي - ﷺ - إرهاصات؛ لأن كلًّا منها مما يترصد بمشاهدته نبوته، فالإرهاص إنما يكون بعد وجود النبي - ﷺ - وقبل مبعثه، وفي كلام بعضهم: أن الإرهاص يكون قبل وجوده أيضًا قريبًا من عهده، كما دل عليه قصة أصحاب الفيل، ورجحوا الأول.
فإن قيل: اتحاد السنة بأن يكون وقوع القصة عام المولد أمر اتفاقي لا يمنع عن كون الواقعة لتعظيم الكعبة، قلنا شرفها أيضًا بشرف مكانه - ﷺ -، ألا ترى أنه تعالى كيف قيَّد الإقسام بالبلد بحلوله - ﷺ - فيه، حيث قال ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)﴾.
قال في "فتح الرحمن": كان هذا عام مولد النبي - ﷺ -، في نصف المحرم، ووُلد - ﷺ - في شهر ربيع الأول، فبين الفيل ومولده - ﷺ - خمس وخمسون ليلة، وهي سنة: ستة آلاف ومئة وثلاث وستين من هبوط آدم عليه السلام على حكم التواريخ اليونانية المعتمدة عند المؤرخين، وبين قصة الفيل والهجرة الشريفة النبوية ثلاث وخمسون سنة والتاريخ الآن سبعة آلاف وست مئة وأربع وعشرون من هبوط آدم عليه السلام على ما أرخه اليونانيون هو الأصح. والمقصود من ذكر القصة إما تسلية النبي - ﷺ - بأنه سيجزي من يظلمه، كما جزى من قصد الكعبة، وإما تهديد الظلمة،
فإن قيل: اتحاد السنة بأن يكون وقوع القصة عام المولد أمر اتفاقي لا يمنع عن كون الواقعة لتعظيم الكعبة، قلنا شرفها أيضًا بشرف مكانه - ﷺ -، ألا ترى أنه تعالى كيف قيَّد الإقسام بالبلد بحلوله - ﷺ - فيه، حيث قال ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)﴾.
قال في "فتح الرحمن": كان هذا عام مولد النبي - ﷺ -، في نصف المحرم، ووُلد - ﷺ - في شهر ربيع الأول، فبين الفيل ومولده - ﷺ - خمس وخمسون ليلة، وهي سنة: ستة آلاف ومئة وثلاث وستين من هبوط آدم عليه السلام على حكم التواريخ اليونانية المعتمدة عند المؤرخين، وبين قصة الفيل والهجرة الشريفة النبوية ثلاث وخمسون سنة والتاريخ الآن سبعة آلاف وست مئة وأربع وعشرون من هبوط آدم عليه السلام على ما أرخه اليونانيون هو الأصح. والمقصود من ذكر القصة إما تسلية النبي - ﷺ - بأنه سيجزي من يظلمه، كما جزى من قصد الكعبة، وإما تهديد الظلمة،
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
(٢) روح البيان.
332
وتفصيل القصة سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومعنى الآية: أي ألم تعلم (١) يا محمد الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام، فتلك حال قد جاءت على غير ما يُعرف من الأسباب والعلل؛ إذ لم يُعهد أن يجيء طير في جهة، فيقصد قومًا دون قوم، وهم معهم في جهة واحدة، فذلك أمارة على أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنفاذ مقصد معين.
وإنما عبر عن العلم بالرؤية؛ للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصصى متواتر مستفيض، فالعلم به مساو في قوة الثبوت مع الوضوح للعلم الناشىء عن الرؤية والمشاهدة.
وخلاصة ذلك: أنك قد علمت ذلك علمًا واضحًا لا لبس فيه ولا خفاء،
٢ - ثم بيَّن الحال التي وقع عليها فعله، فقال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ﴾ ربك يا محمد: ﴿كَيْدَهُمْ﴾ ومكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها ﴿في تَضْلِيلٍ﴾ وخيبة وخسران فيما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، والهمزة (٢) فيه للاستفهام التقريري، كأنه قال: قد جعل كيدهم في تضليل، والكيد: هو إرادة المضرة بالغير؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشًا بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم، ويقال: ضلل كيده إذا جعله ضالًا ضائعًا، ونحوه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ وضل الماء في اللبن، إذا ذهب وغاب، وقيل لامرىء القيس: الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه؛ أي: ضيّعه، والمعنى (٣): قد جعل مكرهم وحيلتهم في تعطيل الكعبة عن الزوار وتخريبها في تضييعٍ وإبطالٍ بأن أهلكهم أشنع إهلاك، وجزاهم بعد إهلاكهم بمثل ما قصدوا حيث خرَّب كنيستهم.
قال في "إنسان العيون": لما أُهلك صاحب الفيل وقومه.. عزت قريش وهابتهم الناس كلهم، وقالوا: هم أهل الله؛ لأن الله معهم، ومُزقت الحبشة كل ممزق، وخُرّب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء، فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن، وكل من أراد أن يأخذ منها شيئًا
ومعنى الآية: أي ألم تعلم (١) يا محمد الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام، فتلك حال قد جاءت على غير ما يُعرف من الأسباب والعلل؛ إذ لم يُعهد أن يجيء طير في جهة، فيقصد قومًا دون قوم، وهم معهم في جهة واحدة، فذلك أمارة على أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنفاذ مقصد معين.
وإنما عبر عن العلم بالرؤية؛ للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصصى متواتر مستفيض، فالعلم به مساو في قوة الثبوت مع الوضوح للعلم الناشىء عن الرؤية والمشاهدة.
وخلاصة ذلك: أنك قد علمت ذلك علمًا واضحًا لا لبس فيه ولا خفاء،
٢ - ثم بيَّن الحال التي وقع عليها فعله، فقال: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ﴾ ربك يا محمد: ﴿كَيْدَهُمْ﴾ ومكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة واستباحة أهلها ﴿في تَضْلِيلٍ﴾ وخيبة وخسران فيما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت، ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، والهمزة (٢) فيه للاستفهام التقريري، كأنه قال: قد جعل كيدهم في تضليل، والكيد: هو إرادة المضرة بالغير؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشًا بالقتل والسبي، ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم، ويقال: ضلل كيده إذا جعله ضالًا ضائعًا، ونحوه قوله تعالى: ﴿وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ وضل الماء في اللبن، إذا ذهب وغاب، وقيل لامرىء القيس: الضليل؛ لأنه ضلل ملك أبيه؛ أي: ضيّعه، والمعنى (٣): قد جعل مكرهم وحيلتهم في تعطيل الكعبة عن الزوار وتخريبها في تضييعٍ وإبطالٍ بأن أهلكهم أشنع إهلاك، وجزاهم بعد إهلاكهم بمثل ما قصدوا حيث خرَّب كنيستهم.
قال في "إنسان العيون": لما أُهلك صاحب الفيل وقومه.. عزت قريش وهابتهم الناس كلهم، وقالوا: هم أهل الله؛ لأن الله معهم، ومُزقت الحبشة كل ممزق، وخُرّب ما حول تلك الكنيسة التي بناها أبرهة بصنعاء، فلم يعمرها أحد، وكثرت حولها السباع والحيات ومردة الجن، وكل من أراد أن يأخذ منها شيئًا
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
أصابته الجن، واستمرت كذلك إلى زمان السفاح الذي هو أول خلفاء بني العباس، فذُكر له أمرها، فبعث إليه عامله الذي باليمن فخربها، وأخذ خشبها المرصع بالذهب والآلات المفضضة التي تساوي قناطير من الذهب، فحصل له منها مال عظيم، وعفا من حينئذ رسمها، وانقطع خبرها، واندرست اثارها.
٣ - وقوله: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أصحاب الفيل ﴿طَيْرًا﴾ معطوف (١) على قوله: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ﴾؛ لأن الهمزة فيه للاستفهام التقريري كما سبق، فيكون في معنى الإثبات، والتقدير: فجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرًا ﴿أَبَابِيلَ﴾ صفة أولى لـ ﴿طَيْرًا﴾؛ أي: طيرًا أقاطيع؛ أي: جماعات يتبع بعضها بعضًا؛ لأنها كانت أفواجًا، فوجًا بعد فوج، متتابعة، بعضها على إثر بعض، أو من هاهنا وهاهنا، جمع أَبَّالة مشددة، وحكي تخفيفه، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، شُبِّهت بها الجماعة من الطير في تضامها، وقيل: ﴿أَبَابِيلَ﴾: مفرد، كعباديد، ومعناه: الفِرَق من الناس الذاهبون في كل وجه، وكشماطيط، ومعناه: القطع المتفرقة، وفيه أنها لو كانت مفردات لأشكل قول النحاة أن هذا الوزن من الجمع يُمنع صرفه؛ لأنه لا يوجد في المفردات.
قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال: فلان تَوَبَّل على فلان؛ أي: تعظم عليه وتكبر، وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له. اهـ، وقال بعضهم: واحدهُ إبَّوْل، مثل عِجَّول لغة في العجل، وقال بعضهم: أبيل، قال الواحدي: ولم نر أحدًا يجعل لها واحدًا، قال الفراء: لا واحد له من لفظه، وزعم الرؤاسي، وكان ثقة: أنه سُمع في واحدها: أبَّالة مشددًا وحكى الفراء أيضًا أبالة بالتخفيف.
قال سعيد بن جبير: كانت طيرًا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها قال قتادة: هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمه، وقيل: كانت طيرًا خضرًا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع، وقيل: كان لها خراطيم كخراطيم الفيل، وأكف كأكف الكلاب، وأنيابها جاءت من جهة البحر ليست نجدية ولا
٣ - وقوله: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: على أصحاب الفيل ﴿طَيْرًا﴾ معطوف (١) على قوله: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ﴾؛ لأن الهمزة فيه للاستفهام التقريري كما سبق، فيكون في معنى الإثبات، والتقدير: فجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرًا ﴿أَبَابِيلَ﴾ صفة أولى لـ ﴿طَيْرًا﴾؛ أي: طيرًا أقاطيع؛ أي: جماعات يتبع بعضها بعضًا؛ لأنها كانت أفواجًا، فوجًا بعد فوج، متتابعة، بعضها على إثر بعض، أو من هاهنا وهاهنا، جمع أَبَّالة مشددة، وحكي تخفيفه، وهي الحزمة الكبيرة من الحطب، شُبِّهت بها الجماعة من الطير في تضامها، وقيل: ﴿أَبَابِيلَ﴾: مفرد، كعباديد، ومعناه: الفِرَق من الناس الذاهبون في كل وجه، وكشماطيط، ومعناه: القطع المتفرقة، وفيه أنها لو كانت مفردات لأشكل قول النحاة أن هذا الوزن من الجمع يُمنع صرفه؛ لأنه لا يوجد في المفردات.
قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال: فلان تَوَبَّل على فلان؛ أي: تعظم عليه وتكبر، وهو مشتق من الإبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له. اهـ، وقال بعضهم: واحدهُ إبَّوْل، مثل عِجَّول لغة في العجل، وقال بعضهم: أبيل، قال الواحدي: ولم نر أحدًا يجعل لها واحدًا، قال الفراء: لا واحد له من لفظه، وزعم الرؤاسي، وكان ثقة: أنه سُمع في واحدها: أبَّالة مشددًا وحكى الفراء أيضًا أبالة بالتخفيف.
قال سعيد بن جبير: كانت طيرًا من السماء لم ير قبلها ولا بعدها قال قتادة: هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجًا فوجًا مع كل طائر ثلاثة أحجار، حجران في رجليه وحجر في منقاره، لا يصيب شيئًا إلا هشمه، وقيل: كانت طيرًا خضرًا خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع، وقيل: كان لها خراطيم كخراطيم الفيل، وأكف كأكف الكلاب، وأنيابها جاءت من جهة البحر ليست نجدية ولا
(١) روح البيان.
تهامية ولا حجازية سوداء، وقيل: خضراء على قدر الخطاف، كل طائر منها في منقاره حجر، وفي رجليه حجران، كل حجر فوق حبَّة العدس، ودون حبَّة الحمص، مكتوب في كل حجر اسم من يُرمى به، ينزل على رأسه، ويخرج من دبره، ومرض أبرهة فتقطع أنملة أنملة، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه، وانفلت أبو مكسوم وزيره وطائره يتبعه حتى وصل إلى النجاشي، وأخبره بما جرى للقوم، فرماه الطائر بحجره، فمات بين يدي الملك، ذكره في "البحر".
٤ - وقوله: ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ صفة أخرى لـ ﴿طَيْرًا﴾، وقرأ الجمهور (١): ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ بالتاء، والطير اسم جمع يؤنث، كما في هذه القراءة، ويذكَّر كما في القراءة الآتية، وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة في رواية عنه وابن يعمر: ﴿يرميهم﴾ بالتحتية؛ لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث كما مر آنفًا، وقيل الضمير في ﴿يرميهم﴾ على هذه القراءة عائد على ﴿رَبُّكَ﴾ عَزَّ وَجَلَّ. ﴿بِحِجَارَةٍ﴾: جمع (٢) حجر بالتحريك بمعنى الصخرة، ويقال: رمى الشيء ورمى به ألقاه، ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ أي: من طين متحجر، وهو الآجر معرب من سَنْكِ وكِلْ، وقال بعضهم: متحجر من هذين الجنسين، وهما سنج الذي هو الحجر وجيل الذي هو الطين، أو هوْ عَلَم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينا علم للديوان الذي تُكتب فيه أعمالهم، كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال.
قال في "الصحاح": قالوا هي حجارة من طين طُبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم، قال عبد الرحمن بن أبزى: ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط، وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أُبدلت النون لامًا، ومنه قول ابن مقبل:
وإنما هو سجينا، قال عكرمة: كانت ترميهم بحجارة معها، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري، وكان الحجر كالحمصة، وفوق العدسة، وقد
٤ - وقوله: ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ صفة أخرى لـ ﴿طَيْرًا﴾، وقرأ الجمهور (١): ﴿تَرْمِيهِمْ﴾ بالتاء، والطير اسم جمع يؤنث، كما في هذه القراءة، ويذكَّر كما في القراءة الآتية، وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة في رواية عنه وابن يعمر: ﴿يرميهم﴾ بالتحتية؛ لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث كما مر آنفًا، وقيل الضمير في ﴿يرميهم﴾ على هذه القراءة عائد على ﴿رَبُّكَ﴾ عَزَّ وَجَلَّ. ﴿بِحِجَارَةٍ﴾: جمع (٢) حجر بالتحريك بمعنى الصخرة، ويقال: رمى الشيء ورمى به ألقاه، ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ أي: من طين متحجر، وهو الآجر معرب من سَنْكِ وكِلْ، وقال بعضهم: متحجر من هذين الجنسين، وهما سنج الذي هو الحجر وجيل الذي هو الطين، أو هوْ عَلَم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار، كما أن سجينا علم للديوان الذي تُكتب فيه أعمالهم، كأنه قيل بحجارة من جملة العذاب المكتوب المدون، واشتقاقه من الإسجال، وهو الإرسال.
قال في "الصحاح": قالوا هي حجارة من طين طُبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم، قال عبد الرحمن بن أبزى: ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ من السماء، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط، وقيل: من الجحيم التي هي سجين، ثم أُبدلت النون لامًا، ومنه قول ابن مقبل:
وَرُفْقَةٍ يَضْرِبُوْنَ الْبِيْضَ ضَاحِيَةً | ضَرْبًا تَوَاصَتْ بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيْلَا |
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٢) روح البيان.
قدمنا الكلام في ﴿سِجِّيلٍ﴾ في سورة هود.
والمعنى: أي إنه تعالى (١) أرسل عليهم فرقًا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتُلي بمرض الجدري، أو الحصبة حتى هلكوا، وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل في مسامه، فأثار فيه قروحًا تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، ولا شك أن الذباب يحمل كثيرًا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوثة بالمكروب على الإنسان كافية في إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجم الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يُهلك جيشًا كثير العدد ببعوضة واحدة.. لم يكن ذلك بعيدًا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى في الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام النهر الإلهي، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقض مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح.
قال الإِمام: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم حفظًا لبيته حتى يُرسل إليه من يحميه بقوة دينه - ﷺ -، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه ولا ذنب اقترفه اهـ.
٥ - وقوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)﴾ معطوف على ﴿أرسل﴾؛ أي: فجعل ربك أولئك الأقوام الذين قصدوا بيته المشرف، يعني: أصحاب الفيل كعصف؛ أي: كزرع مأكول؛ أي: كزرع وقع فيه الأكال، وهو السوس الدود المعروف الذي يأكل الحبوب حتى يصير دقيقًا، والكلام على حذف مضاف؛ أي: كحب (٢) زرع مأكول حبه، وسُمي ورق الزرع بالعصف؛ لأن شأنه أن يُقطع، فتعصفه الرياح؛ أي: تذهب به إلى هنا وهاهنا، شبههم به في فنائهم وذهابهم بالكلية، أو من حيث إنه حدثت فيهم بسبب رميهم منافذ وشقوق كالزرع الذي أكله الدود، ويجوز أن
والمعنى: أي إنه تعالى (١) أرسل عليهم فرقًا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش، فابتُلي بمرض الجدري، أو الحصبة حتى هلكوا، وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح، فيعلق بأرجل هذا الطير، فإذا اتصل بجسم دخل في مسامه، فأثار فيه قروحًا تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه، ولا شك أن الذباب يحمل كثيرًا من جراثيم الأمراض، فوقوع ذبابة واحدة ملوثة بالمكروب على الإنسان كافية في إصابته بالمرض الذي يحمله، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجم الغفير من الناس، فإذا أراد الله أن يُهلك جيشًا كثير العدد ببعوضة واحدة.. لم يكن ذلك بعيدًا عن مجرى الإلف والعادة، وهذا أقوى في الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور وغرائب الأمور، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام النهر الإلهي، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة، وتقض مضجعه بعوضة، ويؤذيه هبوب الريح.
قال الإِمام: فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكة، وهي نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم حفظًا لبيته حتى يُرسل إليه من يحميه بقوة دينه - ﷺ -، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه ولا ذنب اقترفه اهـ.
٥ - وقوله: ﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)﴾ معطوف على ﴿أرسل﴾؛ أي: فجعل ربك أولئك الأقوام الذين قصدوا بيته المشرف، يعني: أصحاب الفيل كعصف؛ أي: كزرع مأكول؛ أي: كزرع وقع فيه الأكال، وهو السوس الدود المعروف الذي يأكل الحبوب حتى يصير دقيقًا، والكلام على حذف مضاف؛ أي: كحب (٢) زرع مأكول حبه، وسُمي ورق الزرع بالعصف؛ لأن شأنه أن يُقطع، فتعصفه الرياح؛ أي: تذهب به إلى هنا وهاهنا، شبههم به في فنائهم وذهابهم بالكلية، أو من حيث إنه حدثت فيهم بسبب رميهم منافذ وشقوق كالزرع الذي أكله الدود، ويجوز أن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٢) روح البيان.
336
يكون المعنى: كورق زرع أُكل حبه، فبقي صفرًا منه، فيكون على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أيضًا، شبههم بزرع أُكل حبه، في ذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم، أو كتبن أكلته الدواب وألقته روثًا فيبس وتفرقت أجزاؤه، شبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث، وفيه تشويه لحالهم ومبالغة حسنة، وهو أنه لم يكتف بجعلهم أهون شيء في الزرع وهو التبن الذي لا يُجدي طائلًا، حتى جعلهم رجيعًا إلا أنه عبر عن الرجيع بالمأكول، أو أشير إليه بأول حاله على طريق الكناية مراعاةً لحسن الأدب، واستهجانًا لذكر الروث، كما كنى بالأكل في قوله تعالى: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ عما يلزم الأكل من التبول والتغوط لذلك، فدأب القرآن هو العدول عن الظاهر في مثل هذا المقام.
قال بعضهم: من كان اعتماده على غير الله أهلكه الله بأضعف خلقه، ألا ترى أصحاب الفيل لما اعتمدوا على الفيل من حيث أنه أقوى خلق الله تعالى بأضعف خلق من خلقه، وهو الطير.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَأْكُولٍ﴾ بسكون الهمزة وهو الأصل؛ لأنه صيغة مفعول من فعل، وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه بفتح الهمزة إتباعًا لحركة الميم وهو شاذ، وهذا كما أتبعوا في قولهم: محموم بفتح الحاء لحركة الميم.
المعنى الإجمالي لهذه السورة: ذكَّر الله (٢) سبحانه نبيه ومَن تبلغه رسالته بعمل عظيم دال على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهي خاضعة لسلطانها، ذاك أن قومًا أرادوا أن يتعززوا بفيلهم ليبلغوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشر وأذى، فأهلكهم الله تعالى ورد كيدهم، وأبطل تدبيرهم بعد أن كانوا في ثقة بعددهم وعددهم، ولم يفدهم ذلك شيئًا.
قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير
حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: وُلد في عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك، وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم كما سيأتي بسطه: أن قائدًا
قال بعضهم: من كان اعتماده على غير الله أهلكه الله بأضعف خلقه، ألا ترى أصحاب الفيل لما اعتمدوا على الفيل من حيث أنه أقوى خلق الله تعالى بأضعف خلق من خلقه، وهو الطير.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَأْكُولٍ﴾ بسكون الهمزة وهو الأصل؛ لأنه صيغة مفعول من فعل، وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه بفتح الهمزة إتباعًا لحركة الميم وهو شاذ، وهذا كما أتبعوا في قولهم: محموم بفتح الحاء لحركة الميم.
المعنى الإجمالي لهذه السورة: ذكَّر الله (٢) سبحانه نبيه ومَن تبلغه رسالته بعمل عظيم دال على بالغ قدرته، وأن كل قدرة دونها فهي خاضعة لسلطانها، ذاك أن قومًا أرادوا أن يتعززوا بفيلهم ليبلغوا بعض عباده على أمرهم، ويصلوا إليهم بشر وأذى، فأهلكهم الله تعالى ورد كيدهم، وأبطل تدبيرهم بعد أن كانوا في ثقة بعددهم وعددهم، ولم يفدهم ذلك شيئًا.
قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير
حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث، فيقولون: وُلد في عام الفيل، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل، ونحو ذلك، وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم كما سيأتي بسطه: أن قائدًا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٢) المراغي.
337
حبشيًا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدي على الكعبة المشرفة ويهدمها؛ ليمنع العرب من الحج إليها، فتوجه بجيش جرار إلى مكة، واستصحب معه فيلًا أو فيلة كثيرة زيادةً في الإرهاب والتخويف، ولم يزل سائرًا يغلب من يلاقيه، حتى وصل إلى المغمَّس، وهو موضع بالقرب من مكة، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم، وإنما جاء لهدم الكعبة، ففزعوا منه وانطلقوا إلى شعف الجبل ينظرون ما هو فاعل، وفي اليوم الثاني فشا في جند الحبشي داء الجدري والحصبة، قال: عكرمة: وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط، فذُعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين، وأصيب الحبشي، ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة، وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء.
وحاصل تفصيل قصة أصحاب الفيل: أن ملك (١) حمير وما حولها وهو ذو نواس اليهودي لما أحرق المؤمنين بنار الأخدود ذات الوقود على ما سبق في سورة البروج.. هرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وهو أصحمة بن بحر النجاشي - بتخفيف الياء - جد النجاشي الذي آمن بالنبي - ﷺ - وأخبره بذلك، وحرّضه على قتال ذي نواس، فبعث أصحمة سبعين ألفًا من الحبشة إلى اليمن، وأمَّر عليها أرياطًا، ومعه في جنده أبرهة بن الصباح الأشرم، فركبوا البحر حتى نزلوا ساحلًا مما يلي أرض اليمن، وهزم أرياط ذا نواس، وقتله في المعركة، أو ألقى هو نفسه في البحر فهلك، واستمر أمر أرياط في أرض اليمن زمانًا، وأقام فيها سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه أبرهة في أمر الحبشة، فكان من أمراء الجند، فتفرقت الحبشة فرقتين فرقة مع أرياط وفرقة مع أبرهة، فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الفرقتان للقتال.. أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تفعل شيئًا بأن تُغري الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فأخرج، فخرج
فصل
وحاصل تفصيل قصة أصحاب الفيل: أن ملك (١) حمير وما حولها وهو ذو نواس اليهودي لما أحرق المؤمنين بنار الأخدود ذات الوقود على ما سبق في سورة البروج.. هرب رجل منهم إلى ملك الحبشة، وهو أصحمة بن بحر النجاشي - بتخفيف الياء - جد النجاشي الذي آمن بالنبي - ﷺ - وأخبره بذلك، وحرّضه على قتال ذي نواس، فبعث أصحمة سبعين ألفًا من الحبشة إلى اليمن، وأمَّر عليها أرياطًا، ومعه في جنده أبرهة بن الصباح الأشرم، فركبوا البحر حتى نزلوا ساحلًا مما يلي أرض اليمن، وهزم أرياط ذا نواس، وقتله في المعركة، أو ألقى هو نفسه في البحر فهلك، واستمر أمر أرياط في أرض اليمن زمانًا، وأقام فيها سنين في سلطانه ذلك، ثم نازعه أبرهة في أمر الحبشة، فكان من أمراء الجند، فتفرقت الحبشة فرقتين فرقة مع أرياط وفرقة مع أبرهة، فكان الأمر على ذلك إلى أن سار أحدهما إلى الآخر، فلما تقارب الفرقتان للقتال.. أرسل أبرهة إلى أرياط أنك لا تفعل شيئًا بأن تُغري الحبشة بعضها ببعض حتى تفنيها، فابرز لي وأبرز لك، فأينا أصاب صاحبه انصرف إليه جنده، فأرسل إليه أرياط أن قد أنصفت فأخرج، فخرج
(١) روح البيان.
338
إليه أبرهة وكنيته أبو يكسون، وكان رجلًا قصير الجثمان لحيمًا ذا دين في النصرانية، وخرج إليه أرياط وكان رجلًا طويلًا عظيمًا وفي يده حربة، وخلف أبرهة غلام يقال له: عتودة يمنع ظهره، فرفع أرياط الحربة، فضرب أبرهة يريد يافوخه، فوقعت الحربة على جبهة أبرهة فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته؛ أي: شقت وقطعت وخدشت، فبذلك سمي أبرهة الأشرم، وحمل عتودة على أرياط من خلف أبرهة فقتله، وانصرف جند أرياط إلى أبرهة فاجتمعت عليه الحبشة في اليمن بلا منازع، وكان ما صنع أبرهة من غير علم النجاشي، فلما بلغه ذلك غضب غضبًا شديدًا، فقال: عدا على أميري فقتله بغير أمري، ثم حلف لا يدع أبرهة حتى يطأ بلاده ويجز ناصيته، فلما بلغ هذا الخبر أبرهة حلق رأسه، وملأ جرابًا ترابًا من تراب اليمن، ثم بعث به إلى النجاشي مع هدايا جليلة كثيرة، وكتب إليه: أيها الملك إنما كان أرياط عبدك وأنا عبدك، فاختلفنا في أمرك، وكل طاعة لك إلا أني كنت أقوى على أمر الحبشة وأضبط له، وأسْوَس منه، وقد حلقت رأسي حين بلغني حلف الملك، وبعثت إليه بجراب من أرض ليضعه تحت قدميه فيبر قسمه فيَّ، فلما وصل كتاب أبرهة إلى النجاشي لان ورضي عنه، وكتب إليه أن أثبت بأرض اليمن حتى يأتيك أمري، فأقام أبرهة باليمن، ثم إنه رأى الناس يتجهزون أيام الموسم إلى مكة لحج بيت الله الحرام، فتحرك منه عرق الحسد، فبنى بصنعاء كنيسة من رخام ملون وجواهر مرصع؛ أي: مزين.
وفي "إنسان العيون": واجتهد في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجذع، والحجارة المنقوشة بالذهب، وكان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، وجعل فيها صلبانًا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والأبنوس، وسماها القُلَيْس - كجميز - لارتفاع بنائها وعلوها، ومنها القلانيس؛ لأنها في أعلى الرأس، وأراد أن يصرف إليها الحجاج، وكتب أبرهة إلى النجاشي: أيها الملك إني بنيت لك كنيسة لم يُبْنَ مثلها لملك قبلك، ولست أرضى حتى أصرف إليها حجاج العرب، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من بني كنانة يقال له: مالك بن كنانة، فخرج لها ليلًا، فدخل إليها فقعد فيها، ولطخ بالعذرة قبتها، فبلغ ذلك أبرهة، فقال: من اجترأ علي؟ فقيل له: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت قد سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن
وفي "إنسان العيون": واجتهد في زخرفتها، فجعل فيها الرخام المجذع، والحجارة المنقوشة بالذهب، وكان ينقل ذلك من قصر بلقيس صاحبة سليمان عليه السلام، وجعل فيها صلبانًا من الذهب والفضة، ومنابر من العاج والأبنوس، وسماها القُلَيْس - كجميز - لارتفاع بنائها وعلوها، ومنها القلانيس؛ لأنها في أعلى الرأس، وأراد أن يصرف إليها الحجاج، وكتب أبرهة إلى النجاشي: أيها الملك إني بنيت لك كنيسة لم يُبْنَ مثلها لملك قبلك، ولست أرضى حتى أصرف إليها حجاج العرب، فلما تحدث العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشي غضب رجل من بني كنانة يقال له: مالك بن كنانة، فخرج لها ليلًا، فدخل إليها فقعد فيها، ولطخ بالعذرة قبتها، فبلغ ذلك أبرهة، فقال: من اجترأ علي؟ فقيل له: صنع ذلك رجل من العرب من أهل ذلك البيت قد سمع بالذي قلت، فحلف أبرهة عند ذلك ليسيرن
339
إلى الكعبة ثم يهدمها، فكتب إلى النجاشي يخبره بذلك، وسأله أن يبعث إليه بفيله، وكان فيلًا يقال له: محمود، وكان فيلًا لم ير مثله عظمًا وجسمًا وقوةً، فبعث به إليه، فخرج أبرهة سائرًا إلى مكة وخرج معه بالفيل، فسمعت العرب بذلك فعظموه ورأوا جهاده حقًا عليهم، فخرج ملك من ملوك اليمن يقال له: ذو نفر بمن أطاعه من قومه، فقاتله فهزمه أبرهة، وأخذ ذا نفر، فقال لأبرهة: يا أيها الملك استبقني، فإن بقائي خير لك من قتلي، فاستحياه وأوثقه، وكان أبرهة رجلًا حليمًا، ثم سار حتى إذا دنا من بلاد خثعم خرج إليه نفيل بن حبيب الخثعمي في خثعم ومن اجتمع من قبائل اليمن فهزمهم، وأخذ نفيلًا، فقال نفيل: أيها الملك إني دليل بأرض العرب، فاستبقاه وخرج معه يدله؛ إذ مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث في رجال من ثقيف، فقال: أيها الملك نحن عبيدك ليس عندنا خلاف لك، إنما تريد البيت الذي بمكة نحن نبعث معك من يدلك عليه، فبعثوا معه أبارغال مولى لهم، وأبو رغال - بوزن كتاب - وهو رجل من ثمود، فخرج حتى إذا كان بالمغمس مات أبو رغال، وهو الذي يرجم قبره الآن.
وفي "القاموس": المغمس - كمعظم ومحدث - موضع بطريق الطائف، فيه قبر أبي رغال، دليل أبرهة، وُيرجم، وبعث أبرهة رجلًا من الحبشة، يقال له: الأسود بن مسعود مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل حناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لإهدام هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب، فقال له: إن الملك أرسلني لأخبرك أنه لم يأت لقتال، ولا أن تقاتلوه، وإنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا يد أن ندفعه عما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يحل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا بدفعه قوة، قال: فانطلق معي إليه، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب، فقال: ياذا نفر هل عندك من غناء؟ أي: نفع فيما نزل بنا، قال: أنا رجل أسير، لا آمن أن أقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل،
وفي "القاموس": المغمس - كمعظم ومحدث - موضع بطريق الطائف، فيه قبر أبي رغال، دليل أبرهة، وُيرجم، وبعث أبرهة رجلًا من الحبشة، يقال له: الأسود بن مسعود مقدمة خيله، وأمره بالغارة على نَعَم الناس، فجمع الأسود إليه أموال أصحاب الحرم، وأصاب لعبد المطلب مئتي بعير، ثم إن أبرهة أرسل حناطة الحميري إلى أهل مكة، وقال له: سل عن شريفها، ثم أبلغه ما أرسلك به إليه أخبره أني لم آت لقتال، إنما جئت لإهدام هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب، فقال له: إن الملك أرسلني لأخبرك أنه لم يأت لقتال، ولا أن تقاتلوه، وإنما جاء لهدم هذا البيت، ثم الانصراف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، ولا لنا يد أن ندفعه عما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت إبراهيم خليله عليه السلام، فإن يمنعه فهو بيته وحرمه، وإن يحل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا بدفعه قوة، قال: فانطلق معي إليه، فزعم بعض العلماء أنه أردفه على بغلة كان عليها، وركب معه بعض بنيه حتى قدم العسكر، وكان ذو نفر صديقًا لعبد المطلب، فقال: ياذا نفر هل عندك من غناء؟ أي: نفع فيما نزل بنا، قال: أنا رجل أسير، لا آمن أن أقتل بكرة أو عشية، ولكن سأبعث إلى أنيس سائس الفيل،
340
فإنه لي صديق، فأسأله أن يصنع لك عند الملك ما استطاع من خير ويعظم حظوتك ومنزلتك عنده، قال: فأرسل إلى أُنيس، فأتاه فقال: إن هذا سيد قريش وصاحب عير مكة يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، وقد أصاب الملك له مئتي بعير، فإن استطعت أن تنفعه فانفعه، فإنه صديق لي أحب ما وصل إليه من الخير، فدخل أُنيس على أبرهة، فقال: أيها الملك هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يُطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال يستأذن عليك، وأنا أحب أن تأذن له فيكلمك، فقد جاء غير ناصب لك ولا مخالف عليك، فأذن له وكان عبد المطلب رجلًا جسيمًا وسيمًا، فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه عن أن يجلس تحته، وكره أن تراه الحبشة أن يجلسه معه على سريره، فجلس على بساطه، وأجلس عبد المطلب بجنبه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك، فقال له عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد إلى مئتي بعير أصابها، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: قد كنت أعجبتني حين رأيتك، ولقد زهدت الآن فيك، قال: لم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك، وهو شرفكم وعصمتكم لأهدمه، لم تكلمني فيه وتكلمني في مئتي بعير غصبتها لك، قال عبد المطلب: أنا رب هذه الإبل، ولهذا البيت رب سيمنعه منك، قال: ما كان ليمنعه منى، قال: فأنت وذاك، فأمر بإبله فرُدَّت عليه، فلما رُدت الإبل على عبد المطلب خرج، فأخبر قريشًا الخبر، وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب، ويتحرزوا في رؤوس الجبال خوفًا عليهم من معرة الجيش ففعلوا، وأتى عبد المطلب وأخذ بحلقة باب الكعبة، وقام معه نفر من رجال قريش يدعون الله، ويستنصرون على أبرهة وجنده، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة باب الكعبة:
وقالَ:
لَاهُمُّ إِنَّ أثمَرْءَ يَمْـ | ـنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكْ |
فَانْصُرْ عَلَى آلِ الصَّلِيْـ | ـبِ وَعَابِدِيْهِ الْيَوْمَ آلَكْ |
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيْبُهُمْ | وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالَكْ |
إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْـ | ـبَتَنَا فَأَمْرٌ مَا بَدَا لَكْ |