تفسير سورة التغابن

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

هذه السورة هي آخر المسبحات وقد تقدّم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها، ولهذا قال تعالى :﴿ لَهُ الملك وَلَهُ الحمد ﴾ أي هو المتصرف في جميع الكائنات، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره. وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ أي مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع، ومالم يشأ لم يكن، وقوله تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ ﴾، أي هو الخالق لكم على هذه الصفة، فلا بد من وجود مؤمن وكافر، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، ولهذا قال تعالى :﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ خَلَقَ السماوات والأرض بالحق ﴾ أي بالعدل والحكمة، ﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ أي أحسن أشكالكم، كقوله تعالى :﴿ الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ ﴾ [ الانفطار : ٧-٨ ]، وكقوله تعالى :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات ﴾ [ غافر : ٦٤ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَإِلَيْهِ المصير ﴾ أي المرجع والمآل. ثم أخبر تعالى عن عمله بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن الأُمم الماضين، وما حلّ بهم من العذاب والنكال، في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق، فقال تعالى :﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ﴾ أي خبرهم وما كان من أمرهم ﴿ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ ﴾ أي وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم، وهو ما حلّ بهم في الدنيا من العقوبة والخزي، ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ أي في الدار الآخرة، ثم علل ذلك فقال :﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات ﴾ أي بالحجج والدلائل والبراهين، ﴿ فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم، ﴿ فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ ﴾ أي كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل، ﴿ واستغنى ﴾ أي عنهم، ﴿ الله والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾.
يقول تعالى مخبراً عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون ﴿ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ﴾ أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها، صغيرها وكبيرها ﴿ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ ﴾ أي بعثكم ومجازاتكم، ثم قال تعالى :﴿ فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا ﴾ يعني القرآن ﴿ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ أي فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية، وقوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ﴾ وهو يوم القيامة، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون، في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال تعالى :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٣ ]، وقال تعالى :﴿ قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعة : ٤٩-٥٠ ]، وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ يَوْمُ التغابن ﴾ قال ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة، وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار، وقال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة، ويذهب بأولئك إلى النار.
يقول تعالى :﴿ مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ قال ابن عباس : بأمر الله يعني عن قدره ومشيته، ﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء وقدره، فصبر واحتسب عوّضه عما فاته من الدنيا، هدى في قلبه ويقيناً صادقاً، قال ابن عباس : يعني يهدِ قلبه لليقين، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقال الأعمش عن علقمة ﴿ وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾ قال : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم، وقال سعيد بن جبير : يعني يسترجع يقول :﴿ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [ البقرة : ١٥٦ ]، وفي الحديث المتفق عليه :« عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن »، وقوله تعالى :﴿ وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول ﴾ أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع، وفعل ما به أمر، وترك ما عنه نهى وزجر، ثم قال تعالى :﴿ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين ﴾ أي إن نتكلم عن العمل فإنما عليه ما حمّل من البلاغ، وعليكم ما حمّلتم من السمع والطاعة، قال الزهري : من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، ثم قال تعالى مخبراً أنه الأحد الصمد :﴿ الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ أي وحدوا الإلهية له وأخلصوها لديه وتوكلوا عليه، كما قال تعالى :﴿ رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً ﴾ [ المزمل : ٩ ].
يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد، أن منهم من هو عدوّ الزوج والوالد، بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح، كقوله تعالى :﴿ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون ﴾ [ المنافقون : ٩ ]، ولهذا قال تعالى هاهنا :﴿ فاحذروهم ﴾ قال ابن زيد : يعني على دينكم، وقال مجاهد :﴿ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ ﴾ قال : يحمل الرجل على قطيعة الرحم، أو معصية ربه، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه، وقال ابن أبي حاتم : عن ابن عباس، وسأله رجُل عن هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم ﴾ قال :« فهؤلاء رجال أسلموا من مكة، فأرادوا أن يأتوا رسول الله ﷺ فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا رسول الله ﷺ، رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ » وقوله تعالى :﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾. يقول تعالى : إنمام الأموال والأولاد ﴿ فِتْنَةٌ ﴾ أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه، وقوله تعالى :﴿ والله عِنْدَهُ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ كما قال تعالى :﴿ ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب ﴾ [ آل عمران : ١٤ ]. روي « أن رسول الله ﷺ كان يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله ﷺ من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه، ثم قال :» صدق الله ورسوله ﴿ إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ ﴾ نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما « » وقال رسول الله ﷺ :« الولد ثمرة القلوب، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة ».
وقوله تعالى :﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين :« إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتتم وما نهيتكم معنه فاجتنبوه »، وهذه الآية ناسخة للتي في آل عمران وهي قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ]، عن سعيد بن جبير في قوله :﴿ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٠٢ ]، قال : لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم، فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفاً على المسلمين ﴿ فاتقوا الله مَا استطعتم ﴾ فنسخت الآية الأولى، وقوله تعالى :﴿ واسمعوا وَأَطِيعُواْ ﴾ أي كنوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، وقوله تعالى :﴿ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ ﴾ أي وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم، يكن خيراً لكم في الدنيا والآخرة، وقوله تعالى :﴿ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون ﴾ تقدم تفسيره في سورة الحشر، وقوله تعالى :﴿ إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾ أي مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاءه، ونزّل ذلك منزلة القرض له، كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول :
2566
« من يقرض غير ظلوم ولا عديم »، ولهذا قال تعالى :﴿ يُضَاعِفْهُ لَكُمْ ﴾، كما قال تعالى :﴿ فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً ﴾ [ البقرة : ٢٤٥ ] ﴿ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ﴾، أي ويكفر عنكم السيئات، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ أي يجزي على القليل والكثير، ﴿ والله شَكُورٌ ﴾ أي يصفح ويغفر ويستر، ويتجاوز عن الذنوب والزلات، ﴿ عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم ﴾ تقدم تفسيره غير مرة.
2567
Icon