ﰡ
قال تعالى: «أَلَمْ تَرَ» يا سيد الرسل رؤية علم لا رؤية بصر، لانه لم يحضر هذه الحادثة وكانت ولادته في سنتها «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ ١» عجب الله نبيه لصنعه فيهم وعدم اعتبار كفار العرب الذين شاهدوا تلك الآية العظيمة التي أوقعها الله عليهم وبقيت أخبارها متواترة مستفيضة كأنها مشاهدة رأي العين إذ لا يستطيع أحد إنكارها لوقوعها سنة ٥٧١ من ميلاد عيسى عليه السلام وذلك على ملأ من أهل مكة ومجاوريها وكثير منهم ان لم نقل كلهم رآها بأم عينه من غير نكير من أحد ما، ولهذا قال تعالى:
«أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ» الذي كادوه وسعيهم الذي جاءوا من أجله لتخريب الكعبة «فِي تَضْلِيلٍ ٢» تضييع وخسران إذ لم يتمكنوا من تنفيذ ما صمموا عليه لأن الله تعالى أبطله باهلاكهم المبيّنة كيفته بقوله «وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ» عند ما وصلوا إلى حرم مكة وجزموا على دخولها وتخريب البيت ولم تنههم حرمثه وتعظيمه ولم يبالوا بسكانه وسدنته «طَيْراً أَبابِيلَ ٣» مثال الخطاف وهو جند من جنود الله صارت «تَرْمِيهِمْ» بما في منقارها وأرجلها «بِحِجارَةٍ» كأنها «مِنْ سِجِّيلٍ ٤» طين متحجر كالآجر أي اللبن المحرق بقصد اشتداد قوته وسمى سجيلا لأن سجيل علم للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفّار كما سيأتي في سورة المطففين في ج ٢، أي أن تلك الطير رمت أبرهة وجيشه بعذاب من جملة العذاب المدون لأهل النار «فَجَعَلَهُمْ» ربك يا سيد الرسل «كَعَصْفٍ» زرع وتبن مهشم بوطئه «مَأْكُولٍ ٥» من الدواب ثم راثت به وفرقت أجزاءه، شبه تفرق القوم وتقطع أوصالهم بتفرق الروث بعد فتاته بجامع عدم الاجتماع في كل، أي أنهم صاروا كالروث ولكن لهجنته لم يذكره فجاء به بلفظ آخر يدل عليه على نمط الآداب القرآنية ليتعلم عباده التأديب عن مثلها، ولهذا ترى كثيرا من العارفين ينزهون ألسنتهم عن النطق بما يستهجن.
مطلب آداب العارفين وقصة الفيل:
وقد شاهدت شيخنا الشيخ بدر الدين الحسني شيخ دار الحديث بدمشق رحمه الله حين سأله أحد تلامذته في شهر رمضان سنة ١٣٤٣ عن معنى القذرة إذ مرت ت (١٢)
إذا مات الفرزدق فارجموه | كرجم الناس قبر أبي رغال |
على أن ما بين حادثة ذبح إسماعيل عليه السلام وحادث ابرهة وموت أبي رغال ما يقارب الفين وثمنمئة سنة فأي عقل يقبل هذا، وأي عاقل يقول ان الرمي الذي أحدث من زمن الذبح أحدث عند موت ابي رغال، عليك بالمرجفين بإذا الجلال فانا أحلناهم إليك يا الله. هذا ولما دخل ابرهة حرم مكة عسكر بالمحصب بالشعب الذي مخرجه إلى الأبطح قريب من منى وأرسل الأسود بن مسعود فجمع نعم أهل مكة وأتى به اليه ثم أرسل حناطة الحميري ليخبر شريف مكة بأنه لم يأت لقتال بل لهدم الكعبة فقط فجاءه شريفها عبد المطلب بن هاشم جد محمد صلّى الله عليه وسلم فاحترمه أبرهة ونزل عن كرسيه وجلس معه على البساط لئلا يترفع عليه، ثم انه طلب من ابرهة أن يرد عليه الإبل قبل أن يفاتحه بأمر الكعبة فقال له ابرهة: زهدت فيك لأنك لم تطلب أولا الكف عن التعرض للبيت الذي هو شرفكم وعصمتكم وأعطاه الإبل لأنه يعلم أن مثله لا يرد، ولكن أثرت كلمة ابرهة فيه فقال له: إنك لا تستطيع أن تعمل شيئا في البيت لأن له ربا يحميه منك ومن غيرك، وبما أني رب الإبل طلبتها منك لقدرتك على إتلافها. ثم تركه وذهب إلى البيت وأخذ بحلقة بابه وقال:
لا هم أن المرء بمنع رحله فامنع رحالك | وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك |
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك | جرّوا جميع بلادهم والفيل كي يسبوا عيالك |
عمدوا حماك بكيدهم جهلا وما رقبوا جلالك | إن كنت تاركهم وكعبتنا فأمر ما بدا لك |
يا رب لا أرجو لهم سواكا | يا رب فامنع عنهمو حماكا |
إن عدو البيت من عاداكا | امنعهمو أن يخربوا فناكا |
فإنك ما رأيت ولن تراه... لدى حين المحضب ما رأينا
حمدت الله إذ أبصرت طيرا... وحصب حجارة تلقى علينا
وكلهم يسائل عن نفيل... كأن عليّ للحبشان دينا
وقال نفيل وصاروا يتساقطون على الطريق ويهلكون. وأرسل الله على ابرهة داء فتساقطت أنامله ولم يصل إلى صنعاء إلا وهو مثل الطير فانصدع صدره عن قلبه ومات فيه، قال ابن الزبعرى:
سائل امير الجيش عنا ما ترى... ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
ستون الفا لم يؤبوا أرضهم... بل لم يعش بعد الإياب سقيمها
وقال أمية بن الصلت:
إن آيات ربنا ساطعات... ما يماري فيهن إلا الكفور
حبس الفيل بالمغمس حتى... ظل يعوي كأنه معقور
فلما بلغ هذا عبد المطلب رفع رأسه إلى السماء وقال مخاطبا ربه عز وجل:
أنت منعت الجيش والأفياله... شكرا وحمدا لك ذا الجلالة
هذا وإنه جل شأنه لم يفعل ذلك لنصرة قريش لأنهم كانوا كفارا بل صيانة لبيته المعظم مما عزم عليه ابرهة، وتكريما لنبيه المكرم إذ ولد فيه إذ ذاك فهو