تفسير سورة التغابن

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
( سورة التغابن مكية إلا قوله يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم إلى آخر ثلاث آيات حروفها ألف وسبعون ).

(سورة التغابن)
(مكية إلا قوله يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم إلى آخر ثلاث آيات حروفها ألف وسبعون)
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١ الى ١٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
القراآت:
يوم نجمعكم بالنون: رويس. الباقون: على الغيبة نكفر وندخله بالنون فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل. الآخرون: على الغيبة.
307
الوقوف:
وَما فِي الْأَرْضِ ط لاختلاف الجملتين وَلَهُ الْحَمْدُ ط لنوع اختلاف وهو تقديم الخبر على المبتدأ في الأوّل قَدِيرٌ هـ مُؤْمِنٌ ط بَصِيرٌ هـ صَوَّرَكُمْ ج لعطف المختلفين الْمَصِيرُ هـ تُعْلِنُونَ هـ الصُّدُورِ هـ مِنْ قَبْلُ ط لتناهي الاستفهام إلى الاخبار مع صدق الاتصال بالفاء أَلِيمٌ هـ يَهْدُونَنا هـ لاعتراض الاستفهام بين المتفقين اللَّهُ ط حَمِيدٌ هـ يُبْعَثُوا ط عَمِلْتُمْ هـ يَسِيرٌ هـ أَنْزَلْنا ط خَبِيرٌ هـ التَّغابُنِ ط أَبَداً ط الْعَظِيمُ هـ فِيها ط الْمَصِيرُ هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط قَلْبَهُ ط عَلِيمٌ هـ الرَّسُولَ ج ط الْمُبِينُ هـ إِلَّا هُوَ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ فَاحْذَرُوهُمْ ج رَحِيمٌ هـ تْنَةٌ
طظِيمٌ
هـ لِأَنْفُسِكُمْ ط الْمُفْلِحُونَ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط حَلِيمٌ هـ لا الْحَكِيمُ هـ.
التفسير:
قال في الكشاف: قدم الظرفين في قوله لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ لمكان الاختصاص وأن لا ملك بالحقيقة إلا له ولا استحقاق حمد في التحقيق إلا له. قلت: لو عكس الترتيب أفاد الخصوصية بوجه آخر وهو أن هذا الجنس وهذه الطبيعة له كما سبق في «الفاتحة» هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ذا فطرة سليمة. وقوله فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بحسب الأسباب الخارجية
كقوله ﷺ «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه» «١»
والكل على وفق المشيئة. قالت المعتزلة: أراد هو الذي تفضل عليكم بأصل النعم الذي هو الخلق فكان يجب عليكم أن تقابلوه بالتوحيد والتكبير مجتمعين مطيعين لا أن يغلب الكفر والجحود عليكم، ولمكان هذه الغلبة قدم الكافر. والعجب من صاحب الكشاف أنه سلم أن في خلق الكافر قد يكون وجه حسن ولكنه يخفى علينا ولا يسلم أن في خلق داعية الكفر في الكافر قد يكون وجه حسن يخفى عليه. وقيل: هو الذي خلقكم فمنكم كافر بالخلق وهم الدهرية، ومنكم مؤمن. وقوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كقوله في أَحْسَنِ [التين: ٤] وسيجيء في «التين» إن شاء الله العزيز. وكل قبيح من الإنسان فهو في نوعه كامل إلا أن الله تعالى خلق أكمل منه من نوعه وأحسن فلهذا يحكم بدمامته وقبحه، ولهذا قالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال والبيان. وحين وصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم الشامل أعم أولا ثم أخص ثم أخفى، هدد كفار مكة بحال الأمم الماضية فقال أَلَمْ يَأْتِكُمْ الآية ذلِكَ الوبال الدنيوي والعذاب الأخروي بِأَنَّهُ أي بأن الشان كانَتْ أي كانت القضية وقد مر نظيره في «حم المؤمن». أَبَشَرٌ فاعل فعل محذوف تفسيره يَهْدُونَنا وجمع الضمير لأن
(١) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب ٨٠. مسلم في كتاب القدر حديث ٢٢، ٢٣، ٢٤. أحمد في مسنده (٢/ ٣١٥، ٣٤٦).
308
البشر اسم جمع إِنَّما أَنَا بَشَرٌ [الكهف: ١١٠] إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ [إبراهيم: ١١] قال أهل المعاني: لم يذكر المستغنى عنه في قوله وَاسْتَغْنَى اللَّهُ ليتناول كل شيء ومن جملته إيمانهم وطاعتهم. قال في الكشاف: معناه وظهر استغناء الله حيث لم يلجئهم إلى الإيمان مع قدرته على ذلك، وإنما ذهب إلى هذا التأويل لئلا يوهم أن يوجد التولي والاستغناء معا ويلزم منه أن لا يكون الله في الأزل غنيا. قلت: لو جعل الواو للحال أي وقد كان الله مستغنيا قديما أو والحال وجود استغناء الله في وجودكم لم يحتج إلى التأويل. قوله زَعَمَ من أفعال القلوب وفيه تفريع لكفار مكة لأن الزعم ادعاء العلم مع ظهور أمارات خلافه ويؤيده ما
روي عن النبي ﷺ أنه قال «زعموا مطية الكذاب»
وأَنْ لَنْ يُبْعَثُوا في تقدير مفرد قائم مقام المفعولين. قال جار الله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ منصوب بقوله لَتُنَبَّؤُنَّ أو ب خَبِيرٌ لأنه في معنى الوعد كأنه قيل: والله يعاقبكم يوم كذا أو بإضمار «اذكر». قلت:
يجوز أن يكون يَوْمَ مبنيا على الفتح ومحله ابتداء والخبر جملة قوله ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.
سؤال: ما الفائدة في زيادة قوله لِيَوْمِ الْجَمْعِ الجواب إن كان الخطاب في يَجْمَعُكُمْ لكفار مكة فظاهر أي اذكروا وقت جمعكم الواقع في وقت يجمع فيه الأوّلون والآخرون، وإن كان لعموم الناس فلعل اللام في الجمع للمعهود الذي سلف في نحو قوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: ١٠٩] وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [الكهف ٤٧] قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: ٤٩، ٥٠] هذا ما سمح به الفكر الفاتر والله تعالى أعلم بمراده. قال جار الله: التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغببن بعضهم بعضا لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي ينزلونها لو كانوا أشقياء. قلت: في تسمية القسم الأخير تغابنا نظر إلا أن يفرض بنزول الشقي في ذلك المنزل يزيد عذاب الشقي، وزيادة العذاب سبب تضيق المكان عليه. واعتذر عنه جار الله بأنه تهكم بالأشقياء لأن خسران أحد الفريقين مبني على ربح الآخر ولا ربح في التحقيق فيلزم التهكم مثل فَبَشِّرْهُمْ [آل عمران: ٢١]
وروي عن رسول الله ﷺ «ما من عبد يدخل الجنة إلا يرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا يرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة».
ويجوز أن يفسر التغابن بأخذ المظلوم حسنات الظالم وحمل الظالم خطايا المظلوم وإن صح مجيء التغابن بمعنى الغبن فذلك واضح في حق كل مقصر صرف شيئا من استعداده الفطري في غير ما أعطى لأجله. قوله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ
309
كقوله وَزِدْناهُمْ هُدىً [الكهف: ١٣] والأول باللسان والثاني بالجنان أي هدينا قلبه إلى حقيقة الإيمان. وقال جار الله: يلطف به ويشرحه للازدياد من الطاعة والخير، والتحقيق فيه أن نور الإيمان ينبسط كل يوم بسبب الرسوخ والثبات وتكامل المغيبات وتزايد المعارف والطاعات إلى أن يتنور جميع أجزاء القلب وينعكس منه إلى كل الأعضاء والجوارح. وعن الضحاك: يهد قلبه حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه. وعن مجاهد: إن ابتلى صبر وإن أعطى شكر وإن ظلم غفر وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يعلم درجات القلوب من الإيمان. ولما كان أكثر ميل الناس عن الطاعات والكمالات الحقيقيات لأجل صرف الزمان في تهيئة أمور الأزواج والأسباب المفضية إليهن أو المعينة عليهن، ثم الأولاد الذين هم ثمرات الأفئدة وحياة القلوب وقرة العيون، بيّن الله سبحانه أن العاقل لا ينبغي أن يصرف كده في ذلك ويكون على حذر منهم ومن تكثيرهم، وبيع الدين بالدنيا لأجلهم فمن الأزواج أزواج يعادين بعولتهن وأعدى عدوّك هي التي تضاجعك، وهل يستلذ الوسنان إذا كان في مضجعه ثعبان. ومن الأولاد أولاد كيد زائدة قطعها مؤذ وفي إبقائها عيب وَإِنْ تَعْفُوا عنهم إذا أطلعتم منهم على معاداة فإن الله يجازيكم.
وروى أن ناسا أرادوا الهجرة عن مكة فثبطهم أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا بعد ذلك ورأوا الذين سبقوهم قد فقهوا في الدين أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم وأولادهم فنزلت.
عن النبي ﷺ أنه كان يخطب فجاء الحسن والحسين وعليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان فنزل إليهما فأخذهما ووضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق الله نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
رأيت هذين الصبيين فلم أصبر عنهما.
وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقال بعض أهل التفسير:
أراد إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتننكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما. وحين بين أن الأزواج والأولاد لا ينبغي أن يمنعوا المكلف عن طاعة الله أنتج من ذلك الأمر بتقوى الله بمقدار الوسع والطاقة. «وما» للمدة أو للمصدر وقوله خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ نصب بمحذوف هو افعلوا أو ائتوا وقد مر نظيره في آخر «النساء» في قوله انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ [الآية: ١٧١] وفيه إشارة إلى أن أمثال هذه الأوامر خير من التهالك في أمور الأزواج والأولاد وإغضاب الرب وإتعاب النفس لتكثير المال المخلف ومن أشقى ممن لا يقدّم لأجل نفسه شيئا يستقرضه منه رازقه مع شدة احتياجه إلى ذلك بعد مماته ويؤخر لأجل وارثه أموالا عظيمة مع عدم وثوقه بأنه هل يكون له انتفاع بها أم لا اللهم اشغلنا بما يغنينا وبالله.
310
Icon