تفسير سورة التغابن

الجامع لأحكام القرآن
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب الجامع لأحكام القرآن .
لمؤلفه القرطبي . المتوفي سنة 671 هـ
مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك : مكية. وقال الكلبي : هي مكية ومدنية. وهي ثماني عشرة آية. وعن ابن عباس أن " سورة التغابن " نزلت بمكة، إلا آيات من آخرها نزلت بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فأنزل الله عز وجل :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " [ التغابن : ١٤ ] إلى آخر السورة. وعن عبدالله بن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :( ما من مولود يولد إلا وفي تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة " سورة التغابن ".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة التغابن (٦٤): آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
تقدم في غير موضع.
[سورة التغابن (٦٤): آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، وَيُعِيدُهُمْ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا. وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشِيَّةً فَذَكَرَ شَيْئًا مِمَّا يَكُونُ فَقَالَ: (يُولَدُ النَّاسُ عَلَى طَبَقَاتٍ شَتَّى. يُولَدُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا. وَيُولَدُ الرَّجُلُ كَافِرًا وَيَعِيشُ كَافِرًا وَيَمُوتُ كَافِرًا. وَيُولَدُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيَعِيشُ مُؤْمِنًا وَيَمُوتُ كَافِرًا. وَيُولَدُ الرَّجُلُ كَافِرًا وَيَعِيشُ كَافِرًا وَيَمُوتُ مُؤْمِنًا (. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:) خَلَقَ اللَّهُ فِرْعَوْنَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ كَافِرًا وَخَلَقَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا فِي بَطْنِ أُمِّهِ مُؤْمِنًا (. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ:) وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا. وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ أَوْ بَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُهَا (. خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْبَاعِ. وَفِي صحيح مسلم عن سهل ابن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ (. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَالْمَعْنَى تَعَلُّقُ الْعِلْمِ الْأَزَلِيِّ بِكُلِّ مَعْلُومٍ، فَيَجْرِي مَا عَلِمَ وَأَرَادَ وَحَكَمَ. فَقَدْ يُرِيدُ إِيمَانَ شَخْصٍ عَلَى عُمُومِ الْأَحْوَالِ، وَقَدْ يُرِيدُهُ إِلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ. وَكَذَلِكَ
132
الْكُفْرُ. وَقِيلَ فِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ: فَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ فَاسْقٌ، فَحُذِفَ لِمَا فِي الْكَلَامِ مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا حَذْفَ فِيهِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ الطَّرَفَيْنِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنُوا. قَالُوا: وَتَمَامُ الْكَلَامِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ. ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ «١» [النور: ٤٥] الْآيَةَ. قَالُوا: فَاللَّهُ خَلَقَهُمْ، وَالْمَشْيُ فِعْلُهُمْ. وَاخْتَارَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: لَوْ خَلَقَهُمْ مُؤْمِنِينَ وَكَافِرِينَ لَمَا وَصَفَهُمْ بِفِعْلِهِمْ فِي قَوْلِهِ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ. وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ) الْحَدِيثَ. وَقَدْ مَضَى فِي" الرُّومِ" مُسْتَوْفًى «٢». قَالَ الضَّحَّاكُ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ فِي السِّرِّ مُؤْمِنٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَالْمُنَافِقِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ فِي السِّرِّ كَافِرٌ فِي الْعَلَانِيَةِ كَعَمَّارٍ وَذَوِيِهِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، يَعْنِي فِي شَأْنِ الْأَنْوَاءِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ- وَهُوَ أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ، وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَالْجُمْهُورُ مِنَ الْأُمَّةِ-: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ، وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْكُفْرِ. وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ، وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْإِيمَانِ. وَالْكَافِرُ يَكْفُرُ وَيَخْتَارُ الْكُفْرَ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوجَدَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ الَّذِي قَدَّرَ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ، لِأَنَّ وُجُودَ خِلَافِ الْمَقْدُورِ عَجْزٌ، وَوُجُودَ خِلَافِ المعلوم جعل، وَلَا يَلِيقَانِ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَفِي هَذَا سَلَامَةٌ مِنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
يَا نَاظِرًا فِي الدِّينِ مَا الْأَمْرُ لَا قَدَرٌ صَحَّ وَلَا جَبْرُ
وَقَالَ سِيلَانُ: قَدِمَ أَعْرَابِيٌّ الْبَصْرَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا تَقُولُ فِي الْقَدَرِ؟ فَقَالَ: أَمْرٌ تَغَالَتْ فِيهِ الظُّنُونُ، وَاخْتَلَفَ فِيهِ الْمُخْتَلِفُونَ، فَالْوَاجِبُ أَنْ نَرُدَّ مَا أَشْكَلَ عَلَيْنَا مِنْ حُكْمِهِ إِلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ.
(١). راجع ج ١٢ ص (٢٩٠)
(٢). راجع ج ١٤ ص ٢٤
133
قال ابن عباس : إن الله خلق بني آدم مؤمنا وكافرا، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنا وكافرا. وروى أبو سعيد الخدري قال : خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم عشية فذكر شيئا مما يكون فقال :( يولد الناس على طبقات شتى. يولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت مؤمنا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت كافرا. ويولد الرجل مؤمنا ويعيش مؤمنا ويموت كافرا. ويولد الرجل كافرا ويعيش كافرا ويموت مؤمنا ). وقال ابن مسعود : قال النبي صلى الله عليه وسلم :( خلق الله فرعون في بطن أمه كافرا وخلق يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنا ). وفي الصحيح من حديث ابن مسعود :( وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع أو باع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها ). خرجه البخاري والترمذي وليس فيه ذكر الباع.
وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار. وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة ). قال علماؤنا : والمعنى تعلق العلم الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وأراد وحكم. فقد يريد إيمان شخص على عموم الأحوال، وقد يريده إلى وقت معلوم. وكذلك الكفر. وقيل في الكلام محذوف : فمنكم مؤمن ومنكم كافر ومنكم فاسق، فحذف لما في الكلام من الدلالة عليه، قاله الحسن. وقال غيره : لا حذف فيه ؛ لأن المقصود ذكر الطرفين. وقال جماعة من أهل العلم : إن الله خلق الخلق ثم كفروا وآمنوا. قالوا : وتمام الكلام " هو الذي خلقكم ". ثم وصفهم فقال :" فمنكم كافر ومنكم مؤمن " كقوله تعالى :" والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه١ " [ النور : ٤٥ ] الآية. قالوا : فالله خلقهم ؛ والمشي فعلهم. واختاره الحسين بن الفضل، قال : لو خلقهم مؤمنين وكافرين لما وصفهم بفعلهم في قوله " فمنكم كافر ومنكم مؤمن ". واحتجوا بقوله عليه الصلاة والسلام :( كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ) الحديث. وقد مضى في " الروم " مستوفى٢. قال الضحاك : فمنكم كافر في السر مؤمن في العلانية كالمنافق، ومنكم مؤمن في السر كافر في العلانية كعمار وذويه. وقال عطاء بن أبي رباج : فمنكم كافر بالله مؤمن بالكواكب، ومنكم مؤمن بالله كافر بالكواكب، يعني في شأن الأنواء. وقال الزجاج - وهو أحسن الأقوال، والذي عليه الأئمة والجمهور من الأمة - : إن الله خلق الكافر، وكفره فعل له وكسب، مع أن الله خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعل له وكسب، مع أن الله خالق الإيمان. والكافر يكفر ويختار الكفر بعد خلق الله إياه ؛ لأن الله تعالى قدر ذلك عليه وعلمه منه. ولا يجوز أن يوجد من كل واحد منهما غير الذي قدر عليه وعلمه منه ؛ لأن وجود خلاف المقدور عجز، ووجود خلاف المعلوم جعل، ولا يليقان بالله تعالى. وفي هذا سلامة من الجبر والقدر، كما قال الشاعر :
يا ناظراً في الدين ما الأَمْرُ لا قدرٌ صحَّ ولا جبْرُ
وقال سِيلان : قدم أعرابي البصرة فقيل له : ما تقول في القدر ؟ فقال : أمر تغالت فيه الظنون، واختلف فيه المختلفون، فالواجب أن نرد ما أشكل علينا من حكمه إلى ما سبق من علمه.
١ راجع جـ ١٢ ص ٢٩٠..
٢ راجع جـ ١٤ ص ٢٤..

[سورة التغابن (٦٤): آية ٣]

خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) تَقَدَّمَ «١» فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، أَيْ خَلَقَهَا حَقًّا يَقِينًا لَا رَيْبَ فِيهِ. وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى اللَّامِ أَيْ خَلَقَهَا لِلْحَقِّ وَهُوَ أَنْ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بالحسنى. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، خَلَقَهُ بِيَدِهِ كَرَامَةً، لَهُ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. الثَّانِي: جَمِيعُ الْخَلَائِقِ. وَقَدْ مَضَى مَعْنَى التَّصْوِيرِ، وَأَنَّهُ التَّخْطِيطُ وَالتَّشْكِيلُ «٢». فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ أَحْسَنَ صُوَرَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: جَعَلَهُمْ أَحْسَنَ الْحَيَوَانِ كُلِّهِ وَأَبْهَاهُ صُورَةً بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَمَنَّى أَنْ تَكُونَ صُورَتُهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَرَى مِنْ سَائِرِ الصُّوَرِ. وَمِنْ حُسْنِ صُورَتِهِ أَنَّهُ خُلِقَ مُنْتَصِبًا غَيْرَ مُنْكَبٍّ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «٣» [التين: ٤] عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أَيِ الْمَرْجِعُ، فَيُجَازِي كُلًّا بعمله.
[سورة التغابن (٦٤): آية ٤]
يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
تَقَدَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. فَهُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ والشهادة، لا يخفى عليه شي
[سورة التغابن (٦٤): آية ٥]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥)
الْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ أَيْ أَلَمْ يَأْتِكُمْ خَبَرُ كُفَّارِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ. (فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) أَيْ عُوقِبُوا. (وَلَهُمْ) فِي الْآخِرَةِ (عَذابٌ أَلِيمٌ) أَيْ مُوجِعٌ. وَقَدْ تقدم «٤»
(١). راجع ج ٦ ص ٣٨٤ وج ٧ ص (١٩)
(٢). راجع ص ٤٨ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٢٠ ص (١١٣) [..... ]
(٤). راجع ج ١ ص ١٩٨
تقدم في غير موضع. فهو عالم الغيب والشهادة، لا يخفى عليه شيء.
قوله تعالى :" ألم يأتكم " الخطاب لقريش أي ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. " فذاقوا وبال أمرهم " أي عوقبوا. " ولهم " في الآخرة " عذاب أليم " أي موجع. وقد تقدم١.
١ راجع جـ ١ ص ١٩٨..

[سورة التغابن (٦٤): آية ٦]

ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
أَيْ هَذَا الْعَذَابُ لَهُمْ بِكُفْرِهِمْ بِالرُّسُلِ تَأْتِيهِمْ (بِالْبَيِّناتِ) أَيْ بِالدَّلَائِلِ الْوَاضِحَةِ. (فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ مِنَ الْبَشَرِ. وَارْتَفَعَ أَبَشَرٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقِيلَ: بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، وَالْجَمْعُ عَلَى مَعْنَى بَشَرٍ، وَلِهَذَا قَالَ: يَهْدُونَنا وَلَمْ يَقُلْ يَهْدِينَا. وَقَدْ يَأْتِي الْوَاحِدُ بِمَعْنَى الْجَمْعِ فَيَكُونُ اسْمًا لِلْجِنْسِ، وَوَاحِدَهُ إِنْسَانٌ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَقَدْ يَأْتِي الْجَمْعُ بِمَعْنَى الْوَاحِدِ، نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا هَذَا بَشَراً [يوسف: ٣١]. (فَكَفَرُوا) أَيْ بِهَذَا الْقَوْلِ، إِذْ قَالُوهُ اسْتِصْغَارًا وَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ يَشَاءُ إِلَى عِبَادِهِ. وَقِيلَ: كَفَرُوا بِالرُّسُلِ وَتَوَلَّوْا عَنِ الْبُرْهَانِ وَأَعْرَضُوا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْمَوْعِظَةِ. (وَاسْتَغْنَى اللَّهُ) أَيْ بِسُلْطَانِهِ عَنْ طَاعَةِ عِبَادِهِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقِيلَ: اسْتَغْنَى اللَّهُ بِمَا أَظْهَرَهُ لَهُمْ مِنَ الْبُرْهَانِ وَأَوْضَحَهُ لَهُمْ مِنَ الْبَيَانِ، عَنْ زِيَادَةٍ تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.
[سورة التغابن (٦٤): آية ٧]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا) أَيْ ظَنُّوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح: لكل شي كُنْيَةٌ وَكُنْيَةُ الْكَذِبِ زَعَمُوا. قِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ مَعَ خَبَّابٍ حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ سُورَةِ" مَرْيَمَ" «١»، ثُمَّ عَمَّتْ كُلَّ كَافِرٍ. (قُلْ) يَا مُحَمَّدُ (بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) أَيْ لَتُخْرَجُنَّ مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً. (ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ) لَتُخْبَرُنَّ. (بِما عَمِلْتُمْ) أَيْ بأعمالكم. (وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) إذا لاعادة أسهل من الابتداء.
[سورة التغابن (٦٤): آية ٨]
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
(١). راجع ج ١١ ص ١٤٥.
قوله تعالى :" زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا " أي ظنوا. الزعم هو القول بالظن. وقال شريح : لكل شيء كُنية وكُنية الكذب زعموا. قيل : نزلت في العاص بن وائل السهمي مع خباب حسب ما تقدم بيانه في آخر سورة " مريم١ "، ثم عمت كل كافر. " قل " يا محمد " بلى وربي لتبعثن " أي لتخرجن من قبوركم أحياء. " ثم لتنبؤن " لتخبرن. " بما عملتم " أي بأعمالكم. " وذلك على الله يسير " إذ الإعادة أسهل من الابتداء.
١ راجع جـ ١١ ص ١٤٥..
قوله تعالى :" فآمنوا بالله ورسوله " أمرهم بالإيمان بعد أن عرفهم قيام الساعة. " والنور الذي أنزلنا " وهو القرآن، وهو نور يهتدي به من ظلمة الضلال. " والله بما تعملون خبير ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) أَمَرَهُمْ بِالْإِيمَانِ بَعْدَ أَنْ عَرَّفَهُمْ قِيَامَ السَّاعَةِ. (وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَهُوَ نُورٌ يُهْتَدَى بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الضَّلَالِ. (وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).
[سورة التغابن (٦٤): آية ٩]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ) الْعَامِلُ فِي يَوْمَ لَتُنَبَّؤُنَّ أَوْ خَبِيرٌ لما فيه من معنى الوعد، كأنه قَالَ: وَاللَّهُ يُعَاقِبُكُمْ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ. أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ. وَالْغَبْنُ: النَّقْصُ. يُقَالُ: غَبَنَهُ غَبْنًا إِذَا أَخَذَ الشَّيْءَ مِنْهُ بِدُونِ قِيمَتِهِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يَجْمَعُكُمْ بِالْيَاءِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَأَخْبَرَ. وَلِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوَّلًا. وَقَرَأَ نَصْرٌ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَالْجَحْدَرِيُّ وَيَعْقُوبُ وَسَلَامٌ نَجْمَعُكُمْ بِالنُّونِ، اعْتِبَارًا بِقَوْلِهِ: وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا. وَيَوْمَ الْجَمْعِ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَالْإِنْسَ وَالْجِنَّ وَأَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَ كُلِّ عَبْدٍ وَعَمَلِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ الظَّالِمِ وَالْمَظْلُومِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ كُلِّ نَبِيِّ وَأُمَّتِهِ. وَقِيلَ: لِأَنَّهُ يُجْمَعُ فِيهِ بَيْنَ ثَوَابِ أَهْلِ الطَّاعَاتِ وَعِقَابِ أَهْلِ الْمَعَاصِي. (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ:
وَمَا أَرْتَجِي بِالْعَيْشِ فِي دَارِ فُرْقَةٍ أَلَا إِنَّمَا الرَّاحَاتُ يَوْمَ التَّغَابُنِ
وَسَمَّى يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَوْمَ التَّغَابُنِ، لِأَنَّهُ غَبَنَ فِيهِ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَهْلَ النَّارِ. أَيْ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ، وَأَخَذَ أَهْلُ النَّارِ النَّارَ عَلَى طَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ، فَوَقَعَ الْغَبْنُ لِأَجْلِ مُبَادَلَتِهِمُ الْخَيْرَ بِالشَّرِّ، وَالْجَيِّدَ بِالرَّدِيءِ، وَالنَّعِيمَ بِالْعَذَابِ. يُقَالُ: غَبَنْتُ فُلَانًا إِذَا بَايَعْتُهُ أَوْ شَارَيْتُهُ فَكَانَ النَّقْصُ عَلَيْهِ وَالْغَلَبَةُ لَكَ. وَكَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ وَأَهْلُ النَّارِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. وَيُقَالُ: غَبَنْتُ
136
الثَّوْبَ وَخَبَنْتُهُ إِذَا طَالَ عَنْ مِقْدَارِكَ فَخِطْتَ مِنْهُ شَيْئًا، فَهُوَ نُقْصَانٌ أَيْضًا. وَالْمَغَابِنُ: مَا انْثَنَى مِنَ الْخِلَقِ نَحْوَ الْإِبْطَيْنِ وَالْفَخِذَيْنِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فَالْمَغْبُونُ مَنْ غُبِنَ أَهْلُهُ وَمَنَازِلُهُ فِي الْجَنَّةِ وَيَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ غَبْنُ كُلِّ كَافِرٍ بِتَرْكِ الْإِيمَانِ، وَغَبْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْإِحْسَانِ وَتَضْيِيعِهِ الْأَيَّامَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَيَغْبِنُ مَنِ ارْتَفَعَتْ مَنْزِلَتُهُ فِي الْجَنَّةِ مَنْ كَانَ دُونَ مَنْزِلَتِهِ. الثَّانِيَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَأَيُّ مُعَامَلَةٍ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقَعَ الْغَبْنُ فِيهَا. قِيلَ لَهُ: هُوَ تَمْثِيلُ الْغَبْنِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى «١» [البقرة: ١٦]. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وما ربحوا في تجارتهم بل خسروا، وذكر أَيْضًا أَنَّهُمْ غُبِنُوا، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ اشْتَرَوُا الْآخِرَةَ بِتَرْكِ الدُّنْيَا، وَاشْتَرَى أَهْلُ النَّارِ الدُّنْيَا بِتَرْكِ الْآخِرَةِ. وَهَذَا نَوْعُ مُبَادَلَةٍ اتِّسَاعًا وَمَجَازًا. وَقَدْ فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَلْقَ فَرِيقَيْنِ: فَرِيقًا لِلْجَنَّةِ وَفَرِيقًا لِلنَّارِ. وَمَنَازِلُ الْكُلِّ مَوْضُوعَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. فَقَدْ يَسْبِقُ الْخِذْلَانُ عَلَى الْعَبْدِ- كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا- فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيَحْصُلُ الْمُوَفَّقُ عَلَى مَنْزِلِ الْمَخْذُولِ وَمَنْزِلُ الْمُوَفَّقِ فِي النَّارِ لِلْمَخْذُولِ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ التَّبَادُلُ فَحَصَلَ التَّغَابُنُ. وَالْأَمْثَالُ مَوْضُوعَةٌ لِلْبَيَانِ فِي حِكَمِ اللُّغَةِ وَالْقُرْآنِ. وَذَلِكَ كُلُّهُ مَجْمُوعٌ مِنْ نَشْرِ الْآثَارِ وَقَدْ جَاءَتْ مُفَرَّقَةً فِي هَذَا الْكِتَابِ. وَقَدْ يُخْبِرُ عَنْ هَذَا التَّبَادُلِ بِالْوِرَاثَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «٢» [الْمُؤْمِنُونَ: ١] وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ يَقَعُ التَّغَابُنُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ بَعْدُ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ التَّغَابُنَ الَّذِي لَا جُبْرَانَ لِنِهَايَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ التَّغَابُنَ فِي ثَلَاثَةِ أَصْنَافٍ: رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَعَلَّمَهُ وَضَيَّعَهُ هُوَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ فَشَقِيَ بِهِ، وَعَمِلَ بِهِ مَنْ تَعَلَّمَهُ مِنْهُ فَنَجَا بِهِ. وَرَجُلٌ اكْتَسَبَ مَالًا مِنْ وُجُوهٍ يُسْأَلُ عَنْهَا وَشَحَّ عَلَيْهِ، وَفَرَّطَ فِي طَاعَةِ رَبِّهِ بِسَبَبِهِ، وَلَمْ يَعْمَلْ فِيهِ خَيْرًا، وَتَرَكَهُ لِوَارِثٍ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ فِيهِ، فَعَمِلَ ذَلِكَ الْوَارِثُ فِيهِ بِطَاعَةِ رَبِّهِ. وَرَجُلٌ كَانَ لَهُ عَبْدٌ فَعَمِلَ الْعَبْدُ بِطَاعَةِ رَبِّهِ فَسَعِدَ، وَعَمِلَ السَّيِّدُ بِمَعْصِيَةِ وبه فَشَقِيَ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقِيمُ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا قَوْلًا فَمَا أَنْتُمَا بِقَائِلِينَ فَيَقُولُ الرَّجُلُ يَا رَبِّ أَوْجَبْتَ نَفَقَتَهَا عَلَيَّ فتعسفتها من حلال وحرام وهؤلاء الخصوم
(١). راجع ج ١ ص (٢١٠)
(٢). راجع ج ١٢ ص ١٠٨
137
يَطْلُبُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يَبْقَ لِي مَا أُوفِي بِهِ فَتَقُولُ الْمَرْأَةُ يَا رَبِّ وَمَا عَسَى أَنْ أَقُولَ اكْتَسَبَهُ حَرَامًا وَأَكَلْتُهُ حَلَالًا وَعَصَاكَ فِي مَرْضَاتِي وَلَمْ أَرْضَ لَهُ بِذَلِكَ فَبُعْدًا لَهُ وَسُحْقًا فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ صَدَقْتِ فَيُؤْمَرُ بِهِ إِلَى النَّارِ وَيُؤْمَرُ بِهَا إِلَى الْجَنَّةِ فَتَطَّلِعُ عَلَيْهِ مِنْ طَبَقَاتِ الْجَنَّةِ وَتَقُولُ لَهُ غَبَنَّاكَ غَبَنَّاكَ سَعِدْنَا بِمَا شَقِيتَ أَنْتَ بِهِ) فَذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ. الثَّالِثَةُ- قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْغَبْنُ فِي الْمُعَامَلَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّصَ التَّغَابُنَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَهَذَا الِاخْتِصَاصُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي الدُّنْيَا، فَكُلُّ مَنِ اطَّلَعَ عَلَى غَبْنٍ فِي مَبِيعٍ فَإِنَّهُ مَرْدُودٌ إِذَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ. وَاخْتَارَهُ الْبَغْدَادِيُّونَ وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ «١» بِوُجُوهٍ: مِنْهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ:" إِذَا بَايَعْتَ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ «٢» وَلَكَ الْخِيَارُ ثَلَاثًا". وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. نُكْتَتُهُ أَنَّ الْغَبْنَ فِي الدُّنْيَا مَمْنُوعٌ بِإِجْمَاعٍ فِي حُكْمِ الدِّينِ، إِذْ هُوَ مِنْ بَابِ الْخِدَاعِ الْمُحَرَّمِ شَرْعًا فِي كُلِّ مِلَّةٍ، لَكِنَّ الْيَسِيرَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ لِأَحَدٍ، فَمَضَى فِي الْبُيُوعِ «٣»، إِذْ لَوْ حَكَمْنَا بِرَدِّهِ مَا نَفَذَ بَيْعٌ أَبَدًا، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ كَثِيرًا أَمْكَنَ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ فَوَجَبَ الرَّدُّ بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ أَصْلٌ فِي الشَّرِيعَةِ مَعْلُومٌ، فَقَدَّرَ عُلَمَاؤُنَا الثُّلُثَ لِهَذَا الْحَدِّ، إِذْ رَأَوْهُ فِي الْوَصِيَّةِ وَغَيْرِهَا. وَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا: ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الْجَائِزِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. أَوْ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ الَّذِي لَا يُسْتَدْرَكُ أَبَدًا، لِأَنَّ تَغَابُنَ الدُّنْيَا يُسْتَدْرَكُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا بِرَدٍّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَإِمَّا بِرِبْحٍ فِي بَيْعٍ آخَرَ وَسِلْعَةٍ أُخْرَى. فَأَمَّا مَنْ خَسِرَ الْجَنَّةَ فَلَا دَرْكَ لَهُ أَبَدًا. وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَاءِ الصُّوفِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْغَبْنَ عَلَى الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَلَا يَلْقَى أَحَدٌ رَبَّهُ إِلَّا مَغْبُونًا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِيفَاءُ لِلْعَمَلِ حَتَّى يَحْصُلَ لَهُ اسْتِيفَاءُ الثَّوَابِ. وَفِي الْأَثَرِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا يَلْقَى اللَّهَ أَحَدٌ إِلَّا نَادِمًا إِنْ كَانَ مُسِيئًا إِنْ لَمْ يُحْسِنْ، وَإِنْ كَانَ محسنا إن لم يزدد).
(١). في ابن العربي:" عليها"
(٢). الخلابة: الخديعة.
(٣). في ابن العربي:" في الشرع".
138
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ بِالنُّونِ فِيهِمَا، والباقون بالياء.
[سورة التغابن (٦٤): آية ١٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) يَعْنِي الْقُرْآنَ (أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) لَمَّا ذَكَرَ مَا لِلْمُؤْمِنِينَ ذَكَرَ مَا لِلْكَافِرِينَ كَمَا تَقَدَّمَ في غير موضع.
[سورة التغابن (٦٤): آية ١١]
مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: يُرِيدُ إِلَّا بِأَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِلَّا بِعِلْمِ اللَّهِ. وَقِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ الْكُفَّارَ قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ حَقًّا لَصَانَهُمُ اللَّهُ عَنِ الْمَصَائِبِ فِي الدُّنْيَا، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، يَقْتَضِي هَمًّا أَوْ يُوجِبُ عِقَابًا عَاجِلًا أَوْ آجِلًا فَبِعِلْمِ اللَّهِ وَقَضَائِهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ) أَيْ يُصَدِّقُ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ. (يَهْدِ قَلْبَهُ) لِلصَّبْرِ وَالرِّضَا. وَقِيلَ: يُثَبِّتُهُ عَلَى الْإِيمَانِ. وَقَالَ أَبُو عُثْمَانَ الْجِيزِيُّ: مَنْ صَحَّ إِيمَانُهُ يَهْدِ اللَّهُ قَلْبَهُ لِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ. وَقِيلَ: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ فيقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: ١٥٦]، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ فِي قَلْبِهِ الْيَقِينَ لِيَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ إِذَا ابْتُلِيَ صَبَرَ، وَإِذَا أُنْعِمَ عَلَيْهِ شَكَرَ، وَإِذَا ظُلِمَ غَفَرَ. وَقِيلَ: يَهْدِ قَلْبَهُ إِلَى نَيْلِ الثَّوَابِ فِي الْجَنَّةِ. وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ يَهْدِ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِّ، لِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوَّلًا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ وَقَتَادَةُ (يُهْدَ قَلْبُهُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ عَلَى الْفِعْلِ الْمَجْهُولِ وَرَفْعِ الْبَاءِ، لِأَنَّهُ اسْمُ فِعْلٍ لَمْ يُسَمَّ فاعله.
قوله تعالى :" ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله " أي بإرادته وقضائه. وقال الفراء : يريد إلا بأمر الله. وقيل : إلا بعلم الله. وقيل : سبب نزولها إن الكفار قالوا : لو كان ما عليه المسلمون حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا، فبين الله تعالى أن ما أصاب من مصيبة في نفس أو مال أو قول أو فعل، يقتضي هما أو يوجب عقابا عاجلا أو آجلا فبعلم الله وقضائه.
قوله تعالى :" ومن يؤمن بالله " أي يصدق ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. " يهد قلبه " للصبر والرضا. وقيل : يثبته على الإيمان. وقال أبو عثمان الجيزي : من صح إيمانه يهد الله قلبه لاتباع السنة. وقيل :" ومن يؤمن بالله يهد قلبه " عند المصيبة فيقول :" إنا لله وإنا إليه راجعون " [ البقرة : ١٥٦ ] ؛ قاله ابن جبير. وقال ابن عباس : هو أن يجعل الله في قلبه اليقين ليعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه. وقال الكلبي : هو إذا ابتلي صبر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ظلم غفر. وقيل : يهد طبه إلى نيل الثواب في الجنة. وقراءة العامة " يهد " بفتح الياء وكسر الدال ؛ لذكر اسم الله أولا. وقرأ السلمي وقتادة " يهد قلبه " بضم الياء وفتح الدال على الفعل المجهول ورفع الباء ؛ لأنه اسم فعل لم يسم فاعله.
وقرأ طلحة بن مصرف والأعرج " نهد " بنون على التعظيم " قلبه " بالنصب. وقرأ عكرمة " يهدأ قلبه " بهمزة ساكنة ورفع الباء، أي يسكن ويطمئن. وقرأ مثله مالك بن دينار، إلا أنه لين الهمزة. " والله بكل شيء عليم " لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلم لأمره، ولا كراهة من كرهه.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ وَالْأَعْرَجُ" نَهْدِ" بِنُونٍ عَلَى التَّعْظِيمِ قَلْبَهُ بِالنَّصْبِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةَ" يَهْدَأُ قَلْبُهُ" بِهَمْزَةٍ سَاكِنَةٍ وَرَفْعِ الْبَاءِ، أَيْ يَسْكُنُ وَيَطْمَئِنُّ. وَقَرَأَ مِثْلَهُ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ، إِلَّا أَنَّهُ لَيَّنَ الْهَمْزَةَ. (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) لَا يَخْفَى عَلَيْهِ تَسْلِيمُ مَنِ انْقَادَ وَسَلَّمَ لأمره، ولا كراهة من كرهه.
[سورة التغابن (٦٤): الآيات ١٢ الى ١٣]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣)
أَيْ هَوِّنُوا عَلَى أَنْفُسِكُمُ الْمَصَائِبَ، وَاشْتَغِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَاعْمَلُوا بِكِتَابِهِ، وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِي الْعَمَلِ بِسُنَّتِهِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ عَنِ الطَّاعَةِ فَلَيْسَ عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا التَّبْلِيغُ. (اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أَيْ لَا مَعْبُودَ سِوَاهُ، وَلَا خَالِقَ غَيْرِهِ، فعليه توكلوا.
[سورة التغابن (٦٤): آية ١٤]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ بِالْمَدِينَةِ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، شَكَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَفَاءَ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَنَزَلَتْ. ذَكَرَهُ النَّحَّاسُ. وَحَكَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ" التَّغَابُنِ" كُلُّهَا بِمَكَّةَ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ كَانَ ذَا أَهْلٍ وَوَلَدٍ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ بَكَوْا إِلَيْهِ وَرَقَّقُوهُ فَقَالُوا: إِلَى مَنْ تَدَعُنَا؟ فَيَرِقُّ فَيُقِيمُ، فَنَزَلَتْ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
140
إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ
الْآيَةُ كُلُّهَا بِالْمَدِينَةِ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ. وَبَقِيَّةُ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ- قَالَ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَرَادُوا أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَوُا النَّاسَ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمُّوا أَنْ يُعَاقِبُوهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ الْآيَةَ. هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. الثَّانِيَةُ- قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ: هَذَا يُبَيِّنُ وَجْهَ الْعَدَاوَةِ، فَإِنَّ الْعَدُوَّ لَمْ يَكُنْ عَدُوًّا لِذَاتِهِ وَإِنَّمَا كَانَ عَدُوًّا بِفِعْلِهِ. فَإِذَا فَعَلَ الزَّوْجُ وَالْوَلَدُ فِعْلَ الْعَدُوِّ كَانَ عَدُوًّا، وَلَا فِعْلَ أَقْبَحُ مِنَ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ الطَّاعَةِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الشَّيْطَانَ قَعَدَ لِابْنِ آدَمَ فِي طَرِيقِ الْإِيمَانِ فَقَالَ لَهُ أَتُؤْمِنُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ فَخَالَفَهُ فَآمَنَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْهِجْرَةِ فَقَالَ لَهُ أَتُهَاجِرُ وَتَتْرُكُ مَالَكَ وَأَهْلَكَ فَخَالَفَهُ فَهَاجَرَ ثُمَّ قَعَدَ لَهُ عَلَى طَرِيقِ الْجِهَادِ فَقَالَ لَهُ أَتُجَاهِدُ فَتَقْتُلُ نَفْسَكَ فَتُنْكَحُ نِسَاؤُكَ وَيُقْسَمُ مَالُكَ فَخَالَفَهُ فَجَاهَدَ فَقُتِلَ، فَحَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ (. وَقُعُودُ الشَّيْطَانِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَكُونُ بِالْوَسْوَسَةِ. وَالثَّانِي- بِأَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا يُرِيدُ مِنْ ذَلِكَ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالصَّاحِبِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ «١» [فصلت: ٢٥]. وَفِي حِكْمَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: مَنِ اتَّخَذَ أَهْلًا وَمَالًا وَوَلَدًا كَانَ لِلدُّنْيَا عَبْدًا. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ بَيَانُ أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ الْعَبْدِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ تَعِسَ «٢» عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ تَعِسَ وانتكس
(١). راجع ج ١٥ ص ٣٥٤
(٢). قوله:" تعس" هلك. و" الخميصة": كساء أسود مربع له أعلام وخطوط. و" القطيفة": دثار له أهداب." رانتكس" عاوده المرض كما بدأ به. أو انقلب على رأسه، وهو دعاه عليه بالخيبة. و" شيك": أصابته شوكة. و" فلا انتقش" أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش.
141
﴿ الله لا إله إلا هو ﴾ أي لا معبود سواه ولا خالق غيره فعليه توكلوا.
فيه خمس مسائل :
الأولى- قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " قال ابن عباس : نزلت هذه الآية بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي، شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جفاء أهله وولده، فنزلت. ذكره النحاس. وحكاه الطبري عن عطاء بن يسار قال : نزلت سورة " التغابن " كلها بمكة إلا هؤلاء الآيات :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " نزلت في عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه فقالوا : إلى من تدعنا ؟ فيرق فيقيم، فنزلت :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم " الآية كلها بالمدينة في عوف بن مالك الأشجعي. وبقية الآيات إلى آخر السورة بالمدينة. وروى الترمذي عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروه " - قال : هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم ؛ فأنزل الله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " الآية. هذا حديث حسن صحيح.
الثانية- قال القاضي أبو بكر بن العربي : هذا يبين وجه العداوة، فان العدو لم يكن عدوا لذاته وإنما كان عدوا بفعله. فإذا فعل الزوج والولد فعل العدو كان عدوا، ولا فعل أقبح من الحيلولة بين العبد وبين الطاعة. وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الشيطان قعد لابن آدم في طريق الإيمان فقال له : أتؤمن وتذر دينك ودين آبائك ؟ فخالفه فآمن ثم قعد له على طريق الهجرة، فقال له : أتهاجر وتترك مالك وأهلك ؟ فخالفه فهاجر ثم قعد له على طريق الجهاد، فقال له : أتجاهد فتقتل نفسك فتنكح نساؤك ويقسم مالك ؟ فخالفه فجاهد فقتل، فحق على الله أن يدخله الجنة ). وقعود الشيطان يكون بوجهين : أحدهما : يكون بالوسوسة. والثاني : بأن يحمل على ما يريد من ذلك الزوج والولد والصاحب، قال الله تعالى :" وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم١ " [ فصلت : ٢٥ ]. وفي حكمة عيسى عليه السلام : من اتخذ أهلا ومالا وولدا كان للدنيا عبدا. وفي صحيح الحديث بيان أدنى من ذلك في حال العبد، قال النبي صلى الله عليه وسلم :( تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس٢ عبد الخميصة تعس عبد القطيفة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش ). ولا دناءة أعظم من عبادة الدينار والدرهم، ولا همة أخس من همة ترتفع بثوب جديد.
الثالثة- كما أن الرجل يكون له ولده وزوجه عدوا كذلك المرأة يكون لها زوجها وولدها عدوا بهذا المعنى بعينه. وعموم قوله :" من أزواجكم " يدخل فيه الذكر والأنثى لدخولهما في كل آية. والله أعلم.
الرابعة- قوله تعالى :" فاحذروهم " معناه على أنفسكم. والحذر على النفس يكون بوجهين : إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدين. وضرر البدن يتعلق بالدنيا، وضرر الدين يتعلق بالآخرة. فحذر الله سبحانه العبد من ذلك وأنذره به.
الخامسة- قوله تعالى :" وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " روى الطبري عن عكرمة في قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " قال : كان الرجل يريد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أهله : أين تذهب وتدعنا ؟ قال : فإذا أسلم وفقه قال : لأرجعن إلى الذين كانوا ينهون عن هذا الأمر، فلأفعلن ولأفعلن، قال : فأنزل الله عز وجل :" وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ". وقال مجاهد في قوله تعالى :" يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " قال : ما عادوهم في الدنيا ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم. والآية عامة في كل معصية يرتكبها الإنسان بسبب الأهل والولد. وخصوص السبب لا يمنع عموم٣ الحكم.
١ راجع جـ ١٥ ص ٣٥٤..
٢ قوله: "تعس" هلك. و "الخميصة": كساء أسود مربع له أعلام وخطوط. و "القطيفة": دثار له أهداب. "وانتكس" عاوده المرض كما بدأ به. أو انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة. و "شيك": أصابته شوكة. و "فلا انتقش" أي فلا خرجت شوكته بالمنقاش..
٣ لفظة "عموم" ساقطة من ح، س..
وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ (. وَلَا دَنَاءَةَ أَعْظَمَ مِنْ عِبَادَةِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، وَلَا هِمَّةَ أَخَسَّ مِنْ هِمَّةٍ تَرْتَفِعُ بِثَوْبٍ جَدِيدٍ. الثَّالِثَةُ- كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ وَلَدُهُ وَزَوْجُهُ عَدُوًّا كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ يَكُونُ لَهَا زَوْجُهَا وَوَلَدُهَا عَدُوًّا بِهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ. وَعُمُومُ قَوْلِهِ: مِنْ أَزْواجِكُمْ يَدْخُلُ فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِدُخُولِهِمَا فِي كُلِّ آيَةٍ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاحْذَرُوهُمْ) مَعْنَاهُ عَلَى أَنْفُسِكُمْ. وَالْحَذَرُ عَلَى النَّفْسِ يَكُونُ بِوَجْهَيْنِ: إِمَّا لِضَرَرٍ فِي الْبَدَنِ، وَإِمَّا لِضَرَرٍ فِي الدِّينِ. وَضَرَرُ الْبَدَنِ يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيَا، وَضَرَرُ الدِّينِ يَتَعَلَّقُ بِالْآخِرَةِ. فَحَذَّرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْعَبْدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَنْذَرَهُ بِهِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يُرِيدُ أَنْ يَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ لَهُ أَهْلُهُ: أَيْنَ تَذْهَبُ وَتَدَعُنَا؟ قَالَ: فَإِذَا أَسْلَمَ وَفَقِهَ قَالَ: لَأَرْجِعَنَّ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا يَنْهَوْنَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، فلا فعلن وَلَأَفْعَلَنَّ، قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ قَالَ: مَا عَادُوهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكِنْ حَمَلَتْهُمْ مَوَدَّتُهُمْ عَلَى أَنْ أَخَذُوا لَهُمُ الْحَرَامَ فَأَعْطَوْهُ إِيَّاهُمْ. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَعْصِيَةٍ يَرْتَكِبُهَا الْإِنْسَانُ بِسَبَبِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ. وَخُصُوصُ السبب لا يمنع عموم «١» الحكم.
[سورة التغابن (٦٤): آية ١٥]
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
قوله تعالى: ِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أَيْ بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ يَحْمِلُكُمْ عَلَى كَسْبِ الْمُحَرَّمِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُطِيعُوهُمْ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ (يؤتى برجل يوم القيامة
(١). لفظة" عموم" ساقطة من ح، س.
142
فَيُقَالُ أَكَلَ عِيَالُهُ حَسَنَاتِهِ (. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ: العيال سوس الطاعات. وقال القتيبي: تْنَةٌ
أَيْ إِغْرَامٌ، يُقَالُ: فُتِنَ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ أَيْ شغف بها وقيل: تْنَةٌ
مِحْنَةٍ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَقَدْ فُتِنَ النَّاسُ فِي دِينِهِمْ وَخَلَّى ابْنُ عَفَّانَ شَرًّا طَوِيلَا
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمُ اللَّهُمَّ اعْصِمْنِي مِنَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ وَأَهْلٍ وَوَلَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوَذُ بِكَ مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ: أَدْخَلَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسُوا بِأَعْدَاءَ. وَلَمْ يذكر مِنْ في قوله تعالى: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لِأَنَّهُمَا لَا يَخْلُوَانِ مِنَ الْفِتْنَةِ وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ بِهِمَا. رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ، يَمْشِيَانِ وَيَعْثِرَانِ، فَنَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمَلَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (صَدَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ. نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثِرَانِ فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا) ثُمَّ أخذ في خطبته. َ- اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
يَعْنِي الْجَنَّةَ، فَهِيَ الْغَايَةُ، وَلَا أَجْرَ أَعْظَمَ مِنْهَا فِي قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ- عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ يأهل الْجَنَّةِ فَيَقُولُونَ لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ فَيَقُولُ هَلْ رَضِيتُمْ فَيَقُولُونَ وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ قَالُوا يا رب وأى شي أَفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ فَيَقُولُ أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا (. وَقَدْ تَقَدَّمَ وَلَا شَكَ فِي أَنَّ الرِّضَا غَايَةُ الْآمَالِ. وَأَنْشَدَ الصُّوفِيَّةُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ:
143

[سورة التغابن (٦٤): الآيات ١٦ الى ١٧]

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَاسِخَةٌ لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «١» [آل عمران: ١٠٢] مِنْهُمْ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ. ذَكَرَ الطَّبَرِيُّ: وَحَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى قَالَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] قَالَ: جَاءَ أَمْرٌ شَدِيدٌ، قَالُوا: وَمَنْ يَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا أَوْ يَبْلُغُهُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ اللَّهُ أَنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ نَسَخَهَا عَنْهُمْ وَجَاءَ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَقَالَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ. وَقِيلَ: هِيَ مُحْكَمَةٌ لَا نَسْخَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] إِنَّهَا لَمْ تُنْسَخْ، وَلَكِنَّ حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُجَاهَدَ لِلَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذَهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ «٢». الثَّانِيَةُ- فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ التَّغَابُنِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَكَيْفَ يَجُوزُ اجْتِمَاعُ الْأَمْرِ بِاتِّقَاءِ اللَّهِ حَقَّ تُقَاتِهِ وَالْأَمْرُ بِاتِّقَائِهِ مَا اسْتَطَعْنَا. وَالْأَمْرُ بِاتِّقَائِهِ حَقَّ تُقَاتِهِ إِيجَابُ الْقُرْآنِ بِغَيْرِ خُصُوصٍ وَلَا وَصْلَ بِشَرْطٍ، وَالْأَمْرُ بِاتِّقَائِهِ مَا اسْتَطَعْنَا أَمْرٌ بِاتِّقَائِهِ مَوْصُولًا بِشَرْطٍ. قِيلَ لَهُ: قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ بِمَعْزِلٍ مِمَّا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] وَإِنَّمَا عَنَى بِقَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ وَرَاقِبُوهُ فِيمَا جَعَلَ فتنة لكم من أموالكم
(١). راجع ج ٤ ص ١٥٧
(٢). راجع ج ٤ ص ١٥٧
144
وَأَوْلَادِكُمْ أَنْ تَغْلِبَكُمْ فِتْنَتُهُمْ، وَتَصُدَّكُمْ عَنِ الْوَاجِبِ لِلَّهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْهِجْرَةِ مِنْ أَرْضِ الْكُفْرِ إِلَى أَرْضِ الْإِسْلَامِ، فَتَتْرُكُوا الْهِجْرَةَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، بِمَعْنَى وَأَنْتُمْ لِلْهِجْرَةِ مُسْتَطِيعِينَ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ عَذَرَ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ بِتَرْكِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلَى قَوْلِهِ فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ «١» [النساء: ٩٩ - ٩٧]. فَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ عَفَا عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدِي سَبِيلًا بِالْإِقَامَةِ فِي دَارِ الشِّرْكِ، فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فِي الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَنْ تَتْرُكُوهَا بِفِتْنَةِ أَمْوَالِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ. وَلَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ كُفَّارٍ تَأَخَّرُوا عَنِ الْهِجْرَةِ مِنْ دَارِ الشِّرْكِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِتَثْبِيطِ أَوْلَادِهِمْ إِيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، حَسْبَ مَا تَقَدَّمَ. وَهَذَا كُلُّهُ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَقِيلَ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فِيمَا تَطَوَّعَ بِهِ مِنْ نَافِلَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: ١٠٢] اشْتَدَّ عَلَى الْقَوْمِ فَقَامُوا حَتَّى وَرِمَتْ عَرَاقِيبُهُمْ وَتَقَرَّحَتْ جِبَاهُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَخْفِيفًا عَنْهُمْ: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَنَسَخَتِ الْأُولَى، قَالَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَحْتَمِلُ إِنْ لَمْ يَثْبُتْ هَذَا النَّقْلُ أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِهَا، لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ اتِّقَاءَهَا. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) أَيِ اسْمَعُوا مَا تُوعَظُونَ بِهِ وَأَطِيعُوا فِيمَا تُؤْمَرُونَ بِهِ وَتُنْهَوْنَ عَنْهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمَعُوا أَيِ اصْغَوْا إِلَى مَا يَنْزِلُ عَلَيْكُمْ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي السَّمَاعِ. وَأَطِيعُوا لِرَسُولِهِ فِيمَا أَمَرَكُمْ أَوْ نَهَاكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَلَيْهِمَا بُويِعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ. وَقِيلَ: وَاسْمَعُوا أَيِ اقْبَلُوا مَا تَسْمَعُونَ، وعبر عنه بالسماع لأنه فائدته.
(١). راجع ج ٥ ص ٣٥٤.
145
قُلْتُ: وَقَدْ تَغَلْغَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْحَجَّاجُ حِينَ تَلَاهَا وَقَصَرَهَا عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مروان فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا هِيَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَمِينُ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ، لَيْسَ فِيهَا مَثْنَوِيَّةٌ، وَاللَّهِ لَوْ أَمَرْتُ رَجُلًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ مِنْ غَيْرِهِ لَحَلَّ لِي دَمُهُ. وَكَذَبَ فِي تَأْوِيلِهَا بَلْ هِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا ثُمَّ لِأُولِي الْأَمْرِ مِنْ بَعْدِهِ. دَلِيلُهُ وأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «١» [النساء: ٥٩]. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَنْفِقُوا) قِيلَ: هُوَ الزَّكَاةُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: هُوَ النَّفَقَةُ فِي النَّفْلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّفَقَةُ فِي الْجِهَادِ. وقال الْحَسَنُ: هُوَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ لِنَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَإِنَّمَا أَوْقَعَ قَائِلَ هَذَا قَوْلُهُ: لِأَنْفُسِكُمْ وَخَفِيَ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ النَّفْلِ وَالْفَرْضِ فِي الصَّدَقَةِ هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «٢» [الاسراء: ٧]. وَكُلُّ مَا يَفْعَلُهُ الرَّجُلُ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّمَا هُوَ لِنَفْسِهِ. وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا عَامَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ رَجُلٌ: عِنْدِي دِينَارٌ؟ قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ) قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِكَ) قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: (أَنْفِقْهُ عَلَى وَلَدِكَ) قَالَ: عِنْدِي آخَرُ؟ قَالَ: (تَصَدَّقْ بِهِ) فَبَدَأَ بِالنَّفْسِ وَالْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَجَعَلَ الصَّدَقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ. الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) خَيْراً نُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، دَلَّ عَلَيْهِ وَأَنْفِقُوا كَأَنَّهُ قَالَ: ايتُوا فِي الْإِنْفَاقِ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، أَوْ قَدِّمُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ. وَهُوَ عِنْدَ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْفِقُوا إِنْفَاقًا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. وَهُوَ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدَةَ خَبَرُ كَانَ مُضْمَرَةٍ، أَيْ يَكُنْ خَيْرًا لَكُمْ. وَمَنْ جَعَلَ الْخَيْرَ الْمَالَ فَهُوَ مَنْصُوبٌ بِ أَنْفِقُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ «٣». وَكَذَا (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ) تَقَدَّمَ الكلام فيه أيضا في" البقرة" «٤» وسورة
(١). راجع ج ٥ ص ٢٥٨. [..... ]
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٢٧.
(٣). راجع ص ٢٩ من هذا الجزء.
(٤). راجع ج ٣ ص ٢٣٧ وج ١٧ ص ٢٤٢
146
" الْحَدِيدِ". (وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) تَقَدَّمَ مَعْنَى الشُّكْرِ فِي" الْبَقَرَةِ" «١». وَالْحَلِيمُ: الَّذِي لَا يعجل.
[سورة التغابن (٦٤): آية ١٨]
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أَيْ مَا غَابَ وَحَضَرَ. وَهُوَ (الْعَزِيزُ) أَيِ الْغَالِبُ الْقَاهِرُ. فَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ «٢» [الجاثية: ٢]. أَيْ مِنَ اللَّهِ الْقَاهِرِ الْمُحْكِمِ خَالِقِ الْأَشْيَاءِ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى نَفَاسَةِ الْقَدْرِ، يُقَالُ مِنْهُ: عَزَّ يَعِزُّ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) فَيَتَنَاوَلُ مَعْنَى الْعَزِيزِ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَا يُعَادِلُهُ شي وَأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. (الْحَكِيمُ) فِي تَدْبِيرِ خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: الْحَكِيمُ هُوَ الْمُحْكِمُ لِخَلْقِ الْأَشْيَاءِ، صُرِفَ عَنْ مُفْعِلٍ إِلَى فَعِيلٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ «٣» [يونس: ١] مَعْنَاهُ الْمُحْكَمُ، فَصُرِفَ عَنْ مُفْعَلٍ إِلَى فَعِيلٍ. والله اعلم.
[تفسير سورة الطلاق]
سُورَةُ الطَّلَاقِ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ. وَهِيَ إِحْدَى عَشْرَةَ آيَةً، أَوِ اثْنَتَا عَشْرَةَ آيَةً بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الطلاق (٦٥): آيَةً ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١)
(١). راجع ج ١ ص (٣٩٧)
(٢). راجع ج ١٥ ص (٢٣٢)
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٠٥
147
فِيهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ)»
الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خُوطِبَ بِلَفْظِ الْجَمَاعَةِ تَعْظِيمًا وَتَفْخِيمًا. وَفِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَّقَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: طَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَتَتْ أَهْلَهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. وَقِيلَ لَهُ: رَاجِعْهَا فَإِنَّهَا قَوَّامَةٌ صَوَّامَةٌ، وَهِيَ مِنْ أَزْوَاجِكَ فِي الْجَنَّةِ. ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقُشَيْرِيُّ وَالثَّعْلَبِيُّ. زَادَ الْقُشَيْرِيُّ: وَنَزَلَ فِي خُرُوجِهَا إِلَى أَهْلِهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ، مِنْ بُيُوتِهِنَّ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ غَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَفْصَةَ، لَمَّا أَسَرَّ إِلَيْهَا حَدِيثًا فَأَظْهَرَتْهُ لِعَائِشَةَ فَطَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ وَتَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا. فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ رِجَالًا فَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَمْرُو بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِيهِمْ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهَذَا كُلُّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَمْثَلُ. وَالْأَصَحُّ فِيهِ أَنَّهُ بَيَانٌ لِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ. وَغَايَرَ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ مِنْ حَاضِرٍ وَغَائِبٍ وَذَلِكَ لُغَةٌ فَصِيحَةٌ، كَمَا قَالَ: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «٢» [يونس: ٢٢]. تَقْدِيرُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لَهُمْ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ. وَهَذَا هُوَ قَوْلُهُمْ،: إِنَّ الْخِطَابَ لَهُ وَحْدَهُ وَالْمَعْنَى لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لا طفه بِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ. فَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ بِاللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا لَهُ قَالَ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ.
(١). لفظة:" النساء" ساقطة من ح، س.
(٢). راجع ج ٨ ص ٣٢٤.
148
قُلْتُ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ نُزُولُ الْعِدَّةِ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ. فَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْهَا أَنَّهَا طُلِّقَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ طُلِّقَتْ أَسْمَاءُ بِالْعِدَّةِ لِلطَّلَاقِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أُنْزِلَ فِيهَا الْعِدَّةُ لِلطَّلَاقِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ نِدَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعْظِيمًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ [المائدة: ٩٠] الْآيَةَ «١». فَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَعْنَى تَقْدِيمِهِمْ وَتَكْرِيمِهِمْ، ثُمَّ افْتَتَحَ فَقَالَ: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ الْآيَةَ. الثَّانِيَةُ- رَوَى الثَّعْلَبِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ مِنْ أَبْغَضِ الْحَلَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ). وَعَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (تَزَوَّجُوا وَلَا تُطَلِّقُوا فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَهْتَزُّ مِنْهُ الْعَرْشُ). وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تُطَلِّقُوا النِّسَاءَ إِلَّا مِنْ رِيبَةٍ فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ وَلَا الذَّوَّاقَاتِ). وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَلَا اسْتَحْلَفَ بِهِ إِلَّا مُنَافِقٌ). أَسْنَدَ جَمِيعَهُ الثَّعْلَبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ الدُّولَابِيُّ وَيَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا الْحَسَنُ ابن عَرَفَةَ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ مَالِكٍ اللَّخْمِيُّ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَا مُعَاذُ مَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَتَاقِ وَلَا خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ «٢» أَبْغَضَ مِنَ الطَّلَاقِ. فَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِمَمْلُوكِهِ أَنْتَ حُرٌّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا اسْتِثْنَاءَ لَهُ. وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ «٣» فَلَهُ اسْتِثْنَاؤُهُ وَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ (. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ بِإِسْنَادِهِ نَحْوَهُ. قَالَ حُمَيْدٌ: قَالَ لِي يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: وَأَيُّ حَدِيثٍ لَوْ كَانَ حُمَيْدُ بْنُ مالك معروفا؟ قلت:
(١). راجع ج ٦ ص ٢٨٥.
(٢). زيادة عن سنن الدارقطني.
(٣). زيادة عن سنن الدارقطني.
149
هُوَ جَدِّي. قَالَ يَزِيدُ: سَرَرْتِنِي سَرَرْتِنِي! الْآنَ صَارَ حَدِيثًا. حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ قَالَ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سُنَيْنٍ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ خَالِدٍ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَالِكٍ اللَّخْمِيُّ حَدَّثَنَا مَكْحُولٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَحَلَّ اللَّهُ شَيْئًا أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ فَمَنْ طَلَّقَ وَاسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ). قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: اخْتَلَفُوا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ذَلِكَ جَائِزٌ. وَرُوِّينَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ طَاوُسٍ. وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ الْكُوفِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي الطَّلَاقِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ. وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ فِي الطَّلَاقِ خَاصَّةً. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَقُولُ. الثَّالِثَةُ- رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنِي عَمِّي وَهْبُ بْنُ نَافِعٍ قَالَ سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الطَّلَاقُ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ: وَجْهَانِ حَلَالَانِ وَوَجْهَانِ حَرَامَانِ، فَأَمَّا الْحَلَالُ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا عَنْ غَيْرِ جِمَاعٍ وَأَنْ يُطَلِّقَهَا حَامِلًا مُسْتَبِينًا حَمْلُهَا. وَأَمَّا الْحَرَامُ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ حَائِضٌ، أَوْ يُطَلِّقَهَا حِينَ يُجَامِعُهَا، لَا تَدْرِي اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى وَلَدٍ أَمْ لَا. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) فِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ يزيد ابن السَّكَنِ الْأَنْصَارِيَّةِ أَنَّهَا طُلِّقَتْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُطَلَّقَةِ عِدَّةٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حِينَ طُلِّقَتْ أَسْمَاءُ بِالْعِدَّةِ لِلطَّلَاقِ، فَكَانَتْ أَوَّلَ مَنْ أُنْزِلَ فِيهَا الْعِدَّةُ لِلطَّلَاقِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ. الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: لِعِدَّتِهِنَّ يَقْتَضِي أَنَّهُنَّ اللَّاتِي دُخِلَ بِهِنَّ مِنَ الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهِنَّ خَرَجْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «١» [الأحزاب: ٤٩]. السَّادِسَةُ: مَنْ طَلَّقَ فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْ فِيهِ نَفَذَ طَلَاقُهُ وَأَصَابَ السُّنَّةَ. وَإِنْ طَلَّقَهَا حَائِضًا نَفَذَ طَلَاقُهُ وَأَخْطَأَ السُّنَّةَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ فِي أُخْرَى: «٢» لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ في الحيض
(١). راجع ج ١٤ ص ٢٠٢.
(٢). في ط" في أخر" وكلنا هما غير واضحة.
150
لِأَنَّهُ خِلَافَ السُّنَّةِ. وَإِلَيْهِ ذَهَبَتِ الشِّيعَةُ. وَفِي الصحيحين- واللفظ للدار قطني- عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: طَلَّقْتُ امْرَأَتِي وَهِيَ حَائِضٌ فَذَكَرَ ذَلِكَ عُمَرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَغَيَّظَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبَلَةً سِوَى حَيْضَتِهَا الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا مِنْ حَيْضَتِهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَذَلِكَ الطَّلَاقُ لِلْعِدَّةِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ (. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً، فَحُسِبَتْ مِنْ طَلَاقِهَا وَرَاجَعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (هِيَ وَاحِدَةٌ). وَهَذَا نَصٌّ. وَهُوَ يَرُدُّ عَلَى الشِّيعَةِ قَوْلَهُمْ. السَّابِعَةُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً، فَإِذَا كَانَ آخِرُ ذَلِكَ فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ. قَالَ عُلَمَاؤُنَا: طَلَاقُ السُّنَّةِ مَا جَمَعَ شُرُوطًا سَبْعَةً: وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً، وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ، طَاهِرًا، لَمْ يَمَسَّهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَلَا تَقَدَّمَهُ طَلَاقٌ فِي حَيْضٍ، وَلَا تَبِعَهُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ يَتْلُوهُ، وَخَلَا عَنِ الْعِوَضِ. وَهَذِهِ الشُّرُوطُ السَّبْعَةُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ خَاصَّةً، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي طُهْرٍ لَمْ يَكُنْ بِدْعَةً. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: طَلَاقُ السُّنَّةِ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي كُلِّ طُهْرٍ طَلْقَةً. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ. فَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا: يُطَلِّقُهَا وَاحِدَةً فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّ فِيهِ، وَلَا تَبِعَهُ طَلَاقٌ فِي عِدَّةٍ، وَلَا يَكُونُ الطُّهْرُ تَالِيًا لِحَيْضٍ وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَرَّةً فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ. فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (. وَتَعَلَّقَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَهَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ طَلَاقٍ كَانَ وَاحِدَةً أَوِ اثْنَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ. وَإِنَّمَا رَاعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الزَّمَانَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَمْ يَعْتَبِرِ الْعَدَدَ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَهُ الْوَقْتَ لَا الْعَدَدَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَهَذِهِ غَفْلَةٌ عَنِ الْحَدِيثِ
151
الصَّحِيحِ، فَإِنَّهُ قَالَ: (مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا) وَهَذَا يَدْفَعُ الثَّلَاثَ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا؟ قَالَ حَرُمَتْ عَلَيْكَ وَبَانَتْ مِنْكَ بِمَعْصِيَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ سَوَاءٌ. وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَوْلَا قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. وَهَذَا يُبْطِلُ دُخُولَ الثَّلَاثِ تَحْتَ الْآيَةِ. وَكَذَلِكَ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ بَدِيعٌ لَهُمْ. وَأَمَّا مَالِكٌ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ الْآيَةِ كَمَا قَالُوا، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ فَسَّرَهَا كَمَا قُلْنَا. وَأَمَّا قَوْلُ الشَّعْبِيِّ: إِنَّهُ يَجُوزُ طَلَاقٌ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ، فَيَرُدُّهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِنَصِّهِ وَمَعْنَاهُ. أَمَّا نَصُّهُ فَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فَلِأَنَّهُ إِذَا مُنِعَ مِنْ طَلَاقِ الْحَائِضِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِهِ، فَالطُّهْرُ الْمُجَامَعُ فِيهِ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، لِأَنَّهُ يَسْقُطُ الِاعْتِدَادُ بِهِ مَخَافَةَ شَغْلِ الرَّحِمِ وَبِالْحَيْضِ التَّالِي لَهُ. قُلْتُ: وَقَدِ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي طَلَاقِ الثَّلَاثِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَا رَوَاهُ الدارقطني عن سلمة ابن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَمَاضُرَ بِنْتَ الْأَصْبَغِ الْكَلْبِيَّةَ وَهِيَ أُمُّ أَبِي سَلَمَةَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ عَابَ ذَلِكَ. قَالَ: وَحَدَّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَفْصَ بْنَ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فاطمة بنت قيس على عهد رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فِي كَلِمَةٍ، فَأَبَانَهَا مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَابَ ذَلِكَ عَلَيْهِ. وَاحْتُجَّ أيضا بحديث عو يمر العجلاني لما لا عن قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثٌ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدِ انْفَصَلَ عُلَمَاؤُنَا عَنْ هَذَا أَحْسَنَ انْفِصَالٍ. بَيَانُهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ (الْمُقْتَبَسِ مِنْ شَرْحِ مُوَطَّأِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ). وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فِي الطَّلَاقِ فَأَوْقَعَهُ فِي حَيْضٍ أَوْ ثَلَاثٍ لم يقع، وشبهوه بِمَنْ وُكِّلَ بِطَلَاقِ السُّنَّةِ «١» فَخَالَفَ. الثَّامِنَةُ: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لِعِدَّتِهِنَّ بِمَعْنَى فِي، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ «٢» [الحشر
: ٢].
(١). في ط:" فخالف السنة". [..... ]
(٢). راجع ص ١ من هذا الجزء.
152
أَيْ فِي أَوَّلِ الْحَشْرِ. فَقَوْلُهُ: لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ فِي عِدَّتِهِنَّ، أَيْ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يَصْلُحُ لِعِدَّتِهِنَّ. وَحَصَلَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ مَمْنُوعٌ وَفِي الطُّهْرِ مَأْذُونٌ فِيهِ. فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقُرْءَ هُوَ الطُّهْرُ. وَقَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِيهِ فِي" الْبَقَرَةِ" «١» فَإِنْ قِيلَ: مَعْنَى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أَيْ فِي قُبُلِ «٢» عِدَّتِهِنَّ، أَوْ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ. وَهِيَ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ. فَقُبُلُ الْعِدَّةِ آخِرُ الطُّهْرِ حَتَّى يَكُونَ الْقُرْءُ الْحَيْضَ «٣»، قِيلَ لَهُ: هَذَا هُوَ الدَّلِيلُ الْوَاضِحُ لِمَالِكٍ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ، عَلَى أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ. وَلَوْ كَانَ كَمَا قَالَ الْحَنَفِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ لَوَجَبَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ لَا يَكُونُ مُطَلِّقًا لِقُبُلِ الْحَيْضِ، لِأَنَّ الْحَيْضَ لَمْ يُقْبِلْ بَعْدُ. وَأَيْضًا إِقْبَالُ الْحَيْضِ يَكُونُ بِدُخُولِ الْحَيْضِ، وَبِانْقِضَاءِ الطُّهْرِ لَا يَتَحَقَّقُ إِقْبَالُ الْحَيْضِ. وَلَوْ كَانَ إِقْبَالُ الشَّيْءِ إِدْبَارَ ضِدِّهِ لَكَانَ الصَّائِمُ مُفْطِرًا قَبْلَ مَغِيبِ الشَّمْسِ، إِذِ اللَّيْلُ يَكُونُ مُقْبِلًا فِي إِدْبَارِ النَّهَارِ قَبْلَ انْقِضَاءِ النَّهَارِ. ثُمَّ إِذَا طَلَّقَ فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَبَقِيَّةُ الطُّهْرِ قُرْءٌ، وَلِأَنَّ بَعْضَ الْقُرْءِ يُسَمَّى قُرْءًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة: ١٩٧] يَعْنِي شَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ وَبَعْضَ ذِي الْحِجَّةِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة: ٢٠٣] وَهُوَ يَنْفِرُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ الثَّانِي. وَقَدْ مَضَى هَذَا كُلُّهُ فِي" الْبَقَرَةِ" مُسْتَوْفًى «٤». التَّاسِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) يَعْنِي فِي الْمَدْخُولِ بِهَا، لِأَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِيمَا دُوِّنَ الثَّلَاثِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَيَكُونُ بَعْدَهَا كَأَحَدِ الْخُطَّابِ. وَلَا تَحِلُّ لَهُ فِي الثَّلَاثِ إِلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. الْعَاشِرَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ مَعْنَاهُ احْفَظُوهَا، أَيِ احْفَظُوا الْوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ، حَتَّى إِذَا انْفَصَلَ الْمَشْرُوطُ مِنْهُ وَهُوَ الثَّلَاثَةُ قُرُوءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «٥» [البقرة: ٢٢٨] حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِدَّةَ هِيَ الْأَطْهَارُ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضِ. وَيُؤَكِّدُهُ وَيُفَسِّرُهُ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ" وَقُبُلُ الشَّيْءِ بَعْضُهُ لُغَةً وَحَقِيقَةً، بِخِلَافِ اسْتِقْبَالِهِ فإنه يكون غيره.
(١). راجع ج ٣ ص (١١٣)
(٢). أي في إقباله وأوله حين يمكنها الدخول في العدة والشروع فيها فتكون لها محسوبة، وذلك في حالة الطهر.
(٣). في: ح، س" الطهر".
(٤). راجع ج ٣ ص ١ وص ١١٢
(٥). راجع ج ٣ ص ١ وص ١١٢
153
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: مَنِ الْمُخَاطَبُ بِأَمْرِ الْإِحْصَاءِ؟ وَفِيهِ ثَلَاثُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا- أَنَّهُمُ الْأَزْوَاجُ. الثَّانِي- أَنَّهُمُ الزَّوْجَاتُ. الثَّالِثُ- أَنَّهُمُ الْمُسْلِمُونَ. ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْأَزْوَاجُ، لِأَنَّ الضَّمَائِرَ كلها من طَلَّقْتُمُ وأَحْصُوا ولا تُخْرِجُوهُنَّ عَلَى نِظَامٍ وَاحِدٍ يَرْجِعُ إِلَى الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنَّ الزَّوْجَاتِ دَاخِلَةٌ فِيهِ بِالْإِلْحَاقِ بِالزَّوْجِ، لِأَنَّ الزَّوْجَ يُحْصِي لِيُرَاجِعَ، وَيُنْفِقُ أَوْ يَقْطَعُ، وَلِيُسْكِنَ أَوْ يُخْرِجَ وَلِيُلْحِقَ نَسَبَهُ أَوْ يَقْطَعَ. وَهَذِهِ كُلُّهَا أُمُورٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ، وَتَنْفَرِدُ الْمَرْأَةُ دُونَهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ. وَكَذَلِكَ الْحَاكِمُ يَفْتَقِرُ إِلَى الْإِحْصَاءِ لِلْعِدَّةِ لِلْفَتْوَى عَلَيْهَا، وَفَصْلُ الْخُصُومَةِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِيهَا. وَهَذِهِ فَوَائِدُ الْإِحْصَاءِ الْمَأْمُورِ بِهِ". الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ) أَيْ لَا تَعْصُوهُ. (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) أَيْ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مسكن النكاح ما دامت في العدة، يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ أَيْضًا لِحَقِّ الزَّوْجِ إِلَّا لِضَرُورَةٍ ظَاهِرَةٍ، فَإِنْ خَرَجَتْ أَثِمَتْ وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِدَّةُ. وَالرَّجْعِيَّةُ وَالْمَبْتُوتَةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ. وَهَذَا لِصِيَانَةِ مَاءِ الرَّجُلِ. وَهَذَا مَعْنَى إِضَافَةِ الْبُيُوتِ إِلَيْهِنَّ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ «١» [الأحزاب: ٣٤]، وقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ «٢» [الأحزاب: ٣٣] فَهُوَ إِضَافَةُ إِسْكَانٍ وَلَيْسَ إِضَافَةَ تَمْلِيكٍ. وَقَوْلُهُ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَقًّا فِي الْأَزْوَاجِ. وَيَقْتَضِي قَوْلُهُ: وَلا يَخْرُجْنَ أَنَّهُ حَقٌّ عَلَى الزَّوْجَاتِ. وَفِي صَحِيحِ الْحَدِيثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: طُلِّقَتْ خَالَتِي فَأَرَادَتْ أَنْ تَجُدَّ «٣» نَخْلَهَا فَزَجَرَهَا رَجُلٌ أَنْ تَخْرُجَ، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (بَلَى فَجُدِّيَ نَخْلَكِ فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ. فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَنْبَلٍ وَاللَّيْثِ عَلَى قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمُعْتَدَّةَ تَخْرُجُ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا، وَإِنَّمَا تَلْزَمُ مَنْزِلَهَا بِاللَّيْلِ. وَسَوَاءٌ عِنْدَ مَالِكٍ كَانَتْ رَجْعِيَّةً أَوْ بَائِنَةً. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّجْعِيَّةِ: لَا تَخْرُجُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، وَإِنَّمَا تَخْرُجُ نَهَارًا الْمَبْتُوتَةُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ
(١). راجع ج ١٤ ص (١٨٢)
(٢). راجع ج ١٤ ص (١٨٢)
(٣). الجداد (بفتح الجيم وكسرها): صرام النخل، وهو قطع ثمرها.
154
فَلَا تَخْرُجُ لَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا. وَالْحَدِيثُ يَرُدُّ عَلَيْهِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ أَبَا حَفْصِ «١» بْنِ عَمْرٍو خَرَجَ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَأَرْسَلَ إِلَى امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ بنت قيس بتطلقة كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، وَأَمَرَ لَهَا الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ بِنَفَقَةٍ فَقَالَا لَهَا: وَاللَّهِ مَا لَكِ مِنْ نَفَقَةٍ إِلَّا أَنْ تَكُونِي حَامِلًا. فَأَتَتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ لَهُ قَوْلُهُمَا. فَقَالَ: (لَا نَفَقَةَ لَكِ)، فَاسْتَأْذَنَتْهُ فِي الِانْتِقَالِ فَأَذِنَ لَهَا، فَقَالَتْ: أَيْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (إِلَى ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ)، وَكَانَ أَعْمَى تَضَعُ ثِيَابَهَا عِنْدَهُ وَلَا يَرَاهَا. فَلَمَّا مَضَتْ عِدَّتُهَا أَنْكَحَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا مَرْوَانُ قَبِيصَةَ بْنَ ذُؤَيْبٍ يَسْأَلْهَا عَنِ الْحَدِيثِ، فَحَدَّثَتْهُ. فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ امْرَأَةٍ، سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا النَّاسَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ فَاطِمَةُ حِينَ بَلَغَهَا قَوْلُ مَرْوَانَ: فَبَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ الْآيَةَ، قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ، فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ؟ فَكَيْفَ تَقُولُونَ: لَا نَفَقَةَ لَهَا إِذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا، فَعَلَامَ تَحْبِسُونَهَا؟ لَفْظُ مُسْلِمٍ. فَبَيَّنَ أَنَّ الْآيَةَ فِي تَحْرِيمِ الْإِخْرَاجِ وَالْخُرُوجِ إِنَّمَا هُوَ فِي الرَّجْعِيَّةِ. وَكَذَلِكَ اسْتَدَلَّتْ فَاطِمَةُ بِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي تَلِيهَا إِنَّمَا تَضَمَّنَتِ النَّهْيَ عَنْ خُرُوجِ الْمُطَلَّقَةِ الرَّجْعِيَّةِ، لِأَنَّهَا بِصَدَدِ أَنْ يَحْدُثَ لِمُطَلِّقِهَا رَأْيٌ فِي ارْتِجَاعِهَا مَا دَامَتْ فِي عِدَّتِهَا، فَكَأَنَّهَا تَحْتَ تَصَرُّفِ الزَّوْجِ فِي كُلِّ وَقْتٍ. وَأَمَّا الْبَائِنُ فَلَيْسَ له شي مِنْ ذَلِكَ، فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِذَا دَعَتْهَا إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، أَوْ خَافَتْ عَوْرَةَ مَنْزِلِهَا، كَمَا أَبَاحَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ. وَفِي مُسْلِمٍ- قَالَتْ فَاطِمَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَوْجِي طَلَّقَنِي ثَلَاثًا وَأَخَافُ أَنْ يُقْتَحَمَ عَلَيَّ. قَالَ: فَأَمَرَهَا فَتَحَوَّلَتْ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي مَكَانٍ وَحِشٍ فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا، فَلِذَلِكَ أَرْخَصَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهَا. وَهَذَا كُلُّهُ يَرُدُّ عَلَى الْكُوفِيِّ قَوْلَهُ. وَفِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ: أَنَّ زَوْجَهَا أَرْسَلَ إِلَيْهَا بِتَطْلِيقَةٍ كَانَتْ بَقِيَتْ مِنْ طَلَاقِهَا، فَهُوَ حُجَّةٌ لِمَالِكٍ وَحُجَّةٌ عَلَى الشَّافِعِيِّ. وَهُوَ أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ حَفْصَ بْنَ الْمُغِيرَةِ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ فِي كَلِمَةٍ، على ما تقدم.
(١). ويقال فيه:" أبو عمرو بن حفص". راجع كتاب الإصابة ج ٧ ص ٤٤، ١٣٦ (طبع الشرفية).
155
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الزِّنَى، فَتَخْرُجُ وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ الْبَذَاءُ عَلَى أَحْمَائِهَا، فَيَحِلُّ لَهُمْ إِخْرَاجُهَا. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ قَالَ فِي فَاطِمَةَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ اسْتَطَالَتْ عَلَى أَحْمَائِهَا بِلِسَانِهَا فَأَمَرَهَا عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ تَنْتَقِلَ. وَفِي كِتَابِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ سَعِيدٌ: تِلْكَ امْرَأَةٌ فَتَنَتِ «١» النَّاسَ، إِنَّهَا كَانَتْ لَسِنَةً فَوُضِعَتْ عَلَى يَدَيِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى. قَالَ عِكْرِمَةُ: فِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ" إِلَّا أَنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكُمْ". وَيُقَوِّي هَذَا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنَ الْحَارِثِ رَوَى أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّكِ تَعْلَمِينَ لِمَ أُخْرِجْتِ؟ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْفَاحِشَةُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ كَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَالْبَذَاءِ عَلَى الْأَهْلِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَيْضًا وَالسُّدِّيِّ: الْفَاحِشَةُ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا فِي الْعِدَّةِ. وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ بِخُرُوجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ بِغَيْرِ حَقٍّ، أَيْ لَوْ خَرَجَتْ كَانَتْ عَاصِيَةً. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْفَاحِشَةُ النُّشُوزُ، وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى النُّشُوزِ فَتَتَحَوَّلَ عَنْ بَيْتِهِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: أَمَّا مَنْ قَالَ إِنَّهُ الْخُرُوجُ لِلزِّنَى، فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ الْخُرُوجَ هُوَ خُرُوجُ الْقَتْلِ وَالْإِعْدَامِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَثْنًى فِي حَلَالٍ وَلَا حَرَامٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْبَذَاءُ، فَهُوَ مُفَسَّرٌ فِي حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ كُلُّ مَعْصِيَةٍ، فَوَهِمَ لِأَنَّ الْغِيبَةَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْمَعَاصِي لَا تُبِيحُ الْإِخْرَاجَ وَلَا الْخُرُوجَ. وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إِنَّهُ الْخُرُوجُ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَهُوَ صَحِيحٌ. وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ شَرْعًا إِلَّا أَنْ يَخْرُجْنَ تَعَدِّيًا. الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ) أَيْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَهَا أَحْكَامُ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَقَدْ مَنَعَ التَّجَاوُزَ عَنْهَا، فَمَنْ تَجَاوَزَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَأَوْرَدَهَا مَوْرِدَ الْهَلَاكِ. (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) الْأَمْرُ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ أَنْ يُقَلِّبَ قَلْبَهُ مِنْ بُغْضِهَا إِلَى مَحَبَّتِهَا، وَمِنَ الرَّغْبَةِ عَنْهَا إِلَى الرَّغْبَةِ فِيهَا، وَمِنْ عَزِيمَةِ الطَّلَاقِ إِلَى النَّدَمِ عَلَيْهِ، فَيُرَاجِعَهَا. وَقَالَ جَمِيعُ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ بِالْأَمْرِ هُنَا الرَّغْبَةَ فِي الرَّجْعَةِ. وَمَعْنَى الْقَوْلِ: التحريض على
(١). قوله" فتنت الناس" يريد أنها فتنت الناس بذكرها حديثها أن النبي عليه السلام أمرها أن تنتقل من بيت مطلقها على وجه يوقع الناس في الخطا. وقوله" لسنة" بكسر السين: أي كانت تأخذ الناس وتجرحهم بلسانها. وقوله" فوضعت" أي أخرجت من بيت زوجها وجعلت كالوديعة عند ابن أم مكتوم.
156
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
امْتَحَنَ اللَّهُ بِهِ خَلْقَهُ فَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ فِي قَبْضَتِهْ
فَهَجْرُهُ أَعْظَمُ مِنْ نَارِهِ وَوَصْلُهُ أَطْيَبُ مِنْ جَنَّتِهْ