هذه السورة مدنية وآياتها ثماني عشرة آية. وقد تضمنت جملة من الحقائق والأفكار في الحياة والكون، أولها الإخبار بأن كل شيء في السموات والأرض عاكف على التسبيح لله، وذلك بذكره والإقرار له بالإلهية والربوبية وبتنزيهه عما لايليق به من الصفات.
وفي السورة بيان من الله بأنه خلق العباد متفاوتين في فطرهم وفي طبائعهم، وبذلك فإن فيهم المؤمنين والكافرين. والله جل وعلا عليم بما في الكون من علوم وأخبار وهو سبحانه عليم بالسر والعلن، وبما تخفيه الصدور من القصود والنوايا.
وفي السورة تنديد بالكافرين الذين يكذبون بيوم القيامة، وهي قائمة لا محالة، وآتية لا ريب فيها ﴿ قل بلى وربيّ لتبعثنّ ﴾ وفي السورة تحذير من التلهي بالأزواج والأولاد والانشغال بهم عن عبادة الله وطاعته.
ﰡ
﴿ يسبح لله ما في السموات والأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ١ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير ٢ خلق السماوات والأرض بالحق وصوّركم أحسن صوركم وإليه المصير ٣ يعلم ما في السموات والأرض ويعلم ما تسرون وما تعلنون والله عليم بذات الصدور ﴾.
كل شيء في هذا الوجود دائم الذكر لله فيعظمه ويقدسه وينزهه عن غير أوصاف الكمال ﴿ له الملك وله الحمد ﴾ الله جل جلاله بيده ملكوت كل شيء وهو سبحانه مختص بالحمد وبالغ الثناء، لأنه المتفضل على الخلق بنعمه وآلائه ﴿ وهو على كل شيء قدير ﴾ الله الخالق المقتدر، لا يعز عليه فعل ما يشاء.
قوله :﴿ والله بما تعملون بصير ﴾ الله عليم بأعمالكم لا يخفى عليه منها شيء.
يحذر الله عباده من عاقبة التكذيب والعصيان فتحل بهم نقم الله كما حل بالأمم الظالمة السابقة، أولئك الذين عصوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فأخذهم الله بعقابه وانتقامه، وهو قوله :﴿ ألم يأتكم نبؤا الذين كفروا من قبل فذاقوا وبال أمرهم ﴾ يخاطب الله مشركي العرب فيذكرهم بما حل بالأمم الظالمة من قبلهم كقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط ﴿ فذاقوا وبال أمرهم ﴾ الوبال، معناه العذاب الثقيل الوخيم. أي مسّهم العقاب الشديد الوخيم من الله بسبب كفرهم وعصيانهم ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ توعدهم الله بعذاب النار يصلونها يوم القيامة.
يخبر الله عن عتوّ الكافرين، إذ جحدوا القيامة وكذّبوا بالبعث والحساب وأنكروا إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم بعد أن كانوا رفاتا. وهو قوله :﴿ زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا ﴾ الزعم، ادعاء العلم. وقيل : كنية الكذب قولهم : زعموا. فقد زعم الكافرون - من غير حجة ولا برهان إلا الظن والتخريص والهذيان - أن لن يبعثهم الله ليوم القيامة وأن الساعة غير قائمة ﴿ قل بلى وربيّ لتبعثن ﴾ بلى، لإيجاب النفي. أو هي إثبات لما بعد، لن وهو البعث. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالبعث : بلى تبعثون - مقسما على ذلك بربه. يعني : بلى وربي لتخرجن من قبوركم أحياء ﴿ ثم لتنبّؤن بما عملتم ﴾ أي لتخبرن بأعمالكم التي قدمتموها في الدنيا ﴿ وذلك على الله يسير ﴾ أي إحياؤكم وبعثكم من قبوركم للحساب والجزاء، أمر يسير على الله، فإن الله لا يعز عليه أن يفعل في الخلق ما يشاء.
قوله :﴿ والله بما تعملون خبير ﴾ الله محيط بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء.
قال الزمخشري في الكشاف : التغابن مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء التي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، ونزول الأشقياء منازل السعداء التي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. وفيه تهكم بالأشقياء، لأن نزولهم ليس بغبن. وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة ".
قوله :﴿ ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفّر عنه سيئاته ﴾ وهذا وعد من الله لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويؤدون الطاعات بأن يمحو عنهم الذنوب ﴿ ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم ﴾ الإشارة إلى محو الخطايا وستر الذنوب ودخول الجنات حيث النعيم الخالد المقيم، فإن ذلكم لهو الفوز العظيم الذي لا يضاهيه فوز.
٢ المصباح المنير جـ ٢ ص ٩٤ ومختار الصحاح ص ٤٦٨..
ذلك إعلان من الله للناس بأنه لا يصيب أحدا من الخلق بلاء أو مصيبة إلا كان ذلك بأمر الله، أو بقضائه وقدره ومشيئته.
قوله :﴿ ومن يؤمن بالله يهد قلبه ﴾ أي من يصدق ويستيقن أنه لا يصيبه شيء إلا بأمر الله وتقديره فإن الله يهدي قلبه لليقين فيوفّقه بالتسليم لأمره والرضا بقضائه.
قوله :﴿ والله بكل شيء عليم ﴾ الله يعلم ما تخفيه القلوب من رضى وتسليم بقدر الله أو تخفي خلاف ذلك من التبرم والتسخط.
قوله :﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ إذا أيقن المؤمنون بوحدانية الله وعظيم سلطانه وقدرته وأنه لا يندّ عن إحاطته ومشيئته شيء فإن عليهم بعد ذلك أن يعتمدوا على الله أيما اعتماد وأن يتكلوا عليه بالغ التكلان١.
قال ابن عباس ( رضي الله عنهما ) : كان الرجل يسلم فإذا أراد أن يهاجر منعه أهله وولده وقالوا : ننشدك الله أن تذهب فتدع أهلك وعشيرتك وتصير إلى المدينة بلا أهل ولا مال، فمنهم من يرقّ لهم ويقيم ولا يهاجر. فأنزل الله هذه الآية.
وذكر عن ابن عباس أيضا قوله : هؤلاء الذين منعهم أهلهم عن الهجرة لما هاجروا ورأوا الناس قد فقهوا في الدين، همّوا أن يعاقبوا أهليهم الذين منعوهم فأنزل الله ﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ ١ فإن الله جل جلاله يحذر عباده المؤمنين الافتتان بالأزواج والأولاد والأهل والعشيرة. فإذا ما اعتزم المؤمنون الأوفياء أن يمضوا لأمر الله في هجرة أو جهاد أو غير ذلك من وجوه التضحية وقف في وجوههم الأزواج والأولاد والأهل والعشيرة ليصدوهم عن ذلك أو يثنوهم ويثبطوهم عما هم ماضون فيه من طاعة الله. وما ينبغي للمسلم الوفي الصادق الذي سلك سبيل الرحمان والتزم منهج الحق أن تثنيه نداءات الأهل والعشيرة أو الأصدقاء والخلان. إنما ينبغي للمسلم الصادق الذي يدعو إلى الله على بصيرة، أن يمضي لأمر الله غير مضطرب ولا متزعزع ولا متحرّج.
وهو قوله سبحانه :﴿ ياأيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم ﴾ عدواة الأزواج والأولاد للرجال والآباء بصدهم عن سبيل الله وبفتنهم عن دينه وتثبيطهم عن طاعته. وبذلك يحذر الله المؤمنين أن يفتنهم الأزواج والأولاد أو يضلوهم عن صراط الله المستقيم وعن منهجه القويم الحكيم، إنه لا ينبغي لمؤمن وفيّ صادق أن يغتر بنداء الأهل وأولي القربى إذا ما أرادوا له أن يثني عن عبادة الله وطاعته. وكذلك عداوة الأزواج والأولاد للزوجات والآباء بإغوائهم أو صدهم عن دين الله أو تثبيطهم عن القيام بطاعة الله. فما ينبغي لامرأة مسلمة صادقة تخشى الله أن تعبأ بإغواء زوجها أو تثبيطه لها إذا ما أراد أن يفتنها أو يضلها عن سبيل الله المستقيم. وما ينبغي للأب كذلك أن يحمله الحنين للولد على الجنوح والانثناء عن دين الله وعن منهجه الكريم.
قوله :﴿ وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ﴾ كان الرجل إذا ثبّطه أزواجه وأولاده عن الهجرة ورأى الناس قد سبقوه إليها وتفقهوا في دينهم سخط منهم لتثبيطهم إياه، فهمّ أن يعاقبهم أو يوبخهم، فأرشده الله إلى أن يعفو عما اقترفوه من صدّه عن الطاعة. فيصفح عن معاقبتهم ويستر عليهم إساءتهم فلا يعنفهم أو يبكّتهم ﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ الله يستر على ذنوب عباده وهو بهم رحيم فلا يعاقبهم عقب توبتهم.
قوله :﴿ والله عنده أجر عظيم ﴾ المراد بالأجر العظيم الجنة. فإن الله يؤتيها المؤمنين من عباده الذي آثروا طاعة ربهم على الجنوح للمعصية والافتتان بالأموال والأولاد.
قوله :﴿ واسمعوا وأطيعوا ﴾ أي اسمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما يعظكم به، وأطيعوه فيما أمركم به ونهاكم عنه ﴿ وأنفقوا خيرا لأنفسكم ﴾ خيرا، منصوب من أربعة وجوه :
الوجه الأول : أن يكون منصوبا بالفعل ﴿ أنفقوا ﴾. والوجه الثاني : أن يكون منصوبا بفعل مقدر دل عليه قوله :﴿ أنفقوا ﴾ وتقديره : وآتوا خيرا.
والوجه الثالث : أن يكون وصفا لمصدر محذوف وتقديره : وأنفقوا إنفاقا خيرا. والوجه الرابع : أن يكون خبر كان١ والمراد بالخير، المال. والمعنى : أنفقوا من أموالكم على الفقراء والمساكين والمحاويج فإن ذلك خير لكم، إذ تستنقذون أنفسكم من النار.
قوله :﴿ ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون ﴾ يعني من يقه الله شحّ نفسه وهو هواها الذي يفضي إلى المعاصي ﴿ فأولئك هم المفلحون ﴾ أي الفائزون بخير الجزاء، الناجون من سوء العذاب.
قوله :﴿ والله شكور حليم ﴾ الله يشكر للمؤمنين المنفقين الذين استبرأت نفوسهم من خسيسة الشح - بذلهم وإنفاقهم. وهو سبحانه حليم بعباده المؤمنين فلا يعاجلهم العقاب.