بسم الله الرحمن الرحيم
سورة التغابنمدنية١ على قول قتادة٢، ومكية على قول ابن عباس٣ إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت٤ بالمدينة٥ في عوف بن مالك الأشجعي٦ شكا إلى النبي –عليه السلام-جفاء أهله وولده، فنزل الله جل ذكره يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم و أولادكم إلى آخرها٧.
٢ - انظر: زاد المسير ٨/٢٧٩ وحكاه عن الجمهور وهو قول الأكثرين في تفسير الماوردي ٤/٢٤٥ والقرطبي ١٨/١٣١ والبحر ٨/٢٧٦ وفتح القدير ٥/٢٣٤ وروح المعاني ٢٨/١١٩.
٣ - أ: وعلى قول ابن عباس مكية..
٤ - ث: نزلن..
٥ - انظر تفسير القرطبي ١٨/١٣١ والبحر ٨/٢٧٦ وروح المعاني ٢٨/١١٩ وحكاه عن عطاء بن يسار أيضا، وهو قول قتيبة في الغريب ٤٦٩ والزجاج في معانيه ٥/١٧٩ إلا أنه حكى فقال:"وقيل: إن الصحيح أنها مدنية كلها" وفي تفسير الماوردي ٤/٢٤٥ والبحر ٨/٢٧٦ عن الكلبي أنها مكية ومدنية. ثم حكى الماوردي في الضحاك أنها مكية كلها. .
٦ - هو ابو عبد الرحمن عوف بن مالك الأشجعي الغطفاني أول مشاهده خيبر وشهد الفتح مع النبي صلى الله عليه وسلم وكانت معه راية أشجع روى عنه أبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة وجماعات من التابعين (ت: ٧٣ هـ).
انظر تهذيب الأسماء٢/٤٠ والاستيعاب ٣/١٣١ والأعلام ٥/٩٦..
٧ - أ: وأولادكم عدوا لكم إلى آخرها..
ﰡ
معناه: يصلي لله ويسجد جميع من في السماوات السبع والأرض من الخلق طوعا وكرها " ويسبح ": للحال.
- وقيل: معناه [ينزه الله] ويُبَرِّئُهُ من السوء كل من السموات والأرض.
- ثم قال تعالى: ﴿لَهُ الملك وَلَهُ الحمد...﴾.
أي: له ملك السموات والأرض وسلطان ذلك، وله حمد [ما] فيهما من الخلق.
- ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
أي: ذوقوا على كل شيء، يفعل ما يريد، لا يُعْجِزُهُ شيء أراده.
- ثم قال تعالى: ﴿هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ...﴾.
[أي: خلقكم على علمه فيكم من قبل أن يخلقكم، فمنكم من كفر، ومنكم من آمن على ما سبق من علمه بكم]، أي: الله الذي خلقكم - أيها الناس - فمنكم من
- ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
أي: والله الذي خلقكم بصير بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، فيجازيكم بها، فاتقوه فيما أمركم به وما نهاكم عنه.
وعن أبي ذر أنه قال: إن المنى إذا مكث في الرحم أربعين ليلة أتى مَلَكُ النفوس فعرج به إلى الجبار في راحته فقال: يا رب عبدك: ذكر أو أنثى؟ فيقضي الله جل ثناؤه ما هو قاض. ثم يقول: أي رب، شقي أم سعيد؟ فيكتب ما هو [لاَقٍ].
- ثم قال تعالى: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق (وَصَوَّرَكُمْ) فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ... ُ﴾.
أي: خلق السموات والأرض بالعدل [والإنصاف] ومثّلكم فأحسن تمثيلكم.
وروي أنه [عنى] به تصوير آدم وخلقه إياه.
- ثم قال: ﴿وَإِلَيْهِ المصير﴾.
أي: المرجع يوم القيامة).
- ثم قال: ﴿(يَعْلَمُ) مَا فِي السماوات والأرض...﴾.
أي: يعلم كل ما في السماوات السبع والأرض من شيء لا تخفى عليه من ذلك خافية، ويعلم ما يُسِرُّ الخلق من قول وعمل وما يعلنون من ذلك.
- ثم قال: ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾.
أي: ذو علم بضمائر صدور العباد وما تنطوي عليه نفوسهم وهذا: (كله) تحذير من الله جل ذكره (لعباده أن يسروا غير الذي يعلنون).
- ثم قال تعالى: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ (الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ)﴾.
- ثم قال: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
أي: ولهم بعد ما نزل بهم في الدنيا من العذاب عذاب آخر موجع في الآخرة، وهو/ عذاب في لن ار.
ثم قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ...﴾.
أي: ذلك (الذي) [نالهم] على كفرهم والذي أعد لهم ربهم من العذاب من أجل أنه ﴿كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات﴾: الآيات الواضحات على حقيقة ما تدعوهم
وحكى [المازني] أن النحويين أجازوا أن يقال: [جاءني] ثلاثة نفر وثلاثة رهط، لأن نفراً ورهطاً لأقل العدد، [وما دون العشرة يضاف لأَقَلِ العدد، فلما وقع موقعه وهو مثْلُه لأقل العدد] جاز، و " بشر " للعدد الكثير، و " قوم " للقليل والكثير، فلما خالف ما يضاف إليه ما دون العشرة (لم يضعف إليه كما لا [يضاف] ما دون العشر) إلى أكثر العدد.
(أي): فجحدوا رسالات ربهم، وأدبروا عن الإيمان برسلهم ﴿واستغنى الله...﴾ عن إيمانهم إذ [لا يزيد] في ملكه إيمانهم، ولا ينقص منه كفرهم.
﴿والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
أي: ﴿غَنِيٌّ﴾ عن جميع خلقه، محمود عند جميعهم، إذ ما يهم من نعمة فمنه وبفضله.
ثم قال: ﴿زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ...﴾.
تكمون بمعنى قال، وبمعنى تَخَرَّصَ وَتَقَوَّلَ.
ثم قال تعالى: ﴿قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ...﴾.
أي: قل لهم يا محمد مجاوباً [لنفيهم] البعث: بلى وربي، لتبعثن من قبوركم يوم القيامة، ثم لَتُخْبَرُنَّ بما عملتم في الدنيا، ثم [تجازون] على أعمالكم.
﴿وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ﴾.
ثم قال تعالى: ﴿فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا...﴾.
أي: فصدقوا بالله أيها المشركون (به)، وصدقوا برسوله وبالقرآن الذي أنتزل عليه ربما فيه من إخبار الله إياكم بالبعث والجزاء والجنة والنار وغير ذلك.
ثم قال: ﴿والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
أي: ذو خبر وعلم بأعمالكم، لا يخفى عليه منها شيء، وهو مجازيكم على جميعها.
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن...﴾.
[العامل] في: " يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ": [" خَبِيرٌ "] والمعنى: والله ذو خبر بأعمالكم يجازيكم عليها في يوم يجمعكم ليوم جمع الخلائق كلهم، ذلك يوم يَغْبَنُ فيه أهلُ الجنة أهلَ النار.
قال مجاهد: (يَوْمَ القيامة يَوْمٌ يَغْبَنُ فيه أهلُ الجنة أهلَ النار).
وقيل: العامل في " يوم "... لتنبؤن.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار...﴾.
أي: ومن يصدّق بالله وبما أنزل ويعمل في دنياه عملاً صالحاً نكفر عنه ما مضى من سيئاته ونمحها عنه ونسترها عليه وندخله في الآخرة بساتين تجري من تحت أشجارها الأنهار خالدين فيها أبداً لا يموتون ولا يخرجون منها.
- ﴿ذَلِكَ الفوز العظيم﴾.
أي: ذلك [النجاء] العظيم.
أي: والذين جحدوا توحيد الله وكذبوا بأدلته تعالى وجحدوا كتابه، أولئك أصحاب النار هم فيها ماكثون أبداً لا يموتون ولا يخرجون منها.
﴿وَبِئْسَ المصير﴾.
أي: وبئس الشيء الذي يصار إليه نارُ جهنم.
ثم قال تعالى: ﴿مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله (وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ﴾.
أي: لم تصب أحداً من الخلق مصيبة إلا بقضاء الله وتقديره ذلك عليه.
وقال الفراء: معناه: إلا بأمر الله).
قال ابن عباس: يهدي قلبه لليقين فيعلم أن كُلاًّ من عند الله، وما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
- ثم قال تعالى: ﴿وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين﴾.
أي: أطيعوا الله في أمره ونهيه والإيمان به وبرسوله وأطيعوا رسوله، فإن أعرضتم عن الإيمان بذلك فليس على محمد إلا أن يبلغكم ما أرسل [به] إليكم بلاغا ظاهراً، والمحاسبةُ والمجازاةُ على الله.
- ثم قال تعالى: ﴿الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون﴾.
أي: الله معبودكم، لا معبود تصلح العبادة إلا له، وعلى الله فليتوك المصدقون بوحدانيته.
- ثم قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ..﴾ الآية.
روي أن هذه الآية نزلت في قوم أرادوا الإسلام والهجرة، وأسلموا في
ولذلك قال: ﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. فاعلموا أن من الأزواج والأولاد من هو عدو، ولا عَدُوَّ أَعْظَمُ ممن مَنَعَ من الهجرة. هذا معنى قول ابن عباس.
فكان الرجل يضرب أهله إذا ثبطوه عن الهجرة، وَيُقْسِمُ ليفعلن بهم وليعاقبنهم على ذلك، فقال الله: ﴿وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾. قال عطاء: نزلت [هذه الثلاث آيات] (في عوف بن مالك الأشجعي، كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو [بكوا] إليه ووقفوه، وقالوا: إلى من تدعنا؟ فَيَرِقُّ ويقيم فنزلت هذه الآيات (فيه)).
وكبرت تلك عداوة للمرء أن يكون صاحبه (لا يأمر بمعروف ولا ينهى عن منكر).
وأكثر المفسرين على أنهن نزلن في من كان [يسلم] ويمنعه أهله وولده من الهجرة. وهو قول الضحاك (وابن زيد).
ثم قال: ﴿إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ [وَأَوْلاَدُكُمْ] فِتْنَةٌ...﴾.
أي: بلاء عليكم في الدنيا.
ثم قال: ﴿والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
أي: ثواب عظيم إذا أنتم خالفتم الأزواج والأولاد في طاعة الله.
قال قتادة: ﴿أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾: الجنة.
هذا نزل بعد قوله تعالى: ﴿اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ [آل عمران: ١٠٢] تخفيفاً عن الخلق، فقيل: إن هذا ناسخ لذلك، وقيل: " هو تخفيف، ولا بد من التقى. ومعنى ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يطاع فلا يعصى.
وكانوا يبايعون النبي ﷺ على السمع والطاعة، فيقول: فيما استطعتم.
قال ابن مسعود ﴿حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
- ثم قال: ﴿واسمعوا وَأَطِيعُواْ...﴾.
- ﴿وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ...﴾.
أي: أنفقوا مالاً لأنفسكم، بالخير هنا مفعول لِ " أَنفقوا "، والخير: المال، كما قال: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات: ٨] يعني: المال.
وقيل: " خَيْرَاً " هنا بمعنى: أفعل، أي: وأنفقوا في سبيل الله يكن خيراً لكم.
- ثم قال: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون﴾.
أي: ومن يقه الله شح نفسه. وذلك اتباع هواها فيما نهى الله عنه.
قال ابن مسعود: " هو أن يَعْمَدَ إلى مال غيره فيأكله ".
وقال سفيان بن عيينة: هو الظلم، وليس هو البخل.
﴿فأولئك هُمُ المفلحون﴾.
أي: هم الباقون في النعيم المقيم.
قال الحسن: نظرك إلى المرأة لا تملكها من الشح.
وقال ابن عباس: ليس الشح أن يمنع الإنسان ماله، إنما الشح أن [تطمح]
قال ابن مسعود: إنما الشح الذي ذكر الله تعالى أن يأكل الرجل مال أخيه، وحَبْسُ المال [عن] الصدقة هو البخل.
وقال طاوس: إنما الشح أن تشحّ على ما في [أيدي] الناس.
[قل علي: من أدى زكاته فقد وُقِي شح نفسه].
- ثم قال تعالى: ﴿إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ (وَيَغْفِرْ لَكُمْ)﴾.
أي: إن تنفقوا في سبيل الله في الدنيا احتساباً للأجر والثواب يُضَاعِف أَجْرَ ذلك لَكُمْ رَبُّكُمْ من واحد إلى سبعمائة ضعف إلى أكثر ويستر عليكم ذنوبكم مع
﴿والله شَكُورٌ حَلِيمٌ﴾.
أي: ذو شكر لأهل الإنفاق في سبيله، حليم عن أهل معاصيه، يترك معالجتهم بعقوبته.
- ثم قال تعالى: ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم﴾.
أي: هو عالم ما غاب عن الأبصار وما ظهر في السماوات والأرضين، وهو الشديد في انتقامه ممن كفر به، الحكيم في تدبيره خلقه.