ﰡ
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾ سبحانه ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾ أي: جميع ما فيهن من الروحانيات ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: وجميع ما فيها من الجسمانيات؛ أي: ينزهه سبحانه جميع ما فيهما من المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه وعظمته، تنزيهًا مستمرًا، إما بلسان المقال؛ كأن يقبل: سبحان الله وبحمده، وإما بلسان الحال، وهو: الدلالة على وجوده وقدرته. ﴿لَهُ﴾ سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿الْمُلْكُ﴾ الدائم الذي لا يزول ولا يحول. والملك: كمال القدرة ونفاذ التصرف. ﴿وَلَهُ﴾ سبحانه لا لغيره ﴿الْحَمْدُ﴾ الحقيقي؛ لأنه الصانع المختار؛ أي (١): له حمد الحامدين، وهو: الثناء بذكر الأوصاف الجميلة والأفعال الجزيلة. وتقديم الجار والمجرور لدلالة على تأكيد الاختصاص، وازاحة للشبهة بالكلية، فإن اللام مشعر بأصل الاختصاص، قدم أو أخّر؛ أي: له الملك وله الحمد لا لغيره، إذ هو المبدىء لكل شيء، وهو القائم به، والمهيمن عليه المتصرف فيه كيف يشاء، وهو المولي لأصول النعم وفروعها، ولولا أنه أنعم بها على عباده لما قدر أحد على أدنى شيء، فالمؤمنون يحمدونه على نعمه، وله الحمد في الأولى والآخرة. وأما ملك غيره فاسترعاء من جنابه، وتسليط منه، وحمد غيره اعتداد بأن نعمة الله جرت على يده، فللبشر ملك وحمد من حيث الصورة لا من حيث الحقيقة.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾ أراده ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يعجزه شيء عما أراد؛ لأن نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكل سواء، فهو القادر على الإيجاد والإعدام والإسقام والإبراء، والإعزاز والإذلال، والتبييض والتسويد، ونحو ذلك من الأمور الغير المتناهية. قال بعضهم: قدرة الله تصلح للخلق، وقدرة العبد تصلح
وكرر (١) ﴿مَا﴾ هنا وفي قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ تأكيدًا وتعميمًا للاختلاف، فناسب ذكر ما فيهما؛ لأن تسبيح ما في السماوات مخالف لتسبيح ما في الأرض، كثرة وقلة، ووقوعًا أو حيوان وجماد، وأسرارنا مخالفة لعلانيتنا فناسب ذكر ﴿مَا﴾ فيهما. ولم يكررها في قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لعدم اختلاف علمه تعالى، إذ علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوقها، وعلمه بما سيكون كعلمه بما كان، فناسب حذفها فيه.
والمعنى (٢): إن وجود ما في السماوات والأرض قال على تنزيه الله وكماله، وأن هذه المخلوقات مسخرة منقادة له، فهو المتصرف في جميع الكائنات والمحمود على جميع ما يخلق ويقدر؛ لأنه مصدر الخيرات ومفيض البركات، وهو على كل شيء قدير. فما أراد. ، كان بلا ممانع ولا مدافع، وما لم يشأ.. لم يكن.
٢ - ثم ذكر بعض مقدوراته تعالى، فقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾؛ أي: هو الذي أوجدكم كما شاء على ما شاء؛ أي: خلقكم أيها الناس خلقًا بديعًا حاويًا لجميع مبادىء الكمالات العلمية والعملية. ثم قسم هذا المخلوق، فقال: ﴿فَمِنكُمْ﴾؛ أي: فبعضكم، أو فبعض منكم ﴿كَافِرٌ﴾؛ أي: مختار للكفر كاسب به حسبما تقتضيه خلقته. ويندرج فيه المنافق؛ لأنه كافر مضمِر. وكان الواجب عليكم جميعًا أن تكونوا مختارين للإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليها من سائر النعم. ﴿وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾؛ أي: مختار للإيمان كاسب له، ويندرج فيه مرتكب الكبيرة الغير التائب والمبتدع الذي لا تُفضي بدعته إلى الكفر.
وتقديم الكفر (٣) عليه لأنه الأنسب بمقام التوبيخ والأغلب فيما بينهم، ولذا يقبل الله سبحانه في موقف القيامة لآدم: "يا آدم أخرج بعث النار" يعني: ميز أهلها
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
قال في "فتح الرحمن": الكفر فعل الكافر، والإيمان فعل المؤمن، والكفر والإيمان اكتساب العبد؛ لقول النبي - ﷺ -: "كل مولود يولد على الفطرة" وقوله تعالى: ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ فلكل واحد من الفريقين كسب واختيار، وكسبه واختياره بتقدير الله ومشيئته. فالمؤمن بعد خلق الله إياه يختار الإيمان، لأن الله تعالى أراد ذلك منه وقدره عليه وعلمه منه، والكافر بعد خلق الله إياه يختار الكفر؛ لأن الله تعالى قدر عليه ذلك وعلمه منه. وهذا طريق أهل السنة، انتهى.
ومعنى قوله: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾؛ أي (١): فبعضكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تقتضيه فطرته، وبعضكم مختار للإيمان كاسب له بحسب ما تدعو إليه الفطرة، كما جاء في الحديث: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجّسانِه". وقد كانت الأدلة الكونية في الأنفس والآفاق كفيلة أن تردكم إلى الحق، فتختاروا الإيمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتبعهما من سائر النعم، ولكنكم ما فعلتم ذلك، بل تفرقتم شيعًا وجحدتم الخالق وكفرتم بأنعمه عليكم بعد أن أفصح الصبح لذي عينين.
﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ مطلقًا ﴿بَصِيرٌ﴾ فيجازيكم بذلك، فاختاروا منه ما يجديكم من الإيمان والطاعة وإياكم وما يرديكم من الكفر والعصيان؛ أي: وهو البصير بمن هو مستعد للهداية لصفاء نفسه وزكاء روحه، فيعطيه ما هو له أهل، ومن خبثت طويته وفسدت سجيته ودسّ نفسه بكبائر الذنوب والآثام.. سيجزى بما هو به حقيق من العذاب الأليم في جهنم ﴿إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٦٦)﴾.
٣ - وبعد أن ذكر نعمة خلق الإنسان.. ذكر النعمة الشاملة بخلق العالم كله على أتم ما يكون من الحكمة والعدل، فقال: ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾؛ أي: أبدعهما وأوجدهما حال كون خلقهما متلبسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالحكمة البالغة المتضمنة
فإن قلت (١): ما وجه عدم ذكر العرش والكرسي في أمثال هذا الموضع مع عظم خلقهما؟
قلت: إنهما، وإن كانا من السماء لأن السماء هو الفَلك والفَلك جسم شفاف محيط بالعالم، وهما أوسع الأفلاك إحاطة إلا أن آثارهما غير ظاهرة مكشوفة، بخلاف السماوات والأرض وما بينهما، فإنهما أقرب إلى المخاطبين المكلفين ومعلوم حالها عندهم، ومكشوفة آثارها ومنفعتها؛ ولهذا قالوا: إن الشمس تنضج الفواكه والقمر يلونها والكواكب تعطيها الطعم؛ إلى غير ذلك مما لا يتناهى، على أن التغيرات فيها أظهر، فهي على عظم القدرة أدل. وقد قال تعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾، وأكثر هذه الشؤون في عالم الكون والفساد الذي هو عبارة عن السماوات والأرض.
﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ و ﴿الفاء﴾ للتفسير؛ أي: صوركم أيها الناس أحسن تصوير وخلقكم في أحسن تقويم، حيث أودع فيكم من القوى، والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط به جميع الكمالات البارزة والكامنة، وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته، وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته، وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، فلكم جمال الصورة وأحسن الأشكال، ولذا لا يتمنى الإنسان أن تكون صورته على خلاف ما هو عليه لكون صورته أحسن من سائر الصور ومن حسن صورته: امتداد قامته، وانتصاب خلقته. ولا يقدح في حسنه كون بعض الصور قبيحًا بالنسبة إلى البعض الآخر منهم؛ لأن الحُسْن - وهو: الجمال في الخلق - والخلق على مراتب، فالإنسان يضم روحًا هو من عالم الأرواح وبدنًا هو من عالم الأجسام. وأنشدوا:
وَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمٌ صَغِيْرٌ | وَفيْكَ انْطَوَى الْعَالَمُ الأَكْبَرُ |
﴿وَإِلَيْهِ﴾؛ أي: إلى الله سبحانه وتعالى ﴿الْمَصِيرُ﴾؛ أي: الرجوع في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالًا أو اشتراكًا، فأحسنوا سرائركم باستعمال تلك القوى والمشاعر فيما خلقن له، حتى يجازيكم بالإنعام لا بالانتقام، فكم من صورة حسناء تكون في العقبى شوهاء بقبح السريرة والسيرة، وكم من صورة قبيحة تكون حسناء بحسنهما. وقد ثبت أن ضرس الكافر يوم القيامة مثل جبل أحد، وأن غلظ جسده مسافة ثلاثة أيام، وأنه يسوء خلقه فتغلظ شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته. وأن أهل الحنة ضوء وجوههم كضوء القمر ليلة البدر أو على أحسن كوكب دري في السماء، وهم جرْد مرْد مكحولون أبناء ثلاث وثلاثين، فطوبى لأهل اللطافة، وويل لأهل الكثافة.
٤ - ﴿يعلَمُ﴾ سبحانه ﴿مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ من الأمور الكلية والجزئية، والأحوال الجلية والخفية، فلا تخفى عليه خافية من أمرها، وهو يدبرها بحسب علمه الواسع وقدرته الشاملة. ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٨٢)﴾.
ثم خص بعض يعلمه عناية بأمره، إذ عليه الثواب والعقاب، فقال: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾؛ أي: ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور فاجعلوا أعمالكم ظاهرها وباطنها وفق ما يطلبه منكم الدين والشرع لتنالوا الفوز برضوان الله وجميل مثوبته.
والتصريح (١) به مع اندراجه فيما قبله لأنه الذي يدور عليه الجزاء، ففيه تأكيد للوعد والوعيد وتشديد لهما. قال في "برهان القرآن": إنما كرر ﴿مَا﴾ في أول السورة لاختلاف تسبيح أهل الأرض وأهل السماء في الكثرة والقلة والبعد والقرب من المعصية والطاعة، وكذلك اختلاف ﴿مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ فإنهما ضدان، ولم يكرر ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لأن الكل بالإضافة إلى علم الله جنس واحد،
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ بتاء الخطاب وعبيد عن أبي عمرو وأبان عن عاصم بالياء.
ثم علل علمه بما ذكر بقوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾؛ أي: محيط علمه بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلًا، فكيف يخفى عليه ما يسرونه وما يعلنونه؟ لأنه تعالى محيط بجميع ما أضمره المرء في صدره واستكن في قلبه، فلا يخفى عليه ما يسر وما يعلن. وهذه الجملة مقررة لما قبلا من شمول علمه لكل معلوم، وهي تعليلية كما مرّ آنفًا. وإنما قيل لها: ذات الصدور وصاحبتها لملابستها لها وكونها مخزونة فيها. ففي الآية ترق من الأظهر إلى الأخفى؛ لأنه عالم بما في السماوات وما في الأرض وبما يصدر من بني آدم سرًا وعلنًا، وبما لم يصدر بعد بل هو مكنون في الصدور.
وإظهار الجلالة للإشعار بعلية الحكم وتأكيد اسحقلال الجملة قبل، وتقديم القدرة على العلم؛ لأن دلالة المخلوقات على قدرته بالذات وعلى علمه بما فيها من الاتفاق والاختصاص ببعض الجهات الظاهرة، مثل كون السماء في العلو والأرض في السفل، أو الباطنة؛ مثل: أن تكون السماء متحركة والأرض ساكنة إلى غير ذلك.
٥ - ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾ أيها المشركون، و ﴿الهمزة﴾ للاستفهام، و ﴿لَمْ﴾ للجحد، ومعناه: التحقيق والتقرير. ﴿نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي: خبر قوم نوح ومن بعدهم من الأمم المصرة على الكفر ﴿مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبلكم، فيكون متعلقًا بـ ﴿كَفَرُوا﴾ أو من قبل هذا الوقت أو هذا العصيان والمعاداة، فيكون ظرفًا لـ ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ﴾. ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ عطف على ﴿كَفَرُوا﴾. والذوق وإن كان في التعارف للقليل لكنه مستصلح للكثير. والوبال: الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور والعقوبة وأمرهم كفرهم فهو واحد الأمور، عبر عنه بذلك للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة.
ومعنى الآية (٢): ألم يبلغكم أيها المشركون من أهل مكة نبأ الذين كفروا بالرسل من قبلكم؛ كقوم نوح وهود وصالح، وغيرهم من الأمم التي أصرت على الكفر والعناد، كيف حلّ بهم عقاب ربهم وعظيم نقمته، وأرسل عليهم ألوانًا من العذاب لا قِبل لهم بها فمن صاعقة من السماء تجتاحهم إلى رجفة في الأرض تهلكهم إلى صيحة يعم الآذان تبيدهم وتجعلهم كأمس الدابر وتمحوهم من صفحة الوجود إلى طوفان يعم الأرض ويبتلعهم ﴿وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾، وسيكون لهم عظيم النكال والوبال يوم تجزى كل نفس بما كسبت، إن الله سريع الحساب. وفي هذا الأسلوب تعجيب من حالهم، وأنه قد كان لهم في ذلك مدَّكَرٌ لو كانوا يستبصرون، وعبرة لو كانوا يعتبرون.
٦ - ثم بيَّن أسباب ما حل بهم من النقم، فقال: ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقون في الآخرة. وهو مبتدأ، خبره ﴿بِأَنَّهُ﴾؛ أي: بسبب أن الشأن ﴿كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ﴾؛ أي: بالمعجزات الظاهرة، والباء إما للملابسة أو للتعدية. ﴿فَقَالُوا﴾: عطف على ﴿كَانَتْ﴾. ﴿أَبَشَرٌ﴾؛ أي: آدمي مثلنا ﴿يَهْدُونَنَا﴾؛ أي: يرشدوننا إلى الله. والاستفهام للإنكار؛ أي (٣): قال كل قوم من المذكورين في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات، منكرين لكون الرسول من جنس البشر متعجبين من ذلك: أبشر وآدمي مثلنا يهدينا ويرشدنا إلى الدين أو إلى الله، والتقرب منه؟! كما قالت ثمود: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾. أنكروا أن يكون الرسول بشرًا، ولم ينكروا أن يكون المعبود حجرًا! وقد أجمل في الحكاية فأسند
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
﴿فَكَفَرُوا﴾؛ أي (١): بالرسل بسبب هذا القول؛ لأنهم قالوه استصغارًا لهم، ولم يعلموا الحكمة في اختيار الرسل بشرًا. ﴿وَتَوَلَّوْا﴾؛ أي: أعرضوا عن التدبر فيما أتوا به من البينات، وعن الإيمان بهم. ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ﴾؛ أي: أظهر استغناءه عن إيمانهم وطاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه تعالى عنهما.. لما فعل ذلك. وقال سعدي المفتي: هو حال، بتقدير ﴿قد﴾ وهو بمعنى (غني) الثلاثي، وليس استفعل هنا للطلب. والمراد: كمال الغنى، إذ الطلب يلزمه الكمال. وقال مقاتل: ﴿استغنى الله﴾ بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه من المعجزات. وقيل: استغنى بسلطانه عن طاعة عباده.
﴿وَاللَّهُ غَنِيٌّ﴾ عن العالمين فضلًا عن إيمانهم وطاعتهم، ﴿حَمِيدٌ﴾: يحمده كل مخلوق بلسان الحال ويدل على اتصافه بالصفات الكمالية أو يحمده أولياؤه وإنا امتنع أعداؤه. والحمد: هو ذكر أوصاف الكمال من حيث هو كمال. ومن عرف أنه الحميد في ذاته وصفاته وأفعاله.. شغله ذكره والثناء عليه.
والمعنى (٢): إن ما حل بهم من سوء العذاب كان من جراء تكذيبهم بالرسل بعد أن جاؤوهم بالأدلة الواضحة والمعجزات الباهرة. وقالوا: إن من العجب العجاب أن يكون هدينا على يدي بشر منا لا ميزة لهم عنا بعقل راجح ولا بسلطان يتملكون به قيادنا ويجعل لهم بسطة النفوذ علينا، كما قالت ثمود: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾؟! وقد جهلوا أن النبوة رسالة يصطفى بها الله من يشاء من عباده، كما قال تعالى: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾.
٧ - وبعد أن طال عنادهم وتمادوا في غيّهم.. أهلكهم الله بسلطانه وجبروته وقطع دابرهم واستغنى عن إيمانهم، وهو الغني عن العالمين جميعًا، والغني عن إيمانهم
(٢) المراغي.
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾ والزعم (١): ادعاء العلم، فمعنى أزعمُ زيدًا قائمًا: أقول إنه كذا، ففي تصدير الجملة بقوله: أَزعمُ، إشعار بأنه لا سند للحكم سوى ادعائه إياه وقوله به. ويتعدى إلى مفعولين تعدي العلم وقد قام هنا مقامهما ﴿أنْ﴾ المخففة مع ما في حيزها، فـ ﴿إنْ﴾ مخففة لا ناصبة لئلا يدخل ناصب على مثله، والمراد بالموصول كفار مكة؛ أي: زعم كفار مكة وادعوا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم أبدأ ولن يقاموا ويخرجوا من قبورهم. وعن شريح: لكل شيء كنية، وكنية الكذب زعموا. وقال بعض المخضرمين لابنه: هب لي من كلامك كلمتين: زعم وسوف، انتهى.
ويكره (٢) للرجل أن يكثر لفظ الزعم وأمثاله، فإنه تحديث بكل ما سمع، وكفى بذلك كذبًا، وإذا أراد أن يتكلم.. تكلم بما هو محقق، لا بما هو مشتبه. وبذلك يتخلص من أن يحدث بكل ما سمع، فيكون معصومًا من الكذب.. كذا في "المقاصد الحسنة".
ثم أمر سبحانه رسوله - ﷺ - بأن يرد عليهم ويبطل زعمهم فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد ردًا لهم وإبطالًا لزعمهم بإثبات ما نفوه: ﴿بَلَى﴾؛ أي: تبعثون. فإن ﴿بَلَى﴾ لإيجاب النفي الذي قبله. ﴿وَرَبِّي﴾؛ أي: أقسمت لكم بربي ومالك أمري؛ أي: أقسمت لكم بربي: بلى تبعثون من قبوركم. وظاهر كلام "اللباب" أن يكون ﴿وَرَبِّي﴾ قسمًا متعلقًا بما قبله قد تم الكلام عنده، وحسن الوقف عليه. ويجعل ﴿لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ جواب قسم آخر مقدر مستأنف لتأكيد الأول؛ أي: والله لتبعثن وتخرجن من قبوركم، ثم لتخبرن بما عملتم في الدنيا ثم تجازون عليه في الآخرة لا محالة. و ﴿ثُمَّ﴾ (٣) لتراخي المدة لطول يوم القيامة، أو لتراخي الرتبة. ولعل فائدة الإخبار بالقسم مع أن المشركين ينكرون الرسالة كما ينكرون البعث إبطالٌ لزعمهم بالتشديد والتأكيد؛ ليتأثر من قدر الله له الإنصاف، وتتأكد الحجة على من لم يقدر له وكان محرومًا بالكلية. قال بعضهم: ولعل حكمة اختيار لفظ الرب في القَسم
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
﴿وَذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من البعث والجزاء ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه ﴿يَسِيرٌ﴾؛ أي: سهل لتحقق القدرة التامة وقَبول المادة. والمعنى؛ أي: ادعى المشركون أن لا بعث ولا حساب ولا جزاء، فقالوا: ﴿أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾، وقالوا: ﴿مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾. فأمر الله رسولَه بالرد عليهم وابطال زعمهم بقوله: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي...﴾ إلخ؛ أي: قل لهم: إن البعث كائن لا محالة وإنكم، وربي الذي برأ الخلق وأنشأهم من العدم، ستحاسبن علي أعمالكم وتجزون على الكثير والقليل والنقير والقطمير، وذلك هين على الله يسير.
٨ - وبعد أن أبان لهم أدلة التوحيد والنبوة بما لا مجال معه للإنكار.. طالبهم بالإيمان بهما، فقال: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ و ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر هكذا، وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: يا أهل مكة صدقوا بالله الباعث من القبور المجازي على كل عمل ظاهر أو مستور، وبرسوله محمد - ﷺ - الذي أخبر عن شؤون الله تعالى وصفاته. ولم يقل: وباليوم الآخر على ما هو المناسب لقوله: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ، اكتفاء بقوله: ﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ فإنه مشتمل على البعث والحساب. اهـ. "شيخنا". ﴿و﴾ آمنوا بـ ﴿النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾ على رسولنا محمد - ﷺ -، وهو القرآن الهادي لكم إلى سواء السبيل إذا تراكمت ظلمات الشبهات، والمنقذ لكم من الضلالة إذا أحاطت بكم الخطيئات. سمي نورًا لأنه بإعجازه بين بنفسه أنه حق نازل من عند الله تعالى، مبين لغيره ومظهر للحلال والحرام، كما أن النور كذلك. والالتفات إلى نون العظمة لإبراز كمال العناية.
ثم توعدهم على ما يأتون وما يذرون، فقال: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ من الامتثال
٩ - والظرف (١) في قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿لَتُنَبَّؤُنَّ﴾ قاله النحاس. وقال غيره: العامل فيه ﴿خَبِيرٌ﴾. وقيل: العامل فيه محذوف، تقديره: اذكر. وقال أبو البقاء: العامل فيه ما دل عليه الكلام؛ أي: تتفاوتون يوم يجمعكم.
وقرأ الجمهور: ﴿يَجْمَعُكُمْ﴾ بفتح الياء وضم العين. وروي عن أبي عمرو إسكانها، ولا وجه لذلك إلا التخفيف وإن لم يكن هذا موضعًا له. وقرأ زيد بن علي، والشعبي، ويعقوب، ونصر، وابن أبي إسحاق، والجحدري ﴿نجمعكم﴾ بالنون.
و ﴿اللام﴾ في قوله: ﴿لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ بمعنى في الظرفية، أو بمعنى اللام التعليلية؛ أي: واذكروا يوم يجمعكم الله سبحانه في يوم الجمع، وهو يوم القيامة، يجمع فيه الأولون والآخرون، من الجن والإنس، وأهل السماء وأهل الأرض. أو يجمع فيه الأولين والآخرين لأجل ما فيه من الحساب والجزاء.
﴿ذَلِكَ﴾ اليوم ﴿يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾؛ أي (٢): يوم ظهور غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الطاعات. وفي الحديث: "ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء؛ ليزداد شكرًا، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن، ليزداد حسرة". أو المعنى (٣): يوم يغبن فيه أهل الجنة أهل النار بأخذهم منازلهم التي كانت لهم في الجنة لو آمنوا، وبغبن فيه من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته، فيظهر في ذلك اليوم غبن كل كافر بتركه الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. والتغابن: تفاعل، من الغبن، وهو: أن تخسر صاحبك في معاملة بينك وبينه، بضرب من الإخفاء والتدليس. والتغابن: أن يغبن بعضهم بعضًا، ويوم القيامة يوم غبن بعض الناس بعضًا، بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء، وبالعكس. وفيه تهكم؛ لأن نزول الأشقياء منازل السعداء من النار لو كانوا أشقياء ليس غبنًا.
(٢) المراح.
(٣) الواحدي.
والمعنى (٢): وتذكروا يوم يجمع الأولين والآخرين للحساب والجزاء في صعيد واحد، يسمعهم الداعي، وينفذهم البصر؛ لتجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم، إن الله سريع الحساب. ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ فالكافرون قد اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، فخسرت صفقتهم ولم يربحوا فيها، والمؤمنون باعوا أنفسهم بالجنة فربحت صفقتهم وما كانوا خاسرين.
والخلاصة: أنه لا غبن أعظم من أن قومًا ينعمون وقومًا يعذبون، وأن قومًا مغبونون في الدنيا أصبحوا في الآخرة غابنين لمن غبنوهم فيها.
ثم بيّن هذا التغابن وفصله بقوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾ بالصدق والإخلاص بحسب نور استعداده ﴿وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾؛ أي: عملًا صالحًا بمقتضى إيمانه، فإن العمل إنما يكون بقدر الإيمان، وهو: أي العمل الصالح - ما يبتغى به وجه الله فرضًا أو نفلًا. ﴿يُكَفِّرْ﴾؛ أي: يغفر الله ويمح ﴿عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ يوم القيامة، فلا يفضحه بها. ﴿وَيُدْخِلْهُ﴾ بفضله وكرمه لا بالإيجاب ﴿جَنَّاتٍ﴾ وبساتين على حسب درجات أعماله ﴿تَجْرِي﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾؛ أي: من تحت قصورها أو أشجارها ﴿الْأَنْهَارُ﴾ الأربعة الجارية في الجنة، حال كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: في تلك الجنات. حال من الهاء في ﴿يُدْخِلْهُ﴾. وَحَّدَ أولًا حملًا على لفظ ﴿من﴾ ثم جمع حملًا على معناه. ﴿أَبَدًا﴾ ظرف متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾، وهو تأكيد للخلود. ﴿ذَلِكَ﴾؛ أي: ما ذكر من تكفير السيئات وإدخال الجنات ﴿الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز وراءه؛ لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات، والظفر بأجل الطيبات، فيكون أعلى حالًا من الفوز الكبير؛ لأنه يكون بجلب المنافع، كما في سورة البروج.
وفي "فتح الرحمن": قوله: ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ إلى قوله: ﴿أَبَدًا﴾
(٢) المراغي.
وقرأ الجمهور ﴿يُكَفِّرْ﴾ ﴿وَيُدْخِلْهُ﴾ بالتحتية. وقرأ نافع، وابن عامر، والأعرج، وشيبة، وأبو جعفر وطلحة، والمفضل عن عاصم، وزيد بن علي، والحسن بخلاف عنه: ﴿نكفر﴾ و ﴿ندخله﴾ بالنون فيهما.
والمعنى (١): ومن يصدق بالله ويعمل بطاعته وينته إلى أمره ونهيه.. يمح عنه ذنوبه ويدخله جنات تجري من تحت أشجارها الأنهار لابثين فيها أبدًا، لا يموتون ولا يخرجون منها، وذلك هو الفوز الذي لا فوز بعده؛ لانطوائه على النجاة من أعظم المهالك وأجل المخاطر.
١٠ - وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ تصريح بما علم التزامًا. والمراد بالآيات: إما القرآن أو المعجزات، فإن كلًّا منهما آية لصدق الرسول. ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾؛ أي: أهل النار، إما بمعنى مصاحبوها لخلودهم فيها، أو مالكوها تنزيلًا لهم منزلة الملاك للتهكم. حال كونهم ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾؛ أي: أبدًا، بقرينة المقابلة ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾؛ أي: المرجع. والمخصوص بالذم: النار، كأن هاتين الآيتين الكريمتين بيان لكيفية التغابن، وإنما قلنا: (كأن) لأن الواو يمانع الحمل على البيان كما عرف في فن المعاني، إذ لو كان للبيان.. لقال: من يؤمن بالله؛ أو فمن يؤمن بالله؛ أي: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا بأدلته وآي كتابه الذي أنزله على عبده محمد - ﷺ - أولئك أصحاب النار خالدين فيها أبدًا، وبئس النار مصيرًا لهم.
١١ - ﴿مَا﴾ نافية (٢) ولذا زاد ﴿مِن﴾ المؤكدة. ﴿أَصَابَ﴾ الخلق ﴿مِنْ مُصِيبَةٍ﴾ وبلية وشدة من المصائب الدنيوية في الأبدان والأولاد والأموال ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى. استثناء مفرغ منصوب المحل على الحال؛ أي: ما أصابت مصيبة متلبسة بشيء من الأشياء إلا حالة كونها متلبسة بإذن الله تعالى؛ أي: بتقديره وإرادته كأنها
(٢) روح البيان.
وهذا لا يعارض قوله تعالى في سورة الشورى: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾؛ أي: بسبب معاصيكم، ويتجاوز عن كثير منها ولا يعاقب عليها. أما أولًا: فلأن هذا القول في حق المجرمين، فكم من مصيبة تصيب من أصابته لأمر آخر من كثرة الأجر للصبر وتكفير السيئات لتوفية الأجر، إلى غير ذلك، وما أصاب المؤمنين فمن هذا القبيل. وأما ثانيًا: فلأن ما أصاب من ساء بسوء فعله فهو لم يصب إلا بإذن الله وإرادته أيضًا، كما قال تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾؛ أي: إيجادًا وإيصالًا، فسبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.
والمعنى: أي ما أصاب كل أحد مصيبة من المصائب إلا بإذن الله تعالى؛ أي: بقضائه وقدره. قال الفراء: ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: بأمر الله. وقيل: إلا بعلم الله.
قيل: سبب نزولها: أن الكفار قالوا (١): لو كان ما عليه المسلمون حقًا لصانهم الله عن المصائب في أموالهم وأبدانهم في الدنيا. فبين الله سبحانه أن ذلك إنما يصيبهم بتقديره ومشيئته، وفي إصابتها حكمة لا يعرفها إلا هو:
منها: تحصيل اليقين بأن ليس شيء من الأمر في أيديهم، فيبرؤون بذلك من حولهم وقوتهم إلى حول الله وقوته.
ومنها: ما سبق آنفًا من تكفير ذنوبهم وتكثير مثوباتهم بالصبر عليها والرضا بقضاء الله تعالى إلى غير ذلك.
ولو لم يصب الأنبياء والأولياء عن الدنيا وما يطرأ على الأجسام من الآلام والأوجاع.. لافتتن الخلق بما ظهر على أيديهم من المعجزات والكرامات.
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾؛ أي: يصدق به، ويعلم أنه لا يصيبه مصيبة إلا بإذن الله. والاكتفاء بالإيمان بالله لأنه الأصل ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾؛ أي: يوفق قلبه عند إصابتها للثبات والاسترجاع، فيثبت ولا يضطرب بأن يقول قولًا ويظهر وصفًا يدل على التضجر من قضاء الله وعدم الرضا به، ويسترجع ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. ومن عرف
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: كيف قال ذلك مع أن الهداية سابقة على الإيمان؟
قلت: ليس المراد يهد قلبه للإيمان، بل المراد: يهد لليقين عند نزول المصائب، فيعلم أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه. أو يهد للرضى والتسليم عند وجود المصائب، أو للاسترجاع عند نزولها؛ بأن يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون.. انتهى.
وقرأ الجمهور (١): ﴿يَهْدِ﴾ بفتح الياء وكسر الدال، مضارعًا لهدى، مجزومًا على جواب الشرط؛ أي: يهده الله. وقرأ قتادة، والسلمي، والضحاك، وأبو جعفر، وأبو عبد الرحمن: ﴿يُهْدَ﴾ بضم الياء وفتح الدال مبنيًا للمفعول، ﴿قَلْبُه﴾ بالرفع، وقرأ ابن جبير، وطلحة بن مصرف، وابن هرمز، والأزرق عن حمزة: ﴿نَهْدِ قَلْبَه﴾ بالنصب. وقرأ عكرمة، وعمرو بن دينار، ومالك بن دينار: ﴿يَهدأ﴾ بهمزة ساكنة، ﴿قَلْبُه﴾ بالرفع؛ أي: يطمئن قلبه ويسكن بإيمانه ولا يكون فيه اضطراب. وقرأ عمرو بن فائد: ﴿يَهْدَا﴾ بألف بدلًا من الهمزة الساكنة. وقرأ عكرمة، ومالك بن دينار أيضًا: ﴿يَهْدَ﴾ بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة الساكنة، وإبدال الهمزة ألفًا في مثل: يهدأ، ويقرأ ليس بقياس، خلافًا لمن أجاز ذلك قياسًا، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم تشبيهًا بألف يخشى إذا دخل الجازم عليه. وقرىء: ﴿يَهِدَّ﴾ بفتح الياء وكسر الهاء وتشديد الدال، ورفع ﴿قلبُه﴾ أيضًا بمعنى: يهتد، كقوله تعالى: ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى﴾. فجملة القراءات في ﴿يَهْدِ﴾ سبع، المختار منها قراءة الجمهور.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾ من الأشياء التي من جملتها: القلوب وأحوالها، كتسليم من انْقاد لأمره وكراهة من كرهه، وكآفاتها من العجب والريا مثلًا وخلوصها. ﴿عَلِيمٌ﴾ لا تخفى عليه خافية من ذلك، فيعلم إيمان المؤمن وخلوصه ويهد قلبه إلى ما ذُكر.
والمعنى: والله عليم بالأشياء كلها، فهو عليم بالقلوب وأحوالها ومطلع على سرها ونجواها، فاحذروه وراقبوه في السرّ والعلن، كما جاء في الأثر: "اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك".
١٢ - ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى إطاعة العبد لمولاه فيما يأمره وينهاه. ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ محمدًا - ﷺ - إطاعة الأمة لنبيها فيما يؤديه عن الله؛ أي: هونوا المصائب على أنفسكم ولا تشغلنكم عن الاشتغال بطاعته والعمل بكتابه، وعن الاشتغال بطاعة الرسول واتباع سننه، وليكن جل همتكم في السراء والضراء العمل بما شرع لكم.
وكرر (١) الأمر بالإطاعة للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية وتوضيح مورد التولي في قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾؛ أي: أعرضتم عن إطاعة الرسول ﴿فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا﴾ محمد - ﷺ - ﴿الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾؛ أي: التبليغ البيّن. والجملة الاسمية تعليل للجواب المحذوف؛ أي: فإن توليتم.. فلا بأس ولا مؤاخذة عليه بإعراضكم إذ ما عليه إلا التبليغ المبين، وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافًا إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه - ﷺ - والإشعار بمدار الحلم الذي هو كون وظيفته - ﷺ - محض البلاغ لا الإجبار على الإيمان، ولزيادة تشنيع التولي عنه.
١٣ - ثم أرشد إلى التوحيد والتوكل، فقال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى، مبتدأ خبره جملة قوله: ﴿لَا إِلَهَ﴾ في الوجود ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه؛ أي: الله سبحانه هو المستحق للمعبودية لا غيره، وهو القادر على الهداية والضلالة، لا شريك له في الإرشاد والإضلال، وليس بيد الرسول شيء من ذلك. ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى خاصة دون غيره لا استقلالًا ولا اشتراكًا ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ في تثبيت قلوبهم على الإيمان والصبر على المصائب.
والمعنى: وحدوا الله، وأخلصوا له العمل، وتوكلوا عليه. والآية كالخاتمة والفذلكة لما تقدم. وإظهار (١) الجلالة في موضع الإضمار للإشعار بعلية التوكل، والأمر به، فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية وقطع التعلق عما سواه بالمرة. وفي الآية حث لرسول الله - ﷺ - وللمؤمنين على الثبات على التوكل والازدياد فيه حتى ينصرهم على المكذبين وعلى من تولى عن الطاعة وقَبول أحكام الدين.
واعلم: أن التوكل من المقامات العالية، وهو إظهار العجز وترك الاعتماد على الغير. وفي "الحدائق": التوكل هو: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس. وظاهر الأمر وجوب التوكل مع أنه غير موجود في أكثر الناس، فيلزم أن يكونوا عاصين. ولعل المأمور به هو التوكل العقلي، وهو: أن يعتقد العبد أنه ما من مراد من مراداته الدنيوية والأخروية إلا وهو يحصل من الله، فيثق به في حصوله ويرجو منه، وإن كانت النفس تلتفت إلى الغير وتتوقع منه، نظرًا إلى اعتقاد سببيته والله مسبب الأسباب. وأما التوكل الطبيعي الذي لا يكون ثقة صاحبه طبعًا إلا بالله وحده، ولا اعتماده إلا عليه في جميع مقاصده مع قطع النظر عن الأغيار كلها رأسًا.. فهو عسير، قلما يوجد إلا في الأنبياء والكمل من الأولياء.
وفي "اللباب": إن قوله: ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ يدخل فيه الذَّكر، فكما أن الرجل تكون زوجته وولده عدوًا له.. كذلك المرأة يكون زوجها عدوًا لها بهذا المعنى، فيكون الخطاب هنا عامًا على التغليب، ويحتمل أن يكون الدخول باعتبار الحكم لا باعتبار الخطاب. انتهى.
(٢) روح البيان.
والضمير في قوله (١): ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ يعود إلى العدو أو إلى الأزواج والأولاد لكن لا على العموم بل إلى المتصفين بالعداوة منهم، إنما جاز جمع الضمير على الوجه الأول؛ لأن العدو يطلق على الواحد والاثنين والجماعة. والحذر (٢) الاحتراز عن المخيف؛ أي: احفظوا أنفسكم من محبتهم وشدة التعلق والاحتجاب بهم، ولا تؤثروا حقوقهم على حقوق الله تعالى. وفي الحديث: "إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم، وأمركم شورى بينكم - أي: ذا تشاور لا ينفرد أحد برأي دون صاحبه - فظهر الأرض خير لكم من بطنها. وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلاءكم، وأمركم إلى نسائكم.. فبطن الأرض خير لكم من ظهرها". وفي الحديث: "شاوروهن وخالفوهن" (٣).
والمعنى (٤): يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله! إن من أزواجكم وأولادكم أعداء لكم، يحولون بينكم وبين الطاعات التي تقربكم من ربكم والأعمال الصالحة التي تنفعكم في آخرتكم، وربما حملوكم على السعي في اكتساب الحرام واكتساب الآثام لمنفعة أنفسهم. وروي: أن النبي - ﷺ - قال: "يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده، يعيرانه بالفقر، فيركب مراكب السوء فيهلك". ومن الناس من يحمله حبهم، والشفقة عليهم ليكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته، فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سببًا لذلك، وإن لم يطالبوه، فيهلك.
(٢) روح البيان.
(٣) هذا ليس بحديث وربما كان أثرًا عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. اهـ.
(٤) المراغي.
والخلاصة (١): أنه إما أن يراد بالعداوة العداوة الأخروية، فإن الأزواج والأولاد ربما أضرّوا بأزواجهم وآبائهم فيها إذا منعوهم عن عمل الخير لها، وإما أن يراد العداوة في الدنيا، فتكون عداوة حقيقية بينهم لها آثارها الدنيوية.
ثم أرشدهم إلى التجاوز عن بعض هناتهم فقال: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا﴾ عن ذنوبهم القابلة للعفو؛ بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا أو بأمور الدين، لكن مقارنة للتوبة. ﴿وَتَصْفَحُوا﴾؛ أي: تعرضوا عنها بترك التثريب والتعيير. يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه والتثريب عليه. ﴿وَتَغْفِرُوا﴾ بإخفائها وتمهيد عذرها ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾؛ أي: بليغ المغفرة والرحمة لكم ولهم، يعاملكم بمثل ما عملتم ويتفضل عليكم.
قيل: كان رجل ثبطه أزواجه وأولاده عن الهجرة، لما رأى الناس قد سبقوه إليها وفقهوا في الدين.. هم أن يعاقب أزواجه وأولاده، فأنزل الله ﴿وَإِنْ تَعْفُوا﴾ الآية، والآية تعم وإن كان السبب خاصًا.
وحكي أن الحطيئة - شاعر مشهور - أراد سفرًا، فقال لامرأته:
عُدِّي السِّنِيّنَ لِغَيْبَتِي وَتَصَبَّرِيْ | وَذَرِي الشُّهُورَ فَإِنَّهُنَ قِصَارُ |
وَاذْكُرْ صَبَابَتَنَا إِلَيْكَ وَشَوْقَنَا | وَارْحَمْ بَنَاتِكَ إِنَّهُن صِغَارُ |
١٥ - ثم أخبر سبحانه بان الأموال والأولاد فتنة، فقال: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾؛ أي: بلاء واختبار ومحنة، يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله، فلا تطيعوهم في معصية الله.
أخرج أحمد، والطبراني، والحاكم، والترمذي عن كعب بن عياض قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: "إن لكل أمة فتنة، وإن فتنة أمتي المال". ولم يذكر ﴿مِنْ﴾ في ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ لأنهما لا يخلوان من الفتنة واشتغال القلب بهما. وترك ذكر الأزواج في الفتنة - قال البقاعي -: لأن منهن من يكن صلاحًا وعونًا على الآخرة.
وجيء (١) بـ ﴿إِنَّمَا﴾ للحصر؛ لأن جميع الأموال والأولاد فتنة؛ لأنه لا يرجع إلى مال أو ولد إلا وهو مشتمل على فتنة واشتغال قلب. وتأخير الأولاد من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى؛ لأن الأولاد ألصق بالقلوب من الأموال لكونهم من أجزاء الآباء بخلاف الأموال؛ فإنها من توابع الوجود وملحقاته.
﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ لمن آثر محبته وطاعته على محبة الأموال والأولاد والتدبير في مصالحهم وعلى طاعتهم، فلا تباشروا المعاصي بسبب الأولاد، ولا تؤاثروهم على ما عند الله من الأجر العظيم، زهدهم في الدنيا بذكر عيبها، ورغبهم في الآخرة بذكر نعيمها.
وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -: لا يقولن أحدكم: اللهم اعصمني من الفتنة، فإنه ليس أحد منكم يرجع إلى مال وولد إلا وهو مشتمل على فتنة، ولكن ليقل: اللهم إني أعوذ بك من مضلات الفتن.
روي: أن أول ما يتعلق بالرجل يوم القيامة أهله وأولاده، فيوقفونه بين يدي الله تعالى ويقولون: يا ربنا! خذ بحقنا منه، فإنه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا الحرام، ونحن لا نعلم، فيقضى لهم منه، وتأخذ عياله حسناته، فلا يبقى له حسنة.
وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات وهو: دود يقع في الطعام والثوب
١٦ - ثم أمرهم سبحانه بالتقوى والطاعة، فقال: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾؛ أي: ما أطقتم وبلغ إليه جهدكم؛ أي: ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم، و ﴿الفاء﴾ فيه للإفصاح؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا علمتم ما ذكرت لكم وانتصحتم به.. فأقول لكم: اتقوا ما يكون سببًا لمؤاخذة الله إياكم من تدبير أمورهما، ولا ترتكبوا ما يخالف أمره تعالى من فعل أو ترك. وهذه الآية ناسخة لقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ﴾ لما اشتد عليهم بأن قاموا حتى ورمت أقدامهم وتقرحت جباههم، فنزلت تيسيرًا لعباد الله. وممن قال بالنسخ: قتادة، والربيع بن أنس، والسدي، وابن زيد. وعن ابن عباس: أنها آية محكمة لا ناسخ فيها. ولعله - رضي الله عنه - جمع بين الآيتين بأن يقول هنا وهنالك: فاتقوا الله حق تقاته ما استطعتم، واجتهدوا في الإنصاف به بقدر طاقتكم، فإنه لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها.
والمعنى: ابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم. إذا أمرتكم بأمر.. فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه.
﴿وَاسْمَعُوا﴾ مواعظه ﴿وَأَطِيعُوا﴾ أوامره ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصًا لوجهه. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن المراد إنفاق الزكاة، والظاهر (١) العموم، وهو مندرح في الإطاعة. ولعل إفراده بالذِّكر لِما أن الاحتياج إليه كان أشد حينئذٍ، وأن المال شقيق الروح ومحبوب النفس، ومن ذلك قدم الأموال على الأولاد في جميع المواضع. وقال مقاتل: ﴿وَاسْمَعُوا﴾؛ أي: أصغوا إلى ما ينزل عليكم. ﴿وَأَطِيعُوا﴾ لرسوله فيما يأمركم وينهاكم. وقيل: معنى ﴿أسمعوا﴾ اقبلوا ما تسمعون؛ لأنه لا فائدة في مجرد السماع. ﴿وَأَنْفِقُوا﴾ من أموالكم التي رزقكم الله إياها في وجوه الخير ولا تبخلوا بها. ﴿خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ﴾ خبر لـ ﴿يكن﴾ المقدر جوابًا للأوامر المذكورة؛ أي: يكن ما ذُكر من السمع والطاعة، والإنفاق خيرًا لأنفسكم. أو مفعول لفعل محذوف؛ أي: ائتوا وافعلوا
والمعنى: ﴿وَاسْمَعُوا...﴾ إلخ؛ أي: كونوا منقادين لما يأمركم الله ورسوله به، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة، ولا ترتكبوا ما نهيتم عنه، وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين وذوي الحاجات، وفي الوجوه التي يكون فيها صلاح الأمة والملة وسعادة الدين والدنيا، يكن ذلك خيرًا لأنفسكم من الأموال والأولاد. وهذا حث على البذل، وبيان أن الامتثال خير لا محالة.
ثم زاد في الحث على الإنفاف، فقال: ﴿وَمَن يُوقَ﴾ ويعصم ﴿شُحَّ نَفْسِهِ﴾؛ أي: بُخْلَ نفسه عن الإنفاق؛ أي: ومن يقه الله سبحانه ويعصمه من بخل نفسه الذي هو الرذيلة المعجونة في طينة النفس. وهو مضارع مجهول مجزوم الآخر بـ ﴿من﴾ الشرطية من الوقاية المتعدية إلى مفعولين. و ﴿شُحَّ﴾ مفعول ثان له باق على النصب والأول: الضمير القائم مقام الفاعل. ﴿فَأُولَئِكَ﴾ الموقون شح النفس ﴿هُمُ﴾ لا غيرهم ﴿الْمُفْلِحُونَ﴾؛ أي: الفائزون بكل خير.
والمعنى (١): ومن يبتعد عن البخل والحرص على المال.. يكن من الفائزين بكل ما يرجو وقيل كل ما يبغي في دينه ودنياه، فيكون محببًا إلى الناس قرير العين برضاهم عنه وحنوهم عليه، سعيدًا في الآخرة بالقرب من ربه ومحبته ورضوانه ودخول جنانه.
١٧ - ثم بالغ في الحث على الإنفاف أيضًا، فقال: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى بصرف أموالكم إلى المصارف التي عينها. وذِكرُ القرض تلطفّ في الاستدعاء. ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾؛ أي (٢): قرضًا مقرونًا بالإخلاص وطيب النفس. والقرض في العرف: أن يعطي أحدًا شيئًا من ماله ليرد بدله، وإقراض الله مثل لتقديم العمل الذي يطلب ثوابه من الله. و ﴿قَرْضًا﴾ إن كان بمعنى إقراضًا.. كان نصبه على المصدرية وإن كان بمعنى مقرضًا من النفقة.. كان مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تُقْرِضُوا﴾ لأن
(٢) روح البيان.
ثم بيّن علة المضاعفة ورغب في النفقة، فقال: ﴿وَاللَّهُ﴾ سبحانه ﴿شَكُورٌ﴾ يعطي الكثير بمقابلة اليسير من الطاعة، أو يجازي العبد على الشكر. وهو الاعتراف بالنعمة على سبيل الخضوع، فسمى جزاء الشكر شكرًا، أو الله شكور، بمعنى: أنه كثير الثناء على عبده، بذكر أفعاله الحسنة وطاعته، فالشكر: الثناء على المحسن بذِكر إحسانه. ﴿حَلِيمٌ﴾ لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم بالبخل والإمساك ونحوهما، فيحلم حتى يظن الجاهل أنه ليس يعلم، ويستر حتى يتوهم الغافل أنه ليس يبصر. قال الإمام الغزالي رحمه الله: الحليم: هو الذي يشاهد معصية العصاة ويرى مخالفة الأمر، ثم لا يتسفزه غضب ولا يعتريه غيظة، ولا يحمله على المسارعة إلى الانتقام - مع غاية الاقتدار - عجلةٌ وطيش، كما قال تعالى: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾.
١٨ - ثم ذكر ما يزيد في الترغيب في النفقة أيضًا، فقال: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ خبر بعد خبر؛ أي: عالم ما غاب عنا وما شوهد لنا، لا تخفى عليه من خافية. وقد سبق الكلام عليه في أواخر سورة الحشر. ولعل تقديم الغيب على الشهادة، لأن عالمَ الغيب أعمّ والعِلم به أتم. وهو ﴿الْعَزِيز﴾؛ أي: الغالب القاهر الذي لا يغالب، ولا يمانع من تنفيذ مراده. ﴿الْحَكِيمُ﴾؛ أي: ذو الحكمة البالغة في تدبير أمور خلقه.
والمعنى: هو العليم بما غاب عنكم وبما تشهدونه، فكل ما تعملون فهو محفوظ لديه في أمّ الكتاب، لا يعزب عنه مثقال ذرة، وسيثيبكم عليه ويجازيكم به أحسن الجزاء، وهو ذو العزّة والقدرة، النافذ الإرادة، الحكيم في تدبير خلقه على
الإعراب
﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)﴾.
﴿يسبح﴾ فعل مضارع، ﴿لِلَّهِ﴾: متعلق به، أو (اللام) زائدة في المفعول، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع فاعل، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ (ما) الموصولة، ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾. والجملة الفعلية مستأنفة. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿الْمُلْكُ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب حال من لفظ الجلالة في قوله: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ﴾. ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾: معطوف على ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾. ﴿وَهُوَ﴾: مبتدأ، ﴿عَلَى كُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿قَدِيرٌ﴾، و ﴿قَدِيرٌ﴾ خبر ﴿هو﴾. والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، وجملة ﴿خَلَقَكُمْ﴾ صلة الموصول. والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿فَمِنْكُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، (منكم) خبر مقدم، و ﴿كافر﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على جملة الصلة، أعني، ﴿خَلَقَكُمْ﴾، أو على الجملة الاسمية، أعني قوله: ﴿هُوَ الَّذِي﴾. وفي "الفتوحات": قوله: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ...﴾ إلخ ظاهر تقديرهم أنه معطوف على الصلة، ولا يضره عدم العائد؛ لأن المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين. أو تقول: هي معطوفة على جملة ﴿هُوَ الَّذِى...﴾ إلخ. اهـ "شهاب". قال الخطيب: والتقدير: هو الذي خلقكم ثم وصفكم فقال: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾. وقوله: ﴿وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ﴾: معطوف على قوله: ﴿فَمِنْكُمْ كَافِرٌ﴾. ﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ، ﴿بما﴾: متعلق بـ ﴿بَصِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾ صلة لـ (ما)، و ﴿بصير﴾: خبر عن الجلالة. والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)﴾.
﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل وفاعل مستتر، ومفعول به، ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على
﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤)﴾.
﴿يَعْلَمُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الله﴾، ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب مفعول به، والجملة مستأنفة، أو في محل النصب حال من فاعل ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾، ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿والأرض﴾: معطوف على ﴿السَّمَاوَاتِ﴾، ﴿وَيَعْلَمُ مَا﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ﴾، وجملة ﴿تُسِرُّونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾: معطوف على ﴿مَا تُسِرُّونَ﴾. ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ متعلق بـ ﴿عَلِيم﴾ والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٥)﴾.
﴿أَلَمْ﴾: (الهمزة): للاستفهام التقريري التوبيخي، ﴿لم﴾: حرف جزم، ﴿يأتكم﴾: فعل ومفعول به مجزوم بـ ﴿لم﴾، وعلامة جزمه حذف حرف العلة، ﴿نَبَأُ﴾: فاعل، ﴿الَّذِينَ﴾: مضاف إليه، والجملة ممستأنفة، ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول، ﴿مِنْ قَبْلُ﴾: متعلق بـ ﴿كَفَرُوا﴾، أو حال من فاعل ﴿كَفَرُوا﴾. ﴿فَذَاقُوا﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿ذاقوا﴾ فعل، وفاعل معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿وَلَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿ذاقوا﴾ عطف تفسير.
﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)﴾.
﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿بِأَنَّهُ﴾: خبر، والجملة مستأنفة؛ أي: ذلك كائن بسبب أنه كانت... إلخ. ﴿أَنَّهُ﴾: ناصب واسمه، ﴿كَانَتْ﴾: فعل ناقص واسمها ضمير يعود
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧)﴾.
﴿زَعَمَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن؛ أي: أنه. ﴿لَنْ﴾: حرف نصب، ﴿يُبْعَثُوا﴾: فعل ونائب فاعل منصوب بـ ﴿لن﴾، والجملة في محل الرفع خبر ﴿أَن﴾ المخففة، وجملة ﴿أَن﴾ المخففة في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿زَعَمَ﴾؛ أي: زعم الذين كفروا عدم بعثهم من القبور. ﴿قُل﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿بلى﴾: حرف جواب لإثبات النفي، قائم مقام الجواب، تقديره: قل: بلى تبعثون، وجملة الجواب المحذوف في محل النصب مقول ﴿قُل﴾. ﴿وَرَبِّي﴾: (الواو): حرف جر وقسم، (ربي): مجرور بواو القسم، ومضاف إلى الياء، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم بربي. ﴿لَتُبْعَثُنَّ﴾: (اللام): موطئة للقسم، (تبعثن)؛ فعل مضارع مغير الصيغة مرفوع، وعلامة رفعه ثبات النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة لالتقاء الساكنين، نائب فاعل. والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب، وجملة
﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)﴾.
﴿فَآمِنُوا﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا كان الأمر كذلك وأردتم بيان ما هو اللازم لكم.. فأقول لكم: آمنوا. ﴿آمنوا﴾: فعل أمر، وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ (آمنوا)، ﴿وَرَسُولِهِ﴾: معطوف على الجلالة، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَالنُّورِ﴾: معطوف على الجلالة أيضًا، ﴿الَّذِي﴾: صفة لـ ﴿النُّورِ﴾ وجملة ﴿أَنْزَلْنَا﴾: صلة الموصول، والعائد محذوف، تقديره: والنور الذي أنزلناه. و ﴿الله﴾: مبتدأ، ﴿بِمَا﴾: متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾، وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾، ﴿خَبِيرٌ﴾: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة.
﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)﴾.
﴿يَوْمَ﴾: ظرف متعلق بـ ﴿خَبِيرٌ﴾، أو بمحذوف دل عليه سياق الكلام؛ أي: تتفاوتون يوم يجمعكم. أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: اذكروا يوم. وجملة ﴿يَجْمَعُكُمْ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يَوْمَ﴾ ﴿لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾: متعلق بـ ﴿يَجْمَعُكُمْ﴾. ﴿ذَلِكَ﴾: مبتدأ، ﴿يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾: خبره، والجملة مستأنفة. ﴿وَمَنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿مَنْ﴾ اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يُؤْمِنْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بِاللهِ﴾ متعلق بـ ﴿يُؤْمِنْ﴾، ﴿وَيَعْمَلْ﴾: فعل مضارع معطوف على ﴿يُؤْمِنْ﴾، ﴿صَالِحًا﴾: مفعول به، أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: عملًا صالحًا. ﴿يُكَفِّرْ﴾ فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه جواب الشرط، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿يُكَفِّرْ﴾، ﴿سَيِّئَاتِهِ﴾: مفعول به،
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠)﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلة الموصول، ﴿وَكَذَّبُوا﴾: معطوف على ﴿كَفَرُوا﴾، ﴿بِآيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾، ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ثان، ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾: خبره، والجملة من المبتدأ الثاني، وخبره خبر عن الأول، وجملة الأول معطوفة على ما قبلها. ﴿خَالِدِينَ﴾: حال من أصحاب النار، ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدِينَ﴾، ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية، ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة. والمخصوص بالذم محذوف، تقديره: هي؛ أي: النار.
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)﴾.
﴿مَا﴾: نافية، ﴿أَصَابَ﴾: فعل ماض، ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿مُصِيبَةٍ﴾: فاعل، ومفعول أصاب محذوف، تقديره: ما أصابت مصيبة أحدًا من الناس. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ، ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿أَصَابَ﴾، والجملة مستأنفة مسوقة للرد على الكفار الذين قالوا: لو كان المسلمون على حق لصانهم الله من المصائب في الدنيا. ﴿وَمَن﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ والخبر جملة الشرط، أو الجواب، أو هما، ﴿يُؤْمِنْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾، ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يُؤْمِنْ﴾، ﴿يَهْدِ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿مَنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿الله﴾، ﴿قَلْبَهُ﴾: مفعول به، والجملة الشرطية معطوفة على جملة ﴿مَآ أَصابَ﴾. ﴿اللَّهِ﴾: مبتدأ، ﴿بِكُلِّ شَيْءٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾، و ﴿عَلِيمٌ﴾: خبر عن الجلالة،
﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٢)﴾.
﴿وَأَطِيعُوا﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة، ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ﴾: فعل أمر وفاعل ومفعول به، والجملة معطوفة على جملة الشرط، أو مستأنفة. ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، معطوف على ما قبله. ﴿فَإِنْ﴾: ﴿الفاء﴾: استننافية، ﴿إنْ﴾: حرف شرط، ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف تقديره: فلا بأس على رسولنا. وجملة الشرط مع جوابه مستأنفة، ﴿فَإِنَّمَا﴾: ﴿الفاء﴾: تعليلية، ﴿إنما﴾: أداة حصر، ﴿عَلَى رَسُولِنَا﴾: خبر مقدم، ﴿الْبَلَاغُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿الْمُبِينُ﴾: صفة للبلاغ، والجملة الاسمية جملة تعليلية للجواب المحذوف، لا محل لها من الإعراب.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)﴾.
﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ، وجملة، ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾: خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية مستأنفة، وقد تقدم لك إعراب الكلمة المشرفة في غير ما موضع. ﴿وَعَلَى اللَّهِ﴾: ﴿الواو﴾: زائدة، ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يتوكل﴾، ﴿فَلْيَتَوَكَّلِ﴾: ﴿الفاء﴾: عاطفة، و ﴿اللام﴾: لام الأمر، ﴿يتوكل﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، ﴿الْمُؤْمِنُونَ﴾: فاعل والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾. ﴿يَا أَيُّهَا﴾: منادى نكرة مقصودة، والجملة مستأنفة، ﴿الَّذِينَ﴾: بدل من ﴿أيُّ﴾، وجملة ﴿آمَنُوا﴾ صلة الموصول، ﴿إنَّ﴾ حرف نصب، ﴿مِنْ أَزْوَاجِكُمْ﴾ خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾، ﴿وَأَوْلَادِكُمْ﴾: معطوف على ﴿أَزْوَاجِكُمْ﴾، ﴿عَدُوًّا﴾: اسم ﴿إنَّ﴾ مؤخر، ﴿لكم﴾: صفة لـ ﴿عَدُوًّا﴾ أو متعلق به، وجملة ﴿إنَّ﴾ جواب النداء، لا محل لها من الإعراب. ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفتم ذلك وأردتم بيان اللازم لكم.. فأقول لكم: احذروهم. ﴿احذروا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، و ﴿الهاء﴾: مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة
﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦)﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ﴿أَمْوَالُكُمْ﴾: مبتدأ أول، ﴿وَأَوْلَادُكُمْ﴾ معطوفة. ﴿فِتْنَةٌ﴾: خبر ﴿وَاللَّهُ عِنْدَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿أَجْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة ﴿أجر﴾، والجملة في محل الرفع خبر عن الجلالة، وجملة الجلالة مستأنفة. ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، وتقديره: إذا علمتم أنه تعالى جعل أموالكم وأولادكم فتنة لكم شاغلة عن الآخرة، وأردتم بيان النصيحة لكم.. فأقول لكم: اتقوا الله. ﴿فَاتَّقُوا﴾: فعل أمر مبني على حذف النون، و ﴿الواو﴾: فاعل، ولفظ الجلالة مفعول به، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ ﴿مَا﴾: مصدرية ﴿اسْتَطَعْتُمْ﴾: فعل، وفاعل صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية، وجملة ﴿ما﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية، تقديره: فاتقوا الله استطاعتكم وجهدكم، ولكنه على تقدير مضاف. أي: بقدر استطاعتكم. ﴿وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا﴾: معطوفات على ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾، ﴿خَيْرًا﴾: خبر لـ ﴿يكن﴾ المحذوفة، المجزوم بالطلب السابق، تقديره: يكن ذلك الإنفاق خيرًا لأنفسكم، كما قاله أبو عبيد أو مفعول به لفعل محذوف تقديره: وأتوا خيرًا لأنفسكم. كقوله: ﴿انتهوا خيرًا لكم﴾ كما قاله سيبويه. أو نعت لمصدر محذوف؛ أي: إنفاقًا خيرًا، كما قاله الكسائي والفراء. أو منصوب على الحال، كما قاله الكوفيون. أو منصوب بأنفقوا؛ أي: أنفقوا مالًا خيرًا، وقوله: ﴿لِأَنْفُسِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرًا﴾. ﴿وَمَنْ يُوقَ﴾:
﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)﴾.
﴿إِنْ﴾: حرف شرط ﴿تُقْرِضُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، و ﴿الواو﴾: فاعل، ﴿اللَّهَ﴾ مفعول به، ﴿قَرْضًا﴾: مفعول مطلق، ﴿حَسَنًا﴾: صفة ﴿قَرْضًا﴾، ﴿يُضَاعِفْهُ﴾: فعل مضارع، ومفعول به مجزوم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه جوابًا لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿يضاعف﴾، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة، ﴿وَيَغْفِرْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿يضاعف﴾: مجزوم على أنه جواب الشرط، ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به. ﴿وَاللَّهُ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿اللَّهَ﴾: مبتدأ، ﴿شَكُورٌ﴾: خبر أول، ﴿حَلِيمٌ﴾: خبر ثان، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو عالم الغيب، و ﴿الْغَيْبِ﴾: مضاف إليه، ﴿وَالشَّهَادَةِ﴾: معطوف عليه، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها أيضًا، ﴿الْعَزِيزُ﴾: خبر ثان لذلك المحذوف، ﴿الْحَكِيمُ﴾: خبر ثالث له. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ والملك - بضم الميم - هو: الاستيلاء والتمكن من التصرف في كل شيء على حسب ما أراده في الأزل. قال الرازي: المُلك: تمام القدرة واستحكامها، يقال: ملِك بين المُلك بالضم، ومالك بين المِلك بالكسر. {هُوَ الَّذِي
﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ والزعم: ادعاء العلم بالشيء، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل، فمعنى زعم فلان كذا: ادعي علمه بحصوله، فمعنى زعمت زيدًا قائمًا: أقول إنه كذا. ففي تصدير الجملة بقوله: (زعمت) إشعار بأنه لا سند للحكم سوى ادعائه إياه وقوله به. ﴿أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا﴾: ﴿أَن﴾ مخففة من الثقيلة، ﴿لَن﴾: ناصبة؛ لئلا يدخل ناصب على ناصب. ﴿بَلَى﴾: كلمة للجواب تقع بعد النفي لإثبات ما بعده، كما وقع في الآية. ﴿لَتُبْعَثُنَّ﴾؛ أي: لتحاسبن، وتجزون بأعمالكم. أصله: لتبعثون، بنون واحدة، ثم اتصلت به نون التوكيد الثقيلة فصار لتبعثونن بثلاث نونات فحذفت نون الرفع لتوالي الأمثال فصار لتبعثونّ فالتقى ساكنان فحذفت الواو لذلك، وكذا القول في قوله: ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ﴾ لا يختلفان.
﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ والتغابن تفاعل من الغبن، وليس على بابه، يقال: تغابن القوم في التجارة، إذا غبن بعضهم بعضًا في معاملة بينهم بضرب من التدليس؛ كأن يبيع أحدهم الشيء بأقل من قيمته، فهذا غبن البائع، أو يشتريه بأكثر من قيمته،
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾: أصل هذه المادة: (وق ي)؛ لأن المصدر منها الوقاية. وأصل اتقوا: اوتقيوا، أبدلت الواو فاء الكلمة تاءً وأدغمت في تاء الافتعال، ثم استثقلت الضمة على الياء فحذفت للتخفيف، فلما سكنت حذفت لالتقائها ساكنة مع واو الجماعة، فحذفت وضمت القاف لمناسبة الواو، وهذا بعد حذف نون الرفع عند بناء الأمر من الأفعال الخمسة. قوله: ﴿اسْتَطَعْتُمْ﴾ فيه إعلال بالنقل والحذف، أصله: استطوع، بوزن استفعل، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت الواو لما سلبت حركتها، ثم لما أسند الفعل إلى ضمير الرفع المتحرك سكن آخره فالتقى ساكنان حينئذٍ، وهما: الواو عين الفعل، والعين لامه، فحذفت الواو، فوزنه: استفلتم. قوله: ﴿وَأَطِيعُوا﴾ أصله: وأطوعوا، نقلت حركة الواو إلى الطاء فسكنت إثر كسرة، فقلبت ياء حرف مد. ﴿يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾: يوق بوزن يفع؛ لحذف لامه للجازم؛ أي: يكف ويحفظ ويعصم؛ أي: يكفه الله شح نفسه، فيفعل في ماله جميع ما أمر به موقنًا به مطمئنًا إليه، حتى ترتفع عن قلبه الأخطار. والشح: خُلق باطني، هو الداء العضال، والبخل: فعل ظاهر ينشأ عن الشح. والنفس تارة تشح بترك المعاصي بأن تفعلها، وتارة تشح بالطاعات فتتركها، وتارة تشح بإعطاء المال. ومن فعل ما فرض عليه.. خرج عن الشح. اهـ. "خطيب".
﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ والقرض الحسن هو: التصدق من الحلال بإخلاص وطيب نفس. قال في "اللباب": القرض: القطع، ومنه: المقراض لما يقطع، وانقرض القوم إذا هلكوا، وانقطع أثرهم. وقيل للقرض: قرض، لأنه قطع شيء من المال، هذا أصل الاشتقاق. ثم اختلفوا فيه، فقيل: اسم لكل ما يلتمس عليه الجزاء، سمي قرضًا من حيث التزام الله سبحانه المجازاة عليه. وفي تسميته قرضًا أيضًا مزيد
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: تكرار (ما) في قوله: ﴿وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾، وفي قوله: ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾. إفادة للتأكيد والتعميم، وإيذانًا للاختلاف؛ لأن تسبيح ما في السماوات مخالف لتسبيح ما في الأرض كثرة وقلة، وإسرارنا مخالف لعلانيتنا. ولم تُكرر ﴿مَا﴾ في قوله: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ لعدم اختلاف علمه تعالى؛ إذ علمه بما تحت الأرض كعلمه بما فوقها، وعلمه بما يكون كعلمه بما كان.
ومنها: تقديم الخبر على المبتدأ في قوله: ﴿لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ للدلالة على اختصاص الأمرين به تعالى من حيث الحقيقة؛ لأنه مبدؤ كل شيء ومبدعه، فكان الملك له حقيقة دون غيوه، ولأن أصول النِّعم وفروعها منه تعالى. فالحمد له تعالى حقيقة، وحمد غيره إنما يقع من حيث ظاهر الحال وجريان النِّعم على يديه. اهـ. "كرخي".
ومنها: الطباق بين ﴿السَّمَاوَاتِ﴾ و ﴿الْأَرْضِ﴾ وبين ﴿كَافِرٌ﴾ و ﴿مُؤْمِنٌ﴾، وبين ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ﴾.
ومنها: عطف المسبب على السبب في قوله: ﴿كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾؛ لأن الذوق مسبب عن الكفر.
ومنها: الترقي من الأظهر إلى الأخفى في هذه الثلاثة المذكورة، لأنه تعالى عالم بما في السماوات وما في الأرض، وبما يصدر من بني آدم سرًا وعلنًا، وبما لم يصدر بعد بل هو مكنون في الصدور.
ومنها: إظهار الجلالة في قوله: ﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ للإشعار بعلية الحكم وتأكيد استقلال الجملة قبل.
ومنها: الجناس الناقص في قوله: ﴿وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ لاختلاف الحركات في الشكل.
ومنها: التعبير بالذوق في قوله: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ إشارة إلى أن ذلك المذوق العاجل شيء حقير بالنسبة إلى ما سيرون من العذاب الآجل.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾؛ لأن الوبال حقيقة في الثقل، فاستعاره للعقوبة؛ لأنها كالشيء الثقيل المحسوس.
ومنها: التعبير عن كفرهم بالأمر في قوله: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾؛ أي: كفرهم؛ للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾.
ومنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا﴾. أطلق على القرآن النور بطريق الاستعارة التصريحية بجامع الإزالة في كلّ، فإن القرآن يزيل الشبهات كما يزيل النور الظلمات.
ومنها: الالتفات إلى نون العظمة في قوله: ﴿أَنْزَلْنَا﴾ لإبراز كمال العناية.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾. شبهت حال الفريقين المتمكنين من اختيار ما يؤدي إلى سعادة الآخرة، فاختار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرًا عليه بدل ما اختاره الآخر. وشبهه بحال المتبادلين بالتجارة، وشبه ما يتفرع عليه من نزول كل منهما منزلة الآخر بالتغابن؛ لأن التغابن تفاعل من الغبن، وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته، وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة ولا معاوضة في الآخرة فإطلاق التغابن علي ما يكون فيها إنما هو بطريق الاستعارة التمثيلية. وفي الآية أيضًا فن التهكم؛ لأنه يتهكم بالأشقياء، لأن نزولهم منازلهم في النار ليس بغبن.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ للتأكيد والإيذان بالفرق بين الطاعتين في الكيفية، وتوضيح مورد التولي في قوله: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾؛ أي: أعرضتم عن إطاعة الرسول، كما مر في مبحث التفسير.
ومنها: إظهار الرسول مضافًا إلى نون العظيمة في مقام إضماره؛ لتشريفه - ﷺ -، والإشعار بمدار الحلم الذي هو كون وظيفته - ﷺ - محض البلاغ، ولزيادة تشنيع التولي عنه - ﷺ -.
ومنها: إظهار الجلالة في قوله: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ في موضع الإضمار، للإشعار بعلية التوكل، والأمر به. فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى، وقطع التعلق عما سواه بالمرة.
ومنها: الإتيان بـ ﴿مِنْ﴾ التبعيضية في قوله: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ﴾ إشعارًا بأن منها ما ليس بعدو بل هو عون على الدنيا والآخرة.
ومنها: الحث على العفو والصفح في قوله: ﴿وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا﴾ إشعارًا بأنه ليس المراد من الأمر بالحذر وتركهم بالكلية والإعراض عن معاشرتهم ومصاحبتهم، كيف؟ والنساء من أعظم نعم الجنة، وبها نظام العالم. فإنه لولا الأزواج لما وجد الأنبياء والأولياء والعلماء والصلحاء، وإنما يحذر من التعلق بها،
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ﴾؛ لأن جميع الأموال والأولاد فتنة؛ لأنه لا يرجع إلى مال أو ولد إلا وهو مشغول القلب به.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ شبه الإنفاق في سبيل الله والتصدق على الفقراء بمن يقرض الله قرضًا حسنًا وأحب الوفاء، وذلك بطريق التمثيل، وهو من لطيف الاستعارة وبديع العبارة، وقيل في قوله: ﴿إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ﴾ استعارة تصريحية تبعية، وفي قوله: ﴿قَرْضًا حَسَنًا﴾ استعارة تصريحية أصلية.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على ما يلي:
١ - صفات الله الحسنى.
٢ - إنذار المشركين بذكر ما حل بمن قبلهم من الأمم.
٣ - إنكار المشركين للبعث.
٤ - بيان أن ما يحدث في الكون فهو بأمر الله وتقديره.
٥ - تسلية الرسول - ﷺ - بأنه لا يضيره إصرارهم على الكفر.
٦ - أن من الأزواج والأولاد أعداء للمرء.
٧ - الأموال والأولاد فتنة.
٨ - الحث على التقوى والإنفاق في سبيل الله تعالى.
والله أعلم
* * *
سورة الطلاق مدنية، نزلت بعد سورة الإنسان. قال القرطبي: مدنية في قول الجميع. وهي إحدى عشرة آية، وقيل: اثنتا عشرة. وكلماتها: مئتان وتسع وأربعون كلمة. وحروفها: ألف ومئة وسبعون حرفًا.
ومناسبتها لما قبلها: أنه قال في السورة السابقة: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ﴾، ولما كانت هذه العداوة قد تفضي إلى الطلاق.. أرشد هنا إلى أحكام الطلاق والانفصال عن الأزواج على أجمل وجه.
وقال أبو حيان (١): مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر الفتنة بالمال والولد أشار إلى الفتنة بالنساء، وأنهن قد يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد مخلصًا منها إلا بالطلاق.. فذكر أنه ينفصل منهن بالوجه الجميل؛ بأن لا يكون بينهن اتصال لا بطلب ولد ولا حمل، انتهى.
التسمية: وسميت سورة الطلاق لذِكر الطلاق فيها، وتسمى سورة النساء الصغرى.
الناسخ والمنسوخ: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الطلاق كلها محكم، ليس فيها منسوخ ولا ناسخ.
والله أعلم
* * *
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣) وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (١١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾.المناسبة
قد تقدم لك آنفًا بيان المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها. وأما قوله تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما
قوله تعالى: ﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر فيما سبق أن الطلاق السني إنما يكون في طهر لا وقاع فيه ولم يبين مقدار العدة، وكان قد ذكر في سورة البقرة التي نزلت قبل هذه أن عدة الحائض ثلاثة قروء.. ذكر هنا عدة الصغار اللاتي لم يحضن والكبار اللاتي يئسن من المحيض تكون ثلاثة أشهر، وعدة الحامل تكون بوضع الحمل، سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها.
قوله تعالى: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر مقدار العدة للصغار والكبار والحوامل.. أرشد إلى ما يجب للمعتدة من النفقة والسكنى على مقدار الطاقة. ثم أردف ذلك ببيان: أن الحوامل لهن النفقة والسكنى مدة الحمل بالغة ما بلغت، فإذا هن ولدن.. وجب لهن الأجر على إرضاع المولود، فإن لم يتفقا عليه أتى بمرضع أخرى يدفع الأب نفقتها، والأم أحق بالإرضاع إذا هي رضيت بمثل أجرتها. والنفقة لكل من الموسر والمعسر على قدر ما يستطيع فالله لا يلف نفسًا إلا ما تطيق.
قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (٢) لما ذكر أن الطلاق لا يكون إلا في أوقات مخصوصة، وأنه يجب انقضاء العدة حتى تحل المرأة لزوج آخر، وذكر مدة العدة
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أنذر مشركي مكة بأنهم إن لم يتبعوا أوامر الرسول - ﷺ - يحل بساحتهم مثل ما حل بسائر الأمم قبلهم ممن كذبوا رسلهم وعتوا عن أمر ربهم فاستؤصلوا وبادوا في الدنيا، وسيحل بهم العذاب الذي لا مرد له في الآخرة.. ذكر هنا عظيم قدرته وسلطانه وبديع خلقه للعالم العلوي والسفلي؛ ليكون ذلك باعثًا لهم على استجابة دعوة الرسول والعمل بما أنزل عليه من تشريع فيه سعادة الدارين.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه ابن أبي حاتم من طريق قتادة عن أنس قال: (طلق رسول الله - ﷺ - حفصة، فأتت أهلها، فأنزل الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ...﴾ الآية. فقيل له: راجعها، فإنها صوامة قوامة). وأخرجه ابن جرير عن قتادة أيضًا مرسلًا.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا...﴾ الآية، سبب نزولها (١): ما أخرجه الحاكم عن جابر قال: نزلت هذه الآية، ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ في رجل من أشجع كان فقيرًا، خفيف ذات اليد، كثير العيال، فأتى رسول الله - ﷺ -، فسأله، فقال له: "اتق الله واصبر"، فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء ابن له بغنم، وكان العدو أصابوه، فأتى رسول الله - ﷺ -، فأخبره خبرها، فقال: "كلها"، فنزلت الآية. قال الذهبي: حديث منكر له شاهد.
وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس قال: