تفسير سورة التغابن

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة التغابن من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة التّغابن
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ... » كلمة عزيزة من ذكرها يحتاج إلى لسان عزيز في الغيبة لا يبتذل، وفي ذكر الأغيار لا يستعمل. ومن عرفها يحتاج إلى قلب عزيز ليس في كلّ ناحية منه خليط، ولا في كلّ زاوية زبيط.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١)
المخلوقات كلّها بجملتها لله سبحانه مسبّحة... ولكن لا يسمع تسبيحها من به طرش النكرة.
ويقال: الذي طرأ صممه فقد يرجى زواله بنوع معالجة، أمّا من يولد أصمّ فلا حيلة فى تحصيل سماعه. قال تعالى: «فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى» «١» وقال تعالى: «وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ» «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢)
منكم كافر في سابق حكمه سمّاه كافرا، وعلم أنه يكفرو أراد به الكفر... وكذلك
(١) آية ٥٢ سورة الروم.
(٢) آية ٢٣ سورة الأنفال.
كانوا. ومنكم مؤمن في سابق حكمه سمّاه مؤمنا، وعلم في آزاله أنه يؤمن وخلقه مؤمنا، وأراده مؤمنا... والله بما تعملون بصير.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ٣]
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣)
«خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ» : أي وهو محقّ في خلقه.
«وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ» لم يقل لشىء من المخلوقات هذا الذي قال لنا، صوّر الظاهر وصوّر الباطن فالظاهر شاهد على كمال قدرته، والباطن شاهد على جلال قربته «١».
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ٤]
يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤)
قصّروا حيلكم عن مطلوبكم، فهو تتقاصر عنه علومكم، وأنا أعلم ذلك دونكم...
فاطلبوا منّى، فأنا بذلك أعلم، وعليه أقدر.
ويقال: «وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ». فاحذروا دقيق الرياء، وخفيّ ذات الصدور «وَما تُعْلِنُونَ» :
فاحذروا أن يخالف ظاهركم باطنكم.
فى قوله «ما تُسِرُّونَ» أمر بالمراقبة بين العبد وربه.
وفي قوله «ما تُعْلِنُونَ» أمر بالصدق في المعاملة والمحاسبة مع الخلق «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ٥ الى ٦]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦)
(١) القربة هنا إشارة إلى تميز الإنسان من بين المخلوقات بقيام المحبة بمعناها الخاص بينه وبين الحق سبحانه، وقد سبق بيان ذلك في مواضع مختلفة. [.....]
(٢) مرة أخرى ننبه إلى ضرورة فهم الفرق بين اصطلاحى: المراقبة والمحاسبة- حسب المنهج القشيري.
المراد من ذلك هو الاعتبار بمن سلف، ومن لم يعتبر عثر في مهواة من الأمل، ثم لا ينتعش إلّا بعد فوات الأمر من يده.
«ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ... ». شاهدوا الأمر من حيث الخلق فتطوّحوا فى متاهات الإشكال المختلفة الأحوال. ولو نظروا بعين الحقيقة لتخلّصوا من تفرقة الأباطيل، واستراحوا بشهود «١» التقدير من اختلاف الأحوال ذات «٢» التغيير.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ٧]
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧)
الموت نوعان: موت نفس، وموت قلب ففى القيامة يبعثون من موت النّفس، وأمّا موت القلب فلا بعث منه- عند كثير من مخلصى هذه الطائفة، قال تعالى مخبرا عنهم: «قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟» «٣» فلو عرفوه لما قالوا ذلك فموت قلوبهم مسرمد إلى أن تصير معارفهم ضرورية، فهذا الوقت وقت موت قلوبهم.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ٨]
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨)
«النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا» : القرآن. ويجوز أن يكون ما أنزل في قلوب أوليائه من السكينة وفنون الألطاف.
(١) هكذا في ص وهي في م (من شهود) وهي خطأ من الناسخ.
(٢) فى النسختين (ذوى) وقد رأينا أن تكون (ذات) أو (ذوات).
(٣) آية ٥٢ سورة يس، والفرق واضح بين هذه القالة وبين ما قاله أصحاب الكهف المؤمنون.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ٩]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩)
المطيع- يومئذ- فى غبن لأنه لم يستكثر من الطاعة، والعاصي في غبن لأنه استكثر من الزلّة «١».
وليس كلّ الغبن في تفاوت الدرجات قلّة وكثرة، فالغبن في الأحوال أكثر.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١١]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١)
أيّ حصلة حصلت فمن قبله خلقا، وبعلمه وإرادته حكما.
ومن يؤمن بالله يهد قلبه حتى يهتدى إلى الله في السّرّاء والضّراء- اليوم- وفي الآخرة يهديه إلى الجنة.
ويقال: «يَهْدِ قَلْبَهُ» للأخلاق السنيّة، والتنقّى من شحّ النّفس.
ويقال: «يَهْدِ قَلْبَهُ» لاتّباع السّنّة واجتناب البدعة.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١٢]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢).
(١) قال بعض الصوفية: إن الله كتب الغبن على الخلق أجمعين، فلا يلقى أحد ربّه إلا مغبونا لأنه لا يمكنه الاستيفاء للعمل حتى يحصل له استيفاء الثواب، وفي الأثر قال النبي (ص) :«لا يلقى الله أحد إلا نادما إن كان مسيئا إن لم يحسن، وإن كان محسنا إن لم يزدد» القرطبي ح ١٨ ص ١٣٨.
طاعة الله واجبة، وطاعة الرّسل- الذين هم سفراء بينه وبين الخلق- واجبة كذلك. والأنوار التي تظهر عليك «١» وتطالب بمقتضياتها كلّها حقّ، ومن الحقّ.. فتجب طاعتها أيضا.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
إذا دعوك لتجمع لهم الدنيا فهم عدوّ لك، أمّا إذا أخذتم منها على وجه العفاف «٢» فليسوا لكم أعداء.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١٥]
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥)
ِتْنَةٌ»
: لأنهم يشغلونكم عن أداء حقّ الله فما تبق عن الله مشغولا بجمعه فهو غير ميمون عليك.
ويقال: إذا جمعتم الدنيا لغير وجهه فإنكم تشغلون بذلك عن أداء حقّ مولاكم، وتشغلكم أولادكم، فتبقون بهم عن طاعة الله- وتلك فتنة لكم... ترومون إصلاحهم.
فتفسدون أنتم وهم لا يصلحون!.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : آية ١٦]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦).
(١) الخطاب هنا موجعّه إلى صاحب الأحوال والكشوفات.
(٢) عف عفعّة وعفافا أي كفّ عما لا يحل ولا يجمل. ويقال: هم أعفّة الفقر، أي: إذا افتقروا لا يسألون.
(الوسيط).
أي ما دمتم في الجملة مستطيعين ويتوجه عليكم التكليف فاتقوا الله. والتقوى عن شهود التقوى بعد ألا يكون تقصير في التقوى غاية التقوى.
«وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ» حتى ترتفع الأخطار «١» عن قلبه، ويتحرّر من رقّ المكونات، فأولئك هم المفلحون.
قوله جل ذكره:
[سورة التغابن (٦٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
يتوجّه بهذا الخطاب إلى الأغنياء لبذل أموالهم، وللفقراء في إخلاء أيامهم وأوقاتهم من مراداتهم وإيثار مراد الحقّ على مراد أنفسهم.
فالغنىّ يقال له: آثر حكمى على مرادك في مالك، والفقير يقال له: آثر حكمى فى نفسك وقلبك ووقتك وزمانك.
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» جلّ شأنه.
(١) المقصود بالأخطار هنا: حسبان أن للشىء أهمية وشأنا.
Icon