ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة التكاثر (١٠٢) : الآيات ١ الى ٨]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤)كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)
أخبر سبحانه أن التكاثر شغل أهل الدنيا وألهاهم عن الله والدار الآخرة، حتى حضرهم الموت، فزاروا المقابر دون الموت، ولم يفيقوا من رقدة إلهاء التكاثر.
وجعل الغاية زيارة المقابر دون الموت، إيذانا بأنهم غير مستبقين ولا مستقرين في القبور، وأنهم فيها بمنزلة الزائرين، يحضرونها مرة ثم يظعنون عنها، كما كانوا في الدنيا كذلك زائرين لها، غير مستقرين فيها، ودار القرار هي الجنة أو النار.
ولم يعين سبحانه المتكاثر به، بل ترك ذكره، إما لأن المذموم هو نفس التكاثر بالشيء، لا المتكاثر به. كما يقال: شغلك اللعب واللهو،
وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله ابن الشخّير أنه قال: «انتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو يقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ قال يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مال إلا ما تصدقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت؟».
ثم توعد سبحانه من ألهاه التكاثر وعيدا مؤكدا، إذا عاين تكاثره قد ذهب هباء منثورا، وعلم أن دنياه التي كاثر بها إنما كانت خدعا وغرورا، فوجد عاقبة تكاثره اليه لا له، وخسر هنالك تكاثره. كما خسره أمثاله. وبدا له من الله ما لم يكن في حسابه، وصار تكاثره الذي شغله عن الله والدار الآخرة من أعظم أسباب عذابه، فعذب بتكاثره في دنياه، ثم عذب به في البرزخ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقي الناس بتكاثره في دنياه، ثم عذب في البرزخ، ثم يعذب به يوم القيامة. فكان أشقي الناس بتكاثره. إذ أفاد منه العطب، دون الغنيمة والسلامة. فلم يفز من تكاثره إلا بأن صار من الأقلين، ولم يحظ من علوه به في الدنيا إلا بأن حصل مع الأسفلين.
فيا له تكاثرا ما أثقله وزرا، وما أجلبه من غنى جالبا لكل فقر، وخيرا توصل به إلى كل شر، يقول صاحبه إذا انكشف عنه غطاؤه. يا ليتني قدمت لحياتي، وعملت فيه بطاعة الله قبل وفاتي رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ فقيل له كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها تلك كلمته يقولها. فلا يعول عليها. ورجعته يسألها، فلا يجاب إليها.
وتأمل قوله أولا «رب» استغاث بربه، ثم التفت الى الملائكة الذين أمروا بإحضاره بين يدي ربه تبارك وتعالى، وقال: «ارجعوني» ثم ذكر سبب سؤال الرجعة. وهو أن يستقبل العمل الصالح فيما ترك خلفه من ماله وجاهه
ولما كان شأن الكريم الرحيم أن يجيب من استقاله، وأن يفسح له في المهلة ليتذكر ما فاته- أخبر سبحانه أن سؤال هذا المفرط الرجعة كلمة: هو قائلها، لا حقيقة تحتها، وأن سجيته وطبيعته تأبى أن تعمل صالحا. لو أجيب. وإنما ذلك شيء يقوله بلسانه، وإنه لو ردّ لعاد لما نهى عنه، وإنه من الكاذبين.
فحكمة أحكم الحاكمين، وعزته وعلمه وحمده، يأبى إجابته إلى ما سأل. فإنه لا فائدة من ذلك. ولو رد لكانت حاله الثانية مثل حاله الأولى، كما قال تعالى: ٦: ٢٧ وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ، فَقالُوا: يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ.
وقوله: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جوابه محذوف، دل عليه ما تقدم، أي لما ألهاكم التكاثر، وإنما وجد هذا التكاثر وإلهاؤه عما هو أولى بكم لمّا فقد منكم علم اليقين، وهو العلم الذي يصل به صاحبه إلى حد الضروريات، التي لا يشك ولا يماري في صحتها وثبوتها. ولو وصلت حقيقة هذا العلم إلى القلب وباشرته لما ألهاه شيء عن موجبه، ولترتب أثره عليه. فإن مجرد العلم بقبح الشيء وسوء عواقبه قد لا يكفي في تركه. فإذا صار له علم اليقين كان اقتضاء هذا العلم لتركه أشد. فإذا صار عين يقين، كجملة المشاهدات، كان تخلّف موجبه عنه اندر شيء.
وفي هذا المعنى قال حسان بن ثابت رضي الله عنه في أهل بدر:
سرنا، وساروا إلى بدر، لحتفهم لو يعلمون يقين العلم ما ساروا
وقيل: ليس تأكيدا، بل العلم الأول عند المعاينة ونزول الموت.
والعلم الثاني في القبر. وهذا قول الحسن ومقاتل. ورواه عطاء عن ابن عباس.
ويدل على صحة هذا القول: عدة أوجه.
أحدها: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل. وقد أمكن اعتباره، مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني: توسط «ثم» بين العلمين، وهي مؤذنة بتراخي ما بين المرتبين زمانا وخطرا.
الثالث: أن هذا القول مطابق للواقع. فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حقيقة ما كان عليه، ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علما يقينا، هو فوق العلم الأول.
الرابع: أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره من السلف فهموا من الآية عذاب القبر.
قال الترمذي: حدثنا أبو كريب حدثنا حكام بن سليم الرازي عن عمرو بن أبي قيس عن الحجاج بن منهال بن عمرو بن زر عن علي رضي الله عنه قال: «ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ»
قال الواحدي: يعني أن معنى قوله: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» في القبر.
الخامس: أن هذا مطابق لما بعده من قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ فهذه الرؤية الثانية غير الأولى من وجهين: إطلاق الأولى، وتقييد الثانية بعين اليقين، وتقدم الأولى، وتراخي الثانية عنها.
ثم ختم السورة بالإخبار المؤكد بواو القسم ولام التأكيد، والنون الثقيلة
فالأول سؤال عن سبب استخراجه.
والثاني: عن محل صرفه. كما
في جامع الترمذي من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس: عن عمره: فيما أفناه؟ وعن شبابه:
فيما أبلاه؟ وعن ماله: من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟ وفيما ذا عمل فيما علم؟».
وفيه أيضا: عن أبي برزة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره: فيما أفناه؟ وعن علمه: فيما عمل فيه؟
وعن ماله: من أين اكتسبه وفيما أبلاه؟»
وقال: هذا حديث صحيح «١».
وفيه أيضا: من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة- يعني من النعيم- أن يقال له: ألم نصحّ جسمك؟ ونرويك من الماء البارد؟».
وفيه أيضا: من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه قال: «لما نزلت لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ قال الزبير: يا رسول الله: فأي النعيم نسأل عنه، وإنما هو الأسودان: التمر والماء؟ قال: أما إنه سيكون»
وقال: هذا حديث حسن.
وعن أبي هريرة نحوه. وقال «إنما هو الأسودان: العدو حاضر، وسيوفنا على عواتقنا. فقال: إن ذلك سيكون».
إما أن يكون المراد به: أن النعيم سيكون ويحدث لكم، وإما ان يرجع إلى السؤال، أي إن السؤال يقع عن ذلك، وإن كان تمرا وماء، فإنه من النعيم.
ويدل عليه:
قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح- وقد أكلوا معه رطبا ولحما، وشربوا من الماء البارد- «هذا من النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة»
فهذا سؤال عن شكره والقيام بحقه.
وفي الترمذي من حديث أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجاء بالعبد يوم القيامة، كأنه بذج «١» فيوقف بين يدي الله تعالى، فيقول الله: أعطيتك وخوّلتك، وأنعمت عليك، فماذا صنعت؟ فيقول: يا رب جمعته، وثمرته، فتركته أوفر ما كان، فأرجعني آتيك به. فإذا أعيد لم يقدم خيرا، فيمضي به إلى النار» «٢» ».
وفيه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا، وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وترتع، أفكنت تظن أنك ملاق يومك هذا؟ فيقول: لا. فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني».
وقال: هذا حديث صحيح.
وقد زعم طائفة من المفسرين: أن هذا الخطاب خاص بالكفار، وأنهم هم المسؤولون عن النعيم. وذكروا ذلك عن الحسن ومقاتل. واختار الواحدي ذلك.
واحتج بحديث أبي بكر «لما نزلت هذه الآية، قال رسول الله:
أرأيت أكلة أكلتها معك ببيت أبي الهيثم بن التيهان من خبز شعير ولحم،
(٢) البذج ولد الضأن، وجمعه بذجان.
وقال الواحدي: والظاهر يشهد بهذا القول. لأن السورة كلها خطاب للمشركين وتهديد لهم. والمعنى أيضا يشهد بهذا القول، وهو أن الكفار لم يؤدوا حق النعيم عليهم، حيث أشركوا بربهم وعبدوا غيره، فاستحقوا أن يسألوا عما أنعم به عليهم، توبيخا لهم، هل قاموا بالواجب فيه، أم ضيعوا حق النعمة؟ ثم يعذبون على ترك الشكر بتوحيد المنعم.
قال: وهذا معنى قول مقاتل، وهو قول الحسن. قال: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار.
قلت: ليس في اللفظ ولا في السنة الصحيحة، ولا في أدلة العقل ما يقتضي اختصاص الخطاب بالكفار، بل ظاهر اللفظ، وصريح السنة والاعتبار: يدل على عموم الخطاب لكل من اتصف بأنه ألهاه التكاثر. فلا وجه لتخصيص الخطاب ببعض المتصفين بذلك.
ويدل على ذلك:
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قراءة هذه السورة «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت- الحديث» وهو في صحيح مسلم
. وقائل ذلك قد يكون مسلما.
وقد يكون كافرا.
ويدل عليه أيضا: الأحاديث التي تقدمت، وسؤال الصحابة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفهمهم العموم، حتى قالوا له «وأي نعيم نسأل عنه، وإنما هو الأسودان» فلو كان الخطاب مختصا بالكفار لبين لهم ذلك.
وقال: مالكم ولها؟ إنما هي للكفار.
فالصحابة فهموا العموم، والأحاديث صريحة في التعميم. والذي أنزل عليه القرآن أقرهم على فهم العموم.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم أو ليلة. فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ما أخرجكما من بيوتكما في هذه الساعة؟ قالا: الجوع، يا رسول الله. قال: وأنا والذي نفسي بيده، لأخرجني الذي أخرجكما، قوما، فقاما معه. فأتى رجلا من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته. فلما رأته امرأته قالت: مرحبا وأهلا. فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين فلان؟ قالت: ذهب ليستعذب لنا من الماء، إذ جاء الأنصاري، فنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه، فقال: الحمد لله ما أجد اليوم أكرم أضيافا مني. قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب فقال: كلوا من هذا. فأخذ المدية، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إياك والحلوبة. فذبح لهم، فأكلوا من الشاة، ومن ذلك العذق، وشربوا. فلما أن شبعوا ورووا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيديه لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة. أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثم لم ترجعوا حتى أصبتم هذا النعيم».
فهذا الحديث الصحيح صريح في تعميم الخطاب، وأنه غير مختص بالكفار.
وأيضا فالواقع يشهد بعدم اختصاصه، وأن الإلهاء بالتكاثر واقع بين المسلمين كثيرا، بل أكثرهم قد ألهاه التكاثر. وخطاب القرآن عام لمن بلغه، وإن كان أول من دخل فيه المعاصرون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو متناول لمن بعدهم. وهذا معلوم بضرورة الدين، وإن نازع فيه من لا يعتد بقوله من المتأخرين.
فنحن اليوم ومن قبلنا ومن بعدنا داخلون تحت قوله تعالى: ٢:
فقوله: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ خطاب لكل من اتصف بهذا الوصف.
وهم في الإلهاء والتكاثر درجات لا يحصيها إلا الله.
فإن قيل: فالمؤمنون لم يلههم التكاثر. ولهذا لم يدخلوا في الوعيد المذكور لمن ألهاه.
قيل: هذا هو الذي أوجب لأرباب هذا القول تخصيصه بالكفار، لأنه لم يمكنهم حمله على العموم، ورأوا أن الكفار أحق بالوعيد، فخصوهم به.
وجواب هذا: أن الخطاب للإنسان من حيث هو إنسان، على طريقة القرآن في تناول الذم له من حيث هو إنسان. كقوله: ١٧: ١١ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا ١٧: ٦٧ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً ١٠٠: ٦ إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ٣٣: ٧٣ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا ٢٢: ٦٦ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ ونظائره كثيرة.
فالإنسان من حيث هو عار عن كل خير من العلم النافع، والعمل الصالح، وإنما الله سبحانه هو الذي يكمله بذلك، ويعطيه إياه. وليس له ذلك من نفسه. بل ليس له من نفسه إلا الجهل المضاد للعلم، والظلم المضاد للعدل، وكل علم وعدل وخير فيه فمن ربه، لا من نفسه. فإلهاء التكاثر طبيعته وسجيته، التي هي له من نفسه. ولا خروج له عن ذلك إلا بتزكية الله له، وجعله مريدا للآخرة، مؤثرا لها على التكاثر بالدنيا. فإن أعطاه ذلك وإلا فهو ملته بالتكاثر في الدنيا ولا بد.
أما احتجاجهم بالوعيد على اختصاص الخطاب بالكفار. فيقال:
الوعيد المذكور مشترك، وهو العلم عند معاينة الآخرة. فهذا أمر
فليس في جملة هذه السورة ما ينفي عموم خطابها.
وأما ما ذكروه عن الحسن: لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار. فباطل قطعا، إما عليه وإما منه. والأحاديث الصحيحة الصريحة ترده. وبالله التوفيق.
ولا يخفى أن مثل هذه السورة مع عظم شأنها وشدة تخويفها. وما تضمنته من تحذير الإنسان عن التكاثر الملهي، وانطباق معناها على أكثر الخلق يأبى اختصاصها من أولها إلى آخرها بالكفار، ولا يليق ذلك بها.
ويكفي في ذلك تأمل الأحاديث المرفوعة فيها. والله أعلم.
وتأمل ما في هذا العتاب الراجع لمن استمر على إلهاء التكاثر له مدة حياته كلها، إلى أن زار القبور، ولم يستيقظ من نوم الإلهاء، بل أرقد التكاثر قلبه فلم يستفق منه إلا وهو في عسكر الأموات.
وطابق بين هذا وبين حال أكثر الخلق يتعين لك أن العموم مقصود.
وتأمل تعليقه سبحانه الذم والوعيد على مطلق التكاثر من غير تقييد بمتكاثر به، ليدخل فيه التكاثر بجميع أسباب الدنيا، على اختلاف أجناسها وأنواعها.
وأيضا فإن التكاثر تفاعل، وهو طلب كل من المتكاثرين أن يكاثر صاحبه. فيكون أكثر منه فيما يتكاثره به. والحامل له على ذلك: توهمه أن
ولست بالأكثر منهم غنى... وإنما العزة للكاثر
فلو حصلت له الكثرة من غير تكاثر لم تضره، كما كانت الكثرة حاصلة لجماعة من الصحابة، ولم تضرهم. إذ لم يتكاثروا بها. وكل من كاثر إنسانا في دنياه، أو جاهه، أو غير ذلك، أشغلته مكاثرته عن مكاثرة أهل الآخرة.
فالنفوس الشريفة العلوية ذات الهمم العالية إنما تكاثر بما يدوم عليها نفعه، وتكمل به وتزكوا، وتصير مفلحة. فلا تحب أن يكثرها غيرها في ذلك، وينافسها في هذه المكاثرة، ويسابقها إليها. فهذا هو التكاثر الذي هو غاية سعادة العبد.
وضده: تكاثر أهل الدنيا بأسباب دنياهم. فهذا تكاثر مله عن الله وعن الدار الآخرة. وهو جارّ إلى غاية القلة.
فعاقبة هذا التكاثر: قلّ وفقر وحرمان.
والتكاثر بأسباب السعادة الأخروية تكاثر لا يزال يذكر بالله وبنعمه.
وعاقبته الكثرة الدائمة التي لا تزول ولا تفنى. وصاحب هذا التكاثر لا يهون عليه أن يرى غيره أفضل منه قولا، وأحسن منه عملا، وأغزر منه علما. وإذا رأى غيره أكثر منه في خصلة من خصال الخير يعجز عن لحوقه فيها كاثره بخصلة أخرى، وهو قادر على المكاثرة بها. وليس هذا التكاثر مذموما، ولا قادحا في إخلاص العبد، بل هو حقيقة المنافسة، واستباق الخيرات.
وقد كانت هذه حال الأوس مع الخزرج رضي الله عنهم في تصاولهم بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ومكاثرة بعضهم لبعض في أسباب مرضاته ونصره.
وكذلك كانت حال عمر مع أبي بكر رضي الله عنهما. فلما تبين لعمر مدى سبق أبي بكر له قال: «والله لا أسابقك إلى شيء أبدا».
فصل
ومن تأمل حسن موقع «كلا» في هذا الموضع، فإنها تضمنت ردعا لهم، وزجرا عن التكاثر، ونفيا وإبطالا لما يؤملونه، من نفع التكاثر لهم، وعزتهم وكمالهم به، فتضمنت اللفظة نهيا ونفيا، وأخبرهم سبحانه أنهم لا بد أن يعلموا عاقبة تكاثرهم علما بعد علم، وأنهم لا بد أن يروا دار المكاثرين بالدنيا التي ألهتهم عن الآخرة رؤية بعد رؤية، وأنه سبحانه لا بد أن يسألهم عن أسباب تكاثرهم: من أين استخرجوها؟ وفيم صرفوها؟.
فلله ما أعظمها من سورة، وأجلها وأعظمها فائدة، وأبلغها موعظة وتحذيرا، وأشدها ترغيبا في الآخرة، وتزهيدا في الدنيا على غاية اختصارها، وجزالة ألفاظها وحسن نظمها. فتبارك من تكلم بها حقا وبلغها رسوله عنه وحيا.
فصل
وتأمل كيف جعلهم عند وصولهم إلى غاية كل حي زائرين غير مستوطنين، بل هم مستودعون في المقابر مدة، وبين أيديهم دار القرار. فإذا كانوا عند وصولهم إلى الغاية زائرين، فكيف بهم وهم في الطريق في هذه الدار؟ فهم فيها عابرو سبيل إلى محل الزيارة، ثم منتقلون من محل الزيارة إلى المستقر.
فهنا ثلاثة أمور: عبور السبيل في هذه الدنيا، وغايته زيارة القبور، وبعدها النقلة إلى دار القرار.