ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة يوسف (١٢) : آية ٣٠]وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠)
هذا الكلام متضمن لوجوه من المكر.
أحدها: قولهن: امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها ولم يسموها باسمها، بل ذكروها بالوصف الذي ينادي عليها بقبيح فعلها بكونها ذات بعل، فصدور الفاحشة من ذات الزوج أقبح من صدورها ممن لا زوج لها.
الثاني: أن زوجها عزيز مصر، ورئيسها، وكبيرها. وذلك أقبح لوقوع الفاحشة منها.
الثالث: أن الذي تراوده مملوك لا حرّ. وذلك أبلغ في القبح.
الرابع: أنه فتاها الذي هو في بيتها، وتحت كنفها، فحكمه حكم أهل البيت. بخلاف من تطلب ذلك من الأجنبي البعيد.
والخامس: أنها هي المراودة الطالبة.
السابع: أن في ضمن هذا: أنه أعفّ منها وأبر، وأوفى، حيث كانت هي المراودة الطالبة، وهو الممتنع، عفافا وكرما وحياء. وهذا غاية الذم لها.
الثامن: أنهن أتين بفعل المراودة بصيغة المستقبل الدالة على الاستمرار والوقوع حالا واستقبالا، وأن هذا شأنها، ولم يقلن: راودت فتاها. وفرق بين قولك: فلان أضاف ضيفا، وفلان يقري الضيف ويطعم الطعام، ويحمل الكلّ. فإن هذا يدل على أن هذا شأنه وعادته.
التاسع: قولهن إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي إنا لنستقبح منها ذلك غاية الاستقباح. فنسبن الاستقباح إليهن ومن شأنهن مساعدة بعضهن بعضا على الهوى ولا يكدن يرين ذلك قبيحا، كما يساعد الرجال بعضهم بعضا على ذلك، فحيث استقبحن منها ذلك كان هذا دليلا على أنه من أقبح الأمور، وأنه مما لا ينبغي أن تساعد عليه، ولا يحسن معاونتها عليه.
العاشر: أنهن جمعن لها في هذا الكلام واللوم بين العشق المفرط، والطلب المفرط، فلم تقتصد في حبها، ولا في طلبها.
أما العشق فقولهن قَدْ شَغَفَها حُبًّا أي وصل حبه إلى شغاف قلبها.
وأما الطلب المفرط فقولهن تُراوِدُ فَتاها والمراودة: الطلب مرة بعد مرة فنسبوها إلى شدة العشق، وشدة الحرص على الفاحشة.
فلما سمعت بهذا المكر منهن هيأت لهن مكرا أبلغ منه، فهيأت لهن متكأ، ثم أرسلت إليهن، فجمعتهن، وخبأت يوسف عليه السلام عنهن.
وقيل: إنها جملته، وألبسته أحسن ما تقدر عليه، وأخرجته عليهن فجأة.
فلم يرعهنّ إلا وأحسن خلق الله وأجمله قد طلع عليهن بغتة، فراعهن ذلك
وقد قيل: إنهن أبنّ أيديهن. ولكن الظاهر خلاف ذلك. وإنما تقطيعهن أيديهن جرحها، وشقها بالمدى، لدهشتهن بما رأين. فقابلت مكرهن القولي بهذا المكر الفعلي، وكانت هذه في النساء غاية في المكر.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٤٠]
ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
إنما عبدوا المسميات، ولكن من أجل أنهم نحلوها أسماء باطلة، كاللات والعزّى، وهي مجرد أسماء كاذبة باطلة لا مسمى لها في الحقيقة.
فإنهم سموها آلهة وعبدوها لاعتقادهم حقيقة الإلهية لها. وليس لها من الإلهية إلا مجرد الأسماء لا حقيقة المسمى. فما عبدوا إلا أسماء، لا حقائق لمسمياتها. وهذا كمن سمى قشور البصل لحما، وأكلها. فيقال: ما أكلت من اللحم إلا اسمه لا مسماه، وكمن سمى التراب خبزا وأكله، يقال له: ما أكلت إلا اسم الخبز، بل هذا النفي أبلغ في آلهتهم. فإنه لا حقيقة لإلهيتها بوجه. وما الحكمة ثمّ إلا مجرد الاسم.
فتأمل هذه الفائدة الشريفة في كلامه تعالى.
[سورة يوسف (١٢) : آية ٥٣]
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
فإن قيل: فكيف قال وقت ظهور براءته؟ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي.
قيل: هذا قد قاله جماعة من المفسرين. وخالفهم في ذلك آخرون أجل منهم وقالوا: إن هذا من قول امرأة العزيز، لا من قول يوسف عليه السلام.
والصواب معهم من وجوه.
أحدها: أنه متصل بكلام المرأة، وهو قولها ١٢: ٥١- ٥٣ الْآنَ
ومن جعله من قوله فإنه يحتاج إلى إضمار قول لا دليل عليه في اللفظ بوجه ما.
والقول في مثل هذا لا يحذف، لئلا يوقع في اللبس. فإن غايته: أن يحتمل الأمرين. فالكلام الأول أولى به قطعا.
والثاني: أن يوسف عليه السلام لم يكن حاضرا وقت مقالتها هذه، بل كان في السجن لما تكلمت بقولها الآن «حصحص الحق» والسياق صحيح صريح في ذلك. فإنه لما أرسل إليه الملك يدعوه قال للرسول ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ، فَسْئَلْهُ: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ. فأرسل إليهن الملك وأحضرهن، وسألهن، وفيهن امرأته. فشهدن ببراءته ونزاهته في غيبته، ولم يمكنهن إلا قول الحق، فقال النسوة حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقالت امرأة العزيز أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ.
فإن قيل: لكن قوله ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ الأحسن أن يكون من كلام يوسف عليه السلام، أي إنما كان تأخيري عن الحضور مع رسوله ليعلم الملك أني لم أخنه في امرأته في حال غيبته، وأن الله لا يهدي كيد الخائنين. ثم إنه صلّى اللَّه عليه وسلّم قال: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ وهذا من تمام معرفته صلّى الله عليه وسلّم بربه ونفسه. فإنه لما أظهر نزاهته وبراءته مما قذف به أخبر عن حال نفسه، وأنه لا يذكيها ولا يبرئها، فإنها أمارة السوء، لكن رحمة ربه وفضله هو الذي عصمه. فرد الأمر إلى الله بعد أن أظهر براءته.
قيل: هذا وإن كان قد قاله طائفة. الصواب أنه من تمام كلامها، ولكن فإن الضمائر كلها في نسق واحد يدل عليه. وهو قول النسوة ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ وقول امرأة العزيز أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ هذه خمسة ضمائر بين بارز ومستتر. ثم اتصل بها قوله:
فلا شيء يفصل الكلام من نظمه، ويضمر فيه قول لا دليل عليه.
فإن قيل: فما معنى قولها: «ليعلم أني لم أخنه بالغيب».
قيل: هذا من تمام الاعتذار، قرنت الاعتذار بالاعتراف، فقالت ذلك أي قولي هذا وإقراري ببراءته: ليعلم أني لم أخنه بالكذب عليه في غيبته، وإن خنته في وجهه في أول الأمر، فالآن يعلم أني لم أخنه في غيبته، ثم اعتذرت عن نفسها بقولها وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي ثم ذكرت السبب الذي لأجله لم تبرئ نفسها، وهي أن النفس أمارة بالسوء.
فتأمل ما أعجب أمر هذه المرأة، أقرت بالحق واعتذرت عن محبوبها، ثم اعتذرت عن نفسها، ثم ذكرت السبب الحامل لها على ما فعلت، ثم ختمت ذلك بالطمع في مغفرة الله ورحمته، وأنه إن لم يرحم عبده وإلا فهو عرضة للشر.
فوازن بين هذا وبين تقدير كون هذا الكلام كلام يوسف عليه السلام لفظا ومعنى.
وتأمل ما بين التقديرين من التفاوت، ولا يستبعد أن تقول المرأة هذا وهي على دين الشرك. فإن القوم كانوا يقرون بالرب سبحانه وتعالى وبحقه، وإن أشركوا معه غيره. ولا تنس قول سيدها لها في أول الحال ١٢: ٢٩ وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ.
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠١]
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه، والبراءة من موالاة غيره سبحانه، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات
[سورة يوسف (١٢) : آية ١٠٨]
قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)
قال الفراء: وجماعة «ومن اتبعني» معطوف على الضمير في «أدعو» يعني أنا ومن اتبعني يدعو إلى الله كما أدعو، وهذا قول الكلبي، قال: حق على كل من أتبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه، ويذكر بالقرآن والموعظة.
ويقوى هذا القول من وجوه كثيرة:
قال ابن الأنباري: ويجوز أن يتم الكلام عند قوله «إلى الله» ثم يبتدئ بقوله «على بصيرة أنا ومن اتبعني» فيكون الكلام على قوله جملتين، أخبر في أولاهما أنه يدعو إلى الله، وفي الثانية: بأنه مع أتباعه على بصيرة، والقولان متلازمان فلا يكون الرجل من أتباعه حقا حتى يدعو إلى ما دعا إليه ويكون على بصيرة.
وقول الفراء أحسن وأقرب إلى الفصاحة والبلاغة.
وإذا كانت الدعوة إلى الله أشرف مقامات العبد وأجلها وأفضلها: فهي لا تحصل إلا بالعلم الذي يدعو به وإليه، بل لا بد في كمال الدعوة من البلوغ في العلم إلى حد أقصى يصل إليه السعي، ويكفي هذا في شرف العلم: أن صاحبه يحوز به هذا المقام، والله يؤتي فضله من يشاء.