تفسير سورة يوسف

مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير .
لمؤلفه ابن باديس . المتوفي سنة 1359 هـ

سبيل السعادة والنجاة
" قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله وما أنا من المشركين ".
تمهيد :
خلق الله محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم – أكمل الناس، وجعله قدوتهم، وفرض عليهم اتباعه والائتساء به١، فلا نجاة لهم من المهالك والمعاطب، ولا وصول لهم إلى السعادة في دنياهم وأخراهم، ومغفرة خالقهم ورضوانه – إلا باقتفاء آثاره والسير في سبيله.
فلهذا أمر الله نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – أن يبين سبيله بيانا عاما للناس، لتتضح الحجة للمهتدين، وتقوم الحجة على الهالكين.
أمره أن يبينها البيان الذي يصيرها مشاهدة بالعيان، ويشير إليها كما يشار إلى سائر المشاهدات، فقال له :" قل هذه سبيلي ".
ثم بين سبيله بثلاثة أشياء :
الدعوة إلى الله على بصيرة.
وتنزيه الله تعالى.
والبراءة من المشركين.
فقال :" أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني، وسبحان الله، وما أنا من المشركين ".
الدعوة إلى الله :
دوام الدعوة :
فالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم – من يوم بعثه الله إلى آخر لحظة من حياته، كان يدعو الناس كلهم إلى الله، بأقواله وأفعاله وتقريراته وجميع مواقفه في سائر مشاهده.
وكانت دعوته هذه بوجوهها كلها واضحة جلية لا خفاء بها، كما قال - صلى الله عليه وآله وسلم - :" وأيم الله لقد تركتم على مثل البيضاء ليلها ونهارها سواء " ٢، فكانت مشاهدة معينة، كما أشير إليها في الآية إشارة المعين المشاهد.
كان يدعو إلى دين الله، ويبين هو ذلك الدين ويمثله : يدعو إلى عبادة الله وتوحيده وطاعته، ويشاهد الناس تلك العبادة والتوحيد والطاعة، فكان - صلى الله عليه وآله وسلم – كله دعوة إلى الله.
فما دعا إلى نفسه ؛ فقد مات ودرعه مرهونة في دين.
وما دعا إلى قومه، فقد كان يقول :" لا فضل لأسود على أحمر ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله ".
عموم الرسالة :
كان يدعو الناس كلهم، إذ هو رسول الله إلى الناس كلهم، فكتب الكتب وأرسل الرسل، فبلغت دعوته إلى الأمم وملوك الأمم.
كان يدعوا الكافرين كما يدعو المؤمنين : يدعو أولئك إلى الدخول في دين الله ويدعو هؤلاء إلى القيام بدين الله، فلم ينقطع يوما عن الإنذار والتبشير، والوعظ والتذكير.
الدعوة على بينة :
كان يدعو إلى الله على بينة وحجة يحصل بها الإدراك التام للعقل، حتى يصير الأمر المدرك واضحا لديه كوضوح الأمر المشاهد بالبصر، فهو على بينة ويقين من كل ما يقول ويفعل، وفي كل ما يدعو من وجوه الدعوة إلى الله في حياته كلها، وفي جميع أحواله.
وكانت دعوته المبينة على الحجة والبرهان، مشتملة على الحق والبرهان، فكان يستشهد بالعقل، ويعتضد بالعلم، ويستنصر بالوجدان، ويحتج بأيام الله في الأمم الخالية، وما استفاض من أخبارها، وبقي من آثارها من أنباء الأولين، وما يمر الناس عليه مصبحين وبالليل٣.
على كل مسلم أن يكون داعيا إلى الله :
المسلمون دعاة :
لقد كان في بيان أن الدعوة إلى الله سبيل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – ما يفيد أن على اتباعه – وهو قدوتهم ولهم فيه الأسوة الحسنة – أن تكون الدعوة إلى الله سبيلهم.
ولكن لتأكيد هذا عليهم وبيان أنه من مقتضى كونهم اتباعه وأن اتباعهم له لا يتم إلا به – جاء التصريح بذلك هكذا :
" ادعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ".
فالمسلمون أفرادا وجماعات، عليهم أن يقوموا بالدعوة إلى الله، وأن تكون دعوتهم على بينة وحجة وإيمان ويقين، وأن تكون دعوتهم وفقا لدعوته، وتبعا لها٤.
ماهية الدعوة :
بم تكون الدعوة :
١- فمن الدعوة إلى الله : دروس العلوم كلها، ما يفقه في دين الله، ويعرف بعظمة الله وآثار قدرته، ويدل على رحمة الله وأنواع نعمته.
فالفقيه الذي يبين حكم الله وحكمته، داع إلى الله.
والطيب المشرح الذي يبين دقائق العضو ومنفعته داع إلى الله.
ومثلهما كل مبين في كل علم وعمل.
٢- ومن الدعوة إلى الله.
بيان حجج الإسلام، ودفع الشبه عنه، ونشر محاسنه بين الأجانب عنه، ليدخلوا فيه.
وبين مزعزعي العقيدة من أبنائه ليثبتوا عليه.
٣- ومن الدعوة إلى الله : مجالس الوعظ والتذكير، لتعريف المسلمين بدينهم، وتربيتهم في عقائدهم وأخلاقهم وأعمالهم على ما جاء به، وتحبيبهم فيه، ببيان ما فيه من خير وسعادة لهم.
وتحذيرهم مما أدخل من محدثات عليه هي سبب كل شقاوة وشر لحقهم.
وبيان أنه ما من سبب مما تسعد به البشرية أفرادها وأممها – إلا بينه لهم ودعاهم إليه، وما من سبب مما تشقى به البشرية، أفرادها وأممها – إلا بينه لهم ونهاهم عنه.
وبيان أنه لولا عقيدته المتأصلة فيهم، وبقاياه الباقية لديهم، ومظاهره القائمة بهم، لما بقيت لهم – وهم المجردون من كل قوة – بقية، ولتلاشت أشلاؤهم – وهم الأموات – في الأمم الحية.
٤- ومن الدعوة إلى الله : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة بدون استثناء، وإنما يتنوع الواجب بحسب رتبة الاستطاعة : فيجب باليد – فإن لم يستطع فباللسان، فإن لم يستطع فبالقلب، وهو أضعف الإيمان، وأقل الأعمال في هذا المقام٥.
سر سرعة انتشاره :
٥- ومن الدعوة إلى الله : ظهور المسلمين – أفرادا وجماعات – بما في دينهم من عفة وفضيلة، وإحسان ورحمة وعلم وعمل، وصدق وأمانة فذلك أعظم مرغب للأجانب في الإسلام، كما كان ضده أعظم منفر لهم عنه، وما انتشر الإسلام أول أمره بين الأمم، إلا لأن الداعين إليه كانوا يدعون بالأعمال، كما يدعون بالقول، ومازالت الأعمال عيارا على الأقوال.
٦- ومن الدعوة إلى الله : بعث البعثات إلى الأمم غير المسلمة، ونشر الكتب بألسنتها، وبعث المرشدين إلى عواصم الأمم المسلمة لهدايتهم وتفقيههم.
وكل هذا من الدعوة إلى الله ثابتة أصوله في سنة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – وسنة السلف الصالح من بعده. فعلى كل مسلم أن يقوم بما استطاع منه في كل وجه من وجوهه، وليعلم أن الدعوة إلى الله على بصيرة هي سبيل نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم – وسبيل إخوانه الأنبياء صلوات الله عليه من قبله.
فلم يكن السلم ليدع من هذا المقام الشريف – مقام خلافة النبوة – شيئا من حظه، وإذا كان هذا المقام ثابتا لكل مسلم ومسلمة – فأهل العلم به أولى وهو عليهم أحق، وهم المسؤولون عنه قبل جميع الناس.
وما أصاب المسلمين ما أصابهم إلا يوم قعد أهل العلم عن هذا الواجب عليهم. وإذا عادوا إلى القيام به – وقد عادوا والحمد لله – أوشك – إن شاء الله – أن ينجلي عن المسلمين مصابهم٦.
تفرقة :
ميزان الداعية :
ليس كل من زعم أنه يدعو إلى الله يكون صادقا في دعواه، فلا بد من التفرقة بين الصادقين والكاذبين. والفرق بينهما – مستفاد من الآية بوجهين :
الأول :
أن الصادق لا يتحدث عن نفسه، و لا يجلب لها جاها ولا مالا، ولا يبغي لها من الناس مدحا ولا رفعة.
أما الكاذب فإنه بخلافه : فلا يستطيع أن ينسى نفسه في أقواله وأعماله.
وهذا الفرق من قوله تعالى :" إلى الله ".
الثاني :
أن الصادق يعتمد على الحجة والبرهان، فلا تجد في كلامه كذبا ولا تلبيسا ولا ادعاء مجردا، ولا تقع من سلوكه في دعوته على التواء ولا تناقض ولا اضطراب.
وأما الكاذب فإنه بخلافه : فإنه يلقي دعاويه ويحاول تدعيمها بكل ما تصل إليه يده ولا يزال لذلك في حنايا وتعاريج لا تزيده إلا بعدا عن الصراط المستقيم.
وهذا الفرق من قوله تعالى :" على بصيرة ".
مباحث لفظية :
" على بصيرة " يتعلق بأدعوا، واختيرت على لتدل على تمام التمكن " أنا " تأكيد للضمير المستتر في أدعو، ونكتته الإعلان بنفسه في مقام الدعوة، وشأن الداعي على بصيرة أن يجهر بدعوته ولا يستسر بها، واتصال اللفظ الدال عليه باللفظ الدال على اتباعه كما تتصل بدعوته. وشأن الصورة اللفظية مطابقة الصورة الخارجية والكلام تصوير للواقع.
" من " تفيد العموم لكل تابع، وأكملهم في الاتباع أكملهم في الدعوة ؛ لأن الموصول يفيد التعليل بصلته، فهم يدعون لأنهم متبعون.
تنزيه الله تعالى :
موحدون أخطأوا :
الاعتراف بوجود خالق للكون يكاد يكون غريزة مركوزة في الفطرة، ويكاد لا تكون لمنكريه، عنادا – نسبة عددية بين البشر.
ولكن أكثر المعترفين بوجوده قد نسبوا إليه ما لا يجوز عليه، ولا يليق بجلاله : من الصاحبة والولد، والمادة والصورة، والحلول والشريك في التصرف في الكون، والشريك في التوجه والضراعة إليه، والسؤال منه والاتكال عليه.
فأرسل الله الرسل ليبينوا للخلق تنزهه عن ذلك كله.
وكان من سبيل محمد - صلى الله عليه وآله وسلم – أنه يدعو الخلق إلى الله، وينزهه عن كل ما نسبه إليه المبطلون، وتخيله المتخيلون وهو معنى قوله :" وسبحان الله ".
فهو يدعوهم إلى الله الذي قد عرفوا وجوده بفطرتهم، وعرفوا أنه هو خالق الكون وخالقهم، لا يسميه إلا بما سمى به نفسه، ولا يصفه إلا بما وصف به نفسه، ويعرفهم بآثار قدرته، ومواقع رحمته، ومظاهر حكمته، وآيات ربوبيته وألوهيته، ووحدانيته في جلاله وسلطانه، وينزهه عن المشابهة والمماثلة لشيء من مخلوقاته لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وهذا التنزيه – وإن كان داخلا في الدعوة إلى الله فإنه – خصص بالذكر، لعظم شأنه ؛ فإنه ما عرف الله ما شبهه بخلقه، أو نسب إليه ما لا يليق بجلاله، أو أشرك به سواه. وإن ضلال أكثر الخلق جاءهم من هذه الناحية.
فمن أعظم وجوه الدعوة وألزمها، تنزيه الله تعالى عن الشبيه والشريك، وكل ما لا يليق.
والمسلمون المتبعون لنبيهم - صلى الله عليه وآله وسلم – في الدعوة إلى الله على بصيرة، متبعون له في هذا التنزيه : عقدا، وقولا، وعملا، وإعلانا، ودعوة.
مباحث لفظية :
" سبحان٧ " منصوب بفعل تقديره أسبح أي أنزه، والجملة معطوفة على جملة أدعو، فهي من بيان القبيل.
البراءة من المشركين :
ألوان من الشرك :
الأمة التي بعث منها النبي - صلى الله عليه وآله وسلم –وهي أول أمة دعاها إلى الله، هي الأمة العربية، وهي أمة كانت مشركة تعرف أن الله خلقها ورزقها، وتعبد مع ذلك أوثانها : تزعم أنها تقربها إلى الله، وتتوسط لها لديه ! !
فكان النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – كما يدعو إلى الله وينزهه، يعلن براءته من المشركين، وأنه ليس منهم : براءة من عقيدتهم، وأقوال وأعمال شركهم. فهو مباين لهم في العقد، والقول، والعمل مباينة الضد للضد : فكما باين التوحيد الشرك، باين هو المشركين، وذلك معنى قوله :" وما أنا من المشركين ".
وهذه البراءة والمباينة – وإن كانت مستفادة من أنه يدعو إلى الله وينزهه – فإنها نص عليها بالتصريح، لتأكيد أمر مباينة المشركين، ( والبعد عن الشرك بجميع وجوهه وصوره جلة وخفية ).
في جميع مظاهر شركهم، حتى في صورة القول، كما ( شاء الله وشاء فلان ). فلا يقال :( وشاء فلان ) كما جاء في حديث بيناه في جزء من الأجزاء الماضية٨.
أو في صورة الفعل : كأن يسوق بقرة أو شاة مثلا إلى ضريح من الأضرحة، ليذبحها عنده، فإنه ضلال كما قاله " الشيخ الدردير في باب النذر ".
فضلا عن عقائدهم : كاعتقاد أن هناك ديوانا من عباد الله يتصرف في ملك الله، وأن المذنب لا يدع
١ " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "..
٢ رواه ابن ماجة من طريق أبي الدرداء رضي الله عنه بسند موثق وفيه ابن سميع قال فيه ابن عدي : حسن الحديث..
٣ " ثم دمرنا الآخرين. وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون " الصافات، الآيات : ١٣٦ - ١٣٩.
٤ وإذن فمن اعظم الضرر أن نقف، أو يقف بعضنا جامدين أمام الذين يستخفون بالدين وتعاليمه، وإنما علينا أن ننكر عليهم وندعو العاصين إلى الطاعة، ونأمر بالمعروف وننهي عن المنكر، وإن غضب الذين ندعوهم، لأن هذا واجب النصيحة لله ورسوله ولكتابه، وبذلك كنا خير أمة أخرجت للناس :" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله " صدق الله العظيم..
٥ والأولى للحاكم وولي الأمر، والقادر. ولا شك أننا نقدر جميعا على الناس ومهما كانت قوة المبطلين، فقوة الداعي إلى الله أقوى منهم، والله يعصمك من الناس..
٦ ويلاحظ في البند الأول من ماهية الدعوة كيفيتها : إن الإسلام يبارك العلم أيا كان نوعه وفرعه ما دام يقصد به وجه الله تعالى، وخر البشرية..
٧ وأصل سبحانه مبالغة من سبح في الماء وبعد، وكل سابح يبعد عن مكانه، فمعنى سبحان الله تنزه عن النقائص وبعد عنها..
٨ جاء في سنة ابن ماجة عن حذيفة بن اليمان: أن رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي من أهل الكتاب، فقال : القوم أنتم، لولا أنكم تشركون، وتقولون : ما شاء الله، وشاء محمد. وذكر ذلك للنبي (ص)، فقال :" أما والله إن كنت لا أعرفها لكم، قولوا ما شاء الله، ثم شاء محمد " وفي رواية "قولوا : ما شاء الله وحده ". وقد نفى النبي (ص) أنه يعرف هذه المقالة الجاهلية، رجع من هدي النبوة لابن باديس ص ١٩٦، قضية كافية وبيان وشفاء وغناء..
Icon