ﰡ
مكيةٌ، آيُها مِئَةٌ وإحدى عشرةَ آيةً، وحروفُها سبعةُ آلافٍ وثلاثةٌ وأربعونَ حرفًا، وكَلِمُها ألفٌ وستٌّ وسبعونَ كلمةً.
عن ابنِ عطاءٍ: لا يسمعُ سورةَ يوسفَ محزونٌ إلا استروَحَ (١).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رُوِيَ أنَّ اليهودَ سألوا رسولَ اللهِ - ﷺ - عن قصةِ يوسفَ عليه السلام، فنزلتِ السورةُ، ولم يتكررْ من معناها في القرآن شيءٌ كما تكررتْ قصصُ الأنبياءِ عليهم السلام (٢).﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١)﴾ [يوسف: ١].
[١] قوله عز وجل: ﴿الر﴾ تقدَّمَ الكلامُ عليه، ومذاهبُ القراء فيه في أولِ سورةِ يونسَ.
﴿تِلْكَ﴾ أي: هذهِ السورةُ ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ﴾ أي: البيِّن حلالُه
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (٩/ ١١٨).
...
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢)﴾ [يوسف: ٢].
[٢] ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ﴾ أي: الكتابَ المتضمِّنَ قصةَ يوسفَ وغيرَها.
﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ بِلُغَتِكم. قرأ ابنُ كثير (قُرَانًا) بالنقل (١)، و (قرآنًا) حالٌ و (عربيًّا) صفةٌ له.
﴿لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ لكي تعلموا معانيَهُ، وتفهموا ما فيه، والعقلُ: إدراكُ معنى الكلام.
...
﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣)﴾ [يوسف: ٣].
[٣] ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ نبين لك خبرَ مَنْ تقدَّمك أحسنَ بيانٍ.
﴿بِمَا أَوْحَيْنَا﴾ بإيحائنا ﴿إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ﴾ أي: هذه السورةَ.
﴿وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: وقد كنتَ قبلَ القرآنِ.
﴿لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾ أي: الساهِين عن قصةِ يوسفَ لا تعلَمُها.
...
[٤] ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ﴾ أي: واذكرْ إذ قالَ يوسفُ.
﴿لِأَبِيهِ﴾ ويوسفُ اسمٌ عبرانيٌّ لا يجري فيه الإعرابُ.
﴿يَاأَبَتِ﴾ قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (يَا أَبَتَ) بفتحِ التاءِ حيثُ وقعَ على تقديرِ: يا أبتاهُ، ووقفًا (يَا أَبَهْ) بالهاءِ الساكنة، ووافقهما على الوقف ابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ، وقرأ الباقون، ومنهم ابن كثيرٍ، ويعقوبُ: بكسر التاءِ؛ لأن أصلَه (يا أَبَهْ)، والجزمُ يحرَّكُ إلى الكسرِ (١).
﴿إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ﴾ قرأ أبو جعفرٍ: (أَحَدَ عْشَرَ) بإسكانِ العين، والباقون: بفتحها (٢).
﴿كَوْكَبًا﴾ أي: نجمًا من نجومِ السماءِ.
﴿وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ ولم يقل: رأيتها لي ساجدةً، جمعَهم جمعَ العقلاء؛ لوصفِهم بالسجودِ.
وكان يوسفُ قد رأى في نومِه وهو ابنُ اثنتي عشرةَ سنةً ليلةَ القدرِ، ورأى أن أحدَ عشرَ كوكبًا والشمسَ والقمرَ قد نزلوا فسجدوا له.
روي عن جابرٍ: أن يهوديًّا جاءَ إلى رسولِ اللهِ - ﷺ -، فقال: يا محمدُ!
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٧٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٤٧).
وكان النجومُ في التأويلِ إخوتَه، وكانوا أحدَ عشرَ؛ لأنه يُستضاء بالإخوةِ كما يُستضاءُ بالكواكبِ، وَالشَّمسُ أُمُّه، والقمرُ أبوه.
...
﴿قَالَ يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥)﴾ [يوسف: ٥].
[٥] فلما ذكر ذلك لأبيه ﴿قَالَ يَبُنَيَّ﴾ قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (يَا بُنَيَّ) بفتحِ الياءِ، والباقونَ: بكسرِها، وتصغيرُ (بني) للشفقةِ (٢).
﴿لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ﴾ فهمَ يعقوبُ عليه السلام من رؤياه أنَّ اللهَ يصطفيهِ لرسالتِه، ويفوقُ على إخوته، فخافَ عليه حسدَهم، فأمره
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٢٧)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٨٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٤٧).
﴿فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا﴾ فيحتالون في هلاكِك؛ لأنهم يعلمونَ تأويلَها.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ يحملُهم على الحسدِ والكيدِ.
﴿مُبِينٌ﴾ ظاهرُ العداوةِ بَيِّنُها.
قال - ﷺ -: "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنَ اللهِ، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ، فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ إِلَّا مَنْ يُحِبُّ، وإذَا رَأَى مَا يَكْرَهُ، فَلاَ يُحَدِّثْ بِهِ، وَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ، وَلْيَتَعَوَّذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ شَرِّ مَا رَأَى؛ فَإنَّهَا لاَ تَضُرُّهُ" (٢).
...
﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦)﴾ [يوسف: ٦].
[٦] ﴿وَكَذَلِكَ﴾ يقولُه يعقوبُ عليه السلام ليوسفَ، أي: كما رفعَ منزلتَكَ بهذهِ الرؤيا، فكذلك ﴿يَجْتَبِيكَ﴾ يصطفيكَ ﴿رَبُّكَ﴾ بما هو أعظمُ منها.
﴿وَيُعَلِّمُكَ﴾ أي: وهو يعلِّمُكَ ﴿مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ تعبيرِ الرؤيا، وما يَؤولُ أمرُها إليه، وكانَ يوسفُ أعبرَ الناسِ للرؤيا.
(٢) رواه البخاري (٦٦٣٧)، كتاب: التعبير، باب: إذا رأى ما يكره فلا يخبر بها ولا يذكرها، ومسلم (٢٢٦١)، كتاب: الرؤيا، عن أبي سلمة -رضي الله عنه-.
﴿كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ﴾ أي: أبيكَ وجَدِّك؛ فإنَّ الجدَ أبٌ في الأصالةِ، يقالُ: فلانُ بنُ فلانٍ، وبينَهما عدةُ آباءٍ ﴿إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ﴾ بجعلِهما نَبِيَّيْنِ.
﴿إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ﴾ بمَنْ يستحقُّ الاجتباءَ ﴿حَكِيمٌ﴾ في صنعِه، وكان بينَ رؤيا يوسفَ وتحقيقِها بمصيرِ أبيه وإخوته إليه أربعونَ سنةً في قولِ الأكثرِ.
...
﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧)﴾ [يوسف: ٧].
[٧] ﴿لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ﴾ أي: في خبرِه وخبرِ إخوته، وهم روبيلُ، وهو أكبرهم، وشمعون، ولاوى، ويهودا، وزلون، ويساخر وأمُّهم لَيَّا بنتُ ليَّانَ، وهي ابنةُ خالِ يعقوبَ، وولد له من سُرِّيتينِ اسمُ إحداهما زُلْفَى، والأخرى بُلْهة أربعة، وهم: دان، ونَفْتالي، وكاد، وأشر، ثم تُوفيت ليا، فتزوج يعقوبُ أختَها راحيل، فولدت له يوسفَ وبنيامين، فكان بنو يعقوبَ اثني عشرَ رجلًا.
﴿آيَاتٌ﴾ عِظاتٌ ﴿لِلسَّائِلِينَ﴾ عنها، وغيرِ السائلين، وذلك أن اليهود لما سألوا رسولَ الله - ﷺ - عن قصةِ يوسفَ، فذكر لهم القصةَ، فوجدوها موافقةً لما في التوراةِ، فعجبوا منه، فهذا معنى قوله تعالى: (لآياتٌ)؛ أي: دلالة على نبوةِ محمدٍ رسولِ الله - ﷺ -. قرأ ابنُ كثيرٍ: (آيَةٌ)
...
﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٨)﴾ [يوسف: ٨].
[٨] ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ﴾ اللامُ فيه جوابُ القسم، تقديرُه: واللهِ ليوسفُ ﴿وَأَخُوُه﴾ بنيامينُ.
﴿أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا﴾ وكان يعقوبُ شديدَ الحبِّ ليوسفَ، فكان يرى منه الميلُ إليه ما لا يرى لإخوته.
﴿وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ جماعةٌ عشرةٌ تُعْصَبُ بنا الأمورُ، وفينا كفايةٌ، ويفضِّلُهما علينا، ولا كفايةَ فيهما؛ لصغرهما، وأصلُ العصبةِ والعصابةِ التَّعَصُّبُ والشَّدُّ، وتطلق على الثلاثةِ أو العشرةِ إلى الأربعين.
﴿إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: خطأ من رأيهِ ظاهرٌ؛ لاختيارِهما علينا، وليسَ المرادُ الضلالَ عن الدين. قرأ أبو عمرٍو، وعاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (مُبينِ اقْتُلُوا) بكسرِ التنوينِ في الوصلِ لالتقاءِ ساكن التنوين والقافِ، وقرأَ الباقونَ: بكسر النونِ وضمِّ التنوين إتباعًا لضمةِ التاءِ ومراعاةً لها، واختلِف عن ابنِ ذكوانَ في الكسرِ والضمِّ، والوجهانِ صحيحان عنه (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٤٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٥٠).
[٩] ﴿اقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ كانت هذهِ مقالَة شمعون، أو دان.
﴿أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا﴾ أي: أَبْعِدوه إلى أرضٍ بعيد من أبيه.
﴿يَخْلُ﴾ أي: يخلُصْ ﴿لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ﴾ فيُقبِلُ بكلِّيتهِ عليكم.
﴿وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ﴾ بعدَ يوسفَ والفراغ من أمرِه.
﴿قَوْمًا صَالِحِينَ﴾ يصلُحُ حالُكم عندَ أبيكم، وقيل: معنى (صالحين)؛ أي: تائبين، تُحْدِثوا بعد ذلك توبة، فيقبلُها الله منكم.
...
﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (١٠)﴾ [يوسف: ١٠].
[١٠] ﴿قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ﴾ هو يهودا على الأصحِّ.
﴿لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ﴾ نَهاهم عن قتلِه، وقال: القتلُ كبيرةٌ عظيمةٌ.
﴿وَأَلْقُوهُ﴾ اطرحوه ﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ قَعْرِهِ، والغَيابةُ: ما غابَ عن العينِ، والجبُّ: البئرُ التي لم تُطْوَ؛ لأنها جُبِّبَتْ من الأرض؛ أي: قُطعتْ، والبئرُ بينَ مصرَ ومدينَ على ثلاثةِ أميالٍ من منزلِ يعقوبَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (غَيَابَاتِ) على الجمع (١).
﴿يَلْتَقِطْهُ﴾ يأخذْه من غيرِ طلبٍ ولا قصدٍ ﴿بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ المسافرينَ.
﴿إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ﴾ ما عَزَمْتُم عليه من القتلِ؛ فإنَّ القتلَ عظيمٌ، وهم كانوا يومئذٍ بالِغينَ، ولم يكونوا أنبياءَ بعدُ.
وأما حكمُ اللقيطِ، وهو الطفلُ المنبوذُ، فالتقاطُه مندوبٌ عندَ أبي حنيفة، وعندَ الثلاثة فرضُ كفايةٍ، وهو حرٌّ مسلمٌ إن وُجِدَ في بلدٍ فيه مسلمٌ يولَدُ لمثلِه عندَ الثلاثةِ، وقال أبو حنيفةَ: إن التقطَ من بِيعَةٍ أو كنيسةٍ أو قريةٍ من قُراهم، فيكونُ ذِمِّيًّا، وأما حضانتهُ، فلواجِدِه إن كانَ عدلًا بالاتفاق، وما وُجِدَ معه فنفقتُه منه، وإلَّا من بيتِ المالِ بالاتفاق، ومن ادَّعاهُ لحقَ به نَسَبًا لا دينًا عندَ الثلاثةِ، وعن مالكٍ في استِلْحاقِ الملتقَطِ المسلمِ بغيرِ بينةٍ قولان، وفي مسلمٍ غير الملتقط أقوالٌ، ثالثُها: إن أتى بوجه، لحق؛ كمن زعمَ أنه طرحَه؛ لأنه لا يعيشُ له ولدٌ، وسمعَ أنه إذا طرحَهُ عاشَ، وأما الذميُّ، فإنه لا يلحقُه إلا ببينةٍ، وميراثُه وديتُه لبيتِ المالِ بالاتفاق.
وأما اللُّقَطَةُ، وهي المالُ الضائعُ من رَبِّه، فقالَ أبو حنيفةَ: أخذُها أفضلُ، وقال مالكٌ: يُستحبُّ أخذُها بنيةِ حفظِها إنْ كانتْ مما لهُ خَطَرٌ، وقال الشافعيُّ: يُستحبُّ لواثقٍ بأمانةِ نفسِه، وقالَ أحمدُ: تركُها أفضلُ، ويجوزُ أخذُها لمن أمنَ نفسَه.
فمن وجدَ ما تقلُّ قيمتُه، ولا تتبعُه الهِمَّةُ، ملكَه بغيرِ تعريفٍ بالاتفاق، وأما الحيوانُ الممتنِعُ بنفسِه؛ كبعيرٍ وفرسٍ ونحوِهما، فيجوزُ التقاطُه عندَ
ولا فرقَ بينَ لُقَطَةِ الحرمِ وغيرِه عندَ الثلاثِة، وعند الشافعيِّ لا تحلُّ لقطةُ الحرمِ للتملُّكِ، ويجبُ تعريفُها قطعًا، والله أعلم.
***
[١١] فلما أجمعَ إخوةُ يوسفَ على التفريقِ بينَه وبينَ والدِه بضربٍ من الحِيَلِ.
﴿قَالُوا﴾ ليعقوبَ:
﴿يَاأَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ﴾ لِمَ تخافنُا عليه؟ بدؤوا بالإنكارِ عليه في تركِ إرسالِه معهم. وأجمعَ القراءُ على قراءةِ (مالَكَ لاَ تأمَنَّا) بإدغامِ النونِ الأولى في الثانية، واختلفوا في اللفظِ به، فقرأ أبو جعفرٍ بإدغامِه محضًا من غيرِ إشارةٍ، بل يلفظُ بنونٍ مفتوحةٍ مشدَّدةٍ، وهو على أصلِه في إبدالِ الهمزِ حرفَ مَدٍّ، وقرأ الباقونَ بالإشارة، واختلفوا فيها، فبعضُهم جعلَها رَوْمًا، فيكونُ حينئذٍ إخفاءً، ولا يتمُّ معها الإدغامُ الصحيحُ، وبعضُهم جعلها إِشْمامًا، فيشيرُ إلى ضمِّ النونِ بعدَ الإدغامِ، فيصحُّ معه حينئذٍ الإدغامُ، قالَ ابنُ الجزريَّ: وبالقولِ الثاني قطعَ سائرُ أئمةِ أهلِ الأداءِ من مُؤَلِّفي الكتبِ، وحكاه أيضًا الشاطبيُّ، قال: وهو اختياري، لأني لم أجدْ نصًّا يقتضي خلافَه، ولأنه الأقربُ إلى حقيقةِ الإدغامِ، وأصرحُ في اتباعِ الرسمِ، انتهى (١).
﴿وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ﴾ قائمونَ بمصلحتِه وحِياطتِه حتى نردَّه إليكَ.
...
[١٢] ﴿أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا﴾ إلى الصحراءِ.
﴿يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ نُنَعَّمْ ونَلْهو. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ عامرٍ: بالنونِ فيهما، وابنُ كثيرٍ: بكسرِ العين من (نَرْتعَ)، وروايةُ قنبل يثبتُ الياءَ بعدَ العينِ وصلًا ووقفًا، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: بالياء فيهما معَ كسرِ العين من (يَرْتعَ)، وقرأ الباقون، وهم: الكوفيون، ويعقوبُ: بالياءِ فيهما معَ إسكانِ العين من (يَرْتع)؛ كأبي عمرٍو وابنِ عامرٍ، فالقراءةُ بالنون فيهما أُسندَ الفعلُ إلى جميعِهم، ولم يكونوا أنبياءَ يومئذٍ، وبالياء فيهما أُسنِدَ الفعلُ إلى يوسفَ، وبكسر العين من (نَرْتعَ) من الرعي، فلامُه ياء حُذِفَتْ للجزم، وبقيت الكسرةُ تدلُ عليها، وبإسكانِ العين جزمًا جوابًا (لأرسلْه) (١).
﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ أن ينالَه مكروهٌ.
...
﴿قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣)﴾ [يوسف: ١٣].
[١٣] ﴿قَالَ﴾ لهم يعقوبُ: ﴿إِنِّي لَيَحْزُنُنِي﴾ قرأ نافعٌ (لَيُحْزِنُنِي) بضمِّ الياءِ وكسرِ الزاي، والباقون: بفتحِ الياءِ وضمِّ الزاي، وفتحَ أبو جعفرٍ،
﴿أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ﴾ أي: ذهابُكم به، والحزنُ هاهنا ألمُ القلبِ بفراقِ المحبوبِ.
﴿وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ﴾، وكان يعقوبُ قد رأى في منامِه أن الذئبَ قد شَدَّ على يوسفَ، فكانَ يخافُ من ذلك ﴿وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ﴾ مشغولون بعملِكم. قرأ أبو جعفرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وورشٌ عن نافعٍ: (الذِّيبُ) بإسكان الياء بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمز (٢).
...
﴿قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (١٤)﴾ [يوسف: ١٤].
[١٤] ﴿قَالُوا لَئِنْ﴾ التقديرُ: واللهِ لَئِنْ ﴿أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ عَشَرَةٌ، وجوابُ القسم ﴿إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾ ضعفاءُ مغبونونَ.
...
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٥)﴾ [يوسف: ١٥].
[١٥] ثم قالوا ليوسف: أما تحبُّ الخروجَ معنا؟ قال: بلى، قالوا:
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٤٦)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٨)، "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٩١ - ٣٩٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٥٥).
﴿فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ﴾ جَعَلوا يحملونَه على عواتِقِهم إكرامًا لهُ، وسرورًا به، فلما أَبعدوا به عن العيون، أَلْقَوه، وجعلوا يضربونَهُ، وكلما لجأَ إلى واحدٍ منهم، ضربَهُ، ولا يزدادُ عليهِ إلا غلظةً وحنقًا، وجعلَ يبكي بكاءً شديدًا، وينادي: يا أبتاه! يا يعقوبُ! ما أسرعَ ما نَسُوا عهدَكَ، وضَيَّعوا وَصيَّتَكَ، لو تعلمُ ما يَصنعُ بابنِك أولادُ الإماءِ! قالو!: فأخذَه روبيلُ فجلدَ بهِ الأرضَ، وثبتَ على صدره، وأرادَ قتلَه، فقال: مهلًا يا أخي، لا تقتلْني، فقال له: قُلْ لرؤياكَ تُخَلِّصُك من أيدينا، ولوى عنقَه ليكسرَها، فنادى: يا يهودا! وكان أرفَقَهم به اتَّقِ اللهَ وحُلْ بيني وبينَ من يريدُ قتلي، فأخذَتْه رقةٌ ورحمةٌ، فقال يهودا: ألستُمْ قد أعطيتموني موثقًا ألا تقتلوه؟ قالوا: بلى، قال: فأنا أدلُّكم على ما هو خيرٌ لكم من القتل، ألقوه في الجبِّ، قالوا: نفعلُ.
﴿وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ﴾ عزموا على إلقائهِ.
﴿فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ﴾ تقدَّم تفسيرُه، واختلافُ القراءِ فيهِ، ومحلُّ الجبِّ عندَ تفسيرِ الحرفِ المتقدِّمِ، وجعلَ يوسفُ يتعلَّق بثيابِهم، فنزعوها من يديه، فتعلق بشفيرِ البئر، فربطوا يديه، ونزعوا قميصَه لما عزموا عليه من الكذبِ، فقال: يا إخوتي! ردوا عليَّ ثوبي أسترُ به عورتي في حياتي، ويكونُ كفنًا لي بعدَ مماتي، فلم يفعلوا، وألقوه، وكان يعقوبُ قد جعلَ قميصَ إبراهيمَ الذي كُسِيه لما ألُقي في النار في قصبةٍ، وشدَّ رأسَها، وعلَّقها في عنقِ يوسفَ، لما كانَ يخافُ عليه من العينِ، وكان لا يفارقُه، فأخرجَهُ جبريلُ وألبسَه إياه، وقامَ على صخرةٍ بجانبِ البئرِ، فأرادوا رضخَهُ بحجرٍ، فمنعَهم
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ﴾ وكانَ ابنَ ثماني عشرة سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿لَتُنَبِّئَنَّهُمْ﴾ فيما يُستقبل ﴿بِأَمْرِهِمْ هَذَا﴾ الذي فعلوا بك.
﴿وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ أنَّكَ يوسفُ؛ لعلوِّ قدرِك، وبعد عهدِهم عنك.
...
﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦)﴾ [يوسف: ١٦].
[١٦] ثم نحروا سَخْلَةً، ولطَّخوا قميصه بدمِها، ولم يشقُّوه ﴿وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ﴾ أي: مُتباكينَ وقتَ المساء، ليكونوا أَجْرَأَ على الاعتذارِ بالكذب.
****
﴿قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧)﴾ [يوسف: ١٧].
[١٧] فرُوي أن يعقوبَ سمعَ صياحَهم وعويلَهم، فخرجَ فقال: ما لكم يا بني؟ أصابَكم في غنمِكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فما أصابكم؟ وأين يوسفُ؟
﴿قَالُوا يَاأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ﴾ من السِّباقِ في الرَّمْيِ بالسهامِ.
﴿وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا﴾ ثيابِنا.
﴿لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ﴾ لسوءِ ظَنِّكَ بنا، وفرطِ محبتِكَ ليوسفَ.
...
﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨)﴾ [يوسف: ١٨].
[١٨] ﴿وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ﴾ أي: مكذوبٍ فيه؛ لأنه لم يكنْ دمَ يوسفَ، فقالَ يعقوبُ: كيفَ أكلَه الذئبُ، ولم يشقَّ قميصَه؟ فاتَّهمهم، و ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ﴾ أيَ: زَيَّنَتْ ﴿لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ (بَل سوَّلَتْ) بإدغامِ اللام في السين، والباقون: بالإظهار (١).
﴿فَصَبْرٌ﴾ أي: فأمري صبرٌ.
﴿جَمِيلٌ﴾ والصبرُ الجميلُ: ما لا شكوى فيهِ إلى مخلوقٍ.
﴿وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ﴾ أي: أطلبُ منه العونَ.
﴿عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ من شأنِ يوسفَ.
...
﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩)﴾ [يوسف: ١٩].
[١٩] ولبثَ في البئرِ ثلاثةَ أيامٍ ﴿وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ﴾ جماعةٌ يسيرون من مَدْيَنَ إلى مصرَ، أخطأوا الطريقَ، فنزلوا قريبًا من الجبِّ، وكان في قَفْرٍ بعيدٍ
﴿فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ﴾ الذي يردُ الماء ليستقيَ لهم منه، وهو مالكُ بنُ ذعْرٍ الخزاعيُّ.
﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ ليملأَها، فتعلَّق يوسفُ بالحبلِ، فلما خرجَ، إذا هو بغلامٍ أحسنَ ما يكونُ من الغلمانِ، قالَ النبيُّ - ﷺ - "قَدْ أُعْطِيَ يُوسُفُ شَطْرَ الْحُسْنِ، وَالنِّصْفُ الآخَرُ لِسَائِرِ النَّاسِ" (١)، فلما رآه مالكُ بنُ ذعرٍ.
﴿قَالَ يَابُشْرَى هَذَا غُلَامٌ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، وأبو عمرٍو، ويعقوبُ: (يَا بُشْرَايَ) بياءٍ مفتوحة بعدَ الألف؛ أي: بَشَّرَ المستقي نفسَهُ وأصحابَهُ، يقولُ: أبشروا بغلامٍ، وقرأ الباقونَ، وهم الكوفيون: (يَا بُشْرَى) بغيرِ ياءٍ إضافةٍ على وزن فُعْلَى (٢)، يريدُ: نادى المستقي رَجُلًا من أصحابِه اسمهُ بُشْرى، وأمالَ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ فتحةَ الراء، وقرأ ورشٌ الراءَ بينَ اللفظين، والباقون: بإخلاصِ فتحِها،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٤٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤٤٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٥٧).
﴿وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً﴾ الضميرُ للواردِ وأصحابه؛ أي: أخفَوا أمرَ يوسفَ، وقالوا: دفعَه لنا أهلُ الماءِ لنبيعَه لهم بمصرَة لئلا يطالبَهم رُفْقَتُهم بالشركة فيه، ورُوي أنَّ إِخوةِ يوسفَ أخفَوا شأنَه؛ لأنه لما أخذَهُ المدلي، علم به يهودا؛ لأنه كان يأتيه بطعامه، فذهبَ وإخوتَه إلى السيارة، فقالوا: هذا عبدٌ لنا أَبَقَ، فاشتروهُ منا، ويوسفُ ساكتٌ لا يتكلَّمُ مخافةَ القتلِ.
﴿وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ لم تخفَ عليه أسرارُهم.
...
﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)﴾ [يوسف: ٢٠].
[٢٠] ﴿وَشَرَوْهُ﴾ السيارةُ من إخوته. قرأ ابنُ كثيرٍ: (وَشَرَوْهُو) بواو يصلُها بهاء الكناية في الوصلِ، وتقدَّمَ التنبيهُ عليه أولَ سورةِ البقرة (٢) ﴿بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ ناقصٍ عنِ القيمةِ.
﴿دَرَاهِمَ﴾ لا دنانيرَ ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ قليلةٍ؛ لأنهم كأنوا لا يَزِنُون إلا ما بلغَ أوقيةً، وهو أربعونَ درهمًا، ويَعُدُّون ما دونَها، وكانت الدراهمُ عشرينَ درهمًا، فاقتسَمَها إخوةُ يوسفَ درهمينِ درهميِن.
﴿وَكَانُوا﴾ إخوةُ يوسفَ ﴿فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ ليبعدَ عنهم.
...
(٢) عند تفسير الآية: (٢).
[٢١] فلما قدمتِ السيارةُ بيوسفَ مصرَ، دخلوا به السوقَ يعرضونه للبيع، وكانتْ قوافلُ الشامِ تنزلُ بالناحيةِ المعروفةِ اليومَ بالموقفِ، وهي ظاهرَ مصرَ خارجَ كومِ الجارحِ بالقربِ من الجامعِ الطولونيِّ، فوقفَ الغلامُ، ونوديَ عليه، فاشتراهُ قِطْفيرُ صاحبُ أمرِ الملك، وكان على خزائنِ مصرَ يُسَمَّى العزيزَ، واشتراهُ بعشرينَ دينارًا وزوجِ نعلٍ، وثوبينِ أبيضين، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ﴾ هو قِطفيرُ المذكورُ ﴿لِامْرَأَتِهِ﴾ واسُما زَليخَا، وقيل: رَاعِيل ﴿أَكْرِمِي مَثْوَاهُ﴾ منزلَهُ؛ أي: أَحْسِني تعهُّدَه.
﴿عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا﴾ فيما نحتاجُ إليه، وكانَ العزيزُ لا يولَدُ له فقال:
﴿أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ نتبنَّاهُ؛ لما رأى فيه من مخايلِ الفلاحِ.
﴿وَكَذَلِكَ﴾ أي: وكإنجائِنا يوسفَ من الشدائدِ وعطفِ قلبِ العزيزِ عليه.
﴿مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ أرضِ مصرَ؛ بأن جعلناهُ حاكمًا عليها.
﴿وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ هي تعبيرُ الرؤيا.
﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ﴾ الهاءُ في (أمره) لله تعالى؛ أي: لا مانعَ
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ مرادَ الله تعالى.
...
﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّه﴾ منتهى شبابِه وقُوَّته، جمعُ شدٍّ، وهو ثلاثٌ وثلاثونَ سنةً في أظهرِ الأقوالِ.
﴿آتَيْنَاهُ حُكْمًا﴾ نبوةً ﴿وَعِلْمًا﴾ فِقْهًا.
﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ المطيعينَ.
...
﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَرَاوَدَتهُ﴾ أي: طالبته مرةً بعدَ مرةٍ برفقٍ وسهولةٍ.
﴿الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا﴾ وهي زليخا احتالَتْ عليه، وأرادتْ خدعَهُ ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ لتنالَ غرضَها منه، وكانت تكتمُ حُبَّهُ، فخَلَتْ به، وتزيَّنَتْ له، وعَرَّفَتْه أنها تحبُّه، وأنه إِن واتاها على ما تريدُه منه، حَبَتْهُ بمالٍ عظيمٍ، فامتنعَ من ذلك، ورامَتْ أن تغلبَهُ.
﴿وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ﴾ عليها وعليه، وكانت سبعةً.
﴿وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ قرأ أبو عمرٍو، ويعقوبُ، وعاصمٌ، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (هَيْتَ) بفتح الهاءِ والتاءِ من غيرِ همزٍ؛ أي: هَلُمَّ وأَقْبِلْ إلى ما أدعوكَ إليه، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ
﴿قَالَ﴾ يوسفُ لها عندَ ذلك: ﴿مَعَاذَ اَللَّهِ﴾ أستجيرُ بالله مما دَعَوْتيني إليه.
﴿إِنَّهُ رَبِّىَ﴾ المعنى: زوجُكِ قِطفيرُ سيدي.
﴿أَحْسَنَ مَثْوَايَ﴾ حينَ أوصاكِ بإكرامي، فما جزاؤه أن أخونَهُ، وقيل: المرادُ (بربي): اللهُ سبحانه، أحسنَ إليَّ بما أعطاني. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو، وابنُ كثيرٍ: (رَبِّيَ) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (٢)، وقرأ الدوريُّ عن الكسائيِّ (مَثْوَايَ) بالإمالة (٣).
﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ لا يسعد الزُّناةُ؛ فإنَّ الزنى ظلمٌ على الزاني والمزنيِّ بأهلِه.
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦١).
(٣) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٨)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦١).
[٢٤] ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ﴾ أي: بمخالطتِه، والهمُّ: هو المقاربةُ من الفعلِ من غيرِ دخولٍ فيه.
﴿وَهَمَّ بِهَا﴾ بخطراتِ القلبِ الذي لا يقدرُ البشر على التحفُّظِ منه، ورجعَ عندَ ذلكَ ولم يتجاوزْه.
﴿لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ رُوي أنّه رأَى صورةَ يعقوبَ عاضًّا على أصبغِه، وبه كانَ يُخَوَّفُ صغيرًا، وقيلَ غيرُ ذلكَ، وجوابُ لولا محذوفٌ، تقديرُه؛ لولا أنْ رأى برهانَ رَبِّهِ، لواقعَ المعصيةَ، وقيل: في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ أي: ولقد همتْ به، ولولا أن رأى برهانَ رَبِّه، لهمَّ بها.
﴿كَذَلِكَ﴾ فعلْنا مثل ذلك ﴿لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ﴾ الزنى.
﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ قرأ الكوفيون، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ (الْمُخْلَصِينَ) بفتحِ اللامِ حيثُ وقَع؛ أي: المختارين، وقرأ الباقون: بكسرها (١)؛ أي: المخلِصين لله الطاعةَ، واختلافُهم في الهمزتين من (الْفَحْشَاءَ إِنَّهُ) كاختلافِهم فيهما مهن (شُهَداءَ إِذْ) في سورة البقرة.
...
[٢٥] ورُوي أنها سترَتْ صنمًا كانَ عندَها، فقال: لِمَ سترتِهِ؟ قالت: أَسْتَحيي أن يراني على معصية، فقال: أتستحيينَ ممن لا يسمعُ ولا يبصرُ، وأنا أحقُّ أن أستحييَ من ربي؟ وهرب (١).
﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ وَحَّدَ البابَ، وأرادَ: الجنس؛ أي: تسابقا إليه، وذلك أن يوسفَ فرَّ منها ليخرجَ، وأسرعتْ وراءه لتمنعَه الخروجَ، فأدركَته، فلزمَتْه.
﴿وَقَدَّتْ﴾ شَقَّتْ ﴿قَمِيصَهُ﴾ نِصفين ﴿مِنْ دُبُرٍ﴾ من خَلْفِه.
﴿وَأَلْفَيَا﴾ وَجَدا ﴿سَيِّدَهَا﴾ زوجَها قِطفيرَ، وكان عِنِّينًا لا يأتي النساءَ ﴿لَدَى الْبَابِ﴾ عندَ البابِ جالسًا، فلما رأتْهُ.
﴿قَالَتْ﴾ سابقةً بالقولِ لزوجِها:
﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا﴾ أي: زنًا، ثم خافَتْ عليه أن يُقتلَ فقالتْ: ﴿إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ﴾ أي: يُحْبَسَ ﴿أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ يضربُ بالسياطِ.
[٢٦] فلما عَرَّضَتْهُ للهلاكِ ﴿قَالَ﴾ يوسفُ دفعًا عن نفسِه، وتنزيهًا لعرضه: ﴿هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي﴾ يعني: طلبَتْ مني الفاحشةَ، فأبيتُ وفررتُ.
﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا﴾ كانَ طفلًا في المهد، وهو ابنُ خالها، أنطقَه اللهُ، وقد وردَ عن ابنِ عباسٍ عنِ النبي - ﷺ -: "تَكَلَّمَ أَرْبَعَةٌ وَهُمْ صِغَارٌ: ابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَعِيسَى اَبْنُ مَرْيَمَ" (١)، وقيلَ: كان رجلًا حكيمًا ذا رأيٍ، وهو ابنُ عمِّها. قرأ أبو عمرٍو (وَشَهِد شاهِدٌ) بإدغامِ الدالِ في الشين (٢).
﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ لأنه إذا طلبَها، دفعتْهُ عن نفسِها، فشقَّتْ قميصَه مِنْ قُدَّام، أو يسرع ليدركَها فيعثرَ في ثوبِهِ فينشَقَّ.
...
﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧)﴾ [يوسف: ٢٧].
[٢٧] ﴿وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ﴾ لأنها إذا تبعَتْه هي، تعلَّقَتْ
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦٣).
...
﴿فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨)﴾ [يوسف: ٢٨].
[٢٨] ﴿فَلَمَّا رَأَى﴾ زوجُها ﴿قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ﴾ عرفَ براءةَ يوسفَ.
﴿قَالَ﴾ لها: ﴿إِنَّهُ﴾ أي: قولُكِ: ما جزاءُ مَنْ أرادَ بأهلِكَ سوءًا ﴿مِنْ كَيْدِكُنَّ﴾ حِيَلِكُنَّ.
﴿إِنَّ كَيْدَكُنَّ﴾ معاشرَ النسوةِ ﴿عَظِيمٌ﴾ وسُمِّيَ كيدُ الشيطانِ ضعيفًا؛ لأنه وسوسةٌ، وكيدُ النساءِ عظيمًا؛ لأنه مواجهةٌ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وابنُ ذكوانَ: (رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ) (رَأَى قَمِيصَهُ) بإمالةِ الراءِ تبعًا للهمزة، واختلِفَ عن هشامٍ وأبي بكرٍ، وأمال أبو عمرٍو الهمزة فقط (١).
...
﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩)﴾ [يوسف: ٢٩].
[٢٩] ثم أقبلَ مخاطبًا ليوسفَ حاذفًا حرفَ النداءِ فقالَ: {يُوسُفُ أَعْرِضْ
﴿إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ المتعمِّدينَ للذنبِ، وقيل: هذا من قولِ الشاهدِ لهما، وقوله: (من الخاطئين)، ولم يقل: منَ الخاطئاتِ؛ لأنه لم يقصدِ الخبرَ عن النساءِ، وإنما قصدَ القومَ الخاطئين، وكان العزيزُ حليمًا قليلَ الغيرةِ.
...
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٣٠)﴾ [يوسف: ٣٠].
[٣٠] واتصل خبرُ زليخا ويوسف بنساءِ الخاصَّة، فَعَيَّرْنَها بذلكَ، فذلكَ قوله: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ﴾ هي مدينةُ مصرَ.
﴿امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ ورُسمت (امْرَأَتُ) بالتاءِ في سبعةِ مواضعَ، وقفَ عليها بالهاءِ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، والكسائيُّ، ويعقوبُ (١).
﴿تُرَاوِدُ فَتَاهَا﴾ غلامَها ﴿عَنْ نَفْسِهِ﴾ لتنالَ شهوتَها منه.
﴿قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا﴾ أصابَ حُبُّهَ شَغافَ قلبِها. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ: (قَد شغَفَهَا) بإدغامِ الدالِ في الشين، والباقون: بالإظهار (٢).
(٢) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٥/ ٣٠١)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦٤).
...
﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١)﴾ [يوسف: ٣١].
[٣١] ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ﴾ بِغِيبَتِهِنَّ لها ﴿أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ﴾ دَعَتْهُنَّ إليها. قرأ يعقوبُ: (إِلَيْهُنَّ) بضمِّ الهاءِ حيثُ وقَع (١).
﴿وَأَعْتَدَتْ﴾ أعدَّت؛ أي: هَيَّأَتْ.
﴿لَهُنَّ مُتَّكَأً﴾ ما يُتَّكَأُ عليه، وقُرِئَ في الشواذِّ (مُتْكًا) بضمِّ الميمِ وإسكانِ التاء (٢)، وهو الأَتْرُجُّ، وصنعَتْ لهنَّ طعامًا وشرابًا، وعملَتْ مجلسينِ مُذْهَبينِ، وفرشَتْهما بديباجٍ أصفرَ مُذْهَبٍ، وأَرْخَتْ عليهما ستورَ الديباجِ، وأمرتِ المواشطَ بتزيينِ يوسفَ وإخراجِه من المجلس الذي يُحاذي المجلسَ الذي كانتْ معَ النسوةِ فيه، وكانَ المجلسُ محاذيًا للشمسِ، فأخذنَهُ المواشطُ، ونَظَمْنَ شعرَهُ بأصنافِ الجواهرِ، وألبسنَهُ ثوبَ ديباجٍ أصفرَ قد نُسِجَ بداراتٍ حمرٍ مُذْهَبَةٍ فيها أطيارٌ صغارٌ خضرٌ مبطَّن ببطانةٍ خضراءَ، ومن تحتِه غلالةٌ حمراءُ، وعلى رأسِهِ تاجٌ قد نُظِمَ بالدرِّ والجوهرِ، وأخرجْنَ من تحتِ التاجِ أطرارَ شعرِه على جبهتِه، وردَدْنَ ذوائبَهُ على صدرِهِ، وجعلْنَ جُمَّتَهُ مكشوفةً، والتاجُ يحيطُ بها، وفي أذنيه قرطَي جوهرٍ،
(٢) انظر: "المحتسب" لابن جني (١/ ٣٣٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦٦).
﴿وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ﴾ بعدَ الجلوسِ على المتكأ.
﴿سِكِّينًا﴾ نِصابُها من جوهرٍ، وكُنَّ يأكُلْن اللحمَ حَزًّا بالسكين، وقيلَ: ليقطعنَ بها الفاكهةَ، فيقال: إنهن أخذْنَ أترجًّا، وهنَّ يقطعنَهُ، فلما فرغَ النساءُ من طعامهنَّ، وشربْنَ أقداحًا، قالت لهنَّ: قد بلغني حديثُكن في أمري مع عبدي، فقلْنَ لها: الأمرُ كما بلغَكِ لأنك أعلى قدرًا من هذا، ومثلُكِ يرتفعُ عن أولادِ الملوكِ بحسنِك وشرفِكِ، فكيفَ رضيت (١) بغلامِكِ؟! قالت: لم يبلُغْكُنَّ الصدقُ، ولا هو عندي بهذا.
﴿وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ﴾ وأومأتْ إلى المواشطِ أن يُخْرِجْنَ يوسفَ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَقَالَتُ اخْرُجْ) بضمِّ التاءِ في الوصلِ (٢)، وقرأ يعقوبُ: (عَلَيْهُنَّ) بضمِّ الهاء حيثُ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٤٨)، و"التيسير" للداني (ص: ٧٨)، =
﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ﴾ أعظَمْنَهُ، وهالَهُنَّ حسنُهُ، فاشتغلْنَ برؤيتِه.
﴿وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ موضعَ الفاكهةِ التي كانت معهنَّ؛ أي: جَرَحْنَها لَمَّا رأينه دهشًا، وبقينَ لا يعينَ الكلامَ ذهولًا منهنَّ بما بهرَهُنَّ من حسنِ يوسفَ.
﴿وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ كلمةٌ تفيدُ معنى التنزيهِ. قرأ أبو عمرٍو، (حَاشَا للهِ) بإثباتِ الألفِ بعدَ الشينِ حالةَ الوصلِ في الموضعين، وحذفَها الباقون وصلًا ووقفًا (٢).
﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ نصبٌ خبرُ (ما)، وذلك أن زليخا قالتْ لهنَّ: ما لكُنَّ قد اشتغلْتُنَّ عن خطابي بالنظرِ إلى عبدي؟! فقلنَ: معاذ اللهِ! ما هذا عبدكِ.
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ مع علمِهِنَّ أنه بشرٌ؛ لأنه ثبتَ في النفوس أن لا أكملَ ولا أحسنَ خَلْقًا من الملَكِ، ولم يبقَ منهنَّ امرأةٌ إلا حاضَتْ وأنزلَتْ شهوةً من محبتِهِ.
...
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٢)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦٦).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٤٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٢٨)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٤٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٦٦).
[٣٢] ﴿قَالَتْ﴾ زليخا عندَ ذلك ﴿فَذَلِكُنَّ﴾ (كُنَّ) للنسوةِ، و (ذا) ليوسفَ.
﴿الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ فقلْنَ: ما ينبغي لأحدٍ أن يلومَكِ في هذا، ومن لامَكِ فقدْ ظلمَكِ، فدونكه، ولم تقل: هذا مع حضورِه، رفعًا لمحلِّه، فلما بانَ عذرُها لهنَّ، اعترفَتْ ببراءته فقالت:
﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ امتنعَ، فخاطِبْنَهُ لي، فكانت كلُّ واحدةٍ منهن تخاطبهُ وتدعوه سرًّا إلى نفسِها، وتتبذَّلُ له، وهو يمتنعُ عليها فإذا يئستْ منهُ أن يجيبَها لنفسِها، خاطبتْهُ من جهةِ زَليخا، وقالتْ: مولاتُك تحبُّكَ وأنتَ تكرَهُها، ما ينبغي أن تخالِفَها، فيقولُ: ما لي بذلكَ حاجةٌ، فلما رأيْنَ ذلك، أجمعْنَ على أَخذه غَصْبًا، فقالَتْ زليخا: لا يجوزُ هذا.
﴿وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ﴾ به من قضاءِ شهوتي ﴿لَيُسْجَنَنَّ﴾ بالسجنِ ﴿وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ الذليلينَ، ولأمنعنَّا اللذاب، وأنتزعُ جميعَ ما أعطيتُه، ونونُ التأكيدِ تُثَقَّلُ وتُخفف، فالوقفُ على قوله: (لَيُسْجَنَنْ) بالنونِ؛ لأنها مشددة، وعلى قوله: (وَلَيَكُونًا) بالألفِ؛ لأنها مخففةٌ، وهي شبيهةٌ بنونِ الإعراب في الأسماءِ؛ كقولك: رجلًا، ومثله (لَنَسْفَعًا).
...
﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣)﴾ [يوسف: ٣٣].
[٣٣] فاختارَ يوسفُ السجنَ على المعصيةِ، وأقسمَتْ زَليخا بإِلَهِها،
﴿قَالَ رَبِّ﴾ أي: يا ربِّ ﴿السِّجْنُ﴾ أي: المحبسُ. قراءة العامةِ بكسرِ السين، وقرأ يعقوبُ: بالفتح على المصدر (١).
﴿أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ أحبَّ سُكنى السجنِ على قضاءِ حاجتهنَّ، وقيل: لو لم يقلْ: السجنُ أحبُّ إليَّ، لم يُبْتَلَ بالسجن، والأَوْلى بالمرءِ أن يسألَ الله العافيةَ.
﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ﴾ أي: وإن لم تُنَجِّني أنت، ومعناه: الاستسلامُ لله تعالى والتوكُّلُ عليه ﴿أَصْبُ﴾ أَمِلْ ﴿إِلَيْهِنَّ﴾ مأخوذٌ من الصَّبوةِ، وهي أفعالُ الصِّبا.
﴿وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ الذين لا يُراعونَ أوامرَ اللهِ ونواهيَهُ، وهو قولٌ يتضمَّنُ التشكيَ إلى اللهِ من حالِه معهنَّ، والدعاءَ إليهِ في كشفِ بلواه.
...
﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)﴾ [يوسف: ٣٤].
[٣٤] فلذلك قالَ بعدَ مقالةِ يوسفَ: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ﴾ أي: أجابَه إلى إرادتِه ﴿فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾ بأنْ حالَ بينَهُ وبينَ المعصيةِ.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ صِفتان لائقتانِ بقوله: (استجابَ).
...
[٣٥] ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ﴾ أي: للعزيزِ وأصحابِه في الرأيِ رأيٌ بخلافِ الأول، وذلك أنهم أرادوا أن يقتصروا من يوسف على الأمرِ بالإعراضِ، ثم بدا لهم.
﴿مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ﴾ الدالَّةِ على براءتِه من شَقِّ القميصِ وكلامِ الشاهدِ وقطعِ الأيدي.
﴿لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ إلى مدةٍ ينقطعُ كلامُ الناسِ في ذلك، رُويَ أن المرأةَ قالَتْ لزوجِها: إن هذا العبدَ العبرانيَّ قد فضحَني في الناسِ يخبرُهم أني راودتُه عن نفسِه، فإما أن تأذنَ لي فأعتذرَ للناسِ، وإما أن تحبسَه، وكان العزيزُ مِطْواعًا (١) لها، وجُمَيلًا ذلولًا حتى أنساهُ ذلكَ ما رأى من الآياتِ، فأمرَ به فحُبس (٢).
...
﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)﴾ [يوسف: ٣٦].
[٣٦] ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ﴾ عبدانِ للملكِ، كان أحدُهما ساقيَهُ، واسمُه مرطس، والآخَرُ صاحب طعامِه، واسمُه راسان، وكان المصريون قد بذلوا لهما رشوةً ليسمَّا الملكَ، فردَّها الساقي، وقبلَها الخبازُ، وسمَّ
(٢) انظر: "تفسير الطبري" (١٢/ ٢١٣).
﴿قَالَ أَحَدُهُمَا﴾ وهو الساقي ﴿إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا﴾ أستخرجُها من العنبِ، لأنه رأى في نومه أنه قد دخلَ بستانًا، فإذا بكرمةٍ عليها ثلاثةُ عناقيدَ، فعصرَ العناقيدَ في زجاجةٍ، فأتى به الملكَ فشربَه.
﴿وَقَالَ الْآخَرُ﴾ وهو الخباز ﴿إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا﴾ لأنه رأى أنه خرج من مطبخِ الملكِ وعلى رأسهِ ثلاثُ سِلالٍ فيها الخبزُ وأنواعُ الأطعمة.
﴿تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ﴾ من ذلك الطعامِ، وكانا صادِقَينِ في قولهما.
﴿نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ﴾ أخبرْنا ما قصصْنا عليك، وما يَؤولُ أمرُه إليه.
﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ العالِمينَ بتأويلِ الرؤيا. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ) (إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ) بإسكانِ الياءِ فيها، وافقَهم ابنُ كثيرٍ في (إِنَّي) في الحرفينِ (١)، وكان يوسفُ عليه السلام إذا مرضَ إنسانٌ في السجنِ عادَه، وقامَ عليه، وإذا ضاقَ، وسَّعَ له، وإذا احتاجَ، جمعَ له شيئًا، وكانَ مع هذا يجتهدُ في العبادةِ، ويقومُ الليلَ كلَّه للصلاة، وقال لقومٍ في السجنِ انقطعَ رجاؤهم وحَزِنوا: أبشِروا واصبِروا تُؤْجَروا؛ فإن لهذا آخِرًا، فقالوا له: باركَ اللهُ فيكَ ما أحسنَ خَلْقَكَ وخُلُقَكَ، لقد أحسنتَ إلينا.
...
[٣٧] ثم ﴿قَالَ﴾ للساقي والخبازِ.
﴿لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ﴾ تأكلانِه في اليقظةِ. قرأ قالونُ عن نافعٍ، وعيسى عن أبي جعفرٍ: (تُرْزَقَانِهِ) باختلاس كسرةِ الهاءِ بخلافٍ عنهما (١) ﴿إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا﴾ أخبرتُكما ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ بكيفيتهِ وكميتهِ.
﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا﴾ وإن رأيتُما ذلكَ في النوم، أخبرتُكما بما يؤولُ إليه، فقالا له: من أينَ لكَ ذلك؟ فقال:
﴿ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ بأنْ أوحاه إليَّ، ولم أقلْه تكهُّنًا ولا تنجُّمًا. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو (رَبِّيَ) بفتحِ الياء، والباقونَ: بإسكانها (٢).
﴿إِنِّي تَرَكْتُ﴾ رفضتُ.
﴿مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ وتكرارُ (هم) على التأكيد.
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٠ - ١٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٧٠).
[٣٨] ﴿وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ أظهرَ أنهُ من ولدِ الأنبياء. قرأ الكوفيون، ويعقوبُ: (آبَاِئي) بإسكانِ الياء، والباقونَ: بفتحِها.
﴿مَا كاَنَ﴾ ينبغي ﴿لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ لأنا معاشرَ الأنبياء معصومون من الشركِ.
﴿ذَلِكَ﴾ التوحيدُ والعلمُ ﴿مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا﴾ بذلكَ.
﴿وَعَلَى النَّاسِ﴾ بإرسالِنا إليهم.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ المرسَلِ إليهم.
﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ فضلَ اللهِ عليهم، بل يكفرون.
...
﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ ءأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)﴾ [يوسف: ٣٩].
[٣٩] ثم دعاهم إلى الإسلام فقال: ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ أي: يا صاحِبَيَّ فيه ﴿ءأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ﴾ أي: آلهة شتَّى عاجزةٌ لا تضرُّ ولا تنفعُ.
﴿أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ﴾ المنفردُ بالألوهية ﴿القَهَّارُ﴾ الغالبُ على كلِّ شيءٍ.
...
﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٤٠)﴾ [يوسف: ٤٠].
[٤٠] ثم قالَ لهما ولِمَنْ على دينهما ﴿مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ﴾ أي: اللهِ (١) ﴿إِلَّا أَسْمَاءً﴾ أي: مسمَّياتٍ؛ لأنَّ الاسمَ لا يُعبَدُ ﴿سَمَّيْتُمُوهَا﴾ آلهةً ﴿أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ﴾ تخرُّصًا ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ﴾ حجةٍ وبرهانٍ.
﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾ في جميعِ الأشياءِ ﴿إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ﴾ أي: التوحيدُ ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ الثابتُ المستقيمُ.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فيخبِطون في جهالاتِهم.
...
﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١)﴾ [يوسف: ٤١].
[٤١] ثم شرعَ في تفسيرِ رؤياهُما وقالَ: ﴿يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا﴾ وهو الساقي ﴿فَيَسْقِي رَبَّهُ﴾ يعني: الملكَ.
﴿وَأَمَّا الْآخَرُ﴾ وهو الخبازُ، فخروجُه من المطبخِ خروجُه من عملِه، والسلالُ الثلاثُ، فلبثُه في السجنِ ثلاثةَ أيامٍ، ثم يُخرجه الملكُ.
﴿فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ﴾ فلما سمعا قولَ يوسفَ، قالا: إنما كنا نلعبُ، وما رأينا شيئًا، فقال:
﴿قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ﴾ أي: في معناه ﴿تَسْتَفْتِيَانِ﴾ تسألان؛ أي: ما قلتُ واقعٌ حتمًا، صدقتُما أو كذبتُما.
...
﴿وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢)﴾ [يوسف: ٤٢].
[٤٢] ﴿وَقَالَ﴾ يوسف ﴿لِلَّذِى ظَنَّ﴾ أي: علمَ.
﴿أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا﴾ وهو الساقي. رُوِيَ عن قنبلٍ، ويعقوبَ: الوقفُ بالياء على (نَاجِي).
﴿اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ﴾ أي: سيدِكَ الملكِ، فقل له: في السجنِ غلامٌ محبوسٌ ظلمًا طالَ حبسُه.
﴿فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ﴾ أي: فأَنسى الساقيَ ذكرَ يوسفَ لسيدِه، فلم يذكرْه له، وقيل: أنسى الشيطانُ يوسفَ ذكرَ الله حتى استغاثَ بغيرِه، وتلكَ غفلةٌ عرضتْ ليوسفَ.
روُي أن جبريلَ عليه السلام قال له: من الذي حَبَّبَكَ إلى أبيكَ دونَ إخوتِكَ، وحفِظَكَ في الشدائدِ؟ فقال: الله، فقال: إنه يقولُ: أحسبْتَ أني أنساكَ في السجنِ حتى استغثْتَ بغيرِي وأنا أقربُ إليكَ وأقدرُ على خلاصِك؟ لتلبثَنَّ فيه بضعَ سنين، قال: وربِّي عنِّي راضٍ؟ قال: نعم، قالَ: فلا أبالي إذن (١).
ورُوي أن يوسفَ لما قالَ ذلكَ، قيل له: أَتَّخَذْتَ من دوني وكيلًا؟ لأطيلنَّ حبسَكَ، فقالَ: يا ربَّ! أنسى قلبي كثرةُ البلوى، قالَ - ﷺ -: "لَوْلاَ كَلِمَةُ يُوسُفَ، مَا لَبثَ في السِّجْنِ مَا لَبِثَ" (٢).
...
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣)﴾ [يوسف: ٤٣].
[٤٣] ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ﴾ يعني: ملكَ مصرَ الأكبرَ، وهو الريان بنُ الوليدِ، من العمالِقَةِ، وهو فرعونُ يوسفَ، والقبطُ تسمِّيه نَهْراوُش، وكان عظيمَ الخلقِ، جميلَ الوجهِ، عاقِلًا متمكِّنًا، وهو جدُّ فرعونِ موسى، وكان أقوى
(٢) رواه ابن حبان في "صحيحه" (٦٢٠٦)، وابن أبي حاتم في "تفسيره" (٧/ ٢١٤٨)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-. وفي الباب: عن ابن عباس، والحسن البصري، وغيرهما.
﴿إِنِّي أَرَى﴾ قرأ أبو عمرٍو، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ) بفتحِ الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ﴾ خَرَجْنَ من البحرِ.
﴿يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ﴾ أي: وخرجَ عقبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ، وهي التي بلغَتْ من الهزالِ النهايةَ، فابتلعتِ العجافَ السمانَ، فدخلَتْ في بطونهن، ولم يتبيَّنْ على العجافِ منها شيءٌ.
﴿وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ﴾ قد انعقدَ حَبَّها ﴿وَأُخَرَ﴾ أي: وسبعًا أُخَرَ ﴿يَابِسَاتٍ﴾ قد أدركَتْ فالْتَوَتِ اليابساتُ على الخضرِ حتى غلبْنَ عليها، ولم يبقَ من خضرتِها شيء، فقال لعرَّافيه ومنجِّميه:
﴿يَاأَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ﴾ عَبِّروها.
﴿إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُ﴾ تفسِّرونَ. قرأ الكسائيُّ، وخلفٌ: (لِلرُّؤْيَا) بالإمالةِ (٢)، واختلافُ القراءِ في الهمزتينِ من (الْمَلأُ أَفْتُوني)
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٤٤)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي =
...
﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (٤٤)﴾ [يوسف: ٤٤].
[٤٤] ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ﴾ أي: أخلاطُ رؤيا كاذبة، والأضغاثُ جمعُ ضِغْثٍ: وهو الحزمةُ من النباتِ، والأحلامُ جمعُ حلمٍ، وهو ما يُرى في النومِ.
﴿وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ﴾ الباطلةِ كهذه الرؤيا ﴿بِعَالِمِينَ﴾ لاختلاطِها.
...
﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)﴾ [يوسف: ٤٥].
[٤٥] ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا﴾ من القتلِ، وهو الساقي.
﴿وَادَّكَرَ﴾ بدالٍ مهملةٍ، أي: تذكَّرَ أمرَ يوسفَ.
﴿بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ أي: حينٍ، وهو مدُة لبثِ يوسفَ في السجنِ، وبالهاءِ والتخفيف (أَمَهٍ): بعدَ نسيانٍ، والتلاوةُ بالأولِ.
﴿أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (أَنَا أُنَبِّيكُم) بالمدِّ (١)، وذلك أن الغلام جثا بينَ يديِ الملكِ وقالَ: إنَّ في السجنِ رجلًا يعبرُ الرؤيا.
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٥)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٧٣).
...
﴿يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦)﴾ [يوسف: ٤٦].
[٤٦] فأرسلوه، فأتى السجنَ، ولم يكنِ السجنُ في المدينة، وإنما هو ببوصيرَ من عمل الجيزَةِ، وكان الوحيُ ينزلُ عليه فيه، وسطحُ السجنِ موضعٌ معروفٌ بإجابةِ الدعاءِ، فقال: ﴿يوُسُفُ﴾ يعني: يا يوسفُ.
﴿أَيُّهَا الصِّدِّيق﴾ فيما عبرتَ لنا من الرؤيا، والصدِّيقُ: الكثيرُ الصدقِ، ولذلك سُمِّي أبو بكرٍ صِدِّيقًا، وهو فِعِّيلٌ للمبالغةِ والكثرةِ.
﴿أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ﴾ فإن الملكَ رأى هذهِ الرؤيا.
﴿لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ﴾ أي: الملكِ وأصحابِه؛ لاحتمالِ أنه يُخترَمُ في الطريق؛ لأنه لم يكنْ جازمًا بالرجوع. قرأ الكوفيون، وابن عامرٍ، ويعقوبُ: (لَعَلِّي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٥٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٧٤).
﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧)﴾.
[٤٧] فـ ﴿قَالَ﴾ يوسفُ معبرًا: أما البقراتُ السمانُ، والسنبلاتُ الخضرُ، فسبعُ سنينَ مخصباتٌ، والبقراتُ العجافُ، والسنبلاتُ اليابساتُ، فسبعُ سنينَ مجدباتٌ، ثم قالَ مرشدًا لهم:
﴿تَزْرَعُونَ﴾ أي: ازرعوا، فهو خبرٌ بمعنى الأمر ﴿سَبْعَ سِنِينَ﴾ على عادتِكم ﴿دَأَبًا﴾ قراءة العامةِ: (دَأْبًا) بإسكانِ الهمز؛ أي: تلازمونَ ذلكَ.
وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ: بفتح الهمزِ (١)؛ أي: بجدٍّ وتعبٍ.
﴿فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ﴾ أي: اتركوه في أصلِه لئلا يفسدَ.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ﴾ أي: تدرسون قليلًا للأكلِ بقدرِ الحاجةِ.
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾.
[٤٨] ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: بعدَ السنينَ الخصبةِ.
﴿سَبْعٌ شِدَادٌ﴾ صعابٌ.
﴿يَأْكُلْنَ﴾ أي: السنونَ يُفنينَ ويُهلكنَ.
﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ﴾ تُحْرِزونَ وتَدِّخرونَ.
...
﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ أي: بعدَ السنينَ المجدبةِ.
﴿عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ يُمْطَرون، من الغيثِ.
﴿وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ العنبَ والزيتَ، والمرادُ: كثرةُ النعيمِ والخير. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تَعْصِرُونَ) بالخطاب؛ لأن الكلامَ كلَّه بالخطاب، وقرأ الباقون: بالغيبِ ردًّا إلى (الناس) (١).
...
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾.
[٥٠] ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ﴾ وذلكَ أن الساقيَ لما رجعَ إلى الملكِ، وأخبرَه بما أفتاه يوسفُ من تأويلِ رؤياه، عرفَ الملكُ أنَّ الذي قالَه كائنٌ، فقال: عَلَيَّ بهِ.
﴿فَاسْأَلْهُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلْهُ) بالنقلِ (١).
﴿مَا بَالُ﴾ ما حالُ ﴿النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ﴾ ولم يذكر امرأةَ العزيزِ تأدبًا ومراعاةً لحقِّها.
﴿إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ حينَ قلنَ لي: أطعْ مولاتَك، وأراد بذلك إظهارَ براءته بعدَ طولِ المدةِ حتى لا ينظرَ الملكُ إليهِ بعينِ التهمةِ، قال - ﷺ -: "لَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ" (٢)، وروي أنه قال: "رَحِمَ اللهُ أَخِي يُوسُفَ إِنْ كانَ إِلَّا ذَا أَنَاةٍ، لَوْ كُنْتَ أَنَا، لأَسْرَعْتُ الإِجَابَةَ" (٣)، يقولُ ذلكَ هضمًا للنفس، في هذا دليلٌ على وجوبِ الاجتهادِ في نفي التُّهَمِ، ونفيِ الوقوفِ في مواقفِها، في الحديث: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، فَلاَ يَقِفْ مَوَاقِفَ التُّهَمِ" (٤).
...
(٢) رواه البخاري (٣١٩٢)، كتاب: التفسير، باب: قوله عز وجل: ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾، ومسلم (١٥١)، كتاب: الإيمان، باب: زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، عن أبي هريرة -رضى الله عنه-.
(٣) رواه الإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٣٤٦)، والحاكم في "المستدرك" (٢٩٤٨)، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٤) قال الزيلعي في "تخريج أحاديث الكشاف" (٣/ ١٣٦): غريب.
[٥١] فجمعَهنَّ الملكُ، وامرأةُ العزيزِ معهنَّ، ثم ﴿قَالَ﴾ مخاطبًا للنسوةِ، والمرادُ: امرأةُ العزيزِ: ﴿مَا خَطْبُكُنَّ﴾ أَمْرُكُنَّ ﴿إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ﴾ هلْ وجدتُنَّ منه ميلًا إليكنَّ.
﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ﴾ تنزيهٌ له وتعجُّبٌ من عِفَّتِهِ ﴿مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ﴾ رِيبَةٍ، فَثَمَّ ﴿قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ﴾ معترفةً مخافةَ أن يشهدْنَ عليها ﴿الْآنَ حَصْحَصَ﴾ وضحَ ﴿الْحَقُّ﴾ وتبيَّنَ ﴿أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في قوله، وتقدَّمَ التنبيهُ على (امْرَأَت)، و (حَاشَ للهِ)، واختلاف القراء فيهما.
...
﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢)﴾.
[٥٢] فلما علمَ ذلكَ يوسفُ في السجنِ قالَ ﴿ذَلِكَ﴾ التثبتُ.
﴿لِيَعْلَمَ﴾ العزيز ﴿أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ﴾ في زوجتِهِ ﴿بِالْغَيْبِ﴾ في حالِ غيبتِهِ.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي﴾ أي: وليعلمَ أن اللهَ لا يهدي.
﴿كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾ العاصِينِ.
...
﴿وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)﴾.
﴿إِنَّ النَّفْسَ﴾ أي: جميعَ النفوسِ ﴿لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ﴾ بنيلِ شهوتها الرديَّةِ.
﴿إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ أي: إلا البعضَ الذي رحمَهُ ربي بالعصمةِ.
﴿إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (نَفْسِيَ) (رَبِّيَ) بفتحِ الياءِ فيهما، والباقون: بإسكانها (٢)، واختلافُهم في الهمزتينِ من قوله (بِالسُّوءِ إِلَّا) كاختلافِهم فيهما من ﴿هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في سورةِ البقرةِ [الآية: ٣١].
...
﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤)﴾.
[٥٤] فلما ظهرتْ براءتُه للملكِ، عرفَ علمَه ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ﴾ أجعَلْه خالِصًا.
﴿لِنَفْسِي﴾ دونَ غيرِهِ، ووجَّهَ إليه، فأُخرج، وغُسِّلَ من دَرَنِ السجنِ، وألُبسَ ما يليقُ بالدخولِ على الملوكِ، ودعا لأهلِ السجنِ فقالَ: اللهمَّ أعطفْ عليهم قلوبَ الأخيار، ولا تُعَمِّ عليهم الأخبار؛ فهم أعلمُ الناسِ بالأخبارِ، وكتبَ على بابِ السجنِ: هذا قبورُ الأحياء، وبيتُ الأحزان،
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٠ - ١٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٧٦ - ١٧٧).
﴿فَلَمَّا كَلَّمَهُ﴾ شِفاهًا، فقالَ: أحبُّ أن أسمعَ رؤيايَ منكَ، فحكاها، ونعتَ له البقراتِ والسنابلَ وأماكنَها على ما رآها.
﴿قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ﴾ مُمَكَّنٌ.
﴿أَمِينٌ﴾ مؤتمَنٌ على خزائني وأمري، فما تَرَى؟ قال: تزرعُ زرعًا كثيرًا، وتأخذُ من الناس خُمْسَ زُروعِهم في السنينَ المخصبةِ، وتَدَّخِرُ الجميعَ في سُنبلِهِ ليكونَ قصبهُ وسنبلُه عَلَفًا للدوابِّ، ويكفيكَ ولأهلِ مصرَ السنينَ المجدبةَ، ويأتيكَ الخلقُ من النواحي، فتمتارُ منكَ في حكمِك، ويُجمَعُ عندك من الكنوز ما لم يُجْمَعْ لأحدٍ قبلَكَ، فقالَ الملك: ومن لي بذلك؟
...
﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾.
[٥٥] ﴿قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ﴾ أي: أرضِ مملكتِكَ.
﴿إِنِّي حَفِيظٌ﴾ حافظٌ عليها ﴿عَلِيمٌ﴾ عالمٌ بوجوهِ التدبيرِ والتصرُّفِ، وإنما طلبَ ذلكَ شفقةً على المسلمينَ، لا منفعةً لنفسِه، فخَلَعَ عليه خِلَعَ الملوكِ، وألبسَه تاجًا، وأمرَ أن يُطافَ به، وركب الجيشُ معهُ، وعزلَ قِطفيرًا وجعلَه مكانَه مستخْلَفًا على الملكِ، وتردَّدَ إلى قصرِ الملكِ، وجلسَ
...
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)﴾.
[٥٦] ولم يزلْ يتلطَّفُ بالملِكِ حتى آمنَ، واتبعَ يوسفَ على دينِه، وكثيرٌ من الناسِ، ويوسفُ عليه السلام هو الذي بنى مدينةَ الفَيُّومِ من أعمالِ مصرَ، واستوثقَ له ملكُ مصرَ، فأقام فيهم العدلَ، وأحبَّه الرجالُ والنساءُ، فذلك قولُه تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: أرضَ مصرَ ﴿يَتَبَوَّأُ مِنْهَا﴾ أي: ينزل ﴿حَيْثُ يَشَاءُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ: (نَشَاءُ) بالنون، ردًّا على قوله: (مَكَّنَّا)، وقرأ الباقونَ: بالياءِ ردًّا على قوله (يَتبَوَّأ) (١).
﴿نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا﴾ أي: بنعمتِنا ﴿مَنْ نَشَاءُ﴾ في الدنيا والآخرة.
﴿وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ الصابرين.
...
﴿وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿وَلأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الشركَ، ثم جاءَ
...
﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)﴾.
[٥٨] وكان يوسفُ لا يبيعُ أحدًا من المجتازين إلا حِمْلَ بعيرٍ تقسيطًا بينَ الناسِ، وتزاحمَ الناسُ عليه، وأصابَ أرضَ كنعانَ وبلادَ الشام ما أصابَ أرضَ مصرَ من القحطِ، ونزلَ بيعقوبَ ما نزلَ بالناسِ، وكان منزلُه بأرضِ فلسطينَ بغورِ الشام، فأرسلَ بنيهِ العشرةَ إلى مصرَ للميرةِ، وأمسكَ بنيامينَ شقيقَ يوسفَ، فذلك قولُه تعالى:
﴿وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ﴾ تقدَّمَ اختلافُ القراء في الهمزتين من قوله تعالى: ﴿أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ﴾ في سورة البقرة [الآية: ١٣٣] وكذلك اختلافُهم في (وَجَاءَ إِخْوَةُ).
﴿فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ﴾ أنهم إخوتُه.
﴿وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ﴾ لبعدِ عهدِهم، وقلةِ تأملِهم في حلاهُ من التَّهَيُّبِ والاستعظامِ.
***
[٥٩] وكانَ بين أن قذفوه في البئرِ وبينَ أن دخلوا عليه أربعين سنة، فلما نظر إليهم يوسفُ وكلَّموهُ بالعبرانيةِ، قالَ: "أخبروني من أنتم؟ قالوا: قومٌ من أرض الشام، قال: بل أنتم جواسيسُ جئتُم تَطَّلِعون على عورة بلادي، قالوا: لا والله! لسنا بجواسيس، وإنما جئنا نمتارُ، ونحن إخوةُ بنو أبٍ واحدٍ، وهو شيخٌ صديقٌ نبيٌّ من أنبياءِ الله، وكان قد قال لنا: إن بمصرَ مَلِكًا صالحًا، فانطلقوا إليه، وأقرؤوه مِنِّي السلامَ، وهو يقْرِئُكَ السلامَ، فبكى يوسفُ وعصرَ عينيه، وكنا اثني عشرَ، هلكَ منا واحدٌ وبقي منا واحدٌ عندَه يتسلَّى به عن أخيه الهالك، قال: فاتركوا بعضكم رهينةً عندي، وأتوني بأخيكم من أبيكم، ويراسلني أبوكم على لسانِه، ويخبرني أبوكم مِمَّ حزنُه حَتَّى أصدقَكم، فتركوا عندَه شمعونَ، وكان يوسفُ يحسِنُ إليه.
﴿وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ أعطَى لكلٍّ منْهم حِمْلَ بعيرَ، والجهازُ: ما يُهَيّأُ لمن يُشَبَّعُ.
﴿قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ﴾ يعني: بنيامينَ.
﴿أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ﴾ أُتِمُّهُ، فأزيدكم حملَ بعيرٍ لأجلِ أخيكم.
﴿وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ﴾ المضيفينَ، وكان قد أحسنَ ضِيافَتَهم. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ بخلافٍ عن الثاني: (أَنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
[٦٠] ثم قال تهديدًا: ﴿فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي﴾ أي: ليس لكم عندي طعامٌ أَكيلُه لكم.
﴿وَلَا تَقْرَبُونِ﴾ في داري وبلادي، و (تَقْرَبُونِ) جزم نهي. قرأ يعقوبُ: (تَقْرَبُوني) بالياء بعدَ النونِ، والباقون: بحذفها (١).
...
﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١)﴾.
[٦١] ﴿قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ﴾ سنطلُبه منه باجتهادٍ ورفقٍ.
﴿وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ﴾ ما أمرتنَا به.
...
﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢)﴾.
[٦٢] ﴿وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيٌ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (لِفِتْيَانِهِ) بألفٍ بعدَ الياءِ ونونٍ مكسورةٍ، جمعُ فَتىً جمعَ كَثْرَة، وقرأ الباقون: (لِفِتْيَتِهِ) بتاءٍ مكسورةٍ بعدَ الياء من غيرِ ألفٍ، جمعُ فَتىً أيضًا جَمْعَ قِلَّةٍ (٢)، معناه: قال لغلمانه:
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٤٧٥)، والمصادر السابقة.
﴿لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا﴾ أي: كرامتَهم علينا.
﴿إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ إذا رأوا إحسانَه إليهم، وليعلموا أنه لم يطلبْ عودَهم لأجلِ الثمنِ، وأنهم إذا رأوا الثمنَ عادوا؛ لأنهم لا يستحلُّون أكلَه.
...
﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ﴾ قرأ يعقوبُ: (أَبِيهُمُ) بضمِّ الهاء، وابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ، وقالونُ بخلافٍ عن الثالثِ، (أَبِيهِمُو) بضمِّ الميم ووصْلِها بواوٍ في اللفظِ حالةَ الوصل.
﴿قَالُوا يَاأَبَانَا مُنِعَ﴾ أي: يُمْنَعُ ﴿مِنَّا الْكَيْلُ﴾ إنْ لم نحملْ أخانا إليه، وذكروا إحسانَهُ، وأنه قد ارتهنَ شمعونَ، وأخبروه بالقصةِ، والمرادُ بالكيل: الطعامُ؛ لأنه يُكالُ.
﴿فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا﴾ بنيامينَ ﴿نَكْتَلْ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَكْتَلْ) بالياء؛ أي: يكتلْ لنفِسه كما نكتالُ نحن، وقرأ الباقون: بالنون، بمعنى نكتلْ نحن وهوَ الطعامَ (١) ﴿وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ضامنونَ بردِّه إليك.
[٦٤] ﴿قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ﴾ يوسفَ.
﴿مِنْ قَبْلُ﴾ أي: كيفَ آمنُكم عليه وقد فعلتُم بيوسفَ ما فعلْتُم؟
﴿فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (حَافِظًا) بألفٍ بعدَ الحاءِ وكسرِ الفاءِ على التفسير؛ كما يقال: هو خيرٌ رَجُلًا، وقرأ الباقون: بكسرِ الحاءِ وإسكانِ الفاءِ من غيرِ ألفٍ على المصدرِ، يعني: خيرَكم حِفْظًا (١)، ونصبُه تمييز في الوجهين، المعنى: ولكنَّ حفظَ اللهِ خيرٌ من حفظِكم إياه، وحفظي، رُوي أنه لما قالَ ذلكَ، قال تعالى: وعِزَّتي لأردَّنَّ عليكَ كليهما.
﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ فأرجو أن يرحَمَني بحفظِه.
...
﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)﴾.
[٦٥] ﴿وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ﴾ الذي حملوه من مصر ﴿وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ﴾ ثمنَ الطعامِ ﴿رُدَّتْ إِلَيْهِمْ﴾ فعندَ عودِ بضاعتهم إليهم.
﴿قَالُوا يَاأَبَانَا مَا نَبْغِي﴾ من البغي؛ أي: ما نكذِبُ على هذا الملكِ، ولا في وصفِ إجمالِه وإكرامِه.
﴿وَنَمِيرُ أَهْلَنَا﴾ نجلبُ لهم الطعامَ ﴿وَنَحْفَظُ أَخَانَا﴾ بنيامينَ في الذهابِ والمجيء.
﴿وَنَزْدَادُ كَيْلَ﴾ أي: وِقْرَ ﴿بَعِيرٍ﴾ نَصيبَ أخينا.
﴿ذَلِكَ﴾ أي: حملُ البعيرِ ﴿كَيْلٌ يَسِيرٌ﴾ أي: ذلكَ مكيلٌ قليلٌ لا يكفينا، يعنون: ما يُكالُ لهم، وأرادوا أن يزدادوا إليه ما يُكالُ لأخيهم.
...
﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿قَالَ﴾ لهم يعقوبُ: ﴿قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ﴾ أثبتَ أبو عمرٍو، وأبو جعفرٍ الياءَ بعدَ النونِ في (تُؤْتُوني) وصلًا، وأثبتَها ابنُ كثيرٍ، ويعقوبُ في الحالين (١).
﴿مَوْثِقًا﴾ عَهْدًا ﴿مِنَ اللَّهِ﴾ مؤكَّدًا.
﴿لَتَأْتُنَّنِي بِهِ﴾ أي: تردُّونَه إليَّ ﴿إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ﴾ أي: إلا أن تهكِوا جميعًا.
...
﴿وَقَالَ يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَقَالَ﴾ لهم يعقوبُ لما أرادوا الخروجَ من عندِه: ﴿يَابَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ﴾ خافَ عليهِمُ العينَ؛ لجمالِهم، والمدينةُ التي أمرَهم أن يدخلوها من أبوابٍ متفرقةٍ هي الفَرْما، وهي أولُ مدنِ مصرَ من جهةِ الشَّمال بالقربِ من قَطْيا، وهي قريةُ أمِّ إسماعيلَ بنِ إبراهيمَ عليهما السلام، وكان لها أربعةُ أبواب، فدخلوا منها.
﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ﴾ لا أقولُ ذلك دَفْعًا لما قضي، سواءٌ دخلتُم متفرقين أو مجتمعين.
﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾ أي: ما الحكمُ ﴿إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ﴾ اعتمدْتُ.
﴿وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ وإلى اللهِ فليفوِّضْ أمورَهم المفوِّضونَ.
...
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦٨)﴾.
[٦٨] ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا﴾ متفرقينَ ﴿مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ﴾ من الأبوابِ المتفرقةِ.
﴿وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾ أي: هو عالمٌ عاملٌ بتعليمِنا إياه.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ما علمَ يعقوبُ.
...
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
[٦٩] ﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ﴾ قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنَا أن نأتيكَ به، قد جِئْنا به، فقال: أحسنتُم وأصبتُم، وستجدون ذلكَ عندي، ثم أنزلَهم وأكرمَهم وأجلسَ كلَّ اثنينِ منهم على مائدةٍ، فبقيَ بنيامينُ وحدَه، فبكى وقال: لو كانَ أخي يوسفُ حيًّا لأجلسَني معه، فأجلسَه يوسفُ معه، وجعلَ يؤاكِلهُ، وأنزلَ كلَّ اثنينِ في مكانٍ، فلم يبقَ لبنيامينَ ثانٍ، فقالَ: هذا لا ثانيَ له، فيكون معي، فباتَ عندَ يوسفَ فذلك قولُه عز وجل:
﴿آوَى﴾ أي: ضمَّ ﴿إِلَيْهِ أَخَاهُ﴾ فلما خلا به، قال له: ما اسمُك؟ قال: بنيامينُ، قال: أتحبُّ أن أكونَ أخاكَ بدلَ أخيكَ الهالكِ؟ فقال: ومَنْ يجدُ مثلَكَ؟ ولكنْ لم يلدْك يعقوبُ، ولا راحيلُ، فبكى يوسفُ وقامَ إليه وعانقَهُ، و ﴿قَالَ﴾ له: ﴿إِنِّي أَنَا أَخُوكَ﴾ يوسفُ. قرأ أبو عمرٍو، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثيرٍ: (إِنِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١)، وقرأ
﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾ أي: لا يلحقك بؤسٌ، وهو الشدةُ.
﴿بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ بِنا فيما مضى؛ فقد أحسنَ اللهُ إلينا، وجمعَنا، فلا تُعْلِمْهم بأمرِنا، فقال: لا أفارقكَ، فقال: قد علمتَ اغتمامَ والدي بي، وإذا احتبستُكَ، ازدادَ غَمُّهُ، ولا يمكِنُني أخذُك إلا بعدَ أن أرميَكَ بالسرقةِ، فقالَ: افعلْ ما شئتَ.
...
﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠)﴾.
[٧٠] فوفى يوسفُ الكيلَ لكلِّ واحدٍ من إخوته حِمْلَ بعير، وحَمَّلَ لبنيامينَ بعيرًا باسمِه كما حَمَّلَ لهم ﴿فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ﴾ أي: هَيَّأَ لهم أسباب الميرةِ،
﴿جَعَلَ السِّقَايَةَ﴾ وهيَ مكيالٌ يُكالُ به، ويشربُ فيه الملكُ.
﴿فِي رَحْلِ أَخِيهِ﴾ بنيامينَ، فلما انفصلوا عن مصرَ نحوَ الشام، أرسلَ يوسفُ من استوقَفهم فوقفوا.
﴿ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ﴾ نادى منادٍ. قرأ أبو جعفر، وورشٌ عن نافع: (مُوَذِّنٌ) فتح الواوِ بغيرِ همزٍ (٢).
(١) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٥٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٨١).
(٢) المصادر السابقة.
...
﴿قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (٧١)﴾.
[٧١] ﴿قَالُوا﴾ إخوةُ يوسفَ ﴿وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ﴾ عطفوا على المؤذِّنِ وأصحابه:
﴿مَاذَا﴾ أي: ما الذي ﴿تَفْقِدُونَ﴾؟ والفَقْدُ: غيبةُ الشيءِ عن الحسِّ بحيثُ لا يُعرفُ مكانُه.
...
﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ﴾ هو جامٌ كهيئةِ المكوكِ من فِضَّة. قرأ أبو عمرٍو: ﴿نَفْقِدُ صُوَاعَ﴾ بإدغام الدال في الصاد (١).
﴿وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ﴾ بالصُّواع ﴿حِمْلُ بَعِيرٍ﴾ من طعامٍ.
﴿وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ﴾ ضمينٌ لمن ردَّه، يقولُه المؤذِّنُ.
...
[٧٣] ﴿قَالُوا﴾ يعني: إخوةَ يوسفَ ﴿تَاللَّهِ﴾ أي: واللهِ! وخُصَّتْ هذهِ الكلمةُ بأنْ أُبدِلَتِ الواوُ فيها بالتاءِ في اليمينِ دونَ سائرِ أسماءِ اللهِ تعالى.
﴿لَقَدْ عَلِمْتُمْ﴾ استَشْهَدوا بعلمِهم لما ظهرَ من دينهم وأمانتِهم ﴿مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ﴾ أرض مصرَ ﴿وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ﴾ ما سَرَقْنا قط.
...
﴿قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤)﴾.
[٧٤] ﴿قَالُوا﴾ يعني: المناديَ وأصحابه ﴿فَمَا جَزَاؤُهُ﴾ أي: السارقُ، أو الصواعِ، أي: جزاءُ سرقتِهِ ﴿إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ﴾ في قولكم؟
...
﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿قَالُوا جَزَاؤُهُ﴾ مبتدأٌ، خبرُهُ ﴿مَنْ وُجِدَ﴾ السَّرَقُ ﴿فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ أي: جزاءُ السارقِ أن يسلَّم إلى المسروقِ منه، فيسترقَّهُ سنةً، وهذا حكمُ السارقِ في شرعِ يعقوبَ ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ بالسرقةِ.
...
﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦)﴾.
﴿ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا﴾ أي: السرقةَ ﴿مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ﴾ واختلافُ القراء في حكمِ الهمزتينِ من قوله: (وَعَاءِ أَخِيهِ) كاختلافِهم فيهما من (خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ) في سورة البقرة [الآية: ٢٣٥].
﴿كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ﴾ أي: علَّمناهُ، وأوحينا إليه.
﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ﴾ أي: لم يكنْ له أخذُ أخيه ﴿فِي دِينِ الْمَلِكِ﴾ أي: حكمِ ملكِ مصرَ، وهو أن يغرمَ السارقُ مثلَيْ ما أَخَذَ، ويُضربَ، لا أن يُستعبَدَ، فأجرى اللهُ على ألسنةِ إخوتِه حكمَ دينهم؛ ليصحَّ أخذُه منهم.
﴿إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ الاستثناءُ في هذه الآية حكايةُ حالٍ التقديرُ: إلا أن يشاءَ اللهُ ما وقعَ من هذهِ الحيلةِ.
﴿نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ﴾ بالعلمِ والعملِ؛ كيوسف. قراءة العامةِ: (نَرْفَعُ) و (نَشَاءُ) بالنون فيهما، وأهلُ الكوفةِ ينونون (دَرَجَاتٍ)، وقرأ يعقوبُ: (يَرْفَعُ) و (يَشَاءُ) بالياء فيِهما (١).
﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ﴾ من الخلقِ.
﴿عَلِيمٌ﴾ واللهُ فوقَ كلِّ عالم، ولا يناسُبه أحدٌ في علمِه.
...
[٧٧] ﴿قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ﴾ بنيامينُ ﴿فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ أرادوا يوسُفَ، وكانَ دخلَ كنيسةً فأخذَ صنمًا صغيرًا من ذَهَبٍ فدفَنَهُ، وقيلَ غيرُ ذلك.
﴿فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ﴾ أي: أضمرَ مقالَتَهم كأنْ لم يسمَعها.
﴿قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا﴾ أي: مكانةً في السرقةِ حيث سرقتُم أخاكم.
﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ﴾ تقولون، والمشهورُ أنه ذكرَها في نفسِه، ولم يصرِّحْ بها لإخوتِه.
...
﴿قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)﴾.
[٧٨] وفي القصةِ أنهم غضبوا غضبًا شديدًا، وكان بنو يعقوبَ إذا غَضِبوا لا يُطاقون، وكانَ منهم مَنْ إذا صاحَ غَضَبًا ألقتِ الحواملُ أَجِنَّتَها خوفًا، وهو روبيلُ وكانَ إذا مسَّهُ أحدٌ من ولدِ أبيهِ، سكنَ غضبهُ، فقالَ لإخوتهِ اكفوني الملكَ، وأكفيكُم الأسواقَ، أو اكفوني الأسواقَ وأكفيكُم الملكَ، فدخلوا على يوسفَ، فقالَ روبيلُ: لتردَّنَّ علينا أخانا، أو لأصيحَنَّ صيحةً لا يبقى بمصرَ حامِلٌ إلا ألقَتْ ولدَها، وقامت كلُّ شعرةٍ في جسدِهِ
و ﴿قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا﴾ يحبُّه كثيرًا يشقُّ عليه فِراقُه ﴿فَخُذْ أَحَدَنَا﴾ عبدًا ورهينةً ﴿مَكَانَهُ﴾ بدلًا منهُ.
﴿إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ إلينا في الكيل والضيافةِ، فتمِّمْ إحسانَكَ.
...
﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ﴾ مصدرٌ؛ أي: نعوذُ باللهِ معاذًا من ﴿أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ﴾ ولم يقلْ: مَنْ سرقَ؛ تحرُّزًا من الكذبِ.
﴿إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ﴾ إنْ أخذْنا بريئًا بمجرمٍ.
...
﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠)﴾.
[٨٠] ﴿فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ﴾ يَئِسُوا من أخيهم. قرأ أبو جعفرٍ، والبزيُّ
﴿خَلَصُوا نَجِيًّا﴾ أي: تخلَّصوا من الناسِ يتناجَوْنَ في تدبيرِ أمورِهم سِرًّا؛ لأن النجيَّ مَنْ تسُارُّهُ، وهو مصدرٌ يعمُّ الواحدَ والجمعَ، والذكرَ والأنثى.
﴿قَالَ كَبِيرُهُمْ﴾ في السنِّ، وهو روبيلُ الذي نهى عن قتلِ يوسفَ ﴿أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا﴾ عهدًا ﴿مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ﴾ هذا ﴿مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ﴾ قَصَّرْتُم في شأنِه، و (ما) مزيدةٌ.
﴿فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ﴾ لن أفارقَ أرضَ مصرَ.
﴿حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي﴾ في الانصرافِ إليه.
﴿أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي﴾ بردِّ أخي، أو بوحيٍ يُبَرِّئُني عندَ أبي.
﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾ أعدلُ مَنْ فصلَ بينَ الناسِ. قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: (لِي أَبي) بإسكانِ الياء، وافقَهم ابنُ كثيرٍ في (لِي)، والباقون: بفتحِها (٢).
...
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٠ - ١٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٨٦).
[٨١] ﴿ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ﴾ هذا من قولِ كبيرِهم، وقيل: من قولِ يوسفَ عليه السلام، والأولُ أظهرُ ﴿فَقُولُوا يَاأَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ﴾ بنيامينَ.
(سَرَقَ) وأخذَ ما لم يؤتَمَنْ عليه في خُفْيَةٍ.
﴿وَمَا شَهِدْنَا﴾ بأنَّ السارقَ يسترَقُّ ﴿إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا﴾ من سُنَّتِكَ.
﴿وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ﴾ أي: لم نعلمْ أنه يسرقُ، وقيل: معناه: وما شهدْنا عليه إلا بما علمْ؛ نا أي: لا نقطعُ عليه بالسرقةِ، لكنَّا رأينا الصواعَ قد أُخرج من رحلِه، وما كُنا لِما غابَ من أمورِه في نهارِه وليلِه حافظينَ.
...
﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا﴾ أي: أهلَ القرية، وهي مصرُ. قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (وَسَلْ) بالنقلِ، والباقون: بالهمز (١).
﴿وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا﴾ أي: الإبلَ التي عليها الأحمالُ، والمرادُ: أصحابُها؛ لأنهم كانوا قد صحبهم قافلةٌ من كنعانَ من جيرانِ يعقوبَ، المعنى: أرسلْ إلى أهلِ مصرَ وأصحابِ العيرِ فاسأَلْهم عن ذلكَ.
﴿وَإِنَّا لَصَادِقُونَ﴾ في قولنا.
[٨٣] فرجعوا إلى أبيهم، وذكروا له ما قالَهُ كبيرُهم ﴿قَالَ﴾ يعقوبُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ﴾ زَيَّنَتْ ﴿لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا﴾ أردتُموه، وإلا فما أَدرى الملكَ بِسُنَّتي لولا فتواكُم، والسُّولُ: ما يتمنَّاه الإنسانُ ويحرِصُ عليه. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وهشامٌ: (بَل سوَّلَتْ) بإدغامِ اللام في السين، والباقون: بالإظهارِ (١).
﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ ليسَ فيه شكوى ولا ضجرٌ بقضاءِ الله، ثم تَرَجَّى من اللهِ فقالَ:
﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ يوسفَ وبنيامينَ وكبيرِهم المقيمِ بمصرَ ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بحالي ﴿الْحَكِيمُ﴾ بتدبيرِ خَلْقِهِ.
...
﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿وَتَوَلَّى عَنْهُمْ﴾ أي: أعرضَ؛ كراهةً لما صادفَ منهم.
﴿وَقَالَ يَاأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ والأسفُ: شدةُ الحزنِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (يَا أَسَفي) بالإمالة، ورُوي عن أبي عمرٍو: الفتحُ والإمالةُ بينَ بينَ، ووقفَ رويسٌ راوي يعقوبَ بخلافٍ عنه: (يَا أَسَفَاهُ) بزيادةِ هاءٍ بعدَ الألف (٢).
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٤٩ - ٥٠)، و"إتحاف فضلاء =
﴿فَهُوَ كَظِيمٌ﴾ حابسٌ حزنَه لا يظهِرُه.
...
﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥)﴾.
[٨٥] ﴿قَالُوا﴾ أولادُ يعقوبَ: ﴿تَاللَّهِ﴾ بمعنى: واللهِ!
﴿تَفْتَأُ﴾ أي: لا تزال، وحُذِفَتْ (لا) في هذا الموضعِ منَ القسمِ لدلالةِ الكلامِ عليها؛ تقديرُه: تالله لا تفتأ.
﴿تَذْكُرُ يُوسُفَ﴾ لا تفتُرُ من حُبِّهِ.
﴿حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا﴾ باليًا من المرضِ.
﴿أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾ الميتينَ.
...
﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي﴾ هو أشدُّ الحزنِ الذي لا يصبرُ عليه صاحبُه حتى يَبُثَّهُ أو يَشْكُوَهُ.
﴿وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ والحزنُ: هو أشدُّ الهَمِّ. قرأ الكوفيون، وابنُ كثيرٍ،
﴿وَأَعْلَمُ﴾ يا بنِيَّ ﴿مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ وهو أن رؤيا يوسفَ صادقة وأنه حيٌّ، وأني وأنتم سنسجدُ له.
روُي أنه قيلَ له: يا يعقوبُ! ما الذي أذهبَ بصرَكَ، وقَوَّسَ ظَهْرَكَ؟ قالَ: أذهبَ بصري بُكائي على يوسفَ، وقوَّسَ ظهري حُزْني على أخيه، فأوحى الله إليه: أَتشكوني؟! وَعِزَّتي لا أَكْشِفُ ما بِكَ حَتَّى تدعوَني، فقال: ﴿قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى﴾ فأوحى الله إليه: وعِزَّتي لو كانا ميتينِ لأَخْرَجْتُهما لك، وإنما وَجَدْتُ عليكم أنكم ذبحتم شاةً، فقامَ ببابِكم مسكينٌ فلم تُطعموه منها شيئًا، وإنَّ أحبَّ خلقي إليَّ الأنبياءُ، ثم المساكينُ، فاصنعْ طعامًا، فادعُوا عليه المساكينَ، فصنعَ طعامًا، ثم قالَ: من كانَ صائمًا، فليفطرِ الليلةَ عندَ آلِ يعقوبَ.
وقد حُكي أن ابتلاءَ يعقوبَ بيوسفَ كان سببهُ التفاتَه في صلاتِه إليه ويوسفُ نائمٌ؛ محبةً له.
فإن قيل: كيف استجازَ يوسفُ أن يعملَ مثلَ هذا بأبيه، ولم يخبرْه بمكانِه، وحبسَ أخاهُ معَ علمِه بشدةِ وَجْدِ أبيه؛ ففيه معنى العُقوقِ، وقطيعةُ الرحمِ، وقلةُ الشفقةِ؟ فالجوابُ: أنه عملَ ذلكَ بأمرِ الله تعالى، أمرَهُ به ليزيدَ في بلاءِ يعقوبَ، فيضاعِفَ له الأجرَ، ويلحقَه في الدرجةِ بآبائِه الماضين، واللهُ أعلم.
[٨٧] ﴿يَابَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أي: تَطَلَّبوا خبرَهما، والتحسُّسُ بالحاء: طلبُ الشيءِ بالحاسَّةِ في الخير، وبالجيم: في الشر، والتلاوة بالأولِ.
﴿وَلَا تَيْأَسُوا﴾ تَقْنَطوا مِن ﴿مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ أي: رحمتِه التي يحيي بها العبادَ ﴿إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ باللهِ.
...
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)﴾.
[٨٨] فخرجوا راجعينَ إلى مصرَ حتى وصلوا إليها، فدخلوا على يوسف.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَاأَيُّهَا الْعَزِيزُ﴾ بلغةِ مصرَ: الملكُ.
﴿مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ﴾ الجوعُ والشدةُ ﴿وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ﴾ رَديئة أو قليلةٍ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (مُزْجَاةٍ) بالإمالة، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ (١).
﴿إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ والتصدُّقُ: التفضُّل.
وسمعَ الحسنُ إنسانًا يقولُ: اللهمَّ تصدَّقْ عليَّ، فقالَ: إن الله لا يتصدَّقُ، وإنما يتصدَّقُ مَنْ يبتغي الثوابَ، ولكنْ قل: اللهمَّ أَعْطِني، أو تفضَّلْ عليَّ، أو ارحَمْني، ونحوَهُ.
...
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩)﴾.
[٨٩] فلما كلموه بهذا الكلام، أدركَتْهُ الرِّقَّةُ، فارفضَّ دمعُه، وباحَ بالذي يكتُمُ.
﴿قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ إِذْ فَرَّقْتُم بينَهما، وصنعتُم ما صنعتُم.
﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾ لا تعلمونَ قبحَه، فلذلكَ أقدمْتُم عليه؟
***
[٩٠] ثم تعرَّفَ لهم فعرفوهُ، و ﴿قَالُوا أَإِنَّكَ لأَنْتَ يُوسُفُ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو جعفرٍ: (إِنَّكَ) بهمزةٍ واحدةٍ على الخبرِ، والباقونَ: بهمزتينِ، على الاستفهام، وهم على أُصولهم، فالكوفيونَ، وابنُ عامرٍ، وروحٌ عن يعقوبَ: بتحقيقِ الهمزتينِ، وورشٌ ورويسٌ: يحققان الأولى، ويسهِّلانِ الثانيةَ، وأبو عمرٍو، وقالونُ عن نافعٍ: يسهِّلانِ الثانيةَ، ويُدْخلان بينهما ألفًا (١).
﴿قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي﴾ من أبي وأمي.
﴿قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ بأنْ جمعَ بينَنا.
﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ﴾ اللهَ ﴿وَيَصْبِرْ﴾ على امتثالِ الأمرِ واجتنابِ النهي. قراءة العامة: (يَتَّقِ) بحذفِ الياءِ في الحالين، جزمٌ (بمَنْ)؛ لأنها شرطٌ، وقرأ قنبلٌ عن ابنِ كثيرٍ: (يَتَّقِي) بإثباتِ الياءِ في الحالينِ لغةً للعربِ يُثبتون الياءَ في الجزمِ (٢).
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٥١)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٦٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٩١).
...
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١)﴾.
[٩١] ﴿قَالُوا﴾ معتذرينَ: ﴿تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ﴾ أي: فَضَّلَكَ ﴿عَلَيْنَا﴾ بالصبرِ والحلمِ والعقلِ.
﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾ أي: وما كُنَّا في صنيعِنا بكَ إلا مخطئينَ مُذْنبين، يقالُ: خَطَأَ: إذا تعمَّدَ، وأخطأَ: إذا كانَ غيرَ متعمدٍ.
...
﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢)﴾.
[٩٢] فلما اعترفوا بذنوبهم ﴿قَالَ لَا تَثْرِيبَ﴾ لا تقريعَ ولا توبيخَ.
﴿عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ ولا أذكرُ لكم ذنبَكُم بعدَ اليومِ، ثم دعا لهم؛ تطييبًا لقلوبِهم.
﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ﴾ ما صدرَ منكم في حَقِّي ﴿وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ ولما عرفوه، قالوا له: نستحيي من الحضور لديكَ؛ لإساءتِنا إليك، فقال: لقدْ شُرِّفْتُ بكم؛ لأنَّ المصريينَ وإنْ ملكتُهم ما ينظرونَ إليَّ إلا بالعينِ الأولى؛ لأني كنتُ عبدًا فيهم.
***
[٩٣] ثم سألَهم عن أبيه فقالوا: عَمِي، فقال: ﴿اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا﴾ هو قميصُ إبراهيمَ الذي ألبسَهُ إياه جبريلُ حين ألُقي في النار، وكان معلَّقًا في عنق يوسفَ حينَ ألُقي في الجبِّ كما تقدّمَ في أول القصةِ، ففي هذا الوقتِ جاء جبريلُ عليه السلام، وقال: أرسلْ ذلكَ القميصَ؛ فإن فيه ريحَ الجنةِ، لا يقعُ على مبتلًى ولا سقيمٍ إلا عُوفيَ.
﴿فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ﴾ يعود ﴿بَصِيرًا﴾ حالٌ؛ أي: مُبْصِرًا.
﴿وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ﴾ بأبيكم وأهلِه ﴿أَجْمَعِينَ﴾.
...
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤)﴾.
[٩٤] فقال يهوذا: أنا أَحْزَنْتُه بالقميصِ الملطَّخِ بالدَّمِ، فسأُفرِحُهُ بهذا القميصِ، فحملَه من مصرَ إلى كنعانَ، وبينهما ثمانونَ فرسخًا.
﴿وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ﴾ أي: انفصلَتْ، وخرجَتْ من عمرانِ مصرَ.
﴿قَالَ أَبُوهُمْ﴾ يعقوبُ لحاضريهِ من حَفَدَتِهِ:
﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ لأن الصَّبا حملتْ ريحَ يوسفَ من ثمانينَ فرسخًا، فأوجدَهُ اللهُ ريحَ القميصِ من مسيرةِ ثمانِ ليالٍ.
﴿لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ﴾ تُجَهِّلُونِ، والفَنَدُ: الخَرَفُ، يُقال: شَيْخ مُفَنَّدٌ، ولا يُقال: عجوز مُفَنَّدَةٌ؛ لأنه لم يكن لها رأيٌ في شبيبِتها فتفندَ في كبرِها.
...
﴿قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥)﴾.
[٩٥] وكانوا يعتقدونَ موتَ يوسفَ، فلذلك ﴿قَالُوا﴾ يعني: أولادَ أولادِه.
﴿تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ﴾ أي: في خَطَئِكَ في حُبِّ يوسفَ قديمًا، وتعتقدُ أنك تلقاهُ حديثًا، والضلالُ: هو الذهابُ عن طريقِ الصوابِ.
...
﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ﴾ أي: المبشِّرُ عن يوسفَ، وهو يَهوذا ﴿أَلْقَاهُ﴾ أي: القميصَ ﴿عَلَى وَجْهِهِ﴾ وجهِ يعقوبَ.
﴿فَارْتَدَّ﴾ فرجعَ ﴿بَصِيرًا﴾ فَثَمَّ ﴿قَالَ﴾ لأولادِ أولادِه:
﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ من حياةِ يوسفَ.
ورُويَ أنَّ يعقوبَ سألَ البشيرَ عن يوسفَ، قال. ملكَ مصرَ، قال: وما أصنعُ بالملكِ، على أيِّ دينٍ هو؟ فالَ: على الإسلامِ، قالَ: الآنَ تَمَّتِ
...
﴿قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿قَالُوا يَاأَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ﴾ مذنبين. قرأ أبو جعفرٍ: (خَاطِينَ) بإسكانِ الياءِ بغيرِ همزٍ، والباقون: بالهمز (٢).
...
﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ أَخَّرَهُم لوقتِ السَّحَر؛ لأنه أَرْجى للإجابةِ، وهو الوقتُ الذي يقولُ الله: "هَلْ مِن دَاعٍ فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ " (٣). قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٤)، ورُوي أن يعقوبَ استقبل القبلةَ قائِمًا يدعو، وقامَ يوسفُ خلفَهُ يُؤَمِّنُ، وقاموا خلفَهُ أَذِلَّةً خاشعينَ حتى نزلَ جبريلُ وقال:
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (١/ ٣٩٧) و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٩٢).
(٣) رواه البخاري (١٠٩٤)، كتاب: أبواب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من آخر الليل، ومسلم (٧٥٨)، كتاب: صلاة المسافرين وقصرها، باب: الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
(٤) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣٠ - ١٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٩٢).
...
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩)﴾.
[٩٩] وكان يوسفُ قد أرسلَ بمئتي راحلةٍ إلى أهلِه وجهازٍ ليرتحلوا إليهِ، وكانوا اثنين وسبعينَ إنسانًا لما دخلوا مصرَ ما بينَ ذكرٍ وأنثى، وكانوا لما خرجوا منها هاربينَ من فرعونَ ستَّ مئةِ ألفٍ وخمسَ مئةٍ وبضعةً وسبعين رجلًا سوى الذريَّةِ والهَرْمَى، وكانت الذريةُ والهرمَى ألفَ ألفٍ ومئتي ألفٍ، ولما دنا يعقوبُ وأهلُه من مصرَ، خرجَ يوسفُ والملكُ الأكبرُ في أربعةِ آلافٍ من الجندِ وعظماءِ المصريينَ يتلَقَّونهم، وكان يعقوبُ يمشي وهو يتوكأُ على يهوذا، فلما رأى الخيلَ، قالَ ليهوذا: هذا فرعونُ مصرَ؟ قال: هذا ابنُك، فلما دنا كلُّ واحدٍ منهُما من صاحبِه، فذهبَ يوسفُ يبدؤُهُ بالسلام، فقال جبريلُ: لا حتى يبدأَ يعقوبُ بالسلامِ، فقال يعقوبُ: السلامُ عليكَ يا مُذْهِبَ الأحزانِ، وتعانَقا، وبَكَيا، فقال يوسفُ: يا أبتِ! بكيتَ حتى ذهبَ بصرُكَ، ألم تعلمْ أنَّ القيامةَ تجمعُنا؟ قالَ: بلى يا بنيَّ، ولكن خشيتُ أن تسلَبَ دينَكَ فَيُحالَ بيني وبينَك.
﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى﴾ أي: ضمَّ ﴿إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ﴾ أباه وخالتَه لَيَّا، وكانتْ أُمُّه راحيلُ قد ماتت، والعربُ تسمِّي العمَّ أبًا، والخالةَ أمًّا.
﴿وَقَالَ﴾ لهم لما قاربَ البلدَ ﴿ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ استثناءٌ متعلِّقٌ بالدخول الموصوفِ بالأمنِ؛ كأنه قال: اِسْلَموا وَأْمَنوا في دخولكم إنْ شاءَ الله.
[١٠٠] فلما عاد إلى مصر، جلسَ على سريره، وجمع الناسَ، وإخوتُه حولَه ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ﴾ معه ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾ وهو سريرُ الملك. قرأ ابنُ كثيرٍ: (أَبَوَيْهِي) وشبهَهُ بياءٍ يصلُها بهاءِ الكنايةِ في الوصلِ حيثُ وقعَ.
﴿وَخَرُّوا لَهُ﴾ إخوتُه وأبواه ﴿سُجَّدًا﴾ كذلكَ كانت تحيتُهم، فنُهينا عنه في شريعةِ الإسلام.
﴿وَقَالَ يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ﴾ وكانَ بينهما نحوُ خمسينَ سنةً، وقيلَ غيرُ ذلك. قرأ الكسائيُّ: (رُؤْيَايَ) بالإمالةِ (١) ﴿قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ صِدْقًا.
﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بِي﴾ أنعمَ عليَّ ﴿إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ ولم يقلْ: من الجبِّ؛ تكرمًا لئلَّا يستحييَ إخوتهُ، ومن تمامِ الصفحِ ألَّا يذكرَ ما تقدَّمَ من الذنب. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو (بِيَ إِذْ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٣١)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٩٣).
﴿مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ﴾ أفسدَ ﴿الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي﴾ بوسوستِهِ، وأصلُ النزغِ: نَخْسُ الرائِضِ الدابةَ لتتحرَّكَ.
﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ﴾ أي: لطيفُ التدبير له، واللطيفُ: الذي يوصلُ الإحسانَ إلى غيرهِ بالرفقِ ﴿إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ﴾ بوجوهِ المصالحِ ﴿الْحَكِيمُ﴾ فيما يفعل. قرأ أبو جعفرٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (إخْوَتِيَ) بفتح الياء، والباقونَ: بإسكانها (١)، واختلافُهم في الهمزتينِ من (يَشَاءُ إِنَّهُ) كاختلافِهم فيهما من (يَشَاءُ إِلى صِرَاطٍ) في سورةِ البقرةِ.
وأقامَ يعقوبُ بمصرَ عندَ يوسفَ أربعًا وعشرينَ سنةً، ثم ماتَ، فلما حضرَتْهُ الوفاةُ أَوْصى بحملِه ودفنِه عندَ أبيهِ إسحاقَ بمغارةِ حَبْرونَ عندَ قبرِ إبراهيمَ عليه السلام، وتقدم ذكرُ ذلكَ في سورةِ البقرةِ.
قال سعيدُ بنُ جُبيرٍ: لما ماتَ يعقوبُ، نقلَه يوسفُ في تابوتٍ من ساج إلى بيت المقدسِ، فوافقَ يومَ موتِ أخيه عيصٍ، فدُفِنا في قبرٍ واحدٍ، وكانا وُلدا في بطنٍ واحدٍ، وكان عمرُهما مئةً وسبعةً وأربعينَ سنة (٢).
...
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٥٠٠)، و"الدر المنثور" للسيوطي (٤/ ٥٨٩).
[١٠١] فلما جمعَ اللهُ تعالى ليوسفَ شملَه، علمَ أن نعيمَ الدُّنيا لا يدومُ، فسألَ اللهَ حُسْنَ العاقبةِ فقالَ: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ﴾ يعني: ملكَ مصرَ، والملكُ اتِّساعُ المقدورِ لمن له السياسةُ والتدبيرُ.
﴿وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ﴾ تعبيرِ الرؤيا، و (مِنْ) للتبعيضِ؛ لأنه لم يؤتَ كُلَّ الملكِ ولا كُلَّ التأويلِ.
﴿فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ مبدِعَهما، وانتصابُ (فَاطِرَ السَّمَوَاتِ) على النداءِ.
﴿أَنْتَ وَلِيِّي﴾ أي: متولِّي أمري ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي﴾ اقْبِضْني إليك ﴿مُسْلِمًا﴾ مخِلصًا ﴿وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ﴾ من آبائي النبيينَ.
واختلفوا في مدةِ غَيبةِ يوسفَ عن أبيهِ، فقيل: اثنتانِ وعشرونَ سنةً، وقيل: أربعونَ، وقيل: ثمانون، ولما ماتَ الملكُ الأكبرُ، وهو الريانُ بنُ الوليدِ المتقدِّمُ ذكرهُ، خلفَه ابنهُ دريموش، ويسميهِ أهلُ الأثر: دارمَ بنَ الريان، وهو الفرعونُ الرابعُ عندَهم، فخالفَ سنةَ أبيه، وكانَ يوسفُ خليفته، فيقبلُ منه بعضًا، ويخالفُ في البعضِ، فماتَ يوسفُ في أيامِه وله مئةٌ وعشرونَ سنةً، فَكُفِّنَ وحُمل في تابوب من رخام، ودُفِنَ في الجانبِ الغربيِّ من بحرِ النيلِ، فأخصبَ ونقص الشرقيُّ، فَحُوِّلَ إليه، فأخصبَ ونقصَ الغربيُّ، فاتفقوا على أن يجعلوهُ في الشرقيِّ عامًا، وفي الغربيِّ
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه أنه قال: قالَ رسولُ الله - ﷺ -: "إِنَّ الْكَرِيمَ ابْنَ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ، ثُمَّ جَاءَنِي الدَّاعِي، لأَجَبْتُ" (١).
وسُئِلَ رسولُ الله - ﷺ -: "مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قالَ: أَتْقَاهُمْ لله، قَالُوا: ليسَ عن هذا نسألُكَ، قالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللهِ بْنِ نَبِيِّ اللهِ بْنِ نَبِيِّ اللهِ بْنِ خَلِيلِ اللهِ" (٢).
فهؤلاءِ الأنبياءُ الأربعةُ وهم: إبراهيمُ الخليلُ، وولدهُ إسحاقُ، وولدهُ يعقوبُ، وولدهُ يوسفُ، قبورُهم في محلٍّ واحدٍ، وعليهِم من الوقارِ
(٢) رواه البخاري (٣١٧٥)، كتاب: الأنبياء، باب: قوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾، ومسلم (٢٣٧٨)، كتاب: الفضائل، باب: من فضائل يوسف عليه السلام، عن أبي هريرة -رضي الله عنه-.
...
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿ذَلِكَ﴾ المذكورُ من نبأ يوسفَ ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ﴾ لأنك لم تحضرْهُ، ولا قرأتَهُ في كتابٍ، وقد أُخْبِرْتَ بهِ، كما جرى.
﴿وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا﴾ أَحْكَموا ﴿أَمْرَهُمْ﴾ على كيدِ يوسفَ.
﴿وَهُمْ يَمْكُرُونَ﴾ بهِ. والإجماعُ لغةً: العزمُ والاتفاقُ، واصطلاحًا: اتفاقُ مجتهدِي الأُمَّةِ في عصرٍ على أمرٍ ولو فِعْلًا بعدَ النبيِّ - ﷺ -، وهو حُجَّةٌ قاطعةٌ بالاتفاقِ، ولا يختصُّ الإجماعُ بالصحابةِ بالاتفاقِ.
...
﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾.
[١٠٣] ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ﴾ يا محمدُ ﴿وَلَوْ حَرَصْتَ﴾ على إيمانِهم ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ إنما يؤمن مَنْ شاءَ الله.
...
﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ﴾ على إرشادِكَ إياهم ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ جُعْلٍ.
﴿إِنْ هُوَ﴾ يعني: القرآنَ ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾ موعظة ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾ عامَّةً.
***
[١٠٥] ﴿وَكَأَيِّنْ﴾ تقدَّمَ اختلافُ القراء في (وَكَأَيِّنْ) في سورةِ آلِ عمران عندَ تفسيرِ قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ﴾ [الآية: ١٤٦]؛ أي: وكَمْ ﴿مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ من الآياتِ الدالةِ على الوحدانيةِ.
﴿يَمُرُّونَ عَلَيْهَا﴾ يُشاهدونَها ﴿وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾ لا يَتَّعِظونَ بها.
...
﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)﴾.
[١٠٦] ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ بعبادتِهم الوثنَ.
عن ابنِ عباسٍ أَنَّه قال: "نزلَتْ في تلبيةِ المشركينَ من العربِ، كانوا يقولونَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكٌ هَوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ" (١).
...
﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ﴾ نِقْمَة تتغَشَّاهُمْ.
﴿مِنْ عَذَابِ اللَّهِ﴾ يعني: الصواعقَ.
...
﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨)﴾.
[١٠٨] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ ﴿هَذِهِ سَبِيلِي﴾ طريقي؛ يعني: الدعوةَ إلى التوحيدِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ: (سَبِيِليَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (١).
﴿أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ﴾ يقينٍ ﴿أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ أي: ومَنْ آمنَ بي أيضًا يدعو إلى اللهِ.
﴿وَسُبْحَانَ اللَّهِ﴾ تنزيهًا له ﴿وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ورُويَ أن هذهِ الآية ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي﴾ إلى آخرِها كانَتْ مرقومةً على رايةِ يوسفَ عليه السلام.
...
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ﴾ يا محمدُ ﴿إِلَّا رِجَالًا﴾ وليسوا بملائكةٍ
﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرَى﴾ الأمصارِ، قالَ الحسنُ: لَمْ يبعثِ اللهُ نبيًّا من البدوِ، ولا منَ الجنِّ، ولا من النساءِ؛ لجفائِهِم وقسوتِهم وجهلِهم (٢).
﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ يعني: هؤلاءِ المشركينَ ﴿فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ﴾ آخِرُ أمرِ ﴿الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأممِ المكذِّبَةِ فيعتبروا.
﴿وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ حَضٌّ على الآخرةِ والاستعدادِ لها، والاتقاءِ للموبقاتِ فيها، ثُمَّ وَبَّخهم بقوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ فيؤمنون. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ: (تَعْقِلُونَ) بالخطابِ، والباقونَ: بالغيب.
...
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠)﴾.
[١١٠] ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ (حَتَّى) مُتعَلِّقَةٌ بمحذوفٍ دلَّ عليهِ الكلامُ؛ كأنه قيل: وما أرسلْنا من قبلِكَ إلا رجالًا، فتراخَى نصرُهم، حتى إذا استيأسوا عن النَّصْرِ.
﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا﴾ قرأ نافع، وابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ،
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٢/ ٥٠٤ - ٥٠٥).
﴿جَاءَهُمْ﴾ يعني: الرسلَ ﴿نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ﴾ قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصِمٌ، ويعقوبُ: (فَنُجِّيَ) بنونٍ واحدةٍ وتشديدِ الجيم وفتحِ الياء على ما لم يُسَمَّ فاعلُه، وقد أجمعتِ المصاحفُ على كتابتِه بنونٍ واحدة، وقرأ الباقون: بنونينِ، الثانيةُ ساكنةٌ مخفاةٌ عندَ الجيمِ، وتخفيفِ الجيمِ وإسكانِ الياءِ (٢)؛ أي: نحنُ نُنْجِي مَنْ نشاءُ عندَ نزولِ العذابِ، وهم المؤمنون.
﴿وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا﴾ عذابُنا ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ أي: المشركينَ.
...
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)﴾.
[١١١] ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ﴾ أي: في خبرِ يوسفَ وإخوتِه.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٥٢)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٥٠٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٩٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ١٩٨).
﴿مَا كَانَ﴾ أي: القرآنُ ﴿حَدِيثًا يُفْتَرَى﴾ يُخْتَلَقُ.
﴿وَلَكِنْ﴾ كانَ ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من الكتبِ المنزلةِ ﴿وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يَحتاجُ إليه العبدُ ﴿وَهُدًى﴾ من الضلالِ ﴿وَرَحْمَةً﴾ نعمةً.
﴿لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ يُصَدّقونَ به، والله أعلم.