تفسير سورة يوسف

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة يوسف من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة يوسف عليه السلام
مكية وقيل نزلت فيما بين مكة إلى المدينة وقت الهجرة حروفها سبعة آلاف ومائة وست وستون كلمها ألف وسبعمائة وست وأربعون آياتها مائة وإحدى عشرة بسم الله الرحمن الرحيم

(سورة يوسف عليه السلام)
(مكية وقيل نزلت فيما بين مكة الى المدينة وقت الهجرة حروفها سبعة آلاف ومائة وست وستون كلمها ألف وسبعمائة وست وأربعون آياتها مائة وإحدى عشرة)
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١ الى ٢٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (٩)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)
62
القراآت:
يا أبت بفتح التاء والوقف بالهاء: يزيد وابن عامر. وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء. الباقون بالكسر في الحالين أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين: يزيد وابن عباس والخزاز لِي ساجِدِينَ بفتح الياء: الأعشى والبرجمي يا بُنَيَّ بفتح الياء أيا كان: حفص والمفضل. الباقون بكسرها رُؤْياكَ بالإمالة: عليّ غير قتيبة وليث. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة آية للسائلين على التوحيد:
ابن كثير: الآخرون آيات على الجمع. يَخْلُ لَكُمْ بالإدغام: شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب غيابات وما بعده على الجمع: أبو جعفر ونافع. الباقون غَيابَتِ على التوحيد لا تَأْمَنَّا بغير إشمام ضمة النون: يزيد والحلواني عن قالون. الآخرون بإشمام الذِّئْبُ وما بعده بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء فيهما وبالجزم: عاصم وحمزة وعليّ وخلف. بكسر العين في الأول: أبو جعفر ونافع. بالنون فيهما وبالجزم:
ابن عامر وأبو عمرو. وبكسر العين: ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما نرتعي بالكسر مع الياء بعده نرتع ويلعب بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني: يعقوب عن رويس لَيَحْزُنُنِي أَنْ بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير. وقرأ نافع لَيَحْزُنُنِي أَنْ بفتح الياء أيضا ولكن من باب الأفعال بَلْ سَوَّلَتْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. يا بُشْرى بالإمالة غير مضافة: حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة. يا بُشْرى بغير إمالة وإضافة: عاصم غير حماد والخزاز. الباقون يا بشراي بالإضافة إلى ياء المتكلم.
الوقوف:
الر قف كوفي الْمُبِينِ هـ ط كوفي أيضا وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في الر الْقُرْآنَ ق والوصل أصح لأن الواو للحال الْغافِلِينَ هـ ساجِدِينَ هـ كَيْداً ط مُبِينٌ هـ وَإِسْحاقَ ط حَكِيمٌ ٥ لِلسَّائِلِينَ هـ عُصْبَةٌ ط مُبِينٍ هـ ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن صالِحِينَ هـ فاعِلِينَ هـ لَناصِحُونَ هـ لَحافِظُونَ هـ غافِلُونَ هـ لَخاسِرُونَ هـ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ج لاحتمال أن يكون جواب «لما» محذوفا والواو في
63
وَأَوْحَيْنا للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه، وأن تكون الواو مقحمة والجواب أَوْحَيْنا لا يَشْعُرُونَ هـ يَبْكُونَ هـ ط فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ج لابتداء النفي مع واو العطف صادِقِينَ هـ كَذِبٍ
ط أَمْراً ط جَمِيلٌ ط تَصِفُونَ هـ دَلْوَهُ ط غُلامٌ ط بِضاعَةً ط يَعْمَلُونَ هـ مَعْدُودَةٍ ج لاحتمال الواو والحال الزَّاهِدِينَ ٥.
التفسير:
قال في الكشاف: تِلْكَ إشارة إلى آياتُ السورة والْكِتابِ الْمُبِينِ السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف. أقول: مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال: أبان الشيء وأبان هو بنفسه إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا يسمى حالا موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربيا وآيات على أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفسي ومعنى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي: فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح. قال أهل اللغة:
القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية، ثم إن كان القصص مصدرا بمعنى الاقتصاص فيكون أَحْسَنَ مثله لإضافته إلى المصدر، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفا وهو الوحي لدلالة أَوْحَيْنا عليه، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول أَوْحَيْنا محذوفا كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. وحسن المنطق كونه على أبدع طريقة وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد
64
بالنبإ والخبر المنبأ والمخبر، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد.
ويروى أن أصحاب رسول الله ﷺ ملوا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: ٢٣] ثم إنهم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
كل ذلك يؤمرون بالقرآن. وَإِنْ كُنْتَ هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة. والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة أو عن الدين والشريعة إِذْ قالَ بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذا قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار «اذكر». ويُوسُفُ ليس عربيا على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضا فقد أخطأ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربيا تارة وأعجميا أخرى. وهذا الخلاف روي في «يونس» أيضا.
عن النبي ﷺ «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» «١»
قال النحويون: التاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو «حمامة» ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا إِنِّي رَأَيْتُ هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان.
قال في الكشاف: روى جابر أن يهوديا جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله ﷺ فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي ﷺ لليهودي: إن أخبرتك هل تسلم؟ قال: نعم. قال: جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو
(١) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب: ١٩. كتاب المناقب باب: ١٣. الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٢ باب: ١. أحمد في مسنده (٢/ ٩٦).
65
الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.
وأقول: إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع. وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ [الأعراف: ١٩٨] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل: هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى- وهو ابن سبع سنين- أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى- وهو ابن اثنتي عشرة سنة- الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل.
وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. قال علماء التعبير: إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله فَيَكِيدُوا منصوب بإضمار «أن» جوابا للنهي. واللام في لَكَ لتأكيد الصلة مثل «نصحتك» و «نصحت لك». وقال في الكشاف: ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معنى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل:
متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئا من تعبير رؤياه فقال:
وَكَذلِكَ أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ لأمور عظام. والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض جمعته، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة. قال في الكشاف وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول: ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وجوه منها: أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم، سمى التعبير تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث
66
بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان: قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة. وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح. والمراد بآل يعقوب نسله قيل: علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف.
وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل: إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكا وأنبياء. وإِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء حَكِيمٌ لا يضع الشيء إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق. قيل: حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطا بعدم كيد إخوته، ولعل قوله: أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلا عظيما في وجود الأشياء وحصولها لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن تلك القصة وعرفها، أو آيات على نبوة محمد ﷺ للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه ﷺ يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة- وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب- ودان ونفتالي وجاد وآشر- وهم من سريتين زلفة وبلهة- فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. إِذْ قالُوا ظرف لكان أو منصوب بإضمار «اذكر» لَيُوسُفُ في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. وَأَخُوهُ أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين. أَحَبُّ إذا كان أفعل التفضيل مستعملا بمن لم يتصرف فيه وَنَحْنُ عُصْبَةٌ الواو للحال والعصبة العشرة فصاعدا لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران
67
لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أرادوا ضلالا خاصا وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره اقْتُلُوا يُوسُفَ قيل: الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعا آمرين. والظاهر أنه قال بعضهم بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم أَوِ اطْرَحُوهُ فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليهم كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: ٧٢] وانتصب أَرْضاً على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضا مجهولة بعيدة عن العمارة يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذكر الوجه تصويرا لإقباله عليهم بالكلية، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف وَتَكُونُوا مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر مِنْ بَعْدِهِ من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وأدبا وهو الذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف: ٨٠] لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ سمى البئر جبا لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطارا ونواحي يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي الرفقة السائرة قال ابن عباس: أي المارة، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفا على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعارا من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب
ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ سمي لعبا لأنه في صورته، أو
68
اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر
قال ﷺ لجابر: فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك.
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ أصله الهمز ولهذا قال بعضهم: إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل: كان أرضهم مذأبة فلذلك قال: أَخافُ. وقيل: رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله: إِنَّا إِذاً جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين: أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني، وهاهنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا عزموا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قيل: هو بئر ببيت المقدس. وقيل: بأرض الأردن. وقيل: بين مصر ومدين.
وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. ثم إن كان جواب «لما» محذوفا ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم.
فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا حتى ينقذوك ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا.
وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه
وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل: كان إذ ذاك بالغا
69
وعن الحسن كان له سبع عشر سنة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهيئات والأشكال.
يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس.
ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحى وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله وَأَوْحَيْنا روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. عن مقاتل:
إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم. ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال: ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا. قال: فما لكم وأين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه بِدَمٍ كَذِبٍ ذي كذب أو دم هو الكذب بعينه مبالغة.
يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، ويروى أن يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص. وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
وقيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيرا، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر.
ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب بَلْ سَوَّلَتْ قال ابن عباس بل زينت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة. وقال في الكشاف: سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل.
وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: ٨٦]
وقيل: أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت.
يحكى أنه
70
سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة فاغفرها لي.
ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فالقرينتان كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: ٥] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا. واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل:
فإذا رميت يصيبني سهمي فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى. ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ عن ابن عباس: قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا منه، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ رجلا يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء. ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلى دَلْوَهُ أرسلها في البئر.
قال الواحدي: فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو. قالَ يا بُشْرى التقدير فظهر يوسف فقال الوارد: يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك. ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين: حين رأى يوسف متعلقا بالحبل. وقال آخرون: لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به. قال السدي: كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد. والأكثرون على أنها بمعنى البشارة. فقال أبو علي: يحتمل أن يكون منادى مضموما مثل يا رجل وأن يكون منصوبا مثل يا رجلا كأنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى. ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر. والضمير في وَأَسَرُّوهُ إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه. وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء
71
جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة: هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله بِضاعَةً وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة. وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئا مما علم الله من حال المرء. والضمير في قوله: وَشَرَوْهُ إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه بِثَمَنٍ قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ممن يرغب عما في يده.
قال أهل اللغة: زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه، وهكذا الضمير في وَكانُوا إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير. عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبد أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفا من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار.
وقال ابن عباس: البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّا ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون. عن ابن عباس كانت عشرين درهما. وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق. والظاهر أن الضمير في فِيهِ عائد إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه. قال النحويون: قوله: فِيهِ ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلا: وكانوا زيدا من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل:
زهدوا فيه والله تعالى أعلم.
التأويل:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان إِذْ قالَ يُوسُفُ القلب لِأَبِيهِ يعقوب الروح إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً هن
72
الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحس المشترك مع المفكرة، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدوا بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطانا يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ العلم اللدني المختص بالقلب وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي متولدات الروح من القوى والحواس كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ السر وَإِسْحاقَ الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. آياتٌ لِلسَّائِلِينَ عن طريق الوصول إلى الله لَيُوسُفُ القلب وَأَخُوهُ بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصا بالقلب أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش. اقْتُلُوا يُوسُفَ القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا أَوِ اطْرَحُوهُ في أرض البشرية يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها وَتَكُونُوا بعد موت القلب قَوْماً صالِحِينَ للنعم الحيواني والنفساني. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا القوة المفكرة لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ القلب وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ القالب وسفل البشرية يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ سيارة الجواذب النفسانية. يَرْتَعْ في المراتع البهيمية وَيَلْعَبْ في ملاعب الدنيا وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من فتنة الدنيا وآفاتها لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ الشيطان إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب.
فإن كانت الغلبة للروح سعد، وإن كانت للنفس شقي وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في النصف الآخر من مدّة العمر نَسْتَبِقُ نتشاغل باللهو في أيام الشباب وَتَرَكْنا يُوسُفَ القلب مهملا معطلا عن الاستكمال فَأَكَلَهُ ذئب الشيطان. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي قالب القلب بِدَمٍ كَذِبٍ هو آثار الملكات الردية، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية. قالَ يعقوب الروح بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ على ما قضى الله وقدر وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من رين القلب وموته وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ هي هبوب نفحات ألطاف الحق فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ واردا من واردات الحق فَأَدْلى
73
دَلْوَهُ جذبة من جذبات الرحمن قالَ يا بُشْرى فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصه من جب الطبيعة كما قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] وَاللَّهُ عَلِيمٌ بحكمة البشارتين وبِما يَعْمَلُونَ من شرائه بِثَمَنٍ بَخْسٍ هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٢١ الى ٣٥]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥)
القراآت:
هَيْتَ لَكَ بضم التاء وفتح الهاء: ابن كثير هَيْتَ بكسر الهاء وفتح التاء: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز، الحلواني عن هشام مثل هذا ولكن بضم التاء، النجاري عن هشام. الباقون هَيْتَ لَكَ بفتحتين
74
وسكون الياء الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف رَبِّي أَحْسَنَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير مِنْ قُبُلٍ ومِنْ دُبُرٍ بالاختلاس: عباس قَدْ شَغَفَها مدغما: أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام وَقالَتِ اخْرُجْ بكسر التاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. حاشا لله وما بعده في الحالين بالألف: أبو عمرو ربي السجن بفتح السين على أنه مصدر: يعقوب. الباقون: بالكسر.
الوقوف:
وَلَداً ط فِي الْأَرْضِ ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب مَكَّنَّا أو هي عطف على محذوف قبله أي ليتمكن ولنعلمه، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن الْأَحادِيثِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَعِلْماً ط الْمُحْسِنِينَ هـ هَيْتَ لَكَ ط الظَّالِمُونَ هـ هَمَّتْ بِهِ ز قد قيل بناء على أن قوله وَهَمَّ جواب «لولا» وليس بصحيح لأن جواب «لولا» لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي: وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد وَهَمَّ بِها ج بُرْهانَ رَبِّهِ ط وَالْفَحْشاءَ ط الْمُخْلَصِينَ ٥ لَدَى الْبابِ هـ أَلِيمٌ هـ عَنْ نَفْسِي لم يذكر الأئمة عليه وقفا ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف وَشَهِدَ على راوَدَتْنِي أو على جملة هِيَ راوَدَتْنِي. مِنْ أَهْلِها ج على تقدير وقال إن كان مِنَ الْكاذِبِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ مِنْ كَيْدِكُنَّ ط عَظِيمٌ هـ عَنْ هذا سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب لِذَنْبِكِ ج لاحتمال التعليل الْخاطِئِينَ هـ عَنْ نَفْسِهِ ج لأن «قد» لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل حُبًّا ط مُبِينٍ هـ عَلَيْهِنَّ ج بَشَراً ط كَرِيمٌ هـ فِيهِ ط فَاسْتَعْصَمَ ط لاحتمال القسم الصَّاغِرِينَ هـ إِلَيْهِ ج للشرط مع الواو الْجاهِلِينَ هـ كَيْدَهُنَّ ط الْعَلِيمُ هـ حِينٍ هـ.
التفسير:
قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشتراه العزيز- واسمه قطفير أو أطفير- ولم يكن ملكا ولكنه كان يلي خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف. روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزلة ثلاث عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة دليله قوله: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ
75
بِالْبَيِّناتِ [غافر: ٣٤] وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. والمعنى ولقد جاء آباءكم. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا فابتاعه قطفير بذلك المبلغ. ومعنى أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما أي حسنا مرضيا.
وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي.
وقال في الكشاف: المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في لِامْرَأَتِهِ تتعلق ب قالَ. ثم بين الغرض من الإكرام فقال: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بكفاية بعض مهماتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصورا. وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه. ثم قال: وَكَذلِكَ أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه مَكَّنَّا لَهُ في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي وَلِنُعَلِّمَهُ قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائل السورة معنى تأويل الأحاديث. والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة، وأشار إليها بقوله: مَكَّنَّا والعلم وأشار إليه بقوله: وَلِنُعَلِّمَهُ ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعدا للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيد الله. ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضات والمجاهدات يصلون أوّلا إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات، وقيل:
الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين. وقيل: الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها، فحينئذ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس. والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس
76
الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق. فقوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها. قال في الكشاف: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
فيه تنبيه على أنه كان محسنا في عمله متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة. والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار، فالأنوار السابقة تصير سببا للأضواء اللاحقة وهلم جرا. عن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله: وَراوَدَتْهُ والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشيء الذي يريد أن يخرجه من يده، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حارل كل منهما الوطء والجماع، وإنما قال: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ولم يقل زليخا قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح. والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ هَيْتَ لَكَ بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها بمعنى تهيأت لك.
يقال: هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاثة:
فالفتح للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيها بحيث. وإذا بين باللام نحو «هيت لك» فهي صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك أقول هذا. وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل. وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد قالَتْ هَيْتَ لَكَ بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن. وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.
وقال ابن الأنباري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس، ولغة العرب والفرس في السجيل، ولغة العرب والترك في الغساق، ولغة
77
العرب والحبشة في ناشئة الليل. ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة: الأول قالَ مَعاذَ اللَّهِ وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذا، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل. الثاني إِنَّهُ والضمير للشأن رَبِّي أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقادهم وإلا فيوسف كان عالما بأنه حر والحر لا يصير عبدا بالبيع، أو المراد التربية أي الذي رباني أَحْسَنَ مَثْوايَ حين قال أَكْرِمِي مَثْواهُ وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضا يمنع عن ذلك العمل. وقيل:
أراد بقوله: رَبِّي الله تعالى لأنه مسبب الأسباب. الثالث قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الحسن بالسيء، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم. وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة.
قوله سبحانه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين: إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة
فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة.
وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع. وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد هو بين شعبها الأربع.
وروي أن يوسف حين قال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرائيل:
ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
وقال آخرون: إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين. أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زوايا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف: ولم؟ فقالت: أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية. فقال يوسف: تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فو الله لا أفعل ذلك أبدا. وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضا فوه على أصابعه قائلا: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين. وقال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ
78
[الإنفطار: ١١، ١٢] فلم ينصرف ثم رأى فيها وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: ٣٢] فلم ينته ثم رأى فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:
٢٨١] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان زمرة الأنبياء؟
وقيل: رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئا من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه السلام كان ممتنعا عن ذلك العمل بحسب النظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذه الزواجر تكميلا للألطاف وتتميما للعناية. قالوا: ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا: والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هاربا عنها. وفي قوله:
وَهَمَّ بِها فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله: هِيَ راوَدَتْنِي وبقوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وقالت الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ وزوج المرأة صدّقه فقال: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال: كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا والإضافة للتشريف كقوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان:
٦٣] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها.
ويحتمل أن يكون «من» للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون
79
وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور.
وقوله: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: ١٥٥] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى حرج من الأبواب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولا وَأَلْفَيا سَيِّدَها صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكا في الحقيقة. روي أنهما ألفياه مقبلا يريد أن يدخل وقيل جالسا مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذ ذاك؟
فقيل: قالت: ما جَزاءُ هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه، أو ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعا في أن يواتيها خوفا وإن لم يواتها طوعا. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلا ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضا لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءا بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: ٢٩] ففيه إشعار بالتأبيد قالَ يوسف هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها.
قال سبحانه وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قال جمع من المفسرين: الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلا حكيما، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال: قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبيا في المهد
وقد روي عن النبي ﷺ أنه «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» «١»
وعن مجاهد: الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل، واعترض على القول الأول
(١) رواه أحمد في مسنده (٢/ ٣٠٧) بدون «شاهد يوسف».
80
بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعا على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضبت عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضربا وجميعا. وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم. واعتراض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة. وأيضا لفظ شاهِدٌ لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة. والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد هاهنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها. قال في الكشاف: التنكير في «قبل» و «دبر» معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر. أما الضمير في قوله: فَلَمَّا رَأى وفي قوله: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ فقيل:
إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ قال بعض العلماء: أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء: ٧٦] وقال للنساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وأقول: لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «النساء حبائل الشيطان».
ثم قال الشاهد: يُوسُفُ أي يا يوسف فحذف حرف النداء أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ولا تحدّث به وَاسْتَغْفِرِي يا امرأة لِذَنْبِكِ والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: ٣٩] إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من المتعمدين للذنب. يقال: خطىء إذا أذنب متعمدا والتذكير للتغليب. وقيل: الضمير في رَأى وفي قالَ لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم. وَقالَ نِسْوَةٌ هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها. قال الكلبي:
هن أربع في مدينة مصر: امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب
81
السجن، وزاد مقاتل امرأة الحاجب، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية قَدْ شَغَفَها أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب وحُبًّا نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال: كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء. وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران. وقال ابن الأنباري: هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها. والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب.
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ اغتيابهن وسوء قالتهن فيها، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء. وقيل: التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكرا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن. وقيل: أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكرا. وقيل: كن أربعين. وَأَعْتَدَتْ وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً موضع اتكاء وأصله موتكئا لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه. وقيل: المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئا. وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها. وقيل:
أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ. وقال مجاهد: هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكا مضموم الميم ساكن التاء مقصورا وهو الأترج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أعظمنه وهبن ذلك الجمال، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا ﷺ كان أملح. قيل: كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجدران وقد ورث الجمال من جدته سارّة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل: من هذا؟ فقال: يوسف. فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر»
وقال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت.
يقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض، ووجه حيضهن حينئذ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت، فالمراد حضن ودهشن. وقيل: أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق الفاضلة الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك
82
الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن حاشَ لِلَّهِ أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ في السيرة والعفة والطهارة.
وأما قول زليخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق. وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله، كما أن قولهن حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله، قال صاحب الكشاف: «حاشا» كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في لِلَّهِ لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة. وقال أبو البقاء: الجمهور على أنه هاهنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية. ما هذا بَشَراً إعمال ما عمل ليس لغة حجازية إِنْ هذا أي ما هذا الشخص إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا: وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان. واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك. وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وسئل هاهنا إن يوسف كان حاضرا فلم أشارت بعبارة البعيد؟
وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل.
وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنهم لم تقل فهذا رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعادا لمحله، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به. ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت:
وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ قال السدي: أي بعد حل السراويل. والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا: إن فَاسْتَعْصَمَ بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما
83
صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلا. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ قال في الكشاف:
معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف.
ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها: أن زليخا كانت في غاية الحسن، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة وقد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفا من شرها ومن إقدامها على قتله، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلا عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبو إلى روحها. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله:
وَإِلَّا تَصْرِفْ معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَدا أي ظهر لَهُمْ للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو لَيَسْجُنُنَّهُ والقسم محذوف حَتَّى حِينٍ إلى زمان ممتد. عن ابن عباس: إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة. وعن الحسن: خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل: أنه حبس اثنتي عشرة سنة.
التأويل:
لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة
84
فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة.
ف قالَ لِامْرَأَتِهِ وهي الدنيا أَكْرِمِي مَثْواهُ اخدميه بقدر الحاجة الضرورية عَسى أَنْ يَنْفَعَنا حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية وَكَذلِكَ مَكَّنَّا يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني، لأن الثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخا في الأرض وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أمر القلب في توجيهه إلى محبة الله وطلبه، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة. وَراوَدَتْهُ فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي وَغَلَّقَتِ أبواب أركان الشريعة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أقبل إلي وأعرض عن الحق قالَ أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه مَعاذَ اللَّهِ عما سواه. أَحْسَنَ مَثْوايَ في عالم الحقيقة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى وَهَمَّ بِها فوق الحاجة الضرورية لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهو نور خصلة القناعة التي هي من نتائج نظر العناية لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الحرص على الدنيا وَالْفَحْشاءَ بصرف حب الدنيا فيه إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين خلصوا من سجن الوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي. وَاسْتَبَقَا باب الموت الاختياري وَقَدَّتْ قميص بشريته مِنْ دُبُرٍ بيد شهواتها قبل خروجه من الباب وَأَلْفَيا سَيِّدَها وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا لأنه يتصرف في الدنيا كما ينبغي تصرف الرجل في المرأة وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وهو قطع طريق الوصول إلى الله لعظيم على القلب السليم. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة. وَقالَ نِسْوَةٌ هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد تُراوِدُ فَتاها لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء
«يا دنيا اخدمي من خدمني»
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أطعمة مناسبة لكل
85
منها وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً هو سكين الذكر وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالذكر عما سوى الله. ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن يراعي صلاح حال القلب مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه لَيَسْجُنُنَّهُ في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٩] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأمورا بأن يكون مسجونا في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٣٦ الى ٥٣]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠)
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
86
القراآت
إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ بالفتح في الحرفين: أبو جعفر ونافع، وأبو عمرو وافق ابن كثير في أَرانِي كليهما. الباقون: بسكون ياء المتكلم في الكل. نَبِّئْنا بغير همزة: أوقية والأعشى وحمزة في الوقف. تُرْزَقانِهِ مختلسة: الحلواني عن قالون نَبَّأْتُكُما مثل أَنْشَأْنا رَبِّي إِنِّي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو آبائِي بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر إني أرى بالفتح: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو رؤياي بالإمالة: عليّ غير قتيبة. أبو عمرو بالإمالة اللطيفة. والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم للرؤيا ممالة: عليّ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة. لَعَلِّي أَرْجِعُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو دَأَباً بفتح الهمزة: حفص. الآخرون بالسكون تعصرون بتاء الخطاب: حمزة وعليّ وخلف والمفضل. الباقون على الغيبة. ما بالُ النِّسْوَةِ بضم النون: الشموني والبرجمي نَفْسِي رَحِمَ رَبِّي بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو.
الوقوف:
فَتَيانِ ط خَمْراً ج فصلا بين القضيتين مع اتفاق الجملتين الطَّيْرُ مِنْهُ ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ ج لاحتمال التعليل. الْمُحْسِنِينَ هـ أَنْ يَأْتِيَكُما ط رَبِّي ط كافِرُونَ ٥ وَيَعْقُوبَ ط مِنْ شَيْءٍ ط لا يَشْكُرُونَ هـ الْقَهَّارُ هـ ط مِنْ سُلْطانٍ ط إِلَّا لِلَّهِ ط إِلَّا إِيَّاهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ خَمْراً ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين مِنْ رَأْسِهِ ط لأن قوله: قُضِيَ جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا تَسْتَفْتِيانِ ط لاستئناف حكاية أخرى عِنْدَ رَبِّكَ ز سِنِينَ هـ ط يابِساتٍ ط تَعْبُرُونَ ٥ أَحْلامٍ ج للنفي مع العطف بِعالِمِينَ هـ فَأَرْسِلُونِ هـ يابِساتٍ لا لتعلق «لعلى» يَعْلَمُونَ هـ دَأَباً ج للشرط مع الفاء تَأْكُلُونَ هـ تُحْصِنُونَ هـ يَعْصِرُونَ هـ ائْتُونِي بِهِ ج أَيْدِيَهُنَّ ط عَلِيمٌ هـ عَنْ نَفْسِهِ ط مِنْ سُوءٍ ط الْحَقُّ ز
87
لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل. الصَّادِقِينَ هـ الْخائِنِينَ هـ نَفْسِي ج للحذف أي عن السوء رَبِّي ط رَحِيمٌ هـ.
التفسير:
تقدير الكلام فحبسوه وَدَخَلَ مَعَهُ أي مصاحبا له في الدخول السِّجْنَ فَتَيانِ غلامان للملك الأكبر خبازه وشرابيه نقلا عن أئمة التفسير أو استدلالا برؤياهما المناسبة لحرفتهما. رفع إلى الملك أنهما أراد سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أي في المنام لقولهما: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وهو حكاية حال ماضية أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة عمان اسم العنب. والضمير في قوله: بِتَأْوِيلِهِ يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ عبارة الرؤيا. وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا.
وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا اصبروا تؤجروا.
فقالوا: ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي: أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهرا وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها: أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يوثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة، أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين، ولهذا قال السدي: أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم. بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصورا على شيء دون غيره.
وقيل: إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ [آل عمران: ٤٩] أي أخبركما قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أنه أيّ طعام هو وأيّ لون
88
هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سما أم لا. فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما مسموما فأرسله إليه. ثم قال: ذلِكُما أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ. ثم بيّن سيرته وملته مشيرا فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبها على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال: إِنِّي تَرَكْتُ أي رفضت بل ما كنت قط، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفا منهم لأنه كان تحت أيديهم. وإنما كررت لفظة «هم» تنبيها على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضا بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار. والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع، ومعنى التنكير في قوله:
مِنْ شَيْءٍ الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل، وهذا يناسب أصول المعتزلة. وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: ١٩].
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أراد يا صاحبي السجن كقوله «يا سارق الليلة» خصهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله: أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف: ٤٤] فسبب التعيين أنهما استفتياه من بين الساكنين. ثم أنكر عليهم عبادة الأصنام فقال: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض خَيْرٌ إن فرض فيهم خير أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد، وكونه قهارا غالبا غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بتسميتها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة. ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ثم ذكر ما حكم به فقال: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت بالبراهين وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه مبدأ المبادئ والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبودا ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام
89
بالاستقلال فعلا وتأثيرا. ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال: أَمَّا أَحَدُكُما يعني الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده خَمْراً يروى أنه قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك. قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ قال في الكشاف: إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالا برؤياهما فقال: إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما.
وقيل: جحدا رؤياهما. وقيل: عكسا رؤياهما، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف: إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكماء: ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى.
وَقالَ يوسف لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني. والضمير في ظَنَّ إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعا بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية. والأصح أنه قضى بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى قوله: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: ٤٦] أما الضمير في قوله: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ فمن الناس من قال: إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه، وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان لا قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان. ومنهم من قال: الضمير راجع إلى يوسف، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين. والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب. والأكثرون على أن المراد به في الآية سبع
90
سنين. وعن ابن عباس: كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن»
وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له:
يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا، لأطيلن حبسك. فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي.
قال المحققون: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة.
فقد روي أن النبي ﷺ لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد بن أبي وقاص فنام.
وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الصف: ١٤] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لوجوه منها:
أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال: هل من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا مع أنه زعم أنه اتبع ملة آبائه. ومنها أنه قال: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وهذا يقتضي نفي الشرك على الإطلاق وتفويض الأمر بالكلية إلى الله سبحانه. فقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كالمناقض لهذا الكلام. ومنها أنه قال: عِنْدَ رَبِّكَ ومعاذ الله أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام مستعملا في كلامهم. ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه ذا قدرة وتمكين، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ثم إنه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى قالُوا إنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها. واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من طريق الحواس، وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة، فإذا وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فهناك
91
يفتقر إلى المعبر. ثم منها ما هي منتسقة منظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات، ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث. وبالحقيقة، الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية، أو لورود أمر غريب عليه من خارج، لكن القسم المذكور قد يعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها.
ولنشتغل بتفسير الألفاظ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر، وقوله: إِنِّي أَرى حكاية حال ماضية. وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال: رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون: إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف وصفا للمميز كما في الآية دون العدد، لأنه ليس بمقصود بالذات فلهذا قيل سمان بالجر ليكون وصفا لبقرات، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولا ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن. والعجف هو الهزال الذي ليس بعده هزال، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه. وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله: وَأُخَرَ يابِساتٍ التقدير وسبعا أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد. وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوصف وحده. وقولهم «ثلاثة فرسان» و «خمسة أصحاب» لأنه وصف جرى مجرى الاسم، ولا يجوز أن يكون قوله وَأُخَرَ مجرورا عطفا على سُنْبُلاتٍ لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع. وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء، واللام في لِلرُّءْيا للبيان كما قلنا في وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: ٢٠] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله، أو لأن قوله: لِلرُّءْيا خبر «كان» كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن منه مستقل به وتَعْبُرُونَ خبر آخر أو حال أو لتضمن تَعْبُرُونَ معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر. والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال: رمح أقصاد وبرمة أعشار. فالمراد هي حلم أضغاث أحلام. وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم «فلان يركب الخيل
92
ويلبس العمائم» وإن لم يركب إلا فرسا واحدا ولم يلبس إلا عمامة واحدة. ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاما أخر. واللام في الْأَحْلامِ اما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا. ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه المصلوب، وتذكر قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وذلك قوله سبحانه: واذكر وأصله «اذتكر» قلبت التاء والذال كلاهما دالا مهملة وأدغمت. بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة. وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة، وقرىء بَعْدَ أُمَّةٍ بوزن عمه. ومعنى أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أخبركم به عمن عنده علمه فَأَرْسِلُونِ إليه لأسأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله. والمعنى مروني باستعباره.
وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة. وهاهنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال يُوسُفُ أي يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل. وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه. وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات. وقوله:
لَعَلِّي أَرْجِعُ فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة. وكذا في قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين. وقيل: كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا، ومثله في هذه السورة لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف: ٦٢].
قالَ يوسف في جواب الفتوى تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به. قال في الكشاف: والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ وأقول: يمكن أن يكون قوله: تَزْرَعُونَ إخبارا عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة، وقوله: فَما حَصَدْتُمْ إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت. ودَأَباً بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه. وانتصابه على الحال أي تزرعون ذوي دأب، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأبا. وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه دليل على أن تَزْرَعُونَ إخبار لا أمر سَبْعٌ سنين شِدادٌ على الناس يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ
93
لَهُنَّ من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون وتخبئون. والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث، أو من الغيث يقال: غيثت البلاد إذا مطرت وَفِيهِ يَعْصِرُونَ العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع، تأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين، ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن. فقال المفسرون: إنه قد عرف ذلك بالوحي.
عن قتادة: زاده الله علم سنة. وقيل: عرف استدلالا فليس بعد انتهاء الجدب، إلا الخصب. والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال. وأيضا في قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال: ائْتُونِي بِهِ فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص من المحن الأخروية أيضا. فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ وهو الشرابي فقال: أجب الملك. قالَ يوسف ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ما شأنهن وما حالهن إِنَّ رَبِّي أي الله العالم بخفيات الأمور أو العزيز الذي رباه بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد غوره، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وكيدهن ترغيبهن إياه في مواقعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه. ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش. ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضا فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليما ذا أناة» «١».
قال العلماء: الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده،
(١) رواه البخاري في كتاب التعبير باب: ٩. كتاب الأنبياء باب: ١١، ١٩. مسلم في كتاب الإيمان حديث ٢٣٨. الترمذي في كتاب تفسير سورة ١٢ باب: ١. أحمد في مسنده (٦/ ٣٢٦، ٣٣٢).
94
وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ.
قالَ الملك بعد إحضار النسوة ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن العظيم إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ هل وجدتن منه ميلا إليكن أو إلى زليخا؟ قيل: الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم. وقيل: خاطبهن جميعا لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تعجبا من عفته ونزاهته قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ حين عرفت أن لا بد من الاعتراف الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض. وقال الزجاج:
اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل. أما قوله سبحانه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ إلى تمام الآيتين ففيه قولان: الأول- وعليه الأكثرون- أنه حكاية قول يوسف.
قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحادثة الحاضرة بقوله: ذلِكَ لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد الرسول والتثبت وإظهار البراءة. وعن ابن عباس: أنه لما دخل على الملك قال ذلك، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه. ومحل بِالْغَيْبِ نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه، أو من المفعول أي وهو غائب عني، أو على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة. قيل:
هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وفيه تعريض بامرأته الخائنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم الله، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائنا لم يهد الله كيده. ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء. قال أهل التحقيق: إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي دون أن يقول «ما بال زليخا» أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه. ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جاريا مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:
95
٣٢] أتبع ذلك قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ أي هذا الجنس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي. وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضرا في ذلك المجلس والمعنى، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي فيه تعريض بأنها لما أقدمت على المكر فلا جرم افتضحت، وأنه لما كان بريئا من الذنب لا جرم طهره الله منه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخيانة مطلقا فإني قد خنثه حين قلت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أو حين أودعته السجن. ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي كنفس يوسف إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. قال المحققون: النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل: إنها من حيث هي أمارة بالسوء. وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سميت لوامة. ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي الناطقة العلوية، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة والغضب وسائر الأخلاق الرذيلة. وتمسكت الأشاعرة بقوله:
إِلَّا ما رَحِمَ ظاهرا لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه. وحملته المعتزلة على منح الألطاف والله أعلم بالحقائق.
التأويل:
لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح هما النفس والبدن، فإن الروح العلوي لا يعمل عملا في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه. والبدن يهيىء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني. وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله عيانا وشهودا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ
أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة
96
ملك الروح أبدا وَأَمَّا الْآخَرُ وهو البدن فَيُصْلَبُ بنخيل الموت فَتَأْكُلُ طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة قُضِيَ في الأزل هذا الْأَمْرُ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمدا من الألطاف الربانية. ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي: الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ هن الصفات المذكورة يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ هن أضدادها وهي:
القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى أَفْتُونِي فيما رأيت في غيب الملكوت وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا فَأَرْسِلُونِ فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئا مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه، فالقلب ترجمان بين الروحانيات والنفس فيما يفهم من لسان الغيب أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق، ويصدق فيما يروي للخلق ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١]
«حدثني قلبي عن ربي»
قال في الكشاف: أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنه ولا تستعملوه إِلَّا قَلِيلًا مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري. ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان. وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافا للطافتها، وما هو من عالم الأجسام سمانا لكثافتها كثيرا إلا قليلا مما يحسن به الإنسان حياة قالبه ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية، وفيه يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته. ولما أخبر القلب بنور الله؟؟؟ رآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على
97
لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله ما بالُ النِّسْوَةِ لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي القلب المنظور بنظر العناية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ الذين يبيعون الدين بالدنيا. ثم قال إظهارا للعجز عن نفسه وللفضل من ربه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ جبلت على الأمارية، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ٨] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: ٢٨] إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ لنفس تابت ورجعت إليه رَحِيمٌ لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر أوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ...
98
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث عشر من أجزاء القرآن الكريم
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٥٤ الى ٦٨]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣)
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨)
القراآت
حيث نشاء بالنون: ابن كثير. الآخرون بياء الغيبة أني أوف بفتح ياء
99
المتكلم: نافع غير إسماعيل. لِفِتْيانِهِ خَيْرٌ حافِظاً حمزة وعلي وخلف غير أبي بكر وحماد. الباقون لفتيته خَيْرٌ حافِظاً يكتل بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف.
الباقون بالنون. تؤتوني بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو يزيد وإسماعيل في الوصل.
الوقوف:
لِنَفْسِي ج أَمِينٌ هـ الْأَرْضِ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى عَلِيمٌ هـ فِي الْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال حيث نشاء ط الْمُحْسِنِينَ هـ يَتَّقُونَ هـ مُنْكِرُونَ هـ مِنْ أَبِيكُمْ ج لحق الاستفهام مع اتحاد القائل الْمُنْزِلِينَ هـ وَلا تَقْرَبُونِ هـ لَفاعِلُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ لَحافِظُونَ هـ مِنْ قَبْلُ ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار حافِظاً ص الرَّاحِمِينَ هـ إِلَيْهِمْ ط لتمام جواب «لما» ما نَبْغِي ط لأن ما بعده جملة مستأنفة موضحة للاستفهامية أو المنفية قبلها إِلَيْنا ج لاحتمال الاستئناف والعطف على ونحن نمير كَيْلَ بَعِيرٍ هـ ط يَسِيرٌ هـ بِكُمْ ط قالَ اللَّهُ قيل: يسكت بين الفعل والاسم لأن القائل يعقوب لا الله سبحانه، والأحسن أن يفرق بينهما بقوة النغمة فقط لئلا يلزم الفصل بين القائل والمقول وَكِيلٌ هـ مُتَفَرِّقَةٍ ط مِنْ شَيْءٍ ط لِلَّهِ ط تَوَكَّلْتُ ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ أَبُوهُمْ ط لأن جواب «لما» محذوف أي سلموا بإذن الله قَضاها ط لا يَعْلَمُونَ هـ.
التفسير:
الأظهر أن هذا الملك هو الريان لا العزيز لأن قوله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له وقد كان يوسف قبل ذلك خالصا للعزيز. وفي قول يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ دلالة أيضا على ما قلنا. والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك، ومن عادة الملوك أن يتفردوا بالأشياء النفيسة.
روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن وقال: قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب. فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه فجاءه الرسول وقال: أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله وكتب على باب السجن:
«هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء» ثم اغتسل وتنطف من درن السجن ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه.
فَلَمَّا كَلَّمَهُ احتمل أن يكون ضمير الفاعل ليوسف وللملك، وهذا أولى لأن مجالس الملوك لا يحسن ابتداء الكلام فيها لغيرهم.
يروى أن الملك قال له: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك. قال:
رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها
100
على الهيئة التي رآها الملك بعينها، فتعجب من وفور علمه وحدسه- وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن- وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه
فعند ذلك قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ويندرج في المكانة كمال القدرة والعلم. أما القدرة فظاهرة، وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها، وكونه أمينا متفرع عن كونه حكيما لأن لا يفعل الفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة. قال المفسرون: لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل؟
فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر.
والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ إِنِّي حَفِيظٌ للأمانات وأموال الخزائن عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة.
وقيل: حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة. قال الواحدي: هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة.
عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة».
وقال آخرون: إن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه لأن النبي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به، على أن مجاهدا قد زعم أن الملك كان قد أسلم.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع. ووصف نفسه عليه السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أرض مصر وهي أربعون فرسخا في أربعين. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ فيه أن الكل من الله وبتيسيره. وقالت المعتزلة: تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى، وعلقوا أيضا المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح. والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ
101
الْمُحْسِنِينَ لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدنيا أو خير في نفسه. وفي قوله المحسنين وقوله: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ إشارة إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء. قال سفيان بن عيينة:
المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق.
يروى أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فقال له: أما السرير فأشدّ به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد فزوّجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين: إفرائيم وميشا. وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى؟ قال: الرأي رأيك. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا
فذلك قوله سبحانه: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعا بدراهم معدودة ثم رأوه ملكا مهيبا جالسا على السرير في زي الفراعنة، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج. وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي. وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له.
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت. قال الليث: جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازا للسفر. قال: وسمعت أهل البصرة يحكون الجهاز بالكسر. وقال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ قال العلماء: لا بد من كلام يجر هذا الكلام
فروي أنه
102
لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: من أنتم؟ وما شأنكم فإني أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار. فقال: لعلكم جئتم عيونا؟ قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟
قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد. فقال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينا وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده. وقيل: كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا: إن لنا شيخا كبيرا وأخا آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين.
فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقا في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره. وقيل: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيدا فريدا؟ فقالوا: بل بقي عنده واحد. فقال لهم: لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ قالوا: لا بل لزيادة محبته. فقال: إن أباكم رجل عالم حكيم، ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائدا عليكم في الكمال والجمال فائتوني به لأشاهده.
والأوّل قول المفسرين، والآخران محتملان. ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملا، والثاني فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل: فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك. وَقالَ لِفِتْيانِهِ أو لفتيته قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخ ففعلة للقلة ووجهه أن هذا العمل من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة، والرحال جمع رحل والمراد به هاهنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث.
والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله:
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم. وقيل: أمر بوصفها على
103
وجه عرفوها، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها. أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل: ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة. وقيل: خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. وقيل: يَرْجِعُونَ متعد أي لعلهم يردونها. قالُوا: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أرادوا قول يوسف فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ نَكْتَلْ بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلف فلعله منع من ذلك، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب: إنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن. والظاهر أن هاهنا إضمارا والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وحافِظاً نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو «لله درّه فارسا» وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أرجو أن لا يجمع عليّ مصيبتين. وقيل: إنه تذكر يوسف فقال: فالله خير حافظا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به هاهنا الطعام أو الأوعية. أما قوله ما نَبْغِي فالبغي بمعنى الطلب و «ما» نافية أو استفهامية. المعنى ما نطلب شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا. وَنَمِيرُ أَهْلَنا في رجوعنا إلى الملك وَنَحْفَظُ أَخانا فما يصيبه شيء مما يخافه وَنَزْدادُ باستصحاب أخينا وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي؟!. ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن «ما» نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا تلك الكرامة. قال في الكشاف: فعلى هذا التفسير لا يكون قوله: وَنَمِيرُ معطوفا على معنى قوله: هذِهِ بِضاعَتُنا وإنما يكون قوله: هذِهِ بِضاعَتُنا بيانا لصدقهم، وقوله: وَنَمِيرُ معطوفا على ما نَبْغِي أو يكون كلاما مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول: سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي
104
ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا. ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم: هذِهِ بِضاعَتُنا نستظهر بها ونمير أهلنا إلى آخره. يقال: ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا. وقال مقاتل: ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه، واختاره الزجاج. وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد. قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو «قرأت إلا يوم كذا» وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعا قاله مجاهد، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة: عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإعطائه وَكِيلٌ مطلع رقيب. قال جمهور المفسرين: إنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد خوفا عليهم من إصابة العين. وهاهنا مقامان: الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير
من الأمه ولما
روي أن رسول الله ﷺ كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة.
وعن عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله ﷺ في أول النهار فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار فرءته معافى. فقال: إن جبرائيل عليه السلام أتاني فرقاني وقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك.
قال: فأفقت.
وروي أنه دخل رسول الله ﷺ بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا:
يا رسول الله أصابته العين. قال: أفلا تسترقون له من العين؟
وعنه صلى الله عليه وسلم: «العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» «١».
وقالت عائشة: كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين. المقام الثاني في الكشف عن حقيقته. قال الجاحظ: يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتؤثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم. واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر في غير المستحسن كتأثيره في المستحسن. وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقا حصل للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله،
(١) رواه البخاري في كتاب الطب باب: ٣٦. مسلم في كتاب السلام حديث ٤١، ٤٢. أبو داود في كتاب الطب باب: ١٥. الترمذي في كتاب الطب باب: ١٩. الموطأ في كتاب العين حديث: ١.
أحمد في مسنده (١/ ٢٧٤).
105
وإن كان عدوا حصل له خوف شديد من حصوله، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة، فلهذا السبب أمر النبي ﷺ العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال منه. وقال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا به. وقال الحكماء: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا أو وهميا كما للماشي على الجذع، أو تصوّريا كما في الحركات البدنية، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف في غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين. أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا:
إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم. وقيل: إنه كان عالما بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامين إليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي. واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البليغ يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب. وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله: ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى.
وقال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع أي ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي إظهار الشفقة والنصيحة، أو الخوف من إصابة العين، أو من حسد أهل مصر، أو من قصد الملك. ثم مدحه الله تعالى بقوله: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر لِما عَلَّمْناهُ «ما» مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه، أو للذي علمناه. وقيل: العلم الحفظ والمراقبة. وقيل: المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملا بعلمه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. وقيل: المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.
106
التأويل:
لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصا له في كشف حقائق الأشياء، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكة روحانية وجسمانية. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في جسد بني آدم مضغة: إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» «١».
وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه: «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن». اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ أرض الجسد فإن لله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده إِنِّي حَفِيظٌ للخزائن عَلِيمٌ باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى. وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وهم الأوصاف البشرية فَعَرَفَهُمْ يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لبقائهم في الظلمة وحرمانهم عن النور. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها، لأن القلب مستغن عنها. وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: ٧] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: نية المؤمن خير من عمله.
وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص. ثم قال: كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من صفة الأمارية إلى المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] رُدَّتْ إِلَيْنا فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب وَنَمِيرُ أَهْلَنا الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له وَنَحْفَظُ أَخانا من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية وَنَزْدادُ بواسطة حضور السر عند القلب كَيْلَ بَعِيرٍ من الفوائد الربانية ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ لمن يسره الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ مع
(١) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: ٣٩. مسلم في كتاب المساقاة حديث: ١٠٧. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: ١٤. الدارمي في كتاب البيوع باب: ١.
107
الفوائد الربانية إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسباب مدخل في التقريب إلا أن الكل موكول إلى مسبب الأسباب.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٦٩ الى ٨٣]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨)
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣)
القراآت:
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين: سهل ويعقوب. بالنون وبالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون وعلى الإضافة. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا وبابه بالألف ثم الياء: أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الباقون: بياء ثم همزة على الأصل لِي أَبِي بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي.
الوقوف:
يَعْمَلُونَ هـ لَسارِقُونَ هـ تَفْقِدُونَ هـ زَعِيمٌ هـ سارِقِينَ هـ كاذِبِينَ هـ فَهُوَ جَزاؤُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ط لِيُوسُفَ ط يَشاءَ
108
اللَّهُ ط لأن ما بعده مستأنف نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ط مَكاناً ج تَصِفُونَ ٥ مَكانَهُ ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى الْمُحْسِنِينَ هـ عنده لا لتعلق «إذا» بما قبلها لَظالِمُونَ هـ نَجِيًّا ط يُوسُفَ ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال الْحاكِمِينَ هـ سَرَقَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل حافِظِينَ هـ أَقْبَلْنا فِيها ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ.
لَصادِقُونَ هـ أَمْراً ط جَمِيلٌ ط جَمِيعاً ط الْحَكِيمُ هـ.
التفسير:
روي أنهم لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدته. ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتا وقال: هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح. ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل. فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ
قال وهب: أراد إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش. وقال ابن عباس وسائر المفسرين:
أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة فَلا تَبْتَئِسْ افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها.
يروى أن بنيامين قال ليوسف: أنا لا أفارقك. فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن. قال: أنا راض بما رضيت. قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته
فذلك قوله سبحانه فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ والسقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع كان يسقى بها الملك أو الدواب ثم جعلت صاعا يكال به. وكان مستطيلا من ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعا بالجواهر أقوال ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد ومعناه راجع إلى الإيذان والإعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويت بالنداء أَيَّتُهَا الْعِيرُ أراد أصحاب العير
كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»
والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها «فعل» بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في «بيض» ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية
109
غلب على ظنونهم أنهم أخذوها، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه السلام من أبيهم، أو المراد أن فيكم سارقا وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك. ثم إن إخوة يوسف قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ قيل: صواع اسم للصاع والسقاية وصف وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من طعام جعلا لمن حصله وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضا إذا كان معلوما فكأن حمل بعير كان عندهم شيئا معلوما كوسق مثلا إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم قالُوا تَاللَّهِ التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل. حلفوا على أمرين معجبين: أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفا من أن تتناول زرعا أو طعاما لأحد في الطرق والأسواق، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم. وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة. قالُوا أي أصحاب يوسف: فَما جَزاؤُهُ قال في الكشاف: الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة؟ قلت: ويحتمل أن يعود إلى السارق، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي جزاؤه الرق. قال الزجاج: وقوله فَهُوَ جَزاؤُهُ زيادة في البيان أي فأخد السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال حق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى «من» ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة. وجوز في الكشاف أن يكون جَزاؤُهُ خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه. أما قوله: كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ فيحتمل أن يكون من بقية كلام إخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم.
ثم قال لهم المؤذن ومن معه: لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به.
110
قال قتادة: كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا. فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فأخذوا برقبته وحكموا برقيته. ثم قال سبحانه كَذلِكَ أي مثل ذلك الكيد العظيم كِدْنا لِيُوسُفَ يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه. والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات. وما هذا الكيد؟
قيل: هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه. وقيل: الكيد يستعمل في الخير أيضا والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء.
وقيل: تفسير هذا الكيد هو قوله: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه. ومعنى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية. ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فوقه أرفع درجة منه في علمه. ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصا لأنه لا عليم فوقه، وإن قيل: إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقيا على عمومه، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى. والميل إلى هذا التفسير لأن قوله: لَذُو عِلْمٍ مشعر بكون علمه زائدا على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية.
يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم
فعند ذلك قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ عنوا به يوسف. واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يعبد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها. وقيل: سرق عناقا من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين. وقيل: كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحق
111
ثم وقعت إلى ابنته عمة يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حبا شديدا فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه ثم زعمت أنه قد سرقها، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. وقيل:
إنهم كذبوا عليه وبهتوه حسدا وغيظا. فَأَسَرَّها يُوسُفُ قال الزجاج وغيره: الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل: فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم، ثم فسرها بقوله:
قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية. وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل، والحق أن القرآن حجة على غيره. وقيل: الضمير عائد إلى الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل: يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار. وعن ابن عباس أنه قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: عوقب بالحبس لأجل همه بها، وبالحبس الطويل لقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وبقولهم: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ لقوله: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ومعنى شَرٌّ مَكاناً شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ المراد أنه يعلم أني لست بسارق في التحقيق ولا أخي، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذما أم لا.
قال ابن عباس: لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته: اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له: مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أنه شديد وجذبه فسقط فعند ذلك قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ استعبادا أو رهنا حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزا أيضا عندهم إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعد ما اشترى رقابهم بالطعام قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ من أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً أي إذا أخذنا غيره لَظالِمُونَ في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للمبالغة. خَلَصُوا اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم نَجِيًّا مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى، أو المراد أنهم
112
التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال: رجل جور ورجال عدل، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجا نجيا بمعنى مناجيا بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر. وفيم كان تناجيهم؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك قالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم، أو في العقل والرأي وهو يهوذا.
وقوله: ما فَرَّطْتُمْ إما أن تكون «ما» صلة أي ومن قبل هذا قصرتم فِي شأن يُوسُفَ ولم توفوا بعهدكم أباكم، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه، أو النصب عطفا على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها أو بالانتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب.
ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قاله بناء على ما شاهد من استخراج الصواع من وعائه، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: ٨٧] أي في زعمك واعتقادك، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة. وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب. وعن ابن عباس أنه قرأ سَرَقَ مشددا مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة. وعلى هذا فلا إشكال، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ للأمر الخفي حافِظِينَ فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة.
ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها الأكثرون على أنها مصر.
وقيل: قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة وَاسأل أصحاب الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب.
وقيل: قوما من أهل صنعاء. وقال ابن الأنباري: إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة، فالمراد اسأل
113
القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجيبك بصحة ما ذكرنا. وقيل: إن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال. ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين وَإِنَّا لَصادِقُونَ وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك. وهاهنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وقد مر تفسيره في أول السورة. ولكن المفسرين زادوا شيئا آخر فقيل: المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق. وقيل: أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم. وقيل: أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصا بما إذا كان المسروق له مسلما وكان الملك في ظن يعقوب كافرا، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجا ومخرجا عما قريب، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال:
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ قد بقيا في مصر فلذلك قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ أي بالثلاثة الغائبين جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء.
التأويل:
لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر عَلى يُوسُفَ القلب آوى القلب السر إِلَيْهِ لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية فَلا تَبْتَئِسْ إذا وصلت بي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقا من قلب مقارنا للأوصاف كان محروما عن كمالات هو مستعد لها فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها جَعَلَ السِّقايَةَ وهي مشربة كان منها شربه فِي رَحْلِ أَخِيهِ لأنهما رضيعا لبان واحد إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقا للشرب من مشارب الملوك لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا من المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] وَما كُنَّا سارِقِينَ إذ
114
أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزا فيها ونحن أذلاء له جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية. ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعا في أن يكونوا حريف الملك وشريبه كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ آتيناه علم الصعود عَلِيمٌ بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهما قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية. ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ قالَ مَعاذَ اللَّهِ أن نقبل بالصحبة والمخالطة إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا من صحبة القلب خَلَصُوا عن الأوصاف الذميمة للتناجي قالَ كَبِيرُهُمْ هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله فَلَنْ أَبْرَحَ أرض فناء القلب وهي الصدر. والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة حافِظِينَ لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا. وَسْئَلِ أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء قالَ بَلْ سَوَّلَتْ فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بافتراقهم الْحَكِيمُ بما في التفريق والجمع من الفوائد.
115

[سورة يوسف (١٢) : الآيات ٨٤ الى ١٠١]

وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١)
القراآت:
مُزْجاةٍ بالإمالة: حمزة وعلي وخلف زْنِي
بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. قالوا إنك على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام:
ابن كثير ويزيد. أَإِنَّكَ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة. أينك بهمز ثم ياء: نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينك بهمزة ممدودة ثم ياء: أبو عمرو وزيد وقالون. من يتقي بالياء في الحالين: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون بغير ياء إِنِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو
116
عمرو رَبِّي إِنَّهُ بالفتح أيضا: أبو جعفر وأبو عمرو أبي إذ بالفتح أيضا عندهم إِخْوَتِي ربي بفتح الياء أيضا: يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم.
الوقوف:
كَظِيمٌ هـ الْهالِكِينَ هـ تَعْلَمُونَ
هـ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ط الْكافِرُونَ هـ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ط الْمُتَصَدِّقِينَ هـ جاهِلُونَ هـ لَأَنْتَ يُوسُفُ ط أَخِي ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين. عَلَيْنا ط لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله، وإن كان من قول يوسف جاز الوقف أيضا لاتحاد القائل مع الابتداء بأن الْمُحْسِنِينَ هـ لَخاطِئِينَ هـ الْيَوْمَ ط لاختلاف الجملتين نفيا وإثباتا أو خبرا ودعاء لَكُمْ ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح الرَّاحِمِينَ هـ يَأْتِ بَصِيراً ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين أَجْمَعِينَ هـ تُفَنِّدُونِ هـ الْقَدِيمِ هـ بَصِيراً ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب «لما» وقوله أَلْقاهُ حالا بإضمار «قد» ما لا تَعْلَمُونَ هـ خاطِئِينَ هـ رَبِّي ط الرَّحِيمُ هـ آمِنِينَ هـ سُجَّداً ج مِنْ قَبْلُ ز لتمام الجملة لفظا دون المعنى. حَقًّا ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى إِخْوَتِي ط لِما يَشاءُ ط الْحَكِيمُ هـ الْأَحادِيثِ ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام وَالْآخِرَةِ ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء بِالصَّالِحِينَ هـ.
التفسير:
لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جدا وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن. والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة.
والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية. وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفا على الكل ولأنه كان عالما بحياة الآخرين دون حياة يوسف وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي من البكاء الذي كان سببه الحزن. قال الحكماء: إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القرينة وانصباب الفضول الردية إليها. قال مقاتل: لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف. وقال آخرون: لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكا ضعيفا، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء. روي أنه لم تجف عين
117
يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
وعن رسول الله ﷺ أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟
وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط.
ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال:
إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك. فوضع يوسف يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزنا على أبي،
قال أكثر أهل اللغة: الحزن والحزن لغتان بمعنى. وقال بعضهم: الحزن بالضم فالسكون البكاء، والحزن بفتحتين ضد الفرح. وقد روى يونس عن أبي عمرو قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التوبة: ٩٢]. وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن. وقوله:
َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
قال: هو في موضع رفع بالابتداء. قيل: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور،
فلقد بكى رسول الله ﷺ على ولده إبراهيم وقال: القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون.
ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله: فَهُوَ كَظِيمٌ «فعيل» بمعنى «مفعول» أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه. والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة: فاللسان كان مشغولا بذكر يا أَسَفى والعين كانت مستغرقة في البكاء، والقلب كان مملوءا من الحزن. ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب.
يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له: جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟ قال: لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة إلا أمة محمد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا»
وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال: من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه. وأقول: هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصا عند المصيبة
وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به
والله أعلم. قالُوا الأظهر أنهم ليسوا أولاده الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاد أولاده. تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أراد «لا تفتؤ» فحذف حرف النفي
118
لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: أي لا تزال تذكر. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين. قال أبو زيد: ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً وصف بالمصدر للمبالغة. والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
قالت العلماء: إذا أسر الإنسان حزنه كان هما، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثا. فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس. فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئا إليه وداعيا له فخلوني وشكايتي. وهذا مقام العارفين الصديقين
كقول نبينا ﷺ «أعوذ بك منك».
ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله والشكاية إليه.
يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له: ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سنا عاليا. فقال: الذي بي لكثرة غمومي. فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟
فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له.
فكان بعد ذلك إذا سأل قال: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت- أي غضبت- عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاما وادع عليه المساكين.
وقيل: اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت. واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة فتارة كان مستغرقا في بحار معرفة الله، وتارة كان يستولي عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار، وكابتلاء إسحق بالذبح، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه، وكذا تأسفه عليه، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمرا خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولا بعد تملكه وقدرته، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده؟! أما قوله: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
فمعناه أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، فأرجو أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب.
وقيل: إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا يا نبي الله. ثم أشار إلى جانب مصر وقال: اطلبه هاهنا.
وقيل: إنه كان
119
قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف فعلم أن رؤياه صادقة لا تخطىء. وقال السدي:
أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف. وقيل: أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابنه ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال. ثم دعا بنيه على سبيل التلطف فقال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم. وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من فرجه وتنفيسه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها اللهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله. ثم هاهنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور:
٤٣] ومنه قولهم: «فلان يزجي العيش» أي يدفع الزمان بالقليل. قال الكلبي: هي من لغة العجم. وقيل: لغة القبط. والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها. قيل: كانت بضاعتهم الصوف والسمن. وقيل: الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط. وقيل:
دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته. فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ الذي هو حقنا. وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد. واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة؟ فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالا على الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: أرادوا بالصدقة التفضل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنبياء كلهم. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال: الله تعالى متصدق أو اللهم تصدق علي بل يجب أن يقال: اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني.
120
كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل: الغريق يتعلق بكل شيء. فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء. أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: «اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا».
وقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت. وفيه تصديق لقوله سبحانه: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا [يوسف: ١٥] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان. وقوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ جار مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال:
إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة.
والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحا لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالبا فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور. وقيل: إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم. ولما كلمهم بذلك قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم، أو تبسم عليه السلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها قالَ أَنَا يُوسُفُ صرح بالاسم تعظيما لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال: وَهذا أَخِي مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت صار منعما عليه من الله وذلك قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بكل خير دنيوي
121
وأخروي أو بالجمع بعد التفريق إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَتَّقِ عقاب الله وَيَصْبِرْ عن معاصيه وعلى طاعته فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم. ومن قرأ يَتَّقِي بإثبات الياء فوجهه أن يجعل «من» بمعنى «الذي»، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله: وَيَصْبِرْ في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة. وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين.
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة:
٢٥٣] وَإِنْ كُنَّا وإن شأننا أنا كنا خاطئين. قال أبو عبيدة: خطىء وأخطأ بمعنى واحد.
وقال الأموي: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره ومنه قولهم: «المجتهد يخطىء ويصيب». والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قال أبو علي الجبائي: إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنبا، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله. واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعا من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلا بالغا عاقلا، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ.
سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم قالَ يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تأنيب ولا توبيخ.
وقيل: لا أذكر لكم ذنبكم. وقيل: لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم. وقيل: لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد والتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلا للتقريع المدنف المضني. وقوله: الْيَوْمَ إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر في عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره. ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالا عنهم.
وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل، ويحتمل أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم.
يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك. فقال يوسف: إن أهل مصر وإن ملكت
122
فيهم فإنهم ينظرون إليّ شزرا ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم.
عن رسول الله ﷺ أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال صلى الله عليه وسلم: أقول ما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.
قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وقول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً كقولك جاء البنيان محكما ومثله فَارْتَدَّ بَصِيراً أو المراد يأت إلي وهو بصير دليله قوله:
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قيل: هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم. وقالت الحكماء: لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه.
روي أن يهوذا حمل القميص وقال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخا بالدم فأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا.
عن الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا.
وقال مسروق: دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعديا كان مصدره الفصل قالَ أَبُوهُمْ لمن حوله من قومه إِنِّي لَأَجِدُ بحاسة الشم رِيحَ يُوسُفَ قال مجاهد:
هبت ريح فصفقت القميص ففاحت رائحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. قال أهل التحقيق: إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انقضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل. وقوله: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ جوابه محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدّقتموني. والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال: شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر. قالُوا
123
يعني الحاضرين عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي فيما كنت فيه قدما من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف: ٨].
وقيل: لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان. قال الحسن: إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات. فَلَمَّا أَنْ جاءَ «أن صلة» أي فلما جاء مثل فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ [هود: ٧٤] وقيل: هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا أَلْقاهُ طرحه البشير أو يعقوب على وجهه فَارْتَدَّ بَصِيراً أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفا وهو قوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أو قوله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ويكون قوله: إِنِّي أَعْلَمُ كلاما مستأنفا. والظاهر أن مفعوله قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وذلك أنه كان قال لهم: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
روي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال:
هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال:
الآن تمت النعمة.
ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار. قال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة. وقيل: أخر لتعرف حالهم في الإخلاص. وقيل: استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة.
روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروي أنهم قالوا له- وقد علتهم الكآبة- وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبدا. فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة.
واختلاف الناس في نبوتهم مشهور،
يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ولدك. فلما لقيه قال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان. فأجابه يوسف وقال: يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم
124
أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك.
ومعنى آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن إسحق: كانت أمه باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلا أن الله تعالى أحياها ونشرها من قبرها تحقيقا لرؤيا يوسف. وقيل: المراد بأبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أما لقيامها مقام الأم، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فكيف وقد اجتمع هاهنا الأمران.
قال السدي: كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائدا إلى الدخول. وعن ابن عباس: ادخلوا مصر أي أقيموا بها. وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل: اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحدا وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً لسائل أن يقول: السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف؟ وأيضا تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجدا لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه، وكذا التأويل في قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: ٤] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي. وأحسن من هذا أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا على لقائه، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عادتهم في ذلك الزمان من التحية، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة.
واعترض على هذا الوجه بأن لفظ الخرور يأباه. وأجيب بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان: ٧٣] أي لم يمروا. وقيل: الضمير عائد إلى إخوته فقط. ورد بأن قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قبل ينبو عنه. وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر، ففيه تعظيم تام للولد. وقيل: إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سببا
125
لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئا وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي يقال: أحسن به وإليه بمعنى. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبدا وصار مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى. قال ابن الأنباري: بدا موضع معروف هنالك. روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط. قال الجبائي والكعبي والقاضي: إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر. وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بالوجه الذي تسهل به الصعاب الْحَكِيمُ في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح.
يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزائن القراطيس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال: أمرني جبريل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:
١٣] قال: فهلا خفتني.
ثم إن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ شيئا من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ بعضا من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة
126
كالدخان أو من عدم محض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك. ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال تَوَفَّنِي مُسْلِماً أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ١٠٢] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو على العموم.
قيل: الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فالواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية؟ والجواب إن أراد الإلحاق بالآباء فظاهر، وإن أراد العموم فكذلك لأن طلب الصلاح غير الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها العيون الضعيفة، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاح لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جاريا مجرى قول القائل: افعل يا من لا يفعل. وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله من الألطاف فقد فعله في حق الكل. سؤال آخر: الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام البتة، فما الفائدة في الطلب؟ الجواب: العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة. وقال في التفسير الكبير: المطلوب هاهنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه. وعن قتادة وكثير من المفسرين أنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده.
قال أهل التحقيق: لا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها: أن مراتب الموجودات ثلاث: المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت.
وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما، والناقص إذا حصل له شعور
127
بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت. ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات. ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام، وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف. ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة: لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يختلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء: من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها. وأيضا اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجا إلى زيادة المال والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه. ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائما في الحزن والخوف. فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائما في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة. وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجمعة: ٦] فليتذكر. قال أهل السير: لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعا. وولد له إفرائيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
التأويل:
إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك ابيضت عيناه في
128
انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ وأين أهل السلوة من أهل العشق، أين الخلي من الشجي، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه السلام حين قالت الملائكة لأجله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: ٣٠] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيها وذلك أنه أول محب ادعى المحبة وهو قوله يُحِبُّهُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٦٢] من جماله وكماله اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر. فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سرادقات حضرة القلب قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا وهم القوى الإنسانية الضُّرُّ البعد عن الحضرة الربانية وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ من الأعمال البدنية فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضرا له ظاهرا كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سببا لرفعة منزلته في النهاية اذْهَبُوا بِقَمِيصِي وهو نور جمال الله وَلَمَّا فَصَلَتِ عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ:
يا عاذل العاشقين دع فئة أضلها الله كيف ترشدها
فَارْتَدَّ بَصِيراً لأن الروح كان بصيرا في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيرا بوارد من القلب:
ورد البشير بما أقر الأعينا وشفى النفوس فنلن غايات المنى
والقلب في بدو الأمر كان محتاجا إلى الروح في الاستكمال، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجا إليه لاستنارته بأنوار الحق، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال
129
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ إن كنت نائما في نوم العدم إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا مِنَ الْبَدْوِ بدو الطبيعة آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ملك الوصال والوصول فاطِرَ السَّماواتِ عالم الأرواح وأرض البشرية تَوَفَّنِي مُسْلِماً أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك.
[سورة يوسف (١٢) : الآيات ١٠٢ الى ١١١]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١)
القراآت:
سَبِيلِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع نُوحِي بالنون وكسر الحاء:
حفص. الآخرون بالياء وفتح الحاء يعقلون على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي. والباقون بتاء الخطاب. كُذِبُوا مخففا:
عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد. الباقون بالتشديد. فَنُجِّيَ بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء: ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. فعلى هذا يكون فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء، وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقبل من الإنجاء والنون لا يدغم في الجيم، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن. وأقول: إن كان فعلا ماضيا من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ. الآخرون: قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلا مضارعا من الإنجاء على حكاية الحال الماضية.
الوقوف:
إِلَيْكَ ج لابتداء النفي مع واو العطف يَمْكُرُونَ هـ بِمُؤْمِنِينَ هـ
130
أَجْرٍ ط لِلْعالَمِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ مُشْرِكُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ ومن اتبعن ط الْمُشْرِكِينَ هـ الْقُرى ط مِنْ قَبْلِهِمْ ط اتَّقَوْا ط تَعْقِلُونَ هـ نَصْرُنا ط لمن قرأ فننجي بالتخفيف ولا وقف على مَنْ نَشاءُ ومن قرأ فَنُجِّيَ مشددة وصله بما قبله ووقف على مَنْ نَشاءُ الْمُجْرِمِينَ هـ الْأَلْبابِ ط يُؤْمِنُونَ ٥.
التفسير:
ذلِكَ الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران. ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح. وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس. قال أهل النظم: إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله ﷺ على سبيل التعنت، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها لهم أصروا على كفرهم فنزل: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس.
وَلَوْ حَرَصْتَ جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم بِمُؤْمِنِينَ والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: ٥٦] وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على ما تحدثهم به مِنْ أَجْرٍ كما يسأل القاص إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله لِلْعالَمِينَ عامة على لسان رسوله. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ الأكثرون على أنه لفظ مركب من كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية. والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلا، والأكثر إدخال «من» في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
[الآية: ١٦٤] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله، ومن جملة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين. ومعنى يَمُرُّونَ عَلَيْها أشياء يشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يعتبرون بها. وقرىء وَالْأَرْضِ بالرفع على الابتداء خبره يَمُرُّونَ والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتوية على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ وذلك أنهم كانوا مقرين بالإله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥] لكنهم كانوا يثبتون له شريكا في المعبودية هو الأصنام ويقولون: هم الشفعاء. وكان أهل مكة يقولون: الملائكة بنات الله.
131
وعن الحسن: هم أهل الكتاب يقولون عزيز ابن الله والمسيح ابن الله. وعن ابن عباس:
هم الذين يشبهون الله بخلقه. احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار. والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافيا لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم. قُلْ يا محمد لهم هذِهِ السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان سَبِيلِي وسيرتي وقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ تفسير ل سَبِيلِي وعَلى بَصِيرَةٍ يتعلق بأدعو وأَنَا تأكيد للمستتر في أدعو وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف عليه ويجوز أن يكون عَلى بَصِيرَةٍ حالا من أدعو عاملة في أنا ومن اتبعن، ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ معطوفا عليه ومَنِ اتَّبَعَنِ وعَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشه وَقل سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عما أشركوا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا شركا جليا ولا شركا خفيا.
قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ وفي «الأنبياء» قَبْلَكَ [الأنبياء: ٧] بغير «من» لأن قبلا اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و «من» تفيد استيعاب الطرفين، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب. قوله: إِلَّا رِجالًا ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكا أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة. وقوله: مِنْ أَهْلِ الْقُرى خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: ١٥٩]
قال صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل» «١»
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا بالفاء بخلاف ما في «الروم» والملائكة لاتصاله بقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فكان الفاء أنسب من الواو وَلَدارُ الْآخِرَةِ موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين: حال الدنيا وحال الآخرة. وبيان الخيرية قد مر في «الأنعام». وإنما خصت هاهنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة. قال في الكشاف: حتى غاية لمحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم في أَفَلَمْ يَسِيرُوا وأما وجوه التخفيف فمنها: وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب. والمراد أن مدة التكذيب
(١) رواه أحمد في مسند (٢/ ٣٧١)، (٤/ ٢٩٧).
132
والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا. قال ابن عباس: ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. قال: وكانوا بشرا ألا ترى إلى قوله: وَزُلْزِلُوا والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فلا، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف. ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر. ومنها وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه. وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت: ما وعد الله محمدا شيئا إلا وعلم أنه سيوفيه، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم.
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل، ويحسن أن يقال: الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم. والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد ثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم.
وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته.
والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذي أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل، وإنما يكون دليلا واعتبارا لِأُولِي الْأَلْبابِ وأصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل دليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول ما كانَ مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن حَدِيثاً يُفْتَرى لظهور إعجازه وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس. وقيل:
133
تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته. قال الواحدي: وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها وَهُدىً في الدنيا وَرَحْمَةً في الآخرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون بذلك.
التأويل:
مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ بالصورة ولكن كنت حاضرا بالمعنى وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وهم صفات الناسوتية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في سموات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لإقبالها على الدنيا وشهواتها وَما يُؤْمِنُ أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ في طلب الدنيا وشهواتها، أو طلب الآخرة ونعمها، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله، فكل من يرى السبب فهو مشرك، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله غاشِيَةٌ جذبة تقهر إرادتهم وتسلب اختيارهم كما قيل: العشق عذاب الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ساعة الانجذاب إلى الله هذِهِ سَبِيلِي لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الملكوت دون مدن الملك والأجساد، والرجال من القرى ويشبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها.
والقرى أقل أجزاء من المدن أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء عالم الحقيقة وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل الله حسبي ونعم الوكيل.
134
Icon