تفسير سورة الزمر

تفسير النيسابوري
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب غرائب القرآن ورغائب الفرقان المعروف بـتفسير النيسابوري .
لمؤلفه نظام الدين القمي النيسابوري . المتوفي سنة 850 هـ
سورة الزمر مكية إلا ثلاث آيات نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه ﴿ يا عبادي الذين أسرفوا ﴾ إلى آخرهن حروفها أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية وكلمها ألف ومائة وسبعون آياتها خمسة وسبعون.

ﭴﭵﭶﭷﭸﭹ ﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄ ﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝ ﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟ ﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩ ﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖﰗﰘﰙﰚﰛ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚ ﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡ ﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩ ﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄ ﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ
(سورة الزمر)
(مكية إلا ثلاث آيات نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى آخرهن حروفها أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية وكلمها ألف ومائة وسبعون آياتها ٧٥)
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١ الى ٣١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٤)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٢١) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٢) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٢٣) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٢٤)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٢٥) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (٢٨) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٢٩)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (٣٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (٣١)
610
القراآت:
يَرْضَهُ بالإشباع: ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف يَرْضَهُ باختلاس ضمة الهاء: يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون يَرْضَهُ بسكون الهاء ليضل بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون: بالضم أَمَّنْ هُوَ بتخفيف الميم: نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد يا عبادي الذين بفتح الياء.
الشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أمرت فبشر عبادي بفتح ياء المتكلم فيهما:
شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أخاف بالفتح:
611
أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. سالما بالألف: ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون:
بفتح السين واللام من غير ألف.
الوقوف:
الْحَكِيمِ هـ لَهُ الدِّينَ هـ ط الْخالِصُ ط أَوْلِياءَ هـ التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي. وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره زُلْفى ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده يَخْتَلِفُونَ هـ ط كَفَّارٌ هـ ما يَشاءُ ز لتعجيل التنزيه سُبْحانَهُ ط الْقَهَّارُ هـ ز بِالْحَقِّ ج لاحتمال كون ما بعده حالا والاستئناف أفضل وَالْقَمَرَ ط مُسَمًّى ط الْغَفَّارُ هـ أَزْواجٍ ط ثَلاثٍ ط الْمُلْكُ ط تُصْرَفُونَ هـ الْكُفْرَ ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض لَكُمْ ط أُخْرى ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار تَعْمَلُونَ هـ الصُّدُورِ هـ سَبِيلِهِ ط قَلِيلًا ز ص والأولى الوصل أو التقدير فإنك النَّارِ هـ رَحْمَةَ رَبِّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ الْأَلْبابِ هـ رَبَّكُمْ ط حَسَنَةٌ ط واسِعَةٌ ط حِسابٍ هـ لَهُ الدِّينَ هـ ط الْمُسْلِمِينَ هـ عَظِيمٍ هـ دِينِي هـ لا دُونِهِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط الْمُبِينُ هـ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ط عِبادَهُ ط فَاتَّقُونِ هـ الْبُشْرى ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب عِبادِ هـ لا أَحْسَنَهُ ط الْأَلْبابِ هـ الْعَذابِ هـ فِي النَّارِ هـ ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف الْأَنْهارُ ط وَعْدَ اللَّهِ ط الْمِيعادَ هـ حُطاماً ط الْأَلْبابِ هـ مِنْ رَبِّهِ ط لحذف جواب الاستفهام من ذِكْرِ اللَّهِ ط مُبِينٍ هـ رَبَّهُمْ ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف ذِكْرِ اللَّهِ ط مَنْ يَشاءُ ط هادٍ هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ ط لحق الحذف كما مر تَكْسِبُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ الدُّنْيا ج للام الابتداء مع العطف أَكْبَرُ هـ يَعْلَمُونَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ ج لاحتمال كون قُرْآناً نصبا على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء يَتَّقُونَ هـ مُتَشاكِسُونَ هـ لِرَجُلٍ ط مَثَلًا ط اللَّهُ ج للإضراب مع اتفاق الجملتين لا يَعْلَمُونَ هـ مَيِّتُونَ هـ تَخْتَصِمُونَ هـ.
التفسير:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ وخبره مِنَ اللَّهِ وقيل: أصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة، والأولى أقوى لأن الإضمار خلاف الأصل، ولأنه يلزم مجاز آخر وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة. وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه. وفي قوله مِنَ اللَّهِ إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك: هذا كتاب من فلان. تعظم به شأن الكتاب: وفي قوله الْعَزِيزِ إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز، وفيه أنه غني عن
612
إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم. وفي قوله الْحَكِيمِ إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل. وقوله إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ليس تكرارا من وجهين: أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مرارا. والثاني أن الأول كعنوان الكتاب، والثاني يقرر ما في الكتاب. وقوله بِالْحَقِّ يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته. ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية. أما الأول فهو قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ أي أنت أو أمتك مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه. وأما الثاني فذلك قوله أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي. وخصصه قتادة فقال: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول، أو قوله إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ والقول المضمر للحال أو بدل. وتقدير الكلام على الأول: والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا، أو المشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين أو يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم. وعلى الثاني: والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم. وإذا عرفت التقادير فنقول: المراد بالأولياء هاهنا الملائكة وعيسى واللات والعزى. قال ابن عباس:
كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين. ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم مع الأصنام النار. واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم. ويجوز أن يرجع الضمير في بَيْنَهُمْ إلى الفريقين المؤمن والمشرك. ولا يخفى ما في الآية من التهديد. ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة
613
بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات. وقال جار الله: معناه لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة، لأن اتخاذ الولد ممتنع، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات. وأقول: إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كمال قدرته، وأما الثانية فأشار إليها بقوله سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فقوله سُبْحانَهُ إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئا لأجل اتخاذ الولد. وقوله هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه: الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه، أو على الاستئناس والالتذاذ بوجوده أو لغير ذلك من الأغراض، وكل ذلك ينافي الوجوب الذاتي والاستغناء المطلق. الثاني أنه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مرارا. والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد، ومن شرطه أن يكون مماثلا لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين، ويكون تعين كل منهما معلوما لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة. وأيضا إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادة وهي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه. الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئا لأن يتخذه ولدا فصح أنه لم يرد ذلك، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه. هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف: أولها قوله خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي متلبسا بالغاية الصحيحة وقد مر مرارا. الثاني. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها. وفي التشبيه أوجه منها: أن الليل والنهار متعاقبان إذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه. ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار. ومنها أن كلا منهما يكر على الآخر كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة.
وقيل: أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من
قوله ﷺ «نعوذ بالله من
614
الحور بعد الكور» «١»
أي من الإدبار بعد الإقبال. الثالث قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وقد مر مثله في «فاطر» وغيره. وحيث كان الأجل المسمى شاملا للقيامة عقبه بقوله أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ وفيه ترهيب مع ترغيب. الرابع والخامس قوله خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، والثانية خلق حوّاء من ضلعه. ومعنى «ثم» ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع. وقيل: هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل: خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها. وقيل: إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم، ثم خلق بعد ذلك حوّاء. وقيل: «ثم» قد يأتي مع الجملة دالا على التقدّم كقوله ثُمَّ اهْتَدى [طه: ٨٢] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: ١٧]
وكقوله ﷺ «فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير»
السادس قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين الذكر والأنثى، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. وأما وصفها بالإنزال فقيل: أنزلها من الجنة. وقيل:
أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان.
وقيل: أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل. وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال: رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب. وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك. السابع قوله يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم. ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضا حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مرارا كقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: ١٤] والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن. ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وقد مر إعرابه في «فاطر». لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
(١) رواه ابن ماجة في كتاب الدعاء باب ٢٠. مسلم في كتاب الحج حديث ٤٢٦. الترمذي في كتاب الدعوات باب ٤١. النسائي في كتاب الاستعاذة باب ٤١، ٤٢. الدارمي في كتاب الاستئذان باب ٤٢. أحمد في مسنده (٥/ ٨٢، ٨٣).
615
أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ قال المعتزلة: في قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضيا به. وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ [الفرقان: ٦٣] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: ٦] فمعنى الآية: ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر. وهذا مما لا نزاع فيه. أو نقول: سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته، وليس في الآية دليل على إبطاله. ثم بين غاية كرمه بقوله وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ والسبب في كلا الحكمين ما
جاء في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
وباقي الآية مذكور مرارا مع وضوحه. ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله وَإِذا مَسَّ إلى آخره. وقد مر نظيره أيضا. وقيل: إن الإنسان هو الكافر الذي تقدّم ذكره.
وقيل: أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره. ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض.
قال جار الله: في حقيقته وجهان: أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه ما
روي أن النبي ﷺ كان يتخوّل أصحابه بالموعظة
أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطا في الوعظ وعظهم. والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل:
إن الغني طويل الذيل مياس ومعنى نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و «ما» بمعنى «من». والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله. واللام في لِيُضِلَّ لام العاقبة. ثم هدّده بقوله تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلا ثم يؤل إلى النار.
ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قال ابن عباس: القنوت الطاعة. وقال ابن عمر: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام. والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة. وعن قتادة آناءَ اللَّيْلِ أوّله ووسطه وآخره. وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل
616
الخارجية، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر. والواو في قوله ساجِداً وَقائِماً للجمع بين الصفتين. وفي قوله يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفا فمن قرأ أَمَّنْ بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده. ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى: هذا أفضل أمن هو قانت. وقيل: الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول: فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر.
وقيل: المنادي هو رسول الله ﷺ بدليل قوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الآية. قال جار الله: أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا. ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. قيل: نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله، والظاهر العموم. وفي قوله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل:
إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه وقيل لبعض العلماء: إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس؟ فأجاب بأن هذا أيضا من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه ﷺ أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام. النوع الأوّل. قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم قال أهل السنة: أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية. وقالت المعتزلة: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء. ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية. وقوله فِي هذِهِ الدُّنْيا إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي.
ومعناه على الأوّل: الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة. والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها. وعلى الثاني: الذين أحسنوا فلهم في هذه
617
الدنيا حسنة. قال جار الله: فالظرف بيان لمكان الحسنة. ويحتمل أن يقال: إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها. والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية. ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي. وقيل: هي الثناء الجميل. وقيل: الظفر والغنيمة. وقيل: نور القلب وبهاء الوجه. وفي قوله وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم يتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: ٩٧] وعن أبي مسلم: هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيبا فيها كما قال نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: ٧٤] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يحاسبون أو بغير حصر.
قال جار الله: عن النبي ﷺ «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا» ثم تلا الآية وقال: حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
النوع الثاني قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ
قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية.
وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقوله وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى: أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول: فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد. وقيل: اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي. ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح،
فإن النبي ﷺ فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة، وفيه أنه ﷺ ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه.
وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ الآية. وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب، وإذا كان النبيّ ﷺ مع جلالة قدره خائفا من العصيان فغيره أولى. قيل: المراد به أمته. وقيل: نزلت قبل أن يغفر الله له. وقالت الأشاعرة: فيه دليل على أن صاحب الكبيرة
618
قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب. النوع الثالث قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ النوع الرابع قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها وَخسروا أَهْلِيهِمْ لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم، أو لأن كلا منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم.
وقيل: أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا.
قال أهل البيان: في قوله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين. قلت:
التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا. والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين.
ثم إنه لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات. وقال المفسرون: سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر. قلت: إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: ٤١] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: ٥٥] وقيل: الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقا لأحد الضدين على الآخر، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق وذلِكَ العذاب المعد للكفار يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة. وعندي أنه لا مانع من
619
التعميم هاهنا. ثم عقب الوعيد بالوعد قائلا وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي. وقوله أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال منه وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه، فالأول تخلية، والثاني تحلية، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره. لَهُمُ الْبُشْرى أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل: ٣٢] وعند دخول الجنة وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: ٢٤] وعند لقاء الله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: ٤٤] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال. وقيل: هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها. قال ابن زيد: نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله: زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي ﷺ فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله فبشر عبادي الذين يستمعون القول أي من أبي بكر فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وهو لا إله إلا الله.
وقال أهل النظم: لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهارا للرحمة فقال: كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلا للبشارة. وقال جار الله: أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين. مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعا حيا قديما عليما قادرا متصفا بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام، أولى وأحوط من إنكاره. وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها.
وقال العارفون: يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات، ومن الشيطان قول الباطل
620
والغرور، ومن الملك الإلهامات، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساو فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الواقفين من يقف على قوله فبشر عبادي ويبتدىء الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وخبره أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ وهو إشارة إلى الفاعل وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك وهو قوله أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال جار الله: أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه فهي جملة شرطية دخل عليها الهمزة للإنكار، وكررت الفاء الثانية للجزاء تأكيدا لمعنى الإنكار. ووضع من في النار موضع الضمير تصريحا بجزائهم، وأما الفاء الأولى فللعطف على محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق إلى آخره. وجوز أن يكون الكلام بعد المحذوف جملتين شرطية جزاؤها محذوف أيضا ثم حملية والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار؟ قلت: فالكلام على هذا التقدير يشتمل على أربع جمل: ثنتان بعد همزتي الإنكار محذوفتان والباقيتان ظاهرتان. ومن زعم أن الفاء بعد الهمزة لمزيد الإنكار لا للعطف فمجموع الآية شرطية كما ذكرنا، أو هي مع حملية ثم صرح بجزاء المتقين فقال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ وهو كالمقابل لما مر في وعيد الكفار لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ومعنى قوله مَبْنِيَّةٌ والله أعلم. أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها وجعلت متساوية في أسباب النزاهة من الأشجار والأنهار لا مثل أبنية الدنيا فان الفوقاني منها يكون أضعف من التحتاني وأخف، والتحتاني قد يجري من تحتها الأنهار، وأما الفوقاني فلا يمكن فيها ذلك. قال حكماء الإسلام: الغرف المبنية بعضها فوق بعض هي العلوم المكتسبة المبنية على الفطريات، وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية.
وحين وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها أراد أن يصف الدنيا بما يقتضي النفرة عنها فقدم لذلك مقدمة يستدل بها على حقية الصانع أيضا فقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أي أدخله في الأرض حال كون ذلك الماء يَنابِيعَ مثل الدم في العروق. والينابيع جمع ينبوع وهو كل ماء يخرج من الأرض. وقيل: هو الموضع الذي يخرج منه الماء كالعيون والآبار فينصب على الظرف. وقوله ثُمَّ يُخْرِجُ على لفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن وهي إخراج النبت المختلف الألوان والأصناف والخواص بسبب الماء المخالط للأرض ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه. قال الأصمعي: لأنه إذا
621
تم جفافه جاز له أن يثور عن منابته ويذهب ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا متكسرا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من إنزال الماء وإخراج الزرع بسببه لَذِكْرى لتذكيرا أو تنبيها على وجود الصانع لِأُولِي الْأَلْبابِ وفيه أن الإنسان وإن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى حالة اصفرار اللون وتحطم الأجزاء والأعضاء بل إلى الموت والفناء. وإنما قال هاهنا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً وفي الحديد ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً [الحديد: ٢٠] لأن الفعل هناك مسند إلى النبات وهو قوله أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ وهاهنا مسند إلى الله من قوله أَنْزَلَ إلى آخره. وحين بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله والإعراض عن الدنيا الفانية بيّن أن ذلك البيان لا يكمل الانتفاع به إلا إذا شرح الله صدره ونور قلبه فقال أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ولا يخفى ما في لفظة «على» من فائدة الاستعلاء والتمكن كما مر في قوله أُولئِكَ عَلى هُدىً [البقرة: ٥] والخبر محذوف كما ذكرنا في قوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ يعني هذا الشخص المنشرح الصدر كمن طبع الله على قلبه يدل عليه ما بعده فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي من أجل سماع القرآن. وإنما عدى ب «من» لأن قسوة القلب تدل على خلوه من فوائد القرآن ويجوز أن يكون «من» للتعليل وذلك أن جواهر النفوس مختلفة فبعضها تكون مشرقة بنور الله يزيدها نور القرآن بهاء وضياء، وبعضها تكون مظلمة كدرة لا ينعكس نور الذكر إليها ولا تظهر صور الحق فيها كالمرآة الصدئة. ثم أكد وصف القرآن وكيفية تأثيره في النفوس بقوله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
عن ابن عباس وابن مسعود أن أصحاب رسول الله ﷺ ملوا ملة فقالوا له: حدثنا، فنزلت الآية.
والحديث كلام يتضمن الخبر عن حال متقدمة ووصفه بالحدوث من حيث النزول لا ينافي قدمه من حيث إنه كلام نفسي. ووجه كونه أحسن لفظا ومعنى مما لا يخفى على ذي طبع فضلا عن ذي لب. وقوله كِتاباً بدل من أحسن أو حال موطئة. ومعنى مُتَشابِهاً أنه يشبه بعضه بعضا في الإعجاز اللفظي والمعنوي والنظم الأنيق والأسلوب العجيب والاشتمال على الغيوب وعلى أصول العلوم كما مر في أوّل «البقرة» في تفسير قوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: ٢٣] وقيل: هو من قوله وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: ٧] فيكون صفة لبعض القرآن. وقيل:
يشبه اللفظ اللفظ والمعنى مختلف. وقوله مَثانِيَ جميع مثنى ومثنى بمعنى مكرر لما ثنى من قصصه وأحكامه ومواعظه، أو لأنه يثني في التلاوة فلا يورث ملالا
كقوله «ولا يخلق على كثرة الرد» «١»
وقيل: المثاني لآي القرآن كالقوافي للشعر. وقد مر بعض هذه الأقوال في مقدمات الكتاب وفي سورة الحجر في قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: ٨٧]
(١) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب ١٤. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب ١.
622
ومعنى اقشعرار الجلد تقبضه. قال جار الله: تركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها الراء ليصير رباعيا دالا على معنى زائد، وهو تمثيل لشدة الخوف أو حقيقة سببه الخوف. قال المفسرون: أراد أنهم عند سماع آيات العذاب يخافون فتقشعر جلودهم وعند سماع آيات الرحمة والإحسان أو تذكرهم لرأفته وأن رحمته سبقت غضبه تلين جلودهم وقلوبهم. ومعنى «إلى» في قوله إِلى ذِكْرِ اللَّهِ هو أنه ضمن لأن معنى سكن واطمأن. وقال العارفون: إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن راح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا. وقال أهل البرهان: إذا اعتبر العقل موجودا لا أول له ولا آخر ولا حين ولا جهة وقع في بادية التحير والهيبة، وإذا اعتبر الدلائل القاطعة على وجود موجود واجب لذاته واحد في صفاته وأفعاله اطمأن قلبه إليه. قال جار الله: إنما ذكرت الجلود أوّلا وحدها لأن الخشية تدل على القلوب لأنها محل الخشية فكأنه قيل: تقشعر جلودهم بعد خشية قلوبهم، ثم إذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم. ويحتمل أن يقال: المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، ومحل المكاشفات هو القلب، فلذلك اختص ذكر القلب بجانب الرجاء. ثم أشار إلى الكتاب المذكور بقوله ذلِكَ هُدَى اللَّهِ كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: ٢].
ثم بين أن للقاسية قلوبهم حالين: أما في الدنيا فالضلال العام وهو قوله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وأما في الآخرة فقوله أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي شدّته والخبر محذوف وهو كمن أمن العذاب واتقاء العذاب بوجهه إما حقيقة بأن تكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، وإما أن يكون كناية عن عجزه عن الاتقاء وذلك أن الإنسان إذا وقع في نوع من العذاب فإنه يجعل يديه وقاية لوجهه الذي هو أشرف الأعضاء، فكأنه قيل: لا يقدرون على الاتقاء إلا بالوجه، والاتقاء بالوجه غير ممكن فلا اتقاء أصلا وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ القائلون هم خزنة النار. قوله كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تصوير لحال أمثالهم من الأمم الخالية بيناهم آمنون إذ أخذهم العذاب والخزي في الدنيا كالمسخ والقتل ونحوهما. ثم بين بقوله وَلَقَدْ ضَرَبْنا إلى آخر الآيتين أن هذه البيانات بلغت في الكمال إلى حيث لا مزيد عليه. ثم ضرب من أمثال القرآن مثلا لقبح طريقة أهل الشرك وهو رجل من المماليك قد اشترك فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي كلهم يسيء خلقه في استخدامه أو هم مختلفون في ذلك يأمره هذا بشيء وينهاه الآخر عن ذلك الشيء بعينه.
والشكاسة سوء الخلق والاختلاف. ورجلا سالما لرجل أي خالصا من الشرك. ومن قرأ بغير ألف فعلى حذف المضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة. وقال جار الله: وإنما
623
جعله رجلا ليكون أفطن لما شقي به أو سعد فان المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. قلت:
لا ريب أن الرجل أصل في كل باب فجعله مضرب المثل أولى نظيره وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ [النحل: ٧٦] ثم استفهم على سبيل الإنكار بقوله هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهو تمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. واقتصر في التمييز على الواحد لقصد الجنس والمراد تجهيل من يجعل المعبود متعددا، فليس رضا واحد كطلب رضا جماعة مختلفين. وحاصله يرجع إلى دليل التمانع كما مرّ في قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وقال أهل العرفان: الشركاء المتشاكسون تجاذب شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال، فأين ذلك الرجل ممن ليس له في الدنيا نصيب ولا له في الخلق نسيب وهو عن الآخرة غريب وإلى الله قريب. قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ كما مرّ في «لقمان» قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال إن هؤلاء الأقوام إن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضا يؤلون إلى الموت فلو أنهم يتربصون بك الموت فإن الموت يعم الكل فلا معنى لشماتة المرء بعد وفاة صاحبه ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ تحتج عليهم بأنك قد بلغت وهم يعتذرون بما لا طائل تحته، وقد يخاصم الكفار بعضهم بعضا حتى يقال لهم لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: ٢٨] وقد يقع الاختصام بين أهل الملة في الدماء والمظالم التي بينهم والله أعلم.
تم الجزء الثالث والعشرون، وبه يتم المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد السادس، وأوله:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ...
624
الفهرس
فهرس المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان
625
تفسير سورة الأنبياء الآيات: ١- ٢٠ ٣ الآيات: ٢١- ٥٠ ١١ الآيات: ٥١- ٩١ ٢٧ الآيات: ٩٢- ١١٢ ٥٢ تفسير سورة الحج الآيات: ١- ٢٢ ٦١ الآيات: ٢٣- ٤١ ٧٤ الآيات: ٤٢- ٦٤ ٨٧ الآيات: ٦٥- ٧٨ ٩٨ تفسير سورة المؤمنون الآيات: ١- ٣٠ ١٠٦ الآيات: ٣١- ٥٦ ١١٨ الآيات: ٥٧- ٩٠ ١٢٥ الآيات: ٩١- ١١٨ ١٣٢ تفسير سورة النور الآيات: ١- ١٠ ١٤٠ الآيات: ١١- ٢٦ ١٦٥ الآيات: ٢٧- ٣٤ ١٧٥ الآيات: ٣٥- ٥٠ ١٩٢ الآيات: ٥١- ٦٤ ٢٠٧ تفسير سورة الفرقان الآيات: ١- ٢٠ ٢١٩ الآيات: ٢١- ٥٠ ٢٢٩
627
الآيات: ٥١- ٧٧ ٢٤٩ تفسير سورة الشعراء الآيات: ١- ٦٨ ٢٦١ الآيات: ٦٩- ١٢٢ ٢٧٢ الآيات: ١٢٣- ١٧٥ ٢٧٩ الآيات: ١٧٦- ٢٢٧ ٢٨٣ تفسير سورة النحل الآيات: ١- ١٤ ٢٩١ الآيات: ١٥- ٤٤ ٢٩٧ الآيات: ٤٥- ٦٦ ٣١٠ الآيات: ٦٧- ٩٣ ٣١٨ تفسير سورة القصص الآيات: ١- ٢١ ٣٢٦ الآيات: ٢٢- ٤٢ ٣٣٦ الآيات: ٤٣- ٧٠ ٣٤٧ الآيات: ٧١- ٨٨ ٣٥٩ تفسير سورة العنكبوت الآيات: ١- ١٥ ٣٦٧ الآيات: ١٦- ٤١ ٣٧٧ الآيات: ٤٢- ٦٩ ٣٨٦ تفسير سورة الروم الآيات: ١- ٣٢ ٣٩٩ الآيات: ٣٣- ٦٠ ٤١٤ تفسير سورة لقمان الآيات: ١- ١٩ ٤٢١ الآيات: ٢٠- ٣٤ ٤٢٨ تفسير سورة الم السجدة الآيات: ١- ٣٠ ٤٣٣
628
تفسير سورة الأحزاب الآيات: ١- ٢٠ ٤٤٣ الآيات: ٢١- ٤٠ ٤٥٤ الآيات: ٤١- ٧٣ ٤٦٧ تفسير سورة سبأ الآيات: ١- ٢١ ٤٨١ الآيات: ٢٢- ٥٤ ٤٩٤ تفسير سورة فاطر الآيات: ١- ٢٦ ٥٠٥ الآيات: ٢٧- ٤٥ ٥١٤ تفسير سورة يس الآيات: ١- ٤٤ ٥٢٢ الآيات: ٤٥- ٨٣ ٥٣٧ تفسير سورة الصافات الآيات: ١- ٨٢ ٥٥٠ الآيات: ٨٣- ١٨٢ ٥٦٦ تفسير سورة ص الآيات: ١- ٤٠ ٥٨٠ الآيات: ٤١- ٨٨ ٦٠٠ تفسير سورة الزمر الآيات: ١- ٣١ ٦١٠
629
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡ ﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂ ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠ ﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧ ﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛ ﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳ ﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿ ﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚ ﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹ ﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙ ﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦ ﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱ ﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍ ﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘ ﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥ ﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭ ﰿ ﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝ ﯟﯠﯡﯢﯣﯤ ﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷ ﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱ ﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨ ﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ

[المجلد السادس]

بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الرابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
[تتمة سورة الزمر]
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٣٢ الى ٧٥]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (٣٣) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٣٤) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٣٥) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٦)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (٣٧) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (٣٨) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٩) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٤٠) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٥) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٤٦)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (٤٧) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤٨) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٩) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٥٠) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥١)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٥٣) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١)
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥)
3
القراآت:
عباده على الجمع: يزيد وحمزة وعلى وخلف. أرادني الله بسكون الياء: حمزة. كاشفات بالتنوين ضره بالنصب وهكذا ممسكات رحمته أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: بالإضافة فيهما قضى عليها مجهولا الموت بالرفع:
حمزة وعلي وخلف يا عبادي الذين أسرفوا بسكون الياء: حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وسهل ويعقوب، والوقف للجميع بالياء لا غير. يا حسرتاي بياء بعد الف:
يزيد. الآخرون: بالألف وحدها وينجي الله بالتخفيف: روح بمفازاتهم على الجمع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل تَأْمُرُونِّي بتشديد النون وفتح الياء: ابن كثير تأمرونني بنونين وسكون الياء: ابن عامر تأمروني بنون واحدة وفتح الياء: أبو جعفر ونافع. الباقون: بتشديد النون وسكون الياء. لنحبطن بالنون من الإحباط عملك بالنصب: يزيد. الآخرون: على الغيبة وفتح العين عَمَلُكَ بالرفع وسيق بضم السين وكسر الياء: ابن عامر وعلي ورويس فُتِحَتْ بالتخفيف: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين.
الوقوف:
إِذْ جاءَهُ ط لِلْكافِرِينَ هـ الْمُتَّقُونَ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء. يَعْمَلُونَ هـ عَبْدَهُ ط مِنْ دُونِهِ ط مِنْ هادٍ هـ ج مُضِلٍّ ط انْتِقامٍ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط رَحْمَتِهِ ط حَسْبِيَ اللَّهُ ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ عامِلٌ ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب تَعْلَمُونَ هـ لا مُقِيمٌ هـ بِالْحَقِّ ج لاختلاف الجملتين فَلِنَفْسِهِ ج عَلَيْها ج للابتداء بالنفي مع العطف بِوَكِيلٍ هـ ج فِي مَنامِها ج مُسَمًّى ط يَتَفَكَّرُونَ هـ شُفَعاءَ ط يَعْقِلُونَ هـ جَمِيعاً ط وَالْأَرْضِ ط بناء على أن «ثم» لترتيب الأخبار تُرْجَعُونَ هـ بِالْآخِرَةِ ط ج فصلا بين الجملتين مع اتفاقهما نظما يَسْتَبْشِرُونَ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ الْقِيامَةِ ط يَحْتَسِبُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ دَعانا ز فصلا بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين مِنَّا لا لأن ما بعده جواب عَلى عِلْمٍ ط لا يَعْلَمُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ ما كَسَبُوا الأولى ط ما كَسَبُوا الثانية لا لأن الواو للحال بِمُعْجِزِينَ هـ وَيَقْدِرُ ط يُؤْمِنُونَ هـ رَحْمَةِ اللَّهِ ط جَمِيعاً ط الرَّحِيمُ هـ لا تُنْصَرُونَ هـ لا تَشْعُرُونَ هـ لا السَّاخِرِينَ هـ لا الْمُتَّقِينَ هـ لا الْمُحْسِنِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ مُسْوَدَّةٌ ط لِلْمُتَكَبِّرِينَ هـ بِمَفازَتِهِمْ ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه
5
يَحْزَنُونَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ز للفصل بين الوصفين تعظيما مع اتفاق الجملتين وَكِيلٌ هـ وَالْأَرْضِ ط الْخاسِرُونَ هـ الْجاهِلُونَ هـ مِنْ قَبْلِكَ ج لحق القسم المحذوف الْخاسِرِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ بِيَمِينِهِ ط يُشْرِكُونَ هـ مَنْ شاءَ اللَّهُ ج بيانا لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين يَنْظُرُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ زُمَراً ط هذا ط الْكافِرِينَ هـ فِيها ج الْمُتَكَبِّرِينَ هـ زُمَراً ط خالِدِينَ هـ نَشاءُ ج الْعامِلِينَ هـ رَبِّهِمْ ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولاحتمال جعله حالا وقد قضى بين الزمرين الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
لما ضرب لعبدة الأصنام مثلا أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن. ومعنى إِذْ جاءَهُ أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب. واللام في قوله لِلْكافِرِينَ لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. قال جار الله: ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة. وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول ﷺ وأصحابه. وقيل: الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قوله لِيُكَفِّرَ ظاهره تعلقه ب يَشاؤُنَ فتكون لام العاقبة. ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك. قال جار الله: الأسوأ هاهنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم: الأشج أعدل بني مروان. وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم. وقال بعض المفسرين: أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان. واستدل مقاتل- وكان شيخ المرجئة- بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر. ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي ﷺ برفض آلهتهم وتحقيرها.
ويروى أنه بعث خالدا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها شدّة. فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ
أي نبيه بدليل قوله وَيُخَوِّفُونَكَ ومن قرأ على الجمع فهي للعموم. والآيات إلى قوله بِوَكِيلٍ ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مرارا. والعذاب الخزي عذاب يوم بدر، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة، ومدار هذه الآي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية، والموت والنوم يضاهي الضلال. فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه
6
فكذلك الهداية والضلال، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فقيه تسلية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في وجه النظم: إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلا عن الأصنام. ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها. قال جار الله: أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت وَيتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: ٦٠] والحاصل أنه يتوفى الأنفس مرتين، مرة عند موتها ومرة عند نومها فتكون «في» متعلقة ب يَتَوَفَّى والتوفي مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازا، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول. وقال الفراء: «في» متعلقة بالموت وتقديره:
ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها. ثم بين الفرق بين الحالين بقوله فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى من غير غلط.
وقال حكماء الإسلام: النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة. وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ثم كان لمشرك أن يقول: إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من دون إذنه شُفَعاءَ و «أم» بمعنى «بل»، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم. والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئا ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله قُلْ أَوَلَوْ كانُوا يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ والثاني أيضا مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ وانتصب جَمِيعاً على الحال. ولو كان تأكيدا للشفاعة لقيل جمعاء.
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين فقال وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي منفردا ذكره عن ذكر آلهتهم
7
اشْمَأَزَّتْ أي نفرت وانقبضت منه قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم. وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى يظهر أثره في بشرته، والاشمئزاز أن يمتلىء غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب. وقيل: معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا لأن فيه نفيا لآلهتهم. وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما
روي أنه ﷺ لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله «تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى» فاستبشر المشركون وسجدوا.
ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكر من ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات، أمر رسوله بهذا الدعاء اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو وصفه بالقدرة التامة عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وهو نعته بالعلم الكامل. وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادرا متقدم على العلم بكونه عالما كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم.
عن عائشة أن رسول الله ﷺ كان يفتتح صلاته بالليل فيقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم.
وعن الربيع بن خثيم. وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية. وروي أنه قال على أثره: قتل من كان النبي صلى الله عليه وسلم. يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه. ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالشرك وقد مر نظير الآية مرارا أوّلها في آل عمران وفيه قوله وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ نظير قوله في أهل الوعد فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: ١٧] وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات فإذا هي سيئات. يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال: أخشى آية من كتاب الله وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء. ثم صرح بما أبهم قائلا وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و «ما» موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف. وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله وَجَزاءُ
8
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
[الشورى: ٤٠] وإنما قال في الجاثية سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا [الجاثية: ٣٣] لمناسبة ألفاظ العمل، وهاهنا قد وقع من ألفاظ الكسب.
ثم حكى نوعا آخر من قبيح أعمالهم قائلا فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر هاهنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجئوا إليه وحده عند ضر يصيبهم.
ومعنى أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أوتيته على علم الله بكوني مستحقا لذلك أو على علم عندي صار سببا لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك. ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر. ذكر الضمير أوّلا بتأويل المخوّل وأنثه ثانيا بتأويل النقمة. ثم أشار بقوله قَدْ قالَهَا أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم قارون وقومه حيث قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: ٧٨] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله هؤُلاءِ إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم: أو لم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها. وقول الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشتري ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء وقاضي القضاة تعالى وجل
كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر. والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فلاختلاف القابل، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها. نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم. وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عمر: نزلت
9
في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم، وكان عمر كاتبا فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. وقيل: نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق. ثم إن قلنا: العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة والإيمان. وإن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين. فالمعتزلة شرطوا التوبة، والأشاعرة العفو وقد مر مرارا.
عن رسول الله ﷺ «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» رواه في الكشاف.
وعلى هذا يكون مخصوصا بشرط الإيمان.
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة: أوّلها تسمية المذنب عبدا والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين. وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف. وثالثها من جهة وصفهم بقوله الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ. ورابعها نهاهم عن القنوط، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم. وخامسها قوله مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول «من رحمتي» فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف. وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً مع تصدير الجملة ب «إن»، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار، ومع تأكيد الذنوب بقوله جَمِيعاً أي حال كونها مجموعة. وسابعها إرداف الجملة بقوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقرونا بخوفه فقال وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ وذلك أن الأشاعرة أيضا يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها. ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني. وقال بعضهم: إن الكلام قد تم على الآية الأولى، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله وَأَنِيبُوا والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة، وإما الموت لأنه أول أهول الآخرة. وقوله أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ كقوله يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقد مر الأقوال فيه. وحين خوّفهم
10
بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات: الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا.
تقول. قال جار الله: إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم. وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله «رب وفد أكرمته». يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ أي قصرت. والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم فِي جَنْبِ اللَّهِ واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل. والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله:
إن السماحة والمروءة والندى في قبة ضربت على ابن الحشرج
وتقول: لمكانك فعلت كذا. أي لأجلك.
وفي الحديث «من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل»
«١» ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر، وللمفسرين فيه عبارات. قال ابن عباس: أي ضيعت من ثواب الله. وقال مقاتل: ضيعت من ذكر الله.
وقال مجاهد: في أمر الله. وقال الحسن: في طاعة الله. وعن سعيد بن جبير: في حق الله.
وقيل: في قرب الله من الجنة من قوله وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: ٣٦] وقال ابن جبير: في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب. والتحقيق في المسألة أن الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات. قال الشاعر وهو سابق البربري:
أما لتقين الله في جنب عاشق له كبد حرّى عليك تقطع؟
ثم زاد في التحسر بقوله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين. «إن» مخففة، واللام فارقة، والواو تحتمل العطف والحال. قال قتادة. لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين. النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة
(١) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب ٢١. أحمد في مسنده (٣/ ٣٠).
11
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال جار الله: لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني، صح أن تقع «بلى» جوابا له مع أنه غير منفي، لأن قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي في معنى ما هديت. قلت: هذا يصلح جوابا للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة، فإن عدم القابلية وكونه واقعا في جانب القهر لن يزول عنه. ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وقبوله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال.
والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله فَكَذَّبْتَ بِها ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والوالد، ونسبته إلى العجز عن الإعادة، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفا ونحو ذلك. وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم. وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده. ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحو هما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: ٣٠].
ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلا وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر بِمَفازَتِهِمْ هي «مفعلة» من الفوز. فمن وحد فلأنه مصدر، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح. ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك «كتبت بالقلم». فقال جار الله: تارة تفسير المفازة هي قوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي في أبدانهم. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يتألمون قلبا على ما فات. وقال: أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها. وعلى هذه الوجوه يكون قوله لا يَمَسُّهُمُ منصوبا على الحال. وعن الماوردي أن المفازة هاهنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب. وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئا من دلائل
12
المالكية قائلا اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وقد مر في «الأنعام». ثم أكده بقوله لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو كقوله في «الأنعام» وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الآية: ٥٩] والمقاليد المفاتيح أيضا فقيل: لا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد أو مقلد أو إقليد. والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي.
ويروى أنه سأل عثمان رسول الله ﷺ عن تفسير الآية فقال: يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وقال العلماء: يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد. قال أهل العرفان: بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد. قال في الكشاف قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا متصل بقوله وَيُنَجِّي وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده. هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية. والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده وَالَّذِينَ كَفَرُوا بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب ب أَعْبُدُ وتَأْمُرُونِّي اعتراض والمعنى أفغير الله أَعْبُدُ بأمركم. وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه.
وجوز جار الله: أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد. والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل.
ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة «أن» كيف تتقدّم عليه. ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله أن أعبد وقيل: التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني؟.
وقوله أَيُّهَا الْجاهِلُونَ لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء. ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطبا نبيه بقوله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء مثله لَئِنْ أَشْرَكْتَ فاقتصر على الأول ويجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول:
كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة:
١٢٠] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها، أو المراد الأمة كما قلنا. وفي قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ إشارة إلى أن منصب النبوة
13
الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك.
ثم ردّه ﷺ إلى ما هو الحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم. ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في «الأنعام» و «الحج». ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلا وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ قال جار الله: الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز. وكذلك حكم ما
يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلا من أهل الكتاب جاء إلى النبي ﷺ فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله ﷺ تعجبا مما قال وأنزل الله الآية تصديقا له.
وقال جار الله: وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه، ثم ذكر كلاما آخر طويلا. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا. وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء.
وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل. ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صونا للنص عن التعطيل. ولا تأويل إلا أن يقال: المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال: فلان في قبضة فلان. وقال تعالى وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الأحزاب:
٥٠] ويقال: هذه الدار في يد فلان ويمينه، وفلان صاحب اليد. وأنا أقول: هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي، والذي ذكره جار الله طريق بياني، وأنهم يحيلون كثيرا من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما. ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا
14
الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر. ولنرجع إلى الآية. قوله وَالْأَرْضُ قالوا: المراد بها الأرضون لوجهين: أحدهما قوله جَمِيعاً فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله كُلُّ الطَّعامِ [آل عمران: ٩٣] وقوله وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: ١٠] والثاني قوله وَالسَّماواتُ ولقائل أن يقول: كل ما هو ذو أجزاء حسا أو حكما فإنه يصح تأكيده بالجميع. وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير. نعم قيل: إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد. والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعا مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته. وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم: ٤٨] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ كقوله يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: ١٠٤] وقيل: معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك. وقيل: معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة. وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها. وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ الظاهر أن نفخ الصور مرتان،
وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في «النمل»، والثانية للموت وهو معنى الصعق، والثالثة للإعادة.
والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين، وقد مر في «النمل» تفسير باقي الآية. قال جار الله: تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. ومعنى يَنْظُرُونَ يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجاه خطب، أو ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيرا. ثم وصف أرض القيامة بقوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه. وقد مر شرح هذا النور في تفسير قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: ٣٥] وفي غيره من المواضع. وقال علماء البيان: افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم. ويقال للملك العادل: أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، وفي ضدّه أظلمت الدنيا بجوره. وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نورا مخصوصا. وقيل: أراد أرض الجنة.
ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله وَوُضِعَ الْكِتابُ إلى آخره. وكل
15
ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل. والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون. والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضا. وقيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة. وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال وَسِيقَ وهو على عادة إخبار الله تعالى. والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة. والخزنة جمع خازن، والمراد بكلمة العذاب قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [السجدة: ١٣] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب.
سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة؟
الجواب من وجوه: قال جار الله: المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان. وقيل: طباق. وقيل: أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم. وقيل: إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة. وقال أهل العرفان: المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة، فلا جرم يفتقرون إلى السوق. وقال الحكيم: كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق.
سؤال آخر: لم قيل في صفة أهل النار فُتِحَتْ أَبْوابُها من غير واو وفي صفة أهل الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بالواو؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: ١١٢] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا: إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: ٥٠] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها، وعلى هذا فجواب حَتَّى إِذا محذوف وحق موقعه ما بعد خالِدِينَ أي كان ما كان من أصناف الكرامات
16
والسعادات. وقيل: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها. وقيل: لأهل التأويل أن يقولوا: إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعا. ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة. ومعنى طِبْتُمْ قيل: إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة، أو طبتم نفسا بما نلتم من الجنة ونعيمها.
وقيل: إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبدا، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة: طبتم. وقال جار الله:
أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا، ولهذا عقبه بقوله فَادْخُلُوها خالِدِينَ ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك. ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي الوعد بدخول الجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مرارا نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع. وقال حكماء الإسلام: الجنات الجسمانية كذلك، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص. ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال وَتَرَى أيها الرائي أو النبي الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدّقين وهو نصب على الحال. قال الفراء: لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية. وأقول: لعله عني من حيث الاستعمال. وقيل: الحاف بالشيء الملازم له.
وقوله مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «من» زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تلذذا لا تعبدا. وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة. والضمير في قوله وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بغضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل. وقيل: بين الأنبياء وأممهم. وقيل: تكرار لقوله وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقيل: هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد. ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعا، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار، وإنزال الملائكة حول العرش. ثم ختم السورة بقوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ والقائل
17
المقضي بينهم وهم جميع العباد كقوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: ١٠] جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته.
18
Icon