تفسير سورة الزمر

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الزمر من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الزمر مكية إلا قوله ﴿ قل يا عبادي ﴾ الآية وآياتها خمس وسبعون أو اثنتان وسبعون

﴿تَنزِيلُ الكتاب﴾ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ هو اسمُ إشارةٍ أُشير به إلى السُّورةِ تنزيلاً لها منزلةَ الحاضر المُشارِ إليه لكونها على شرف الذِّكرِ والحضورِ كما مرَّ مراراً وقد قيل هو ضميرٌ عائد إلى الذكرُ في قوله تعالى إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ للعالمين وقولُه تعالى ﴿مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ صلة للتَّنزيلِ أو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من التَّنزيلِ عاملُها معنى الإشارة أو من الكتابِ الذي هو مفعولٌ معنى عاملُها المضاف وقيل هو خبرٌ لتنزيلُ الكتابِ والوجهُ الأَوَّلُ أو في بمقتضى المقامِ الذي هو بيانُ أنَّ السُّورةَ أو القُرآنَ تنزيلُ الكتابِ مِنَ الله تعالى لا بيانُ أنَّ تنزيلَ الكتابِ منه تعالى لا من غيرِه كما يفيده الوجهُ الأخير وقرئ تنزيلَ الكتابِ بالنَّصبِ على إضمار فعلِ نحو اقرأْ أو الزم والتعرض لو صفى العزَّةِ والحكمة للإيذانِ بظهور أثريهما في الكتاب بحريان أحكامِه ونفاذ أوامره ونواهيه من غير مُدافعٍ ولا ممانع وبابتناءِ جميع ما فيه على أساس الحِكَمِ الباهرةِ وقولُه تعالى
﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ شروعٌ في بيانِ شأنِ المنزَّلِ إليه وما يجبُ عليه إثرَ بيانِ شأن المنَّزلِ وكونِه من عند الله تعالى والمرادُ بالكتاب هو القُرآنُ وإظهاره على تقدير كونِه هو المرادَ بالأَوَّلِ أيضاً لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنِه والباء إمَّا متعلِّقةٌ بالإنزال أي بسبب الحقِّ وإثباته وإظهارِه أو بداعية الحقِّ واقتضائه للإنزالِ وإمَّا بمحذوفٍ هو حالٌ من نون العظمةِ أو من الكتاب أي أنزلناهُ إليك محقِّين في ذلك أو أنزلناه مُلتبِساً بالحقِّ والصواب أي كلُّ ما فيه حقٌّ لا ريبَ فيه موجبٌ للعمل به حَتْماً والفاءُ في قوله تعالى ﴿فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ لترتيب الأمر بالعبادة على إنزالِ الكتاب إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بالحقِّ أي فاعبْدُه تعالى ممُحِّضاً له الدِّينَ من شوائب الشِّركِ والرِّياءِ حسبما بُيِّن في تضاعيفِ ما أنزل إليك وقرئ برفع الدِّينِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُه الظَّرفُ المقدَّمُ عليه لتأكيد الاختصاصِ المُستفاد من اللاَّمِ والجملةُ استئنافٌ وقع تعليلاً للأمر بإخلاصِ العبادةِ وقوله تعالى
﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾
240
الزمر ٤ استئناف مقرر لما قبله من الأمرِ بإخلاص الدِّينِ له تعالى ووجوبِ الامتثالِ به وعلى القراءةِ الأخيرةِ مؤكِّدٌ لاختصاصِ الدِّينِ به تعالى أي أَلاَ هو الذي يجبُ أنْ يُخصَّ بإخلاصِ الطَّاعةِ له لأنَّه المُتفرِّدُ بصفاتِ الأُلوهيَّةِ التي من جملها الاطِّلاعُ على السَّرائرِ والضَّمائرِ وقولُه تعالى ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء﴾ تحقيقٌ لحقِّيةِ ما ذُكر من إخلاص الدِّينِ الذي هو عبارةٌ عن التَّوحيدِ ببيان بُطلان الشِّركِ الذي هو عبارةٌ عن ترك إخلاصِه والموصولُ عبارةٌ عن المُشركين ومحله الرفع على الابتداء خبره مما سيأتي من الجُملةِ المُصدَّرةِ بأنْ والأولياءُ عن الملائكةِ وعيسى عليهم السَّلامُ والأصنامِ وقولُه تعالى ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله زُلْفَى﴾ حالٌ بتقدير القَول من واو اتخذوا مبينة لكيفيَّةِ إشراكِهم وعدمِ خُلوصِ دينهم والاستثناءُ مفرَّغٌ من أعمِّ العلل وزُلْفى مصدرٌ مؤكِّدٌ على غير لفظِ المصدرِ ملاقٍ له في المعنى أي والذينَ لم يُخلصوا العبادةَ لله تعالى بل شابُوها بعبادةِ غيره قائلين ما نعبدهم لشئ من الأشياءِ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله تعالى تقريباً ﴿إن الله يحكم بينهم﴾ أي وبين خصمائِهم الذين هم المُخلِصون للدِّين وقد حُذفَ لدلالةِ الحالِ عليهِ كما في قولِهِ تعالى لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ من رُّسُلِهِ على أحدِ الوجهينِ أي بين أحدٍ منهم وبين غيرِه وعليه قول النَّابغةِ... فمَا كانَ بين لخير لو جاءَ سالما... أبُو حَجَرٍ إلا ليالٍ قلائلُ...
أي بين الخيرِ وبينِي وقيل ضمير بينَهم للفريقينِ جميعاً ﴿فِيمَا هم فيه يختلفون﴾ من الدِّين الذي اختلفُوا فيه بالتَّوحيد والإشراكِ وادَّعى كلُّ فريقٍ منهم صحَّةَ ما انتحله وحكمُه تعالى في ذلك إدخالُ الموحِّدينَ الجنَّةَ والمشركين النَّارَ فالضَّميرُ للفريقينِ هَذَا هُو الذي يستدعيه مساقُ النَّظمِ الكريم وأمَّا تجويزُ أنْ يكونَ الموصول عبارةً عن المعبودينَ على حذف العائد إليه وإضمارِ المشركينَ من غير ذكر تعويلاً على دلالة المساقِ عليهم ويكون التَّقديرُ والذين اتَّخذهم المشركون أولياءَ قائلين مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إلى الله إنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ أي بين العَبَدةِ والمعبودينَ فيما هم فيه يختلفُون حيثُ يرجُو العَبَدةُ شفاعتهم وهم يلعنونهم فبعد الإغضاءِ عمَّا فيه من التَّعسُّفاتِ بمعزل من السَّدادِ كيف لا وليس فيما ذُكر من طلب الشَّفاعةِ واللَّعنِ مادَّةٌ يختلفُ فيها الفريقانِ اختلافاً مُحوِجاً إلى الحكمِ والفصلِ وإنَّما ذاك ما بين فريقَيْ الموحِّدينَ والمشركينَ في الدُّنيا من الاختلاف في الدِّينِ الباقي إلى يوم القيامة وقرئ قالُوا ما نعبدُهم فهو بدل من الصلة لا خبرٌ للموصول كما قيل إذ ليس في الإخبار بذلك مزيد مزية وقرئ ما نعبدكم إلاَّ لتُقرِّبونا حكايةً لما خاطبُوا به آلهتهم وقرئ نعبدُهم إتباعاً للباء ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِى﴾ أي لا يُوفِّقُ للاهتداءِ إلى الحقِّ الذي هو طريقُ النَّجاةِ عن المكروهِ والفوزُ بالمطلوبِ ﴿مَنْ هُوَ كاذب كَفَّارٌ﴾ أي راسخٌ في الكذبِ مبالغٌ في الكُفرِ كما يُعربُ عنه قراءةُ كذَّاب وكَذُوب فإنَّهما فاقدانِ للبصيرةِ غيرُ قابلينِ للاهتداءِ لتغييرهما الفطرةَ الأصليَّةَ بالتَّمرُّنِ في الضَّلالةِ والتَّمادِي في الغِيِّ والجملةُ تعليلٌ لما ذُكر من حكمه تعالى
241
﴿لو أراد الله أن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ الخ استئنافٌ مَسوقٌ لتحقيقِ الحقِّ وإبطالِ القولِ بأنَّ الملائكةَ بناتُ الله عيسى ابنُه تعالى عن ذلكَ عُلَّواً كبيراً ببيانِ استحالةِ اتخاذ الولد في حقه تعالى على الإطلاقِ ليندرجَ فيه استحالة
241
الزمر ٥ ما قبل اندراجا أوليا أي لو أراد الله أنْ يتَّخذَ وَلَداً ﴿لاصطفى﴾ أي لاتَّخذَ ﴿مِمَّا يَخْلُقُ﴾ أي من جملة ما يخلقُه أو من جنس ما يخلقه ﴿مَا يَشَاء﴾ أنْ يتَّخذَه إذْ لا موجودَ سواهُ إلاَّ وهو مخلوقٌ له تعالى لامتناعِ تعدُّدِ الواجبِ ووجوبِ استنادِ جميعِ ما عداهُ إليه ومن البيِّنِ أنَّ اتِّخاذَ الولد منوطٌ بالمماثلة بين المتَّخِذِ والمتَّخَذِ وأنَّ المخلوقَ لا يُماثل خالقَه حتَّى يمكن اتِّخاذُه ولداً فما فرضناه اتِّخاذَ ولدٍ لم يكُن اتِّخاذَ ولدٍ بل اصطفاءُ عبدٍ وإليه أُشير حيث وُضع الاصطفاءُ موضع الاتِّخاذِ الذي تقتضيهِ الشَّرطَّيةُ تنبيهاً على استحالةِ مُقدمها لاستلزم فرض وقوعِه بل فرضِ إراد وقوعِه انتفاءه أي لو أراد الله تعالى أنْ يتَّخذَ ولداً لفعل شيئاً ليس هو من اتِّخاذِ الولد في شئ أصلاً بل إنَّما هو اصطفاءُ عبدٍ ولا ريب في أنَّ ما يستلزم فرضُ وقوَعه انتفاءَه فهو ممتنعٌ قطعاً فكأنَّه قيل لو أراد الله أن يتَّخذَ ولداً لامتنع ولم يصح لكن لاعلى أنَّ الامتناعَ منوطٌ بتحقُّقِ الإرادة بل على أنَّه مُتحقِّقٌ عند عدمِها بطريقِ الأَولوَّيةِ على منوال لو لم يخَفِ الله لم يعصِه وقوله تعالى ﴿سبحانه﴾ تقريرٌ لما ذُكر من استحالة اتخاذ الولد في حقِّه تعالى وتأكيدٌ له ببيانِ تنزُّهه تعالى عنه أي تنزّه بالذَّاتِ عن ذلك تنزهه الخاصّ به على أن السبحان مصدر من سبَح إذا بعُد أو أسبِّحه تسبيحاً لائقاً به على أنَّه عَلَم للتَّسبيح مقولٌ على ألسنة العباد أو سبِّحوه تسبيحاً حقيقاً بشأنِه وقولُه تعالى ﴿هُوَ الله الواحد القهار﴾ استئنافٌ مبيِّنٌ لتنزُّههِ تعالى بحسبِ الصِّفاتِ إثرَ بيانِ تنزُّههِ تعالى عنه بحسب الذَّاتِ فإنَّ صفةَ الأُلوهيَّةِ المستتبعة لسائر صفاتِ الكمال النَّافيةِ لسماتِ النُّقصانِ والوحدة الذَّاتية الموجبة لامتناعِ المُماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيرِه على الإطلاقِ ممَّا يقضِي بتنزُّهه تعالى عمَّا قالوا قضاءً مُتقناً وكذا وصف القهَّاريَّةِ لما أنَّ اتخاذَ الولدِ شأنُ مَن يكون تحتَ ملكوتِ الغيرِ عُرضةً للفناءِ ليقومَ ولدُه مقامَه عند فنائِه ومَن هو مستحيلُ الفناءِ قهَّارٌ لكلِّ الكائناتِ كيفَ يُتصوُرُ أنْ يتَّخذَ من الأشياءِ الفانيةِ ما يقومُ مقامَه وقولُه تعالى
242
﴿خلق السماوات والارض بالحق﴾ تفصيلٌ لبعض أفعاله تعالى الدالة على تفرُّدِه بما ذُكر من الصِّفاتِ الجليلة أي خلقهما وَمَا بَيْنَهُمَا من الموجودات ملتبِسة بالحقِّ والصَّوابِ مشتملة عل الحِكَم والمصالح وقولُه تعالى ﴿يكور الليل عَلَى النهار وَيُكَوّرُ النهار على الليل﴾ بيانٌ لكيفيَّةِ تصرُّفةِ تعالى فيهما بعد بيان خلقِهما فإنَّ حدوثَ اللَّيلِ والنَّهارِ في الأرض منوطٌ بتحريك السَّمواتِ أي يغشى كلُّ واحدٍ منُهما الآخَرَ كأنَّه يلفه عليه لفَّ اللباسِ على اللاَّبسِ أو يُغيبه به كما يُغيَّبُ الملفوفُ باللفامة أو يجعله كارَّاً عليه كُروراً متتابعاً تتابع أكوارِ العمامةِ وصيغةُ المضارع للدِّلالةِ على التَّجدُّدِ ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر﴾ جعلهما منقادينِ لأمرِه تعالى وقولُه تعالى ﴿كُلٌّ يَجْرِى لاِجَلٍ مُّسَمًّى﴾ بيانٌ لكيفيَّةِ تسخيرِهما أي كلٌّ منهما يجري لمُنتهى دورتِه أو منقطعِ حركتِه وقد مرَّ تفصيلُه غيرَ مرَّةٍ ﴿إِلاَّ هُوَ العزيز﴾ الغالبُ القادر على كل شئ من الأشياء التي من جُملتها عقابُ العُصاةِ ﴿الغفار﴾ المبالغُ في المغفرةِ ولذلك لا يُعاجل بالعقوبةِ وسلب ما في هذه الصَّنائعِ البديعة من آثارِ الرَّحمةِ وتصدير
242
الزمر ٦ الجملة بحرفِ التَّنبيهِ لإظهار كمالِ الاعتناءِ بمضمونِها
243
﴿خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة﴾ بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدالة على ما ذُكر وتركُ عطفِه على خلقِ السَّمواتِ للإيذانِ باستقلالِه في الدِّلالةِ ولتعلُّقِه بالعالم السفلى والبداءة بخلق الإنسانِ لعراقتِه في الدِّلالةِ لما فيه من تعاجيبِ آثارِ القُدرةِ وأسرارِ الحكمةِ وأصالتِه في المعرفةِ فإنَّ الإنسانَ بحالِ نفسِه أعرفُ والمرادُ بالنَّفسِ نفسُ آدمَ عليه السَّلامُ وقولُه ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ عطفٌ على محذوفٍ هو صفةٌ لنفس أي منْ نفسٍ خلقَها ثمَّ جعل منها زَوْجَها أو على معنى واحدةٍ أي من نفسٍ وحدت ثم جعل منها زوجها فشَفَعها أو على خلقكم لتفاوتِ ما بينهما في الدِّلالةِ فإنَّهما وإن كانتا آيتينِ دالتَّينِ على ما ذُكر لكن الأُولى لاستمرارِها صارتْ معتادةً وأما الثَّانيةُ فحيثُ لم تكن معتادةً خارجةً عن قياسِ الأولى كما يُشعر به التعبيرُ عنها بالجعلِ دون الخلقِ كانت أدخلُ في كونِها آيةً وأجلبَ للتَّعجُّبِ من السَّامعِ فعطفت على الأولى بثمَّ دلالةً على مباينتِها لها فضلاً ومزية وتراخيها عنها فيما يرجع إلى زيادةِ كونِها آيةً فهو من التَّراخي في الحالِ والمنزلةِ وقيل أخرج ذريَّةَ آدمَ من ظهرهِ كالذَّرِّ ثم خلقَ منه حواء ففيهِ ثلاثُ آياتٍ مترتِّبة خلقُ آدم عليه السلام بلا أبٍ وأمَ وخلقُ حوَّاءَ من قُصيراه ثم تشعيبُ الخلقِ الفائتِ للحصرِ منهما وقوله تعالى ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ﴾ بيانٌ لبعضٍ آخرَ من أفعاله الدالة على ما ذُكر أي قضى أو قسَم لكم فإنَّ قضاياهُ وقسمه تُوصف بالنُّزولِ من السَّماءِ حيثُ تُكتب في اللوحِ المحفوظِ أو أحدثَ لكم بأسبابٍ نازلةٍ من السَّماءِ كالأمطارِ وأشعَّةِ الكواكبِ ﴿مّنَ الانعام ثمانية أزواج﴾ ذكراً وأُنثى هي الإبلُ والبقرُ والضَّأنُ والمعَزِ وقيل خلقَها في الجنَّةِ ثمَّ أنزلها وتقديمُ الظَّرفينِ على المفعول الصريح لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أُخِّر فإنَّ كونِ الإنزالِ لمنافعِهم وكونَه من الجهةِ العاليةِ من الأمورِ المهمة المشوفة إلى ما أُنزل لا محالةَ وقولُه تعالَى ﴿يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم﴾ استئنافٌ مسوقٌ لبيانِ كيفيَّةِ خلقِهم وأطواره المختلفةِ الدَّالَّةِ على القُدرةِ الباهرةِ وصيغة المضارعِ الدلالة على التَّدرجِ والتَّجدُّدِ وقولُه تعالى ﴿خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ مصدرٌ مؤكد أي يخلقكُم فيها خلقاً كائناً من بعدِ خلقٍ أي خلقاً مدرجاً حيواناً سَوياً من بعد عظام مكسوَّةٍ لحماً من بعد عظامٍ عارية من بعد مضع مخلَّقةٍ من بعد مضغ غير مخلَّقةٍ من بعد علقةٍ من بعد نُطفةٍ ﴿فِى ظلمات ثلاث﴾ متعلِّق بيخلقُكم وهي ظُلمة البطن وظُلمة الرَّحمِ وظُلمة المشيمةِ أو ظُلمة الصُّلبِ والبطنِ والرَّحِمِ ﴿ذلكم﴾ إشارة إليه تعالى باعتبارِ أفعالِه المذكورةِ وما فيه من مَعْنى البُعد للإيذانِ ببُعد منزلتِه تعالى في العظمةِ والكبرياءِ ومحله الرفع على الابتداء أي ذلكم العظيمُ الشأنِ الذي عددت أفعاله ﴿الله﴾ وقوله تعالى ﴿رَبُّكُمْ﴾ خبرا آخر أي مرببكم فيما ذُكر من الأطوارِ وفيما بعدَها ومالككم المستحقُّ لتخصيصِ العبادةِ به ﴿لَهُ الملك﴾ على الإطلاقِ في الدُّنيا والآخرةِ ليس لغيره شركةٌ في ذلك بوجهٍ
243
الزمر ٧ ٨ من الوجوهِ والجملةُ خبرٌ آخرُ وكذا قولُه تعالى ﴿لاَ إله إِلاَّ هو﴾ والفاء في قوله تعالى ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ لترتيبِ ما بعدَها على ما ذُكر من شئونه تعالى أي فكيفَ تُصرَفون عن عبادتِه تعالى مع وفورِ موجباتِها ودواعيها وانتفاءِ الصَّارفِ عنها بالكُلِّيةِ إلى عبادةِ غيرِه من غير داعٍ إليها مع كثرة الصَّوارفِ عنها
244
﴿إِن تَكْفُرُواْ﴾ به تعالى بعد مشاهدةِ ما ذُكر من فنونِ نعمائِه ومعرفةِ شئونه العظيمةِ الموجبةِ للإيمانِ والشُّكرِ ﴿فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ﴾ أي فاعلمُوا أنَّه تعالى غنيٌّ عن إيمانِكم وشكركم غيرُ متأثِّرٍ من انتفائهما ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر﴾ أي عدمُ رضاه بكفر عباده لأجل منفعتِهم ودفعِ مضرَّتِهم رحمةً عليهم لا لتضرُّرهِ تعالى به ﴿وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ أي يرض الشُّكرَ لأجلكم ومنفعتكم لأنَّه سببٌ لفوزكم بسعادة الدَّارينِ لا لانتفاعه تعالى به وإنَّما قيل لعباده لا لكُم لتعميم الحكمِ وتعليله بكونهم عبادَه تعالى وقرئ بإسكانِ الهاءِ ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ بيانٌ لعدم سرايةِ كفر الكافر إلى غيرِه أصلاً أي لا تحملُ نفسٌ حاملة للوزر حملَ نفسٍ أخرى ﴿ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ﴾ بالبعث بعد الموت ﴿فَيُنَبّئُكُمْ﴾ عند ذلك ﴿بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي كنتُم تعملونَه في الدُّنيا من أعمال الكفر والإيمانِ أي يُجازيكم بذلك ثواباً وعقاباً ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي بمضمرات القلوبِ فكيف بالأعمال الظاهرة وهو تعليل للتنبئة
﴿وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ﴾ من مرضٍ وغيره ﴿دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ﴾ راجعاً إليه ممَّا كان يدعُوه في حالة الرخاء لعلمه بأنَّه بمعزلٍ من القُدرة على كشف ضُرِّه وهذا وصف للجنس بحالِ بعضِ أفرادِه كقوله تعالى إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ﴿ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ﴾ أي أعطاهُ نعمةً عظيمةً من جنابه تعالى من التَّخولِ وهو التَّعهدُ أي جعله خائلَ مالٍ من قولهم فلانٌ خائلُ مال إذا كان مُتعهِّداً له حسنَ القيامِ به أو من الخَولِ وهو الافتخارُ أي جعله يخُولُ أي يختالُ ويفتخرُ ﴿نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ﴾ أي نسيَ الضُّرَّ الذي كان يدعُو الله تعالى فيما سبق إلى كشفِه ﴿مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل التَّخويلِ أو نسي ربَّه الذي كان يدعُوه ويتضرَّعُ إليه إمَّا بناء على أنَّ ما بمعنى مِنْ كما في قوله تعالى وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى وقولُه تعالَى وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ وإمَّا إيذاناً بأنَّ نسيانَهُ بلغ إلى حيثُ لا يعرف مدَّعوه ما هو فضلاً عن أنْ يعرفه من هو كما مر في قوله تعالى عَمَّا أَرْضَعَتْ ﴿وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً﴾ شركاءَ في العبادة ﴿لِيُضِلَّ﴾ النَّاس بذلك ﴿عَن سَبِيلِهِ﴾ الذي هو التَّوحيدُ وقرئ ليَضلَّ بفتح الياء أي يزدادَ ضلالاً أو يثبتَ عليه وإلا فأصلُ الضَّلالِ غيرُ متأخِّرٍ عن الجعل المذكور واللامُ لامُ العاقبة كما في قوله تعالى
244
الزمر ٩ فالتقطَه آلُ فرعونَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً خلا أنَّ هذا أقربُ إلى الحقيقةِ لأنَّ الجاعلَ ههنا قاصدٌ بجعله المذكورِ حقيقةَ الإضلالِ والضَّلالِ وإنْ لم يعرف لجهله أنَّهما إضلالٌ وضلالٌ وأمَّا آلُ فرعونَ فهم غيرُ قاصدين بالتقاطِهم العداوةَ أصلاً ﴿قُلْ﴾ تهديداً لذلك الضَّالَّ المُضلَّ وبياناً لحالِه ومآلِه ﴿تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً﴾ أي تمتُّعاً قليلاً أو زمَاناً قليلاً ﴿إِنَّكَ من أصحاب النار﴾ أي من ملازميها والمعذَّبين فيها على الدَّوامِ وهو تعليلٌ لقلَّة التَّمتعِ وفيه من الإقناط من النَّجاةِ ما لا يخفى كأنَّه قيل إذ قد أبيتَ قبولَ ما أُمرت به من الإيمان والطَّاعةِ فمن حقَّك أنْ تُؤمرَ بتركه لتذوقَ عقوبتَه
245
﴿أم من هو قانت آناء الليل﴾ الخ من تمامِ الكلامِ المأمورِ به وأم إما متصلة قد حذف معاد لها ثقةً بدلالة مساقِ الكلام عليه كأنَّه قيل له تأكيداً للتَّهديد وتهكُّماً به أأنت أحسنُ حالاً ومآلاٍ ام من هو قائمٌ بمواجب الطَّاعاتِ ودائم على أداءَ وظائف العبادات في ساعاتِ اللَّيل حالتَيْ السَّراءِ والضَّراءِ لا عند مساس الضُّرِّ فقط كدأبك حالَ كونِه ﴿ساجدا وَقَائِماً﴾ أي جامعاً بين الوصفينِ المحمودينِ وتقديمُ السُّجودِ على القيام لكونه أدخلَ في معنى العبادة وقرئ كلاهُما بالرَّفعِ على أنه خبرُ بعد خبرٍ ﴿يَحْذَرُ الاخرة﴾ حالٌ أُخرى على التَّرادفِ أو التَّداخلِ أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عما نشأ من حكاية حاله من القنوتِ والسُّجود والقيامِ كأنه قيل ما باله يفعل ذلك فقيلَ يحذرُ عذاب الاخرة ﴿ويرجو رَّحْمَةِ رَبّهِ﴾ فينجُو بذلك مما يحذرُه ويفوزُ بما يرجوه كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئةِ عن التبليغِ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميرِ الرَّاجي لا أنَّه يحذرُ ضرَّ الدُّنيا ويرجُو خيرَها فقط وإما منقطعةٌ وما فيها من الإضرابِ للانتقالِ من التَّهديدِ إلى التبكيت بتكليف الجواب الملجئ إلى الاعترافِ بما بينهما من التَّباينِ البيِّن كأنَّه قيل بل ام من هو قانتٌ الخ أفضل ام من هو كافرٌ مثلك كما هو المعنى على قراءة التَّخفيفِ ﴿قُلْ﴾ بياناً للحقِّ وتنبيهاً على شرفِ العلمِ والعمل ﴿هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ﴾ حقائقَ الأحوالِ فيعملون بموجبِ علمهم كالقانتِ المذكورِ ﴿والذين لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي ما ذُكر أو شيئاً فيعملون بمقتضى جهلِهم وضلالِهم كدأبك والاستفهامُ للتَّنبيه على أنَّ كون الأَوَّلينَ في أعلى معارج الخيرِ وكون الآخرينَ في أقصى مدارج الشَّرِّ منَ الظُّهورِ بحيثُ لا يكاد يخفى على أحدٍ من منصفِ ومكابرٍ وقيل هو واردٌ على سبيل التشيه أي كما لا يستوي العالمونَ والجاهلون لا يستوي القانتون والعاصُون وقوله تعالى ﴿إنما يتذكر أولوا الالباب﴾ كلامٌ مستقلٌّ غيرُ داخلٍ في الكلامِ المأمور به واردٌ من جهته تعالى بعد الأمر بما ذُكر من القوارعِ الزَّاجرةِ عن الكُفر والمعاصِي لبيانِ عدمِ تأثيرِها في قلوبِ الكفرةِ لاختلال عقولهم كما في قول من قال... عوجوا فحيوا لنعمى دمنة الدار... ماذا تحيون من نوى وَأَحْجَارِ...
أي إنما يتَّعظُ بهذه البيانات الواضحة أصحابُ العقولِ الخالصةِ عن شوائب الخللِ وهؤلاءِ بمعزلٍ من ذلك وقرئ إنما يذكر بالإدغام
245
الزمر
246
١٠ - ١٢ ﴿قل يا عباد الذين آمنوا اتقوا رَبَّكُمْ﴾ أُمر رسولُ الله ﷺ بتذكير المُؤمنين وحملِهم على التَّقوى والطَّاعة إثرَ تخصيص التذكرِ بأولي الألباب إيذاناً بأنَّهم هم كما سيصرِّح به أي قُل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريفٌ لهم بإضافتهم إلي ضمير الجلالةِ ومزيدُ اعتناءٍ بشأن المأمور به فإنَّ نقلَ عينِ أمرِ الله أدخلُ في إيجابِ الإمتثالِ به وقولُه تعالى ﴿لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ﴾ تعليلٌ للأمر أو لوجوبِ الامتثال به وإيراد الإحسان في حيِّز الصِّلةِ دون التَّقوى للإيذانِ بأنَّه من باب الإحسانِ وأنَّهما مُتلازمانِ وكذا الصَّبرُ كما مرَّ في قوله تعالى إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ وفي قوله تعالى إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين وقوله تعالى ﴿فِى هذه الدنيا﴾ متعلِّقٌ بأحسنُوا أي عملوا الأعمالَ الحسنةَ في هذه الدُّنيا على وجه الإخلاصِ وهو الذي عبّر عنه رسول الله ﷺ حينَ سُئل عن الإحسانِ بقوله ﷺ أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ ﴿حَسَنَةٌ﴾ أي حسنة عظيمةٌ لا يُكتَنه كُنهُها وهي الجنَّةُ وقيل هو متعلِّقٌ بحسنة على أنَّه بيان لمكانها أوْ حالٌ منْ ضميرِها في الظَّرفِ فالمرادُ بها حينئذٍ الصِّحَّةُ والعافيةُ ﴿وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾ فمن تعسَّر عليه التَّوفرُ على التَّقوى والإحسانِ في وطنِه فليهاجر إلى حيثُ يتمكَّن فيه من ذلك كما هو سُنَّة الأنبياءِ والصَّالحينَ فإنه لا عُذرَ له في التَّفريطِ أصلاً وقوله تعالى ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون﴾ الخ ترغيب في التَّقوى المأمور بها وإيثارُ الصَّابرين على المتَّقين للإيذانِ بأنَّهم حائزونَ لفضيلة الصَّبر كحيازتهم لفضيلةِ الإحسانِ لما أشير إليه من استلزام التَّقوى لهما مع ما فيه من زيادة حثَ على المصابرةِ والمجاهدةِ في تحمُّل مشاقَّ المهاجرة ومتاعبها أي إنَّما يوفَّى الذين صبرُوا على دينِهم وحافظُوا على حدودِه ولم يُفرِّطُوا في مُراعاةِ حقوقه لما اعتراهم في ذلك من فُنونِ الآلامِ والبَلاَيا التي من جُملتها مهاجرةُ الأهلِ ومفارقةُ الأوطانِ ﴿أَجْرَهُمْ﴾ بمقابلة ما كابدُوا من الصَّبرِ ﴿بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ أي بحيث لا يُحصى ولا يُحصر عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما لا يَهتدِي إليه حسابُ الحُسَّاب ولا يُعرف وفي الحديثِ أنَّه تنصبُ الموازينُ يوم القيامة لأهلِ الصَّلاة والصَّدقة والحَجِّ فيُؤتَون بها أجورَهم ولا تنُصب لأهل البلاء بل يصب عليهم الأجرُ صَّباً حتَّى يتمنَّى أهلُ العافيةِ في الدُّنيا أنَّ أجسادَهم تُقرضُ بالمقاريضِ مَّما يذهبُ به أهلُ البلاءِ من الفضلِ
﴿قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ أي من كلِّ ما ينافيهِ من الشِّركِ والرِّياءِ وغير ذلك أُمر رسول الله ﷺ ببيانِ ما أُمر به نفسه من الإخلاصِ في عبادة الله الذي هو عبارةٌ عمَّا أُمر به المؤمنون من التَّقوى مبالغةً في حثِّهم على الإتيان بما كُلِّفوه وتمهيداً لما يعقُبه مَّما خُوطب به المشركونَ
﴿وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين﴾ أي وأُمرت بذلك لأجلِ أنْ أكونَ مقدَّمهم
246
الزمر ١٣ ١٦ في الدُّنيا والآخرةِ لأنَّ إحرازَ قَصَب السَّبقِ في الدِّين بالإخلاصِ فيه والعطفُ لمغايرة الثاني الاول بتقيده بالعلَّةِ والإشعارِ بأنَّ العبادةَ المذكورةَ كما تقتضِي الأمرَ بها لذاتِها تقتضيهِ لما يلزمُها من السَّبقِ في الدِّينِ ويجوزُ أنْ تُجعلَ اللاَّمُ مزيدةً كما في أردتُ لأنْ أقومَ بدليلِ قوله تعالى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أسلم فالمعنى وأُمرت أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أسلمَ من أهلِ زمانيِ أو مِن قومي أو أكون أولَ من دَعا غيرَهُ إلى ما دعا إليه نفسَه
247
﴿قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربي﴾ يترك الإخلاصِ والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك ﴿عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ هو يومُ القيامةِ وصفَ بالعظمةِ لعظمةِ ما فيهِ من الدَّواهي والأهوالِ
﴿قل الله أعبد﴾ لاغيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً ﴿مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى﴾ من كل شوب امر ﷺ أوَّلاً ببيان كونِه مأموراً بعبادة الله تعالى واخلاص الدِّينِ له ثمَّ بالإخبارِ بخوفِه من العذابِ على تقديرِ العصيانِ ثمَّ بالإخبارِ بامتثاله بالأمرِ على أبلغِ وجِه وآكدِه إظهاراً لتصلُّبه في الدِّينِ وحسماً لأطماعِهم الفارغةِ وتمهيداً لتهديدِهم بقوله تعالى
﴿فاعبدوا مَا شِئْتُمْ﴾ أنْ تعبدُوه ﴿مِن دُونِهِ﴾ تعالى وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم مالا يخفي كأنَّهم لمَّا لم ينتهُوا عما نُهوا عنه أُمروا به كي يحل بهم العقابُ ﴿قُلْ إِنَّ الخاسرين﴾ أي الكاملينَ في الخُسران الذي هو عبارةٌ عن إضاعةِ ما يُهمه واتلاف مالا بدَّ منه ﴿الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ﴾ باختيارِهم الكفرَ لهما أي أضاعُوهما وأتلفوهُما ﴿يَوْمُ القيامة﴾ حين يدخُلون النَّارِ حيث عرَّضوهما للعذابِ السَّرمديِّ وأوقعُوهما في هَلَكةٍ لا هلكةَ وراءها وقيل خسِروا أهليهم لأنَّهم إنْ كانُوا من أهلِ النَّار فقد خسروهم كما خسِروا انفسهم وإن كانُوا من أهلِ الجنَّةَ فقد ذهبُوا عنهم ذهاباً لا إيابَ بعدَهُ وفيه ان المحذور ذهاب مالو آبَ لانتفع به الخاسرُ وذلك غيرُ متصوَّرٍ في الشِّقِّ الأخيرِ وقيل خسِروهم لانهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم في اهل الجنَّةِ وخَسِروا أهليهم الذين كانِوا يتمتَّعون بهم لو آمنُوا وأيَّا ما كان فليسَ المرادُ مجرد تعريفِ الكاملينَ في الخُسران بما نذكر بل بيانَ أنَّهم هم إما نجعل الموصولِ عبارةً عنهم أو عمَّا هم مُندرجون فيه اندراجاً أوليَّاً وما في قوله تعالى ﴿أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين﴾ من استئنافِ الجملةِ وتصديرِها بحرفِ التَّنبيه والإشارةِ بذلك إلى بُعد منزلةِ المشارِ إليه في الشَّرِّ وتوسيطُ ضمير الفصل وتعريفُ الخسرانِ ووصفُه بالمبينِ من الدِّلالةِ عَلى كمالِ هو له وفظاعتِه وأنَّه لا خُسران وراءه مالا يَخفْى وقوله تعالى
﴿لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار﴾
247
الخ نوع بيانٍ لخسرانِهم بعد تهويله بطريق الابهام على أنَّ لهم خبرٌ لظُللٌ ومن فوقِهم متعلِّقٌ بمحذوفٍ قيل هو حالٌ من ظُللٌ والأظهرُ أنَّه حالٌ من الضمير في الظَّرفِ المُقدَّمِ ومن النَّارِ صفةٌ لظللٌ أي لهم كائنةٌ من فوقهم ظللٌ كثيرةٌ متراكبةٌ بعضُها فوق بعضِ كائنةٌ من النَّارِ ﴿وَمِن تَحْتِهِمْ﴾ أيضاً ﴿ظُلَلٌ﴾ أي أطباقٌ كثيرةٌ بعضُها تحتَ بعضٍ ظللٌ لآخرينَ بل لهم ايضا عند ترديهم في دركانها ﴿ذلك﴾ العذابُ الفظيعُ هو الذي ﴿يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ﴾ ويُحذِّرهم إيَّاه بآياتِ الوعيدِ ليجتنبُوا ما يُوقعهم فيه ﴿يا عباد فاتقون﴾ ولا تتعرَّضُوا لَما يُوجبُ سَخَطي وهذه عظةٌ من الله تعالى بالغةٌ منطويةٌ على غايةِ اللُّطفِ والمرحمةِ وقُرىء يا عبادِي
248
﴿والذين اجتنبوا الطاغوت﴾ أي البالغ اقصى غاية الطُّغيانِ فَعَلوتٌ منه بتقديم اللاَّمِ على العينِ بُني للمبالغةِ في المصدرِ كالرَّحموتِ والعظَمُوتِ ثم وُصف به للمبالغةِ في النَّعتِ والمرادُ به هو الشَّيطانُ ﴿أَن يعبدوها﴾ بدل اشتمال منه فإنَّ عبادةَ غيرِ الله تعالى عبادةٌ للشَّيطانِ إذِ هُو الآمرُ بها والمُزيِّنُ لها ﴿وَأَنَابُواْ إِلَى الله﴾ وأقبلُوا إليه مُعرضين عما سواه إقبالاً كلِّياً ﴿لَهُمُ البشرى﴾ بالثَّوابِ على ألسنةِ الرُّسلِ أو الملائكةِ عند حضورِ الموتِ وحين يُحشرون وبعد ذلك ﴿فَبَشّرْ عِبَادِ﴾
﴿الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ هم الموصُوفون بالاجتنابِ والإنابةِ بأعيانهم لكنْ وُضع موضِعَ ضميرِهم الظاهِرِ تشريفاً لهم بالإضافةِ ودلالةً على أنَّ مدارَ اتصِّافِهم بالوصفينِ الجليلينِ كونُهم نُقَّاداً في الدَّينِ يميِّزون الحقَّ من الباطلَ ويؤُثرون الأفضلَ فالأفضلَ ﴿أولئك﴾ إشارةٌ إليهم باعتبارِ اتصافِهم بما ذُكِرَ من النَّعوتِ الجليلةِ وما فيه من معنى البعد للإيذان بعلو رتبتهم وبُعد منزلتِهم في الفضلِ ومحلُّه الرَّفعُ على الابتداءِ خبرُه ما بعده من الموصولِ أي اولئك المنعوتون بالمحاسن الجميلة ﴿الذين هداهم الله﴾ للذين الحق ﴿وأولئك هم أولوا الالباب﴾ أي هم أصحابُ العقول السليمة عن معارضة الوهمِ ومنازعةِ الهَوَى المستحقُّون للهدايةِ لا غيرهم وفيه دلالةٌ على أنَّ الهدايةَ تحصلُ بفعل الله تعالى وقبول النَّفسِ لها
﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن في النار﴾ بيان الاحوال أضَّدادِ المذكورينَ على طريقة الإجمالِ وتسجيلٌ عليهم بحرمانِ الهداية وهم عَبَدةُ الطَّاغوتَ ومتَّبعُو خطواتها كما يُلوحُ به التَّعبيرُ عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإنَّ المرادَ بها قولُه تعالى لإبليسَ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ منهم أجمعين وقوله تعالى لمن تبعك منهم لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ وأصلُ الكلامِ أمن حقَّ عليه كلمةُ العذاب فأنتَ تنقذه على أنَّها شرطيةٌ دخل عليها الهمزةُ لإنكارِ مضمونها ثم الفاءُ لعطفها على جملةٍ مستتبعة لها مقدَّرة بعد الهمزةِ ليتعلَّق الإنكارُ والنَّفيُ بمضمونيهما
248
الزمر ٢٠ ٢١ معاً أي أأنتَ مالكُ أمرِ النَّاسِ فمن حقَّ عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه ثم كُررتْ الهمزةُ في الجزاءِ لتأكيدِ الإنكارِ وتذكيرِه لمَّا طال الكلامُ ثم وضِع موضعَ الضَّميرِ مَن في النَّارِ لمزيد تشديدِ الإنكارِ والاستبعاد والتَّنبيه عَلى أنَّ المحكومَ عليهِ بالعذابِ بمنزلة الواقعِ في النار وان اجتهاده ﷺ فى دُعائهم إلى الإيمانِ سعيٌ في إنقاذِهم من النَّارِ ويجوزُ أن يكونَ الجزاءُ محذوفاً وقوله تعالى أفأنتَ الخ جملة مستقلَّةٌ مسوقة لتقريرِ مضمون الجملة السَّابقةِ وتعيين ما حُذف منها وتشديدِ الإنكارِ بتنزيل من استحقَّ العذابَ منزلةَ من دخل النَّارَ وتصوير الاجتهاد في دُعائه إلى الإيمان بصورةِ الإنقاذِ من النَّارِ كأنَّه قيل أوَّلاً أفمن حقَّ عليه العذابُ فأنتَ تخلِّصه منه ثم شُدِّد النَّكيرُ فقيل أفأنتَ تنقذ من فى النار وفيه تلويحٌ بأنَّه تعالى هو الذي يقدر على الانقاذ لا غيرُه وحيثُ كان المرادُ بمن في النَّارِ الذين قيل في حقِّهم لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ من النار ومن تحتهم ظُلَلٌ استدركَ منهم بقوله تعالى
249
﴿لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ﴾ وهم الذين خُوطبوا بقوله تعالى ياعباد فاتقون ووُصفوا بما عُدِّد من الصِّفاتِ الفاضلةِ وهم المخاطَبون أيضاً فيما سبق بقوله تعالى يَا عِبَادِى الذين آمنوا اتقوا رَبَّكُمْ الآيةَ وبينَّ أنَّ لهم درجاتٍ عاليةً في جنَّاتِ النَّعيمِ بمقابلة ما للكفرةِ من دَرَكاتٍ سافلةٍ في الجحيم أي لهم علالي بعضُها فوقَ بعضٍ ﴿مَّبْنِيَّةٌ﴾ بناءَ المنازلِ المبنية المؤسَّسةِ على الأرضِ في الرَّصانةِ والإحكام ﴿تَجْرِى مِن تَحْتِهَا﴾ من تحت تلك الغرفِ ﴿الانهار﴾ من غيرِ تفاوتٍ بين العُلوِّ والسُّفلِ ﴿وَعَدَ الله﴾ مصدرٌ مؤكدٌ لقولِه تعالى لهم غُرف الخ فإنه وعدٌ وأيُّ وعدٍ ﴿لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد﴾ لاستحالتِه عليه سبحانه
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزل من السماء ماء﴾ استئنافٌ وارد إمَّا لتمثيلِ الحياة الدنيا في سرعة الزَّوالِ وقُرب الاضمحلالِ بما ذُكِرَ من أحوالِ الزَّرعِ ترغيباً عن زخارِفها وزينتها وتحذيراً من الاغترارِ بزَهرتِها كما في نظائرِ قولِه تعالى إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا الآيةَ أو للاستشهاد على تحقُّقِ الموعودِ من الأنهارِ الجاريةِ من تحت الغُرفِ بما يُشاهد من إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وما يترتبُ عليهِ من آثارِ قدرتهِ تعالى وأحكامِ حكمتِه ورحمتِه والمرادُ بالماءِ المطر وقيل كلُّ ماءٍ في الأرضِ فهو من السماء ينزل منها إلى الصَّخرةِ ثم يقسمُه الله تعالى بين البقاعِ ﴿فَسَلَكَهُ﴾ فأدخلَه ونظمه ﴿يَنَابِيعَ فِى الارض﴾ أي عُيوناً ومجاريَ كالعروقِ في الأجسادِ وقيل مياهاً نابعةً فيها فإنَّ الينبوعَ يطلقُ على المنبعِ والنَّابعِ فنصبها على الحالِ وعلى الأوَّلِ بنزعِ الجارِّ أي في ينابيعَ ﴿ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ﴾ أصنافُه من بُرَ وشعيرٍ وغيرهِما أو كيفانه من الألوانِ والطُّعومِ وغيرِهما وكلمة ثُم للتَّراخي في الرُّتبةِ أو الزَّمانِ وصيغةُ المضارع لاستحضار
249
الزمر ٢٢ الصُّورةِ ﴿ثُمَّ يَهِيجُ﴾ أي يتمُّ جفافُه ويشرف على أنْ يثورَ من منابتِه ﴿فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً﴾ من بعد خُضرتِه ونُضرتِه وقُرىء مُصفارَّا ﴿ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما﴾ فُتاتاً مُتكسِّرةً كأن لم يغنَ بالأمسِ ولكون هذه الحالةِ من الآثارِ القوَّيةِ عُلِّقت بجعلِ الله تعالى كالإخراجِ ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ إشارةٌ إلى ما ذُكر تفصيلاً وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتِه في الغَرابةِ والدِّلالةِ على ما قُصد بيانُه ﴿لِذِكْرِى﴾ لتذكيراً عظيماً ﴿لاِوْلِى الالباب﴾ لأصحابِ العقولِ الخالصةِ عن شوائبِ الخللِ وتنبيهاً لهم على حقيقةِ الحالِ يتذكَّرون بذلك أنَّ حالَ الحياةِ الدنيا في سرعة التقضى والانصرامِ كما يشاهدونَهُ من حال الحُطامِ كلَّ عامٍ فلا يغترُّون ببهجتِها ولا يُفتتنون بفتنتها أو يجزمون بأن مَن قدَر على إنزالِ الماءِ من السَّماءِ وإجرائِه في ينابيع الأرضِ قادرٌ على إجراءِ الأنهارِ من تحتِ الغُرفِ هذا وأمَّا مَا قيلَ إنَّ في ذلك لتذكيراً وتنبيهاً على أنَّه لا بُدَّ من صانعٍ حكيمٍ وأنه كائنٌ عن تقديرٍ وتدبيرٍ لا عن تعطيلٍ وإهمالٍ فبمعزلٍ من تفسيرِ الآيةِ الكريمةِ وإنَّما يليقُ ذلك بما لو ذُكرَ ما ذُكر من الآثارِ الجليلة والأفعالِ الجميلةِ من غيرِ إسنادٍ لها إلى مؤثِّرٍ ما فحيثُ ذُكرتْ مسندةً إلى الله عزَّ وجلَّ تعيَّن أنْ يكونَ متعلَّقُ التذكير والتنبيه شئونه تعالى أوشئون آثارِه حسبما بُيِّن لا وجودُه تعالى وقولُه تعالى
250
﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام﴾ الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التعليل لما قبله من تخصيصِ الذِّكرى بأولي الألبابِ وشرحُ الصَّدرِ للإسلامِ عبارةٌ عن تكميلِ الاستعدادِ له فإنه محلٌّ للقلبِ الذي هو منبعٌ للرُّوحِ التي تتعلَّقُ بها النَّفسُ القابلةُ للإسلامِ فانشراحُه مستدعٍ لاتِّساعِ القلبِ واستضاءتِه بنوره فإنه روي انه ﷺ قال إذا دخلَ النُّور القلبَ انشرحَ وانفسحَ فقيل فما علامةُ ذلك قال ﷺ الإنابةُ إلى دارِ الخُلودِ والتَّجافي عن دارِ الغُرور والتَّأهُّبُ للموتِ قبل نزولِه والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ كالذي مرَّ في قوله تعالى أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب وخبرُ مَن محذوفٌ لدلالةِ ما بعدَهُ عليه والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فَمْن شَرحَ الله صدرَهُ أي خلقَهُ متَّسعَ الصَّدرِ مُستعدَّاً للإسلامِ فبقي على الفطرةِ الأصليةِ ولم يتغير بالعوارض المكتسبة الفادحة فيها ﴿فَهُوَ﴾ بموجبِ ذلك مستقرٌّ ﴿على نُورٍ﴾ عظيم ﴿مّن رَّبّهِ﴾ وهو اللُّطفُ الإلهيُّ الفائضُ عليه عند مشاهدةِ الآياتِ التَّكوينيةِ والتَّنزيليةِ والتَّوفيقُ للاهتداءِ بها إلى الحقِّ كمَنْ قسا قلبُه وحَرِجَ صدره بسببِ تبديلِ فطرة الله بسوء اختباره واستولى عليه ظلمات الغي والضِّلالةِ فأعرضَ عن تلك الآياتِ بالكُلِّيةِ حتَّى لا يتذكَّر بها ولا يغتنمُها ﴿فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله﴾ أي من أجلِ ذكرهِ الذي حقُّه أنْ تنشرحَ له الصُّدورُ وتطمئنَّ به القلوبُ أي إذا ذُكر الله تعالى عندهم أو آياتُه اشمأزُّوا من أجلِه وازدادتْ قلوبُهم قساوةً كقولِه تعالى فزادْتُهم رجساً وقُرىء عَن ذكرِ الله أي عن قبولِه ﴿أولئك﴾ البعداء الموصوفون بما ذُكر من قساوةِ القلوب ﴿فِى ضلال﴾ بُعدٍ عن الحقِّ ﴿مُّبِينٌ﴾ ظاهر كونه ضلالاً لكلِّ أحدٍ قيلَ نزلتِ الآيةُ في حمزةَ وعلي رضي الله عنهما وأبي لهبٍ وولدِه وقيل في عمار بن
250
الزمر ٢٣ ياسر رضي الله عنه وأبي جهلٍ وذويه
251
﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ هو القرآنُ الكريمُ رُوي أنَّ أصحابَ رسولِ الله ﷺ ملُّوا ملَّةً فقالُوا له ﷺ حدثا حَديثاً وعن ابن مسعُودٍ وابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهم قالُوا لو حدَّثتنا فنزلتْ والمَعنى أنَّ فيه مندوحةً عن سائرِ الأحاديثِ وفي إيقاعِ الاسمِ الجليلِ مبتدأٌ وبناءِ نزَّل عليهِ من تفخيمِ أحسنِ الحديثِ ورفعِ محلَّه والاستشهادِ على حُسنِه وتأكيدِ استنادِه إليه تعالى وأنَّه من عندَه لا يمكنُ صدورُه عن غيرِه والتَّنبيهُ على أنَّه وحيٌ معجز مالا يخفى ﴿كتابا﴾ بدلٌ من أحسنَ الحديثِ أو حالٌ منه سواء اكتسبَ من المضاف اليه تعريفا اولا فإنَّ مساغَ مجيء الحالِ من النكرة المضافة اتفاقيٌّ ووقوعُه حالاً مع كونه اسما لاصفة إمَّا لاتَّصافِه بقولِه تعالى ﴿متشابها﴾ أو لكونِه في قوَّة مكتوباً ومعنى كونِه مُتشابهاً تشابُه معانيهِ في الصِّحَّةِ والأحكامِ والابتناءِ على الحق والصدق واستتباع منافعِ الخلقِ في المعادِ والمعاشِ وتناسب ألفاظِه في الفصاحةِ وتجاوبِ نظمِه في الإعجازِ ﴿مَّثَانِيَ﴾ صفةٌ أخرى لكتابا أو حال أُخرى منه وهو جمعُ مثنى بمعنى مردد ومكرَّرٍ لمَا ثُنِّي من قصصهِ وأنبائِه وأحكامِه وأوامرهِ ونواهيهِ ووعدِه ووعيدِه ومواعظِه وقيل لأنَّه يُثنَّى في التَّلاوةِ وقيل هو جمعُ مَثنى مَفْعل من التَّثنيةِ بمعنى التَّكريرِ والإعادةِ كما في قوله تعالى فارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي كرةً بعدَ كرَّةٍ ووقوعُه صفةً لكتاباً باعتبار تفاصيلهِ كما يُقال القرآن سورٌ وآياتٌ ويجوزُ أنْ ينتصبَ على التَّمييزِ من مُتشابهاً كما يُقال رأيتُ رجلاً حسناً شمائلَ أي شمائلُه والمعنى متشابهةٌ مثانية ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ قيل صفةٌ لكتاباً أو حالٌ منهُ لتخصُّصه بالصِّفةِ والأظهر أنَّه استئنافٌ مسوق لبيانِ آثارِه الظَّاهرةِ في سامعيهِ بعد بيانِ أوصافهِ في نفسِه ولتقريرِ كونِه أحسنَ الحديثِ والاقشعرارُ التَّقبضُ يقال اقشعرَّ الجلدُ إذا تقبَّضَ تقبُّضاً شَديداً وتركيبُه من القَشع وهو الأديمُ اليابسُ قد ضُمَّ إليه الرَّاءُ ليكونَ رُباعيَّا ودَالاًّ على معنى زائد يُقال اقشعرَّ جلدُه وقفَ شعرُه إذا عرضَ له خوفٌ شديدٌ من منكرٍ هائلٍ دهمه بغتة والمرادُ إمَّا بيانُ إفراطِ خشيتِهم بطريقِ التَّمثيلِ والتَّصويرِ أو بيانُ حصولِ تلك الحالةِ وعرُوضِها لهم بطريقِ التَّحقيقِ والمعني أنَّهم إذا سمعُوا القُرآنَ وقوارعَ آياتِ وعيده أصابتُهم هيبةٌ وخشيةٌ تقشعرُّ منها جلودُهم وإذا ذُكِّروا رحمةَ الله تعالى تبدَّلتْ خشيتُهم رجاءً ورهبتُهم رغبةً وذلكَ قولُه تعالى ﴿ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله﴾ أيْ ساكنةً مطمئنَّةً إلى ذكر رحمتِه تعالى وإنَّما لم يصرَّحْ بها إيذاناً بأنَّها أولُ ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى ﴿ذلك﴾ أي الكتابُ الذي شُرحَ أحوالُه ﴿هُدَى الله يَهْدِى بِهِ مَن يَشَآء﴾ أن يهديَه بصرف مقدورِه إلى الاهتداءِ بتأمُّلِه فيما في تضاعيفه من شواهدِ الحقِّية ودلائلِ كونِه من عند الله تعالى ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله﴾ أي يخلقُ فيه الضَّلالةَ بصرفِ قُدرته إلى مباديها وإعراضِه عمَّا يُرشده إلى الحقَّ بالكُلِّية وعدم تأثُّرِه بوعيدِه ووعده اصلا او
251
الزمر ٢٤ ٢٩ ومن يخذلْ ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ يُخلِّصه من ورطةِ الضَّلالِ وقيل ذَلِكَ الذي ذُكرَ من الخشيةِ والرَّجاءِ إثر هُداه تعالى يهدي بذلكَ الأثرِ مَن يشاءُ من عبادةِ ومَن يضلل أي من لم يُؤثِّر فيه لطفُه لقسوةِ قلبهِ وإصرارِه على فجوره فماله من هادٍ من مؤثِّرٍ فيه بشيءٍ قَطْ
252
﴿أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ﴾ الخ استئنافٌ جارٍ مجرى التَّعليلِ لما قبلَه من تباينِ حالَيْ المُهتدي والضَّالَّ والكلامُ في الهمزةِ والفاءِ وحذفِ الخبرِ كالذي مرَّ في نظيريهِ والتَّقديرُ أكلُّ النَّاسِ سواءٌ فمَن شأنُه أنَّه بقى نفسَه بوجههِ الذي هو أشرفُ أعضائِه ﴿سُوء العذاب﴾ أي العذابَ السَّيءِ الشَّديدَ ﴿يَوْمُ القيامة﴾ لكون يدهِ التي بها كان يتَّقي المكارَه والمخاوفَ مغلولةً إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا يحتاج إلى الاتّقاء بوجهٍ من الوجوهِ وقيل نزلتْ في أبي جهلٍ ﴿وَقِيلَ للظالمين﴾ عطف على يتقي ويقالُ لهم من جهةِ خَزَنةِ النَّارِ وصيغةُ الماضِي الدِلالة على التَّحقُّقِ والتقرّرِ وقيلَ هُو حالٌ من ضميرِ يتَّقي بإضمارِ قَدْ ووضع المُظهر في مقام المضمرِ للتَّسجيلِ عليهم بالظُّلم والإشعار بعلَّةِ الأمرِ في قوله تعالى ﴿ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ أي وبالَ ما كنتُم تكسبونَه في الدُّنيا على الدَّوامِ من الكفرِ والمعاصي
﴿كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ استئنافٌ مَسوقٌ لبيان ما أصابَ بعضَ الكفرةِ من العذابِ الدنيويِّ إثرَ بيانِ ما يُصيب الكلَّ من العذابِ الأخرويِّ أي كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم من الأممِ السَّالفةِ ﴿فأتاهم العذاب﴾ المقدَّرُ لكلَّ أمَّةٍ منهم ﴿مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ من الجهةِ التي لا يحتسبونَ ولا يخطرُ ببالِهم إتيانُ الشَّرِّ منها
﴿فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى﴾ أي الذُّلَّ والصَّغارَ ﴿فِى الحياة الدنيا﴾ كالمسخِ والخسفِ والقتلِ والسى والإجلاءِ ونحوِ ذلك من فنون النَّكالِ ﴿وَلَعَذَابُ الأخرة﴾ المعدِّ لهم ﴿أَكْبَرَ﴾ لشدَّتِه وسرمدينه ﴿لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ﴾ أي لو كانَ من شأنِهم أنْ يعلمُوا شيئاً لعلمُوا ذلكَ واعتبرُوا به
﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن مِن كُلّ مَثَلٍ﴾ يحتاجُ إليه النَّاظرُ في أمورِ دينِه ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ كي بتذكروا به ويتعظوا
﴿قرآنا عَرَبِيّاً﴾ حالٌ مؤكَّدةٌ من هذا على أنَّ مدارَ التَّأكيدِ هو الوصفُ كقولِك جاءني زيدٌ رَجُلاً صالِحاً أو مدحٌ له ﴿غَيْرَ ذِى عِوَجٍ﴾ لا اختلافَ فيه بوجهٍ من الوجوهِ فهُو أبلغُ من المستقيمِ وأخصُّ بالمعانِي وقيل المرادُ بالعوجِ الشَّكُّ ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ علَّة أُخرى مترتِّبةٌ على الأولى
﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فيه شركاء متشاكسون﴾
252
الزمر ٣٠ ٣١ لمثلٍ من الأمثالِ القُرآنيةِ بعد بيانِ أنَّ الحكمةَ في ضربِها هو التَّذكُّر والاتِّعاظُ بها وتحصيلُ التَّقوى والمرادُ بضربِ المثل هَهُنا تطبيقُ حالةٍ عجيبةٍ بأُخرى مثلِها وجعلِها مثلَها كما مر في سورة يس ومثلاً مفعولٌ ثانٍ لضربَ ورجلاً مفعولُه الأوَّلُ أُخِّر عن الثَّانِي للتَّشويقِ إليه وليتَّصلَ به ما هُو من تتمتِه التي هي العُمدةُ في التَّمثيلِ وفيه ليسَ بصلةٍ لشركاءِ كما قيل بل هُو خبرٌ له وبيانُ أنَّه في الأصلِ كذلكَ مَّما لا حاجةَ إليهِ والجملةُ في حيز النصبِ على أنه وصفٌ لرجلاً أو الوصفُ هو الجارُّ والمجرورُ وشركاء مرتفعٌ به على الفاعليةِ لاعتمادِه على الموصوفِ فالمعنى جعلَ الله تعالى مثلاً للمشركِ حسبَما يقودُ إليهِ مذهبُه من ادَّعاءِ كلَ معبوديه عبوديتَه عبداً يتشاركُ فيه جماعة يتجاذبونه ويتعاورُونه في مهمَّاتهم المتباينةِ في تحيُّرِه وتوزُّعِ قلبه ﴿وَرَجُلاً﴾ أي وجعل للموحِّد مثلاً رجلا ﴿سلما﴾ أي خالصاً ﴿لِرَجُلٍ﴾ فردٍ ليس لغيره عليه سبيل اصلا وقرىء سلما بفتح السين وكسرِها مع سكون الَّلامِ والكُلُّ مصادرٌ من سَلِم له كذا أي خلص نعت بها مبالغةً أو حُذف منها ذُو وقِرىء سالماً وسالم أي وهناك رجلٌ سالم وتخصيصُ الرَّجُلِ لأنَّه أفطن لما يجري عليه من الضُّرِّ والنَّفعِ ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ إنكارٌ واستبعاد لاستوائِهما ونفيٌ له على أبلغِ وجهٍ وآكدِه وإيذانٌ بأنَّ ذلك من الجلاء والظُّهور بحيثُ لا يقدرُ أحدٌ أنْ يتفوَّه باستوائِهما أو يتلعثم في الحُكم بتباينهما ضرورةَ أنَّ أحدهما في أعلى عِلِّيِّينَ والآخرُ في أسفلِ سافلينَ وهو السِّرُّ في إبهام الفاضلِ والمفضولِ وانتصاب مثلاً على التَّمييزِ أي هل يستوي حالاهُما وصفتاهُما والاقتصارُ في التَّمييزِ على الواحد لبيان الجنسِ وقُرىء مَثَلين كقوله تعالى اكثر اموالا واولادا باختلاف النَّوعِ أو لأنَّ المرادَ هل يستويانِ في الوصفين على أنَّ الضَّميرَ للمثلينِ لأنَّ التَّقديرَ مَثَلُ رجلٍ فيه الخ ومَثَلُ رجلٍ الخ وقولُه تعالى ﴿الحمد للَّهِ﴾ تقريرٌ لما قبلَهُ من نفيِ الاستواءِ بطريقِ الاعتراضِ وتنبيهٌ للموحِّدين على ان مالهم من المزَّيةِ بتوفيقِ الله تعالى وأنَّها نعمةٌ جليلةٌ موجبة عليهم ان يداموا على حمدِه وعبادتِه أو على أنَّ بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السَّوء صنعٌ جميلٌ ولطفٌ تامٌّ منه عزَّ وجلَّ مستوجبٌ لحمدِه وعبادتِه وقولُه تعالى ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ إضرابٌ وانتقالٌ منِ بيانِ عدمِ الاستواءِ على الوجهِ المذكورِ إلى بيانِ ان اكثر الناس هم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمالِ ظُهورِه فيبقون في ورطةِ الشِّركِ والضَّلالِ وقولُه تعالَى
253
﴿إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ﴾ تمهيدٌ لما يعقُبه من الاختصامِ يوم القيامةِ وقُرىء مائتٌ ومائتونَ وقيل كانُوا يتربصون برسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم موتَه أي إنَّكم جميعاً بصددِ الموتِ
﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ﴾ أي مالكِ أمورِكم ﴿تَخْتَصِمُونَ﴾ فتحتجُّ أنتَ عليهم بأنَّك بلَّغتهم مَّا أُرسلتَ بِهِ من الأحكام والمواعظ التي من جُملتها ما في تضاعيف هذه الآياتِ واجتهدتَ في الدَّعوةِ إلى الحقَّ حقَّ الاجتهادِ وهم قد لجُّوا في المُكابرة والعناد وقيل المرادُ به الاختصامُ العامُّ الجاري في الدُّنيا بين الأنامِ والأولُ هو الأظهرُ الأنسبُ بقوله
253
الزمر ٣٢ ٣٥ تعالى
254
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ علَى الله﴾ فإنَّه إلى آخرهِ مسوقٌ لبيانِ حال كلَ من طرفَيْ الاختصامِ الجاري في شأن الكفرِ والإيمانِ لا غيرُ أي أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ مَنِ افترى على الله سبحانه وتعالى بأنْ أضافَ إليه الشَّريكَ والولد ﴿وَكَذَّبَ بالصدق﴾ أي بالأمرِ الذي هو عينُ الحقِّ ونفسُ الصِّدقِ وهو ما جاءَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ﴿إِذْ جَاءهُ﴾ أي في أوَّلِ مجيئهِ من غير تدبُّرٍ فيه ولا تأمُّلٍ ﴿أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين﴾ أي لهؤلاءِ الذين افترَوا على الله سبحانه وسارعُوا إلى التَّكذيبِ بالصَّدقِ من أوَّلِ الأمرِ والجمعُ باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضَّمائرِ السَّابقةِ باعتبار لفظها أو لجنسِ الكَفَرةِ وهم داخلون في الحكم دخولا أوَّليَّاً
﴿والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ الموصولُ عبارةٌ عن رسول الله ﷺ ومَن تبعه كما أنَّ المرادَ في قولِه تعالى وَلَقَدْ آتينا موسى الكتاب لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ هو عليه الصلاة والسلام وقومه وقيل عن الجنس المتناول المرسل والمؤمنين بهم ويؤيِّدُه قراءةُ ابنِ مسعود رضي الله عنه والذين جَاءُوا بالصَّدقِ وصدَّقُوا به وقيل هو صفة لموصوفٍ محذوف هو الفَوجُ او الفريق ﴿أولئك﴾ الموصوفون بما ذكر من المجيء بالصَّدقِ والتصديق به ﴿هُمُ المتقون﴾ المنعوتُون بالتَّقوى التي هي أجلُّ الرَّغائبِ وقُرىء وصدَق به بالتَّخفيفِ أي صدَقَ بهِ النّاسَ فأدَّاه إليهم كما نزل عليه من غيرِ تغيير وقيل وصارَ صادقاً به أي بسببهِ لأنَّ ما جاء به من القرآنُ معجزةٌ دالة على صدقه ﷺ وقُرىء صُدِّق به على البناء للمفعول
﴿لهم ما يشاؤون عِندَ رَبّهِمْ﴾ بيانٌ لما لَهُمْ فِى الآخرة من حسنِ المآبِ بعد بيانِ مالهم في الدنيا من محاسنِ الأعمالِ أي لهم كلُّ ما يشاءون من جلبِ المنافعِ ودفعِ المضارِّ في الآخرةِ لا في الجنَّةِ فقط لِما أن بعضَ ما يشاءونه من تكفير السَّيئاتِ والأمن من الفَزَع الأكبرِ وسائرِ أهوال القيامةِ إنَّما يقع قبل دخولِ الجنَّةِ ﴿ذَلِكَ﴾ الذي ذُكر من حصول كل ما يشاءونه ﴿جَزَاء المحسنين﴾ أي الذينَ أحسنُوا أعمالَهم وقد مرَّ تفسيرُ الإحسان غيرَ مرَّةٍ وقوله تعالى
﴿لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ﴾ الخ متعلِّقٌ بقوله تعالى لهم ما يشاءون لكن لا باعتبارِ منطوقِه ضرورةَ أنَّ التَّفكيرَ المذكور لا يُتصوَّرُ كونُه غايةً لثبوت ما يشاءون لهم في الآخرةِ كيف لا وهو بعضُ ما سيثبُتُ لهم فيها بل باعتبارِ فحواه فإنَّه حيثُ لم يكن إخباراً بما ثبت لهم فيما مَضَى بل بما سيثبت لهم فيما سيأتِي كان في معنى الوعدِ به كما مرَّ في قوله تعالى وَعَدَ الله فإنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لما قبلَهُ من قولِه تعالى لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ فإنَّه في معنى وَعَدَهم الله غُرفاً فانتصبَ به وعدُ الله كأنه قيل
254
الزمر ٣٦ ٣٧ وَعَدَهم الله جميعَ ما يشاءونه من زوالِ المضارِّ وحصول المسارِّ ليكفِّرَ عنهم بموجب ذلك الوعدِ أسوأَ الذي عملوا دفعاً لمضارِّهم ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ إعطاء لمنافِعهم وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لإبرازِ كمالِ الاعتناءِ بمضمون الكلامِ وإضافةُ الا الأسوأِ والأحسنِ إلى ما بعدهما ليستْ من قبيل إضافةِ المفضَّلِ إلى المفضَّل عليه بل من إضافةِ الشَّيءِ إلى بعضِه للقصد إلى التَّحقيقِ والتَّوضيحِ من غير اعتبارِ تفضيلِه عليه وإنَّما المُعتبر فيهما مطلقُ الفضلِ والزَّيادةِ لا على المضاف إليه المعيِّنِ بخصوصه كما في قولهم الناقص والاشج اعد لانني مَرْوانَ خلا أنَّ الزِّيادة المعتبرةَ فيهما ليست بطريقِ الحقيقةِ بل هي في الأوَّلِ بالنَّظرِ إلى ما يليقُ بحالِهم من استعظامِ سيِّئاتِهم وإن قلَّتْ واستصغارِ حسناتِهم وإنْ جلَّتْ والثَّاني بالنَّظرِ إلى لُطفِ أكرمِ الأكرمينَ من استكثارِ الحسنةِ اليسيرةِ ومقابلتها بالمثُوباتِ الكثيرةِ وحمل الزيادة على الحقيقةِ وإن أمكنَ في الأوَّلِ بناءً على أنَّ تخصيصَ الأسوأِ بالذَّكرِ لبيان تكفيرِ ما دُونَه بطريقِ الأولويَّةِ ضرورةَ استلزامِ تكفيرِ الأسوأ لتكفير السَّيِّءِ لكن لمَّا لم يكُن ذلك في الأحسنِ كان الأحسنُ نظمَهما في سلكٍ واحدٍ من الاعتبار والجمعُ بين صيغتَيْ الماضِي والمستقبلِ في صلةِ الموصولِ الثَّاني دون الأوَّلِ للإيذانِ باستمرارهم على الأعمالِ الصَّالحةِ بخلاف السَّيئةِ
255
﴿أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ إنكارٌ ونفيٌ لعدم كفايته تعالى على أبلغِ وجهٍ وآكدِه كأن الكفاية من التَّحقُّقِ والظُّهورِ بحيثُ لا يقدِرُ أحدٌ على أن يتفوَّه بعدمِها أو يتلعثم في الجوابِ بوجودِها والمرادُ بالعبدِ إمَّا رسولُ الله ﷺ أو الجنسُ المنتظمُ له عليه السلام انتظاما أوليا ويُؤيده قراءةُ مَن قرأَ عبادَهُ وفُسِّر بالأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ وكذا قراءةُ من قرأ بكافي عبادِه على الاضافة ويكافىء عباده صيغة المُغالبةِ إمَّا من الكِفايةِ لإفادة المبالغة فيها وإمَّا من المُكافأةِ بمعنى المُجازاة وهذه تسليةٌ لرسولِ الله ﷺ عمَّا قالت له قُريشٌ إنَّا نخاف أنْ تخبلَك آلهتُنا ويصيبَك مضرَّتُها لعيبكِ إيَّاها وفي روايةٍ قالُوا لتكُفَنَّ عن شتمِ آلهتِنا أو ليصيبنَّكَ منهم خَبَلٌ أو جنونٌ كما قال قومُ هودٍ إنْ نقولُ إلا اعتراك بعض آلهتا بسوءٍ وذلك قوله تعالى ﴿وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ﴾ أي الأوثانِ التي اتَّخذوها آلهةٌ مِن دُونِهِ تعالى والجملةُ استئنافٌ وقيل حالٌ ﴿وَمَن يُضْلِلِ الله﴾ حتَّى غفل عن كفايتِه تعالى وعصمته له ﷺ وخوفه بما لاينفع ولايضر أصلاً ﴿فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ يهديه إلى خيرٍ ما
﴿وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِنْ مُّضِلّ﴾ يصرفُه عن مقصدِه أو يُصيبه بسوءٍ يخلُّ بسلوكِه إذ لا رادَّ لفعلِه ولا معارضَ لإرادتِه كما ينطقُ به قولُه تعالى ﴿أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ﴾ غالبٍ لا يُغالبُ منيعٍ لا يُمانعُ ولا يُنازعُ ﴿ذِى انتقام﴾ ينتقمُ من أعدائِه لأوليائِه وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقعِ الإضمارِ لتحقيقِ مضمونِ الكلام وتربية المهابة
255
الزمر
256
٣٨ - ٤٢ ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ لوضوحِ الدَّليلِ وسنوح السَّبيلِ ﴿قُلْ﴾ تبكيتاً لهُم ﴿أَفَرَايْتُم مَّا تدعون من دون الله إن أرادنى الله بضر هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ﴾ أي بعد ما تحقَّقتُم أنَّ خالق العالم العلويَّ والسُّفليِّ هو الله عزَّ وجلَّ فأخبروني أن آلهتَكم إن أرادنى الله بضر هل يكشفنَ عنِّي ذلك الضُّرِّ ﴿أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ﴾ أي أو أرادني بنفعٍ ﴿هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ﴾ فيمنعنها عنى وقرئ كاشفاتٌ ضرَّه وممسكاتٌ رحمتَه بالتَّنوينِ فيهما ونصبِ ضُرِّه ورحمته وتعليق إرادة الضُّرَّ والرَّحمةِ بنفسه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ للردِّ في نحورِهم حيث كانُوا خوّفوه معرَّةَ الأوثانِ ولما فيه من الإيذانِ بإمحاضٍ النَّصيحةِ ﴿قُلْ حَسْبِىَ الله﴾ أي في جميعِ أموري من إصابةِ الخير ودفعِ الشَّرِّ رُوي انه ﷺ لمَّا سألهم سكتُوا فنزلَ ذلك ﴿عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾ لا على غير أصلاً لعلمهم بأنَّ كلَّ ما سواه تحت ملكوتِه تعالى
﴿قل يا قوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ على حالتِكم التي أنتمُ عليها من العداوة التي تمكَّنتُم فيها فإنَّ المكانة تُستعار من العَين للمعنى كما تُستعار هُنا وحَيثُ للزَّمانِ مع كونهما للمكان وقرئ على مكاناتِكم ﴿إِنّى عامل﴾ أي على مكانتِي فحذف للاختصار والمبالغةِ في الوعيدِ والاشعارِ بأنَّ حالَه لا تزال تزداد قوَّةً بنصر الله عزَّ وجلَّ وتأييدِه ولذلك توعَّدهم بكونه منصُوراً عليهم في الدَّارينِ بقوله تعالى ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
﴿مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ فإنَّ خِزي أعدائِه دليلُ غلبتِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وقد عذَّبهم الله تعالى وأخزاهم يومَ بدرٍ ﴿وَيَحِلُّ عليه عَذَابٌ مُّقِيمٌ﴾ أي دائمٌ هو عذابُ النَّارِ
﴿أنا أنزلنا عليك الكتاب لِلنَّاسِ﴾ لأجلِهم فإنَّه مناطُ مصالحِهم في المعاشِ والمعادِ ﴿بالحق﴾ حالٌ من فاعلِ أنزلَنا أو من مفعولِه ﴿فَمَنُ اهتدى﴾ بأنْ عملَ بما فيه ﴿فَلِنَفْسِهِ﴾ أي إنَّما نفعَ به نَفسه ﴿وَمَن ضَلَّ﴾ بأنْ لم يعمل بموجبِه ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ لما أنَّ وبالَ ضلاله مقصورٌ عليها ﴿وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ﴾ لتُجبرَهم على الهدى وما وظيفتك إلاَّ البلاغُ وقد بلَّغت أيَّ بلاغٍ
﴿الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا﴾ أي يقبضِها من الابدان
256
الزمر ٤٣ ٤٥ بأنْ يقطع تعلُّقها عنها وتصرُّفها فيها إمَّا ظاهراً وباطناً كما عند الموتِ أو ظاهراً فقط كما عند النَّومِ ﴿فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت﴾ ولا يردها الى البدن وقرئ قُضِيَ على البناءِ للمفعولِ ورفعِ الموتَ ﴿وَيُرْسِلُ الاخرى﴾ أي النَّائمةَ إلى بدنها عند التَّيقظِ ﴿إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ هو الوقت المضروب لموتِه وهو غاية لجنس الإرسال الواقعِ بعد الإمساكِ لا لفردٍ منه فإنَّ ذلك مَّما لا امتدادَ فيه ولا كميَّة وما روي عن ابن عباس رضيَ الله عنهما أنَّ في ابنِ آدمَ نَفساً وروحا بينهما مثل شعاع الشَّمسِ فالنفسُ هي التي بها العقل والتميير والرُّوحُ هي التي بها النَّفَسُ والتَّحركُ فتتوفيان عند الموتِ وتُتوفى النَّفسُ وحدَها عند النَّوم قريبٌ مَّما ذُكر ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ أي فيما ذكر من التَّوفِّي على الوجهينِ والإمساكِ في أحدِهما والإرسالِ في الآخرِ ﴿لاَيَاتٍ﴾ عجيبةً دالَّةً عَلى كمالِ قدرتِه تعالى وحكمته وشمول رحمتِه ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ في كيفَّيةِ تعلُّقِها بالإبدان وتوفِّيها عنها تارة بالكُلَّيةِ كما عند الموت وإمساكها باقيةً لا تفنى بفنائِها وما يعتريها من السَّعادةِ والشَّقاوةِ وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النَّومِ وإرسالها حيناً بعد حينٍ إلى انقضاءِ آجالِها
257
﴿أَمِ اتخذوا﴾ أي بل أتَّخذ قُريشٌ ﴿مِن دُونِ الله﴾ مِن دُون إذنِه تعالى ﴿شُفَعَاء﴾ تشفعُ لهم عنده تعالى ﴿قُلْ أَوَلَوْ كانوا لا يملكون شيئا وَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ الهمزةُ لإنكار الواقعِ واستقباحِه والتَّوبيخِ عليه أي قل أتَّتخذونهم شفعاءَ ولو كانُوا لا يملكون شيئاً من الأشياء ولا يعقلونَه فضلاً عن أنْ يملكوا الشَّفاعةَ عندَ الله تعالَى أو هي لإنكارِ الوقوع ونفيه على أنَّ المرادَ بيانُ أن ما فعلوا ليس من اتخاذ الشفعاء في شئ لأنَّه فرعُ كونِ الأوثان شفعاءَ وذلك أظهرُ المحالاتِ فالمقدَّر حينئذٍ غيرُ ما قُدِّر أوَّلاً وعلى أي تقدير كان فالوا للعطفِ على شرطيةٍ قد حذفت لدلالة المذكورةِ عليها أي أيشفعون لو كانُوا يملكون شيئاً ولو كانُوا لا يملكون الخ وجوابُ لو محذوفٌ لدلالةِ المذكور عليه وقد مرَّ تحقيقُه مراراً
﴿قُلْ﴾ بعد تبكيتِهم وتجهيلِهم بما ذُكر تحقيقاً للحقِّ ﴿لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً﴾ أي هو مالُكها لا يستطيعُ أحدٌ شفاعةً ما إلاَّ أن يكونَ المشفوعُ له مرتضى والشفيعع مأذوناً له وكلاهما مفقودٌ ههنا وقولُه تعالى ﴿لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض﴾ تقريرٌ له وتأكيدٌ أي له ملكُهما وما فيهما من المخلوقاتِ لا يملك أحدٌ أنْ يتكلَّم في أمرٍ من أمورِه بدونِ إذنِه ورضاه ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ يومَ القيامةِ لا إلى أحدٍ سواهُ لا استقلالاً ولا اشتراكاً فيفعل يومئذ ما يريدُ
﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ﴾ دون آلهتِهم ﴿اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالأخرة﴾ أي انقبضتْ ونَفَرتْ كما في قولِه تعالى وَإِذَا ذكر رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ ولوا على أدبارهم نفورا ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ﴾ فُرادى أو مع ذكرِ الله تعالى ﴿إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ لفرطِ افتتانهم بها ونسيانِهم حقَّ الله تعالى ولقد بُولغ في بيان حالَيهم القبيحتينِ حيثُ
257
الزمر ٤٦ ٤٩ بيّن الغايةُ فيهما فإنَّ الاستبشار هو أن يمتلئ القلبَ سُروراً حتَّى ينبسطَ له بَشَرةُ الوجهِ والاشمئزازُ أن يمتلئ غيظاً وغمَّا ينقبضُ منه أديمُ الوجهِ والعاملُ في إذا الأولى اشمأزَّت وفي الثَّانيةِ ما هو العاملُ في إذَا المفاجأةِ تقديرُه وقتَ ذكرِ الذين من دُونه فاجأوا وقتَ الاستبشارِ
258
﴿قل اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة﴾ أي التجئ إليه تعالى بالدُّعاءِ لما تحيَّرتَ في أمر الدَّعوةِ وضجرت من شدةِ شكيمتِهم في المُكابرة والعناد فإنَّه القادرُ على الأشياء بجُملتها والعالمُ بالأحوال بُرمَّتِها ﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي حُكماً يُسلِّمه كلُّ مكابرٍ معاند ويخضعُ له كلُّ عاتٍ مارد وهو العذابُ الدنيويُّ أو الأخرويُّ وقولُه تعالى
﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً﴾ إلخ كلامٌ مستأنفٌ مسوقٌ لبيان آثارِ الحُكمِ الذي استدعاه النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم وغايةِ شدَّتِه وفظاعتِه أي لو أنَّ لهم جميعَ ما في الدُّنيا من الأموال والذَّخائرِ ﴿وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سُوء العذاب يَوْمَ القيامة﴾ أي لجعلُوا كلَّ ذلك فديةً لأنفسِهم من العذاب الشَّديدِ وهيهاتَ ولاتَ حينَ مناصٍ وهذا كما ترى وعيدٌ شديد وإقناط لهم من الخلاصِ
﴿وَبَدَا لَهُمْ مّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ أي ظهرَ لهم من فُنون العقوباتِ ما لم يكن في حسابهم وهذه غاية من الوعيد لا غاية وراءها ونظيره في الوعد قولُه تعالى فَلاَ تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قرة أعين ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ سيئات أعمالِهم أو كسبِهم حين تُعرض عليهم صحائفهم ﴿وَحَاقَ بِهِم مَا كَانُواْ بِهِ يستهزؤون﴾ أي أحاطَ بهم جزاؤُه
﴿فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا﴾ إخبارٌ عن الجنسِ بما يفعله غالبُ أفرادِه والفاءُ لترتيب ما بعدها من المناقضةِ والتَّعكيسُ على ما مرَّ من حالتيهم القبيحتينِ وما بينهما اعتراضٌ مؤكِّدٌ للإنكار عليهم أي أنَّهم يشمئزُّون عن ذكرِ الله تعالى وحدَهْ ويستبشرون بذكرِ الآلهةِ فإذا مسَّهم ضُرٌّ دَعَوا مَن اشمأزُّوا عن ذكره دون مَن استبشرُوا بذكرِه ﴿ثُمَّ إِذَا خولناه نِعْمَةً مّنَّا﴾ أعطيناهُ إياها تفصلا فإنَّ التَّخويل مختصٌ به لا يُطلق على ما أُعطي جزاءً ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ﴾ أي على علم منِّي بوجوهِ كسبه أو أبى فأعطاه لما لي من الاستحفاق أو على علمٍ من الله تعالى بي وباستحقاقي والهاءُ لِمَا أنْ جُعلتْ موصولةً وإلاَّ فلِنعمةً والتَّذكيرُ لما أن المراد شئ نعمة ﴿بَلْ هِىَ فِتْنَةٌ﴾ أي محنةٌ وابتلاءٌ له أيشكرُ
258
الزمر ٥٠ ٥٣ أم يكفرُ وهو ردٌّ لما قاله وتغييرُ السَّبكِ للمبالغة فيهِ والإيذانِ بأنَّ ذلك ليس من باب الإيتاء المنبئ عن الكرامةِ وإنَّما هو أمر مباين له بالكُلِّيةِ وتأنيثُ الضَّميرِ باعتبار لفظ النِّعمةِ أو باعتبار الخبر وقرئ بالتَّذكيرِ ﴿ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أن الأمر كذلك وفيه دلالة على أن المراد بالإنسانِ هو الجنسُ
259
﴿قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ الهاء لقوله إنَّما أُوتيته على علمٍ لأنَّها كلمة أو جملة وقرئ بالتَّذكيرِ والموصول عبارةٌ عن قارونَ وقومِه حيثُ قال إنما أوتيته على علم عندي وهم راضُون به ﴿فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ من متاعِ الدُّنيا ويجمعون منه
﴿فأصابهم سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ جزاءُ سيِّئاتِ أعمالِهم أو أجزبة ما كسبُوا وتسميتها سيِّئاتٍ لأنَّها في مقابلة سيِّئاتِهم وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا ﴿والذين ظَلَمُواْ مِنْ هَؤُلاَء﴾ المشركين ومِن للبيان أو للتَّبعيضِ أي أفرطوا في الظُّلم والعُتوِّ ﴿سَيُصِيبُهُمْ سَيّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ من الكُفر والمعاصي كا أصاب أولئك والسِّينُ للتَّأكيدِ وقد أصابهم أيَّ إصابةٍ حيثُ قحطوا سبعَ سنين وقُتل صناديدُهم يومَ بدرٍ ﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ أي فائنين
﴿أولم يَعْلَمُواْ﴾ أي أقالُوا ذلك ولم يعلمُوا أو أَغفلُوا ولم يعلمُوا ﴿أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء﴾ أنْ يبسطَه له ﴿وَيَقْدِرُ﴾ لمن يشاء أن يقدرَه له من غيرِ أن يكون لأحدٍ مدخلٌ ما في ذلك حيثُ حبسَ عنهم الرِّزقَ سبعاً ثم بسطَه لهم سبعاً ﴿إِنَّ فِى ذَلِكَ﴾ الذي ذكر ﴿لاَيَاتٍ﴾ دالَّةً على أنَّ الحوادثَ كافَّةً من الله عزَّ وجلَّ ﴿لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ إذ هم المستدلُّون بها على مدلولاتها
﴿قُلْ يا عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ أي أفرطُوا في الجنايةِ عليها بالإسرافِ في المعَاصي وإضافةُ العبادِ تخصصه بالمؤمنين على ما هو عرف القرآن الكريم ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ أي لا تيأسُوا من مغفرته أولاً ولا تفضُّلِه ثانياً ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ عفواً لمن يشاءُ ولو بعد حينٍ بتعذيب في الجملة وبغيره حسبما يشاء وتقييده بالتَّوبةِ خلاف الظَّاهرِ كيف لا وقوله تعالى إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ظاهرٌ في الإطلاقِ فيما عدا الشِّركَ وممَّا يدلُّ عليه التَّعليلُ بقوله تعالى ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ على المبالغة وإفادةِ الحصرِ والوعد بالرَّحمةِ بعد المغفرة وتقديمُ ما يستدعي عمومَ المغفرة في عبادي من الدِّلالةِ على الذِّلَّةِ والاختصاص المقتضيينِ للتَّرحم وتخصيصُ ضررِ الإسرافِ بأنفسهم والنَّهيُ عن القُنوطِ مطلقاً عن الرَّحمةِ فضلاً عن المغفرة وإطلاقِها وتعليلهُ بأنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ ووضعُ الاسمِ الجليلِ موضعَ
259
الزمر ٥٤ ٥٩ الضَّميرِ لدلالتهِ على أنَّه المستغنِي والمنعمُ على الإطلاقِ والتأكيد بالجميعِ وما رُوي من أسبابِ النُّزولِ الدَّالَّةِ على ورود الآيةِ فيمن تابَ لا يقتضِي اختصاصَ الحكم بهم ووجوبُ حملِ المطلقِ على المقيِّد في كلامِ واحدٍ مثل أكرمِ الفضلاء أكرمِ الكاملينَ غيرُ مسلَّمٍ فكيف فيما هو بمنزلةِ كلامٍ واحدٍ ولا يخلُّ بذلك الأمرُ بالتَّوبةِ والإخلاصِ في قوله تعالى
260
﴿وَأَنِيبُواْ إلى رَبّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تنصرون﴾ اذ ليسَ المدَّعَى أنَّ الآيةَ تدلُّ على حصولِ المغفرةِ لكل أحدٍ من غير توبةٍ وسبقِ تعذيبٍ لتُغنيَ عن الأمرِ بهما وتُنافي الوعيدَ بالعذابِ
﴿واتبعوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ﴾ أي القرآنَ أو المأمورَ به دون المنهيِّ عنه أو العزائمَ دون الرُّخصِ أو النَّاسخَ دون المنسوخِ ولعلَّه ما هو أنجى وأسلم كالإنابةِ والمواظبةِ على الطَّاعةِ ﴿من قبل أن يأتيكم العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ بمجيئِه لتتداركوا وتتأهَّبوا له
﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ﴾ أي كراهةَ أنْ تقولَ والتَّنكيرُ للَّتكثيرِ كما في قولِه تعالى عملت نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ فإنَّه مسلكٌ ربَّما يسلك عند إرادة التكثيرِ والتَّعميمِ وقد مرَّ تحقيقُه في مطلع سورة الحجر ﴿يا حسرتى﴾ بالألفِ بدلاً من ياءِ الإضافةِ وقُرىء يا حسرتَاه بهاء السَّكتِ وقفاً وقُرىء ياحسرتاي بالجمعِ بين العوضينِ وقُرىء ياحسرتي على الأصلِ أي احضُرِي فهذا او ان حُضورِك ﴿على مَا فَرَّطَتُ﴾ أي على تفريطي وتقصيرِي ﴿فِى جَنبِ الله﴾ أي جانبه وفي حقَّه وطاعتِه وعليهِ قولُ مَن قالَ... أَمَا تتَّقينَ الله في جنبِ وامق... لَه كَبدٌ حَرَّى وَعَينٌ ترقرقُ...
وهو كنايةٌ فيها مبالغة وقيل في ذاتِ الله على تقديرِ مضافٍ كالطَّاعة وقيل في قُربِه من قوله تعالى والصاحب بالجنب وقُرىء في ذكرِ الله ﴿وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين﴾ أي المُستهزئين بدينِ الله تعالى وأهلِه ومحلُ الجملةِ النصبُ على الحالِ أي فرَّطتُ وأنا ساخرٌ
﴿أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِى﴾ بالإرشاد إلى الحقِّ ﴿لَكُنتُ مِنَ المتقين﴾ الشِّركَ والمعاصيَ
﴿أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لو أن لي كَرَّةٌ﴾ رجعةً إلى الدُّنيا ﴿فَأَكُونَ مِنَ المحسنين﴾ في العقيدةِ والعملِ وأو للدِّلالةِ على أنَّها لا تخلُو عن هذه الأقوالِ تحسُّراً وتحيُّراً وتعلُّلاً بما لا طائل تحته وقولُه تعالى
﴿بلى قد جاءتك آياتي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين﴾ ردُّ من الله تعالى عليه لما تضمَّنه قولُه لو أنَّ الله هداني من معنى النفي
260
الزمر ٦٠ ٦٣ وفضله عنه لما أنَّ تقديمَه يفرقُ القرائنَ وتأخيرُ المردودِ يخلُّ بالتَّرتيب الوجوديِّ لأنَّه يتحسَّرُ بالتَّفريطِ ثم يتعلَّلُ بفقدِ الهدايةِ ثم يتمنَّى الرَّجعةَ وهو لا يمنعُ تأثيرَ قُدرةِ الله تعالى في فعلِ العبدِ ولا ما فيه من إسنادِ الفعلِ إليه كما عرفتَ وتذكيرُ الخطابِ باعتبار المَعنْى وقُرىء بالتَّأنيثِ
261
﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله﴾ بأنْ وصفُوه بما لا يليقُ بشأنِه كاتِّخاذ الولدِ ﴿وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ بما ينالهم من الشِّدَّةِ أو بما يتخيَّلُ عليها من ظُلمة الجهل والجملةُ حالٌ قد اكتفُي فيها بالضَّميرِ عن الواوِ على أنَّ الرُّؤيةَ بصريةٌ أو مفعولٌ ثانٍ لها على أنَّها عِرفانيةٌ ﴿أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى﴾ أي مقامٌ ﴿لّلْمُتَكَبّرِينَ﴾ عن الإيمانِ والطَّاعةِ وهو تقريرٌ لما قبلَهُ من رُؤيتهم كذلك
﴿وَيُنَجّى الله الذين اتقوا﴾ الشِّركَ والمعاصيَ أي من جهنَّم وقُرىء يُنْجِي من الإنجاء ﴿بِمَفَازَتِهِمْ﴾ مصدرٌ ميميٌّ إما من فاز بالمطلوب أي ظفر به والباءُ متعلقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ من الموصول مفيدةٌ لمقارنة تنجيتهم من العذاب لنيلِ الثَّواب أي ينجَّيهم الله تعالى من مَثْوى المتكبِّرينَ ملتبسين بفوزِهم بمطلوبِهم الذي هو الجنَّةُ وقوله تعالى ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السوء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ إمَّا حالٌ أخرى منَ الموصولِ أو مِنْ ضميرِ مفازتِهم مفيدةٌ لكون نجاتِهم أو فوزِهم بالجنة غيرَ مسبوقةٍ بمساس العذاب والحزن وإمَّا من فازَ منه أي نجا منه والباء للملابسة وقوله تعالى لاَ يَمَسُّهُمُ إلى آخرِه تفسيرٌ وبيانٌ لمفازتِهم أي ينجَّيهم الله تعالى ملتبسين بنجاتِهم الخاصَّةِ بهم أي بنفي السُّوءِ والحُزنِ عنهم أو للسَّببيةِ إما على حذفِ المضافِ أي ينجيِّهم بسبب مفازتهم التي هي تقواهم كما يُشعِرُ به إيرادُه في حيِّزِ الصلةِ وإمَّا على إطلاقِ المفازةِ على سببها الذي هو التَّقوى وليس المرادُ نفيَ دوام المساسِ والحزن بل دوامَ نفيهما كما مرَّ مراراً
﴿الله خالق كُلّ شَىْء﴾ من خيرٍ وشرَ وإيمان وكفر لكن لا بالجَبْرِ بل بمباشرة الكاسب لأسبابِها ﴿وَهُوَ على كُلّ شَىْء وَكِيلٌ﴾ يتولَّى التَّصرُّفَ فيه كيفما يشاء
﴿له مقاليد السماوات والأرض﴾ لا يملك أمرَها ولا يتمكَّن من التَّصرُّفَ فيها غيرُه وهو عبارة عن قُدرته تعالى وحفظِه لها وفيها مزيدُ دلالةٍ على الاستقلالِ والاستبداد لأنَّ الخزائن لا يدخُلها ولا يتصرَّفُ فيها إلا من بيده مفاتيحها وهو جميع مِقْليدٍ أو مِقلادٍ من قلدته اذا الزمته وقبل جمعُ إقليدٍ معرَّبُ كَلِيدٍ على الشُّذوذِ كالمذاكيرِ وعن عثمانُ رضيَ الله عنْهُ أنَّه سأل النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلم عن المقاليد فقال ﷺ تفسيرُها لا إلَه إلاَّ الله والله أكبرُ وسبحانَ الله وبحمدِه وأستغفرُ الله ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله العليَّ العظيمِ هو الأوَّلُ والآخرُ والظَّاهرُ والباطن بيده الخير يحي ويُميتُ وَهُوَ على كُلّ شَىْء قديرٌ والمعنى على هذا أنَّ لله هذه الكلمات يُوحد بها ويُمجّد وهي مفاتيحُ خيرِ السَّمواتِ والأرضِ من تكلَّم بها اصابه ﴿والذين كفروا بآيات الله أُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون﴾ متَّصلٌ بما قبله والمعنى أنَّ الله تعالى خالقٌ لجميع الاشياء
261
الزمر ٦٤ ٦٧ ومتصرِّفٌ فيها كيفما يشاءُ بالاحياء والامانة بيده مقاليدُ العالم العلويِّ والسفلي والذين كفرُوا بآياته التكوينيةِ المنصوبةِ في الآفاق والأنفسِ والتَّنزيليةِ التي من جملتها هاتيك الآيات النَّاطقةُ بذلك هم الخاسرون خسرانا لاخسار وراءه هذا وقيل هو متَّصلٌ بقوله تعالى وينجِّي الله وما بينهما اعتراض فتدَّبر
262
﴿قُلْ أَفَغَيْرَ الله تَأْمُرُونّى أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون﴾ أي أبعدَ مشاهدةِ هذه الآياتِ غيرَ الله أعبدُ وتأمروني اعتراضٌ للدِّلالةِ على أنَّهم أمرُوه به عَقيب ذلكَ وقالُوا استلمْ بعضَ آلهتِنا نؤمنُ بإلِهك لفرطِ غباوتِهم ويجوزُ أن ينتصبَ غيرُ بما يدلُّ عليه تأمروني أعبدُ لأنَّه بمعنى تعبِّدونني وتقولون أعبد على أنَّ أصلَه تأمرونني أنْ أعبدَ فحُذف أنْ ورُفعَ ما بعدَها كما في قولِه... أَلاَ أيُهذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرَ الوغى... وأنْ أشهدَ اللذاتِ هَلْ أَنْتَ مُخْلدِي...
ويؤيِّدهُ قراءةُ أعبدَ بالنَّصبِ وقُرىء تأمرونني بإظهارِ النُّونينِ على الأصلِ وبحذفِ الثَّانيةِ
﴿وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ﴾ أي من الرُّسلِ عليهم السَّلامُ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين﴾ كلامٌ واردٌ على طريقةِ الفرضِ لتهييجِ الرُّسلِ وإقناط الكفرةِ والإيذانِ بغايةِ شناعةِ الإشراكِ وقُبحهِ وكونِه بحيثُ ينهى عنه من لا يكادُ يمكن أنْ يباشرَه فكيف بمن عداهُ وإفرادُ الخطاب باعتبار كلِّ واحدٍ واللامُ الأولى موطئةٌ للقسمِ والأخريانِ للجوابِ وإطلاق الاحباطِ يحتملُ أنْ يكون من خصائصِهم عند الاشراك لأنَّ الإشراكَ منهم أشدُّ وأقبحُ وأن يكون مقيداً بالموتِ كما صُرِّح به في قوله تعالى من يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم وعطفُ الخسران عليه من عطفَ المسبَّب على السَّببِ
﴿بَلِ الله فاعبد﴾ ردٌّ لما أمروه به ولولا دلالةُ التَّقديمِ على القصرِ لم يكن كذلك ﴿وَكُنْ مّنَ الشاكرين﴾ إنعامه عليك وفيه إشارة إلى ما يُوجب الاختصاصَ ويقتضيهِ
﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ ما قدرُوا عظمتَه تعالى في أنفسهم حقَّ عظمتِه حيثُ جعلُوا له شريكاً ووصفُوه بما لا يليق بشئونه الجليلةِ وقُرىء بالتَّشديدِ ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مطويات بِيَمِينِهِ﴾ تنبيهٌ على غاية عظمتِه وكمالِ قدرته وحفارة الأفعال العظامِ التي تتحيَّر فيها الأوهامِ بالنسبةِ إلى قُدرتِه تعالى ودلالةٌ على أنَّ تخريبَ العالم أهونُ شيءٍ عليه على طريقةِ التمثيل والنخييل من غير اعتبارِ القبضةِ واليمينِ حقيقةً ولا مجازاً كقولِهم شابتْ لُمَّةُ اللَّيلِ والقبضة المرة من القبض اطلقت بمعنى القبضة وهي المقدار
262
الزمر ٦٨ ٧١ المقبوضُ بالكفِّ تسميةً بالمصدرِ أو بتقديرِ ذات قبضةٍ وقُرىء بالنَّصبِ على الظَّرفِ تشبيهاً للموقَّتِ بالمُبهمِ وتأكيدُ الأرضِ بالجميع لأنَّ المرادَ بها الأرَضَون السَّبعُ أو جميعُ أبعاضِها الباديةِ والغائرة وقُرىء مطوياتٍ على أنَّها حالٌ والسَّمواتُ معطوفةٌ على الأرضُ منظومةٌ في حُكمِها ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ ما أبعدَ وما أعلى مَنْ هذه قدرتُه وعظمتُه عن إشراكِهم أو عمَّا يُشركونه من الشُّركاءِ
263
﴿وَنُفِخَ فِى الصور﴾ هيَ النَّفخةُ الأولى ﴿فَصَعِقَ مَن في السماوات وَمَن فِى الأرض﴾ أي خروا امواتا ومغشيا عليهم ﴿إِلاَّ مَن شَاء الله﴾ قيل هم جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ فإنَّهم لا يموتُون بعد وقيل حَمَلةُ العرشِ ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾ نفخةٌ أخرى هي النَّفخةُ الثَّانيةُ وأُخرى يحتملُ النَّصبَ والرَّفعَ ﴿فَإِذَا هُمْ قيام﴾ قائمون من قبورهم أو متوقفون وقُرىء بالنَّصبِ على أنَّ الخبرَ ﴿يُنظَرُونَ﴾ وهو حالٌ من ضميرِه والمعنى يُقلِّبون أبصارَهم في الجوانبِ كالمبهوتينَ أو ينتظرون ما يفعل بهم
﴿وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبّهَا﴾ بما أقام فيها من العدلِ استُعير له النُّورُ لأنَّه يزيِّنُ البقاعَ ويُظهر الحقوقَ كما يسمَّى الظُّلم ظُلمةً وفي الحديثِ الظُّلم ظلماتٌ يومَ القيامةِ ولذلك أضيف الأسمُ الجليلُ إلى ضميرِ الأرضُ أو بنور خلقه فيها بلا توسُّطِ أجسامٍ مضيئةٍ ولذلك أُضيف إلى الاسمِ الجليلِ ﴿وَوُضِعَ الكتاب﴾ الحسابُ والجزاءُ من وضع المحاسبِ كتابَ المحاسبةِ بين يديه أو صحائفُ الأعمال في أيدي العمَّالِ واكتفى باسم الجنسِ عن الجمعِ وقيل اللَّوحُ المحفوظُ يقابل به الصَّحائفُ ﴿وَجِىء بالنبيين والشهداء﴾ للأممِ وعليهم من الملائكةِ والمؤمنينَ وقيل المُستشَهدون ﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ﴾ بين العباد ﴿بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾ بنقصِ ثوابٍ أو زيادةِ عقابٍ على ما جرى به الوعدُ
﴿وَوُفّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ﴾ أي جزاءَه ﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ فلا يفوتُه شيءٌ من أفعالِهم وقولُه تعالى
﴿وَسِيقَ الذين كَفَرُواْ إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ الخ تفصيلٌ للتوفية وبيان لكيفيتها أي سِيقُوا إليها بالعُنفِ والإهانةِ أفواجاً متفرقةً بعضُها في إثرِ بعضٍ مترتِّبةً حسب ترتُّبِ طبقاتهم في الضَّلالةِ والشِّرارةِ والزُّمَر جمعُ زُمْرةٍ واشتقاقها من الزَّمرِ وهو
263
الزمر ٧٢ ٧٥ الصَّوتُ إذِ الجماعةُ لا تخلُو عنه ﴿حتى إِذَا جاؤوها فُتِحَتْ أبوابها﴾ ليدخلُوها وحتَّى هي التي تُحكى بعدها الجملةُ وقرىء بالتَّشديدِ ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا﴾ تقريعاً وتوبيخاً ﴿ألم يأتكم رسل منكم﴾ من جنسِكم وقُرىء نُذُر منكم ﴿يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا﴾ أيْ وقتِكم هذا وهو وقتُ دخولِهم النَّارَ وفيه دليلٌ على أنَّه لا تكليفَ قبل الشِّرعِ من حيثُ أنَّهم علَّلوا توبيخَهم بإتيان الرُّسلِ وتبليغَ الكُتبِ ﴿قَالُواْ بلى﴾ قد أنونا وأندرونا ﴿ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ حيثُ قال الله تعالى لإبليسَ لأَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ وقد كنَّا ممن اتبعه وكذَّبنا الرُّسلَ وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله من شئ إن أنتم إلا تكذبون
264
﴿قِيلَ ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ خالدين فِيهَا﴾ أي مقدَّراً خلودُكم فيها وإبهامُ القائلِ لتهويلِ المَقُولِ ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ اللامُ للجنسِ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ ثقةً بذكرِه آنِفا أي فبئسَ مثواهُم جهنَّمُ ولا يقدُح ما فيه من الإشعار بأن كونَ مثواهُم جهنَّمَ لتكبُّرِهم عن الحقِّ في أنَّ دخولَهم النَّارَ لسبق كلمةِ العذابِ عليهم فإنَّها إنَّما حُقَّتْ عليهم بناءَّ على تكبُّرِهم وكُفرِهم وقد مرَّ تحقيقُه في سُورة الم السَّجدةِ
﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة﴾ مساقَ إعزازٍ وتشريفٍ للإسراعِ بهم إلى دار الكرامةِ وقيل سِيق مراكبُهم إذْ لا يُذهبُ بهم إلا راكبينَ ﴿زُمَراً﴾ متفاوتينَ حسب تفاوتٍ مراتبِهم في الفضلِ وعلوِّ الطَّبقةِ ﴿حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها﴾ وقرئ بالتَّشديدِ وجوابُ إذا محذوفٌ للإيذانِ بأن لهم حينئذٍ من فُنون الكراماتِ ما لا يَحدِقُ به نطاقُ العباراتِ كأنَّه قيل حتَّى إذا جاءوها وقد فُتحِتْ أبوابُها ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سلام عَلَيْكُمْ﴾ من جميعِ المكارِه والآلام ﴿طِبْتُمْ﴾ طهرتم من دَنَس المعاصي أو طبتُم نَفْساً بما أُتيح لكُم من النَّعيمِ ﴿فادخلوها خالدين﴾ كان ما كان مَّما يقصر عنه البيانُ
﴿وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ بالبعث والثَّوابِ ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض﴾ يريدونَ المكانَ الذي استقرُّوا فيه على الاستعارةِ وإيراثُها تمليكُها مخلَّفة عليهم من أعمالِهم أو تمكينُهم من التَّصرُّفِ فيها تمكينَ الوارثِ فيما يَرثُه ﴿نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نشاء﴾ أي نتبوأ كلُّ واحدٍ مَّنا في أي مكانٍ أرادُه من جنَّتهِ الواسعة على أنَّ فيها مقاماتٍ معنويةً لا يتمانع واردوها ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ الجنَّةُ
﴿وَتَرَى الملائكة حَافّينَ﴾ مْحدقين ﴿مِنْ حَوْلِ العرش﴾ أي حوله
264
سورة غافر
سورة غافر ١ ٣ ومِن مزيدةٌ أو لابتداءِ الحفوفِ ﴿يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ﴾ أي ينزهونَه تعالى عَّما لا يليق به متلبسين بحمدِه والجملة حالٌ ثانيةٌ أو مقيَّدةٌ للأُولى والمعنى ذاكرين له تعالى بوصفى جلالِه وإكرامِه تلذُّذاً به وفيه إشعارٌ بأنَّ أقصى درجاتِ العلِّيينَ وأعلى لذائذِهم هو الاستغراق في شئونه عزَّ وجلَّ ﴿وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق﴾ أي بين الخلقِ بإدخال بعضِهم النَّارَ وبعضهم الجَّنةَ أو بين الملائكةِ بإقامتِهم في منازلِهم على حسبِ تفاضُلِهم ﴿وَقِيلَ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين﴾ أي على ما قَضَي بيننا بالحق وأنزل كلامنا منزلتَه التي هي حقُّه والقائلون هم المؤمنون ممَّن قُضىَ بينهم أو الملائكةُ وطى ذكرهم لتعينهم وتعظيمهم عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَن قرأَ سُورة الزُّمَر لم يقطعِ الله تعالى رجاءَهُ يومَ القيامةِ وأعطاهُ ثوابَ الخائفينَ وعن عائشةَ رضي الله عنها أنه ﷺ كانَ يقرأُ كلَّ ليلةٍ بنى إسرائيل والزمر
سورة غافر مكية وآياتها خمس وثمانون آية
﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحيم﴾
265
Icon