ﰡ
التفسِير: ﴿تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز الحكيم﴾ أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله جل وعلا ﴿العزيز﴾ أي القادر الذي لا يُغلب ﴿الحكيم﴾ أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير ﴿إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق﴾ أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل ﴿فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين﴾ أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك ﴿أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص﴾ أي ألا فانتبهوا أيها الناس: إن الله تعالى لا يقبل إلا مكان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية، المطَّلع على السرائر الضمائر، ومعنى «الخالص» الصافي من شوائب الشرك والرياء ﴿والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ﴾ أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده قال الصاوي: كان المشركون إذا قيل لهم: من خلقكم؟ ومن خلق السمواتِ والأرض؟ من ربكم ورب آبائكم الأولين؟
فيقولون: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون: لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده ﴿إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار ﴿إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ﴾ أي لا يوفق للهدى، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه، مبالغاً في كفره، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى ﴿لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير ﴿لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ﴾ أي لاختارمن مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التولد المعروف ولكنه لم يشأ ذلك لقوله ﴿وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً﴾ [مريم: ٩٢] وقوله ﴿مِمَّا يَخْلُقُ﴾ أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها ﴿سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار﴾ أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد، لأنه هو الإِله الواحد الأحد، المنزَّه عن النظير والمثيل، القاهر لعباده بعظمته وجلاله قال في التسهيل: نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكاً له؟ ثم ذكر تعالى دلائل قدرته وحدانيته وعظمته، فقال: ﴿خَلَقَ السماوات والأرض بالحق﴾ أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبراهن الساطع ﴿يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل﴾ أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على
﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقره، وجمع صفات الألوهية ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ أي ثم خلق من آدم وحواء ليحصل التجانس والتناسل قال الطربي: المعنى: ﴿خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ يعني آدم (ثم خلق منها زوجها) يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه ﴿وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ﴾ أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولة وهي الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ﴾ أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر ﴿فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ هي البطن، والرحم، والمشيمة، وهو الكيس الذي يغلفُ الجنين ﴿ذلكم الله رَبُّكُمْ﴾ أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّ آبائكم الأولين ﴿لَهُ الملك﴾ أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام ﴿لا إله إِلاَّ هُوَ﴾ أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه ﴿فأنى تُصْرَفُونَ﴾ ؟ أي فيكف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإحسانه فقال ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ﴾ أي إن تكفروا أيها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم ﴿وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر﴾ أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه لا يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإن كان واقعاً بمشيئته وقضائه {
﴿اعملوا مَا شِئْتُمْ﴾ [فصلت: ٤٠] ﴿قُلْ إِنَّ الخاسرين الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة﴾ أي حقيقة الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، حيث صاروا إلى نار مؤبدة يصلون سعيرها يوم القيامة، فهؤلاء هم الخاسون كل الخسران قال ابن عباس: إنَّ لكل رجلٍ منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة، فإن أطاع اللهَ أُعطي ذلك، وإن كان من أهل النار حُرم ذلك، فخسر نفسه وأهله ومنزله ﴿أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين﴾ أي ألا فانتبهوا أيها القوم ذلك هو الخسرانُ الواضح الذي ليس بعده خسرانٌ! قال أبو حيان: بالغ في بيان الخسران بأداة التنبيه «ألاَ» وبالإِشارة إليه «ذلك» وتأكيده بأداة الحصر «هو» وتعريفه بأل ووصفه بأنه بيّن ﴿الخسران المبين﴾ أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل، ثم ذلك خسرانهم في الدنيا ذكر حالهم ومآلهم في الآخرة فقال ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ﴾ أي تغاشهم نار جنهم من فوقهم ومن تحتهم، وتحيط بهم من جميع جوانبهم، ومعنى الظللٍ أطباقٌ من نار جنهم، وتسميتها ظُللاً تهكمٌ بهم، لأنها محرقة والظلةُ تقي من الحر ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ﴾ أي ذلك العذاب الشديد الفظيع، إنما يقصه
. وهذا ثناء من الله تعالى عليهم بنفوذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإذا سمعوا قولاً تبصَّروه وعملوا بما فيه، وأحسنُ الكلام كلام الله وخير الهدي هديُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما وضع الظاهر ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ بدل الضمير (فبشرهم) تشريفاً لهم وتكريماً بالإِضافة إليه سبحانه ﴿أولئك الذين هَدَاهُمُ الله﴾ أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين هداهم الله لما يرضاه، ووفقهم لنيل رضاه ﴿وأولئك هُمْ أُوْلُواْ الألباب﴾ أي أولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة ﴿أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب﴾ أي أفمن وجبت له الشقاوة من الله تعالى، وجوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده أي هل تقدر على هدايته؟ لا ثم قال تعالى ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار﴾ ؟ أي هل تستطيع يا محمد أن تنقذ من هو في الضلال والهلاك؟ قال القرطبي: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحرص على إِيمان قومه وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت الآية، وقال بان عباس: يريد «أبا لهب» وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الإِيمان، وكرر الاستفهام «أفأنت» تأكيداً لطول الكلام والمعنى: أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ ﴿لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ﴾ أي لكنْ المؤمنين الأبرار، المتقون للهِ في الدنيا، المتمسكون بشريعته وطاعته ﴿لَهُمْ غُرَفٌ مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ﴾ أي لهم في الجنة درجات عالية وقصورٌ شاهقة بعضها فوق بعض مبنية من زبرجدٍ وياقوت ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي تجري من تحت قصورها وأشجارها أنهار الجنة من غير أخدود ﴿وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد﴾ أي وعدهم الله بذلك وعداً مؤكداً لا يمكن أن يتخلف لأنه وعد العزيز التقدير.
تنبيه: قال الزمخشري: أفاد قوله تعالى ﴿يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أن المؤمنين
اللغَة: ﴿سَلَكَهُ﴾ أدخله ﴿يَنَابِيعَ﴾ جمع ينبوعٍ وهو عين الماء من الأرض ﴿يَهِيجُ﴾ ييبس قال الأصمعي: هاجت الأرض هيج إذا أدبر نبتُها وولى وقال الجوهري: هاج النَّبْت هياجاً إذا يبس، وأرضُ هائجة إذا يبس بقلُها أو اصفرَّ ﴿حُطَاماً﴾ فُتاتاً وهشيماً، من تحطَّم العود إذا تفتَّت من لا يرقُّ ولا يلين ﴿مَّثَانِيَ﴾ مكرراً فيه الحكم والمواعظ والأمثال ﴿تَقْشَعِرُّ﴾ تضطرب وتتحرك من الخوف ﴿الخزي﴾ الذل والهوا ﴿مُتَشَاكِسُونَ﴾ متنازعون ومختلفون، ورجلٌ شكس: شرس الخُلق والطباع.
. ولما بيَّن تعالى ذلك أردفه بما يدل على أنَّ القرآن سبب لحصول النور والهداية والشفاء فقال ﴿الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث﴾ أي اللهُ نزَّل القرآن العظيم أحسن الكلام قال أبو حيان: والابتداءُ باسم «اللهُ» وإسناد «نزَّل» لضميره، فيه تفخيمٌ للمُنزل، ورفعٌ من قدره كما تقول: الملكُ أكرم فلاناً، فإِنه أفخم من أكرم الملك فلاناً، وحكمةُ ذلك البداءةُ بالأشرف ﴿كِتَاباً مُّتَشَابِهاً﴾ أي قرآناً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة، والبلاغة، والتناسب، بدون تعارضٍ ولا تناقض ﴿مَّثَانِيَ﴾ أي تُثنَّى وتكرر فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام، وتُردَّد فيه القصص والأخبار دون سأم أو ملل قال الطبري: تُثنَّى أي تكرر فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج ﴿تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ﴾ أي تعتري هؤلاء المؤمنين خشيةٌ،
. ثم ذكر تعالى مثلاً لمن يشرك بالله ولمن يوحِّده فقال ﴿ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ﴾ أي ضرب الله لكم أيها الناس هذا المثل: رجلٌ من المماليك اشترك فيه ملاكٌ سيئو الأخلاق، بينهم اختلاف وتنازع، يتجاذبونه في حوائجهم، هذا يأمره بأمرٍ وذاك يأمره بمخالفته، وهو متحيِّر موزّع القلب، لا يدري لمن يرضي؟ ﴿وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ﴾ هذا من تتم المثل أي رجلاً آخر لا يملكه إلا شخص واحد، حسن الأخلاق، فهو عبد مملوك لسيد واحد، يخدمه بإِخلاص ويتفانى في خدمته، ولا يلقى من سيده إلا إحساناً ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً﴾ أي هل يستوي هذا وهذا في حسن الحال، وراحة البال؟ فكذلك لا يتساوى المؤمن الموحِّد مع المشرك الذي يعبد آلهة شتى. قال ابن عباس: هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص وقال الرازي: وهذا مثلٌ ضُرب في غاية الحُسن في تقبيح
اللغَة: ﴿مَثْوًى﴾ مأوى ومقام، مشتقٌ من ثَوى بالمكان إِذا أقام به ﴿يُخْزِيهِ﴾ يُهينه ويُذله ﴿اشمأزت﴾ نفرتْ وانقبضتْ ﴿فَاطِرَ﴾ خالق ومبدع ﴿يَحْتَسِبُونَ﴾ يظنون ويؤملون يقال: جاءه الأمر من حيث لا يحتسب أي من حيث لا يظن ﴿حَاقَ﴾ نزل وأحاط بهم من كل جانب ﴿خَوَّلْنَاهُ﴾ منحناه وأعطيناه تفضلاً وكرماً ﴿مُعْجِزِينَ﴾ فائتين من العذاب ﴿يَقْدِرُ﴾ يضيق ويُقتِّر.
التفسِير: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله﴾ الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك له والولد ﴿وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ﴾ أي وكذَّب بالقرآن والشريعة وقت مجيئه من غير تدبر ولا تأمل؟ أي لا أحد أظلم ممن حاله ذلك، فإِنه أظلم من كل ظامل ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ﴾ ؟ أي أليس في جهنم مقام ومأوى لهؤلاء الكافرين المكذبين؟ والاستفهام هنا تقريري أي بلى لهم مأوى ومكان ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ أي وأما الذين جاءوا بالصدق وهم الأنبياء، والذين صدَّقوا به وهم المؤمنون أتباعُ الرسل ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾ أي فأؤلئك الموصوفون بالصفات الحميدة هم أهل التقوى والصلاح الذي يستحقون كل إحسان وإكرام ﴿لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ أي لهم كل ما يشتهون في الجنة من الحور، والقصور، والملاذِّ، والنعيم ﴿ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين﴾ أي ذلك الذي ينالونه هو ثواب كل محسن، أحسن في هذه الحياة قال بعض المفسرين: «الذي جاء بالصدق» هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وصدَّق به» هو أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، والاختيارُ أن يكون على العموم حتى يشترك في هذه الصفة كل الرسل الكرام، وكل من دعا إلى هذا الصدق عن عقيدة وإِيمان من أتباعٍ الرسل، ونيدل عليه ﴿أولئك هُمُ المتقون﴾ بصيغة الجمع، وهذا اختيار ابن عطية ﴿لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ﴾ أي هؤلاء الذين صدَّقوا الأنبياء سيغفر الله لهم ما أسلفوا من الأعمال السيئة فلا يعاقبهم بها ﴿وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي ويثيبهم على طاعاتهم في الدنيا بحساب الأحسن الذي عملوه فضلاً منه وكرماً قال المفسرون: العدلُ أن تُحسب الحسنات وتُحسب السيئات، ثم يكون الجزاء، والفضلُ هو الذي يتجلى به الله على عباده المتقين، فيكفر عنهم أسوأ أعمالهم، فلا يبقى لها حساب في ميزانهم، وأن يجزيهم أجرهم بحساب أحسن الأعمال، فتزيد حسناتُهم وتعلو وترجّح كفة الميزان، وهذا من زيادة
﴿وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم بالليل﴾ [الأنعام: ٦٠] وفي الآية عطف والتقدير: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وقال ابن كثير: أخبر تعالى بأنه المتصرف في الوجود كما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة الملائكة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام ﴿فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت﴾ أي فيمسك الروح التي قضى على صاحبها الموتَ فلا يردها إلى البدن ﴿وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ويرسل الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إلى وقت محدود، هو أجل موتها الحقيق قال ابن عباس: إنَّ أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله لها، فإِذا أرادت الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها قال القرطبي: وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهية، وأنه يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، لا يقدر على ذلك سواه، ولهذا قال ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة، على كمال قدرة الله وعلمه، لقومٍ يجيلون أفكارهم فيها فيعتبرون ﴿أَمِ اتخذوا مِن دُونِ الله شُفَعَآءَ﴾ أمْ للإِضراب أي لم يتفكروا بل اتخذوا لهم شفعشاء من الأوثان والأصنام، فانظر إلى فرط جهالتهم حيث اتخذوا من لا يملك شيئاً أصلاً شفعاء لهم عند الله قال ابن كثير: هذا ذمٌ للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله وهي الأصنام والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم، بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمعٌ تسمع به، ولا بصرٌ تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات ﴿قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ﴾ الاستفهام
. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أفعالهم القبيحة فقال ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ﴾ أي وإِذا أفرد الله بالذكر، ولم يذكر معه آلهتهم وقيل أمام المشركين: لا إله إلا اللهُ ﴿اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة﴾ أي نفرت وانقبضت من شدة الكراهة قلوب هؤلاء المشركين ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾ أي وإِذا ذكرت الأوثان والأصنام إِذا هم يفرحون ويُسرون قال الإِمام الفخر: هذا نوع آخر من قبائح المشركين، فإِنك إذا ذكرتَ الأصنام وقلت: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ظهرتْ آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم، وإذا ذكرتَ الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم، وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وذكر الأصنام الجمادات رأسُ الجهالات والحماقات، فنفرتُهم عن ذك رالله، واستبشارهم بذكر الأصنام، من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ، والحُمق الشديد ﴿قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض﴾ أي قل يا الله يا خالق ومبدع السموات والأرض ﴿عَالِمَ الغيب والشهادة﴾ أي يا عالم السرِّ والعلانية، يا من لا تخفى عليه خافية، مما هو غائب عن الأعين أو مشاهد بالأبصار ﴿أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ أي أنت تفصل بين الخلائق بعدلك وقضائك، فافصل بين وبين هؤلاء المشركين قال في البحر: لما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام أمر رسوله أن يدعوه بأسمائه العظمى من القدرة والعلم ليفصل بينه وبين أعدائه، وفي ذلك وعيد للمشركين وتسلية للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقال الصاوي: أي التجىءْ إلى ربك بالدعاء والتضرع فإنه القادر على كل شيء ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أي ولو أنَّ لهؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب القرآن والرسول ﴿مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ﴾ أي لو ملكوا كل ما في الأرض من أموال، وملكوا مثل ذلك معه ﴿لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب يَوْمَ القيامة﴾ أي لجعلوا كل ما لديهم من أموال وذخائر، فديةً لأنفسهم من ذلك العقاب الشديد يوم القيامة ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ﴾ أي وظهر له من أنواع العقوبات ما لم يكن في حسابهم قال أبو السعود: وهذه غايةً من الوعيد لا غاية وراءها، ونظيرها في الوعد
﴿فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ [السجدة: ١٧] ﴿وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ﴾ أي وظهر لهم في ذلك اليوم المفزع سيئات أعمالهم التي اكتسبوها ﴿وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ أي وأحاط ونزل بهم من كل الجوانب جزاء ما كنوا يستهزئون به قال ابن كثير: أي
اللغَة: ﴿بَغْتَةً﴾ فجأة ﴿مَثْوَى﴾ مكان إقامة يقال: ثوى بالمكان أقام فيه ﴿مَقَالِيدُ﴾ خزائن ومفاتيح ﴿زُمَراً﴾ جماعات جماعات جمع زُمرة وهي الجماعة ﴿خَزَنَتُهَا﴾ حُرَّاسها الموكلون عليها ﴿نَتَبَوَّأُ﴾ تبوأ المكانَ حلَّ ونزل فيه ﴿حَآفِّينَ﴾ محيطين به من أطرافه وجهاته.
التفسِير: ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ أي لا تيأسوا من مغفرة الله ورحمته ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء، وإن كانت مثل زبد البحر ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾ أي عظيم المغفرة واسع الرحمة، وظاهر الآية أنها دعوة للمؤمنين إلى عدم اليأس من رحمة الله لقوله ﴿ياعبادي﴾ وقال ابن كثير: هي دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإِنابة، وإِخبارٌ بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت ﴿وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ﴾ أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له
﴿وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ [الأنعام: ٢٨] ﴿وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ﴾ أي ويوم القيامة ترى أيها المخاطب الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك له والولد وجوههم سوداء مظلمة بكذبهم وافترائهم ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ استفهام تقريري أي أليس في جهنم مقام ومأوى للمستكبرين عن الإِيمان، وعن طاعة الرحمن؟ بلى إنَّ لهم منزلاً ومأوى في دار الجحيم.. ولما ذكر حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين لله فقال ﴿وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ﴾ أي وينجي الله المتقين بسبب سعادتهم وفوزهم بمطلوبهم وهو الجنة دار الأبرار ﴿لاَ يَمَسُّهُمُ السواء وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ أي لا ينالهم هلعٌ ولا جزع، ولا هم يحزنون في الآخرة، بل هم آمنون ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾ [القمر: ٥٥] ثم عاد إلى دلائل الألوهية والتوحيد، بعد أن أفاض في الوعند والوعيد فقال ﴿الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد المخلوقات، والمتصرف فيها كيف يشاء، لا إله غيره ولا ربَّ سواه ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ أي هو القائم بتدبير كل شيء {لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات
. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وإلاّ فالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإقامة صرح الإِيمان والتوحيد قال أبو السعود: والكلام ورادٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل، وإقناط الكفرة، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه ﴿بَلِ الله فاعبد﴾ أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تعبد أحداً سواه. ﴿وَكُن مِّنَ الشاكرين﴾ أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك ﴿وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ﴾ أي وما عرفوا الله حق معرفته، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة.. ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة﴾ الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، التي هي غاية العظمة والجلال، فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه ﴿والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ أي والسموات مضموات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري: والغرضُ من هذا الكلام تصويرُ عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهابٍ بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث «يقبضُ اللهُ تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملكُ أين ملوكُ الأرض؟» ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركومن من صفاتِ العجز والنقص، ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال ﴿وَنُفِخَ فِي الصور﴾ هو قرنٌ ينفخ فيه إسرافيل علهي السلام بأمر الله، والمراد بالنفخة هنا «نفخة الصَّعق» التي تكون بعد نفخة الفزع قال ابن كثير: وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السمواتِ والأرض ﴿فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض﴾ أي فخَّر ميتاً كل من في السموات والأرض ﴿إِلاَّ مَن شَآءَ الله﴾ أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرض، والحور العين والولدان ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى﴾ أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء ﴿فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ أي فإِذا جمع الخلائق الأموات يقومون من
. ثم فصَّل تعالى مآلٍ من الأشقياء والسعداء فقال ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أي حتى إذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ﴾ ؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء؟ ﴿وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا﴾ ؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب؟ ﴿قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين﴾ أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكننا كذبناهم وخالفانهم لما سبق لنا من الشقاوة قال القرطبي: وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى ﴿لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ﴾ [هود: ١١٩] ﴿قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال ﴿فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين﴾ أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً﴾ أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب قال القرطبي: سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يُذبهم بهم إلا راكبين، كما يفعل بالوافدين على الملوك، فشتَّان ما بين السوقين ﴿حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ أي حتى إذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب﴾ [ص: ٥٠] قال الصاوي: والحكمةُ في زيادة الواو هنا «فُتحت» دون التي قبلها، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم، بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها ﴿وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ﴾ أي وقال لهم
﴿تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً﴾ [مريم: ٦٣] ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾ أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء، ولا ينازعنا فيها أحد ﴿فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين﴾ أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة ﴿وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش﴾ أي وترى يا محمج الملائكة محيطين بعرش الرحمن، محدقين به من كل جانب ﴿يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾ أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق﴾ أي وقُضي بين العباد بالعدل ﴿وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه قال المفسرون: القائل هم المؤمنون والكافرون، المؤمنون يحمدون الله على فضله، والكافرون يحمدونه على عدله قال ابن كثير: نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.
البَلاَغَة: تضمنت السورة الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين (تكفروا.. تَشْكُرُواْ) وبين ﴿يَرْجُواْ.. ويَحْذَرُ﴾ وبين ﴿فَوْقِهِمْ.. وتَحْتِهِمْ﴾ وبين ﴿ضُرٍّ.. ورَحْمَةٍ﴾ وبين ﴿الغيب.. والشهادة﴾ وبين ﴿يَبْسُطُ.. وَيَقْدِرُ﴾ وبين ﴿اهتدى.. وضَلَّ﴾ الخ.
٢ - جناس الاشتقاق ﴿يَتَوَكَّلُ المتوكلون﴾ [الزمر: ٣٨] وكذلك في قوله ﴿أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ﴾ [الزمر: ١٠].
٣ - الأسلوب التهكمي ﴿لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار﴾ [الزمر: ١٦] إطلاق الظلة عليها تهكم لأنها محرقة، ولظلة تقي من الحر.
٤ - المقابلة الرائعة ﴿وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة..﴾ [الزمر: ٤٥] الآية فقد قابل بين الله والأصنام، وبين السرور والاشمئزاز، وكذلك توجد مقابلة بين آيتي السعداء والأشقياء ﴿وَسِيقَ الذين كفروا إلى جَهَنَّمَ زُمَراً﴾ وقابل ذلك بقوله ﴿وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً..﴾ والمقابلةُ أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يُؤتى بما يقابل ذلك على الترتيب وهو من المحسنات البديعية.
٥ - الإِيجاز بالحذف لدلالة السياق عليه ﴿أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ [الزمر: ٢٢] ؟ حذف خبره
٦ - الأمر الذي يراد منه التهديد ﴿قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ﴾ [الزمر: ٨] ومثله ﴿اعملوا على مَكَانَتِكُمْ﴾ [الزمر: ٣٩] للمبالغة في الوعيد.
٧ - المجاز المرسل ﴿أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النار﴾ [الزمر: ١٩] ؟ أطلق المسبب وأراد السبب، لأن الضلال سبب لدخول النار.
٨ - الاستعارة ﴿لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض﴾ أي مفاتيح خيراتهما، ومعادن بركاتها فشبَّه الخيرات والبركات بخزائن واستعار لها لفظ المقاليد، بمعنى المفاتيح، ومعنى الآية خزائن رحمته وفضله بيده تعالى.
٩ - الاستعارة التمثيلية ﴿والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ﴾ مثَّل لعظمته وكما قدرته، وحقارة الأجرام العظام التي تتحير فيها الأوهام بالنسبة لقدرته تعالى بمن قبض شيئاً عظيماً بكفه، وطوى السموات بيمينه بطريق الاستعارة التمثيلية، قال في تلخيص البيان: وفي الآية استعارة ومعنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض، فتستولي عليه كفه، ويحوزه ملكه، ولا يشاركه غيره، والسموات مجموعات في ملكه ومضموات بقدرته وقال الزمخشري: والآية لتصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة، لأن الغرض الدلالة على القدرة الباهرة، ولا ترى باباً في علم البيان أدق ولا أرقَّ ولا ألطف من هذا الباب.
١٠ - الكناية ﴿أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله﴾ جنبُ الله كنايةٌ عن حقِّ الله وطاعته، وهذا من لطيف الكنايات.
١١ - الالتفات من التكلم إلى الغيبة ﴿لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله﴾ والأصل: لا تقطنوا من رحمتي قال علماء البيان: وفي الآية الكريمة ﴿قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ﴾ الآية من أنواع المعاني والبيان أمور حسان: منها إقباله تعالى على خلقه ونداؤه لهم، ومنها إضافة الرحمة للفظ الجلالة الجامع لجميع الأسماء والصفات، ومنها الإِتيان بالجملة المعرَّفة الطرفين المؤكدة بإِن وضمير الفصل ﴿إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم﴾.
١٢ - توافق الفواصل في الحرف الأخير، وهو نهاية في الروعة والجمال اقرأ مثلاً قوله تعالى ﴿وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾ ألا تأخذك روعة هذا البيان، برونقه، وجماله، وأدائه، فينطلق لسانك بذكر الرحمن؟!