تفسير سورة الصافات

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿الزاجرات﴾ الزجر: الدفع عن الشيء بقوةٍ أو صياح، والزجرة: الصيحةُ من قولك: زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها فرجعت لصوته ﴿مَّارِدٍ﴾ عاتي متمرد ﴿ثَاقِبٌ﴾ محرق شديد النفاذ ﴿وَاصِبٌ﴾ دائم لا ينقطع ﴿لاَّزِبٍ﴾ ملتزق بعضه ببعض ﴿مَّعِينٍ﴾ شراب نابع من العيون ﴿غَوْلٌ﴾ الغول: كل ما يغتال العقل ويفسده قال أبو عبيدة: الغول ما يغتال العقل ويذهبه وأنشد قول ابن إياس:
25
ومازالتِ الخمر تغتالنا وتذهب بالأول فالأول
﴿بِكَأْسٍ﴾ قال أهل اللغة: العرب تقول للإِناء إِذا كان فيه خمر كأس، فإِذا لم يكن فيه خمرا قالوا: إِناء وقدح قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ وأُخرى تداويتُ منها بها
﴿يُنزَفُونَ﴾ يسكرون يقال: نُزف الرجل فهو نزيف ومنزوف إذا سكر قال الشاعر:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو لبئس النَّدامى كنتم آل أبجرا
التفسِير: ﴿والصافات صَفَّا﴾ افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلاله قدرها والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائهما في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث «ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حَمَلة العرش والملائكة الأطهار ﴿فالزاجرات زَجْراً﴾ أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث ﴿فالتاليات ذِكْراً﴾ وصفٌ ثالثُ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾ هذا هو المقسم عليه أي إن إلهكم الذي تعبدونه أيها الناس إله واحدٌ لاشريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي هو تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته ﴿وَرَبُّ المشارق﴾ أي وهو رب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف قال الطبريب: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ ﴿وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله قال قتادة: خلقت النجومُ
26
لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى﴾ أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى ﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ﴾ أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها ﴿دُحُوراً﴾ أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة﴾ أي إلاَّ من اختلص شيئاً مسارقةً ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب الثواب، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها ﴿فاستفتهم﴾ أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ﴿أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ أي أيهم أقوى بُنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ أي من طينٍ زخوٍ لا قوة فيه قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابٌ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون منك ومما تقول لهم في ذلك قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث ﴿وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ﴾ أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقكك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء ﴿وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن قال في البحر: والإِشارة ب «هذا» إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ ﴿أَوَ آبَآؤُنَا الأولون﴾ أي أو آباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً آباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل ﴿قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أي وما هي إلا صيحة
27
واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور ﴿فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق.
. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم مأهوال القيامة فقال ﴿وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين﴾ أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع ﴿هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي هذا يوم الفصف بين الخلائق الذي كنتم تنكرونه وتكذبون به قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ أي اجمعوا الظالمين وأشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه المراد به أشباههم من العصاة ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم ﴿فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ ﴿اهدوهم﴾ تهكم وسخرية، فإذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر «نحن جميعٌ منتصر» وأصل ﴿تناصرون﴾ تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى ﴿بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال ﴿قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين﴾ أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوه والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار
28
غالباً ﴿قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها عن متابعتنا ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ أي بل فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ﴾ أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب ﴿إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾ أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٩] ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين﴾ أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال ﴿إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي إذا قيل لهم قولوا ﴿لاَ إله إِلاَّ الله﴾ يتكبَّرون ويتعظَّمون ﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ ؟ أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى رداً عليهم ﴿بَلْ جَآءَ بالحق وَصَدَّقَ المرسلين﴾ أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم «شاعر مجنون» فإن الشاعر عنده من الفهم والحذق ماينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ أي إنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب ﴿وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم قال الصاوي: لأن الشريكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة.. ولمّا ذكر شئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ الاستثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
. ثم أخبر عن جزائهم فقال ﴿أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ﴾ أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى ﴿وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً﴾ [مريم: ٦٢] وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله: ﴿فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ﴾ أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يؤُكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ ﴿فِي جَنَّاتِ النعيم﴾ أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها ﴿على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاءوا قال مجاهد: ﴿مُّتَقَابِلِينَ﴾ أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصً وتحابياً ﴿يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ﴾ لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة قال الصاوي: وصف به حمر الجننة لأنه يجري كالماء النابع وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية ﴿بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ﴾ أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن ﴿لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ﴾ أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة عن الآفات التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدر الرءوس، ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا ﴿وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف﴾ أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس: ﴿قَاصِرَاتُ الطرف﴾ أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن ﴿عِينٌ﴾ أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى ﴿وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون﴾ [الواقعة: ٢٢٢٣] وقال الحسن: ﴿المكنون﴾ المصون الذي لم تمسَّه الأيدي.. والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ لطفٍ ونعومة ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {على سُرُرٍ
29
مُّتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية أبلغ الملاذ وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسور، وهم على موائد الشراب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال ﴿فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان ﴿قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ﴾ أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقً وجليس ينكر البعث ﴿يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين﴾ أي يقول لي أتصدِّق
30
بالبعث والجزاء؟ ﴿أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ﴾ ؟ أي هل إذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد ﴿قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ﴾ ؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعونن إلى النار لننظر كيف حال ذلك القريب؟ قال تعالى ﴿فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم﴾ أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها ﴿قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ﴾ أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك ﴿وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين﴾ أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزىء به في الدنيا ﴿أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ ؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه قال تعالى ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم﴾ أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم ﴿لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون﴾ أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون.
قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله، فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان لكما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عوضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إذا سمع ذلك يتصدَّق بنحوٍ من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرها ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ لأن السخرية في مقابلة التعجب.
٢ - التأكيد بإِن واللم ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾ ومقتضى الكلام يقتضيه لإِنكار المخاطبين للوحدانية.
٣ - الأسلوب التهكمي ﴿فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ وردت الهداية بطريق التهكم، لأن الهداية تكون إلى طريق النعيم لا الجحيم.
٤ - الإِيجاز بالحذف ﴿إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله﴾ أي قولوا لا إ له إلا الله، وحذف لدلالة السياق عليه.
٥ - الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ﴿إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم﴾ والأصل إنهم لذائقو وإنما التفت لزيادة التقبيح والتشنيع عليهم.
٦ - الكناية ﴿قَاصِرَاتُ الطرف﴾ كنَّى بذلك عن الحور العين لأنهم عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن.
31
٧ - التشبيه المرسل والمجمل ﴿كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ﴾ حذف منه وجه الشبه فأصبح مجملاً.
٨ - مراعاة الفواصل وهو المحسنات البديعية مثل ﴿شِهَابٌ ثَاقِبٌ، عَذابٌ وَاصِبٌ، طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ إلى آخر.
اللغَة: ﴿فالزاجرات﴾ الزجر: الدفع عن الشيء بقوةٍ أو صياح، والزجرة: الصيحةُ من قولك: زجر الراعي الغنم إذا صاح عليها فرجعت لصوته ﴿مَّارِدٍ﴾ عاتي متمرد ﴿ثَاقِبٌ﴾ محرق شديد النفاذ ﴿وَاصِبٌ﴾ دائم لا ينقطع ﴿لاَّزِبٍ﴾ ملتزق بعضه ببعض ﴿مَّعِينٍ﴾ شراب نابع من العيون ﴿غَوْلٌ﴾ الغول: كل ما يغتال العقل ويفسده قال أبو عبيدة: الغول ما يغتال العقل ويذهبه وأنشد قول ابن إياس:
ومازالتِ الخمر تغتالنا وتذهب بالأول فالأول
﴿بِكَأْسٍ﴾ قال أهل اللغة: العرب تقول للإِناء إِذا كان فيه خمر كأس، فإِذا لم يكن فيه خمرا قالوا: إِناء وقدح قال الشاعر:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ وأُخرى تداويتُ منها بها
﴿يُنزَفُونَ﴾ يسكرون يقال: نُزف الرجل فهو نزيف ومنزوف إذا سكر قال الشاعر:
لعمري لئن أنزفتمو أو صحوتمو لبئس النَّدامى كنتم آل أبجرا
التفسِير: ﴿والصافات صَفَّا﴾ افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهارً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلاله قدرها والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائهما في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث «ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصف» أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حَمَلة العرش والملائكة الأطهار ﴿فالزاجرات زَجْراً﴾ أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث ﴿فالتاليات ذِكْراً﴾ وصفٌ ثالثُ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد ﴿إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ﴾ هذا هو المقسم عليه أي إن إلهكم الذي تعبدونه أيها الناس إله واحدٌ لاشريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال ﴿رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾ أي هو تعالى خالق السموات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته ﴿وَرَبُّ المشارق﴾ أي وهو رب مشارق الشمس ومغاربها في الشتاء والصيف قال الطبريب: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال ﴿إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب﴾ أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ ﴿وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ﴾ أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله قال قتادة: خلقت النجومُ لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين ﴿لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى﴾ أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى ﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ﴾ أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها ﴿دُحُوراً﴾ أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾ أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع ﴿إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة﴾ أي إلاَّ من اختلص شيئاً مسارقةً ﴿فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ﴾ أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب الثواب، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها ﴿فاستفتهم﴾ أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث ﴿أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَم مَّنْ خَلَقْنَآ﴾ أي أيهم أقوى بُنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السموات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ ﴿إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ﴾ أي من طينٍ زخوٍ لا قوة فيه قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابٌ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء ﴿بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ﴾ أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون منك ومما تقول لهم في ذلك قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث ﴿وَإِذَا ذُكِّرُواْ لاَ يَذْكُرُونَ﴾ أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون ﴿وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ﴾ أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقكك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء ﴿وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن قال في البحر: والإِشارة ب «هذا» إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ ﴿أَوَ آبَآؤُنَا الأولون﴾ أي أو آباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً آباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل ﴿قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون ﴿فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ أي وما هي إلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور ﴿فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ﴾ أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق.
. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم مأهوال القيامة فقال ﴿وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين﴾ أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع ﴿هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أي هذا يوم الفصف بين الخلائق الذي كنتم تنكرونه وتكذبون به قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء ﴿احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ﴾ أي اجمعوا الظالمين وأشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه المراد به أشباههم من العصاة ﴿وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم ﴿فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم﴾ أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ ﴿اهدوهم﴾ تهكم وسخرية، فإذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم ﴿وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ﴾ أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ﴾ أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر «نحن جميعٌ منتصر» وأصل ﴿تناصرون﴾ تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى ﴿بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ﴾ أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون ﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ﴾ أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال ﴿قالوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين﴾ أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوه والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً ﴿قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ﴾ أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان ﴿وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ﴾ أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها عن متابعتنا ﴿بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ﴾ أي بل فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا ﴿فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ﴾ أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب ﴿إِنَّا لَذَآئِقُونَ﴾ أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة ﴿فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ﴾ أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم ﴿فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى ﴿وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف: ٣٩] ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين﴾ أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال ﴿إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ﴾ أي إذا قيل لهم قولوا ﴿لاَ إله إِلاَّ الله﴾ يتكبَّرون ويتعظَّمون ﴿وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ﴾ ؟ أي ويقولون عندما
32
المنَاسَبَة: لما ذكر تعالى ما أعده للأبرار في دار النعيم، ذكر ما أعده للأشرار في دار الجحيم، ليظهر التمييز بين الفريقين، ثم ذكر قصة «نوح» وقصة «إبراهيم» وما فيهما من العظات والعبر للمعتبرين.
32
اللغَة: ﴿نُّزُلاً﴾ النُّزُل: الضيافة والتكرمة، وأصله ما يُعد للأضياف من الطعام والشراب وغيرهما ﴿طَلْعُهَا﴾ ثمرها، سُمي طلعاً لطلوعه ﴿لَشَوْباً﴾ خلطاً ومزاجاً من شاب الطعام يشوبه إِذا خلطه بشيء آخر ﴿يُهْرَعُونَ﴾ يُسرعون قال الفراء: الإِهراع: الإِسراع مع رعدة، وقال المبرّد: المُهرع: المستحثُّ يقال: جاء فلان يُهرعن إلى النار، إِذا استحثَّه البرد إِليها ﴿شِيعَتِهِ﴾ شيعة الرجل أعوانه وأنصاره، ومن سار على طريقته ومنهاجه ﴿أَإِفْكاً﴾ كذباً وباطلاً ﴿سَقِيمٌ﴾ مريض وعليل ﴿فَرَاغَ﴾ راغ إِليه: أقبل عليه ومال نحوه خفيةً وأصله من الميل قال الشاعر:
ويُريك من طَرف اللسان حلاوةً ويروغ فيك كما يروغ الثعلب
﴿يَزِفُّونَ﴾ يُسرعون في مشيهم ﴿وَتَلَّهُ﴾ صرعه وكبَّه على وجهه.
التفسِير: ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ أي أنعيم الجننة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شردة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ﴾ أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد ﴿إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم﴾ أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ أي ثمرها وحملها كأنه رءوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة قال ابن كثير: وإنما شبهها برءوس الشياطين، وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر ﴿فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون﴾ أي فإن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلىء منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث «لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه» ﴿ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ﴾ أي ثم إن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام أي يخلط ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم ﴿ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم﴾ أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها ﴿إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ﴾ أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم ﴿فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ﴾ أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء ﴿وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين﴾ أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُّنذِرِينَ﴾ أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخفونهم من عذاب الله ولكنه تمادوا في الغيّ والضلال ﴿فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين﴾ أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنضيرهم عبرةً للعباد؟ ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾
33
أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذين أخلصهم تعالى لطاعته فإنهم نجوا من العذاب.
. ثم شرع في بيان قصة نوح فقال ﴿وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون﴾ اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيعة الجمع ﴿المجيبون﴾ للعظمة والكبرياء قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصية الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتحذيراً لمن كفر من أمته ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم﴾ أي ونجيناه ومن آمن معه من أهلُه وأتباعُه من الغرق قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين﴾ أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح قال في التسهيل: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناس الناسُ من أولاده الثلاثة «سام، وحام، ويافث» ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة ﴿سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين﴾ أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع ﴿نَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملؤءةً من ذريته تبقيه لذكره الجميل في ألسنة العالمين ﴿ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين﴾ أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر.. ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ﴾ أي وإِن من من أنصار نوح واعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما «هود» و «صالح» صلوات الله عليهم أجمعين ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك ﴿إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ﴾ أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً لهم: ما الذي تعبدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ ﴿أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ﴾ ؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله ﴿أَإِفْكاً﴾ على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب ﴿فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين﴾ استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون بربِّ العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أيَّ
34
شيءٍ تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ ﴿فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ﴾ لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء على عادتهم حيث كانوا نجامين وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإنما هو من المعارض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد «إِنَّ المعاريض لمندوحةً عن الكذب» أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان ﴿فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ﴾ أي فتركوه إعراضاً عنه وخرجوا إلى عيدهم ﴿فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ﴾ أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء ﴿فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾ ؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديهما طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه ﴿مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ﴾ ؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن ربتة عابديها إذ هم يأكلون وينطقون بخلافها ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين﴾ أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد ﴿فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ﴾ أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ﴾ ؟ أي أتبعدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ ﴿والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخاق، أليس لكم عقل ايها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن ﴿ما﴾ مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةً في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن ﴿ما﴾ موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام.
﴿قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم﴾ أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصارً لأصنامهم وآلهتهم ﴿فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين﴾ أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم ﴿وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد
35
الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام ﴿رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين﴾ أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم ﴿فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ﴾ أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ !! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو «اسماعيل» لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ فدل ذلك على أن الذبيح هو إسماعيل ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي﴾ أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة ﴿قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾ أي إِني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاضاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم ﴿فانظر مَاذَا ترى﴾ ؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله وطاعة أبيه.
فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب ﴿قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين﴾ أي امرض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إن شاء الله، وهو جواب من أوُتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أي فلما استسلما الأب والابن لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه قال ابن عباس: ﴿وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ﴾ أكبَّه على وجهه ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ﴾ هذه جواب «لمَّا» والواو مقحمة أي ناديناه يا إبراهيم قد نفَّذْتْ ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قبله بمحبة ولده، فأُمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر به وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقة قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإن رأيتَ أن
36
تردَّ قميصي عليها فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عيني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين﴾ تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين﴾ أي إن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ﴾ أي وفديناه بكبسٍ عظيم من الجنة فداءً عنه قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين ﴿سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ﴾ أي سلام منا على إبراهيم عاطرٌ كريم ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان ﴿وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين﴾ وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحق الذي سيكون نبياً قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّىء، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو «إسماعيل» لا «إسحاق» ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ﴾ أي أفضنا على إبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ﴾ أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفيها دليل على أن البرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عبيب ولا منقصة.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبيدع نوجزها فيما يلي:
١ - الأسلوب التهكمي ﴿أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم﴾ ؟ التعبير ب «خيرٌ» تهكم بهم.
٢ - الجناح الناقس ﴿المُنذِرين.. والمُنْذَرين﴾ لأن المراد بالأول الرسل، وباللثاني الأمم.
٣ - التشبيه ﴿طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين﴾ أي في الهول والشناعة ويسمى تشبيهاً مرسلاً مجملاً.
٤ - الاستعارة التبعية ﴿إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ شبَّه إقباله على ربه مخلصاً بقلبه بمن قدم علىلملك بتحفةٍ ثمينة جميلة ففاز بالرضى والقبول ففيه استعارة تبعية.
٥ - الطباق بين ﴿مُحْسِنٌ.. وَظَالِمٌ﴾.
٦ - جناس الاشتقاق بين ﴿ابنوا.. بُنْيَاناً﴾.
٧ - الكنابة اللطيفة ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ كنَّة به عن الثناء الحسن الجميل.
٨ - مراعاة الفواصل مثل ﴿وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ الخ وهو من المحسنات البديعية، وهو من خصائق القرآن وفيه من الروعة والجمال، وحسن الوقع على السمع ما يزيده روعةً وجمالاً.
37
المنَاسَبَة: لما ذكر قصة الخليل إبراهيم، وقصة الذبيح والفداء، أعقبها بذكر قصص بعض الأنبياء، كموسى وهارون، ويونس ولوط، وما في هذه القصة من العظات والعبر، وختم السورة الكريمة ببيان أن النصر والغلبة للرسل وأتباعهم المؤمنين.
اللغَة: ﴿أَبَقَ﴾ هرب ﴿المشحون﴾ المملوء ﴿سَاهَمَ﴾ قارع أي ضرب القُرعة قال المبرّد: وأصله من السهام التي تُجال ﴿المدحضين﴾ المغلوبين، وأصله من الزرق، يُقال: دَحضت حجته وأدحضها اللهُ أي غُلب وهُزم قال الشاعر:
38
قتلنا المُدْحضين بكلِّ فجٍّ فقد قرَّت بقتلهم العُيون
﴿مُلِيمٌ﴾ آتٍ يُلام عليه ﴿العرآء﴾ الأرض الفيحاء لا شجر فيها، ولا معلم، قال الفراء، العراءُ المكانُ الخالي ﴿يَقْطِينٍ﴾ القرعُ المعروف والمسمَّى بالدباء، قال الجوهري: اليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه ﴿سَاحَتِهِمْ﴾ الساحةُ: الفناء.
التفسِير: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا على موسى وَهَارُونَ﴾ اللام موطئة للقسم أي وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا على موسى وهارون بأنواع النعم والمنافع الدينية والدنيوية ومنها نعمة النبوة والرسالة ﴿وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الكرب العظيم﴾ أي ونجيناهما وقومهما بني إسرائيل من الغم والمكروه العظيم، وهو استعباد فرعون إياهم مع التعذيب بقتل الأبناء، واستحياء النساء ﴿وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُواْ هُمُ الغالبين﴾ الضمير يعود على موسى وهارون وبني إسرائيل أي ونصرناهم على أعدائهم الأقباط فكانوا الغالبين عليهم بعد أن كانوا تحت أيديهم مقهورين ﴿وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين﴾ أي أعطيناهما الكتاب البليغ في بيانه، الكامل في حدووده وأحكامه، وهو التوراة ﴿وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم﴾ أي وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه قال الطبري: وهو الإسلام دينُ الله الذي ابتعث به أنبياءه ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين﴾ أي تركنا عليهما الثناء الجميل، والذكر الحسن ﴿سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ﴾ أي سلام منا على موسى وهارون ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ أي كذلك نفعل بمن أحسن وأخلص العبودية لله ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ المرسلين﴾ أي وإِنَّ الياس أحد أنبياء بني إسرائيل لمن الرسل الكرام الذين أرسلتُهم لهداية الخلق قال أبو السعود: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى ﴿إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ أي حين قال لقومه من بني إسرائيل ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ ﴿أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين﴾ أتعبدون هذا الصنم المسمَّى بعلاً وتتركون عبادة ربكم أحسن الخالقين؟ ﴿الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين﴾ أي تتركون عبادة أحسن الخالقين، الذي هو ربكم وربُّ آبائكم السابقين قال القرطبي: و «بعل» اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك، والمعنى: أتدون رباً اختلقتموه وهو هذا الصنم، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو «الله» ربكم وربَّ آبائكم الأولين؟ ﴿فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي فكذبوا نبيَّهم فإِنهم لمحضرون في العذاب ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ أي لكنْ عباد الله المؤمنين فإِنهم نجوا من العذاب ﴿وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين﴾ أي تركنا على إلياس الثناء الحسنت الجميل إلى يوم الدين ﴿سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ﴾ أي سلام منا عليه وعلى آل ياسين قال المفسرون: المراد ب ﴿إل ياسين﴾ هو إلياس ومن آمن معه جمعوا معه تغليباً كما قالوا للمهلَّب وقومه المهلَّبون، واختار الطبري أنه اسم لإِلياس فيقال: إلياس، وإل ياسين مثل ميكال وميكائيل، وأنه له اسمين فيسمى «إلياس» و ﴿إل ياسين﴾ ﴿إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين﴾ تقدم
39
تفسيره، وإنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فصل الإِحسان والإِيمان، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعاً من المتصفين بهذه الصفات، فلذلك استحقوا التحية والسلام، والذكر الحسن بين الأنام، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ﴿وَإِنَّ لُوطاً لَّمِنَ المرسلين﴾ أي وإِنَّ لوطاً لأحد رسلنا لهداية قومه ﴿إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ﴾ أي ذكر حين خلصناه من العذاب هو ومن آمن معه من أهله وأولاده ﴿إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين﴾ أي إلا امرأته الكافرة فإِنها لم تؤمن فكانت من الباقين في العذاب ومن الهالكين ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين﴾ أي ثم أهلكنا المكذبين من قومه أشدَّ أهلاك وأفظعه، وذلك بقلب قراهم حيث جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، ولهذا عبَّر ب ﴿دَمَّرْنَا﴾ ﴿وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وباليل﴾ أي وإنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم في أسفاركم وتشاهدون آثار هلاكهم صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ؟ أي أتشاهدون ذلك ثم لا تعتبرون؟ ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم؟ ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين﴾ أي وإن يونس لأحد رسلنا المرسلين لهداية قومه ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون﴾ أي اذكر حين هرب إلى السفينة المملوءة بالرجال ﴿فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين﴾ أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر قال المفسريون: إن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه، فأنذرهم بعذاب قريب، وغاردهم مغضباً لأنهم كذبوه، فقاده الغضب إلى شاطىء البحر حيث ركب سفينة مشحونة، فناوأتها الرياح والأمواج، فقال الملاحون: ههنا عبدٌ أبق من سيده، ولا بدَّ لنجاة السفينة من إلقائه في الماء لتنجو من الغرق، فاقترعوا فخرجت القُرعة على يونس فألقوه في البحر ﴿فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أي فابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يُلام عليه من تخليه عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضباً لهم، وخروجه بغير إِذنٍ من ربه ﴿فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين﴾ أي لولا أنه كان من الذاكرين الله كثيراً في حياته ﴿لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، وأصبح بطنه قبراً له فلم ينج أبداً، ولكنه سبَّح اللهَ واستغفره وناداه في بطن الحوت بقوله
﴿لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين﴾ [الأنبياء: ٨٧] فاستجاب الله تضرعه ونداءه ﴿فَنَبَذْنَاهُ بالعرآء وَهُوَ سَقِيمٌ﴾ أي فألقيناه من بطن الحوت على الساحل، بالأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل، وهو سقيم مريض مما ناله من الكرب قال عطاء: أوحى الله تعالى إلى الحوت إني قد جعلت بطنك له سجناً، ولم أجعله لك طعاماً، فلذلك بقي سالماً لم يتغير منه شيء ﴿وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ﴾ أي وأنبتنا فوقه شجرة لتظله وتقيه حرَّ الشمس، وهي شجرة القرع ذات الأوراق العريضة قال ابن جزي: وإِنما خصَّ القرع بالذكر لأنه يجمع كبر الورق، وبرد الظل، والذبابُ لا يقربه، فإن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب، وكان هذا من تدبير الله ولطفه، فلما استكمل قوته وعافيته ردَّه الله إلى قومه ولهذا قال ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ أي وأرسلناه بعد ذلك إلى قومه الذين هرب منهم وهم مائة ألفٍ بل يزيدون قال المفسرون: كانوا مائة وعشرين ألفاً وقيل: وسبعين ألفاً، وهم أهل نينوى بجهة الموصل، و «أو»
40
بمعنى بل أي بل يزيدون ﴿فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ﴾ أي فآمنوا بعد أن شاهدوا أمارات العذاب الذي وُعدوا به فأبقيناهم ممتعين في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم قال في التسهيل: روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم، وفرقوا بينهم وبين الأمهات، وناحوا وتضرعوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم.. ولما انتهى من الحديث عن الرسل رجع إلى الحديث عن المكذبين من كفار مكة فقال ﴿فاستفتهم أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون﴾ ؟ أي اسأل يا محمد واستخبر كفار مكة على سبيل التوبيخ والتقريع لهم كيف زعموا أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للهِ الإِناث ولأنفسهم الذكور؟ إنهم يكرهون البنات ولا يرضون نسبتهنَّ لأنفسهم، فيكيف يرضونها لله عَزَّ وَجَلَّ ويختصون بالبنين؟ ﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ﴾ توبيخٌ آخر على بهتانهم واستهزاء بهم وتجهيل أي بل أخلقنا الملائكة الأطهار حين خلقناهم، وجعلناهم إناثاً وهم شاهدون لذلك حين يقولون مثل هذا البهتان؟ ﴿أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله﴾ أي ألا فانتبهوا أيه الناس إن هؤلاء المشركين من كذبهم وافترائهم ينسبون إلى الله الذرية والولد ﴿وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ أي وهم كاذبون قطعاً في قولهم الملائكة بناتُ الله قال أبو السعود: والآية استئناف مسوقٌ لإِبطال أصل مذهبهم الفاسد، ببيان أن مبناه ليس إلا الإِفك الصريح، والافتراء القبيح، من غير أن يكون لهم دليلٌ قعطاً ﴿أَصْطَفَى البنات على البنين﴾ ؟ توبيخٌ وتقريع أي هل اختار جل وعلا البناتِ وفضلهن عن البنين؟ ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ؟ تسفيهٌ لهم وتجهيل أيْ أيُّ شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر؟ كيف يختار لنفسه أخسَّ الجنسين على زعمكم؟ ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ أي أفليس لكم تمييز وإدراك تعرفون به خطأ هذا الكلام؟ قال أبو السعود: أي أفلا تتذكرون بطلان هذا ببديهة العقل، فإِنه مركوزٌ في عقل كل ذكي وغبي ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ﴾ توبيخ آخر أي أم لكم برهان بيّن وحجة وا ضحة على أن الله اتخذ الملائكة بناتٍ له؟ ﴿فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ أي فأتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون.
. والغرضُ تعجيزهم وبيان أنهم لا يستندون في أقوالهم الباطلة على دليل شرعي، ولا منطق عقلي.. وينتقل إلى أسطورةٍ أُخرى لفَّقها المشركون، حيث زعموا أن هناك صلة بين الله سبحانه وبين الجنِّ، وأنه من التزاوج بين الله تعالى والجِنَّة ولدت الملائكة فيقول ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ أي جعل المشركومن بين الله وبين الجنِّ قرابة ونسباً، حيث قالوا إنه نكح من الجنِّ فولدت له الملائكة ﴿سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً﴾ [الإسراء: ٤٣] ثم زعموا أن الملائكة إناث، وأنهن بنات الله ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ أي لقد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب قال الصاوي: وهذا زيداة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل: هؤلاء الذين عظمتموهم وجعلتموهم بنات الله، أعلمُ بحالكم وما يئون إليه أمركم ﴿سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يصفه به هؤلاء الظالمون ﴿إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين﴾ استثناء منقطع أي لكنْ عباد الله
41
المخلصين فإِنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه به هؤلاء ﴿فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم﴾ أي فإنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه من الأصنام والشياطين لستم بقادرين على أن تُضلوا أحداً من عباد الله، إلاَّ من قضى الله عليه الشقاوة، وقدَّر أنه يدخل النار ويصلاها، ثم ذكر تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية لله فقال ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ أي وما منا ملك إلا له مرتبة ومنزلة ووظيفة لا يتعداها، فمنا الموكَّل بالأرزاق، ومنا الموكَّل بالآجال، ومنَّا من يتنزل بالوحي، ولكلٍ منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون﴾ أي الواقفون في العبادة صفوفاً ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون﴾ أي المنزهون الله سبحانه عن كلا ما يليق بعظمته وكبريائه، نسبّح الله في كل وقتٍ وحين قال في التسهيل: وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة ردًّ على من قال إنهم بناتُ الله، وشركاء الله، لأنه اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله، والتنزيه له جل وعلا ﴿وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين﴾ الضمر لكفار قريش و ﴿وَإِن﴾ هي المخففة من «إنَّ» الثقيلة أي وإن كان الحال والشأن أن كفار مكة كانوا قبل أن ينزل عليهم القرآن يقولون لو نزل علينا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا أعظم إيماناً منهم، وأكثر عبادةً وإخلاصاً للهِ منهم، فلما جاءهم القرآن كفروا به ولهذا قال ﴿فَكَفَرُواْ بِهِ﴾ أي فكفروا وكذبوا بالقرآن أشرف الكتب السماوية ﴿فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾ أي فسوف يرون عاقبة كفرهم بآيات الله، وهو وعيد وتهديد ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين﴾ أي سبق وعدنا وقضاؤنا للرسل الكرام ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ أي إنهم هم المنصورون على أعدائهم، والإشارة إلى قوله تعالى
﴿كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي﴾ [المجادلة: ٢١] ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ أي وإن جندنا المؤمنين لهم الغالبون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالحجة والبرهان، وفي الآخرة بدخول الجنان قال المفسرون: نصرُ الله للمؤمنين محقق، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المعارك، فإن القاعدة هي بالظفر والنصرة، وإنما يُغلبون في بعض الأحيان بسبب تقصيرٍ منهم أو ابتلاءً ومحنة ﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ﴾ أي أعرض عنه يا محمد إلى مدة يسيرة، إلى أن تؤمر بقتالهم ﴿وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ أي وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب، فسوف يبصرون عاقبة كفرهم ﴿أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ﴾ استفهام إنكاري للتهديد أي أيستعجلون بعذاب الله؟ روي أنه لما نزل ﴿فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ استهزءوا وقالوا متى هذا يكون؟ فنزلت الآية ثم قال تعالى ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين﴾ أي لا يستبعدوا ذلك فإن العذاب إذا نزل بفناء المكذبين فبئس هذا الصباح صباحهم، شبهه بجيسٍ هجم عليهم وقت الصباح فقطع دابرهم ﴿وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ﴾ كرره تأكيداً للتهديد وتسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ﴾ أي تنزه وتقدس ذو العزة والجبروت عما يصفه به المشركون ﴿وَسَلاَمٌ على المرسلين والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ أي وسلامٌ منا على الرسل الكرام، والحمد لله في البد والختام لله ربَ الخلائق أجمعين. نزَّه تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به سبحانه، فإنه حكى عنهم في هذه
42
السورة أقوالاً كثيرة شنيعة، وختم بتعميم السلام على الرسل الكرام وبحمده سبحانه، وهو تعليم للعباد.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق ﴿تَدْعُونَ.. وَتَذَرُونَ﴾ وبين ﴿البنات.. والبنين﴾.
٢ - تتابع التوبيخ وتكراره مثل ﴿أَلِرَبِّكَ البنات﴾ ؟ ﴿أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً﴾ ؟ ﴿مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ ؟ ﴿أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ ؟ ﴿أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ﴾ ؟ وكلها للتوبيخ والتبكيت.
٣ - التأكيد بعدة مؤكدات لتحقيق المعنى وتقريره مثل ﴿إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون﴾ فقد أُكدت كل من الجملتين بإن واللام.
٤ - الاستعارة التصريحية ﴿إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون﴾ شبه خروجه بغير إذن ربه بإِباق العبد من سيّده.
٥ - الالتفات من الخطاب إلى الغيبة ﴿وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً﴾ الأصل وتجعلون، والالتفاتُ للإِشارة إلى أنهم ليسوا أهلاً للخطاب، وهم بعيدون من رحمة ربَ الأرباب.
٦ - الاستعارة التمثيلية ﴿فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ﴾ مثل للعذاب النازل بهم بجيش هجم عليهم فأناخ بفنائهم بغتة، ونصحهم بعض النصاح فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم، حتى أجتاحهم الجيش. قال الزمخشري: وما فصحت هذه الجملة ولا كانت لها الروعة التي يروقك موردها إلا لمجيئها على طريقة التمثيل.
فَائِدَة: روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من سَّره أن يكتال بالمكيال الأوفى فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم ﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلاَمٌ على المرسلين والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ ».
43
Icon