ﰡ
تفسير سورة الصافات عدد ٦- ٥٦- ٣٧
نزلت بمكة بعد الأنعام، وهي مئة واثنتان وثمانون آية، وثمنمئة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وستة وعشرون حرفا، لا يوجد في القرآن سورة مبدوءة بما بدئت به، ولا مثلها في عدد الآي.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «وَالصَّافَّاتِ» الملائكة المصطفين لعظمة ربهم والخيل المصطفة بالمجاهدين لطاعته، والحيتان الصافة بالمياه بأمره، والطيور المصطفة بالهواء بقدرته «صَفًّا» ١ باستقامة واحدة أكثر انتظاما من أهل الدنيا الذين تعلموا هذا الاحترام وغيره من الكتب السماوية، أخرج أبو داود عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: ألا تصطفوا كما تصطف الملائكة عند ربهم؟ قلنا وكيف تصطف الملائكة عند ربهم؟ قال يتممون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» بالآيات الآمرة بالحق الزاجرة عن الباطل ومعنى الزجر الدفع قال:زجر أبي عروة السباع إذا | اشفق أن يختلطن بالغنم |
مطلب انقضاض الشهب واستراق السمع وما يحصل من الانقضاض ومعنى التعجب:
قال تعالى «إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا» القربى منكم أيها الناس «بِزِينَةٍ» عظيمة بديعة يعجز عن بعضها كل من وما في الكون وهي «الْكَواكِبِ» ٦ المنيرة فيها بأنواعها وأشكالها المتناسبة والمختلفة في اللون والحجم والضياء والسير والتسمية، فهذه الجوزاء وبنات نعش والميزان والثريا، وتلك القلادة والنثرة والبلدة والزهراء، وأولئك الجدي وسهيل والعقرب وغيرها مرصعة على زرقة السماء الواسع العظيم. قال:
فكأن أجرام النجوم لوامعا | درر نثرن على بساط أزرق |
لا أشتري الحمد القليل بقاؤه | يوما بذم الدهر أجمع واصبا |
«فَاسْتَفْتِهِمْ» يا سيد الخلق «أَهُمْ» قومك المعاندون لنا «أَشَدُّ خَلْقاً» أقوى وأعظم «أَمْ مَنْ خَلَقْنا» من الملائكة والسموات والأرض والكواكب والبحار والجبال بل هم أضعف وأحقر «إِنَّا خَلَقْناهُمْ» أي أصلهم آدم عليه السلام «مِنْ طِينٍ لازِبٍ ١١» لزج يلصق باليد ويجوز أن تطلق هذه الآية على بني آدم باعتبار أنهم خلقوا من التراب لأن مادتهم المكون منها جسمهم حاصلة من التراب ومن كان أصله من تراب فهو في غاية الضعف بالنسبة للمخلوقات الأخر ومن كان كذلك لا يليق به أن يتكبر ويتعظم وينكر قدرتنا على إعادته من رميم خلقه الأول وهو تراب أيضا قال النابغة:
فلا تحسبون الخير لا شر بعده | ولا تحسبون الشر ضربة لازب |
لتحققه) وشاهدوا أعمالهم السيئة وعظيم الجزاء الذي سيحل بهم «يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ ٢٠» الذي يدين الله به عباده الذي وعدنا به رسله في الدنيا وهو الحياة بعد الموت والعذاب بعد الحساب
«هذا يَوْمُ الْفَصْلِ» بين الناس الذي يظهر فيه المحسن من المسيء «الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ ٢١» في الدنيا ولا تصدقون الرسل حين أخبروكم به، وبعد أن اعترفوا وتحقق لهم الهلاك يقول الله جل شأنه لصف من الملائكة «احْشُرُوا» اجمعوا هؤلاء «الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم «وَأَزْواجَهُمْ» سوقوهم معهم من قرناء السوء الذين كانوا على دينهم وأشباههم وأمثالهم فيصنّفون طوائف الزناة والسعاة وشربة الخمر وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفرة أصنافا ومن المغامرين وتاركي الصلاة والصوم والحج وغيرهم من عصاة المسلمين أصنافا لأن هذه الآية عامة في كل ظالم من كفرة الأمم كلها وعصاتها «وَما كانُوا يَعْبُدُونَ ٢٢» في الدنيا من كل شيء «مِنْ دُونِ اللَّهِ» فيدخل في هذه الآية الأموال والأولاد والنساء الذين
لأنه أنسب بالمقام وما يخطر الذهن أنه بمعنى الجهة لا طائل تحته، وإن كانت جهة اليمين مرجحة على جهة اليسار ومشرفة عليها جاهلية وإسلاما إلا أن الإخلال الذي جاءهم من قبل رؤسائهم سواء كانوا يتكلمون معهم به من جهة يمينهم أو شمالهم فهو على حد سواء وليس مما يوجب أن يعاتب عليه في مثل هذا المقام «قالُوا» الرؤساء مجاوبين أتباعهم: ليس الأمر كما تقولون «بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ٢٩» من الأصل وقد أصررتم على الكفر بالرسل باختياركم وطوعكم «وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ» قوة قاهرة كما زعمتم وهذا مما يؤيد التفسير الأول بأن اليمين بمعنى القوة والقهر «بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ ٣٠» فطرة متجاوزين الحد لأنا دعوناكم فتبعتمونا رضا لا كرها
«فَحَقَّ» وجب «عَلَيْنا» نحن وأنتم «قَوْلُ رَبِّنا» وعيده بالعذاب الذي هددنا به رسله في الدنيا ولذلك «إِنَّا لَذائِقُونَ ٣١» وباله الآن لا محالة ثم اعترضوا لهم بقولهم «فَأَغْوَيْناكُمْ» بالدنيا ودعوناكم لمعصية الرسل وطاعتنا في الضلال حقا، والسبب: «إِنَّا كُنَّا غاوِينَ ٣٢» ضالين وأردناكم لتكونوا مثلنا. قال تعالى «فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ» في الآخرة يكونون «فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ ٣٣» كما اشتركوا بالغواية في الدنيا «إِنَّا كَذلِكَ»
«أُولئِكَ» المخلصون المقبولون عند الله «لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ ٤١» لدينا بكرة وعشيا راجع الآية ٦٢ من سورة مريم من ج ١ ثم أبدل فى هذا الرزق قوله «فَواكِهُ» للتلذذ ليس إلا، لأنهم بغنى عن الأكل والشرب، وأن حجتهم محفوظة، لأن الله تكفل بتخليدها في الجنة سالمة منعمة والفاكهة تشمل جميع الثمار رطبها ويابسها ومن الطعام ما يؤكل للتلذذ لا للتقوت «وَهُمْ مُكْرَمُونَ ٤٢» عند بارئهم معظّمون «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ٤٣» «عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ٤٤» بوجوههم إلى بعضهم وهو من آداب المجالسة كما مر في الآية ١٦ من الواقعة في ج ١ «يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ» مملوءة من الخمر الذي لم تمسه الأيدي ولم تطأه الأرجل، وقد ذكرنا في الآية ١٨ من سورة الواقعة المذكورة أن لا يقال كأس إلا وهي مملوءة بالشراب وإلا فهي زجاجة أو كوب أو إبريق وهذا الخمر ليس كخمر الدنيا وإنما هو «مِنْ مَعِينٍ» ٤٥ نهر جار أو ماء ظاهر فوق
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر | ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر |
ورحم الله داود باشا والي العراق في القرن الثاني عشر هجري حينما سمع أولادا يغنون في الطريق ويقولون:
يا بو زبين حمر وامدكك بإبره | كل الشرائع زلق، من يمّنا العبرة |
واعلم أن الله تعالى وصف هذه الخمرة بعروها من الغول الذي هو غول العقل إذ يذهب به ولذلك نهى الله عن خمر الدنيا لأنها مملوءة منه فقد تذهب اللب وتوجع البطن وتحرق الحلق وتذيب الأمعاء وتخرش الرئة وتفتت الكبد وتحدث صداعا في الرأس ويعقبها القيء والعربدة والإفساد والسب والشتم وتورث السخرية والاستهزاء والتعيير وأشياء كثيرة لأنها أم الخبائث، وخمرة الآخرة براء من هذا كله ولم يحصل منها إلا السرور والإنشراح ولهذا وصفها الله بقوله عز قوله (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ ٤٧» أي لا تغلبهم على عقولهم فيسكرون منها ويفقدون الوعي، لأن نزف بمعنى فقد وذهب ونزع ونزح، أي أن خمر الدنيا تأخذ بعقول شاربيها، أما هذه فلا، قال الأبيرد اليربوعي:
لعمري لئن أنزفتهم أو حموتم | لبئس الندامى كنتم آل ابجرا |
بنت كرم تيموها أهلها | ثم هانوها بدوس بالقدم |
ثم عادوا احكموها فيهموا | ويلهم من جور مظلوم حكم |
رب كأس شربت لا غول فيها | وسقيت النديم منها مزاجا |
وبيضة خدر لا يرام خباؤها | تمتعت في مطويها غير معجل |
تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى | بهن اختلافا بل أتين على قدر |
«قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ ٥١» في الدنيا ينكر البعث وكان «يَقُولُ» لي «إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ٥٢» لما يقوله هذا الذي يزعم أنه رسول الله بأنا «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً» فبلينا «أَإِنَّا لَمَدِينُونَ ٥٣» محاسبون مؤاخذون بما نفعل في هذه الدنيا كلا لا نصدق، وقد جاء في الحديث العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والجاهل من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ثم التفت هذا المتكلم وخاطب أصحابه «قالَ» رجل من أهل الإيمان لجماعة معه في الجنة «هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ٥٤» معي في النار لأريكم ذلك الرجل الذي كان ينكر الحشر والحساب؟ قالوا بلى «فَاطَّلَعَ» القائل وتابعه رفاقه «فَرَآهُ» لأنه يعرفه دونهم فإذا هو «فِي سَواءِ الْجَحِيمِ ٥٥» وسطها وسمي الوسط سواء لاستواء المسافة بالنسبة للجوانب المحيطة به ثم طفق يخاطبه «قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ» قاربت وأوشكت يا قريني في الدنيا «لَتُرْدِينِ ٥٦» تهلكني في الآخرة وتوقعني بما وقعت فيه الآن «وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي» الذي ثبتني على الإسلام والإيمان «لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ٥٧» معك في هذه النار التي أنت فيها. ولم ينبه الله تعالى عن هذا القرين ماذا كان يعمل في الدنيا، فإذا حمل على قرينه من الشياطين يكون قوله ذلك من قبيل الوسوسة والإغواء، وان كان رفيقا له أو شريكا من الإنس وأخا كافرا أو عاصيا كما نص الله في سورة الكهف الآية ٣٢ الآتية وهي (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ) فيكون قوله على ظاهره وهو أولى والله أعلم كما سيأتي هناك إن شاء الله. ثم يقول أهل الجنة لسدنتها من الملائكة عند رؤيتهم ذلك النعيم المقيم حرصا على بقائهم فيها وخوفا من حرمانهم منه «أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ٥٨» بعد هذا وهل إنا لا نموت «إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى» التي أحيانا الله بعدها ونعمتنا في هذه النعمة الجليلة «وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ٥٩» بعدها يقولون هذا على طريق التحدث بالنعمة لأنهم يعلمون أنهم لا يموتون ولا يعذّبون
«لِمِثْلِ هذا» الذي نحن فيه من الخير «فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ٦١» لا للشهوات الدنيوية الدنيئة الفانية قال:
وما بقيت من اللذات إلا | أحاديث الكرام على المدام |
إذا شئت أن تحيا حياة هنيئة | فلا تتخذ شيئا تخاف له فقدا |
أتقتلني والمشرفيّ مضاجعي | ومسنونة زرق كأنياب أغوال |
«وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ» أي كفار مكة ومن حولها «أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ٧١» من الأمم الخالية إذ لم يهتد منهم إلا القليل «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ ٧٢» ينذرونهم بأسنا ويخوفونهم عذابنا ويحذرونهم يومنا هذا فلم يمتثلوا ولم يرتدعوا فأهلكناهم بإصرارهم على الكفر «فَانْظُرْ» يا سيد الرسل «كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ ٧٣» الدمار والتتبير الذي عمهم «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ٧٤» له والذين استخلصهم لذاته راجع الآية ٤٠ المارة فإن هؤلاء على المعنيين بمعزل عنهم لأنهم في الخيرات رافلون يتمتعون في النعيم «وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ» لتدمير قومه بعد أن أيس من إيمانهم بإعلامنا إياه بذلك وبإنجاء أهله مما ينزل بهم من العذاب فأجبناه وعزتي وجلالي يا حبيبي يا محمد إنا نحن إله الكل «فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ٧٥» لأوليائنا عند حلول الضيق بهم واللام هذه واقعة في جواب القسم المحذوف المقدر كما ذكرناه والمخصوص بالمدح محذوف أيضا وقد قدّرناه كما بيناه في هذه الآية «وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ» كلهم إلا زوجته الكافرة وابنه كنعان المتمنع عن دخول السفينة مع أبيه لإصراره على كفره، ولذلك استثنيناهما من الانجاء بقوله تعالى (إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها
الآية ٨١ وبقوله (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) الآية ٦٧ من سورة يونس وهود المارتين «مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ ٧٦» وهو الفرق العام الذي أهلكنا به قومه ولا أعظم منه «وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ ٧٧» إلى آخر الدوران فكل الناس الموجودين على وجه الأرض منهم ولهذا سمي أبا البشر الثاني، وقال من قال ان الطوفان عم الأرض كلها ولم يبق من البشر على سطح البسيطة إلا ذرية نوح عليه السلام، وان المراد والله أعلم بالباقين على هذا، هم أهل السفينة، إذ لم يثبت بصورة قطعية أن الطوفان عم على الأرض كلها لا سيما وأنه عليه السلام لم يرسل أولا إلى أهل الأرض كافة ولم يثبت خبر وصول دعوته وهو في جزيرة العرب جزيرة ابن عمر إلى الصين وغيرها من أقطار الأرض ونص الآية لا يستلزم عدم بقاء ذرية من لم يكن معه في السفينة وأولاده الثلاثة سام أبو العرب وفارس والروم ويافث أبو الترك والصقالبة ويأجوج ومأجوج وحام أبو القبط والسودان والحبشة أما كنعان الذي غرق مع قومه فلم يثبت له نسل وقد وردت أحاديث في أولاده المذكورين أخرجها الترمذي وابن مسعود واحمد والطبراني وابن المنذر وأبو يعلى وابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب وابن مردويه عن أبي هريرة والخطيب في تالي التلخيص والزارعة أيضا، وقدمنا ما يتعلق بها في الآية ٧٣ من سورة يونس والاية ٤٤ من سورة هود المارتين «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ٧٨» ثناء دائما وهو قولنا «سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ ٧٩» فهو يتردد على ألسنة الأنبياء والأمم في زمنه إلى قيام الساعة «إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزء الحسن «نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ٨٠» ونكرمهم بمثل هذه الكرامة
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ٨١» المستحقين للثناء الدائم المستمر ولذلك أجريناه عليه «ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ ٨٢» كفار قومه وإنه وزوجته المذكورين إذ حل عليهم العذاب راجع تفصيل القصة في الآية ٤٤ فما بعدها من سورة هود المارة «إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ ٨٢» لأنه نهج نهجه وسار سيره وتبع دينه وشيعة الرجل أتباعه المقتفون أثره، قالوا وكان بينهما الفان وستمئة وأربعون سنة، ولم يكن بينهما نبي إلا هودا وصالحا، وأرى أن هذا وما قدمناه من نسل
ومالي إلا آل أحمد شيعة | ومالي إلا مذهب الحق مذهب |
مطلب في العدوى وقسم من قصة ابراهيم وتأثير الكواكب وغيرها وكذب المنجمين:
وكانوا يعتقدون العدوى كالمتوهمين وضعاف اليقين من أهل هذا الزمن، لأن العدوى وإن كانت حقيقة إلا أنها بقدر الله وقد حذر الشارع من الاختلاط بالمخدومين لقذارتهم للعدوى، لأن الذي لا توجد فيه قابلية العدوى لا يعدى ولو أكل وشرب ونام مع المريض، وهذا ثابت لا ينكر وحذر أيضا الشارع من الدخول على البلد الذي فيه الطاعون لئلا يلزم من قدر عليه أن يصاب بذلك الوباء، فيقال له لم دخلت القرية الموبوءة حتى أصبت، وحذر أيضا من الخروج منها لئلا يلام هو إذا أصيب غيره بسببه ليس إلا، ويكفيك قول الرسول الأعظم للأعرابي حينما قال له بعد أن سمع منه حديث لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا غول وفرّ من المجذوم فرارك من الأسد. إنا نرى الجمل الأجرب يختلط بالإبل فيجربها (من أعدى الأول) تدبر هذا هداك الله وأزال وساوس قلبك وما تتخيله من الوهم المقضى إلى الأمراض والعلل لضعف قلوبهم «فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ ٩٠» تباعدوا عنه خشية العدوى فتركوه وذهبوا، فأخبروا الملك بمعذرته وبهذه الوسيلة تخلص من اجابة الدعوى لزيارة الأوثان وقدمنا ما يتعلق في مبادئ هذه القصة في الآية ٨٣ من سورة الأنعام المارة تبعا لذكر الله إياها هناك كما أتينا على قسم منها هنا للسبب نفسه وسيأتي تمامها في الآية ٥١ فما بعدها من سورة الأنبياء الآتية إن شاء الله القائل
«فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ» بعد أن ولوا عنه وكانوا ذهبوا إلى آلهتهم ووضعوا الأطعمة أمامها لتعود إليها بركتها وليأكلوا بعد رجوعهم من المراسيم المعتادة في الأعياد «فَقالَ» ابراهيم للأوثان «أَلا تَأْكُلُونَ ٩١» من هذا
فأجاب الله دعاءه بقوله «فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ ١٠١» كامل الخلقة والخلق لولاية عهده ولارشاد الخلق لخالقهم كي يعبدوه واعلم أن هذه الآية انطوت على أربع بشارات حمل زوجته وأن الحمل ذكر وأن يبلغ الحلم وأنه يكون حليما ومن عظيم حلمه ما قص الله عنه بقوله «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ» وصار يقدر على المشي والشغل «قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى» وهذه المشورة من إبراهيم عليه السلام لابنه إسماعيل ليعلم ما عنده فيما نزل به من البلاء ليختبر صبره على أمر الله وعزيمته على طاعته لا يرجع لأمره ورأيه، لأنه جازم في تنفيذ ما أمر به في رؤيا لان رؤيا الأنبياء عليهم السلام حق، فإذا رأوا شيئا فعلوه، وإنما كان الأمر بالمنام لأنه في نهاية المشقة وغاية الشدة على الذابح والمذبوح فكان كالتوطئة «قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ١٠٢» على تنفيذ أمر الله وإنما علق قوله بالمشيئة على سبيل التبرك لا غير، إذ لا حول عن المصيبة إلا بعصمة الله ولا قوة على الصبر عليها إلا بتوفيق الله.
واعلم أن هذه الآية الوحيدة التي استدل بها بعض الأصحاب والتابعين على أن الذبيح هو إسحاق، إلا أن الآيات غيرها تدل على أنه إسماعيل عليهما السلام وهو الصحيح كما سيأتي في القصة. هذا وأن بعض الناس أنكر أن يكون للكواكب تأثيرا في هذا الكون غير الضياء في المواقع التي تطلع عليها، وهذا فيه تفريط إذ بعضهم زعم أن لها تأثيرا في السعد والنحس وسعة العيش وضيقه وطول العمر وقصره، وهذا فيه إفراط، وبعضهم قال إن لها تأثيرا ما يجري على الأمر الطبيعي مثل أن يكون البلد القليل العرض. ومزاج مائل عن الاعتدال إلى الحر واليبس وكذلك مزاج أهله، إذ تكون أجسامهم ضعيفة وألوانهم سودا وخضرا كالنوبة والحبشة وأن يكون البلد الكثير العرض ذا مزاج مائل عن الاعتدال إلى البرد والرطوبة وكذلك مزاج أهله حيث تكون أجسامهم عبلة وألوانهم بيضا وشعورهم شقرا كالترك والصقالبة، ولها أيضا تأثير في نمو النبات واشتداده ونضج ثمره وتلوينه
وأجمعوا أيضا سنة ست وسنين على غلبة عبد الله بن زياد على المختار بن أبي عبد خليفة إبراهيم بن الأشتر صاحب المختار في أرض نصيبين ومعه سبعة آلاف فقهره وقتله وقتل من عسكره ثلاثه وسبعين ألفا ولم يقتل من أصحاب المختار سوى مائة نسمة، وأجمعوا أيضا يوم أسّست بغداد سنة مائة وست وأربعين على أن طالعها يقضي أن لا يموت فيها خليفة فقتل فيها الأمين والواثق والمتوكل والمعتضد والناصر وغيرهم، وهناك أمور أخر في كذبهم لا تحصى حتى أنهم سنة ١٩٢٠ ميلادية أشاعوا بأنه سيطلع نجم مذنب عظيم قد يلطم ذنبه كرة الأرض فيخرب قسما
كذب المنجم في مقالته التي | كان ادعاها في بنا بغدان |
قتل الأمين بها لعمري يقتضي | تكذيبهم في سائر الحسبان |
«إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ١١١» الكاملي الإيمان «وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ١١٢» لعبادتنا وخلافتنا في الأرض لإرشاد خلقنا زيادة في جزائه الحسن.
مطلب من هو الذبيح وأنه لا يلزم من فضل الأب فضل الابن وبالعكس وأن الفرع السيء والأصل السيء لا يعد عيبا ومعنى خضراء الدمن وبقية القصة:
وهذه الآية مما تدل على أن الذبيح هو إسماعيل عليه السلام دلالة كافية، لأنه بعد أن قص الله تعالى علينا الابتلاء بالذبح وتنفيذ أمره فيه وفدائه له ذكر
وفيها تنبيه على أن الخبث والطيب لا يجري أمرهما على العرف والعنصر، فقد يلد البر الفاجر والفاجر البر وهذا مما يهدم أمر الطبائع والعناصر وأن العقب السيء لم يعد عيبا ولا نقيصة على أصله وإنما ينحصر في النّاقص والعيب بالمعيب، كما أن الأصل لا يعد عيبا على الفرع من حيث الكفر وغيره ولا ينطبق هذا على قوله صلّى الله عليه وسلم إياكم وخضراء الدمن فان العرق دساس فإن هذا خاص بمن ضرب على أصلها بفاحشة خشية أن يقتص منها عنده لقوله ﷺ من زنى زني به ولو بحيطان داره أي لا ينجو من القصاص البتة ألا فليتق الله من أراد أن يحافظ على عرضه وأن الشرف يكون فيمن كان آباؤه إسلاما أكثر فهو أشرف ممن آباؤه إسلاما أقل.
وخلاصة هذه القصة على ما قاله الأخباريون هي أنه لما بشر ابراهيم بالولد قال هو ذبيح الله فلما شب قيل له أوف بنذرك، فأخذ سكينا وتعجيلا واستصحب ابنه وهو ابن ثلاث عشرة سنة أو سبع سنين وقال له لنذبح قربانا حتى بلغ به المذبح من منى قال له يا أبت أين القربان؟ قال يا بني أمرت بذبحك وكان ليلة رأى ليلة الثامن من ذي الحجة، فلما أصبح تروى أي تفكر هل رؤياه هذه من الله أو من الشيطان فسميت ليلة التروية ثم رآها ثانيا ليلة التاسع منه فعرف أنها من الله حقا فسميت ليلة عرفة ثم صمم على نحره ليلة العاشر فسميت ليلة النحر.
فاستسلم الغلام لأمر الله وقال يا أبت أفعل ما تؤمر وأشدد رباطي لئلا أضطرب واكفف ثيابي لئلا تتلطخ بالدم فتراه أمي فتحزن فينقص أجرها واستحد الشفرة وأسرع بمر السكين على حلقي ليهون علي الموت وأقرئ أمي مني السلام وأوصها
مطلب الحيوانات والجمادات التي تحشر وتبقى ورمي الجمار والحكم الشرعي في الأضحية:
وهذا الكبش وحمار عزير وكلب أهل الكهف وعصا موسى وناقة صالح تحشر وتبقى في الجنة كما جاءت بها الأخبار، أما غيرها من الحيوانات والجمادات عدا التي عبدت من دون الله فستكون ترابا والله أعلم. قال ابن عباس لو تمت ذبيحة إسماعيل عليه السلام لصار على الناس ذبح أولادهم سنة ولكن الله لطف بعباده ففداه ولهذا صارت الأضاحي سنة أو واجبة على اختلاف فيها بين المذاهب. قالوا وتعرض الشيطان لإبراهيم في المشعر محل الذبح في منى فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة فتعرض له الشيطان أيضا فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات أيضا حتى ذهب، فصار الرمي منذ ذلك الزمن
٧٤ من سورة الأنبياء الآتية، وكرر معناها في سور أخرى فلو كان المذبوح اسحق لما بشره ربه بأن يكون له حفيد منه وهذا القول وحده كاف الدلالة على أن الذبيح إسماعيل إذ لو كان الذبيح اسحق لحصل الشك لسيدنا إبراهيم بصحة الرؤيا لأن الله وعده بأنه سيتزوج ويأتي له ولد اسمه يعقوب فكيف يأمر بذبحه؟ هذا وأن وصف إسماعيل بالصبر دون اسحق يدل على أنه هو الذبيح لما فيه من المناسبة الصريحة ولأنه وصف بصدق الوعد بقول تعالى (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) الآية ١٥٣ من سورة مريم المارة في ج ١ حيث وعد أباه بالصبر والموافقة على ذبحه والامتثال لأمر ربه حين قص عليه رؤياه وقد وفى بذلك، وهذا كله يدل دلالة كافية على أن الذبيح هو إسماعيل ويؤيد هذا أن قرني الكبش كانتا معلقتين على الكعبة في أيدي ولد إسماعيل، وبقيت كذلك، إلى أن احترقت زمن ابن الزبير، قال الشعيبي رأيت قرني الكبش موطنين في الكعبة، وقال ابن عباس والذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام وان رأس الكبش لمعلق بقرنين في ميزاب الكعبة وقد وحش أي يبس. وقال الأصمعي سألت أبا عمر بن العلاء عن الذبيح أإسحاق أم إسماعيل، فقال يا أصمعي أين ذهب عقلك متى كان اسحق بمكة إنما كان إسماعيل، وان اليهود تعلم ذلك، ولكن يحسدونكم معشر العرب
إن الذّبيح هدين إسماعيل | نص الكتاب بذاك والتنزيل |
شرف به خصّ الإله نبيّنا | وأتى به التفسير والتأويل |
إن كنت في أمته فلا تنكر له | شرفا به قد خصه التفضيل |
«إِنَّا كَذلِكَ» مثل هذا الجزاء الذي جزيناهما به
مطلب قصة إلياس عليه السلام وقسم من قصة لوط عليه السلام:
قال تعالى فيما قصة على نبيه أيضا بعد تلك القصص «وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ١٢٣» إلى أهل بعلبك وهو إلياس بن يس وقيل ابن بشير وهو ضعيف جدا بل هو ابن ياسين بن فنحاص بن العيزار بن هرون عليه السلام بن عمران وما قيل إنه إدريس ضعيف أيضا ومخالف للظاهر ولا مستند له إلا الظن وهو لا يغني شيئا في الاستدلال على الحق إذ بين إدريس وإلياس قرون كثيرة لأنه من آدم وإلياس من نوح وإدريس لم يبعث بعد إلى أهل بعلبك فهو قول مخالف للنص تدبر، وراجع الآية ٨٥ من سورة الأنبياء الآتية بشأن نسبه «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ» وكانوا من بني إسرائيل ولذلك أضيفوا إليه «أَلا تَتَّقُونَ ١٢٤» الله وهو في الجملة وما بعدها مقول قوله عليه السلام «أَتَدْعُونَ» باستغاثتكم وتطلبون في حوائجكم وترجون في مهماتكم «بَعْلًا» هو اسم صنم لهم يعبدونه وقد أول بعضهم تدعون بيعبدون وهو هنا خلافه الظاهر كما ترى في هذه الآية وإلا فانه يأتي دعى بمعنى عبد، ويصح المعنى في مواضع كثيرة راجع الآية ٤٨ من سورة مريم في ج ١ وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ ١٢٥ فلا تسألونه وهو خالقكم والصنم من خلقكم الذي هو من خلق الله أيضا لأن العبد مخلوق لله وصنعه مخلوق لله أي انكم بفعلكم هذا تتركون «اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ» وهذه كلها بالنصب صفة لأحسن الخالقين المتقدم «آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ ١٢٦» هو أحق أن تلجأوا إليه في أموركم وهو أحرى بأن يجيبكم لأن هذا الصنم لا يضر ولا ينفع ولا يعقل ولا يسمع ولا يبصر ولا يتكلم فكيف ترجون منه ما تأملون فلم يصغوا «فَكَذَّبُوهُ» ولم يلتفتوا إليه ولم يعبئوا بنصحه ولم يعتنوا به قال تعالى مهددا لهم على استخفافهم «فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ١٢٧» يوم القيامة فنحاسبهم ونجازيهم على كفرهم بالنّار التي لا يسلم من عذابها «إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ١٢٨» له الذين استخلصهم لعبادته «وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ ١٢٩» ثناء مستمرا ما بقي الملوان وهو
«إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ١٣١» في الدنيا إحسانا في الآخرة جزاء إحسانهم ومثل ذلك الجزاء الحسن نجزي نبينا الياس «إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ ١٣٢» بنا المصدقين لرسلنا. وخلاصة قصته على ما قاله الأخباريون هو أنه لما مات حزقيل عليه السلام كثر الفساد في بني إسرائيل وعبدوا الأصنام فبعث الله تعالى لهم الياس نبيا وكان الأنبياء بعد موسى يبعثون بتجديد أحكام التوراة وكان يوشع لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل فأصاب سبطا منهم بعلبك ونواحيها وهم الذين بعث إليهم الياس وكان ملكهم اسمه آجب، قد ضل وأضل وأجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم يسمى بعلا مصوغا من الذهب بطول عشرين ذراعا وله أربعة أوجه وقد فتنوا به وجعلوا له أربعمائة سادن وسموهم أنبياء، وكان الشيطان يدخل ويتكلم بما يضللهم فيحفظونه السدنة ويأمرون الناس به وصار الياس عليه السلام ينهاهم عن عبادته ويأمرهم بعبادة الله فلم يذعن لدعوته إلا الملك فإنه آمن به واسترشد برشده وكان له زوجة جبارة يستخلفها عند غيابه فاغتصبت جنينه من رجل كان يتعيش بها فلما عارضها قتلته فأمر الله الياس أن يخبر الملك وزوجته بان الله غضب عليهما باغتصابهما الجنّة وقتل صاحبها لأن الملك لما لم يردعها عدّ راضيا بفعلها وأن يخبرهما بأنهما إذا لم يردا الجنة لورثته يهلكهما فيها ولا يتمتعان بها إلا قليلا فأخبرهما الياس فاشتد غضب الملك عليه وقال له يا الياس ما أراك تدعو إلا إلى الباطل، وهمّ بقتله فهرب الياس وارتد الملك عن الإيمان ورجع إلى عبادة الأوثان وبقي الياس مستخفيا بين الجبال سنين وهم يتحرونه ولم يقفوا على أثره، فضاق صدره عليه السلام، وسأل الله أن يميته، فقال تعالى له ما هذا وقت إعراء الأرض منك، لأن صلاحها بك، فقال يا رب أعطني ثأري من بني إسرائيل، قال ما تريد، قال اجعل خزائن المطر بيدي ثلاث سنين، فإنه لا يذلهم إلا هذا، فأعطاه الله ذلك ومنع عنهم المطر فهلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الياس، وهو لم يزل مستخفيا وقد عرف قومه أن البلاء جاءهم بسببه، فمر ذات يوم بعجوز منهم فضافها فأخرجت له قليلا
عليها فانطلقت به في الهواء فناداه اليسع بماذا تأمرني فألقى إليه رداءه فاستدل به على استخلافه فلبسه ورجع يدعو الناس إلى طاعة ربه واقتفى آثار دعوة الياس عليهما السلام، قالوا وان الله تعالى قطع عن الياس الحاجة إلى الطعام والشراب
هذا، وقد سلط الله على الملك المرتد وقومه عدوا لهم فأرهقهم وقتل الملك وزوجته ارببل في الجنة التي غصبتها كما أخبرهم نبيهم الياس، وقد نبأ الله اليسع وبعثه إليهم فآمنوا به، قال تعالى «وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ١٣٣» من قبل إلى طائفة من عبادنا فتغلبوا عليه وأرادوا البطش بأضيافه فاذكر يا محمد لقومك «إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ ١٣٤» من الإهلاك الذي حل بقومه «إِلَّا عَجُوزاً» هي زوجته واعلة لأنها على دين قومه وليست من عشيرته لأنه غريب عنهم كما تقدم راجع الآية ٧٨ من سورة هود المارة وتطلع على تفصيل قصته في الآية ٧٩ من سورة الأعراف في ج ١ «فِي الْغابِرِينَ ١٣٥» الباقين في العذاب «ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ
١٣٦» تدميرا فظيعا فلم نبق منهم أحدا «وَإِنَّكُمْ»
يا أهل مكة «لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ»
عند ما تسافرون إلى الشام «مُصْبِحِينَ
١٣٧» نهارا «وَبِاللَّيْلِ»
أيضا إذ ترون منازلهم وآثار أطلالهم بذهابكم وإيابكم صباح مساء «أَفَلا تَعْقِلُونَ
١٣٨» كيف كانوا وما حل بهم من العذاب حتى دمروا وأهلكوا بسبب كفرهم وتعندهم مع نبيهم فاتعظوا لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من العذاب لأنكم متقمّصون بالأعمال السيئة التي أهلكوا من أجلها من الكفر والتكذيب والاستهزاء، ولو أنهم آمنوا بنبيهم وصدقوا بما جاءهم به لما أهلكوا، قال تعالى «وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
١٣٩» إلى أهل نينوى من قبل الله تعالى فدعاهم للإيمان فلم يقبلوا، واذكر لقومك قصته يا محمد «إِذْ أَبَقَ»
هرب من قومه حين رفع الله عنهم العذاب غضبا عليهم أو حين استبطأ نزوله بهم وقد نفذ الوقت الذي وعدهم به خوفا من أن يصموه بالكذب فقر منهم «إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
١٤٠» المملوء، قالوا لما وصل إلى البحر كان معه زوجته وولداه فجاء المركب فقدم امرأته ليركب بعدها فحال بينهما الموج وذهب المركب وتركه وجاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، ثم جاء ذئب وأخذ
وذلك قوله تعالى «فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
١٤١» المغلوبين في القرعة «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ١٤٢» فعل فعلا يلام عليه بالنسبة لمقامه وذلك على حد حسنات الأبرار سيئات المقربين لأنه لم يفعل على رأيه ما يعاقب عليه «فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ١٤٣» لنا المكثرين لذكرنا الراجعين لأمرنا «لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ» لبقي في جوف الحوت «إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ١٤٤» من قبورهم الأموات هو وقومه وغيرهم، وكان تسبيحه عليه السلام كما ذكر ربه في الآية ٨٧ من سورة الأنبياء الآتية (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) وهذا هو الذي نجاه، وكان عليه السلام يديم ذكر ربه قبل ذلك لا يفتر عنه أبدا ولهذا عده الله من المسبحين، وجاء في الحديث اذكروا الله في الرخاء يذكركم بالشدة «فَنَبَذْناهُ» أجبنا دعاءه وأخرجناه من بطن الحوت وقذفناه «بِالْعَراءِ» الأرض الخالية من النبات والشجر «وَهُوَ سَقِيمٌ ١٤٥» عليل البدن من حرارة بطن الحوت، جاء في الخبر أن الملائكة لما سمعت تسبيح يونس عليه السلام قالوا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة وقالوا غريبة لأنهم لم يسمعوا بشرا يذكر الله فيها قبل، وإنما يسمعون الحيتان والديدان وغيرها وهو يختلف عن ذكر البشر، فقال تعالى ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا ربنا ذلك العبد الصالح الذي كان يصعد عمله الصالح إليك كل يوم وليلة؟ قال هو ذاك، قال فيشفعون له، فأمر الله الحوت فقذفته بأرض نصيبين من قاعدة ربيعة وهي مجاورة لديار بكر ويليها من جهة الشرق الشمالي ديار مضر ويسمونها الآن جزيرة ابن عمر، وهذا مما يدل على أن المراد بالبحر هو دجلة التي تصب في البحر بعد اختلاطه بالفرات بالقرنة قبل البصرة، فعلى هذا
١٤٦» القرع الطويل غير الكوسا وغير المحزق الذي يسبح عليه وهو معروف، والحكمة من اختيار الله تعالى لهذه الشجرة دون غيرها لأنها سريعة النبات والنمو ولأنها لا يقف الذباب عليها فضلا عن الإظلال، وكان خروجه عليه السلام مثل الفرخ الذي لا ريش له إذ هري لحمه من سخونة بطن الحوت وكل شيء يؤذيه إذا لمسه، لذلك لطف الله به فأنبت عليه هذه الشجرة، قالوا وكانت هناك وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها صباح مساء وبقي حتى اشتد لحمه وجمد عظمه وثبت شعره، فنام ذات ليلة تحت ظلالها، فلما استيقظ وجدها يابسة فحزن لما فاته من ظلها ودفع الذباب عنه فجاءه جبريل عليه السلام وقال له أتحزن على شجرة يا يونس ولا تحزن على مئة ألف من أمتك قد تابوا وأسلموا، وذلك قوله تعالى «وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ١٤٧» في نظر الرائي أي إذا رآهم أحد يقول هؤلاء مئة ألف وأكثر لأن الإرسال كان قبل أن يصيبه ما أصابه فذهب إليهم «فَآمَنُوا» به وكان إيمانهم بالله تعالى عند معاينتهم العذاب بعد أن تركهم راجع القصة في الآية ٩٧ من سورة يونس المارة، قال تعالى «فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ ١٤٨» انقضاء آجالهم فيها حسبما هو مقدر في علمنا، هذا وإنما لم يختم الله تعالى قصتي لوط ويونس عليهما السلام بالسلام كما ختم القصص قبلهما لأنه ختم هذه السورة بالسلام على جميع المرسلين وهما من جملتهم وقد سبق بحث لهذه القصة في الآية ٤٩ من سورة نون في ج ١ فراجعها، ثم التفت جل جلاله إلى رسوله محمد صلّى الله عليه وسلم وخاطبه بقوله «فَاسْتَفْتِهِمْ» عطف على قوله أول السورة (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) وذلك بعد أن بين الله معايبهم بإنكار البعث طفق يبين مثالبهم مما نسبوه إليه تعالى فقال سلهم يا محمد «أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ» اللاتي يستنكفون عنهن ويقتلونهن خشية العار أو نفقتهن «وَلَهُمُ الْبَنُونَ ١٤٩»
، أي كيف يليق بقومك يا حبيبي أن ينسبوا لي ما يكرهون ولأنفسهم ما يحبون وأنا المنزه عن ذلك كله «أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ ١٥٠» على ذلك حتى يسمونهم بنات «كلا» يا أكرم الرسل ليسوا بأولاد الله بل عباده وهم من أشرف الخلق وأقدسهم عن النقائص ولم يشاهدوا خلقهم ولم يعلموا به ولم يكن لي بنات ولم يولد لي شيء
«أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ ١٥١» «وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ١٥٢» في زعمهم ونسبتهم ولم نخلقهم إناثا ولم يشاهدوا خلقهم فهم مبرأون عما وسموهم به لأنهم لا يوصفون بذكورة ولا بأنوثة لأنهم لا شهوة لهم «أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ١٥٣» اختارهن عليهم وأنتم تعدون الأنوثة من أخس صفات الحيوان أيليق بكم هذا «ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ١٥٤» على الله هذا الحكم الجائر الذي لا ترضونه لأنفسكم وهو جهل صادر منكم بذات الربوبية الأقدس «أَفَلا تَذَكَّرُونَ ١٥٥» بمقامه الجليل وترتدعون عما تتقولون، وهذا استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع أي لا يكون شيء من ذلك جائز البتة «أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ ١٥٦» على زعمكم هذا كلا لا دليل ولا حجة ولا برهان ولا أمارة بذلك فإن كان عندكم به شيء «فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ»
الذي فيه هذا «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
١٥٧» بقولكم، قال تعالى «وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً» إذ قالوا إن الله تعالى تزوج من الجن وهم حي على حدة منهم إبليس عليه اللعنة.
مطلب في الجن ونصرة الله تعالى أنبياءه وما يستخرج من الآية:
أخرج ابن الياس وعبد بن حميد وابن جرير وغيرهم عن مجاهد قال: قال كفار قريش الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على سبيل التبكيت فممن أمهاتهم؟ فقالوا بنات سروات الجن أي أشرافهم.
ورواه أيضا ابن أبي حاتم عن عطية وقال ابن عباس هم حي من الملائكة يقال لهم الجن ومنهم إبليس، وقيل إن المراد بالجن الملائكة وسموا جنا لاستتارهم.
«فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ١٦١» من دون الله «ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ» على الذات المقدسة بما تصمونها به «بِفاتِنِينَ ١٦٢» مضلين ومفسدين أحدا من خلقه، وأعاد بعض المفسرين ضمير عليه إلى ما فيكون المعنى ما أنتم بباعثين أو حاملين على طريق الفتنة «إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ ١٦٣» حذفت الياء من (صال) وجعلت الكسرة دالة عليها لالتقاء الساكنين على كونه مفردا لأن معناها هنا يدل على المفرد، أما كلمة (صالُوا) الواردة في الآية ٥٩ من سورة ص المارة في ج ١ فقد حذف منها النون للاضافة وللالتقاء الساكنين فيها أيضا لأنه بلفظ الجمع ولهذا لم يكتب هنا بالواو لأنه بلفظ المفرد وقرىء بضم اللام قراءة شاذة على أنه معنى من جمع أي لا يفعل هذا الفعل المنهي عنه إلا من سبقت له الشقاوة من علم الله وقدر له دخول النار. هذا، وقد جاء في هذه الآيات
قال تعالى «وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ١٧١» التي وعدناهم بها عند ما نرسلهم لهداية الأمم وهي قوله جل قوله (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) الآية ٢١ من سورة المجادلة
١٧٣» على غيرهم من جميع الأخبار، واعلم أن حروف هذه الآية المباركة بحساب الجمل ١٣٦٠ وحروف الأولى ٦٤٤ فيكون مجموع حروف هاتين الآيتين ١٧٢/ ١٧٣ بحسب السنة الشمسية أيضا ٢٠٠٤ وحروف الآية ١٧٣ وحدها على حساب السنة القمرية ١٣٦٠ والآية ١٠٣ من سورة يونس المارة ١٤٦٨ أيضا فنسأل الله تعالى تحقيق وعده بنصرة الإسلام وإكمال عزهم ورفع رايتهم على سائر الأمم من الآن حتى يتم كماله فيها وهو على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وقد سمى الله هاتين الجملتين كلمة لا نتظامهما في معنى واحد فكانتا في حكم الكلمة على حد قوله تعالى (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) الآية ١٠٠ من سورة المؤمنين الآتية وهي إشارة إلى قوله (رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا) وهي كلمات لا كلمة وعليه تعبيره صلّى الله عليه وسلم عن لا إله إلا الله محمد رسول الله بكلمة أيضا. هذا، ولا يقال إن من الأنبياء من لم ينصر وقد يغلب ويقتل أيضا لأن النصر إذا لم يكن في الدنيا فهو في الآخرة محقق لكافة الرسل والعبرة في الدنيا للغالب في النصرة الفعلية أما في المحاججة فلا شك أن النصرة لجميع الأنبياء كما هو معلوم من قصصهم التي قصها الله علينا، قال تعالى يا أكرم الرسل «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ ١٧٤» إلى مدة يسيرة فقد قرب نزول العذاب بهم إذ طفح الكيل وبلغ السيل الزبى وهذا من قبيل التهديد والوعيد فمن قال إن هذه الآية منسوخة بآية السيف فقد هفا لأنها من الأخبار وكل ما كان فيه تهديد ووعيد لا يتطرقه النسخ «وَأَبْصِرْهُمْ» إذا حل بهم ما يوعدون به من العذاب «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ١٧٥» وقوعه فيهم وسوف هنا للوعيد لا للتبعيد تدبر. ولما هددهم حضرة الرسول بذلك قالوا: ومتى يكون ما توعدنا به يا محمد؟
فقال تعالى مجاوبا لهم عن نبيه «أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ ١٧٦» كفرة قومك وهذا استفهام على طريق التوبيخ بسبب استعجالهم ما فيه بؤسهم وشقاؤهم «فَإِذا نَزَلَ» العذاب «بِساحَتِهِمْ» فناء دورهم والساحة المكان المتسع أيضا العرصة الكبيرة أمام الدور «فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ ١٧٧» بئس الصباح صباحهم وساء
«وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ ١٨١» جميعهم من آدم إلى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين «وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ١٨٢» على إهلاك الأعداء ونصرة الأولياء، وفي هذه الآية تعليم لعباده بأن يختموا كلامهم بحمد ربهم في الدنيا لأنه خاتمة كلام أهل الجنة وقد ختمت سورة الزمر الآتية بمثل هذه الآية، وجاء في سورة يونس المارة الآية ١٠ (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).
هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تفسير سورة لقمان عدد ٧- ٥٧- ٣١
نزلت بمكة بعد الصافات عدا الآيات ٢٧، ٢٨، ٢٩ فإنهن نزلن بالمدينة وهي أربع وثلاثون آية، وخمسمائة وثمان وأربعون كلمة وألفان ومئة وعشرة أحرف.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قال تعالى: «الم» ١ تقدم ما فيه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه إن لله في كل كتاب سرا وسر القرآن في أوائل السور، ونقل عن علي كرم الله وجهه أنه كان يقول يا كهيعص يا حمعسق كأنه بعدها من أسماء الله والله أعلم بما فيه. وفيه من مفاتح أسماء الله الحسنى اللهمطلب تحريم الغناء وبيع الغانيات ورواسي الأرض:
نزلت هذه الآية بالنضر بن الحارث بن كلدة كان يتجر في الحيرة فيأتي بأخبار العجم، قيل إنه جاء بأخبار كليلة ودمنة معربة (وهي معروفة) إلى الحجاز وصار
(وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) الآية ٣ من سورة المؤمنين الآتية، وقال تعالى:
(وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) الآية ٣٢ من الفرقان المارة في ج ١، وفي مدح الله تعالى الذين يعرضون عن اللغو ذم للذين يتوغلون به، هذا وأن الأحاديث كالأساطير والأضاحيك من كل ما لا يعتد به ولا خير فيه من الكلام ويستعمل في قليل الكلام وكثيره لأنه يحدث شيئا فشيئا محشوّ بالكذب فسماعها من اللغو
إذا ركب الرجل الدابة ولم يسم ردفه الشيطان فقال تغنّه، وإن كان لا يحسن قال تمنّه، وذلك ليشغله عن ذكر الله تعالى. وأخرجا أيضا عن الشعبي قال عن القاسم بن محمد إنه إذا سئل عن الغناء قال للسائل أنهاك عنه وأكرهه لك، فقال السائل أحرام هو؟ قال انظر يا ابن أخي إذا ميز الله تعالى الحق من الباطل في أيهما يجعل سبحانه الغناء، يريد أنه يجعله في الباطل إذ ليس بحق ليكون مع الحق، وما بعد الحق إلا الضلال، ويكفي في ذمه أنه من الشيطان كما مر في الحديث السابق من أن الشيطان يوسوس له فيه، حتى انه إذا عرف أنه لا يحسنه وسوس له بالتمني لما يخطره بباله، فالغناء من أهواء النفس، والتمني رأسمال المفلس.
وأخرجا عنه أيضا قال: لعن الله تعالى المغني والمغني له. وجاء في السنن عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم الغناء ينبت النّفاق في القلب كما ينبت الماء البقل. وقال يزيد بن الوليد الناقص: يا بني أمية إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة وانه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل المسكر فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزناء وإنما سمي ناقصا مع أنه أعدل ملوك بني أمية عدا عمر بن عبد العزيز رحمه الله لأنه يعد من جملة الخلفاء الراشدين لنقصه أعطية الجند ويسمى عمر الأشج لشجة فيه، ولذا يقال أعدل ملوك الأمويين الأشج والناقص. وأخرج ابن أبي الدنيا وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: إن الله تعالى حرم القيناء وبيعها وثمنها وتعليمها والاستماع إليها ثم قرأت الآية المارة. الحكم الشرعي: قال القاضي أبو الطيب والقاضي عياض والقرطبي والماوردي نقلا عن الإمام أبي حنيفة إنه حرام، وقال في التتارخانية إن التغنّي حرام في جميع الأديان، وذكر في الزيادات أن الوصية للمغنين والمغنيات مما هو معصية عندنا وعند أهل الكتاب، وعده صاحبا الهداية والذخيرة
إذا لم يكن في الغناء مفسدة كشرب الخمر والنظر إلى الأجنبية والمرد وقول الزور ومما يرغب إلى الشهوات الدنيئة فهو مباح، وعلى كل حال تركه أولى لأنه يشغل عن ذكر الله في الدنيا ويكون في الآخرة مع الباطل في وزن الأعمال.
قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» زيادة على إيمانهم في الدنيا «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» ٨ في الآخرة جزاء أعمالهم الحسنة «خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» وهو لا يخلف وعده «وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» ٩ الذين يهين أعداءه بغلبته القاهرة ويعزّ أولياءه بحكمته البالغة وهو «الذي خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ» في هذه الجملة قولان صحيحان فمن قال إنه لا عمد لها البتة وقف على قوله (عَمَدٍ)، ومن قال إن لها عمدا غير مرئية وقف على قوله «تَرَوْنَها» أي إن لها عمد عظيمة ولكنكم لا ترونها أو هي بلا عمد كما ترونها وكل بليغ في القدرة والآية محتملة للوجهين والله قادر على الأمرين لا يعجزه شيء، وجيء بهذه الآية كالاستشهاد على عظيم قدرته وكمال عزته وبليغ حكمته التي هي ملاك العلم وإتقان العمل وتمهيد قاعدة التوحيد وتقريره وإبطال مادة الشرك وتبكيت أهله «وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ» جبالا شامخات ثوابت «أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ» لئلا تتحرك وتضطرب بكم أيها الناس فجعلها ساكنة فيما ترون من نعم الله عليكم ومن تمام النفع بها لأنها لو خلت من هذه الثوابت لمادت بالمياه المحيطة بها الغامرة