تفسير سورة الصافات

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الصافات من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي مائة واثنان وثمانون آية، وثمانمائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي له الكمال المطلق ﴿ الرحمان ﴾ الذي من رحمته العدل في الدارين ﴿ الرحيم ﴾ الذي لا يدنو من جنابه نقص.

واختلف في تفسير قوله تعالى :﴿ والصافات صفا ﴾ أي : وهو ترتيب الجمع على خط، فقال ابن عباس والحسن وقتادة : هم الملائكة في السماء يصفون كصفوف الخلق في الدنيا للصلاة، وعن جابر بن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«ألا تصفون كصفوف الملائكة عند ربهم » قلنا : وكيف تصف الملائكة عند ربهم ؟ قال :«يتمون الصفوف المتقدمة ويتراصون في الصف ». وقيل : هي الملائكة تصف أجنحتها في الهواء واقفة حتى يأمرها الله تعالى بما يريد، وقيل : هي الطير تصف أجنحتها في الهواء لقوله تعالى :﴿ والطير صافات ﴾ ( النور : ٤١ ).
واختلف أيضاً في قوله تعالى :﴿ فالزاجرات زجراً ﴾ فأكثر المفسرين على أنها الملائكة تزجر السحاب وتسوقه، وقال قتادة : هي زواجر القرآن تنهي وتزجر عن القبيح.
واختلف أيضاً في قوله تعالى :﴿ فالتاليات ذكراً ﴾ فالأكثر أيضاً، أنهم الملائكة عليهم السلام يتلون ذكر الله تعالى، وقيل : هم جماعة قراء القرآن.
فإن قيل : قال أبو مسلم الأصفهاني : لا يجوز حمل هذه الألفاظ على الملائكة ؛ لأنها مشعرة بالتأنيث والملائكة عليهم السلام مبرؤون من هذه الصفة. أجيب بوجهين :
الأول : أن الصافات جمع الجمع فإنه يقال : جماعة صافة ثم تجمع على صافات.
والثاني : أنهم مبرؤون من التأنيث المعنوي وأما التأنيث اللفظي فلا، وكيف وهم يسمون بالملائكة مع أن علامة التأنيث حاصلة.
تنبيه : اختلف الناس ههنا في المقسم به على قولين :
أحدهما : أن المقسم به خالق هذه الأشياء لنهيه صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى، ولأن الحلف في مثل هذا الموضع تعظيم للمحلوف به، ومثل هذا التعظيم لا يليق إلا بالله تعالى، ففي ذلك إضمار تقديره ورب الصافات ورب الزاجرات ورب التاليات، ومما يؤيد هذا أنه تعالى صرح به في قوله تعالى :﴿ والسماء وما بناها ( ٥ ) والأرض وما طحاها ( ٦ ) ونفس وما سوّاها ﴾ ( الشمس : ٥ ٧ ).
والثاني : وعليه الأكثر أن المقسم به هذه الأشياء لظاهر اللفظ فالعدول عنه خلاف الدليل، وأما النهي عن الحلف بغير الله تعالى فهو نهي للمخلوق عن ذلك، وأما قوله تعالى :﴿ وما بناها ﴾ فإنه علق لفظ القسم بالسماء ثم عطف عليه القسم بالباني للسماء ولو كان المراد بالقسم بالسماء القسم بمن بنى السماء لزم التكرار في موضع واحد، وهو لا يجوز، وأيضاً لا يبعد أن تكون الحكمة في قسم الله تعالى بهذه الأشياء، التنبيه على شرف ذواتها.
وقال البيضاوي : أقسم بالملائكة الصافين في مقام العبودية على مراتب باعتبارها تفيض عليهم أنوار الهيبة منتظرين لأمر الله، الزاجرين، للأجرام العلوية والسفلية بالتدبير المأمور فيها، أو الناس عن المعاصي بإلهام الخبر، أو الشياطين عن التعرض لهم التالين لآيات الله وجلايا قدسه على أنبيائه وأوليائه أو بطواف الأجرام المترتبة كالصفوف المرصوصة والأرواح المدبرة لها والجواهر القدسية المستغرقة في بحار القدس يسبحون الليل والنهار لا يفترون، أو بنفوس العلماء الصادقين في العبارات الزاجرين عن الكفر والفسوق بالحجج والنصائح التالين آيات الله وشرائعه، أو بنفوس الغزاة الصادقين في الجهاد الزاجرين للخيل والعدو التالين ذكر الله لا يشغلهم عنه مباراة العدو، وقال الزمخشري : الفاء في، فالزاجرات والتاليات إما أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله :
يا لهف زيابة للحرث *** الصابح فالغانم فالآيب
أي : الذي صبح فغنم فآب، وإما على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه كقولك : خذ الأفضل فالأكمل واعمل الأحسن فالأجمل، وإما على ترتب موصوفاتها كقوله :«رحم الله المحلقين فالمقصرين »، والبيضاوي ذكر هذا حديثاً قال شيخنا القاضي زكريا : لم أره بهذا اللفظ ا. ه، لكنه لفضل المتقدم على المتأخر وهذا للعكس، وقرأ أبو عمرو وحمزة بالإدغام فيما ذكر، والباقون بالإظهار ؛ وجواب القسم.
﴿ إن إلهكم ﴾ أي : الذي اتخذتم من دونه آلهة ﴿ لواحد ﴾ إذ لو لم يكن واحداً لاختل هذا الاصطفاف والزجر والتلاوة وما يترتب عليها فكان غير حكيم، فإن قيل : ذكر الحلف في هذا الموضع غير لائق وبيانه من وجهين :
الأول : أن المقصود من هذا القسم إما إثبات هذا المطلوب عند المؤمن أو الكافر، فالأول باطل ؛ لأن المؤمن مقرّ به من غير حلف.
والثاني : باطل أيضاً ؛ لأن الكافر لا يقرّ به سواء حصل الحلف أو لم يحصل فهذا الحلف عديم الفائدة على كل تقدير، الثاني : أنه يقال أقسم في أول هذه السورة على أن الإله واحد وأقسم في أول سورة الذاريات على أن القيامة حق، فقال :﴿ والذاريات ذرواً ﴾ ( الذاريات : ١ ) إلى قوله ﴿ إنما توعدون لصادق ( ٥ ) وإن الدين لواقع ﴾ ( الذاريات : ٥ - ٦ ) وإثبات هذه المطالب العالية الشريفة على المخالفين من الدهرية وأمثالهم بالحلف لا يليق بالعقلاء ؟ أجيب : عن ذلك بأوجه :
أولها : أنه تعالى قرر التوحيد وصحة البعث والقيامة في غالب السور بالدلائل اليقينية، فلما تقدم ذكر تلك الدلائل لم يبعد تقريرها بذكر القسم تأكيداً لما تقدم لاسيما والقرآن أنزل بلغة العرب وإثبات المطالب بالحلف واليمين طريقة مألوفة عند العرب.
ثانيها : أن المقصود من هذا الكلام الرد على عبدة الأصنام في قولهم بأنها آلهة فكأنه قيل : إن هذا المذهب قد بلغ في السقوط والركاكة إلى حيث يكفي في إبطاله مثل هذه الحجة.
ثالثها : أنه تعالى لما أقسم بهذه الأشياء على صحة قوله تعالى :﴿ إن إلهكم لواحد ﴾ ( الصافات : ٤ ) عقبه بما هو الدليل اليقيني في كون الإله واحد وهو قوله تعالى :﴿ رب السماوات والأرض ﴾.
﴿ رب ﴾ أي : موجد ومالك ومدبر ﴿ السماوات ﴾ أي : الأجرام العالية ﴿ والأرض ﴾ أي : الأجرام السافلة ﴿ وما بينهما ﴾ أي : من الفضاء المشحون بما يعجز عن عده القوي، وذلك ؛ لأنه تعالى بين في قوله تعالى :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ﴾ ( الأنبياء : ٢٢ ) أن انتظام أحوال السماوات والأرض يدل على أن الإله واحد فههنا لما قال ﴿ إن إلهكم لواحد ﴾ أردفه بقوله ﴿ رب السماوات والأرض وما بينهما ﴾ كأنه قيل : بينا أن النظر في انتظام هذا العالم يدل على أن الإله واحد فتأملوا ليحصل لكم العلم بالتوحيد.
تنبيه : علم من قوله تعالى ﴿ وما بينهما ﴾ أنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأن أعمالهم موجودة فيما بين السماء والأرض وهذه الآية دلت على أن كل ما حصل بين السماء والأرض، فالله ربه ومالكه وهذا يدل على أن فعل العبد حصل بخلق الله تعالى، فإن قيل : الأعراض لا يصح وصفها بأنها حصلت بين السماء والأرض ؛ لأن هذا الوصف إنما يكون حاصلاً في حيز وجهة والأعراض ليست كذلك ؟ أجيب : بأنها لما كانت حاصلة في الأجسام الحاصلة بين السماء والأرض فهي أيضاً حاصلة بين السماوات والأرض ﴿ ورب المشارق ﴾ أي : والمغارب وجمعها باعتبار جميع السنة فإن الله تعالى خلق للشمس ثلاث مئة وستين كوة في المشرق وثلاثمائة وستين كوة في المغرب على عدد أيام السنة، تطلع الشمس كل يوم من كوة منها وتغرب في كوة منها لا ترجع إلى الكوة التي تطلع منها إلى ذلك اليوم من العام المقبل.
وقيل : كل موضع أشرقت عليه الشمس فهو مشرق وكل موضع غربت عليه فهو مغرب كأنه أراد جميع ما أشرقت عليه الشمس.
وقيل : المراد بالمشارق مشارق الكواكب ومغاربها ؛ لأن لكل كوكب مشرقاً ومغرباً، فإن قيل : إن الله تعالى قال في موضع ﴿ رب المشرق والمغرب ﴾ ( الشعراء : ٢٨ ) وقال في موضع آخر ﴿ رب المشرقين ورب المغربين ﴾ ( الرحمان : ١٧ ) فما الجمع بين هذه المواضع ؟ أجيب : بأن المراد بقوله ﴿ رب المشرق والمغرب ﴾ الجهة فالمشرق جهة والمغرب جهة وبقوله تعالى :﴿ رب المشرقين ورب المغربين ﴾ مشرقا الشتاء والصيف ومغربا الشتاء والصيف وأما موضع الجمع فقد مر. فإن قيل : لم اكتفى بذكر المشارق ؟ أجيب : بوجهين.
الأول : أنه اكتفى به كقوله تعالى ﴿ تقيكم الحرَّ ﴾ ( النحل : ٨١ ).
والثاني : أن الشروق أقوى حالاً من الغروب وأكثر نفعاً منه فذكر المشرق تنبيهاً على كثرة إحسان الله تعالى على عباده ولهذه الدقيقة استدل إبراهيم خليل الرحمان عليه السلام بقوله ﴿ إن الله يأتي بالشمس من المشرق ﴾ ( البقرة : ٢٥٨ ).
﴿ إنا زينا ﴾ أي : بعظمتنا التي لا تدانى ﴿ السماء ﴾ ولما كانوا لا يرون إلا ما يليهم من السماوات وكانت زينة النجوم ظاهرة فيها قال تعالى ﴿ الدنيا ﴾ أي : التي هي أدنى السماوات إليكم ﴿ بزينة الكواكب ﴾ أي : بضوئها كما قاله ابن عباس أو بها، وقرأ عاصم وحمزة بزينة بالتنوين، والباقون بغير تنوين والإضافة للبيان كقراءة تنوين بزينة المبينة بالكواكب ونصب الياء الموحدة من الكواكب شعبة، وكسرها الباقون.
فإن قيل : قد ثبت في علم الهيئة أن هذه الكواكب الثوابت مركوزة في الكرة الثامنة وأن السيارات مركوزة في الكرات الستة المحيطة بسماء الدنيا فكيف يصح قوله تعالى ﴿ إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب ﴾ ؟ أجيب : بأن الناس الساكنين على سطح كرة الأرض إن نظروا إلى السماء الدنيا فإنهم يشاهدونها مزينة بهذه الكواكب فصح قوله تعالى ﴿ إنا زينا السماء بزينة الكواكب ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وحفظاً ﴾ منصوب بفعل مقدر أي : حفظناها بالشهب أو معطوف على زينة باعتبار المعنى، كأنه قال : إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء الدنيا وحفظاً ﴿ من كل شيطان ﴾ أي : بعيد عن الخير محترق ﴿ مارد ﴾ أي : عات خارج عن الطاعة.
ولما تشوف السامع إلى معرفة هذا الحفظ وثمرته وبيان كيفيته استأنف قوله تعالى :﴿ لا يسمعون ﴾ أي : الشياطين المفهومون من كل شيطان ﴿ إلى الملأ الأعلى ﴾ أي : الملائكة أو أشرافهم في السماء، وعدى السماع بإلى لتضمنه معنى الإصغاء مبالغة لنفيه وتهويلاً لما يمنعهم عنه، ويدل عليه قراءة حمزة والكسائي وحفص بفتح السين وتشديدها وتشديد الميم من التسمع وهو طلب السماع، وقرأ الباقون بسكون السين وتخفيف الميم ﴿ ويقذفون ﴾ أي : الشياطين يرمون بالشهب ﴿ من كل جانب ﴾ أي : من آفاق السماء.
وقوله تعالى :﴿ دحوراً ﴾ مصدر دحره أي : طرده وأبعده وهو مفعول له، وقيل : هو جمع داحر نحو قاعد وقعود فيكون حالاً بنفسه من غير تأويل، وقيل : غير ذلك ﴿ ولهم ﴾ أي : في الآخرة ﴿ عذاب ﴾ غير هذا ﴿ واصب ﴾ أي : دائم، وقال مقاتل : أي : دائم في الدنيا إلى النفخة الأولى.
وقوله تعالى :﴿ إلا من خطف ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مرفوع المحل بدلاً من ضمير لا يسمعون وهو أحسن ؛ لأنه غير موجب. والثاني : أنه منصوب على أصل الاستثناء، والمعنى : أن الشياطين لا يسمعون الملائكة إلا من خطف، وقوله تعالى :﴿ الخطفة ﴾ مصدر معرف بأل الجنسية أو المعرفة ومعنى اختطف اختلس الكلمة من كلام الملائكة مسارقة ﴿ فأتبعه ﴾ أي : لحقه ﴿ شهاب ﴾ أي : كوكب ﴿ ثاقب ﴾ أي : مضيء قوي لا يخطئه يقتله أو يحرقه أو يثقبه أو يخبله.
تنبيه : ههنا سؤالات :
أولها : أن هذه الشهب التي يرمى بها هل هي من الكواكب التي زين الله السماء بها أم لا ؟ والأول : باطل ؛ لأنها تبطل وتضمحل فلو كانت تلك الشهب تلك الكواكب الحقيقية لوجب أن يظهر نقصان كثير في أعداد كواكب السماء ولم يوجد ذلك فإن أعداد كواكب السماء باقية لم تتغير البتة، وأيضاً فجعلها رجوماً للشياطين مما يوجب وقوع النقصان في زينة السماء الدنيا فكان الجمع بين هذين المقصودين كالمتناقض، وإن كانت هذه الشهب جنساً آخر غير الكواكب المركوزة في الفلك فهو أيضاً مشكل ؛ لأنه تعالى قال في سورة الملك ﴿ ولقد زيّنا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشيطاين ﴾ ( الملك : ٥ ) فالضمير في قوله ﴿ وجعلناها ﴾ عائد على المصابيح فوجب أن تكون تلك المصابيح هي المرجوم بها بأعيانها.
ثانيها : كيف يجوز أن تذهب الشياطين حيث يعلمون أن الشهب تحرقهم ولا يصلون إلى مقصودهم البتة ؟ وهل يمكن أن يصدر هذا الفعل من عاقل ؟ فكيف من الشياطين الذين لهم مزية في معرفة الحيل الدقيقة ؟.
ثالثها : دلت التواريخ المتواترة على أن حدوث الشهب كان حاصلاً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم ولذلك ترى الحكماء الذين كانوا موجودين قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم بزمان طويل ذكروا ذلك وتكلموا في سبب حدوثه، وإذا ثبت أن ذلك كان موجوداً قبل مجيء النبي صلى الله عليه وسلم امتنع حمله على مجيء النبي صلى الله عليه وسلم.
رابعها : الشيطان مخلوق من النار كما حكى عن قول إبليس لعنه الله تعالى ﴿ خلقتني من نار ﴾ ( الأعراف : ١٢ ) وقال تعالى ﴿ والجان خلقناه من قبل من نار السموم ﴾ ( الحجر : ٢٧ ) ولهذا السبب يقدر على الصعود إلى السماوات وإذا كان كذلك فكيف يعقل إحراق النار بالنار ؟.
أجيب عن الأول : بأن هذه الشهب غير تلك الكواكب الثابتة وأما قوله تعالى ﴿ ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين ﴾ ( الملك : ٥ ) فنقول : كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن تلك المصابيح منها باقية على وجه الدهر آمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك وهي هذه الشهب التي يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوماً للشياطين إلى حيث يعلمون وبها يزول الإشكال.
وعن الثاني : بأن هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب ندرتها بين الشياطين وأجاب أبو علي الجبائي : بأن حصول هذه الحالة ليس له موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى موضع الملائكة ومواضعها مختلفة، فربما صاروا إلى موضع تصيبهم الشهب، وربما صاروا إلى غيره ولا صادفوا الملائكة ولا تصيبهم الشهب، فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعض الأوقات جاز أن يصيروا إلى مواضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم الشهب فيها، كما يجوز فيمن سلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة، وفي جواب أبي علي نظر : إذ ليس في السماء موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.
وعن الثالث : بأن الأقرب أن هذه الحالة كانت موجودة قبل النبي صلى الله عليه وسلم لكن بقلة، ولما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وقعت بكثرة فصارت بسبب الكثرة معجزة.
وعن الرابع : بأن الشياطين ليسوا من نار خالصة وعلى التنزل بأنهم من النيران الخالصة إلا أنها نيران ضعيفة ونيران الشهب أقوى حالاً منهم فلا جرم صار الأقوى مبطلاً للأضعف، ألا ترى أن السراج الضعيف إذا وضع في النار القوية فإنه ينطفئ ؟ فكذلك ههنا.
ولما كان المقصود الأعظم من القرآن إثبات الأصول الأربعة وهي الإلهيات والمعاد والنبوات وإثبات القضاء والقدر افتتح الله سبحانه هذه السورة بإثبات ما يدل على الصانع وعلى علمه وقدرته وحكمته ووحدانيته، وهو خالق السماوات والأرض وما بينهما ورب المشارق والمغارب، ثم فرع عليها إثبات الحشر والنشر والقيامة وهو أن من قدر على ما هو أشق وأصعب وجب أن يقدر على ما هو دونه، وهو قوله تعالى :﴿ فاستفتهم ﴾ أي : سل كفار مكة أن يفتوك بأن يبينوا لك ما تسألهم عنه من إنكارهم البعث وأصله من الفتوة وهي الكرم ﴿ أهم أشد ﴾ أي : أقوى وأشق وأصعب ﴿ خلقاً ﴾ أي : من جهة إحكام الصنعة وقوتها وعظمها ﴿ أم من خلقنا ﴾ أي : من الملائكة والسماوات والأرض وما بينهما والمشارق والكواكب والشهب الثواقب.
تنبيه : في الإتيان بمن تغليب للعقلاء وهو استفهام بمعنى التقرير أي : هذه الأشياء أشد خلقاً كقوله تعالى ﴿ لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ﴾ ( غافر : ٥٧ )
وقوله تعالى ﴿ أأنتم أشد خلقاً أم السماء بناها ﴾ ( النازعات : ٢٧ ) وقيل : معنى أم من خلقنا أي : من الأمم الماضية ؛ لأن لفظ من يذكر لمن يعقل ؛ والمعنى : أن هؤلاء الأمم ليسوا بأحكم خلقاً من غيرهم من الأمم الخالية وقد أهلكناهم بذنوبهم فمن الذي يؤمن هؤلاء من العذاب ﴿ إنا خلقناهم ﴾ أي : أصلهم آدم بعظمتنا ﴿ من طين ﴾ أي : تراب رخو مهين ﴿ لازب ﴾ أي : شديد اختلاط بعضه ببعض فالتصق وخمر بحيث يعلق باليد وقال مجاهد والضحاك : منتن فهو مخلوق من غير أب ولا أم.
وقرأ حمزة والكسائي :﴿ بل عجبت ﴾ بضم التاء والباقون بفتحها، أما بالضم فبإسناد التعجب إلى الله تعالى وليس هو كالتعجب من الآدميين كما قال تعالى ﴿ فيسخرون منهم سخر الله منهم ﴾ ( التوبة : ٧٩ ) وقال تعالى ﴿ نسوا الله فنسيهم ﴾ ( التوبة : ٦٧ )
فالعجب من الآدميين إنكاره وتعظيمه، والعجب من الله تعالى قد يكون بمعنى الإنكار والذم وقد يكون بمعنى الاستحسان والرضا كما في الحديث :«عجب ربكم من شاب ليست له صبوة » وفي حديث آخر :«عجب ربكم من إلكم وقنوطكم وسرعة إجابته إياكم » قوله إلكم الإلّ أشد القنوط.
وقيل : هو رفع الصوت بالبكا، وسئل الجنيد عن هذه الآية فقال : إن الله تعالى لا يعجب من شيء ولكن وافق رسوله صلى الله عليه وسلم فلما عجب رسوله قال تعالى ﴿ وإن تعجب فعجب قولهم ﴾ ( الرعد : ٥ ) أي : هو كما تقوله، وأما الفتح فعلى أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي : عجبت من تكذيبهم إياك.
﴿ ويسخرون ﴾ أي : وهم يسخرون من تعجبك قال قتادة : عجب نبي الله صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن حين أنزل ومن ضلال بني آدم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يظن أن كل من سمع القرآن يؤمن به فلما سمع المشركون القرآن سخروا منه ولم يؤمنوا به عجب من ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ﴿ بل عجبت ويسخرون ﴾.
﴿ وإذا ذُكّروا ﴾ أي : وعظوا بالقرآن ﴿ لا يذكرون ﴾ أي : لا يتعظون.
﴿ وإذا رأوا آية ﴾ قال ابن عباس وقتادة : يعني انشقاق القمر ﴿ يستسخرون ﴾ أي : يستهزئون بها وقيل : يستدعي بعضهم من بعض السخرية.
﴿ وقالوا إن ﴾ أي : ما ﴿ هذا إلا سحر مبين ﴾ أي : ظاهر في نفسه ومظهر لسخريته.
ثم خصّوا البعث بالإنكار إعلاماً بأنه أعظم مقصود بالنسبة إلى السحر فقالوا مظهرين له في مظهر الإنكار :﴿ أءذا متنا ﴾ وعطفوا عليه ما هو موجب عندهم لشدة الإنكار فقالوا ﴿ وكنا ﴾ أي : كوناً في غاية التمكن ﴿ تراباً ﴾ وقدموه ؛ لأنه أدل على مرادهم ؛ لأنه أبعد عن الحياة ﴿ وعظاماً ﴾ كأنهم جعلوا كل واحد من الموت أو الكون إلى الترابية المحضة والعظامية المحضة والمختلطة بهما مانعاً من البعث، وهذا بعد اعترافهم بأن ابتداء خلقهم كان من التراب، ثم كرروا الاستفهام الإنكاري على قراءة من قرأ به كما سيأتي بيانه زيادة في الإنكار فقالوا ﴿ أئنا لمبعوثون ﴾.
وقولهم ﴿ أو آباؤنا الأولون ﴾ عطف على محل إن واسمها أو على الضمير في مبعوثون فإنه مفصول عنه بهمزة الاستفهام لزيادة الاستبعاد لبعد زمانهم، وهذا بيان للسبب الذي حملهم على الاستهزاء بجميع المعجزات وهو اعتقادهم أن من مات وتفرقت أجزاؤه في العالم فما فيه من الأرض اختلط بالأرض وما فيه من المائية والهوائية اختلط ببخارات العالم، فهذا الإنسان كيف يعقل عوده بعينه حياً ؟
ثم إنه تعالى لما حكى عنهم هذه الشبهة قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء البعداء البغضاء ﴿ نعم ﴾ أي : تبعثون على كل تقدير قدرتموه ﴿ وأنتم داخرون ﴾ أي : مكرهون عليه صاغرون ذليلون وإنما اكتفى تعالى بهذا القدر من الجواب ؛ لأنه ذكر في الآية المتقدمة البرهان القطعي على أنه أمر ممكن وإذا ثبت الجواز القطعي فلا سبيل إلى القطع بالوقوع إلا بإخبار المخبر الصادق، فلما قامت المعجزة على صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان واجب الصدق فكان مجرد قوله ﴿ نعم ﴾ دليلاً قاطعاً على الوقوع، وقرأ ﴿ متنا ﴾ بضم الميم ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وشعبة، وكسرها الباقون.
وأما ﴿ أءذا ﴾ و﴿ أئنا ﴾ فقرأ نافع والكسائي بالاستفهام في الأول والخبر في الثاني وابن عامر بالخبر في الأول والاستفهام في الثاني، والباقون بالاستفهام فيهما وسهل الهمزة الثانية في الاستفهام نافع وابن كثير وأبو عمرو وحقق الباقون، وأدخل في الاستفهام الفاء بين الهمزتين قالون وأبو عمرو وهشام، والباقون بغير إدخال، وقرأ قالون وابن عامر أو آباؤنا بسكون الواو على أنها أو العاطفة المقتضية للشك، والباقون بفتحها على أنها همزة الاستفهام دخلت على واو العطف، وقرأ الكسائي ﴿ نعم ﴾ بكسر العين وهو لغة فيه.
وقوله تعالى :﴿ فإنما هي زجرة واحدة ﴾ جواب شرط مقدر أي : إذا كان كذلك فإنما البعثة زجرة أي : صيحة واحدة هي النفخة الثانية من زجر الراعي غنمه إذا صاح عليها، وأمرها في الإعادة كأمرها بكن في الابتداء ولذلك رتب عليها ﴿ فإذا هم ينظرون ﴾ أي : أحياء في الحال من غير مهلة ينظر بعضهم بعضاً، وقيل : ينظرون ما يحدث لهم أو ينظرون إلى البعث الذي كذبوا به، ولا فرق بين من صار كله تراباً ومن لم يتغير أصلاً ومن هو بين ذلك، قال البقاعي : ولعله خص بالذكر ؛ لأنه لا يكون إلا مع كمال الحياة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم :«إذا قبض الروح تبعه البصر » وأما السمع فقد يكون لغير الحي ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في الكفار من قتلى بدر :«ما أنتم بأسمع لما أقول منهم » قال : وشاهدت أنا في بلاد العرب المجاورة لنابلس شجرة لها شوك يقال لها : الغبيرا متى قيل عندها : هات لي المنجل لأقطع هذه الشجرة أخذ ورقها في الحال في الذبول فإنه سبحانه أعلم ما سبب ذلك.
تنبيه : لا أثر للصيحة في الموت ولا في الحياة بل خالق الموت والحياة هو الله تعالى كما قال تعالى ﴿ الذي خلق الموت والحياة ﴾ ( الملك : ٢ ) روي أن الله تعالى يأمر الملك إسرافيل فينادي : أيها العظام النخرة والجلود البالية والأجزاء المتفرقة اجتمعوا بإذن الله تعالى.
﴿ وقالوا ﴾ أي : كل من جمعه البعث من الكفرة بعد القيام من القبور معلنين بما انكشف لهم من أنه لا ملازم لهم غير الويل ﴿ يا ويلنا ﴾ أي : هلاكنا وهو مصدر لا فعل له من لفظه وقال الزجّاج : الويل كلمة يقولها القائل وقت الهلكة وتقول لهم الملائكة :﴿ هذا يوم الدين ﴾ أي : الحساب والجزاء.
﴿ هذا يوم الفصل ﴾ أي : بين الخلائق ﴿ الذي كنتم به تكذبون ﴾ وقيل : هو أيضاً من كلام بعضهم لبعض.
وقوله تعالى :﴿ احشروا ﴾ أي : اجمعوا بكره وصغار ﴿ الذين ظلموا ﴾ أي : ظلموا أنفسهم بالشرك أمر من الله تعالى للملائكة عليهم السلام، وقيل : أمر من بعضهم لبعض أي : احشروا الظلمة من مقامهم إلى الموقف، وقيل : منه إلى جهنم ﴿ وأزواجهم ﴾ أي : وأشباههم عابدوا الصنم مع عبدة الصنم وعابدو الكواكب مع عبدتها كقوله تعالى ﴿ وكنتم أزواجاً ثلاثة ﴾ ( الواقعة : ٧ ) أي : أشكالاً وأشباهاً، وقال الحسن : وأزواجهم المشركات، وقال الضحاك ومقاتل : قرناؤهم من الشياطين وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي أي : يقرن كل كافر مع شيطانه في سلسلة.
﴿ وما كانوا يعبدون من دون الله ﴾ أي : غيره في الدنيا من الأوثان والطواغيت زيادة في تحسيرهم وتخجيلهم، ومثل الأوثان الذين رضوا بعبادتهم لهم ولم ينكروا عليهم ذلك ويأمروهم بعبادة الله تعالى الذي تفرد بنعوت العظمة وصفات الكمال، وقال مقاتل : يعني إبليس وجنوده واحتج بقوله تعالى :﴿ أن لا تعبدوا الشيطان ﴾ ( يس : ٦٠ )
﴿ فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾ قال ابن عباس : دلوهم إلى طريق النار، وقال ابن كيسان : قدموهم، قال البغوي : والعرب تسمي السائق هادياً، قال الواحدي : هذا وهم ؛ لأنه يقال : هدى إذا تقدم ومنه الهادية والهوادي وهاديات الوحوش ولا يقال : هدى بمعنى قدم.
﴿ وقفوهم ﴾ أي : احبسوهم قال البغوي : قال المفسرون : لما سيقوا إلى النار حبسوا عند الصراط فقيل لهم : قفوهم ﴿ إنهم مسؤولون ﴾ قال ابن عباس : عن جميع أقوالهم وأفعالهم، وروي عنه عن لا إله إلا الله، وقيل : تسألهم خزنة جهنم عليهم السلام ﴿ ألم يأتكم نذير ﴾ ( الملك : ٨ ) أي : رسل منكم جاؤكم بالبينات ﴿ قالوا بلى ولكن حقّت كلمة العذاب على الكافرين ﴾ ( الزمر : ٧١ )، وروي عن أبي برزة الأسلمي قال :«لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعلمه ماذا عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن جسمه فيم أبلاه ». وفي رواية و«عن شبابه فيم أبلاه »، وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«ما من داع دعا إلى شيء إلا كان موقوفاً يوم القيامة لازماً به وإن دعا رجل رجلاً ثم قرأ ﴿ وقفوهم إنهم مسؤولون ﴾.
ويقال لهم توبيخاً :﴿ ما لكم ﴾ أي : أي شيء حاصل لكم شغلكم وألهاكم حال كونكم ﴿ لا تناصرون ﴾ قال ابن عباس : لا ينصر بعضكم بعضاً كما كنتم في الدنيا، وذلك أن أبا جهل قال يوم بدر : نحن جميع منتصر، فقيل لهم يوم القيامة ما لكم لا تناصرون، وقيل : يقال للكفار ما لشركائكم لا يمنعونكم من العذاب.
ويقال عنهم :﴿ بل هم اليوم مستسلمون ﴾ قال ابن عباس : خاضعون وقال الحسن : منقادون يقال : استسلم للشيء إذا انقاد له وخضع، والمعنى : هم اليوم أذلاء منقادون لا حيلة لهم في دفع تلك المضار.
ولما أخبر سبحانه وتعالى عنهم بأنهم سئلوا فلم يجيبوا ربما كان يظن أنهم أخرسوا فنبه على أنهم يتكلمون بما يزيد تكذيبهم فقال عاطفاً على قوله تعالى :﴿ وقالوا يا ويلنا ﴾ ( الصافات : ٢٠ ) ﴿ وأقبل بعضهم ﴾ أي : الذين ظلموا ﴿ على بعض ﴾ أي : بعد إيقافهم لتوبيخهم وعبر عن خصامهم تهكماً بقوله تعالى :﴿ يتساءلون ﴾ أي : يتلاومون ويتخاصمون.
﴿ قالوا ﴾ أي : الأتباع منهم للمتبوعين ﴿ إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين ﴾ قال الضحاك : أي : من قبل الدين فتضلوننا عنه، وقال مجاهد : عن الصراط الحق واليمين عبارة الدين الحق كما أخبر الله تعالى عن إبليس لعنه الله تعالى ﴿ ثم لآتينّهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ﴾ ( الأعراف : ١٧ ) فمن أتاه الشيطان من قبل اليمين أتاه من قبل الدين فلبس عليه الحق واليمين ههنا استعارة عن الخيرات والسعادات، لأن الجانب الأيمن أفضل من الجانب الأيسر، قال ابن عادل : لا تباشر الأعمال الشريفة إلا باليمين ويتفاءلون بالجانب الأيسر و«كان صلى الله عليه وسلم يحب التيامن في شأنه كله »، وكاتب الحسنات من الملائكة على اليمين، ووعد الله تعالى المؤمن أن يعطيه الكتاب باليمين، وقيل : إن الرؤساء كانوا يحلفون للمستضعفين أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم، وقيل : عن اليمين عن القوة والقدرة كقوله تعالى :﴿ لأخذنا منه باليمين ﴾ ( الحاقة : ٤٥ ).
﴿ قالوا ﴾ أي : المتبوعون لهم ﴿ بل لم تكونوا مؤمنين ﴾ أي : وإنما يصدق الإضلال منا أن لو كنتم مؤمنين فرجعتم عن الإيمان إلينا وإنما الكفر من قبلكم.
﴿ وما كان لنا عليكم من سلطان ﴾ أي : قوة وقدرة حتى نقهركم ونجبركم على متابعتنا ﴿ بل كنتم قوماً طاغين ﴾ أي : ضالين مثلنا.
﴿ فحق ﴾ أي : وجب ﴿ علينا ﴾ جميعاً ﴿ قول ربنا ﴾ أي : كلمة العذاب وهو قوله تعالى ﴿ لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين ﴾ ( هود : ١١٩ ) ﴿ إنا ﴾ أي : جميعاً ﴿ لذائقون ﴾ أي : العذاب بذلك القول.
ونشأ عنه قولهم :﴿ فأغويناكم ﴾ أي : فأضللناكم عن الهدى ودعوناكم إلى ما كنا عليه ﴿ إنا كنا غاوين ﴾ أي : ضالين فأحببتم أن تكونوا مثلنا، وفيه إيماء بأن غوايتهم في الحقيقة ليست من قبلهم إذ لو كان كل غواية بإغواء غاوٍ فمن أغوى الأول.
قال الله تعالى :﴿ فإنهم ﴾ أي : المتبوعين والأتباع ﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ في العذاب مشتركون ﴾ أي : كما كانوا مشتركين في الغواية.
﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة ﴿ كذلك ﴾ أي : كما نفعل بهؤلاء ﴿ نفعل بالمجرمين ﴾ غير هؤلاء أي : نعذبهم التابع منهم والمتبوع.
ثم وصفهم الله تعالى بقوله :﴿ إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون ﴾ أي : يتكبرون عن كلمة التوحيد أو عمن يدعوهم إليها.
﴿ ويقولون أئنا ﴾ في الهمزتين ما مر ﴿ لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون ﴾ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم.
ثم إن الله تعالى كذبهم في ذلك الكلام بقوله تعالى :﴿ بل جاء بالحق ﴾ أي : الدين الحق ﴿ وصدق المرسلين ﴾ أي : صدقهم في مجيئهم بالتوحيد فأتى بما أتى به المرسلون من قبله.
ثم التفت من الغيبة إلى الحضور فقال تعالى :﴿ إنكم لذائقو العذاب الأليم ﴾.
ثم كأنه قيل : كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي الغني عن الضر والنفع أن يعذب عباده ؟ فأجاب بقوله تعالى :﴿ وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ﴾ أي : جزاء عملكم.
وقوله تعالى :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ أي : المؤمنين استثناء منقطع، وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام بعد الخاء أي : إن الله تعالى أخلصهم واصطفاهم بفضله، والباقون بالكسر أي : إنهم أخلصوا الطاعة لله تعالى.
وقوله :﴿ أولئك لهم ﴾ أي : في الجنة ﴿ رزق معلوم ﴾ أي : بكرة وعشياً بيان لحالهم وإن لم يكن ثم بكرة ولا عشية فيكون المراد منه معلوم الوقت وهو مقدار غدوة أو عشية، وقيل : معلوم الصفة أي : مخصوص بصفات من طيب طعم ولذة وحسن منظر، وقيل معناه : أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى ينقطع، وقيل : معلوم القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب الله تعالى.
وقوله :﴿ فواكه ﴾ يجوز أن يكون بدلاً من رزق، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : ذلك الرزق فواكه وفي الفواكه جمع فاكهة قولان :
أحدهما : أنها عبارة عما يؤكل للتلذذ لا للحاجة وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه ؛ لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإن أجسامهم محكمة مخلوقة للأبد فكل ما يأكلونه فعلى سبيل التلذذ.
والثاني : أن المقصود بذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى أي : لما كانت الفاكهة حاضرة أبداً كان المأكول للغذاء أولى بالحضور.
﴿ وهم مكرمون ﴾ أي : في نيله يصل إليهم من غير تعب وسؤال لا كما عليه رزق الدنيا.
ولما ذكر مأكلهم ذكر مسكنهم بقوله تعالى :﴿ في جنات النعيم ﴾ أي : في جنات ليس فيها إلا النعيم وهو متعلق بمكرمون أو خبر ثان لأولئك أو حال من المستكن في مكرمون.
وقوله تعالى :﴿ على سرر متقابلين ﴾ أي : لا يرى بعضهم قفا بعض حال، ويجوز أن يتعلق على سرر بمتقابلين.
ولما ذكر سبحانه وتعالى المأكل والمسكن ذكر بعد ذلك صفة المشرب بقوله تعالى :﴿ يطاف عليهم ﴾ أي : على كل منهم ﴿ بكأس ﴾ أي : بإناء فيه خمر فهو اسم للإناء بشرابه فلا يكون كأساً حتى يكون فيه شراب وإلا فهو إناء، وقيل : المراد بالكأس : الخمر كقول الشاعر :
وكأس شربت على لذة *** وأخرى تداويت منها بها
أي : رب كأس شربت لطلب اللذة وكأس شربت للتداوي من خمارها، والكأس مؤنثة كما قاله الجوهري، وقوله تعالى ﴿ من معين ﴾ أي : من شراب معين أو من نهر معين مأخوذ من عين الماء أي : يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي عيناً لظهوره يقال : عان الماء إذا ظهر جاريا. ً
وقوله تعالى :﴿ بيضاء ﴾ أي : أشد بياضاً من اللبن قاله الحسن صفة لكأس، وقال أبو حيان : صفة لكأس أو للخمر، واعترض بأن الخمر لم يذكر، وأجيب عنه : بأن الكأس إنما سميت كأساً إذا كان فيها الخمر وقوله تعالى ﴿ لذة ﴾ صفة أيضاً وصفه بالمصدر مبالغة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال : فلان جود وكرم إذا كان المراد المبالغة، وقال الزجاج : أو على حذف المضاف أي : ذات لذة وقوله تعالى ﴿ للشاربين ﴾ أي : بخلاف خمر الدنيا فإنها كريهة عند الشرب، صفة للذة، وقال الليث : اللذة واللذيذة يجريان مجرى واحد في النعت يقال : شراب لذ ولذيذ.
وقوله تعالى :﴿ لا فيها غول ﴾ صفة أيضاً، واختلف في الغول فقال الشعبي أي : لا تغتال عقولهم فتذهب بها وقال الكلبي : معناه الإثم أي : لا إثم فيها، وقال قتادة : وجع البطن، وقال الحسن : صداع، وقال أهل المعاني الغول : فساد يلحق في خفاء يقال : اغتاله اغتيالاً إذا أفسد عليه أمره في خفية، وخمر الدنيا يحصل منها أنواع الفساد منها السكر وذهاب العقل ووجع البطن والصداع والقيء والبول ولا يوجد شيء من ذلك في خمر الجنة ﴿ ولا هم عنها ينزفون ﴾ أي : يسكرون، وقرأ حمزة والكسائي بكسر الزاي من أنزف الشارب إذا نزف عقله من السكر، والباقون بفتحها من نزف الشارب نزيفاً إذا ذهب عقله أفرده بالذكر وعطفه على ما يعمه ؛ لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه.
ولما ذكر تعالى صفة مشروبهم ذكر عقبه صفة منكوحهم بقوله تعالى :﴿ وعندهم قاصرات الطرف ﴾ أي : حابسات الأعين غاضات الجفون قصرن أبصارهن على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لحسنهم عندهن وقوله تعالى ﴿ عين ﴾ جمع عيناء وهي الواسعة العين والذكر أعين قال الزجاج : كبار الأعين حسانها يقال : رجل أعين وامرأة عيناء ورجال ونساء عين.
﴿ كأنهن ﴾ أي : في اللون ﴿ بيض ﴾ للنعام ﴿ مكنون ﴾ أي : مستور بريشه لا يصل إليه غبار ولونه وهو البياض في صفرة. يقال : هذا أحسن ألوان النساء تكون المرأة مشربة بصفرة قال ذو الرمة في ذلك :
بيضاء في ترح صفراء في غنج كأنها فضة قد مسها ذهب
قال المبرد : والعرب تشبه المرأة الناعمة في بياضها وحسن لونها ببيضة النعامة، وقال بعضهم : إنما شبهت المرأة بها في أجزائها فإن البيضة من أي جهة أتيتها كانت في رأي العين مشبهة للأخرى وهو في غاية المدح وقد لحظ هذا بعض الشعراء فقال :
تناسبت الأعضاء فيها فلا ترى بهن اختلافاً بل أتين على قدر
ويجمع البيض على بيوض قال الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
﴿ فأقبل بعضهم ﴾ أي : بعض أهل الجنة ﴿ على بعض يتساءلون ﴾ معطوف على يطاف عليهم أي : يشربون فيتحادثون على الشراب قال القائل :
وما بقيت من اللذات إلا محادثة الكرام على المدام
وأتى بقوله تعالى :﴿ فأقبل ﴾ ماضياً لتحقق وقوعه كقوله تعالى ﴿ ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ﴾ ( الأعراف : ٤٤ ) وقوله تعالى ﴿ يتساءلون ﴾ حال من فاعل أقبل وتساؤلهم عن المعارف والفضائل وما جرى لهم وعليهم في الدنيا.
ولما ذكر تعالى أن أهل الجنة يتساءلون عند اجتماعهم على الشراب ويتحدثون كان من جملة كلماتهم أنهم يتذكرون ما كان حصل لهم في الدنيا مما يوجب الوقوع في عذاب الله تعالى ثم إنهم تخلصوا منه وهو ما حكاه الله تعالى عنهم بقوله :﴿ قال قائل منهم ﴾ أي : من أهل الجنة في الجنة في مكالمتهم ﴿ إني كان لي قرين ﴾ أي : في الدنيا ينكر البعث.
﴿ يقول أءِنّك لمن المصدّقين ﴾ أي : كان يوبخني على التصديق بالبعث.
ويقول تعجباً ﴿ أءذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أءنا لمدينون ﴾ أي : مجزيون ومحاسبون من الدين بمعنى الجزاء وهذا استفهام إنكار.
تنبيه : اختلف في ذلك القرين فقال مجاهد : كان شيطاناً، وقيل : كان من الإنس، وقال مقاتل : كانا أخوين، وقيل : كانا شريكين حصل لهما ثمانية آلاف دينار فتقاسماها واشترى أحدهما داراً بألف دينار فأراها صاحبه، وقال : كيف ترى حسنها ؟ فقال : ما أحسنها ثم خرج فتصدق بألف دينار وقال : اللهم إن صاحبي قد ابتاع هذه الدار بألف دينار وإني أسألك داراً من دور الجنة، ثم إن صاحبه تزوج امرأة حسناء بألف دينار، فتصدق صاحبه بألف دينار لأجل أن يزوجه الله تعالى من الحور العين، ثم إن صاحبه اشترى بساتين بألفي دينار، فتصدق هذا بألفي دينار ثم إن الله تعالى أعطاه ما طلبه في الجنة، وقيل : كان أحدهما كافراً اسمه ينطواوس والآخر مؤمن اسمه يهودا وهما اللذان قص الله تعالى خبرهما في سورة الكهف في قوله تعالى ﴿ واضرب لهم مثلاً رجلين ﴾ ( الكهف : ٣٢ ).
﴿ قال ﴾ أي : ذلك القائل لإخوته ﴿ هل أنتم مطّلعون ﴾ أي : معي إلى النار لننظر حاله فيقولون : لا.
﴿ فاطّلع ﴾ ذلك القائل من بعض كوى الجنة قال ابن عباس رضي الله عنهما : أن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار ﴿ فرآه ﴾ أي : رأى قرينه ﴿ في سواء الجحيم ﴾ أي : وسط النار وإنما يسمى وسط الشيء سواء لاستواء الجوانب منه.
﴿ قال ﴾ له توبيخاً مقسماً بقوله ﴿ تالله إن كدت ﴾ أي : قاربت وإن مخففة من الثقيلة ﴿ لتردين ﴾ أي : لتهلكني بإغوائك إياي بإنكار البعث والقيامة.
﴿ ولولا نعمة ربي ﴾ أي : إنعامه علي بالإيمان والهداية والعصمة ﴿ لكنت من المحضرين ﴾ معك في النار.
تنبيه : أثبت الياء بعد النون في ﴿ لتردين ﴾ ورش، والباقون بالتخفيف.
ولما تم الكلام مع قرينه الذي هو في النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة وقال :﴿ أفما نحن بميتين ﴾ وهذا عطف على محذوف أي : أنحن مخلدون منعمون فما نحن بميتين أي : ممن شأنه الموت، وقال بعضهم : إن أهل الجنة لا يعلمون في أول دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح يقول أهل الجنة للملائكة : أفما نحن بميتين ؟ فتقول الملائكة : لا فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون، وعلى هذا فالكلام حصل قبل ذبح الموت، وقيل : إن الذي تكاملت سعادته إذا عظم تعجبه بها يقول ذلك على جهة التحديث بالنعمة التي أنعم الله تعالى بها عليه، وقيل : يقوله المؤمن لقرينه توبيخاً له بما كان ينكره.
وقوله :﴿ إلا موتتنا الأولى ﴾ منصوب على المصدر والعامل فيه الوصف قبله ويكون استثناء مفرغاً، وقيل : هو استثناء منقطع أي : لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا وهي متناوله لما في القبر بعد الإحياء للسؤال وهذا قريب في المعنى من قوله تعالى ﴿ لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ﴾ ( الدخان : ٥٦ ) ﴿ وما نحن بمعذبين ﴾ هو استفهام تلذذ وتحدث بنعمة الله تعالى من تأبيد الحياة وعدم التعذيب.
﴿ إن هذا ﴾ أي : الذي ذكر لأهل الجنة ﴿ لهو الفوز العظيم ﴾ هو قول أهل الجنة عند فراغهم من هذه المحادثات.
وقوله تعالى :﴿ لمثل هذا فليعمل العاملون ﴾ قيل : إنه من بقية كلامهم، وقيل : إنه ابتداء كلام من الله تعالى أي : لنيل مثل هذا يجب أن يعمل العاملون لا للحظوظ الدنيوية المشوبة بالآلام السريعة الإنصرام.
ولما ذكر تعالى ثواب أهل الجنة ووصفها وذكر مآكل أهل الجنة ومشاربهم وقال ﴿ لمثل هذا فليعمل العاملون ﴾ أتبعه بقوله تعالى :﴿ أذلك ﴾ أي : المذكور لأهل الجنة ﴿ خير نزلاً ﴾ وهو ما يعد للنازل من ضيف أو غيره ﴿ أم شجرة الزقوم ﴾ أي : المعدة لأهل النار نزلاً، وانتصاب نزلاً على التمييز أو الحال وفي ذكره دلالة على أن ما ذكر من النعيم لأهل الجنة بمنزلة ما يقدم للنازل ولهم ما وراء ذلك مما تقصر عنه الأفهام، وكذا الزقوم لأهل النار وهي : اسم شجرة صغيرة الورق زفرة مرة تكون بتهامة ثم سميت به : الشجرة الموصوفة، وإذا عرف هذا فالحاصل من الرزق المعلوم لأهل الجنة اللذة والسرور وحاصل شجرة الزقوم الألم والغم، ومعلوم أنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر في الخيرية إلا أنه جاء هذا الكلام على سبيل السخرية بهم أو لأجل أن المؤمنين لما اختاروا ما أوصلهم إلى الرزق الكريم والكافرون اختاروا ما أوصلهم إلى العذاب الأليم قيل لهم ذلك توبيخاً لهم على اختيارهم.
﴿ إنا ﴾ أي : بما لنا من العظمة والقدرة البالغة ﴿ جعلناها فتنة ﴾ أي : محنة وعذاباً ﴿ للظالمين ﴾ أي : الكافرين قال الكلبي : في الآخرة وابتلاء في الدنيا لما سمعوا بأنها في النار قالوا : كيف ذلك والنار تحرق الشجر ولم يعلموا أن من قدر على خلق يعيش في النار ويتلذذ بها فهو أقدر على خلقه الشجر في النار وحفظه من الإحراق.
ولما نزلت هذه الآية قال ابن الزبعرى : أكثر الله في بيوتكم الزقوم فإن أهل اليمن يسمون التمر والزبد الزقوم، ثم أدخلهم أبو جهل بيته وقال لجاريته : زقمينا فأتته بزبد وتمر وقال : تزقموا فهذا ما يوعدكم به محمد، وهذا عناد منه وكذب فإنه من العرب العرباء وهم إنما يطلقونه على شجرة مسمومة يخرج لها لبن متى مس جسم أحد تورم فمات، والتزقم البلع الشديد للأشياء الكريهة وأما الزبد بالرطب فيسمى : ألوقة قاله ابن الكلبي وأنشد :
وإني لمن سالمتهم لألوقة وإني لمن عاديتهم سم أسودِ
ثم إن الله تعالى وصف هذه الشجرة بصفتين : الأولى : قوله تعالى :﴿ إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم ﴾ قال الحسن : أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
الصفة الثانية قوله تعالى :﴿ طلعها ﴾ أي : ثمرها قال الزمخشري : الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية قال ابن قتيبة : سمي طلعاً لطلوعه كل سنة فكذلك قيل : طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره ثم وصف ذلك الطلع بقوله تعالى :﴿ كأنه رؤوس الشياطين ﴾ وفيه وجهان : أحدهما : أنه حقيقة وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة بناحية اليمن وتسمى : الأستن قال النابغة :
تحيد عن أستن سود أسافله مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما
وهو شجر منكر الصورة مر، تسميه العرب بذلك تشبيهاً برؤوس الشياطين في القبح ثم صار أصلاً يشبه به، وقيل : الشياطين صنف من الحيات لهن أعراف قال الراجز :
عنجرد تحلف حين أحلف كمثل شيطان الحماط أعرف
وقيل : شجرة يقال لها : الصوم ومنه قول ساعدة بن جؤية :
موكل بسروف الصوم يرقبها من المعارف محفوظ الحشا ورم
فعلى هذا خوطب العرب بما تعرفه وهذه الشجرة موجودة فالكلام حقيقة.
والثاني : أنه من باب النخيل والتمثيل، وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يكن يراه، والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخيلية وذلك كقول امرئ القيس :
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسنونة زرق كأنياب أغوال
ولم ير أنيابها بل ليست موجودة البتة.
قال الرازي : وهذا هو الصحيح وذلك أن الناس لما اعتقدوا في الملائكة عليهم السلام كمال الفضل في الصورة والسيرة فكما حسن تشبيه يوسف عليه السلام بالملك عند إرادة الكمال والفضيلة في قول النسوة ﴿ إن هذا إلا ملك كريم ﴾ ( يوسف : ٣١ ) فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة. ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا : إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسناً قالوا : إنه ملك من الملائكة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : هم الشياطين بأعيانهم.
﴿ فإنهم ﴾ أي : الكفار ﴿ لآكلون منها ﴾ أي : من الشجرة أو من طلعها ﴿ فمالئون منها البطون ﴾ والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، فإن قيل : كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها ؟ أجيب : بأن المضطر ربما استروح من الضرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله تعالى الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء، أو يقال : إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة لعذابهم.
ولما ذكر الله تعالى طعامهم بتلك الشناعة والكراهية وصف شرابهم بما هو أشنع منه بقوله تعالى :﴿ ثم إن لهم عليها ﴾ أي : بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش ﴿ لشوباً من حميم ﴾ أي : ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوباً، وعطف بثم لأحد معنيين : إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى بثم المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقتضي تراخي الشرب عن الأكل فعمل على ذلك المنوال، وأما ملء البطن فيعقب الأكل فلذلك عطف على ما قبله بالفاء قال الزجاج : الشراب اسم عام في كل ما خلط بغيره والشوب الخلط والمزج ومنه شاب اللبن يشوبه أي : خلطه ومزجه.
﴿ ثم إن مرجعهم ﴾ أي : مصيرهم ﴿ لإلى الجحيم ﴾ قال مقاتل : أي : بعد أكل الزقوم وشرب الحميم وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم وذلك بأن يكون الحميم في موضع خارج عن الجحيم فهم يردون الحميم لأجل الشرب كما ترد الإبل الماء ويدل عليه قوله تعالى ﴿ يطوفون بينها وبين حميم آن ﴾ ( الرحمان : ٤٤ ).
وقوله تعالى :﴿ إنهم ألفوا ﴾ أي : وجدوا ﴿ آباءهم ضالين ﴾.
﴿ فهم على آثارهم يهرعون ﴾ تعليل لاستحقاقهم تلك الشدائد. قال الفراء : الإهراع الإسراع يقال : هرع وأهرع إذا استحث والمعنى : أنهم يتبعون آباءهم في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، وفيه إشعار بأنهم بادروا إلى ذلك من غير توقف على نظر وبحث.
ثم إنه تعالى ذكر لرسوله صلى الله عليه وسلم ما يسليه في كفرهم وتكذيبهم بقوله سبحانه :﴿ ولقد ضل قبلهم ﴾ أي : قبل قومك ﴿ أكثر الأولين ﴾ أي : من الأمم الماضية.
﴿ ولقد أرسلنا فيهم منذرين ﴾ أي : أنبياء أنذروهم من العواقب فبين تعالى أن إرساله الرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف فوجب أن يكون له صلى الله عليه وسلم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا ويستمر على الدعاء إلى الله تعالى وإن تمردوا فليس عليه إلا البلاغ، وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال، والباقون بالإدغام.
ثم قال تعالى :﴿ فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ﴾ أي : الكافرين كان عاقبتهم العذاب وهذا خطاب وإن كان ظاهره مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن المقصود منه خطاب الكفار ؛ لأنهم سمعوا بالأخبار ما جرى على قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من أنواع العذاب فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوفه يحتمل أن يكون زاجراً لهم عن كفرهم.
وقوله تعالى :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ استثناء من المنذرين استثناء منقطع ؛ لأنه وعيد وهم لا يدخلون في هذا الوعيد، وقيل : استثناء من قوله تعالى ﴿ ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين ﴾ والمراد بالمخلصين : الموحدون نجوا من العذاب وتقدمت القراءة في المخلصين.
ثم شرع تعالى في تفصيل القصص بعد إجمالها بقوله تعالى :﴿ ولقد نادانا نوح ﴾ أي : نادى ربه أن ينجيه مع من نجي من الغرق بقوله :﴿ رب إني مغلوب فانتصر ﴾ ( القمر : ١٠ ) فأجاب الله تعالى دعاءه وقوله تعالى ﴿ فلنعم المجيبون ﴾ جواب قسم مقدر أي : فوالله ومثله : لعمري لنعم السيدان وجدتما، والمخصوص بالمدح محذوف أي : نحن أجبنا دعاءه وأهلكنا قومه.
﴿ ونجيناه وأهله من الكرب العظيم ﴾ أي : من الغرق وأذى قومه وهذه الإجابة كانت من النعم العظيمة وذلك من وجوه أولها : أنه تعالى عبر عن ذاته بصيغة الجمع فقال :﴿ ولقد نادانا نوح ﴾ فالقادر العظيم لا يليق به إلا الإحسان العظيم.
وثانيها : أنه تعالى أعاد صيغة الجمع فقال تعالى ﴿ فلنعم المجيبون ﴾ وفي ذلك أيضاً ما يدل على تعظيم تلك النعمة لاسيما وقد وصف الله تعالى تلك الإجابة بأنها نعمت الإجابة.
وثالثها : أن الفاء في قوله تعالى ﴿ فلنعم المجيبون ﴾ تدل على أن حصول تلك الإجابة مرتب على ذلك النداء وهذا يدل على أن النداء بالإخلاص سبب لحصول الإجابة.
وقوله تعالى :﴿ وجعلنا ذريته هم الباقين ﴾ يفيد الحصر، وذلك يدل على أن كل من سواه وسوى ذريته قد فنوا فالناس كلهم من نسله عليه السلام قال ابن عباس رضي الله عنه : ذريته بنوه الثلاثة سام وحام ويافث، فسام أبو العرب وفارس وحام أبو السودان ويافث أبو الترك والخزرج ويأجوج ومأجوج وما هنالك قال ابن عباس رضي الله عنهما : لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءهم.
﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ أي : أبقينا له ثناء حسناً وذكراً جميلاً فيمن بعده من الأنبياء والأمم إلى يوم القيامة، وقيل : أن نصلي عليه إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى :﴿ سلام على نوح ﴾ مبتدأ وخبر وفيه أوجه أحدها : أنه مفسر لتركنا، والثاني : أنه مفسر لمفعوله أي : تركنا عليه ثناء وهو هذا الكلام، وقيل : ثم قول مقدر أي : فقلنا سلام وقيل : ضمن تركنا معنى قلنا، وقيل : سلط تركنا على ما بعده ﴿ في العالمين ﴾ متعلق بالجار والمجرور ومعناه الدعاء بثبوت هذه التحية في الملائكة والثقلين جميعاً.
وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ تعليل لما فعل بنوح عليه السلام من التكرمة بأنه مجازاة له أي : إنما خصصناه بهذه التشريفات الرفيعة من جعل الدنيا مملوءة من ذريته ومن ترقية ذكره الحسن في ألسنة العالمين لأجل كونه محسنا. ً
وقوله تعالى :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره.
﴿ ثم أغرقنا الآخرين ﴾ كفار قومه.
القصة الثانية : قصة إبراهيم عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإن من شيعته ﴾ أي : ممن شايعه في الإيمان وأصول الشريعة ﴿ لإبراهيم ﴾ ولا يبعد اتفاق شرعهما في الفروع أو غالباً، وقال الكلبي : الضمير يعود على محمد صلى الله عليه وسلم أي : وإن من شيعة محمد صلى الله عليه وسلم لإبراهيم عليه الصلاة السلام والشيعة قد تطلق على المتقدم كقول القائل :
ومالي إلا آل أحمد شيعة وما لي إلا مذهب الحق مذهب »
فجعل آل أحمد وهم متقدمون عليه وهو تابع لهم شيعة له قاله الفراء، والمعروف أن الشيعة تكون في المتأخر قالوا : كان بين نوح وإبراهيم نبيان هود وصالح، وروى الزمخشري : أنه كان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة.
وفي العامل في قوله تعالى :﴿ إذ جاء ربه ﴾ وجهان أحدهما : اذكر مقدراً وهو المعروف، والثاني : قال الزمخشري : ما في معنى الشيعة من معنى المشايعة يعني : وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه ورد هذا أبو حيان قال : لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو لإبراهيم ؛ لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ، واختلف في قوله عز وجل ﴿ بقلب سليم ﴾ فقال مقاتل والكلبي : المعنى أنه سليم من الشرك ؛ لأنه أنكر على قومه الشرك، وقال الأصوليون : معناه أنه عاش ومات على طهارة القلب من كل معصية.
وقوله تعالى :﴿ إذا قال لأبيه وقومه ﴾ بدل من إذ الأولى أو ظرف لسليم أو لجاء وقوله تعالى لهم :﴿ ماذا ﴾ أي : ما الذي ﴿ تعبدون ﴾ استفهام توبيخ تهجين لتلك الطريقة تقبيحها.
وفي قوله :﴿ أئفكا آلهة دون الله تريدون ﴾ أوجه من الإعراب أحدها : أنه مفعول من أجله أي : أتريدون آلهة دون الله إفكاً فآلهة مفعول به ودون ظرف لتريدون وقدمت معمولات الفعل اهتماماً بها وحسنه كون العامل رأس فاصلة، وقدم المفعول من أجله على المفعول به اهتماماً به ؛ لأنه مكافح لهم بأنهم على إفك وباطل وبهذا الوجه بدأ الزمخشري، الثاني : أن يكون مفعولاً به بتريدون ويكون آلهة بدلاً منه جعلها نفس الإفك مبالغة فأبدلها منه وفسره بها واقتصر على هذا ابن عطية، الثالث : أنه حال من فاعل تريدون أي : أتريدون آلهة آفكين أو ذوي إفك، وإليه نحا الزمخشري، واعترضه أبو حيان بأن جعل المصدر حالاً لا يطرد إلا مع نحو أما علماً فعالم، والإفك أسوأ الكذب.
﴿ فما ظنكم ﴾ أي : أتظنون ﴿ برب العالمين ﴾ أنه جوز جعل هذه الجمادات مشاركة له في العبودية أو تظنون برب العالمين أنه من جنس هذه الأجسام حتى جعلتموها مساوية له في العبودية فنبههم بذلك على أنه ليس كمثله شيء، أو فما ظنكم برب العالمين إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره أنه يترككم بلا عذاب لا، وكانوا نجامين فخرجوا إلى عيد لهم وتركوا طعامهم عند أصنامهم زعموا التبرك عليه فإذا رجعوا أكلوه وقالوا للسيد إبراهيم عليه الصلاة والسلام : اخرج.
﴿ فنظر نظرة في النجوم ﴾ إيهاماً لهم أنه يعتمد عليها فيتبعوه.
﴿ فقال إني سقيم ﴾ أي : عليل وذلك أنه أراد أن يكايدهم في أصنامهم ليلزمهم الحجة في أنها غير معبودة وأراد أن يتخلف عنهم ليبقى خالياً في بيت الأصنام فيقدر على كسرها. فإن قيل : النظر في علم النجوم غير جائز فكيف قدم إبراهيم عليه السلام عليه وأيضاً لم يكن سقيماً فكيف أخبرهم بخلاف حاله ؟ أجيب عن ذلك : بأنا لا نسلم أن النظر في علم النجوم والاستدلال بها حرام ؛ لأن من اعتقد أن الله تعالى خص كل واحد من هذه الكواكب بطبع وخاصة لأجلها يظهر منه أثر مخصوص فهذا العلم على هذا الوجه ليس بباطل وأما الكذب فغير لازم ؛ لأن قوله ﴿ إني سقيم ﴾ على سبيل التعريض بمعنى أن الإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة إما في بدنه وإما في قلبه وكل ذلك سقم، وعلى تقدير تسليم ذلك أجيب بأوجه :
أحدها : أن نظره في النجوم أو في أوقات الليل والنهار وكانت تأتيه الحمى في بعض ساعات الليل والنهار، فنظر ليعرف هل هي تلك الساعة فقال ﴿ إني سقيم ﴾ فجعله عذراً في تخلفه عن العيد الذي لهم فكان صادقاً فيما قال ؛ لأن السقم كان يأتيه في ذلك الوقت.
ثانيها أنهم كانوا أصحاب النجوم أي : يعلمونها ويقضون بها على أمورهم، فلذلك نظر إبراهيم في النجوم أي : في علم النجوم كما تقول : نظر فلان في الفقه أي : في علم الفقه فأراد إبراهيم أن يوهمهم أنه نظر في عملهم وعرف منه ما يعرفونه حتى إذا قال لهم ﴿ إني سقيم ﴾ سكنوا إلى قوله، وأما قوله ﴿ إني سقيم ﴾ فمعناه سأسقم كقوله تعالى ﴿ إنك ميّت ﴾ ( الزمر : ٣٠ ) أي : ستموت.
ثالثها : أن نظره في النجوم هو قوله تعالى ﴿ فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً ﴾ إلخ الآيات ( الأنعام : ٧٦ ) فكان نظره ليتعرف هذه الكواكب هل هي قديمة أو حادثة وقوله ﴿ إني سقيم ﴾ أي : سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل بلوغه.
رابعها : قال ابن زيد : كان له نجم مخصوص وكلما طلع على صفة مخصوصة مرض إبراهيم فلهذا الاستقراء لما رآه في تلك الحالة المخصوصة قال ﴿ إني سقيم ﴾ أي : هذا السقم واقع لا محالة.
خامسها : أن قوله ﴿ إني سقيم ﴾ أي : مريض القلب بسبب إطباق ذلك الجمع العظيم على الكفر والشرك كقوله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فلعلك باخع نفسك ﴾ ( الكهف : ٦ ).
سادسها : قال الرازي : قال بعضهم : ذلك القول من إبراهيم عليه السلام كذبة وأوردوا فيه حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات » قلت : ولبعضهم هذا الحديث لا ينبغي أن ينقل ؛ إذ فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم عليه السلام فقال ذلك الرجل : فكيف نحكم بكذب الراوي العدل ؟ فقلت له : لما وقع التعارض بين نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من المعلوم بالضرورة أن نسبة الكذب إلى الراوي أولى، ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله ﴿ فنظر نظرة في النجوم ﴾ أي : نجوم كلامهم ومتفرقات أقوالهم فإن الأشياء التي تحدث قطعة قطعة يقال : إنها منجمة أي : مفرقة ومنه نجوم المكاتب والمعنى : أنه لما سمع كلماتهم المتفرقة نظر فيها حتى يستخرج منها حيلة يقدر بها على إقامة عذر لنفسه في التخلف عنهم فلم يجد عذراً أحسن من قوله :﴿ إني سقيم ﴾ والمراد : أنه لا بد من أن يصير سقيماً كما تقول لمن رأيته يتجهز للسفر إنك مسافر.
ولما قال :﴿ إني سقيم ﴾ تولوا عنه كما قال تعالى :﴿ فتولوا عنه ﴾ أي : إلى عيدهم ﴿ مدبرين ﴾ أي : هاربين مخافة العدوى وتركوه وعذروه في عدم الخروج إلى عيدهم.
﴿ فراغ ﴾ أي : مال في خفية وأصله من روغان الثعلب وهو تردده وعدم ثبوته بمكان ولا يقال : راغ حتى يكون صاحبه مخفياً لذهابه ومجيئه ﴿ إلى آلهتهم ﴾ وعندها الطعام ﴿ فقال ﴾ استهزاء بها ﴿ ألا تأكلون ﴾ أي : الطعام الذي كان بين أيديهم فلم ينطقوا.
فقال استهزاء بها أيضاً :﴿ ما لكم لا تنطقون ﴾ فلم تجب.
﴿ فراغ عليهم ﴾ أي : مال عليهم مستخفياً وقوله تعالى ﴿ ضرباً ﴾ مصدر واقع موقع الحال أي : فراغ عليهم ضارباً أو مصدر لفعل، وذلك الفعل حال تقديره فراغ يضرب ضرباً وقوله تعالى :﴿ باليمين ﴾ متعلق بضرباً إن لم نجعله مؤكداً وإلا فبعامله، واليمين يجوز أن يراد بها إحدى اليدين وهو الظاهر، وأن يراد بها القوة واقتصر عليه الجلال المحلي فالباء على هذا للحال أي : متلبساً بالقوة وأن يراد بها الحلف وفاء بقوله ﴿ وتالله لأكيدن أصنامكم ﴾ ( الأنبياء : ٥٧ ) والباء على هذا للسبب وعدى راغ الثاني بعلى لما كان مع الضرب المستولي من فوقهم إلى أسفلهم بخلاف الأول فإنه مع توبيخ لهم، وأتى بضمير العقلاء في قوله تعالى :﴿ عليهم ضرباً ﴾ على ظن عبدتها أنها كالعقلاء ثم إنه عليه السلام كسرها فبلغ قومه من ورائه ذلك.
﴿ فأقبلوا إليه ﴾ أي : إلى إبراهيم بعدما رجعوا فرأوا أصنامهم مكسرة ﴿ يزفون ﴾ أي : يسرعون المشي، وقرأ حمزة بضم الياء على البناء للمفعول من أزفه أي : يحملون على الزفيف، والباقون بفتحها من زف يزف فقالوا : نحن نعبدها وأنت تكسرها.
﴿ قال ﴾ لهم توبيخاً ﴿ أتعبدون ما تنحتون ﴾ أي : من الحجارة وغيرها أصناماً.
﴿ والله خلقكم وما تعملون ﴾ أي : نحتكم ومنحوتكم فاعبدوه وحده.
تنبيه : دلت هذه الآية على مذهب الأشعرية وهو أن فعل العبد مخلوق لله عز وجل وهو الحق وذلك ؛ لأن النحويين اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده في تقدير المصدر فقوله تعالى ﴿ وما تعملون ﴾ معناه وعملكم وعلى هذا فيصير معنى الآية : والله خلقكم وخلق عملكم.
ولما أورد عليهم الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريقة الإيذاء لئلا يظهر للعامة عجزهم بأن :﴿ قالوا ابنوا له بنياناً ﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما : بنوا حائطاً من الحجر طوله في السماء ثلاثون ذراعاً وعرضه عشرون ذراعاً وملؤوه ناراً فطرحوه فيها وذلك هو قوله تعالى ﴿ فألقوه في الجحيم ﴾ وهي النار العظيمة قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم.
﴿ فأرادوا به كيداً ﴾ أي : شراً بإلقائه في النار لتهلكه ﴿ فجعلناهم الأسفلين ﴾ أي : المقهورين الأذلين بإبطال كيدهم وجعلنا ذلك برهاناً نيراً على علو شأنه حيث جعلنا النار عليه برداً وسلاماً وخرج منها سالماً.
﴿ وقال إني ذاهب إلى ربي ﴾ أي : إلى حيث أمرني ربي ونظيره قوله تعالى ﴿ وقال إني مهاجر إلى ربي ﴾ ( العنكبوت : ٢٦ ) أي : مهاجر إليه من دار الكفر ﴿ سيهدين ﴾ أي : إلى ما فيه صلاح ديني أو إلى مقصدي وهو الشام، وإنما بتّ القول لسبق وعده ولفرط توكله أو للبناء على عادته تعالى معه ولم يكن كذلك حال موسى عليه السلام حيث قال ﴿ عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ﴾ ( القصص : ٢٢ ) فلذلك ذكر بصيغة التوقع.
ولما وصل إلى الأرض المقدسة قال :﴿ رب هب لي من الصالحين ﴾ أي : هب لي ولداً صالحاً يعينني على الدعوة والطاعة ويؤنسني في الغربة ؛ لأن لفظ هب غلب في الولد وإن كان قد جاء في الأخ في قوله تعالى ﴿ ووهبنا له من رحمتنا أخاه هرون نبياً ﴾ ( مريم : ٥٣ ).
قال الله تعالى :﴿ فبشرناه بغلام حليم ﴾ أي : ذي حلم كثير في كبره غلام في صغره، ففيه بشارة بأنه ابن وأنه يعيش وينتهي إلى سن يوصف بالحلم وأي حلم أعظم من أنه عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق فقال :﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾ ( الصافات : ١٠٢ ) وقيل : ما وصف الله تعالى نبياً بالحلم لعزة وجوده غير إبراهيم وابنه اسماعيل عليهما الصلاة والسلام وحالتهما المذكورة تشهد عليه.
﴿ فلما بلغ معه السعي ﴾ أي : أن يسعى معه قال ابن عباس رضي الله عنهما وقتادة : بلغ معه السعي أي المشي معه إلى الجبل وقال مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما : ما شب حتى بلغ سعيه بسعي إبراهيم والمعنى : بلغ أن يتصرف معه وأن يعينه في عمله، وقال الكلبي : يعني العمل لله تعالى وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة، وقيل : سبع سنين.
تنبيه : معه متعلق بمحذوف على سبيل البيان كأن قائلاً قال : مع من بلغ السعي ؟ فقيل : مع أبيه ولا يجوز تعلقه ببلغ ؛ لأنه يقتضي بلوغهما معاً حد السعي ولا يجوز تعلقه بالسعي ؛ لأن صلة المصدر لا تتقدم عليه.
وقوله تعالى ﴿ قال يا بني إني أرى ﴾ أي : رأيت ﴿ في المنام أني أذبحك ﴾ يحتمل أنه رأى ذلك وأنه رأى ما هو تعبيره، وقيل : إنه رأى في ليلة التروية في منامه كأن قائلاً يقول له : إن الله تعالى يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح تروى في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله أم من الشيطان ؟ فمن ثم سمى يوم التروية فلما أمسى رأى أيضاً مثل ذلك فعرف أنه من الله تعالى فسمي يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر، وهذا قول أكثر المفسرين، وهو يدل على أنه رأى في المنام ما يوجب أن يذبح ابنه في اليقظة وعلى هذا فتقدير اللفظ : أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك.
تنبيه : اختلف في الذبيح فقيل : هو اسحاق عليه السلام وبه قال : عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم، وقيل : إسماعيل وبه قال ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم وغيرهم وهو الأظهر كما قاله البيضاوي ؛ لأنه الذي وهب له أثر الهجرة ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام ولقوله صلى الله عليه وسلم :«أنا ابن الذبيحين ». وقال له أعرابي : يا ابن الذبيحين فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم فسئل عن ذلك فقال : إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر إن سهل الله أمرها ليذبحن أحد ولده فخرج السهم على عبد الله، فمنعه أخواله وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ولذلك سنت الإبل مائة والذبيح الثاني إسماعيل، ونقل الأصمعي أنه قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال : يا أصمعي أين عقلك ومتى كان إسحاق بمكة ؟ وإنما كان إسماعيل بمكة وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة.
وقد وصف الله تعالى إسماعيل عليه السلام بالصبر دون إسحاق عليه السلام في قوله تعالى ﴿ وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين ﴾ ( الأنبياء : ٨٥ ) وهو صبره على الذبح ووصفه أيضاً بصدق الوعد فقال :﴿ إنه كان صادق الوعد ﴾ ( مريم : ٥٤ )
لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فقال ﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾ ( الصافات : ١٠٢ ) وقال تعالى :﴿ فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ﴾ ( هود : ٧١ ) فكيف تقع البشارة بإسحاق وأنه سيولد له يعقوب ثم يؤمر بذبح إسحاق وهو صغير قبل أن يولد له ؟ هذا يناقض البشارة المتقدمة.
وقال الإمام أحمد بن حنبل : الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه السلام وعليه جمهور العلماء من الخلف والسلف قال ابن عباس : وزعمت اليهود أنه اسحاق عليه السلام وكذبت اليهود وما روي أنه صلى الله عليه وسلم :«سئل أي النسب أشرف ؟ فقال : يوسف صديق الله بن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله » فالصحيح أنه قال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم والزوائد من الراوي، وما روي أن يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت وقال محمد بن إسحاق : كان إبراهيم عليه السلام إذا زار هاجر وإسماعيل حمل على البراق فيغدو من الشام فيقيل بمكة ويروح من مكة فيبيت عند أهله بالشام حتى بلغ إسماعيل معه السعي أمر في المنام أن يذبحه قال مقاتل : رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات فلما تيقن ذلك قال لابنه ﴿ فانظر ماذا ترى ﴾ من الرأي : فشاوره ليأنس بالذبح وينقاد للأمر به قال ابن اسحاق وغيره ولما أمر إبراهيم بذلك قال لابنه : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق إلى هذا الشعب نحتطب فلما خلا إبراهيم بابنه في الشعب شعب ثبير أخبره بما أمر. ﴿ قال يا أبت افعل ما تؤمر ﴾ أي : ما أمرت به ﴿ ستجدني إن شاء الله من الصابرين ﴾ أي : على ذلك، وقرأ ﴿ يا بني ﴾ حفص بفتح الياء، والباقون بالكسر، وقرأ ﴿ إني أرى ﴾ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء، والباقون بالسكون، وقرأ ﴿ ماذا ترى ﴾ حمزة والكسائي بضم التاء وكسر الراء، والباقون بفتحهما والحكمة في مشاورته في هذا الأمر ليظهر له صبره في طاعة الله تعالى فيكون فيه قرة عين لإبراهيم حيث يراه قد بلغ في الحكمة إلى هذا الحد العظيم والصبر على أشد المكاره إلى هذه الدرجة العالية ويحصل للابن الثواب العظيم في الآخرة والثناء الحسن في الدنيا.
وقرأ يا أبت ابن عامر في الوصل بفتح التاء، وكسرها الباقون والتاء عوض عن ياء الإضافة، ووقف عليها بالهاء ابن كثير وابن عامر، ووقف الباقون بالتاء والرسم بالتاء وفتح ياء ستجدني في الوصل نافع، وسكنها الباقون.
﴿ فلما أسلما ﴾ أي : انقادا وخضعا لأمر الله، وقال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه وأسلم الابن نفسه ﴿ وتلّه للجبين ﴾ أي : صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض وهو أحد جانبي الجبهة، والجبهة بين الجبينين وشذ جمعه على أجبن، وقياسه في القلة أجبنة كأرغفة وفي الكثرة جبن وجبنان كرغيف ورغف ورغفان، وقيل : إنه لما أراد ذبحه قال : يا أبت اشدد رباطي حتى لا أضطرب فينقص أجري، واكفف عني ثيابي حتى لا ينتضح عليها من دمي شيء وتراه أمي فتحزن حزناً طويلاً، واشحذ شفرتك وأسرع مر السكين على حلقي ليكون أهون علي فإن الموت شديد، وإذا أتيت أمي فاقرأ عليها السلام مني، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسلى لها عني فقال له إبراهيم : نعم العون أنت يا بني على أمر الله تعالى ففعل إبراهيم ما أمر به ابنه، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهو يبكي والابن يبكي ثم إنه وضع السكين على حلقه فلم تجل شيئاً ثم أنه شحذها مرتين أو ثلاثاً بالحجر كل ذلك لا يستطيع أن يقطع شيئاً، قال السدي : ضرب الله تعالى صفيحة من نحاس على حلقه قال : فقال الابن عند ذلك يا أبت كبني على وجهي لجبيني فإنك إذا نظرت في وجهي رحمتني وأدركتك رحمة تحول بينك وبين أمر الله وأنا لا أنظر الشفرة فأجزع، ففعل ذلك إبراهيم ووضع السكين على قفاه فانقلبت السكين.
﴿ وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ﴾ أي : بالعزم والإتيان بالمقدمات ما أمكنك.
تنبيه : في جواب لما ثلاثة أوجه أظهرها : أنه محذوف، أي : نادته الملائكة عليهم السلام أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، وقدره بعضهم بعد الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه.
ونقل ابن عطية أن التقدير : فلما أسلما سلما وتله للجبين ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل.
الثاني : أنه وتله للجبين والواو زائدة، وهو قول الكوفيين والأخفش، الثالث : أنه وناديناه والواو زائدة أيضاً واقتصر على هذا الجلال المحلي، وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار : أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ذبح ولده قال الشيطان : لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا لم أفتن أحداً منهم أبداً فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام وقال : هل تدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : ذهب به يحتطبان من هذا الشعب قال : والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت : كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك، قال : إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت : فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن إن يطيع ربه، فخرج من عندها الشيطان، ثم أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال : والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره، قال : فليفعل ما أمره به ربه فسمع وطاعة، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال له : أين تريد أيها الشيخ ؟ قال : أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، قال : والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ولدك هذا، فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئاً كما أراد الله عز وجل.
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنه : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فإن قيل : لم قال تعالى :﴿ قد صدقت الرؤيا ﴾ وكان قد رأى الذبح ولم يذبح ؟ أجيب : بأنه جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب استسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعلا وقيل : كان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم وقد فعل في اليقظة ما رآه في النوم، ولذلك قال :﴿ قد صدقت الرؤيا ﴾ قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذه التكاليف الشاقة الشديدة وظهر منه كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى :﴿ قد صدقت الرؤيا ﴾ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى، والمعنى : إنا كما عفونا عن ذبح ولدك كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا، قال مقاتل : جزاء الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٤:﴿ وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا ﴾ أي : بالعزم والإتيان بالمقدمات ما أمكنك.
تنبيه : في جواب لما ثلاثة أوجه أظهرها : أنه محذوف، أي : نادته الملائكة عليهم السلام أو ظهر صبرهما أو أجزلنا لهما أجرهما، وقدره بعضهم بعد الرؤيا كان ما كان مما ينطق به الحال والوصف مما لا يدرك كنهه.
ونقل ابن عطية أن التقدير : فلما أسلما سلما وتله للجبين ويعزى هذا لسيبويه وشيخه الخليل.
الثاني : أنه وتله للجبين والواو زائدة، وهو قول الكوفيين والأخفش، الثالث : أنه وناديناه والواو زائدة أيضاً واقتصر على هذا الجلال المحلي، وروى أبو هريرة عن كعب الأحبار : أن إبراهيم عليه السلام لما رأى ذبح ولده قال الشيطان : لئن لم أفتن آل إبراهيم عند هذا لم أفتن أحداً منهم أبداً فتمثل الشيطان في صورة رجل وأتى أم الغلام وقال : هل تدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : ذهب به يحتطبان من هذا الشعب قال : والله ما ذهب به إلا ليذبحه، قالت : كلا هو أرحم به وأشد حباً له من ذلك، قال : إنه يزعم أن الله أمره بذلك، قالت : فإن كان ربه أمره بذلك فقد أحسن إن يطيع ربه، فخرج من عندها الشيطان، ثم أدرك الابن وهو يمشي على إثر أبيه فقال له : يا غلام هل تدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : نحتطب لأهلنا من هذا الشعب قال : والله ما يريد إلا أن يذبحك، قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره، قال : فليفعل ما أمره به ربه فسمع وطاعة، فلما امتنع منه الغلام أقبل على إبراهيم فقال له : أين تريد أيها الشيخ ؟ قال : أريد هذا الشعب لحاجة لي فيه، قال : والله إني لأرى الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ولدك هذا، فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله فوالله لأمضين لأمر ربي فرجع إبليس بغيظه لم يصب من إبراهيم وآله شيئاً كما أراد الله عز وجل.
وروى أبو الطفيل عن ابن عباس رضي الله عنه : أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بذبح ابنه عرض له الشيطان بهذا المشعر فسابقه فسبقه إبراهيم ثم ذهب إلى جمرة العقبة، فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم أدركه عند الجمرة الكبرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى فنودي من الجبل أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. فإن قيل : لم قال تعالى :﴿ قد صدقت الرؤيا ﴾ وكان قد رأى الذبح ولم يذبح ؟ أجيب : بأنه جعله مصدقاً لأنه قد أتى بما أمكنه والمطلوب استسلامهما لأمر الله تعالى وقد فعلا وقيل : كان قد رأى في النوم معالجة الذبح ولم ير إراقة الدم وقد فعل في اليقظة ما رآه في النوم، ولذلك قال :﴿ قد صدقت الرؤيا ﴾ قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم لتكاليف الله تعالى فلما كلفه الله تعالى بهذه التكاليف الشاقة الشديدة وظهر منه كمال الطاعة والانقياد لا جرم قال الله تعالى :﴿ قد صدقت الرؤيا ﴾ وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ ابتداء إخبار من الله تعالى، والمعنى : إنا كما عفونا عن ذبح ولدك كذلك نجزي من أحسن في طاعتنا، قال مقاتل : جزاء الله تعالى بإحسانه في طاعته العفو عن ذبح ابنه.

﴿ إن هذا ﴾ أي : الذبح المأمور به ﴿ لهو البلاء المبين ﴾ أي : الاختبار الظاهر الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم، والمحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها.
وقال مقاتل : البلاء ههنا النعمة وهو أن فدى ابنه بالكبش كما قال تعالى :﴿ وفديناه ﴾ أي : المأمور بذبحه وهو إسماعيل وهو الأظهر، وقيل : إسحاق ﴿ بذبح عظيم ﴾ أي : عظيم الجثة سمين أو عظيم القدر ؛ لأن الله تعالى فدى به نبياً ابن نبي وأي نبي من نسله سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، وهو كبش أتى به جبريل عليه السلام من الجنة وهو الذي قربه هابيل، فقال لإبراهيم : هذا فدا ولدك فاذبحه دونه، فكبر إبراهيم وكبر ولده، وكبر جبريل وكبر الكبش وأخذ إبراهيم الكبش، وأتى به المنحر من منى فذبحه، قال البغوي : قال أكثر المفسرين : كان ذلك الذبح كبشاً رعى في الجنة أربعين خريفاً، وقيل : كان وعلاً أهبط عليه من ثبير، وروي أنه هرب منه عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فصارت سنة.
تنبيه : الذبح مصدر ويطلق على ما يذبح وهو المراد في هذه الآية.
﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ ثناء حسناً.
وقوله تعالى :﴿ سلام ﴾ أي : منا ﴿ على إبراهيم ﴾ سبق بيانه في قصة نوح عليهما السلام.
﴿ كذلك ﴾ أي : كما جزيناك ﴿ نجزي المحسنين ﴾ لأنفسهم.
وقوله تعالى :﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ تعليل لإحسانه بالإيمان إظهاراً لجلالة قدره وأصالة أمره.
وقوله تعالى :﴿ وبشرناه بإسحاق ﴾ فيه دليل على أن الذبيح غيره، وقد مرت الإشارة إلى ذلك، وقوله تعالى ﴿ نبياً ﴾ حال مقدرة أي : يوجد مقدراً نبوته، وقوله تعالى :﴿ من الصالحين ﴾ يجوز أن يكون صفة لنبياً وأن يكون حالاً من الضمير في نبياً فتكون حالاً متداخلة، ويجوز أن تكون حالاً ثانية ومن فسر الذبيح بإسحاق عليه السلام جعل المقصود من البشارة نبوته، وفي ذكر الصلاح بعد النبوة تعظيم لشأنه وإيماء بأنه الغاية لها لتضمنها معنى الكمال والتكميل.
﴿ وباركنا عليه ﴾ أي : على إبراهيم عليه السلام بتكثير ذريته ﴿ وعلى إسحاق ﴾ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم كأيوب وشعيب عليهم السلام فجميع الأنبياء بعده من صلبه إلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه من ذرية إسماعيل عليه السلام وفيه إشارة إلى أنه مفرد علم فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ﴿ ومن ذريتهما محسن ﴾ أي : مؤمن طائع ﴿ وظالم ﴾ أي : كافر وفاسق ﴿ لنفسه مبين ﴾ أي : ظاهر ظلمه، وفي ذلك تنبيه على أن النسب لا أثر له في الهدى والضلال وأن الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب ولا غير ذلك والله أعلم.
القصة الثالثة : قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ ولقد مننّا على موسى وهرون ﴾ أي : أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.
﴿ ونجيناهما وقومهما ﴾ أي : بني إسرائيل ﴿ من الكرب ﴾ أي : الغم ﴿ العظيم ﴾ أي : الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وقيل : من الغرق.
والضمير في قوله تعالى :﴿ ونصرناهم ﴾ يعود على موسى وهارون وقومهما، وقيل : على الإثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله تعالى ﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ ( الطلاق : ١ ) وقول الشاعر :
فإن شئت حرمت النساء سواكم ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
﴿ فكانوا هم الغالبين ﴾ أي : على فرعون وقومه في كل الأحوال، أما في أول الأمر فبظهور الحجة، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة.
تنبيه : يجوز في هم أن يكون تأكيداً، وأن يكون بدلاً، وأن يكون فصلاً وهو الأظهر.
﴿ وآتيناهما الكتاب المستبين ﴾ أي : المستنير البليغ البيان المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا وهو التوراة كما قال تعالى :﴿ إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ﴾ ( المائدة : ٤٤ ).
﴿ وهديناهما الصراط المستقيم ﴾ أي : دللناهما على الطريق الموصل إلى الحق والصواب عقلاً وسمعاً.
﴿ وتركنا ﴾ أي : أبقينا ﴿ عليهما ﴾ ثناء حسناً ﴿ في الآخرين ﴾.
﴿ سلام ﴾ أي : منا ﴿ على موسى وهارون ﴾.
﴿ إنا كذلك ﴾ أي : كما جزيناهما ﴿ نجزي المحسنين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إنهما من عبادنا المؤمنين ﴾ تعليل لإحسانهما بالإيمان وإظهار لجلالة قدره وأصالة أمره.
القصة الرابعة قصة إلياس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإن إلياس لمن المرسلين ﴾ روي عن ابن مسعود أنه قال : إلياس هو إدريس، وهو قول عكرمة وقال أكثر المفسرين : إنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، قال ابن عباس : وهو ابن عم اليسع عليهما السلام، وقال محمد بن إسحاق : هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليهما السلام.
تنبيه : أذكر فيه شيئاً من قصته عليه السلام قال علماء السير والأخبار : لما قبض الله تعالى حزقيل النبي عليه السلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبياً وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى عليه السلام بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وأحل سبطاً منها ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم إلياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك اسمه لاجب وكان أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم طوله عشرون ذراعاً وله أربعة وجوه وكان يسمى : ببعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن أي : خادم، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك، وكان إلياس يدعوهم إلى عبادة الله وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة تسمى : بإزميل جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، وكانت تبرز للناس فتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء، ويقال : إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام، وكان له كاتب رجل مؤمن حليم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتلهم إذا بعث كل واحد منهم سوى الذين قتلتهم وكانت في نفسها غير محصنة، وكانت قد تزوجت سبعة من ملوك بني إسرائيل وقتلتهم كلهم بالاغتيال وكانت معمرة يقال : إنها ولدت سبعين ولداً، وكان لاجب هذا جار رجل صالح يقال له : مزدكي، وكان له جنينة يعيش منها وكانت الجنينة إلى جانب قصر الملك وامرأته، وكانا يشرفان عليها يتنزهان فيها ويأكلان ويشربان ويقيلان فيها، وكان الملك يحسن جوار صاحبها مزدكي ويحسن إليه، وامرأته إزميل تحسده لأجل تلك الجنينة وتحتال أن تغصبها منه لما تسمع الناس يكثرون ذكرها ويتعجبون من حسنها وتحتال أن تقتله، والملك ينهاها عن ذلك فلا تجد عليه سبيلاً، ثم أنه اتفق خروج الملك إلى مكان بعيد وطالت غيبته فاغتنمت امرأته إزميل ذلك فجمعت جمعاً من الناس وأمرتهم أنهم يشهدون على مزدكي أنه سب زوجها لاجب فأجابوها إليه وكان في حكمهم في ذلك الزمان القتل على من سب الملك إذا قامت عليه البينة، فأحضرت مزدكي وقالت له : بلغني أنك شتمت الملك فأنكر فأحضرت الشهود فشهدوا عليه بالزور فأمرت بقتله وأخذت جنينته، فلما قدم الملك من سفره أخبرته الخبر فقال لها : ما أصبت ولا أبداً نفلح بعده فقد جاورنا منذ زمان فأحسنا جواره وكففنا عنه الأذى لوجوب حقه علينا فختمت أمره بأسوء الجوار قالت : إنما غضبت لك وحكمت بحكمك فقال لها : أوما كان يسعه حلمك فتحفظين جواره ؟ قالت : قد كان ما كان فبعث الله إلياس إلى لاجب الملك، وأمره الله أن يخبرهم أن الله تعالى قد غضب عليهم لوليه حين قتلوه ظلماً وآلى على نفسه أنهما إن لم يتوبا عن صنيعهما ويردا الجنينة على ورثة مزدكي أن يهلكهما، يعني : لاجب وامرأته في جوف الجنينة، ثم يضعهما جثتين ملقيين فيها حتى تتفرق عظامهما من لحومهما ولا يتمتعان بها إلا قليلاً، فجاء إلياس فأخبر الملك بما أوحى الله في أمره وأمر امرأته والجنينة، فلما سمع الملك ذلك اشتد غضبه عليه، وقال : يا إلياس والله ما أرى ما تدعونا إليه إلا باطلاً، وهم بتعذيبه وقتله، فلما أحس إلياس بالشر رفضه وخرج عنه هارباً، ورجع الملك إلى عبادة بعل وارتقى إلياس إلى أصعب جبل وأشمخه فدخل مغارة فيه، ويقال : أنه بقي سبع سنين شريداً خائفاً يأوي الشعوب والكهوف، يأكل من نبات الأرض وثمار الشجر وهم في طلبه قد وضعوا العيون عليه والله تعالى يستره منهم، فلما طال الأمر على إلياس وطال عصيان قومه وضاق
بذلك ذرعاً أوحى الله تعالى إليه بعد سبع سنين : يا إلياس ما هذا الخوف الذي أنت فيه ألست أميني على وحيي وحجتي في أرضي وصفوتي من خلقي ؟ فسلني أعطك فإني ذو الرحمة الواسعة والفضل العظيم، قال : تميتني فتلحقني بآبائي فإني قد مللت بني إسرائيل وملوني، فأوحى الله تعالى إليه : يا الياس ما هذا اليوم الذي أعرى منك الأرض وأهلها ؟ وإنما قوامهما وصلاحهما بك وأشباهك وإن كنتم قليلاً ولكن سلني فأعطك، قال إلياس : إن لم تمتني فاعطني ثأري من بني إسرائيل، قال الله تعالى : وأي : شيء تريد أن أعطيك ؟ قال : تمكنني من خزائن السماء سبع سنين فلا تنشئ سحابة عليهم إلا بدعوتي ولا تمطر عليهم سبع سنين قطرة إلا بشفاعتي فإنهم لا يذكرهم إلا ذلك، قال الله تعالى : يا إلياس أنا أرحم بخلقي من ذلك وإن كانوا ظالمين، قال : ست سنين، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك، قال : فخمس سنين، قال : أنا أرحم بخلقي من ذلك، ولكن أعطيك ثأرك ثلاث سنين أجعل خزائن المطر بيدك، قال : فبأي شيء أعيش ؟ قال : أسخر لك جنساً من الطير ينقل إليك طعامك وشرابك من الريف ومن الأرض التي لم تقحط، قال إلياس : قد رضيت، فأمسك الله تعالى عنهم المطر حتى هلكت الماشية والهوام والشجر وجهد الناس جهداً عظيماً، وإلياس على حالته مستخف من قومه يوضع له الرزق حيثما كان وقد عرف ذلك قومه.
قال ابن عباس : أصاب بني إسرائيل ثلاث سنين القحط فمر إلياس بعجوز فقال لها : هل عندكم طعام ؟ قالت : نعم شيء من دقيق وزيت قليل فدعا بهما ودعا فيه بالبركة حتى ملأ خوابيها دقيقاً وخوابيها زيتاً، فلما رأوا ذلك عندها، قالوا لها : من أين لك هذا ؟ قالت : مر بي رجل من حاله كذا وكذا ثم وصفته بصفته فعرفوه وقالوا : ذلك إلياس، فطلبوه فوجدوه فهرب منهم ثم إنه أوى إلى بيت امرأة من بني إسرائيل لها ابن يقال له : اليسع بن أخطوب به مرض فآوته وأخفت أمره فدعا له فعوفي من الضر الذي كان به، واتبع إلياس وآمن به وصدقه ولزمه وكان يذهب حيثما ذهب، وكان إلياس قد كبر سنه واليسع غلام شاب ثم إن الله تعالى أوحى إلى إلياس أنك قد أهلكت كثيراً من الخلق ممن لم يعص من البهائم والطير والهوام بحبس المطر، فقال إلياس : يا رب دعني أنا الذي أكون أدعو لهم وآتيهم بالفرج مما هم فيه من البلاء لعلهم أن يرجعوا عما هم عليه من عبادة غيرك، فقيل له : نعم، فجاء إلياس إلى بني إسرائيل فقال : إنكم قد هلكتم جوعاً وجهداً وقد هلكت البهائم والهوام والشجر بخطاياكم وإنكم على باطل، فإن كنتم تحبون أن تعلموا ذلك فاخرجوا بأصنامكم فإن استجابت لكم فذلك كما تقولون، وإن هي لم تفعل علمتم أنكم على باطل فنزعتم ودعوتم الله سبحانه وتعالى، ففرج عنكم ما أنتم فيه من البلاء قالوا : أنصفت فخرجوا بأوثانهم فدعوها فلم تفرج عنهم ما كانوا فيه من البلاء ثم قالوا لإلياس : إنا قد هلكنا فادع الله لنا فدعا لهم إلياس ومعه اليسع بالفرج، فخرجت سحابة مثل الترس على ظهر البحر وهم ينظرون فأقبلت نحوهم وطبقت الآفاق ثم أرسل الله تعالى عليهم المطر فأغاثهم وحييت بلادهم، فلما كشف الله تعالى عنهم المطر لم ينزعوا عن كفرهم وأقاموا على أخبث ما كانوا عليه، فلما رأى ذلك إلياس دعا ربه أن يريحه منهم، فقيل له : انظر يوم كذا وكذا فاخرج فيه إلى موضع كذا فما جاءك من شيء فاركبه ولا تهبه، فخرج إلياس ومعه اليسع حتى إذا كانا بالموضع الذي أمر به أقبل فرس من نار، وقيل : لونه كلون النار حتى وقف بين يديه فوثب عليه إلياس وانطلق به الفرس وناداه اليسع : يا إلياس ما تأمرني ؟ فقذف إليه بكسائه من الجو الأعلى فكان ذلك علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل، وكان ذلك آخر عهده به ورفع الله تعالى إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش، فكان إنسياً ملكياً أرضياً سماوياً، وسلط الله تعالى على لاجب الملك وقومه عدواً لهم فقصدهم من حيث لم يشعروا به حتى أرهقهم فقتل لاجب وامرأته إزميل في بستان مزدكي فلم تزل جيفتاهما ملقاتين في تلك الجنينة حتى بليت لحومهما ورمت عظامهما، ونبأ الله تعالى اليسع وبعثه رسولاً إلى بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه وأيده، فآمنت به بنو إسرائيل وكانوا يعظمونه، وحكم الله تعالى فيهم قائم إلى أن فارقهم اليسع.
روى السري بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي رواد قال : إلياس والخضر يصومان رمضان ببيت المقدس ويوافيان موسم الحج في كل عام، وقيل : إن إلياس موكل بالفيافي والخضر موكل بالبحار فذلك قوله تعالى ﴿ وإن إلياس لمن المرسلين ﴾.
﴿ إذ ﴾ أي : اذكر يا أفضل الخلق إذ ﴿ قال لقومه ألا تتقون ﴾ أي : ألا تخافون الله.
ولما خوفهم على سبيل الإجمال ذكر ما هو السبب لذلك التخويف بقوله تعالى :﴿ أتدعون بعلاً ﴾ اسم لصنم لهم من ذهب وبه سميت البلد أيضاً مضافاً إلى بك أي : أتعبدونه أو تطلبون الخير منه، وقيل : البعل الرب بلغة اليمن سمع ابن عباس رجلاً منهم ينشد ضالة فقال آخر : أنا بعلها فقال : الله أكبر وتلا الآية، ويقال : من بعل هذه الدار أي : من ربها، وسمي الزوج بعلاً لهذا المعنى قال الله تعالى ﴿ وبعولتهن أحق بردّهن ﴾ ( البقرة : ٢٢٨ ) وقالت امرأة إبراهيم ﴿ وهذا بعلي شيخاً ﴾ ( هود، ٨٢ ) والمعنى : أتدعون بعض البعول ﴿ وتذرون ﴾ أي : وتتركون ﴿ أحسن الخالقين ﴾ فلا تعبدونه، وقرأ ابن ذكوان بهمزة الوصل من إلياس في الوصل فإن ابتدأ بها ابتدأ بفتحها، والباقون بهمزة مكسورة وصلاً وابتداء.
وقوله تعالى :﴿ الله ربكم ورب آبائكم الأولين ﴾ قرأه حفص وحمزة والكسائي بنصب الهاء من الاسم الكريم ونصب الباء الموحدة من ربكم ورب وذلك إما على المدح أو البدل أو البيان إن قلنا إن إضافة أفعل إضافة محضة، والباقون بالرفع في الثلاثة وذلك إما على خبر مبتدأ مضمر أي : هو الله وعلى أن الجلالة مبتدأ وما بعده الخبر.
﴿ فكذّبوه فإنهم لمحضرون ﴾ أي : في العذاب وإنما أطلقه اكتفاء بالقرينة أو لأن الإحضار المطلق مخصوص بالشر عرفاً.
وقوله تعالى :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ أي : المؤمنين مستثنى من فاعل فكذبوه، وفيه دلالة على أن في قومه من لم يكذبه، فلذلك استثنوا ولا يجوز أن يكونوا مستثنين من ضمير لمحضرون لفساد المعنى ؛ لأنه يلزم أن يكونوا مندرجين فيمن كذب لكنهم لم يحضروا لكونهم عباد الله المخلصين وهو بين الفساد لا يقال : هو مستثنى منه استثناء منقطعاً ؛ لأنه يصير المعنى : لكن عباد الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضروا، ولا حاجة إلى هذا إذ به يفسد نظم الكلام وتقدم الكلام على قراءة المخلصين في أول السورة.
﴿ وتركنا عليه في الآخرين ﴾ ثناء حسناً.
﴿ سلام ﴾ أي : منا، وقوله تعالى :﴿ على إل ياسين ﴾ قرأه نافع وابن عامر بفتح الهمزة ممدودة وكسر اللام وقطعها عن الياء كما رسمت أي : أهله والمراد به إلياس، والباقون بكسر الهمزة وسكون اللام وهي مقطوعة عن الياء قيل : هو إلياس المتقدم، وقيل : هو ومن آمن معه فجمعوا معه تغليباً كقولهم للمهلب وقومه : المهلبون، وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم أو القرآن أو غيره من كتب الله تعالى، قال البيضاوي : والكل لا يناسب نظم سائر القصص.
وقوله تعالى :﴿ إنا كذلك نجزي المحسنين ﴾ أي : كما جزيناه.
﴿ إنه من عبادنا المؤمنين ﴾ إذ الظاهر أن الضمير لإلياس.
القصة الخامسة قصة لوط عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإن لوطاً لمن المرسلين ﴾.
﴿ إذ ﴾ أي : واذكر إذ ﴿ نجّيناه وأهله أجمعين ﴾.
﴿ إلا عجوزاً في الغابرين ﴾ أي : الباقين في العذاب.
﴿ ثم دمرنا ﴾ أي : أهلكنا ﴿ الآخرين ﴾ أي : كفار قومه.
﴿ وإنكم ﴾ يا أهل مكة ﴿ لتمرّون عليهم مصبحين ﴾ أي : على منازلهم في متاجركم إلى الشام فإن سدوم في طريقه.
وقوله تعالى :﴿ وبالليل ﴾ عطف على الحال قبلها أي : ملتبسين بالليل والمعنى : أن أولئك القوم كانوا يسافرون إلى الشام، والمسافر في أكثر الأمر إنما يمشي في أول الليل وفي أول النهار فلهذا السبب عبر الله تعالى عن هذين الوقتين ثم قال تعالى :﴿ أفلا تعقلون ﴾ أي : أليس فيكم عقل يا أهل مكة فتنظروا ما حل بهم فتعتبروا ؟
القصة السادسة : وهي آخر القصص، قصة يونس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :﴿ وإن يونس لمن المرسلين ﴾.
وقوله تعالى :﴿ إذ أبق ﴾ ظرف للمرسلين أي : هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وأبق أي : هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. ﴿ إلى الفلك المشحون ﴾ أي : السفينة المملوءة، قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب : كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمنشوز منهم فقصد البحر فركب السفينة، فقال الملاحون : ههنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال يونس : أنا الآبق فزج نفسه في البحر.
وروي في القصة : أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب، ثم جاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، وجاء ذئب فأخذ ابنه الأصغر فبقي فريداً، فجاءت مركب أخرى فركبها وقعد ناحية من القوم، فلما جرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل وقوف السفينة كما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فأقرعوا فمن خرجت القرعة على سهمه نغرقه فإن تغريق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فذلك قوله تعالى :﴿ فساهَم ﴾ أي : قارع أهل السفينة ﴿ فكان من المدحضين ﴾ أي : المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٠:وقوله تعالى :﴿ إذ أبق ﴾ ظرف للمرسلين أي : هو من المرسلين حتى في هذه الحالة وأبق أي : هرب وأصله الهرب من السيد لكن لما كان هربه من قومه بغير إذن ربه حسن إطلاقه عليه. ﴿ إلى الفلك المشحون ﴾ أي : السفينة المملوءة، قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب : كان يونس وعد قومه العذاب فتأخر عنهم فخرج كالمنشوز منهم فقصد البحر فركب السفينة، فقال الملاحون : ههنا عبد آبق من سيده فاقترعوا فوقعت القرعة على يونس، فقال يونس : أنا الآبق فزج نفسه في البحر.
وروي في القصة : أنه لما وصل إلى البحر كانت معه امرأته وابنان له فجاء مركب وأراد أن يركب معهم فقدم امرأته ليركب بعدها فحال الموج بينه وبين المركب ومر المركب، ثم جاءت موجة أخرى فأخذت ابنه الأكبر، وجاء ذئب فأخذ ابنه الأصغر فبقي فريداً، فجاءت مركب أخرى فركبها وقعد ناحية من القوم، فلما جرت السفينة في البحر ركدت فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل وقوف السفينة كما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر فأقرعوا فمن خرجت القرعة على سهمه نغرقه فإن تغريق واحد خير من غرق الكل فاقترعوا فخرجت القرعة على يونس فذلك قوله تعالى :﴿ فساهَم ﴾ أي : قارع أهل السفينة ﴿ فكان من المدحضين ﴾ أي : المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر.

﴿ فالتقمه ﴾ ابتلعه ﴿ الحوت وهو مليم ﴾ أي : آت بما يلام عليه من ذهابه إلى البحر وركوبه السفينة بلا إذن من ربه وقيل : مليم نفسه.
﴿ فلولا أنه كان من المسبحين ﴾ أي : الذاكرين قبل ذلك وكان عليه السلام كثير الذكر، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : من المصلين، وقال وهب : من العابدين، وقال الحسن : ما كان له صلاة في بطن الحوت ولكنه قدم عملاً صالحاً، قال الضحاك : شكر الله تعالى له طاعته القديمة، اذكر الله في الرخاء يذكرك في الشدة، فإن يونس كان عبداً صالحاً ذاكراً لله تعالى فلما وقع في الشدة في بطن الحوت شكر الله تعالى له ذلك، وقال سعيد بن جبير : يعني قوله :﴿ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ ( الأنبياء : ٨٧ ).
﴿ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ﴾ أي : صار بطن الحوت له قبراً إلى يوم القيامة وهو حي أو ميت وفي ذلك حث على إكثار الذكر وتعظيم لشأنه ومن أقبل عليه في السراء أخذ بيده في الضراء.
﴿ فنبذناه ﴾ : أي : ألقيناه من بطن الحوت فأضاف النبذ إلى نفسه سبحانه مع أن النبذ إنما حصل بفعل الحوت فهو يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. ﴿ بالعراء ﴾ : أي بوجه الأرض، وقال السدي : بالساحل، والعراء الأرض الخالية من الشجر والنبات، روي أن الحوت سار مع السفينة رافعاً رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح الله تعالى حتى انتهى إلى الأرض فلفظه.
تنبيه : اختلفوا في مدة لبثه في بطن الحوت فقال الحسن : لم يلبث إلا قليلاً ثم أخرج من بطن الحوت، وقال بعضهم : التقمه بكرة ولفظه عشية، وقال مقاتل بن حبان : ثلاثة أيام، وقال عطاء : سبعة أيام، وقال الضحاك : عشرين يوماً، وقيل : شهراً، وقيل : أربعين يوماً، قال الرازي : ولا أدري بأي دليل عينوا هذه المقادير ؟ وروى أبو بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«سبح يونس في بطن الحوت فسمع الملائكة تسبيحه فقالوا : ربنا إنا نسمع صوتاً ضعيفاً بأرض غريبة فقال تعالى : ذاك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر، قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه كل يوم وليلة عمل صالح، قال : نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه بالساحل ».
وروي أن يونس عليه السلام لما ابتلعه الحوت ابتلع الحوت حوت آخر أكبر منه فلما استقر في جوف الحوت حسب أنه قد مات فحرك جوارحه فتحركت فإذا هو حي فخر لله تعالى ساجداً وقال : يا رب اتخذت لي مسجداً لم يعبدك أحد في مثله.
﴿ وهو سقيم ﴾ : أي عليل كالفرخ الممعوط.
﴿ وأنبتنا عليه ﴾ أي : له وقيل : عنده ﴿ شجرة من يقطين ﴾ قال المبرد والزجاج : اليقطين كل ما لم يكن له ساق من عود كالقثاء والقرع والبطيخ والحنظل وهو قول الحسن ومقاتل، قال البغوي : المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين، وروى الفراء أنه قيل عند ابن عباس : هو ورق القرع فقال : ومن جعل القرع من بين الشجر يقطيناً كل ورقة انشقت وشربت فهو يقطين.
فإن قيل : الشجر ما له ساق واليقطين مما لا ساق له كما قال تعالى :﴿ والنجم والشجر يسجدان ﴾ ( الرحمان : ٦ )، أجيب : بأن الله تعالى جعل لها ساقاً على خلاف العادة في القرع معجزة له عليه السلام ولو كان منبسطاً على الأرض لم يمكن أن يستظل به قال مقاتل بن حبان : كان يونس عليه السلام يستظل بالشجرة وكانت وعلة تختلف إليه فيشرب من لبنها بكرة وعشياً حتى اشتد لحمه ونبت شعره.
وروي أن يونس عليه السلام كان يسكن مع قومه فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، وكان قد أوحى الله تعالى إلى بني إسرائيل إذا أسركم عدوكم أو أصابتكم مصيبة فادعوني أستجب لكم، فلما نسوا ذلك وأسروا أوحى الله تعالى بعد حين إلى نبي من أنبيائهم أن اذهب إلى ملك هؤلاء الأقوام وقل له : يبعث إلى بني إسرائيل نبياً، فاختار من بني إسرائيل يونس عليه السلام لقوته وأمانته فقال يونس : الله أمرك بهذا ؟ قال : لا ولكن أمرت أن أبعث قوياً أميناً وأنت كذلك، فقال يونس : في بني إسرائيل من هو أقوى مني فلم لم تبعثه ؟ فألح الملك عليه فغضب يونس منه وخرج حتى أتى بحر الروم فوجد سفينة مشحونة فحملوه فيها فلما أشرف على لجة البحر أشرفوا على الغرق فقال الملاحون : إن فيكم عاصياً وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه فقال التجار : قد جربنا مثل هذا فإذا رأيناه نقترع فمن خرجت عليه نغرقه في البحر فلأن يغرق واحد خير من غرق الكل، فخرج من بينهم يونس فقال : يا هؤلاء أنا العاصي وتلفف في كسائه ورمى بنفسه فالتقمه الحوت، وأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تكسر منه عظماً ولا تقطع منه وصلاً، ثم إن الحوت خرج إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم إلى دجلة وصعد به ورماه في أرض نصيبين بالعراء وهو كالفرخ المنتوف لا شعر ولا لحم، فأنبت الله تعالى عليه شجرة من يقطين فكان يستظل بها ويأكل من ثمرها حتى اشتد، ثم إن الأرضة أكلتها، فحزن يونس لذلك حزناً شديداً، فقال : يا رب كنت أستظل تحت هذه الشجرة من الشمس والريح وأمص من ثمرها وقد سقطت فقال : يا يونس تحزن على شجرة أنبتت في ساعة ولا تحزن على مائة ألف أو يزيدون تركتهم فانطلق إليهم، فانطلق إليهم.
﴿ وأرسلناه ﴾ : أي : بعد ذلك كقبله إلى قومه بنينوى من أرض الموصل، ﴿ إلى مائة ألف أو يزيدون ﴾ : قال ابن عباس : إن أو بمعنى الواو، وقال مقاتل والكلبي : بمعنى بل، وقال الزجاج : على الأصل بالنسبة للمخاطبين. واختلفوا في مبلغ الزيادة، فقال ابن عباس ومقاتل : كانوا عشرين ألفاً، ورواه أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن : بضعاً وثلاثين ألفاً، وقال سعيد بن جبير : تسعين ألفاً.
﴿ فآمنوا ﴾ أي : الذين أرسل إليهم عند معاينة العذاب الموعودين به، ﴿ فمتعناهم ﴾ أي : أبقيناهم بما لهم، ﴿ إلى حين ﴾ أي : إلى انقضاء آجالهم.
قوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ فاستفتهم ﴾ أي : استخبر كفار مكة توبيخاً لهم ﴿ ألربك البنات ولهم البنون ﴾، قال الزمخشري : معطوف على مثله في أول السورة، قال أبو حيان : وإذا كانوا قد عدوا الفصل بجملة نحو : كل لحماً واضرب زيداً وخبزاً من أقبح التراكيب فكيف بجمل كثيرة وقصص متباينة ؟ فأجيب عنه : بأن الفصل وإن كثر بين الجمل المتعاطفة مغتفر وأما المثال الذي ذكره فمن قبيل المفردات. ألا ترى كيف عطف خبزاً على لحماً ؟ وأيضاً الفاصل ليس بأجنبي، كما أشار إليه البيضاوي بقوله : أمر رسوله أولاً باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث وساق الكلام في تقريره جاراً لما يلائمه من القصص موصولاً بعضها ببعض، ثم أمره صلى الله عليه وسلم باستفتائهم عن وجه القسمة، حيث جعلوا لله البنات ولأنفسهم البنين في قولهم : الملائكة بنات الله وهؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر من التجسيم وتجويز البنات على الله تعالى، فإن الولادة مخصوصة بالأجسام المتكونة الفاسدة وتفضيل أنفسهم الخسيسة عليه سبحانه حيث جعلوا أوضع الجنسين له وأرفعهما لهم واستهانتهم بالملائكة حيث أنثوهم ولذلك كرر الله تعالى إنكاره ذلك وإبطاله في كتابه العزيز مراراً وجعله مما تكاد السماوات ينفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هداً، والإنكار ههنا مقصور على الأخيرين لاختصاص هذه الطائفة بهما.
ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشاً وأجناس العرب جهينة وبني سلمة وخزاعة وبني مليح قالوا : الملائكة بنات الله، وهذا الكلام يشتمل على أمرين أحدهما : إثبات البنات لله تعالى وذلك باطل ؛ لأن العرب كانوا يستنكفون من البنات والشيء الذي يستنكف منه المخلوق كيف يمكن إثباته للخالق ؟ والثاني : إثبات أن الملائكة إناث وهذا أيضاً باطل ؛ لأن طريق العلم إما الحس وإما الخبر وإما النظر، أما الحس فمفقود ؛ لأنهم لم يشاهدوا كيف خلق الله تعالى الملائكة وهو المراد من قوله تعالى :﴿ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ﴾.
﴿ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ﴾ : وإنما خص علم المشاهدة ؛ لأن أمثال ذلك لا يعلم إلا به، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يثبتونه كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وأما الخبر فمفقود أيضاً ؛ لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ﴾ أي : فيما زعموا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٠:﴿ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ﴾ : وإنما خص علم المشاهدة ؛ لأن أمثال ذلك لا يعلم إلا به، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يثبتونه كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وأما الخبر فمفقود أيضاً ؛ لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ﴾ أي : فيما زعموا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٠:﴿ أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ﴾ : وإنما خص علم المشاهدة ؛ لأن أمثال ذلك لا يعلم إلا به، فإن الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم لتمكن معرفته بالعقل الصرف مع ما فيه من الاستهزاء والإشعار بأنهم لفرط جهلهم يثبتونه كأنهم قد شاهدوا خلقهم. وأما الخبر فمفقود أيضاً ؛ لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم كونه صدقاً قطعاً وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون لم يدل على صدقهم دليل. وهذا هو المراد من قوله تعالى :﴿ ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون ﴾ أي : فيما زعموا.

قوله تعالى :﴿ أصطفى البنات على البنين ﴾ : استفهام إنكار واستبعاد، والاصطفاء أخذ صفوة الشيء.
فائدة : همزة أصطفى همزة قطع مفتوحة مقطوعة وصلاً وابتداء.
﴿ ما لكم كيف تحكمون ﴾ : هذا الحكم الفاسد.
﴿ أفلا تذكّرون ﴾ أي : أنه تعالى منزه عن ذلك، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد.
وأما النظر فمفقود من وجهين ؛ الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب ؛ لأنه تعالى أكمل الموجودات، والأكمل له اصطفاء الأبناء على البنات يعني : أن إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولهم باطلاً، الثاني : أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم وإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم. وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ أم لكم سلطان مبين ﴾. أي : حجة واضحة أن لله ولداً.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٥:﴿ أفلا تذكّرون ﴾ أي : أنه تعالى منزه عن ذلك، وقرأ حمزة والكسائي وحفص بتخفيف الذال، والباقون بالتشديد.
وأما النظر فمفقود من وجهين ؛ الأول : أن دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب ؛ لأنه تعالى أكمل الموجودات، والأكمل له اصطفاء الأبناء على البنات يعني : أن إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب إلى العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب كان قولهم باطلاً، الثاني : أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم وإذا لم يجدوا دليلاً ظهر بطلان مذهبهم. وهذا هو المراد بقوله تعالى :﴿ أم لكم سلطان مبين ﴾. أي : حجة واضحة أن لله ولداً.

﴿ فأتوا بكتابكم ﴾ أي : التوراة فأروني ذلك فيه، ﴿ إن كنتم صادقين ﴾ أي : في قولكم هذا.
﴿ وجعلوا بينه وبين الجِنة نسباً ﴾ : قال مجاهد وقتادة : أراد بالجنة الملائكة عليهم السلام سموا جناً لاجتنانهم عن الأبصار، وقال ابن عباس : حي من الملائكة يقال لهم : الجن منهم إبليس لعنه الله، وقيل : هم خزان الجنة، قال الرازي : وهذا القول عندي مشكل ؛ لأنه تعالى أبطل قولهم : الملائكة بنات الله، ثم عطف عليه قوله تعالى :﴿ وجعلوا ﴾ إلخ والعطف يقتضي المغايرة، فوجب أن يكون المراد من الآية غير ما تقدم، وقال مجاهد : قال كفار قريش : الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه منكراً عليهم : فمن أمهاتهم ؟ قالوا : سروات الجن، وهذا أيضاً بعيد ؛ لأن المصاهرة لا تسمى نسباً، قال الرازي : وقد روينا في تفسير قوله تعالى :﴿ وجعلوا لله شركاء الجن ﴾ ( الأنعام : ١٠٠ ) أن قوماً من الزنادقة يقولون : إن الله تعالى وإبليس أخوان فالله تعالى هو الحر الكريم وإبليس هو الأخ الشرير، فالمراد من ذلك هو هذا المذهب وهو مذهب المجوس، قال : وهذا القول عندي هو أقرب الأقاويل في الرد عليه بهذه الآية ﴿ ولقد علمت الجنة أنهم ﴾ أي : أهل هذا القول ﴿ لمحضرون ﴾ أي : إلى النار ومعذبون، وقيل : المراد ولقد علمت الجنة أنهم لمحضرون العذاب، فعلى الأول الضمير عائد إلى القائل، وعلى الثاني عائد إلى نفس الجنة.
ثم إنه تعالى نزه نفسه عما قالوه من الكذب، فقال تعالى :﴿ سبحان الله عما يصفون ﴾ بأن لله تعالى ولداً ونسباً.
وقوله تعالى :﴿ إلا عباد الله المخلصين ﴾ أي : المؤمنين استثناء منقطع أي : لكن عباد الله المخلصين ينزهون الله تعالى عما يصف هؤلاء. الثالث : أنه ضمير محضرون أي : لكن عباد الله تعالى ناجون وعلى هذا فتكون جملة التسبيح معترضة وظاهر كلام أبي البقاء أنه يجوز أن يكون استثناء متصلاً ؛ لأنه قال : مستثنى من جعلوا أو محضرون، ويجوز أن يكون منفصلاً، فظاهر هذه العبارة أن الوجهين الأولين هو فيهما متصل لا منفصل وليس ببعيد كأنه قيل : وجعل الناس، ثم استثنى منهم هؤلاء وكل من لم يجعل بين الله وبين الجنة نسباً فهو عند الله مخلص من الشرك.
وقوله تعالى :﴿ فإنكم ﴾ أي : يا أهل مكة ﴿ وما تعبدون ﴾ أي : من الأصنام.
عود إلى خطابهم ؛ لأنه لما ذكر الدلائل الدالة على فساد مذاهب الكفار أتبعه بما ينبه به على أن هؤلاء الكفار لا يقدرون على إضلال أحد إلا إذا كان قد سبق حكم الله تعالى في حقه بالعذاب والوقوع في النار، كما قال تعالى :﴿ ما أنتم عليه ﴾ أي : على معبودكم، وعليه متعلق بقوله :﴿ بفاتنين ﴾ أي : بمضلين أحداً من الناس.
﴿ إلا من هو صال الجحيم ﴾ أي : إلا من سبق له في علم الله تعالى الشقاوة.
تنبيه : احتج أهل السنة بهذه الآية على أنه لا تأثير لإيحاء الشيطان ووسوسته وإنما المؤثر هو الله حيث قضاه وقدره.
ثم إن جبريل عليه السلام أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الملائكة ليسوا بمعبودين كما زعمت الكفار بقوله :﴿ وما منا ﴾ أي : معشر الملائكة ملك ﴿ إلا له مقام معلوم ﴾ في السماوات يعبد الله تعالى فيه لا يتجاوزه، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : ما في السماوات موضع شبر إلا وعليه ملك يصلي ويسبح، وروى أبو ذر رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«أطت السماء وحق لها أن تئط والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته لله ساجداً » قيل : الأطيط أصوات الأقتاب وقيل : أصوات الإبل وحسها، ومعنى الحديث : ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة عليهم السلام وإن لم يكن ثم أطيط، وقال السدي : إلا له مقام معلوم في القرب والمشاهدة.
﴿ وإنا لنحن الصافون ﴾ أي : أقدامنا في الصلاة، وقال الكلبي : صفوف الملائكة في السماء كصفوف الناس في الأرض.
﴿ وإنا لنحن المسبحون ﴾ أي : المنزهون الله تعالى عما لا يليق به، وقيل : هذا حكاية كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، والمعنى : وما منا إلا له مقام معلوم في الجنة أو بين يدي الله تعالى في القيامة وإنا لنحن الصافون في الصلاة والمنزهون له تعالى عن السوء.
ثم إنه تعالى أعاد الكلام إلى الإخبار عن المشركين فقال :﴿ وإن كانوا ﴾ أي : كفار مكة، وإن مخففة من الثقيلة.
﴿ ليقولون لو أن عندنا ذكراً ﴾ أي : كتاباً ﴿ من الأولين ﴾ أي : من كتب الأمم الماضين.
﴿ لكنا عباد الله المخلصين ﴾ أي : لأخلصنا العبادة له وما كذبنا ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والمهيمن عليها وهو القرآن العظيم.
﴿ فكفروا به فسوف يعلمون ﴾ عاقبة هذا الكفر وهذا تهديد عظيم.
ولما هددهم بذلك أردفه بما يقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا ﴾ أي : بالنصر ﴿ لعبادنا المرسلين ﴾ وهي قوله تعالى ﴿ لأغلبن أنا ورسلي ﴾ ( المجادلة : ٢١ ) أو هي قوله تعالى :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧١:ولما هددهم بذلك أردفه بما يقوي قلب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا ﴾ أي : بالنصر ﴿ لعبادنا المرسلين ﴾ وهي قوله تعالى ﴿ لأغلبن أنا ورسلي ﴾ ( المجادلة : ٢١ ) أو هي قوله تعالى :﴿ إنهم لهم المنصورون ﴾.
﴿ وإن جندنا ﴾ أي : المؤمنين ﴿ لهم الغالبون ﴾ أي : الكفار، والنصرة والغلبة قد تكون بالحجة وقد تكون بالدولة والاستيلاء، وقد تكون بالدوام والثبات، فالمؤمن وإن صار مغلوباً في بعض الأوقات بسبب ضعف أحوال الدنيا فهو الغالب في الآخرة، فالحكم في ذلك للأغلب في الدنيا فلا ينافي ذلك قتل بعض الأنبياء عليهم السلام وهزم كثير من المؤمنين، وإنما سمى ذلك كلمة وهي كلمات لانتظامها في معنى واحد.
﴿ فتول عنهم ﴾ أي : أعرض عن كفار مكة، واختلف في قوله تعالى :﴿ حتى حين ﴾ فقال ابن عباس : يعني الموت، وقال مجاهد : يوم بدر، وقال السدي : حتى يأمرك الله تعالى بالقتال، وقيل : إلى أن يأتيهم عذاب الله، وقيل : إلى فتح مكة، وقال مقاتل بن حيان : نسختها آية القتال.
﴿ وأبصرهم ﴾ أي : إذا نزل بهم العذاب من القتل والأسر في الدنيا والعذاب في الآخرة، ﴿ فسوف يبصرون ﴾ أي : ما قضيناه لك من التأييد والنصرة والثواب في الآخرة وسوف للوعيد لا للتبعيد.
ولما قيل لهم ذلك قالوا استهزاء : متى نزول العذاب ؟ فقال تعالى تهديداً لهم :﴿ أفبعذابنا يستعجلون ﴾ أي : إن ذلك الاستعجال جهل ؛ لأن لكل شيء من أفعال الله تعالى وقتاً معيناً لا يتقدم ولا يتأخر.
﴿ فإذا نزل ﴾ أي : العذاب ﴿ بساحتهم ﴾ قال مقاتل : بحضرتهم، وقيل : بفنائهم، قال الفراء : العرب تكتفي بذكر الساحة عن القوم فشبه العذاب بجيش هجم فأناخ بفنائهم بغتة ﴿ فساء ﴾ أي : فبئس صباحاً ﴿ صباح المنذرين ﴾ أي : الكافرين الذين أنذروا بالعذاب، وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه :«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى خيبر أتاها ليلاً وكان إذا جاء قوماً بليل لم يغر حتى يصبح، فلما أصبح خرجت يهود بمساحيها ومكاتلها، فلما رأوه قالوا : محمد والله محمد والخميس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين قالها ثلاث مرات ».
﴿ وأبصر فسوف يبصرون ﴾ : فيه وجهان أحدهما : أن في هذه الكلمة فيما تقدم أحوال الدنيا وفي هذه الكلمة أحوال يوم القيامة على هذا فالتكرار زائل، والثاني : أنها مكررة للمبالغة في التهديد والتهويل.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله أولاً :﴿ وأبصرهم ﴾ وههنا قال :﴿ وأبصر ﴾ بغير ضمير ؟ أجيب : بأنه حذف مفعول أبصر الثاني إما اختصاراً لدلالة الأول عليه وإما اقتصاراً تفنناً في البلاغة.
ثم إنه تعالى ختم السورة بتنزيه نفسه عن كل ما لا يليق بصفات الإلهية فقال تعالى :
﴿ سبحان ربك رب العزة ﴾ أي : الغلبة والقوة وفي قوله تعالى :﴿ رب ﴾ إشارة إلى كمال الحكمة والرحمة، وفي قوله تعالى ﴿ العزة ﴾ إشارة إلى كمال القدرة وأنه القادر على جميع الحوادث ؛ لأن الألف واللام في قوله تعالى :﴿ العزة ﴾ تفيد الاستغراق وإذا كان الكل ملكاً له سبحانه لم يبق لغيره شيء فثبت أن قوله سبحانه وتعالى :﴿ سبحان ربك رب العزة عما يصفون ﴾ أي : أن له ولداً كلمة محتوية على أقصى الدرجات وأكمل النهايات.
وقوله تعالى :﴿ وسلام على المرسلين ﴾ أي : المبلغين من الله تعالى التوحيد والشرائع تعميم للرسل بعد تخصيص بعضهم.
﴿ والحمد لله رب العالمين ﴾ أي : على هلاك الأعداء ونصرة الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام وعلى ما أفاض عليهم ومن اتبعهم من النعمة وحسن العاقبة، ولذلك أخره عن التسليم والغرض من ذلك تعليم المؤمنين أن يقولوا ذلك ولا يغفلوا عنه لما روى البغوي عن علي رضي الله عنه أنه قال : من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه من مجلسه : سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين إلخ. وأما ما رواه البيضاوي عن النبي صلى الله عليه وسلم :«أن من قرأ والصافات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كل جني وشيطان وتباعدت عنه مردة الشياطين وبرئ من الشرك وشهد له حافظاه يوم القيامة أنه كان مؤمناً بالمرسلين » فموضوع.
Icon