تفسير سورة طه

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة طه من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي مائة وخمس وثلاثون آية وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً وعن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه ويس والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتيح القرآن وخواتيم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة ".
﴿ بسم الله ﴾ الملك الحق المبين ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ نعمه على خلقه أجمعين ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بجنته عباده المؤمنين وقرأ ﴿ طه ﴾.

﴿ طه ﴾ شعبة وحمزة والكسائي بإمالة الطاء والهاء ووافقهم ورش وأبو عمرو على إمالة الهاء محضة ولم يمل ورش محضة إلا هذه الهاء وقد تقدّم الكلام في الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وفي هذه هاهنا قولان : الصحيح أنها من تلك وقيل : إنها كلمة مفيدة أما على القول الأوّل فقد تقدّم الكلام فيه في أوّل سورة البقرة والذي زادوه هنا أمور :
أحدها : قال الثعالبي : الطاء شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار.
ثانيها : يحكى عن جعفر الصادق الطاء طهارة أهل البيت والهاء هدايتهم.
ثالثها : قال سعيد بن جبير : هذا افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي.
رابعها : مطمع الشفاعة للأمة وهادي الخلق إلى الملة.
خامسها : الطاء من الطهارة والهاء من الهداية فكأنه قيل يا طاهراً من الذنوب يا هادياً إلى علام الغيوب.
سادسها : الطاء طول القراءة والهاء هيبتهم في قلوب الكفار قال تعالى :﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ [ آل عمران، ١٥١ ].
سابعها : الطاء بتسعة في الحساب والهاء بخمسة تكون أربعة عشر ومعناها يا أيها البدر وأمّا على القول الثاني فقيل : معنى طه يا رجل وهو يروى عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وعكرمة والكلبي، ثم قال سعيد بن جبير بالنبطية، وقال قتادة بالسريانية وقال عكرمة بالحبشية وقال الكلبي بلغة عك وهو بتشديد الكاف ابن عدنان أخو معد، وحكى الكلبي أنك لو قلت في عك يا رجل لم تجب حتى تقول طه، وقال السدّي : معناه يا فلان وقيل : إنه صلى الله عليه وسلم كان يقوم في تهجده على إحدى رجليه فؤمر أن يطأ الأرض بقدميه معاً.
وقال الكلبيّ : لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان يراوح بين قدميه في الصلاة لطول قيامه وكان يصلي الليل كله فأنزل الله عليه هذه الآية وأمره أن يخفف على نفسه فقال تعالى :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ﴾ أي : لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل أي : خفف عن نفسك فقد ورد أنه صلى الله عليه وسلم صلى الليل حتى تورمت قدماه فقال له جبريل عليه السلام ابق على نفسك فإنّ لها عليك حقاً ما أنزلناه لتهلك نفسك بالصلاة وتذيقها المشقة وما بعثت إلا بالحنيفية السمحة وروى أنه كان إذا قام من الليل ربط صدره بحبل حتى لا ينام وقيل : لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا : إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك أي : لتتعنى وتتعب وما أنزل عليك القرآن يا محمد إلا لشقائك فنزلت، وأصل الشقاء في اللغة العناء وقيل : المعنى أنك لا تلام على كفر قومك، كقوله تعالى :﴿ لست عليهم بمسيطر ﴾ [ الغاشية، ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ وما أنت عليهم بوكيل ﴾ [ الأنعام، ١٠٧ ] أي : أنك لا تؤاخذ بذنبهم وقيل : إنّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء فكأنه تعالى قال لا تظنّ أنك تبقى أبداً على هذه الحالة بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك القرآن لتبقى شقياً فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرّماً. وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة وأبو عمرو بين بين وورش بين اللفظين والفتح عنده ضعيف جدّاً، وكذلك جميع رؤوس آي هذه السورة من ذوات الياء.
وقوله تعالى :﴿ إلا تذكرة ﴾ استثناء منقطع أي : لكن أنزلناه تذكرة. قال الزمخشري : فإن قلت هل يجوز أن يكون ﴿ تذكرة ﴾ بدلاً من محل ﴿ لتشقى ﴾ ؟ قلت لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي إلا فيه بمعنى لكن ﴿ لمن يخشى ﴾ أي : لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار أو لمن علم الله تعالى منه أن يخشى بالتخويف منه، فإنه المنتفع به.
وقوله تعالى :﴿ تنزيلاً ﴾ بدل من اللفظ بفعله الناصب له ﴿ ممن خلق الأرض ﴾ أي : من الله الذي خلق الأرض ﴿ والسماوات العلى ﴾ أي : العالية الرفيعة التي لا يقدر على خلقها في عظمها غير الله تعالى والعلي جمع علياً كقولهم كبرى وكبر وصغرى وصغر وقدّم الأرض على السماوات لأنها أقرب إلى الجنس وأظهر عنده من السماوات ثم أشار إلى وجه إحداث الكائنات وتدبير أمرها بأن قصد العرش وأجرى منه الأحكام والتقادير وأنزل منه الأسباب على ترتيب ومقادير حسبما اقتضته حكمته وتعلقت به مشيئته فقال تعالى :﴿ الرحمن على العرش ﴾.
﴿ الرحمن على العرش ﴾ وهو سرير الملك ﴿ استوى ﴾ أي : استواء يليق به فإنه سبحانه وتعالى كان ولا عرش ولا مكان وإذا خلق الله الخلق لا يحتاج إلى مكان فهو بالصفة التي كان لم يزل عليها وتقدّم الكلام على ذلك في سورة الأعراف مستوفي فراجعه.
ثم استدل سبحانه وتعالى على كمال قدرته بقوله تعالى :﴿ له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى ﴾ فهو مالك لما في السماوات من ملك ونجم وغيرهما ومالك لما في الأرض من المعادن والفلوات ومالك لما بينهما من الهواء ومالك لما تحت الثرى وهو التراب الندي والمراد الأرضون السبع لأنها تحته وقال ابن عباس : إنّ الأرضين على ظهر النون والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش والبحر على صخرة خضراء خضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان ﴿ فتكن في صخرة ﴾ [ لقمان، ١٦ ] والصخرة على قرن ثور والثور على الثرى وما تحت الثرى لا يعلمه إلا الله عز وجل وذلك الثور فاتح فاه فإذا جعل الله تعالى البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور فإذا وقعت في جوفه يبست. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي بالإمالة وورش بين اللفظين وكذا جميع رؤوس أي السورة من ذوات الراء.
ولما كانت القدرة تابعة للإرادة وهي لا تنفك عن العلم عقب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليات الأمور وخفياتها على حدّ سواء فقال تعالى :﴿ وإن تجهر بالقول ﴾ أي : تعلن بالقول في ذكر أو دعاء فالله تعالى غنيّ عن الجهر به ﴿ فإنه يعلم السر وأخفى ﴾ قال الحسن : في السر ما أسرّ الرجل إلى غيره وأخفى من ذلك ما أسرّ في نفسه، وعن ابن عباس ﴿ السر ﴾ ما تسر في نفسك ﴿ وأخفى ﴾ من السر ما يلقيه الله تعالى في قلبك من بعد ولا تعلم أنك ستحدث به نفسك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم ما تسر غداً والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غداً، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :﴿ السر ﴾ ما أسر ابن آدم في نفسه ﴿ وأخفى ﴾ ما خفى عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه، وقال مجاهد :﴿ السر ﴾ العمل الذي يسر من الناس ﴿ وأخفى ﴾ الوسوسة، وقيل : السرّ هو العزيمة وأخفى ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه، وقال زيد بن أسلم : يعلم أسرار العباد وأخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد.
ولما ذكر صفاته وحّد نفسه فقال تعالى :﴿ الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى ﴾ التسعة والتسعون الوارد بها الحديث والحسنى تأنيث الأحسن وفضل أسماء الله تعالى على سائر الأسماء في الحسن لدلالتها على معان هي أشرف المعاني وأفضلها.
روي أنّ لله تعالى أربعة آلاف اسم ألف لا يعلمها إلا هو وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة وألف لا يعلمها إلا الله والملائكة والأنبياء وأما الألف الرابعة فالمؤمنون يعلمونها فثلاثمائة في التوراة وثلاثمائة في الإنجيل وثلاثمائة في الزبور ومائة في القرآن تسعة وتسعون منها ظاهرة وواحد مكنون من أحصاها دخل الجنة وذكر في لا إله إلا الله فضائل كثيرة أذكر بعضها وأسأل الله تعالى أن يجعلنا ومحبينا من أهلها.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال :" أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء أستغفر الله ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات } ".
وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال :" إنّ الله تعالى خلق ملكاً من الملائكة قبل أن يخلق السماوات والأرض وهو يقول أشهد أن لا إله إلا الله ماداً بها صوته لا يقطعها ولا يتنفس فيها ولا يتمها فإذا أتمها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله ".
وعن أنس قال صلى الله عليه وسلم :" مازلت أشفع إلى ربي ويشفعني وأشفع إليه ويشفعني حتى قلت يا رب شفعني فيمن قال لا إله إلا الله فقال يا محمد ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله ".
وقال سفيان الثوري : سألت جعفر بن محمد عن ﴿ حم ﴾ ﴿ عسق ﴾ فقال الحاء حلمه والميم ملكه والعين عظمته والسين سناؤه والقاف قدرته يقول الله عز وجل بحلمي وملكي وعظمتي وسنائي وقدرتي لا أعذب بالنار من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله.
روي عن موسى عليه السلام أنه قال : يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال : قل لا إله إلا الله، قال : إنما أردت شيئاً تخصني به قال يا موسى لو أن السماوات السبع ومن فوقهنّ في كفة ولا إله إلا الله في كفة لمالت بهنّ لا إله إلا الله، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى :﴿ ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة ﴾ [ إبراهيم، ٢٤ ] أنها لا إله إلا الله ﴿ إليه يصعد الكلم الطيب ﴾ [ فاطر، ١٠ ] لا إله إلا الله ﴿ وتواصوا بالحق ﴾ [ العصر، ٤ ] لا إله إلا الله ﴿ قل إنما أعظكم بواحدة ﴾ [ سبأ، ٤٦ ] لا إله إلا الله ﴿ وقفوهم إنهم مسؤولون ﴾ [ الصافات، ٢٤ ] عن قول لا إله إلا الله ﴿ بل جاء بالحق وصدق المرسلين ﴾ [ الصافات، ٣٧ ] هو لا إله إلا الله ﴿ يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ﴾ [ إبراهيم، ٢٧ ] هو لا إله إلا الله ﴿ ويضل الله الظالمين ﴾ [ إبراهيم، ٢٧ ] عن قول لا إله إلا الله.
وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من قال في السوق لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة » قال الرازي وفي النكت ينبغي لأهل لا إله إلا الله أن يخلصوا في أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إله إلا الله التصديق والتعظيم والجلالة والحرمة فمن ليس له التصديق فهو منافق ومن ليس له التعظيم فهو مبتدع ومن ليس له الجلالة فهو مراء ومن ليس له الحرمة فهو فاجر وكذاب.
وحكي أنّ بشراً الحافي رأى كاغداً فيه بسم الله الرحمن الرحيم فرفعه وطيبه بالمسك فرأى في النوم كأنه نودي يا بشر طيبت اسمنا فنحن نطيب اسمك في الدنيا والآخرة.
وذكر أنّ صياداً كان يصيد السمك وكانت ابنته تطرحها في الماء وتقول إنما وقعت في الشبكة لغفلتها إلهنا تلك الصبية كانت ترحم غفلتها وكانت تلقيها مرة أخرى في البحر ونحن قد اصطادتنا وسوسة الشيطان وأخرجنا من بحر رحمتك فارحمنا بفضلك وخلصنا منه وألقنا في بحار رحمتك مرّة أخرى.
وعن محمد بن كعب القرظي قال : قال موسى : إلهي أي : خلقك أكرم عليك ؟ قال : الذي لا يزال لسانه رطباً من ذكري، قال : فأي خلقك أعظم ؟ قال : الذي يلتمس إلى علمه علم غيره، قال : فأيّ خلقك أعدل ؟ قال : الذي يقضي على نفسه كما يقضي على الناس، قال : وأيّ خلقك أعظم جرماً ؟ قال : الذي يتهمني وهو الذي يسألني ثم لا يرضى بما قسمت له. إلهنا إنا لانتهمك فإنّا نعلم أنّ كل ما أحسنت به فهو فضل وكل ما لا تفعله فهو عدل فلا تؤاخذنا بسوء أفعالنا وأعمالنا.
وعن الحسن إذا كان يوم القيامة نادى مناد سيعلم الجمع من أولى بالكرم أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون فيتخطون رقاب الناس، ثم يقال : أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ؟ ثم ينادي منادٍ أين : الحامدون الله كثيراً على كل حال ؟ ثم يكون الحساب على من بقي. إلهنا نحن حمدناك وأثنينا عليك بمقدار طاقتنا ومنتهى قدرتنا فاعف عنا بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ولما عظّم الله تعالى حال القرآن وحال رسوله صلى الله عليه وسلم بما كلفه أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ كقوله تعالى :﴿ وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك ﴾ [ هود، ١٢٠ ].
وبدأ بموسى لأنّ فتنته كانت أعظم الفتن ليتسلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويصبر على حمل المكاره، فقال تعالى :﴿ وهل أتاك حديث موسى ﴾ وهذا محتمل لأن يكون هذا أوّل ما أخبر به من أمر موسى فقال :﴿ وهل أتاك ﴾ أي : لم يأتك إلى الآن فتنبه له وهذا قول الكلبي ومحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال : أليس قد أتاك ؟ وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس وهذا وإن كان على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله تعالى لكن المقصود منه تقرير الخبر في نفسه وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك هل بلغك عني كذا ؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يومئ إليه ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قبل موسى لا من قبل الله تعالى، وقيل : إن هل بمعنى قد وجرى على ذلك الجلال المحلي تبعاً للبغوي.
وقوله تعالى :﴿ إذ رأى ﴾ يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينصب باذكر مقدراً أي : واذكر إذ رأى ﴿ ناراً ﴾ وذلك أنّ موسى عليه السلام استأذن شعيباً عليه السلام في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخيه فأذن له فخرج بأهله وماله وكانت أيام شتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل في شهرها لا تدري ليلاً تضع أو نهاراً فسار في البرية غير عارف بطرقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد.
قيل : كانت ليلة جمعة وأخذت امرأته في الطلق وتفرقت ماشيته ولا ماء عنده وجعل يقدح زنده فلا يوري فأبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق من جانب الطور ﴿ فقال لأهله امكثوا ﴾ أي : أقيموا في مكانكم والخطاب لامرأته وولدها والخادم ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإنّ الأهل يقع على الجمع وأيضاً قد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً وقرأ حمزة بضم الهاء في الوصل والباقون بالكسر ﴿ إني آنست ﴾ أي : أبصرت ﴿ ناراً ﴾ والإيناس الإبصار البين الذي لا شبهة فيه ومنه إنسان العين لأنه يتبين به الشيء والإنس لظهورهم كما قيل الجنّ لاستتارهم.
وقيل : إبصار ما يؤنس به ولما وجد منه الإيناس وكان متيقناً حققه لهم بكلمة إني ليوطن أنفسهم. ولما كان الإتيان بالقبس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع فقال :﴿ لعلي آتيكم منها بقبس ﴾ أي : شعلة في رأس فتيلة أو عود أو نحو ذلك وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء في إني ولعلي الآتية والباقون بالسكون إلا ابن عامر ففتح لعلى مع من ذكروهم على مراتبهم في المدّ ﴿ أو أجد على النار هدى ﴾ أي : هادياً يدلني على الطريق ومعنى الاستعلاء في على النار أنّ أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال سيبويه في مررت بزيد إنه لصوق بمكان يقرب من زيد أو لأنّ المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.
وقال بعضهم : النار أربعة أقسام نار تأكل ولا تشرب وهي نار الدنيا ونار تشرب ولا تأكل وهي التي في الشجر الأخضر كما قال تعالى :﴿ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً ﴾ [ يس، ٨٠ ] ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة ونار لا تأكل ولا تشرب وهي نار موسى.
وقيل أيضاً : النار أربعة ؛ أحدها : نار لها نور بلا حرقة وهي نار موسى عليه السلام، ثانيها : لها حرقة بلا نور وهي نار جهنم أعاذنا الله تعالى منها، ثالثها : لها الحرقة والنور وهي نار الدنيا، رابعها : لا حرقة ولا نور وهي نار الأشجار.
تنبيه : إن وصلت هدى ب ﴿ فلما ﴾ فليس فيها إلا التنوين للجميع وإن وقف عليها فهم على أصولهم في الفتح والإمالة وبين اللفظين.
﴿ فلما أتاها ﴾ أي : النار قال ابن عباس رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدّة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة فلا النار تغير خضرتها ولا كثرة ماء الشجرة يغير ضوء النار قال ابن مسعود كانت الشجرة مثمرة خضراء وقال مقاتل وقتادة والكلبي : كانت من العوسج، وقال وهب : كانت من العليق، وقيل : من العناب قال أكثر المفسرين : إنّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان من نور الرب تعالى وهو قول ابن عباس وعكرمة وغيرهما ذكر بلفظ النار لأنّ موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دنا منها سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً قال وهب ظنّ موسى أنها نار أوقدت فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده فتأخر عنها وهابها ثم لم تزل تطمعه ويطمع فيها ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها فإذا خضرتها ساطعة في السماء وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكلّ عنه الأبصار. فلما رأى موسى عليه السلام ذلك وضع يديه على عينيه وألقيت عليه السكينة ﴿ نودي يا موسى ﴾.
﴿ إني أنا ربك ﴾ قال وهب نودي من الشجرة فقيل : يا موسى فأجاب سريعاً ولم يدر من دعاه فقال إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت فقال أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك وأقرب إليك منك فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلا لله تعالى فأيقن به.
وقيل : إنه سمع بكل أجزائه حتى أنّ كل جارحة منه كانت أذناً وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الهمزة من إني على تقدير الباء أي : بأني لأنّ النداء يوصل بها تقول ناديته بكذا وأنشد الفارسي قول الشاعر :
ناديت باسم ربيعة بن مكدّم أنّ المنوه باسمه الموثوق
وجوّز ابن عطية أن تكون بمعنى لأجل وليس بظاهر والباقون بالكسر إمّا على إضمار القول كما هو رأي البصريين أي : فقيل : وإما لأنّ النداء في معنى القول عند الكوفيين وقوله تعالى :﴿ أنا ﴾ يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبره والجملة خبر إن ويجوز أن يكون توكيد للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلاً.
وروى ابن مسعود مرفوعاً في قوله تعالى :﴿ فاخلع نعليك ﴾ إنهما كانا من جلد حمار ميت ويروى غير مدبوغ فأمر بخلعهما صيانة للوادي المقدّس وقال عكرمة ومجاهد : إنما أمر بذلك ليباشر بقدمه تراب الأرض المقدّسة فيناله بركتها ويدل لذلك أنه قال تعالى عقبه :﴿ إنك بالوادي المقدّس ﴾ أي : المطهر أو المبارك فخلعهما وألقاهما من وراء الوادي هذا ما قاله أهل التفسير.
وذكر أهل الإشارة في ذلك وجوهاً :
أحدها : أنّ النعل في النوم يعبر بالزوجة وقوله :﴿ فاخلع نعليك ﴾ إشارة إلى أنه لا يلتفت بخاطره إلى الزوجة والولد وأن لا يبقى مشغول القلب بأمرهما.
ثانيها : المراد بخلع النعلين ترك الالتفات إلى الدنيا والآخرة كأنه أمره أن يصير مستغرق القلب بالكلية في معرفة الله تعالى فلا يلتفت إلى المخلوقات.
ثالثها : أن الإنسان حال الاستدلال على وجود الصانع لا يمكنه أن يتوصل إليه إلا بمقدمتين مثل أن يقول العالم المحسوس محدث وكل ما كان كذلك فله مؤثر ومدبر وصانع فهاتان المقدمتان شبيهتان بالنعلين لأنّ بهما يتوصل العقل إلى المقصود وينتقل من النظر في الخلق إلى معرفة الخالق ثم بعد الوصول إلى معرفة الخالق وجب أن لا يبقى ملتفتاً إلى تلك المقدمتين، فكأنه قيل : لا تكن مشتغل الخاطر بتلك المقدّمتين فإنك وصلت إلى الوادي المقدس الذي هو بحر معرفة الله تعالى : وقوله تعالى :﴿ طوى ﴾ بدل أو عطف بيان وقرأه هنا وفي النازعات نافع وابن كثير وأبو عمرو بغير تنوين فهو ممنوع من الصرف باعتبار البقعة مع العلمية وقيل : لأنه معدول عن طاو فهو مثل عمر للعدل عن عامر وقيل : إنه اسم أعجمي ففيه العلمية والعجمة والباقون بالتنوين فهو مصروف باعتبار المكان ففيه العلمية فقط وعند هؤلاء ليس بأعجميّ.
وقوله تعالى :﴿ وأنا اخترتك ﴾ أي : اصطفيتك للرسالة من قومك قرأ حمزة بتشديد النون من أنا وقرأ اخترناك بنون بعدها ألف بلفظ الجمع والباقون بتاء مضمومة وقوله تعالى :﴿ فاستمع لما يوحى ﴾ أي : إليك مني فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه تعالى قال : لقد جاءك أمر عظيم فتأهب له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إليه وفي قوله تعالى :﴿ وأنا اخترتك ﴾ نهاية اللطف والرحمة فيحصل له من الأوّل نهاية الرجاء ومن الثاني نهاية الخوف.
تنبيه : يجوز في لام ﴿ لما ﴾ أن تتعلق فاستمع وهو أولى وأن تكون مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى :﴿ ردف لكم ﴾ [ النمل، ٧٢ ] وجوّز الزمخشريّ أن يكون ذلك من باب التنازع ونازعه أبو حيان بأنه لو كان كذلك لأعاد الضمير مع الثاني فكان يقول فاستمع له لما يوحى، وأجيب عنه بأنّ مراده التعلق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يعنه.
وقوله تعالى :﴿ إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ﴾ بدل مما يوحى دال على أنه مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل وفي هذه الآية دلالة على أنّ علم أصول الدين مقدّم على علم الفروع، وأيضاً فالفاء في قوله تعالى فاعبدني تدل على أنّ عبادته إنما لزمت لآلهيته لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع وخص الصلاة بالذكر وأفردها في قوله تعالى ﴿ وأقم الصلاة لذكري ﴾ للعلة التي أناط بها إقامتها وهو تذكير المعبود وشغل القلب واللسان بذكره.
وقيل :﴿ لذكري ﴾ لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها وقيل : لأوقات ذكري وهي مواقيت الصلاة أو لذكر صلاتي لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال :«من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها إنّ الله يقول وأقم الصلاة لذكري » وقيل : لأنّ أذكرك بالثناء والمدح واجعل لك عليها لسان صدق علياً وقيل :﴿ لذكري ﴾ خاصة لا تشوبه بذكر غيري.
ولما خاطب تعالى موسى عليه السلام بقوله تعالى :﴿ فاعبدني وأقم الصلاة لذكري ﴾ أتبعه بقوله تعالى :﴿ إنّ الساعة آتية ﴾ أي : كائنة ﴿ أكاد أخفيها ﴾ قال أكثر المفسرين معناه أكاد أخفيها من نفسي فكيف يعلمها غيري من الخلق وكيف أظهرها لكم ذكر تعالى على عادة العرب إذا بالغوا في كتمان الشيء يقول الرجل كتمت سري من نفسي أي : أخفيته غاية الإخفاء والله تعالى لا يخفى عليه شيء والمعنى في إخفائها التهويل والتخويف لأنهم إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة كانوا على حذر منها كل وقت وكذلك المعنى في إخفاء وقت الموت لأنّ الله تعالى وعد قبول التوبة فإذا عرف وقت موته وانقضاء أجله اشتغل بالمعاصي إلى أن يقرب ذلك الوقت فيتوب ويصلح العمل فيتخلص من عقاب المعاصي بتعريف وقت موته فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل المعصية فإذا لم يعلم وقت موته لا يزال على قدم الخوف والوجل فيترك المعاصي أو يتوب منها في كل وقت خوف معاجلة الأجل. وقال أبو مسلم :﴿ أكاد ﴾ بمعنى أريد وهو كقوله تعالى :﴿ كذلك كدنا ليوسف ﴾ [ يوسف، ٧٦ ] ومن أمثالهم المتداولة لا أفعل ذلك ولا أكاد أي : لا أريد أن أفعله وقال الحسن : إن أكاد من الله واجب فمعنى قوله تعالى :﴿ أكاد أخفيها ﴾ أي : أنا أخفيها عن الخلق كقوله تعالى :﴿ عسى أن يكون قريباً ﴾ [ الإسراء، ٥١ ] أي : هو قريب وقيل : أكاد صلة في الكلام والمعنى أنّ الساعة آتية أخفيها. قال زيد الخيل :
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما أن يكاد قرنه يتنفس
أي فما أن يتنفس قرنه وقوله تعالى :﴿ لتجزى كل نفس بما تسعى ﴾ أي : تعمل من خير أو شرّ متعلق بآتية، واختلف في المخاطب بقوله تعالى :﴿ فلا يصدّنك ﴾ أي : يصرفنك ﴿ عنها من لا يؤمن بها ﴾ فقيل : وهو الأقرب كما قاله الرازي أنه موسى عليه السلام لأنّ الكلام أجمع خطاب له، وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم واختلف أيضاً في عود هذين الضميرين على وجهين :
أحدهما : قال أبو مسلم ﴿ لا يصدّنك عنها ﴾ أي : عن الصلاة التي أمرتك بها ﴿ من لا يؤمن بها ﴾ أي : بالساعة فالضمير الأوّل عائد إلى الصلاة والثاني إلى الساعة ومثل هذا جائز في اللغة فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليردّ السامع إلى كل خبر حقه.
ثانيهما : قال ابن عباس :﴿ فلا يصدنك ﴾ عن الساعة أي : عن الإيمان بها ﴿ من لا يؤمن بها ﴾ فالضميران عائدان إلى يوم القيامة وهذا أولى لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وهاهنا الأقرب هو الساعة وما قاله أبو مسلم إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة هاهنا.
تنبيه : المقصود من ذلك نهى موسى عليه السلام عن التكذيب بالبعث ولكن ظاهر اللفظ يقتضي نهي من لم يؤمن عن صدّ موسى وفيه وجهان :
أحدهما : أنّ صدّ الكافر عن التصديق بها سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على حمله على المسبب.
الثاني : أنّ صدّ الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين فذكر المسبب ليدل على السبب كقولهم لا أرينك هاهنا المراد نهي المخاطب عن حضوره له لا أن يراه هو فالرؤية مسببة عن الحضور كما أنّ صدّ الكافر مسبب عن الرخاوة والضعف في الدين فقيل : لا تكن رخواً بل كن شديداً صلباً حتى لا يلوح منك لمن يكفر بالبعث أنه يطمع في صدك عما أنت عليه ﴿ واتبع هواه ﴾ أي : ميل نفسه إلى اللذات المحبوبة المخدجة لقصر نظره عن غيرها وخالف أمر الله ﴿ فتردى ﴾ أي : فتهلك إن انصددت عنها.
و﴿ ما ﴾ في قوله تعالى :﴿ وما تلك بيمينك ﴾ مبتدأ استفهامية و﴿ تلك ﴾ خبره و﴿ بيمينك ﴾ حال من معنى الإشارة وقوله تعالى :﴿ يا موسى ﴾ تكرير لأنه ذكره قبل في قوله تعالى :﴿ نودي يا موسى ﴾ وبعد في مواضع ك ﴿ ألقها يا موسى ﴾ لزيادة الاستئناس والتنبيه.
فإن قيل : السؤال إنما يكون لطلب العلم وهو على الله تعالى محال فما الفائدة في ذلك ؟
أجيب : بأنّ في ذلك فوائد ؛ الأولى : توقيفه على أنها عصا حتى إذا قلبها حية علم أنها معجزة عظيمة وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره هل تعرف هذا ؟ وهو لا يشك أنه يعرفه ويريد أن يضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية : أن يقرّر عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافها. الثالثة : أنه تعالى لما أراه تلك الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء وأسمعه كلام نفسه ثم أورد عليه التكليف الشاق وذكر له المعاد وختم ذلك بالتهديد العظيم فتحير موسى عليه السلام ودهش فقيل له :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ﴾ ؟ وتكلم معه بكلام البشر إزالةً لتلك الدهشة والحيرة.
فإن قيل : هذا خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة ولم يحصل ذلك لمحمد صلى الله عليه وسلم أجيب : بالمنع فقد خاطبه في قوله تعالى :﴿ فأوحى إلى عبده ما أوحى ﴾ [ النجم، ١٠ ] إلا أنّ الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه إلى الخلق والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وسلم كان سراً لم يؤهل له أحد من الخلق وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمة محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مراراً على ما قاله صلى الله عليه وسلم :«المصلي يناجي ربه والرب يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله تعالى :﴿ سلام قولاً من رب رحيم ﴾ [ يس، ٥٨ ] ".
تنبيه : قوله تعالى :﴿ وما تلك ﴾ إشارة إلى العصا وقوله تعالى :﴿ بيمينك ﴾ إشارة إلى اليد وفي هذا نكت ذكرها الرازي رحمه الله تعالى الأولى : أنه تعالى لما أشار إليهما جعل كل واحدة منهما معجزة قاهرة وبرهاناً ساطعاً ونقله من حدّ الجمادية إلى مقام الكرامة، فإذا صار الجماد بالنظر الواحد حيواناً صار الجسم الكثيف نورانياً لطيفاً ثم إنه تعالى ينظر كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة إلى قلب العبد فأيّ عجب لو انقلب قلبه من موت العصيان إلى السعادة بالطاعة ونور المعرفة. ثانيها : أنّ بالنظر الأول الواحد صار الجماد ثعباناً فبلغ سحر النفس الأمارة بالسوء. ثالثها : أن العصا كانت في يمين موسى عليه السلام فبسبب بركته انقلبت ثعباناً فبلع سحر السحرة فأيّ عجب لو صار القلب ثعباناً وبرهاناً وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن فإذا حصلت ليد موسى عليه السلام هذه المنزلة فأي عجب لو انقلب قلب المؤمن بسبب أصبعي الرحمن من ظلمة المعصية إلى نور العبودية.
ولما سأل تعالى موسى عليه السلام عن ذلك أجاب بأربعة أشياء ثلاثة على التفصيل وواحد على الإجمال أوّلها :﴿ قال هي عصاي ﴾ وقد تم الجواب بذلك إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الأخر لأنه كان يحب المكالمة مع ربه فجعل ذلك كالوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. ثانيها : قوله :﴿ أتوكأ ﴾ أي : أعتمد ﴿ عليها ﴾ إذا مشيت وإذا عييت وإذا وقفت على رأس القطيع وعند الطفرة. ثالثها : قوله :﴿ وأهش ﴾ أي : أخبط ورق الشجر ﴿ بها ﴾ ليسقط ﴿ على غنمي ﴾ لتأكله فبدأ عليه السلام أولاً بمصالح نفسه في قوله :﴿ أتوكأ عليها ﴾ ثم بمصالح رعيته في قوله :﴿ أهش بها على غنمي ﴾ وكذلك في القيامة يقول نفسي نفسي ومحمد صلى الله عليه وسلم لم يشتغل في الدنيا إلا بإصلاح أمر الأمّة ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ [ الأنفال، ٣٣ ] " اللهمّ اهد قومي فإنهم لا يعلمون " فلا جرم يوم القيامة يبدأ أيضاً بأمّته فيقول :" أمّتي أمّتي " رابعها قوله :﴿ ولي فيها مآرب ﴾ جمع مأربة بتثلث الراء حوائج ومنافع ﴿ أخرى ﴾ كحمل الزاد والسقي وطرد الهوام وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب فيسمع كلام الله تعالى مرّة أخرى ويطول أمر المكالمة بسبب ذلك وقيل : انقطع لسانه بالهيبة فاجمل وقيل : اسم العصا نبعة وقيل : في المآرب كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناء بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أداوته من القوس والكنانة والحلاب وغيرها وإذا كان في البرية ركزها وعرض الزندين على شعبتيها وألقى عليها الكساء واستظل والزندين بفتح الزاي تثنية زند وزندة والزند العود الأعلى الذي تقدح به النار والزندة السفلى فيها ثقب فإذا اجتمعا قيل : زندان ولم نقل زندتان وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه وقيل : كان فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطول بطول البئر وتصير شعبتاها دلواً ويكونان شمعتين بالليل وإذا ظهر عدوّ حاربت عنه وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت وكان يحمل عليها زاده وسقاءه فجعلت تماشيه ويركزها فينبع الماء فإذا رفعها نضب وكانت تقيه الهوام وروي عن ابن عباس أنها كانت تماشيه وتحدّثه ولما ذكر موسى هذه الجوابات لربه.
﴿ قال ﴾ له ﴿ ألقها ﴾ أي : أنبذها ﴿ يا موسى ﴾.
﴿ فألقاها فإذا هي حية ﴾ أي : ثعبان عظيم ﴿ تسعى ﴾ أي : تمشي على بطنها سريعاً وهنا نكت خفية.
إحداها : أنه عليه السلام لما قال :﴿ ولي فيها مآرب أخرى ﴾ أراد الله تعالى أن يعرفه أنّ فيها مآرب لا يفطن لها ولا يعرفها وأنها أعظم من سائرها وأربى.
ثانيها : كان في رجله شيء وهو النعل وفي يده شيء وهو العصا فالرجل آلة الهرب واليد آلة الطلب، فقال أوّلاً :﴿ فاخلع نعليك ﴾ إشارة إلى ترك الهرب، ثم قال :﴿ ألقها ﴾ وهو إشارة إلى ترك الطلب، كأنه تعالى قال : إنك ما دمت في مقام الهرب والطلب كنت مشتغلاً بنفسك طالباً لحظك فلا تكن خالصاً لمعرفتي، فكن تاركاً للهرب والطلب تكن خالصاً لي.
ثالثها : أنّ موسى عليه السلام مع علوّ درجته وكمال صفته لما وصل إلى الحضرة ولم يكن معه إلا النعلان والعصا أمره بإلقائها حتى أمكنه الوصول إلى الحضرة فأنت في ألف وقر من المعاصي فكيف يمكنك الوصول إلى جنابه ؟ فإن قيل : كيف قال هنا :﴿ حية ﴾ وفي موضع آخر ﴿ جان ﴾ [ النمل، ١٠ ] وهي الحية الخفيفة الصغيرة وقال في موضع آخر :﴿ ثعبان ﴾ [ الأعراف، ١٠٧ ] وهو أكبر ما يكون من الحيات ؟ أجيب : بأنّ الحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأمّا الثعبان والجان فبينهما تناف لأنّ الثعبان العظيم من الحيات كما مر والجان الدقيق وفي ذلك وجهان ؛ أحدهما : أنها كانت وقت انقلابها حية صغيرة دقيقة ثم تورمت وتزايد جلدها حتى صارت ثعباناً فأريد بالجان أوّل حالها وبالثعبان مآلها. الثاني : أنها كانت في شخص الثعبان وسرعة حركة الجانّ لقوله تعالى :﴿ فلما رآها تهتز كأنها جانّ ﴾ [ النمل، ١٠ ] قال وهب : لما ألقى العصا على وجه الأرض نظر إليها فإذا هي حية تسعى صفراء من أعظم ما يكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف كعرف الفرس وكان بين لحييها أربعون ذراعاً صارت شعبتاها شدقين لها والمحجن عنقاً وعرفاً يهتز وعيناها تتقدان كالنار تمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها ويسمع لأنيابها صريفاً عظيماً فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً وهرب ثم نودي يا موسى ارجع حيث كنت فرجع وهو شديد الخوف.
﴿ قال ﴾ تعالى له ﴿ خذها ﴾ أي : بيمينك ﴿ ولا تخف ﴾ وكان على موسى مدرعة من صوف قد خلها بعيدان فلما قال تعالى له :﴿ خذها ﴾ لف طرف المدرعة على يده فأمره الله أن يكشف يده، وذكر بعضهم أنه لما لف كم المدرعة على يده قال له الملك أرأيت إن أذن الله بما تحاذر أكانت المدرعة تغني عنك شيئاً قال : لا ولكنني ضعيف ومن ضعف خلقت وكشف عن يده ثم وضعها في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت ويده في شعبتيها في الموضع الذي كان يضعها إذا توكأ عليها كما قال تعالى :﴿ سنعيدها سيرتها الأولى ﴾ وقد أظهر الله تعالى في هذه العصا معجزات لموسى عليه السلام منها انقلاب العصا حية ومنها وضع يده في فمها من غير ضرر ومنها انقلابها خشبة مع الأمارات التي تقدّمت.
تنبيه : في نصب سيرتها أوجه :
أحدها : أن تكون منصوبة على الظرف أي : في سيرتها أي : طريقتها :
ثانيها : على البدل من هاء ﴿ سنعيدها ﴾ بدل اشتمال لأنّ السيرة الصفة أي : سنعيدها صفتها وشكلها.
ثالثها : على إسقاط الخافض أي : إلى سيرتها وقيل غير ذلك. فإن قيل : لما نودي يا موسى وخص بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى إلى الخلق فلماذا خاف ؟ أجيب عن ذلك بأوجه أحدها : أنّ ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه عليه السلام ما شاهد مثل ذلك قط وهذا معلوم بدلائل العقول ثانيها : إنما خافها لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم عليه السلام منها. ثالثها : أنّ مجرد قوله ولا تخف لا يدل على حصول الخوف كقوله تعالى :﴿ ولا تطع الكافرين ﴾ [ الأحزاب، ١ ] لا يدل على وجود تلك الطاعة لكن قوله :﴿ فلما رآها تهتز كأنها جانّ ولى مدبراً ﴾ [ النمل، ١٠ ] يدل عليه ولكن ذلك الخوف إنما ظهر ليظهر الفرق بينه وبين أفضل الخلق محمد صلى الله عليه وسلم فما أظهر الرغبة في الجنة ولا النفرة عن النار.
وقوله تعالى :﴿ واضمم يدك ﴾ أي : اليمنى ﴿ إلى جناحك ﴾ أي : جنبك الأيسر تحت العضد في الإبط ﴿ تخرج بيضاء ﴾ أي : نيرة مشرقة تضيء كشعاع الشمس تعشى البصر لا بدّ فيه من حذف والتقدير واضمم يدك تنضم وأخرجها تخرج فحذف من الأوّل والثاني وأبقى مقابليهما ليدلا على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج و﴿ بيضاء ﴾ حال من فاعل تخرج وقوله تعالى :﴿ من غير سوء ﴾ متعلق بتخرج وروي عن ابن عباس ﴿ إلى جناحك ﴾ إلى صدرك والأّول أولى كما قال الرازي لأنه يقال لكل ناحيتين جناحان كجناحي العسكر لطرفيه وجناحا الإنسان جانباه والأصل المستعار منه جناحا الطائر سميا بذلك لأنه يجنحهما أي : يميلهما عند الطيران وجناحا الإنسان عضداه فعضداه يشبهان جناحي الطير، ولأنه قال :﴿ تخرج بيضاء ﴾ ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله :﴿ تخرج ﴾ معنى والسوء الرداءة والقبح في كل شيء فكنى به عن البرص كما كنى عن العورة بالسوأة. والبرص أبغض شيء إلى العرب ولهم عنه نفرة عظيمة وإسماعهم لاسمه مجاجة فكان جديراً بأن يكنى عنه ولا ترى أحسن ولا أظرف ولا أخف للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه.
يروى أنّ موسى عليه السلام كان شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه فأدخلها في إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق وقيل مثل الشمس من غير مرض ثم إذا أردّها عادت إلى لونها الأوّل من غير نور وقوله تعالى :﴿ آية أخرى ﴾ أي : معجزة ثابتة حال من ضمير تخرج كبيضاء.
وقوله تعالى :﴿ لنريك ﴾ متعلق بما دل عليه آية أي : دللنا بها لنريك وقوله تعالى :﴿ من آياتنا الكبرى ﴾ أي : العظمى على رسالتك متعلق بمحذوف على أنه حال من الكبرى والكبرى مفعول ثان لنريك والتقدير لنريك الكبرى حال كونها من آياتنا أي : بعض آياتنا واختلف أيّ الآيتين أعظم في الإعجاز فقال الحسن : اليد لأنه تعالى قال :﴿ لنريك من آياتنا الكبرى ﴾ والذي عليه الأكثر أنّ العصا أعظم إذ ليس في اليد إلا تغير اللون وأمّا العصا ففيها تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم إعادتها عصا بعد ذلك فقد وقع التغير في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم وأما قوله تعالى :﴿ لنريك من آياتنا الكبرى ﴾ فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام وأنه غير مختص باليد، فإن قيل : لم لم يقل تعالى من آياتنا الكبر ؟ أجيب : بأنّ ذلك ذكر لرؤوس الآي وقيل فيه إضمار معناه لنريك من آياتنا الآية الكبرى وهذا التقدير يقوّي قول القائل بأنّ اليد أعظم آية.
ولما أظهر سبحانه وتعالى لموسى هذه الآيات عقبها بأمره بالذهاب إلى فرعون بقوله تعالى :﴿ اذهب ﴾.
﴿ اذهب ﴾ أي : رسولاً ﴿ إلى فرعون ﴾ وبيّن تعالى العلة في ذلك بقوله تعالى :﴿ إنه طغى ﴾ أي : جاوز الحد في كفره إلى أن ادّعى الإلهية ولهذا خصه الله تعالى بالذكر مع أنه عليه السلام مبعوث إلى الكل قال وهب : قال الله تعالى لموسى عليه السلام اسمع كلامي واحفظ وصيتي وانطلق برسالتي فإنك بعيني وسمعي وإنّ معك يدي ونصري وإني ألبسك جبة من سلطاني تستكمل بها القوّة في أمرك أبعثك إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وغرّته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، أقسم بعزتي لولا الحجة التي وضعت بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار ولكن هان عليّ وسقط من عيني فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي وقل له قولاً لينا لا يغترّ بلباس الدنيا فإن ناصيته بيدي لا يطرف ولا يتنفس إلا بعلمي في كلام طويل قال فسكت موسى سبعة أيام لا يتكلم ثم جاءه ملك فقال أجب ربك فيما أمرك فعند ذلك.
﴿ قال رب اشرح لي صدري ﴾ أي : وسعه لتحمل الرسالة، قال ابن عباس : يريد حتى لا أخاف غيرك والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر بقوله :﴿ قال ربّ إني أخاف أن يكذبون ١٢ ويضيق صدري ولا ينطلق لساني ﴾ [ الشعراء : ١٢، ١٣ ] وذلك أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون اللعين خوفاً شديداً لشدّة شوكته وكثرة جنوده وكان يضيق صدراً بما كلف من مقاومة فرعون وحده فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أنّ أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى وإذا علم ذلك لم يخف فرعون وشدّة شوكته وكثرة جنوده، وقيل : اشرح لي صدري بالفهم عنك ما أنزلت عليّ من الوحي.
﴿ ويسر ﴾ أي : سهّل ﴿ لي أمري ﴾ أي : ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون وذلك لأنّ كل ما يصدر من العبد من الأفعال والأقوال والحركات والسكنات فالله تعالى هو الميسر له، فإن قيل : قوله :﴿ لي ﴾ في ﴿ اشرح لي صدري ويسر لي أمري ﴾ ما جدواه والأمر مستتم مستتب بدونه ؟ أجيب : بأنه قد أبهم الكلام أوّلاً فقال :﴿ اشرح لي ويسر لي ﴾ فعلم أن ثم مشروحاً وميسراً ثم بيّن ورفع الإبهام بذكرهما فكان آكد لطلب الشرح لصدره والتيسير لأمره من أن يقول : اشرح صدري ويسر أمري على الإيضاح الساذج لأنه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال والتفصيل.
﴿ واحلل عقدة من لساني ﴾ قال ابن عباس : كان في لسانه عليه السلام رتة وذلك أنّ موسى عليه السلام كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره فلطم فرعون لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته إنّ هذا عدوّي وأراد أن يقتله فقالت له آسية : إنه صبي لا يعقل ولا يميز وفي رواية أنّ أمّ موسى لما فطمته ردّته إلى فرعون فنشأ موسى في حجر فرعون وامرأته يربيانه واتخذاه ولداً فبينما هو ذات يوم يلعب بين يدي فرعون وبيده قضيب يلعب به إذ رفع القضيب فضرب به رأس فرعون فغضب فرعون وتطير بضربه وهمّ بقتله فقالت آسية : أيها الملك إنه صغير لا يعقل جربه إن شئت فجاءت بطشتين في أحدهما جمر وفي الآخر جوهر فأراد أن يأخذ الجوهر فأخذ جبريل يد موسى عليه السلام فوضعها على النار فأخذ جمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه وصارت عليه عقدة.
وقيل : قربا إليه تمرة وجمرة فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فاحترق لسانه، ويروى أنّ يده احترقت وأن فرعون اجتهد في علاجها فلم تبرأ ولما دعاه قال إلى أي : رب تدعوني قال إلى الذي أبرأ يدي وقد عجزت عنها وعن بعضهم أنها لم تبرأ يده لئلا يدخلها مع فرعون في قصعة واحدة فتنعقد بينهما حرمة المؤاكلة.
وقيل : كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته واختلفوا في أنه لم طلب حل تلك العقدة ؟ فقيل : لئلا يقع خلل في أداء الوحي وقيل لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه وقيل : لإظهار المعجزة كما أنّ حبس لسان زكريا عليه السلام عن الكلام كان معجزاً في حقه فكذا إطلاق لسان موسى معجز في حقه واختلفوا في زوال العقدة بكمالها فقيل : بقي بعضها لقوله :﴿ وأخي هارون هو أفصح مني لساناً ﴾ [ القصص، ٣٤ ] وقول فرعون ولا يكاد يبين وكان في لسان الحسين بن عليّ رضى الله تعالى عنهما رته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ورثها من عمه موسى » وقال الحسن : زالت بالكلية لقوله تعالى :﴿ قد أوتيت سؤلك يا موسى ﴾ [ طه، ٣٦ ] وضعف هذا الرازي بأنه عليه السلام لم يقل واحلل العقد من لساني بل قال :﴿ واحلل عقدة من لساني ﴾ فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله قال والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء وقال الزمخشري : وفي تنكير العقدة ولم يقل واحلل عقدة لساني أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهماً جيداً أي : ولذا قال :﴿ يفقهوا ﴾.
﴿ يفقهوا ﴾ أي : يفهموا ﴿ قولي ﴾ عند تبليغ الرسالة ولم يطلب الفصاحة الكاملة ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل : عقدة من عقد لساني.
تنبيه : استدل على أنّ في النطق فضيلة عظيمة بوجوه : أوّلها : قوله تعالى :﴿ خلق الإنسان ٣ علمه البيان ﴾ [ الرحمن، ٣ ] فماهية الإنسان هي الحيوان الناطق. ثانيها : اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير :
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقالوا ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة أي : لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم، وقالوا : المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وقالوا المرء مخبوء تحت لسانه. ثالثها : أنّ في مناظرة آدم عليه السلام مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال :﴿ يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض ﴾ [ البقرة : ٣٣ ].
ولما رأى موسى عليه السلام أنّ التعاون على الدين والتظاهر عليه مع مخالصة الودّ وزوال التهمة قربة عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى طلب المعاونة على ذلك بقوله :﴿ واجعل لي وزيراً ﴾ أي : معيناً على الرسالة ولذلك قال عيسى بن مريم عليه السلام :﴿ من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ [ آل عمران، ٥٢ ] وقال محمد صلى الله عليه وسلم :«إنّ لي في السماء وزيرين وفي الأرض وزيرين فاللذان في السماء جبريل وميكائيل واللذان في الأرض أبو بكر وعمر » وقال صلى الله عليه وسلم :«إذا أراد الله تعالى بملك خيراً قيض له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن نوى خيراً أعانه وإن أراد شرّاً كفه » وقال أنوشروان : لا يستغني أجود السيوف عن الصقل ولا أكرم الدواب عن السوط ولا أعلم الملوك عن الوزير. ولما كان التعاون على الدين منقبة عظيمة أراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا لأهله فقال :﴿ من أهلي ﴾ أي : أقاربي.
وقوله :﴿ هارون ﴾ قال الجلال المحلي : مفعول ثان وقوله :﴿ أخي ﴾ عطف بيان وذكر غيره أعاريب غير ذلك لا حاجة لنا بذكرها.
تنبيه : الوزير مشتق من الوزر لأنه يتحمل عن الملك أوزاره ومؤنه، أو من الوزر لأنّ الملك يعتصم برأيه ويلجئ إليه أموره، أو من المؤازرة وهي المعاونة. قال الرازي : وكان هارون مخصوصاً بأمور منها الفصاحة لقول موسى :﴿ هو أفصح مني لساناً ﴾ [ القصص، ٣٤ ] ومنها الرفق لقول هارون :﴿ يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ﴾ [ طه، ٩٤ ] أنه كان أكبر سناً منه وقال ابن عادل كان أكبر سناً من موسى بأربع سنين وكان أفصح لساناً منه وأجمل وأوسم أبيض اللون وكان موس آدم اللون أقنى جعدا.
ولما طلب موسى عليه السلام من الله تعالى أن يجعل هارون وزيراً له طلب منه أن يشد أزراره بقوله :﴿ اشدد به أزري ﴾ أي : أقوّي به ظهري.
﴿ وأشركه في أمري ﴾ أي : في النبوّة والرسالة، وقرأ ابن عامر بسكون الياء من أخي وهمزة مفتوحة من أشدد وهو على مرتبته في المدّ وهمزة مضمومة من أشركه وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من أخي وهمزة وصل من اشدد وأشركه بهمزة مفتوحة والباقون بسكون الياء من أخي وهمزة وصل من أشدد وفتح الهمزة من أشركه.
ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال :﴿ كي نسبحك ﴾ تسبيحاً ﴿ كثيراً ﴾ قال الكلبي : نصلي لك كثيراً نحمدك ونثني عليك والتسبيح تنزيه الله تعالى في ذاته وصفاته عما لا يليق به.
﴿ ونذكرك ﴾ ذكراً ﴿ كثيراً ﴾ أي : نصفك بصفات الكمال والجلال والكبرياء وجوّز أبو البقاء أن يكون ﴿ كثيراً ﴾ نعتاً لزمان محذوف أي : زماناً كثيراً.
﴿ إنك كنت بنا بصيراً ﴾ أي : عالماً بأنّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهك ورضاك أو بصيراً بأنّ الاستعانة بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوّة إليها أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأعطنا ما هو الأصلح لنا.
ولما سأل موسى ربه تلك الأمور المتقدّمة وكان من المعلوم أنّ قيامه بما كلف به لا يتم إلا بإجابته إليها لا جرم ﴿ قال ﴾ الله تعالى :﴿ قد أوتيت سؤلك يا موسى ﴾ أي : أعطيت جميع ما سألته منا عليك لما فيه من وجوه المصالح.
﴿ ولقد مننا عليك مرّة أخرى ﴾ أي : أنعمنا عليك في وقت آخر وفي ذلك تنبيه على أمور أحدها : كأنه تعالى قال : إني راعيت مصلحتك قبل سؤالك فكيف لا أعطيك مرادك بعد السؤال ثانيها : إني كنت ربيتك فلو منعتك الآن كان ذلك ردّاً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي ثالثها : إنّا أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك الدرجة العالية وهي منصب النبوّة فكيف يليق بمثل هذه التربية المنع عن المطلوب فإن قيل : لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أنّ هذه اللفظة مؤذية والمقام مقام تلطف ؟ أجيب : بأنه إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أنّ هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها لمحض فضله وإحسانه، فإن قيل : لم قال :﴿ مرّة أخرى ﴾ مع أنه تعالى ذكر منناً كثيرة ؟ أجيب : بأنه لم يعن بمرّة أخرى واحدة من المنن لأنّ ذلك قد يقال في القليل والكثير،
ثم بيّن تلك المنة وهي ثمانية أولها قوله تعالى :﴿ إذ أوحينا إلى أمّك ﴾ وحياً لا على وجه النبوّة إذ المرأة لا تصلح للقضاء ولا للإمامة ولا تلي عند أكثر العلماء تزويج نفسها فكيف تصلح للنبوّة ويدل على ذلك قوله تعالى :﴿ وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم ﴾ [ النحل، ٤٣ ] والوحي جاء لا بمعنى النبوّة في القرآن كثيراً قال تعالى :﴿ وأوحى ربك إلى النحل ﴾ [ النحل، ٦٨ ] ﴿ وإذا أوحيت إلى الحواريين ﴾ [ المائدة، ١١١ ] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه :
أحدها : أنه رؤيا رأتها أمّ موسى وكان تأويلها وضع موسى في التابوت وقذفه في البحر وأنّ الله تعالى يردّه عليها.
ثانيها : أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة.
ثالثها : المراد خطور البال وغلبته على القلب، فإن قيل : هذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأنّ الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني ؟ أجيب : بأنها لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون.
رابعها : لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إنّ ذلك النبيّ عرفها إمّا مشافهة أو مراسلة واعترض على هذا بأنّ الأمر لو كان كذلك لما لحقها الخوف. وأجيب : بأنّ ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أنّ موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أنّ الله تعالى كان أمره بالذهاب إليه مراراً.
خامسها : لعل بعض الأنبياء المتقدّمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك الخبر وانتهى ذلك الخبر إلى أمّه.
سادسها : لعلّ الله تعالى بعث إليها ملكاً لا على وجه النبوّة كما بعث إلى مريم في قوله :﴿ فتمثل لها بشراً سوياً ﴾ [ مريم، ١٧ ] وأمّا قوله تعالى :﴿ ما يوحى ﴾ فمعناه ما لا يعلم إلا بالوحي أو ما ينبغي أن يوحى ولا يخلّ به لعظم شأنه وفرط الاهتمام ويبدل منه.
﴿ أن اقذفيه ﴾ أي : ألقيه ﴿ في التابوت ﴾ أي : ألهمناها أن اجعليه في التابوت ﴿ فاقذفيه ﴾ أي : موسى بالتابوت ﴿ في اليمّ ﴾ أي : نهر النيل ﴿ فليلقه اليمّ بالساحل ﴾ أي : شاطئه والأمر بمعنى الخبر والضمائر كلها لموسى فالمقذوف في البحر والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرّق الضمائر فيتنافر النظم الذي هو أمّ إعجاز القرآن والقانون الذي وقع عليه التحدي ومراعاته أهم ما يجب على المفسر.
تنبيه : اليمّ البحر والمراد به هنا نيل مصر في قول الجميع واليمّ اسم يقع على النهر والبحر العظيم قال الكسائي والساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي : يحسره إذا علاه وقوله تعالى :﴿ يأخذه عدوّ لي وعدوّ له ﴾ أي : فرعون جواب ﴿ فليلقه ﴾ وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي : سيصير عدوّاً له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى، روي أنها اتخذت تابوتاً قال مقاتل : إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى :﴿ وألقيت عليك محبة مني ﴾ وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري :﴿ مني ﴾ لا يخلو إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت ﴿ قرّت عين لي ولك ﴾ [ القصص، ٩ ] لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى :﴿ سيجعل لهم الرحمن ودّاً ﴾ [ مريم، ٩٦ ] المنة الثالثة قوله تعالى ﴿ ولتصنع على عيني ﴾ أي : تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي.
تنبيه :﴿ ولتصنع ﴾ معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون.
المنة الرابعة قوله تعالى :﴿ إذ تمشي أختك ﴾ والعامل في ﴿ إذ ﴾ ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلاً من ﴿ إذ أوحينا ﴾ واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب : بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا فتقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها ﴿ فتقول هل أدلكم على من يكفله ﴾ يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى :﴿ فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها ﴾ بلقائك ورؤيتك ﴿ ولا تحزن ﴾ أي : هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
المنة الخامسة : قوله تعالى :﴿ وقتلت نفساً ﴾ قال ابن عباس : هو الرجل القبطي الذي قتله خطأً بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي : كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ﴿ فنجيناك من الغمّ ﴾ أي : من غم قتله خوفاً من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية :﴿ فأصبح في المدينة خائفاً يترقب ﴾ [ القصص، ١٨ ] بالمهاجرة إلى مدين.
المنة السادسة : قوله تعالى :﴿ وفتناك فتوناً ﴾ قال ابن عباس : اختبرناك اختباراً وقيل : ابتليناك ابتلاءً، قال ابن عباس : الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمّه ثم أخذه بلحية فرعون حتى همّ بقتله ثم تناوله الجمرة بدل الجوهرة ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً.
فإن قيل : إنه تعالى عدد أنواع مننه على موسى في هذا المقام فكيف يليق بهذا الموضع ﴿ وفتناك فتونا ﴾ ؟
أجيب : بجوابين الأوّل :﴿ فتناك ﴾ أي : خلصناك تخليصاً من قولهم فتنت الذهب إذا أردت تخليصه من الفضة أو نحوها. الثاني : أنّ الفتنة تشديد المحنة يقال فتن فلان عن دينه إذا اشتدّت عليه المحنة حتى رجع عن دينه قال تعالى :﴿ فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾ [ العنكبوت، ١٠ ] وقال تعالى :﴿ ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ٢ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمنّ الكاذبين ﴾ [ العنكبوت : ٢، ٣ ] ولما كان التشديد في المحنة يوجب كثرة الثواب عده الله تعالى من جملة النعم وتقدّم تفسير ابن عباس وهو قريب من ذلك، فإن قيل : هل يصح إطلاق الفتان على الله تعالى اشتقاقاً من قوله تعالى :﴿ وفتناك فتونا ﴾ ؟ أجيب : بأنه لا يصح لأنه صفة ذم في العرف وأسماء الله تعالى توقيفية لاسيما فيما يوهم ما لا ينبغي.
المنة السابعة : قوله تعالى :﴿ فلبثت سنين في أهل مدين ﴾ والتقدير وفتناك فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم عند شعيب عليه السلام وتزوّجت بابنته وهي إمّا عشر أو ثمان لقوله :﴿ على أن تأجرني ثمان حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك ﴾ [ القصص، ٢٧ ] وقال وهب : لبث موسى عند شعيب ثماناً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته فإنه قضى أوفى الأجلين والآية دالة على أنه لبث عشر سنين وليس فيها ما ينفي الزيادة على العشر كما قاله الرازي وإن قال ابن عادل يرده قوله تعالى :﴿ فلما قضى موسى الأجل ﴾ [ القصص، ٢٩ ] أي : الأجل المشروط عليه في تزويجه وسار بأهله ومدين بلدة شعيب على ثمان مراحل من مصر ﴿ ثم جئت على قدر ﴾ أي : على القدر الذي قدّرت أنك تجي فيه لأن أكلمك وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا مستأخر وقال عبد الرحمن بن كيسان على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه للأنبياء وهذا قول أكثر المفسرين أي : على الموعد الذي وعد الله وقدّر أنه يوحي إليه بالرسالة وهو أربعون سنة وكرّر تعالى قوله :﴿ يا موسى ﴾ عقب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.
المنة الثامنة : قوله تعالى :﴿ واصطنعتك ﴾ أي : اخترتك ﴿ لنفسي ﴾ لأصرّفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك.
ثم بيّن تعالى ماله اصطنعه وهو الإبلاغ والأداء بقوله تعالى :﴿ اذهب أنت وأخوك بآياتي ﴾ أي : بمعجزاتي وقال ابن عباس : الآيات التسع التي بعث بها موسى وقيل : إنها العصا واليد لأنهما اللذان جرى ذكرهما في هذا الموضع ولم يذكر أنه عليه السلام أوتي قبل مجيئه إلى فرعون ولا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين قال تعالى حكاية عن فرعون :﴿ إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ١٠٦ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ١٠٧ ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ﴾ [ الأعراف : ١٠٦، ١٠٧، ١٠٨ ] وقال تعالى :﴿ برهانان من ربك إلى فرعون وملئه ﴾ [ القصص، ٣٢ ] فإن قيل : كيف أطلق لفظ الجمع على الاثنين ؟ أجيب : بأنّ العصا كانت آيات انقلابها حيواناً ثم إنها في أوّل الأمر كانت صغيرة لقوله تعالى :﴿ تهتز كأنها جانّ ﴾ ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى ثم كانت تصير ثعباناً وهذه آية أخرى ثم إنه عليه السلام كان يدخل يده في فمها فما كانت تضرّه فهذه آية أخرى ثم كانت تنقلب خشبة فهذه آية أخرى وكذلك اليد فإنّ بياضها آية وشعاعها آية أخرى ثم زوالها بعد ذلك آية أخرى فدل ذلك على أنها كانت آيات كثيرة.
وقيل : الآيات العصا واليد وحلّ عقدة لسانه وقيل : معناه أمدّكما بآياتي وأظهر على أيديكما من الآيات ما تنزاح به العلل من فرعون وقومه ﴿ ولا تنيا ﴾ أي : لا تفترا ولا تقصرا ﴿ في ذكري ﴾ أي : بتسبيح وغيره فإنّ من ذكر جلال الله استخف غيره فلا يخاف أحداً وتقوى روحه بذلك الذكر فلا تضعف في مقصوده، ومن ذكر الله لا بدّ وأن يكون ذاكر إحسانه، وذاكر إحسانه لا يفتر في أداء أوامره وقيل :﴿ لا تنيا في ذكرى ﴾ عند فرعون بأن تذكرا لفرعون وقومه أنّ الله لا يرضى منهم الكفر وتذكرا لهم أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب وقيل : المراد بالذكر تبليغ الرسالة.
﴿ اذهبا إلى فرعون إنه طغى ﴾ أي : بادّعاء الربوبية.
تنبيه : ذكر الله تعالى المذهوب إليه هنا وهو فرعون وحذفه في قوله :﴿ اذهب أنت وأخوك بآياتي ﴾ اختصاراً في الكلام وقال القفال فيه وجهان : أحدهما : أنّ قوله :﴿ اذهب أنت وأخوك بآياتي ﴾ يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد فقيل مرّة أخرى ﴿ اذهبا ﴾ لتعرفا أنّ المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر والثاني : أنّ قوله اذهب أنت وأخوك بآياتي أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون ثم إن قوله تعالى :﴿ اذهبا إلى فرعون ﴾ أمر بالذهاب إلى فرعون وحده واستبعد هذا بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وقد حذف من كل من الذهابين ما أثبته في الآخر وقيل : إنه حذف المذهوب إليه من الأوّل وأثبته في الثاني، وحذف المذهوب به وهو ﴿ بآياتي ﴾ من الثاني وأثبته في الأوّل.
﴿ فقولا له قولاً ليناً ﴾ أي : مثل ﴿ هل لك إلى أن تزكى ١٨ وأهديك إلى ربك فتخشى ﴾ [ النازعات : ١٨، ١٩ ]
فإنه دعوة في صورة عرض ومشورة، فإن قيل : لم أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد ؟ أجيب : بأنّ عادة الجبار إذا أغلظ عليه في الوعظ يزداد عتوّاً وتكبراً فأمر باللين حذراً من أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليهما واحتراماً لما له من حق التربية وقيل : كنياه وكان له ثلاث كنى أبو العباس وأبو الوليد وأبو مرّة وقيل : عداه شباباً لا هرم بعده وملكاً لا يزول إلا بالموت وأن تبقى له لذة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته وإذا مات دخل الجنة فأعجبه ذلك وكان لا يقطع أمراً دون هامان وكان غائباً فلما قدم أخبره بالذي دعاه إليه موسى وقال أردت أن أقبل منه فقال له هامان كنت أرى أنّ لك عقلاً ورأياً أنت رب تريد أن تكون مربوباً وأنت تعبد تريد أن تعبد فغلبه على رأيه وقوله تعالى :﴿ لعله يتذكر أو يخشى ﴾ متعلق باذهبا أو قولا أي : باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه فهو يجتهد بطوقه ويسعى بأقصى وسعه، قال الزمخشري : ولا يستقيم أن يراد ذلك في حق الله تعالى إذ هو عالم بعواقب الأمور، وعن سيبويه كل ما ورد في القرآن من لعل وعسى فهو من الله واجب بمعنى أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى وقال الفرّاء : إن لعلّ بمعنى كي فتفيد العلية كما تقول اعمل لعلك تأخذ أجرتك.
فائدة : قرأ رجل عند يحيى بن معاذ ﴿ فقولا له قولاً لينا ﴾ فبكى يحيى وقال إلهي هذا برك بمن يقول أنا الإله فكيف برك بمن يقول أنت الإله فإن قيل : ما الفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه تعالى بأنه لا يؤمن ؟ أجيب : بأنّ ذلك الإلزام الحجة وقطع المعذرة وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات والتذكر للمتحقق والخشية للمتوهم ولذلك قدّم الأوّل أي : إن لم يتحقق صدقكما ولم يتذكر فلا أقل من أن يتوهمه فيخشى. ويروى عن كعب أنه قال : والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة ﴿ فقولا له قولاً ليناً ﴾ وسأقسي قلبه فلا يؤمن ولقد تذكر فرعون وخشي حين لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك حين ألجمه الغرق قال :﴿ آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين ﴾ [ يونس، ٩٠ ].
ثم إنّ موسى وهارون ﴿ قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط ﴾ أي : يعجل ﴿ علينا ﴾ بالعقوبة ﴿ أو أن يطغى ﴾ أي : يتجاوز الحد في الإساءة علينا، فإن قيل : لما تكرّر الأمر من الله تعالى بالذهاب، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على معصية ؟ أجيب : بأنّ الأمر ليس على الفور فسقط السؤال وهذا من أقوى الدلائل على أنّ الأمر لا يقتضي الفور، فإن قيل : قوله تعالى :﴿ قالا ربنا ﴾ يدل على أنّ المتكلم موسى وهارون ولم يكن هارون هناك حاضراً ؟ أجيب : بأنّ الكلام كان مع موسى إلا أنه كان متبوع هارون فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون وكلام هارون على سبيل التقدير في تلك الحالة وإن كان موسى وحده إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى :﴿ وإذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها ﴾ [ البقرة، ٧٢ ] وقوله :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل ﴾ [ المنافقون، ٨ ] روي أنّ القائل عبد الله بن أبيّ وحده، فإن قيل : إنّ موسى عليه السلام قال :﴿ رب اشرح لي صدري ﴾ [ طه، ٢٥ ] فأجابه الله تعالى بقوله :﴿ قد أوتيت سؤلك يا موسى ﴾ [ طه، ٣٦ ] وهذا يدل على أنه تعالى قد شرح صدره ويسر له ذلك الأمر. فكيف قال بعده :﴿ إنا نخاف ﴾ فإنّ حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر ؟ أجيب : بأنّ شرح الصدر عبارة عن تقويته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السهو والتحريف وذلك شيء آخر غير الخوف.
﴿ قال ﴾ الله تعالى لهما ﴿ لا تخافا إنني معكما ﴾ حافظكما وناصركما ﴿ أسمع وأرى ﴾ أي : ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل، فأفعل ما يوجبه حفظي ونصري، وقال ابن عباس : أسمع دعاءكما فأجيبه وأرى ما يراد بكما فأمنع فلست بغافل عنكما فلا تهتما، وقال القفال : قوله تعالى :﴿ أسمع وأرى ﴾ يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله تعالى :﴿ يفرط علينا أو أن يطغى ﴾ ؛ ﴿ يفرط علينا ﴾ بأن لا يسمع منا ﴿ أو أن يطغى ﴾ بأن يقتلنا، قال تعالى :﴿ إنني معكما أسمع ﴾ كلامكما فأسخره للاستماع منكما، وأرى أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه.
ثم إنه سبحانه وتعالى أعاد ذلك التكليف فقال :﴿ فأتياه ﴾ لأنه سبحانه وتعالى قال في المرّة الأولى :﴿ اذهبا إلى فرعون ﴾ [ طه، ٤٣ ] وفي الثانية قال :﴿ اذهب أنت وأخوك ﴾ [ طه، ٤٢ ] وفي الثالثة قال :﴿ اذهب إلى فرعون ﴾ [ طه، ٢٤ ] وفي الرابعة قال هاهنا :﴿ فأتياه ﴾، فإن قيل : إنه تعالى أمرهما في الثانية بأن يقولا له قولاً ليناً، وهاهنا أمرهما بقوله تعالى :﴿ فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ﴾ أي : إلى الشام ﴿ ولا تعذبهم ﴾ أي : خل عنهم من استعمالك إياهم في أشغالك الشاقة كالحفر والبناء وحمل الثقيل وقطع الصخور وكان فرعون يستعملهم في ذلك مع قتل الأولاد وفي هذا تغليظ من وجوه ؛ الأول : قوله :﴿ إنا رسولا ربك ﴾، وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما وذلك يعظم على الملك المتبوع. الثاني : قولهما :﴿ فأرسل معنا بني إسرائيل ﴾ فيه إدخال النقص على ملكه لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال أيضاً. الثالث : قولهما :﴿ ولا تعذبهم ﴾. الرابع : قولهما ﴿ قد جئناك بآية من ربك ﴾ فما الفائدة في التليين أوّلاً والتغليظ ثانياً ؟ أجيب : بأنّ الإنسان إذا ظهر لجاجه فلا بدّ له من التغليظ حيث لم ينفع التليين.
فإن قيل : أليس الأولى أن يقول إنا رسولا ربك قد جئناك بآية فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم لأن ذكر المعجز مقروناً بالدعاء للرسالة أولى من تأخيره عنه ؟.
أجيب : بأنّ هذا أولى لأنهما ذكرا مجموع الدعاوي ثم استدلا على ذلك المجموع بالمعجز وقولهما :﴿ قد جئناك بآية من ربك ﴾ قال الزمخشري : هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي :﴿ أنا رسولا ربك ﴾ مجرى البيان والتفسير لأنّ دعوى الرسالة لا تثبت إلا ببينتهما التي هي مجيء الآية.
فإن قيل : إنّ الله تعالى قد أعطاهما آيتين هما العصا واليد ثم قال تعالى :﴿ اذهب أنت وأخوك بآياتي ﴾، وذلك يدل على ثلاث آيات وقالا هنا :﴿ قد جئناك بآية من ربك ﴾ وذلك يدل على أنها كانت واحدة فكيف الجمع ؟ أجاب القفال : بأنّ معنى الآية الإشارة إلى جنس الآيات كأنهما قالا قد جئناك ببينات من عند الله ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة وتقدّم الجواب عن التثنية والجمع وأنّ في العصا واليد آيات.
وقوله تعالى :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله تعالى كأنه تعالى قال :﴿ فقولا إنا رسولا ربك ﴾ وقولا له :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾ ويحتمل أن يكون كلام الله قد تمّ عند قوله قد جئناك بآية من ربك، وقوله تعالى بعد ذلك :﴿ والسلام على من اتبع الهدى ﴾ وعد من قبلهما لمن آمن وصدّق بالسلامة له من عقوبات الله في الدنيا والآخرة أو أنّ سلام الملائكة وخزنة الجنة على المهتدين، وقال بعضهم : إن على بمعنى اللام أي : والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى :﴿ من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها ﴾ [ فصلت، ٤٦ ] وقال تعالى في موضع آخر :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ﴾ [ الإسراء، ٧ ].
﴿ إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب ﴾ ما جئنا به ﴿ وتولى ﴾ أعرض عنه، قال البيضاوي : ولعل تغيير النظم والتصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأنّ التهديد في أوّل الأمر أهم وأنجع وبالواقع أليق.
ولما أتياه وقالا :﴿ إنا رسولا ربك ﴾ وبلغاه ما أمرا به ﴿ قال ﴾ لهما ﴿ فمن ربكما يا موسى ﴾ إنما نادى موسى وحده بعد مخاطبته لهما معاً إما لأنّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي كانت في لسان موسى عليه الصلاة والسلام ويعلم فصاحة أخيه بدليل قوله :﴿ هو أفصح مني لساناً ﴾ [ القصص، ٣٤ ] فأراد أن يفحمه ويدل عليه قول فرعون ﴿ ولا يكاد يبين ﴾ [ الزخرف، ٥٢ ] وإمّا لأنه حذف المعطوف للعلم به أي : يا موسى وهارون قاله أبو البقاء، ثم إنّ فرعون لم يشتغل مع موسى بالبطش والإيذاء لما دعاه إلى الله تعالى مع أنه كان شديد القوّة عظيم الغلبة كثير العسكر بل خرج معه في المناظرة لأنه لو أذاه لنسب إلى الجهل والسفاهة فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة وذلك يدل على أنّ السفاهة من غير حجة لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدّعي الإسلام والعلم.
تنبيه : قال هاهنا ﴿ فمن ربكما يا موسى ﴾ وقال في سورة الشعراء :﴿ وما ربّ العالمين ﴾ [ الشعراء، ٢٣ ]
وهو سؤال عن الماهية فهما سؤالان مختلفان والواقعة واحدة قال ابن عادل والأقرب أن يقال سؤال من كان مقدّماً على سؤال ما لأنه كان يقول : إني أنا الله والرب فقال : فمن ربكما فلما أقام موسى الدلالة على الوجود وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام لظهوره وجلائه عدل إلى طلب الماهية لأنّ العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر.
فإن قيل : لم قال ﴿ فمن ربكما ﴾ ولم يقل فمن إلهكما ؟ أجيب : بأنه أثبت نفسه رباً في قوله :﴿ ألم نربك فينا وليداً ﴾ [ الشعراء، ١٨ ] فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال أنا ربك فلم تدع رباً آخر وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم :﴿ ربي الذي يحي ويميت ﴾ قال له نمروذ ﴿ أنا أحيي وأميت ﴾ فلم تكن الإماتة التي ذكرها إبراهيم هي الإماتة مع الإحياء التي عارضه نمروذ بها إلا فيّ اللفظ فكذا هاهنا لما ادّعى موسى ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام أي : أنا الرب الذي ربيتك ومعلوم أنّ الربوبية التي ادعاها موسى غير الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما،
ثم كأنه قيل : فما أجاب به موسى فقيل :﴿ قال ﴾ مستدلاً على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات ﴿ ربنا الذي أعطى كل شيء ﴾ أي : من الأنواع ﴿ خلقه ﴾ أي : صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار والأذن الشكل الذي يوافق الإسماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير ناء عنه أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحجرة زوجين والبعير والناقة كذلك والرجل والمرأة كذلك فلم يزاوج منهما شيئاً غير جنسه وما هو على خلاف خلقه ﴿ ثم هدى ﴾ أي : ثم عرّف الله تعالى الحيوان الكائن من المخلوق كيف يرتفق بما أعطي وكيف يتوصل إليه. قال الزمخشريّ : ولله در هذا الجواب ما أحضره وما أجمعه وما أبينه لمن ألقى الذهن ونظره بين الأنصاف وكان طالباً للحق ولما خاف فرعون أن يزيد موسى في إظهار تلك الحجة فيظهر للناس صدقه.
﴿ قال ﴾ لموسى ﴿ فما بال ﴾ أي : حال ﴿ القرون ﴾ أي : الأمم ﴿ الأولى ﴾ كقوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان فإنها كانت تعبد الأوثان وتنكر البعث فمن شقي منهم ومن سعد أراد أن يصرفه عن ذلك الكلام ويشغله بهذه الحكايات فلم يلتفت إليه فلذلك ﴿ قال علمها عند ربي ﴾.
﴿ قال علمها عند ربي ﴾ استأثر به لا يعلمه إلا هو وما أنا إلا عبد مثلكم لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب وعلم أحوال هذه القرون مثبت عند ربي ﴿ في كتاب ﴾ هو اللوح المحفوظ ويجوز أن يكون ذلك تمثيلاً لتمكنه في علمه تعالى بما استحفظه العالم وقيده بالكتابة ويؤيده قوله ﴿ لا يضلّ ربي ولا ينسى ﴾ والضلال أن يخطئ الشيء في مكانه فلم يتهد إليه، والنسيان أن يذهب عنه بحيث لا يخطر بباله، وهما محالان على علام الغيوب بخلاف العبد الذليل والبشر الضئيل أي : لا يضل تعالى ولا ينسى كما تضلّ أنت وتنسى يا مدّعي الربوبية بالجهل والوقاحة.
ثم عاد إلى تتميم كلامه الأوّل وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال :﴿ الذي جعل لكم ﴾ في جملة الخلق ﴿ الأرض مهداً ﴾ أي : فراشاً.
تنبيه : هذا الموصول في محل رفع صفة لربي وخبره محذوف تقديره هو، أو منصوب على المدح. وقرأ عاصم وحمزة هنا وفي سورة الزخرف مهداً بفتح الميم وسكون الهاء أي : مهدها مهداً أو تتمهدونها فهي لهم كالمهاد وهو ما يمهد للصبيّ، وقرأ الباقون بكسر الميم وفتح الهاء وألف بعدها وهو اسم ما يمهد كالفراش أو جمع مهد ﴿ وسلك ﴾ أي : سهل ﴿ لكم فيها سبلاً ﴾ أي : طرقاً بين الجبال والأودية والبراري تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها ﴿ وأنزل من السماء ماءً ﴾ أي : مطراً وعدل بقوله ﴿ فأخرجنا به ﴾ عن لفظ الغيبة إلى صيغة التكلم على الحكاية لكلام الله تعالى تنبيهاً على ظهور ما فيه من الدلالة على كمال قدرته والحكمة وإيذاناً بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته وعلى هذا نظائره كقوله تعالى :﴿ ألم تر أنّ الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها ﴾ [ فاطر، ٢٧ ] ﴿ أم من خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ﴾ [ النحل، ٦٠ ] ﴿ أزواجاً ﴾ أي : أصنافاً سميت بذلك لأنها مزدوجة مقترنة بعضها مع بعض وقوله تعالى :﴿ من نبات ﴾ بيان وصفة لا زواجاً وكذلك ﴿ شتى ﴾ وهو جمع شتيت من شت الأمر تفرّق نحو مرضى جمع مريض وجرحى جمع جريح فألفه للتأنيث أي : أزواجاً متفرّقة ويجوز أن يكون صفة للنبات فإنه من حيث إنه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد والجمع أي : أنها مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم فلذلك قال تعالى :﴿ كلوا وارعوا أنعامكم ﴾.
﴿ كلوا وارعوا أنعامكم ﴾ والأنعام جمع نعم وهي الإبل والبقر والغنم يقال رعت الأنعام ورعيتها والأمر للإباحة وتذكير النعمة والجملة حال من ضمير أخرجنا أي : مبيحين لكم الأكل ورعي الأنعام أي : وبقية الحيوانات ﴿ إنّ في ذلك ﴾ أي : فيما ذكرت من هذه النعم ﴿ لآيات ﴾ أي : لعبراً ﴿ لأولي النهى ﴾ أي : أصحاب العقول جمع نهية كغرفة وغرف سمي به العقل لأنه ينهي صاحبه عن ارتكاب القبائح.
ولما ذكر سبحانه وتعالى منافع الأرض والسماء بيّن أنها غير مطلوبة لذاتها بل هي مطلوبة لكونها وسائل إلى منافع الآخرة فقال :﴿ منها ﴾ أي : الأرض ﴿ خلقناكم ﴾ فإن قيل : إنما خلقنا من النطفة على ما بيّن في سائر الآيات ؟ أجيب : بأوجه.
أحدها : أنه لما خلق أصلنا آدم عليه السلام من تراب كما قال تعالى :﴿ كمثل آدم خلقه من تراب ﴾ [ آل عمران، ٥٩ ] حسن إطلاق ذلك علينا.
ثانيها : أن تولد الإنسان إنما هو من النطفة ودم الطمث وهما متولدان من الأغذية والغذاء إمّا حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النباتي والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب فصح أنه تعالى خلقنا منها وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة.
ثالثها : روى ابن مسعود أنّ ملك الأرحام يأتي إلى الرحم حين يكتب أجل المولود ورزقه والأرض التي يدفن فيها فإنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة ثم يدخلها في الرحم وأخرج ابن المنذر عن عطاء الخراساني قال : إنّ الملك ينطلق فيأخذ من تراب المكان الذي يدفن فيه فيذرّه على النطفة فيخلق من التراب ومن النطفة ﴿ وفيها نعيدكم ﴾ أي : مقبورين بعد الموت ﴿ ومنها نخرجكم ﴾ أي : عند البعث ﴿ تارة ﴾ أي : مرّة ﴿ أخرى ﴾ أي : بتألف أجزائكم المتفتتة المختلطة بالتراب ونردّهم كما كانوا أحياء ونخرجهم إلى المحشر يوم يخرجون من الأجداث سراعاً.
ولما كان المقام لتعظيم القدرة عطف عليه قوله تعالى :﴿ ولقد أريناه ﴾ أي : أبصرناه ﴿ آياتنا كلها ﴾ أي : التسع المختصة بموسى عليه السلام وهي العصا واليد وفلق البحر والحجر والجراد والقمل والضفادع والدم ونتق الجبل ﴿ فكذب ﴾ بها وزعم أنها سحر ﴿ وأبى ﴾ أن يسلم، فإن قيل : قوله تعالى :﴿ كلها ﴾ يفيد العموم والله تعالى ما أراه جميع الآيات فإنّ من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى عليه السلام وبعده ؟ أجيب : بأنّ لفظ الكل وإن كان للعموم قد يستعمل في الخصوص مع القرينة كما يقال : دخلت السوق فاشتريت كل شيء أو يقال : إنّ موسى عليه السلام أراه آياته وعدّد عليه آيات غيره من الأنبياء فكذب فرعون بالكل أو يقال تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل فحكى سبحانه وتعالى ذلك على الوجه الذي يلزم
ثم كأنه قيل : كيف صنع في تكذيبه وإبائه فقيل :﴿ قال ﴾ حين علم حقيقة ما جاء به موسى وظهوره وخاف أن يتبعه الناس ويتركوه ووهن في نفسه وهناً عظيماً ﴿ أجئتنا لتخرجنا من أرضنا ﴾ أي : الأرض التي نحن مالكوها ويكون لك الملك فيها فصارت فرائصه ترعد خوفاً مما جاء به موسى لعلمه وإيقانه أنه على الحق وأنّ المحق لو أراد قود الجبال لانقادت له وإن مثله لا يخذل ولا يذل ناصره وأنه غالبه على ملكه لا محالة ثم خيل لأتباعه أن ذلك سحر بقوله ﴿ بسحرك يا موسى ﴾ فكان ذلك مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال صارفاً لهم عن اتباع ما رأوه من البيان
ثم أظهر لهم أنه يعارضه بمثل ما أتى به بقوله :﴿ فلنأتينك بسحر مثله ﴾ أي : مثل سحرك يعارضه ﴿ فاجعل بيننا وبينك موعداً ﴾ أي : من الزمان والمكان ﴿ لا نخلفه ﴾ أي : لا نجعله خلفنا ﴿ نحن ولا أنت ﴾ أي : لا نجاوزه ولما كان كل من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال :﴿ مكاناً ﴾ وآثر ذلك المكان لأجل وصفه بقوله ﴿ سوى ﴾ أي : عدلاً وقال ابن عباس نصفا تستوي مسافة الفريقين إليه فانظر إلى هذا الكلام الذي زوّقه ونمقه وصنعه بما وقف به قومه عن السعادة واستمرّ يقودهم بعناده حتى أوردهم البحر فأغرقهم ثم في غمرات النار أحرقهم، وقيل : معنى سوى أي : سوى هذا المكان، وقرأ شعبة وابن عامر وحمزة والكسائي بضم السين والباقون بكسرها وأمال شعبة وحمزة والكسائي في الوقف محضة والباقون بالفتح، وقيل : المراد بالموعد الوعد لأنّ الإخلاف لا يلائم الزمان والمكان أي : بل الوعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه وإلى هذا نحا جماعة مختارين له. وردّ عليهم بقوله :﴿ قال موعدكم يوم الزينة ﴾ فإنه لا يطابقه.
تنبيه : يحتمل أنّ قوله :﴿ قال موعدكم يوم الزينة ﴾ أن يكون من قول فرعون فبين الوقت وأن يكون من قول موسى عليه السلام وهذا أظهر كما قال الرازي لوجوه ؛ الأوّل : أنه جواب لقول فرعون :﴿ فاجعل بيننا وبينك موعداً ﴾ الثاني : وهو أن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع فتعيينه إنما يليق بالمحق الذي يعرف أنّ اليد له لا المبطل الذي يعرف أنه ليس معه إلا التلبيس.
ثالثها : أن قوله :﴿ موعدكم ﴾ خطاب للجمع فلو جعلناه من فرعون لموسى وهارون لزم إمّا أن نحمله على التعظيم أو أن أقل الجمع اثنان فالأوّل لا يليق بحال فرعون معهما والثاني غير جائز، فإذا جعلناه من موسى عليه السلام استقام الكلام واختلف في ﴿ يوم الزينة ﴾ فقال مجاهد وقتادة : النيروز، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : هو يوم عاشوراء، وقيل : كان يوم عيد لهم يتزينون فيه ويجتمعون في كل سنة، وقيل : يوم كانوا يتخذون فيه سوقاً ويتزينون ذلك اليوم.
وبنى قوله :﴿ وأن يحشر ﴾ للمفعول ؛ لأن القصد الجمع لا كونه من معين ﴿ الناس ﴾ أي : يجتمعوا ﴿ ضحى ﴾ أي : وقت الضحوة، فيكون أظهر لما يعمل، وأجلى، فلا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، ويكثر التحديث بذلك في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر.
﴿ فتولى ﴾ أي : أعرض ﴿ فرعون ﴾ عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله تعالى ﴿ فجمع كيده ﴾ أي : مكره وحيلته وخداعه الذي دبره على موسى عليه السلام بجميع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة حشرهم من كل فج، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناءً بالسحر، وأمهر ما كانوا وأكثر ﴿ ثم أتى ﴾ للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها.
ولما تشوق السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك استأنف تعالى الخبر عنه بقوله تعالى :﴿ قال لهم ﴾ أي : لأهل الكيد والعناد، وهم السحرة وغيرهم ﴿ موسى ﴾ حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم ﴿ ويلكم ﴾ يا أيها الناس الذين خلقكم الله تعالى لعبادته ﴿ لا تفتروا ﴾ أي : لا تتعمدوا ﴿ على الله كذباً ﴾ بإشراك أحد معه ﴿ فيسحتكم ﴾ قال مقاتل : يهلككم، وقال قتادة : يستأصلكم ﴿ بعذاب ﴾ من عنده، وقرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء، وكسر الحاء من الإسحات، وهو لغة نجد وتميم، والباقون بفتحهما، والسحت لغة الحجاز ﴿ وقد خاب من افترى ﴾ كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك له، فلم ينفعه.
﴿ فتنازعوا ﴾ أي : تجاذب السحرة ﴿ أمرهم بينهم ﴾ لما سمعوا هذا الكلام علماً منهم أنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جمع جنوده وأتباعه، ثم يسلم منه إلا من الله تعالى معه ﴿ وأسروَّا النجوى ﴾ قال الكلبي : قالوا سراً : إن غلبنا موسى اتبعناه، وقال محمد بن إسحاق : لما قال لهم موسى :﴿ لا تفتروا على الله كذباً ﴾، قال بعضهم لبعض : ما هذا بقول ساحر، وبالغوا في إخفاء ذلك، فإن النجوى الإسرار لئلا يظهر فرعون وأتباعه على ذلك،
فكأنه قيل : ما قالوا حين انتهى تنازعهم ؟ فقيل :﴿ قالوا ﴾ أي السحرة :﴿ إن هذان لساحران ﴾ أي : موسى وهارون، وقرأ ابن كثير وحفص بسكون النون من ﴿ إن ﴾، وشدَّدها الباقون، وقرأ أبو عمرو بالياء بعد الذال، والباقون بالألف على لغة من يجعل ألف المثنى لازماً في كل حال، قال أبو حيان : وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب، وبعض كنانة وخثعم وزيد وبني النضر وبني الجهيم ومراد وعذرة، وقال شاعرهم :
تزوّد مني بين أذناه ضربة ***
يريد أذنيه، وقال آخر :
إن أباها وأبا أباها قد بلغا في المجد غايتاها
وقيل : تقدير الآية أنه هذان، فحذف الهاء، وذهب جماعة إلى أن حرف أن ههنا بمعنى نعم، أي : نعم هذان، روي أن أعرابياً سأل ابن الزبير شيئاً، فحرمه، فقال : لعن الله ناقة حملتني إليك، فقال ابن الزبير : إنَّ وصاحبها، أي : نعم، وشدَّد ابن كثير النون، فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام، وتزويره خوفاً من غلبتهما، وتثبيطاً للناس عن اتباع موسى وهارون ﴿ يريدان ﴾ أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها ﴿ أن يخرجاكم ﴾ أيها الناس ﴿ من أرضكم ﴾ هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً عن سلف ﴿ بسحرهما ﴾ الذي أظهراه لكم وغيره. ولما كان كل حزب بما لديهم فرحين قالوا :﴿ ويذهبا بطريقتكم المثلى ﴾ مؤنث الأمثل، وهو الأفضل، أي : بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب بإظهار مذهبه، وإعلاء دينه لقوله تعالى :﴿ إني أخاف أن يبدل دينكم ﴾ [ غافر، ٢٦ ]، وقيل : أراد أهل طريقتكم، وهم بنو إسرائيل، فإنهم كانوا أرباب علم فيما بينهم لقول موسى :﴿ أرسل معنا بني إسرائيل ﴾ [ الشعراء، ١٧ ]، وقيل : الطريقة اسم لوجوه القوم وأشرافهم من حيث إنهم قدوة لغيرهم.
﴿ فأجمعوا كيدكم ﴾ أي : من السحر وغيره، فلا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به، وقرأ أبو عمرو بهمزة الوصل بين الفاء والجيم، وفتح الميم، والباقون بهمزة مقطوعة وكسر الميم ﴿ ثم ائتوا ﴾ أي : للقاء موسى وهارون ﴿ صفاً ﴾ أي مصطفين ؛ لأنه أهيب في صدور الرائين.
تنبيه : اختلفوا في عدد السحرة، فقال الكلبي : كانوا اثنين وسبعين ساحراً ؛ اثنان من القبط، وسبعون من بني إسرائيل، وقال عكرمة : كانوا تسعمائة ؛ ثلاثمائة من الفرس، وثلاثمائة من الروم، وثلاثمائة من الإسكندرية. وقال وهب : خمسة عشرة ألفاً، وقال السدي : بضعة وثلاثون ألفاً، وقال القاسم بن سلام : كانوا سبعين ألفاً، وقيل : اثني عشر ألفاً مع كل منهم على كل قول حبل وعصا، وأقبلوا عليه إقبالة واحدة، وظاهر القرآن لا يدل على شيء من هذه الأقوال. ولما كان التقدير : فمن أتى كذلك فقد استعلى عطف عليه قوله :﴿ وقد أفلح اليوم ﴾ في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط ﴿ من استعلى ﴾ أي : فاز بالمطلوب من غلب،
فلما أتى السحرة موسى له متأدبين ؛ لأنّ لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر ؛ بل نفعهم قال بعضهم : ولذلك رزقهم الله تعالى الإيمان ببركته ﴿ يا موسى إما أن تلقي ﴾ أي : ما معك مما تناظرنا به أولاً ﴿ وإما أن نكون ﴾ نحن ﴿ أوّل من ألقى ﴾ ما معه.
﴿ قال ﴾ لهم موسى عليه السلام مقابلاً لأدبهم بأحسن منه، ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر، فتكون له العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم، فلا يكون بعدها شك لا ألقي أنا أولاً ﴿ بل ألقوا ﴾ أنتم أولاً، فانتهزوا الفرصة ؛ لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تغيير السياق والتصريح بالأول، فألقوا ما معهم من الحبال والعصي ﴿ فإذا حبالهم وعصيّهم ﴾ أي : التي ألقوها قد فاجأت أنه ﴿ يخيل إليه ﴾ تخييلاً مبتدأً ﴿ من سحرهم ﴾ أي : الذي قد فاقوا به أهل الأرض ﴿ أنها ﴾ لشدة اضطرابها ﴿ تسعى ﴾ فإن قيل : كيف يجوز أن يقول موسى :﴿ بل ألقوا ﴾ فيأمرهم بما هو سحر أجيب : بأن ذلك الأمر كان مشروطاً، والتقدير : ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين ؛ كما في قوله تعالى :﴿ فأتوا بسورة من مثله ﴾ [ البقرة، ٢٣ ]، أي : إن كنتم صادقين، وفي القصة أنهم لما ألقوا الحبال والعصي أخذوا أعين الناس، فرأى موسى والقوم كأن الأرض امتلأت حيات، وكانت قد أخذت ميلاً من كل جانب، ورأوا أنها تسعى، وقيل : لطخوها بالزئبق، فلما وقعت عليها الشمس اضطربت، فخيل إليهم أنها تتحرك، وقرأ ابن ذكوان تخيل بالتاء الفوقية على التأنيث، والباقون بالياء على إسناده إلى ضمير الحبال.
﴿ فأوجس ﴾ أي : أحس ﴿ في نفسه خيفة موسى ﴾ عليه الصلاة والسلام فإن قيل : كيف استشعر الخوف، وقد عرض عليه المعجزات الباهرات كالعصا واليد، ثم إن الله تعالى قال له بعد ذلك :﴿ إنني معكما أسمع وأرى ﴾ فكيف وقع الخوف في قلبه ؟ أجيب بأوجه أحدها : أنه خاف من جهة أن سحرهم من جنس معجزته أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به، الثاني : أنه خوف طبع البشرية مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك، الثالث : لعله كان مأموراً أن لا يفعل شيئاً إلا بالوحي، فلما تأخَّر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت خاف أن لا ينزل عليه الوحي في ذلك الجمع، فيبقى الخجل.
ثم إنه أزال ذلك الخوف بقوله تعالى :﴿ قلنا لا تخف ﴾ من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله تعالى، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه ﴿ إنك أنت ﴾ خاصة ﴿ الأعلى ﴾ أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها.
﴿ وألقِ ما في يمينك ﴾ أبهمه، ولم يقل : عصاك تحقيراً لها ؛ أي : لا تبال بكثرة حبالهم، وعصيهم، وألقِ العويد الذي في يدك، أو تعظيماً لها أي : لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أي : العصا، وهي التي قلنا لك أول ما شرَّفناك بالمناجاة :﴿ وما تلك بيمينك يا موسى ﴾ [ طه، ١٧ ]، ثم أريناك منها ما أريناك ﴿ تلقف ﴾ أي : تبتلع بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك ﴿ ما صنعوا ﴾ أي : فعلوه بعد تدرّب كثير وممارسة طويلة، فلما ألقاها صارت أعظم حية من حياتهم، ثم أخذت تزداد عظماً حتى ملأت الوادي، ثم صعدت حتى علقت ذنبها بطرف الثنية، ثم هبطت وأكلت كل ما عملوه في الميلين والناس ينظرون إليها لا يحسبون إلا أنه سحر، ثم أقبلت نحو فرعون لتبتلعه فاتحة فاها نحو ثمانين ذراعاً، فصاح بموسى، فأخذها، فإذا هي عصا كما كانت، ونظرت السحرة، فإذا هي لم تدع من حبالهم، وعصيهم شيئاً إلا أكلته، وعرفوا أنه ليس بسحر، وأصل تلقف تتلقف حذفت إحدى التاءين، وتاء المضارعة تحتمل التأنيث على إسناد الفعل إلى العصا، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب، وقرأ ابن ذكوان برفع الفاء على الحال أو الاستئناف، والباقون بسكونها، وحفص بسكون اللام وتخفيف القاف على أنه من لقفته بمعنى تلقفته ﴿ إنما ﴾ أي : الذي ﴿ صنعوا ﴾ أي : زوَّروا وافتعلوا وهالك أمره ﴿ كيد ساحر ﴾ أي : كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر السين، وسكون الحاء بمعنى ذي سحر، أو بتسمية الساحر سحراً على المبالغة، أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان كقولهم : علم فقه، والباقون بفتح السين وكسر الحاء وألف بينهما.
فإن قيل : لم وحد الساحر ولم يجمع ؟ أجيب بأن القصد من هذا الكلام معنى الجنسية لا معنى العدد، فلو جمع خيل أن المقصود هو العدد ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى :﴿ ولا يفلح الساحر ﴾ أي هذا الجنس ﴿ حيث أتى ﴾ أي : كيفما سار، وقال ابن عباس : لا يسعد حيث كان، وقيل : معناه حيث احتال، فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له.
فإن قيل : لم نكر أولاً، ثم عرف ثانياً أجيب بأنه قال : هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر لا فائدة فيه، ولا شك أن الكلام على هذا الوجه أبلغ، ثم أنه امتثل ما أمره به ربه من إلقاء العصا، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا في غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته، وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله تعالى ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه السلام، وحذف ذكر الإلقاء، وما سببه من التلقف ؛ لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية.
﴿ فألقي السحرة ﴾ أي : فألقاهم ما رأوا من أمر الله تعالى بغاية السرعة، وبأيسر أمر ﴿ سجداً ﴾ على وجوههم لله تعالى توبة مما صنعوا وإغباناً لفرعون بسجودهم، وتعظيماً لما رأوا، وذلك لأنهم كانوا في الطبقة العليا من علم السحر، فلما رأوا فعل موسى عليه السلام خارجاً عن صناعتهم عرفوا أنه ليس من السحر البتة، ويقال : قال رئيسهم : كنا نغلب الناس بالسحر، وكانت الآلات تبقى علينا، فلو كان هذا سحراً، فأين الذي ألقيناه، فاستدلوا بتغيير أحوال الأجسام على الصانع القادر، وبظهورها على يد موسى عليه السلام على كونه رسولاً صادقاً من عند الله لا جرم تابوا وآمنوا، وأتوا بما هو النهاية في الخضوع وهو السجود ؛ قال الأصبهاني : سبحان الله ما أعظم شأنهم ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين، فكأن قائلاً قال هذا فعلهم، فماذا قالوا ؟ فقيل :﴿ قالوا : آمنا برب هارون وموسى ﴾ ولم يقولوا : آمنا برب العالمين ؛ لأن فرعون ادّعى الربوبية في قوله :﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ [ النازعات، ٢٤ ] والإلهية في قوله :﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ [ القصص، ٣٨ ]، فلو أنهم قالوا ذلك لكان فرعون يقول : إنهم آمنوا بي لا بغيري، فلقطع هذه التهمة اختاروا هذه العبارة، والدليل على ذلك أنهم لم يقتصروا على موسى بل قدّموا هارون لأن فرعون ربى موسى في صغره، فلو اقتصروا على موسى أو قدّموا ذكره فربما توهم أن المراد فرعون، وذكر هارون على الاستتباع وقيل : قدموه لكبر سنه، أو لرويّ الآية، فسبحان الله ما أعظم أمرهم كانوا أول النهار سحرة يقرون لفرعون بالربوبية، وآخره شهداء بررة روي أنهم لم يرفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار، ورأوا ثواب أهلها، وعن عكرمة لما خرّوا سجداً أراهم الله تعالى في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة،
فكأنه قيل : ما قال لهم فرعون حينئذٍ ؟ فقيل : ﴿ قال ﴾ لهم :﴿ آمنتم ﴾ أي : بالله ﴿ له ﴾ أي : مصدِّقين أو متبعين لموسى ﴿ قبل أن آذن لكم ﴾ في ذلك، قال ذلك إيهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن، ثم استأنف قوله معلماً مخيلاً لاتباعه صداً لهم عن الاقتداء بالسحرة ﴿ إنه ﴾ أي : موسى ﴿ لكبيركم ﴾ أي : معلمكم ﴿ الذي علمكم السحر ﴾ أي : فلم تتبعوه لظهور الحق بل لإرادتهم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه بما يوقفهم عن اتباع الحق. ولما خيلهم شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة، فقال مقسماً ﴿ فلأقطعن ﴾ أي : بسبب ما فعلتم ﴿ أيديكم ﴾ على سبيل التوزيع ﴿ وأرجلكم ﴾ أي : من كل رجل يداً ورجلاً، وقوله :﴿ من خلاف ﴾ حال يعني مختلفة، أي : الأيدي اليمنى والأرجل اليسرى ﴿ ولأصلبنكم ﴾ وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم في المصلوب عليه تمكين المظروف في ظرفه، فقال :﴿ في جذوع النخل ﴾ تشنيعاً لقتلكم وردعاً لأمثالكم ﴿ ولتعلمن أينا ﴾ يريد نفسه لعنه الله وموسى عليه السلام بدليل قوله :﴿ آمنتم له ﴾، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله ؛ كقوله :﴿ يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ﴾ [ التوبة، ٦١ ]، وفيه تبجح باقتداره وقهره، وما ألفه وضري به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع لموسى، واستضعاف له مع الهزء به ؛ لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء.
وقيل : يريد رب موسى الذي آمنوا به ﴿ أشد عذاباً وأبقى ﴾ أي : أدوم على مخالفته فإن قيل : إن فرعون مع قرب عهده بمشاهدة انقلاب العصا حية، وقصدها له وآل الأمر أن استغاث بموسى من شرها، وعجزه عن دفعها كيف يعقل أن يهدد السحرة ويبالغ في وعيدهم إلى هذا الحد، ويستهزئ بموسي في قوله :﴿ أينا أشد عذاباً وأبقى ﴾ ؟ أجيب : بأنه كان في أشد الخوف في قلبه إلا أنه يظهر الجلادة والوقاحة تمشية لناموسه وترويجاً لأمره، قال الرازي : ومن استقرأ أحوال العالم علم أن الفاجر قد يفعل أمثال هذه الأشياء، ومما يدل على معاندته قوله :﴿ إنه لكبيركم الذي علمكم السحر ﴾ لأنه كان يعلم أن موسى ما خالطهم البتة، وما لقيهم، وكان يعلم من سحرته أستاذ كل واحد من هو، وكيف حصل ذلك العلم، ثم إنه كان يقول مع ذلك هذه الأشياء،
ثم كأنه قيل فما قالوا له ؟ فقيل :﴿ قالوا ﴾ له :﴿ لن نؤثرك ﴾ أي : نختارك ﴿ على ما جاءنا ﴾ على لسان موسى ﴿ من البينات ﴾ التي عايناها، وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضادتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله إشارة إلى علوِّ قدره، فقالوا :﴿ والذي ﴾ أي : ولا نؤثرك بالإتباع على الذي فطرنا أي : ابتدأ خلقنا إشارة إلى شمول ربوبية الله تعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استخفه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
تنبيه : قد علم مما تقرر أن ﴿ والذي ﴾ معطوف على ﴿ ما ﴾ وإنما أخروا ذكر الباري تعالى ؛ لأنه من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، وقيل : الواو قسم والموصول مقسم به وجواب القسم محذوف، أي : وحق الذي فطرنا لا نؤثرك على الحق، ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، وعلموا أن ما يفعله بهم هو بإذن الله تعالى قالوا له :﴿ فاقض ﴾ أي : فاصنع في حكمك الذي تمضيه ﴿ ما أنت قاض ﴾ أي : فاقض الذي أنت قاضيه، ثم عللوا ذلك بقولهم :﴿ إنما تقضي ﴾ أي : تصنع بنا ما تريد إن قدّرك الله عليه ﴿ هذه الحياة الدنيا ﴾ النصب على الاتساع أي : إنما حكمك فيها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقبها راحة، ونحن لا نخاف إلا ممن يحكم على الروح، وإن فني الجسد فذاك هو العذاب الشديد الدائم.
ثم عللوا تعظيم الله تعالى، واستهانتهم بفرعون بقولهم :﴿ إنا آمنا بربنا ﴾ أي : المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره ﴿ ليغفر لنا ﴾ من غير نفع يلحقه بالفعل، أو ضرر يدركه بالترك ﴿ خطايانا ﴾ التي قابلنا بها إحسانه، ثم خصوا بعد العموم فقالوا :﴿ وما أكرهتنا عليه ﴾ وبينوا ذلك بقولهم :﴿ من السحر ﴾ لنعارض المعجزة، فإنه كان الأكمل لنا عصيانك فيه ؛ لأن الله تعالى أحق بأن يتقى.
فإن قيل : كيف قالوا ذلك وقد جاؤوا مختارين يحلفون بعزة فرعون آن لهم الغلبة ؟ أجيب : بأنه قد روي أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين اثنان من القبط والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً، وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون : إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا نقدر على معارضته، فأبى عليهم، وأكرههم على المعارضة.
وقيل : إنَّ الملوك في ذلك الزمان كانوا يأخذون البعض من رعيتهم، ويكلفونه تعلم السحر، فإذا شاخ بعثوا إليه أحداثاً ليعلمهم ليكون في كل وقت من يحسنه. ولما كان التقدير فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة عطفوا عليه مستحضرين لكماله ﴿ والله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ خير ﴾ جزاء منك فيما وعدتنا به ﴿ وأبقى ﴾ ثواباً وعقاباً قال أبو حيان : والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى :﴿ ومن اتبعكما الغالبون ﴾ [ القصص، ٣٥ ]، وقال الرازي : ليس في القرآن أنَّ فرعون فعل بأولئك القوم المؤمنين ما أوعدهم، ولم يثبت في الأخبار، وقال البقاعي : سيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم،
ثم عللوا هذا الحكم بقولهم :﴿ إنه ﴾ أي : الأمر والشأن ﴿ من يأت ربه ﴾ أي : الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه ﴿ مجرماً ﴾ بأن يموت على كفره ﴿ فإن له جهنم ﴾ دار الإهانة ﴿ لا يموت فيها ﴾ فيستريح من عذابها بخلاف عذابك، فإن آخره الموت وإن طال ﴿ ولا يحيى ﴾ فيها حياة مهنأة، وبها يندفع ما قيل : إن الجسم الحيِّ لا بد أن يبقى إمَّا حياً أو ميِّتاً، فخلوه عن الوصفين محال، وقال بعضهم : إن لنا حالة ثالثة، وهي كحالة المذبوح قبل أن يهدأ، فلا هو حي لأنه قد ذبح ذبحاً لا تبقى الحياة معه، ولا هو ميت ؛ لأن الروح لم تفارقه بعد، فهي حالة ثالثة.
﴿ ومن يأته ﴾ أي : ربه الذي قد أوجده ورباه ﴿ مؤمناً ﴾ أي : مصدقاً به ﴿ قد ﴾ ضم إلى تصديق الإيمان أنه ﴿ عمل ﴾ أي : في الدنيا الصالحات أي : التي أمر بها، فكان صادق الإيمان مستلزماً لصالح الأعمال ﴿ فأولئك ﴾ أي : العالوا الرتبة ﴿ لهم الدرجات العلى ﴾ جمع علياء مؤنث أعلى التي لا نسبة لدرجاتك التي أوعدتناها إليها،
ثم بينوها بقولهم :﴿ جنات عدن ﴾ أي : أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها ﴿ تجري من تحتها الأنهار ﴾ أي : من تحت غرفها وأسرتها وأرضها، فلا يراد موضع منها ؛ لأن يجري فيه نهر الأجرى، وقولهم :﴿ خالدين فيها ﴾ حال والعامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار ﴿ وذلك جزاء ﴾ كل ﴿ من تزكى ﴾ أي : تطهر من أدناس الكفر.
تنبيه : هذه الآيات الثلاث وهي من قوله أنه من يأت ربه مجرماً إلى هنا يحتمل أن تكون من كلام السحرة كما تقرر، وأن تكون ابتداء كلام من الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي ﴾ عطف على قوله :﴿ ولقد أريناه آياتنا ﴾ [ طه، ٥٦ ]
وفيه دليل على أن موسى عليه السلام كثر مستجيبوه، فأراد الله تعالى تمييزهم من طبقة فرعون وخلاصهم، فأوحى إليه أن يسري بهم ليلاً، والسري اسم لسير الليل، والإسراء مثله، والحكمة في السري بهم لئلا يشاهدهم العدو فيمنعهم عن مرادهم، أو ليكون ذلك عائقاً لفرعون عن طلبه وتتبعه، أو ليكون إذا تقارب العسكر أن لا يرى عسكر موسى عليه الصلاة والسلام عسكر فرعون لعنه الله فلا يهابونهم.
وقرأ نافع وابن كثير بكسر النون وهمزة وصل بعدها من سرى، والباقون بسكون النون، وهمزة قطع بعدها من أسرى لغتان أي أسر ببني إسرائيل من أرض مصر التي لينت قلب فرعون لهم حتى أذن لهم في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم، أو يكف عنهم العذاب فأقصد بهم ناحية بحر القلزم ﴿ فاضرب ﴾ أي : اجعل ﴿ لهم ﴾ بالضرب بعصاك ﴿ طريقاً في البحر ﴾ والمراد بالطريق الجنس، فإنه كان لكل سبط طريق، وقوله ﴿ يبساً ﴾ صفة لطريق وصف به لما يؤول إليه ؛ لأنه لم يكن يبساً إلا بعد أن مرت عليه الصبا، فجففته كما روي، وقيل في الأصل مصدر وصف به مبالغة، وقيل : جمع يابس كخادم وخدم وصف به الواحد مبالغة، فلما امتثل ما أمر به، وأيبس الله تعالى له الأرض، وأراد المرور بها قال الله تعالى له :﴿ لا تخاف دركاً ﴾ أي : أن يدركك فرعون ﴿ ولا تخشى ﴾ غرقاً وقرأ حمزة بجزم الفاء ولا ألف بينها وبين الخاء على أن يكون نهياً مستأنفاً، والباقون برفع الفاء، وألف بينهما وبين الخاء على أنه مستأنف، فلا محل له من الإعراب، أو أنه في محل نصب على الحال من فاعل اضرب، أي : اضرب غير خائف.
﴿ فاتبعهم فرعون بجنوده ﴾ أي : وهو معهم على كثرتهم وعلوّهم، وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه، والمتبوع بنو إسرائيل، وذلك أن موسى خرج بهم أول الليل، فأخبر فرعون بذلك، فقص أثرهم، والمعنى : فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده، فحذف المفعول الثاني، وقيل : إن الباء زائدة ﴿ فغشيهم ﴾ أي : فرعون وقومه ﴿ من اليم ﴾ أي : البحر ﴿ ما غشيهم ﴾ أي : أمر لا تحتمل العقول وصفه، فأهلكهم، وقطع دابرهم، ولم يبق منهم أحداً وما شاك أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة.
﴿ وأضل فرعون قومه ﴾ أي : بدعائهم إلى عبادته ﴿ وما هدى ﴾ أي : ما أرشدهم، وهذا تكذيب لفرعون وتهكم به في قوله :﴿ وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ﴾ [ غافر، ٢٩ ].
تنبيه : لا بأس بذكر شيء من هذه القصة، فنقول : قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أمر الله تعالى موسى أن يقطع بقومه البحر، وكان بنو إسرائيل استعاروا من قوم فرعون الحلي والدوابّ لعيد يخرجون إليه، فخرج بهم ليلاً، وكان يوسف عليه الصلاة والسلام عهد إليهم عند موته أن يخرجوا بعظامه معهم من مصر، فلم يعرفوا مكانها حتى دلتهم عجوز على موضع العظم، فأخذوه، وقال موسى عليه السلام للعجوز : احتكمي، أي : انظري لك شيئاً اطلبيه، فقالت : أكون معك في الجنة، فلما خرجوا تبعهم فرعون وعلى مقدمته ألف ألف وخمسمائة ألف سوى الجنبين والقلب، فلما انتهى موسى إلى البحر قال : هنا أمرت، فأوحى الله تعالى إليه أن ﴿ اضرب بعصاك البحر ﴾ فضربه فانفلق، فقال لهم موسى : ادخلوا فيه، فقالوا : كيف وهي رطبة ؟ فدعا ربه فهبت عليها الصبا، فجفت، فقالوا : نخاف الغرق في بعضنا، فجعل بينهم كوى يرى بعضهم بعضاً، ثم دخلوا حتى جاوزوا البحر، وأقبل فرعون إلى تلك الطرق، فقال له قومه : إن موسى قد سحر البحر كما ترى، وكان على فرس حصان، فأقبل جبريل عليه السلام على فرس أنثى في ثلاثة وثلاثين من الملائكة، فسار جبريل بين يدي فرعون، فأبصر الحصان الفرس، فاقتحم بفرعون على أثرها، فصاحت الملائكة في الناس : الحقوا حتى إذا لحق آخرهم، وكاد أوّلهم أن يخرج التقى البحر عليهم، فغرقوا، فرجع بنو إسرائيل حتى ينظروا إليهم، وقالوا : يا موسى ادع الله يخرجهم لنا حتى ننظر إليهم، فلفظهم البحر إلى الساحل، وأصابوا من سلاحهم، وذكر ابن عباس أن جبريل قال : يا محمد لو رأيتني وأنا أدس في في فرعون الماء والطين مخافة أن يتوب، فهذا معنى قوله تعالى :﴿ فغشيهم من اليم ما غشيهم ﴾.
ولما أنعم الله تعالى على قوم موسى عليه السلام بأنواع النعم ذكر أولادهم تلك النعم، فناداهم بقوله تعالى :﴿ يا بني إسرائيل ﴾ والمنادى من وجد من اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وخوطبوا بما أنعم به على أجدادهم زمن موسى عليه السلام، ولا شك أن إزالة الضرر يجب تقديمها على إيصال المنفعة، وإيصال المنفعة الدينية أعظم من إيصال المنفعة الدنيوية، فلهذا بدأ تعالى بإزالة الضرر بقوله :﴿ قد أنجيناكم من عدوكم ﴾، فإنّ فرعون كان ينزل بهم من أنواع الظلم كثيراً من القتل والإذلال والخراج والأعمال الشاقة، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله تعالى :﴿ وواعدناكم جانب الطور الأيمن ﴾ أي : الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر، وناحية مكة واليمن، ووجه المنفعة فيه أنه أنزل في ذلك القرب عليهم كتاباً فيه بيان دينهم، وشرح شريعتهم.
ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله :﴿ ونزلنا عليكم ﴾ بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم ﴿ المنِّ ﴾ أي : الترنجبين ﴿ والسلوى ﴾ أي : الطير السماني بتخفيف الميم والقصر.
وقوله تعالى :﴿ كلوا من طيبات ما رزقناكم ﴾ أمر إباحة أن فسر الطيب باللذيذ ؛ لأن المن والسلوى من لذائذ الأطعمة، وإن فسر بالحلال ؛ لأن الله تعالى أنزله إليهم، ولم تمسه يد الآدميين، فهو أمر إيجاب، وقرأ حمزة والكسائي ﴿ قد أنجيناكم ﴾ ﴿ ووعدناكم ﴾ ﴿ ما رزقناكم ﴾ بتاء مضمومة بعد التحتية من أنجينا، وبعد الدال من وعدنا، وبعد القاف من رزقنا، ولا ألف في الثلاثة، والباقون بالنون، وألف بعدها في الثلاثة، وأسقط أبو عمرو الألف قبل العين من وعدنا، وأثبتها الباقون، ثم زجرهم عن العصيان بقوله تعالى :﴿ ولا تطغوا فيه ﴾ أي : فيما رزقناكم بالإخلال بشكره، والتعدي بما حد الله لكم فيه من السرف والبطر والمنع عن المستحقين، وقرأ الكسائي ﴿ فيحل ﴾ بضم الحاء، أي : ينزل، والباقون بكسرها، أي : يجب ﴿ عليكم غضبي ﴾ أي : عقوبتي ﴿ ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى ﴾ أي : هلك، وقيل : شقي، وقيل : وقع في الهاوية، وقرأ الكسائي بضم اللام الأولى، وكسرها الباقون،
ولما كان الإنسان محل الزلل، وإن اجتهد رجاه واستعطفه بقوله سبحانه :﴿ وإني لغفار ﴾ أي : ستار بإسبال ذيل العفو ﴿ لمن تاب ﴾ أي : رجع عن ذنوبه من الشرك، وما يقاربه ﴿ وآمن ﴾ بكل ما يجب الإيمان به ﴿ وعمل صالحاً ﴾ تصديقاً لإيمانه ﴿ ثم اهتدى ﴾ باستمراره على ذلك إلى موته.
فائدة : اعلم أنه تعالى وصف نفسه بكونه غافراً وغفوراً وغفاراً، وبأن له غفراناً ومغفرة، وعبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل والأمر، أمَّا وصف كونه غافراً، فقوله تعالى ﴿ غافر الذنب ﴾ [ غافر، ٣ ] وأما كونه غفوراً، فقوله تعالى :﴿ وربك الغفور ﴾ [ الكهف، ٥٨ ]، وأما كونه غفاراً، فقوله تعالى :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن ﴾، وأما الغفران، فقوله تعالى :﴿ غفرانك ربنا ﴾ [ البقرة، ٢٨٥ ]، وأما المغفرة، فقوله تعالى :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس ﴾ [ الرعد، ٦ ]، وأما صيغة الماضي فقوله تعالى في حق داوود :﴿ فغفرنا له ﴾ [ ص، ٢٥ ]، وأما صيغة المستقبل فقوله تعالى :﴿ ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴾ [ النساء، ٤٨ ]، وقوله تعالى :﴿ إن الله يغفر الذنوب جميعا ﴾ [ الزمر، ٥٣ ] وقوله تعالى في حق نبينا صلى الله عليه وسلم :﴿ ليغفر لك الله ما تقدّم من ذنبك وما تأخر ﴾ [ الفتح، ٢ ]، وأما لفظ الاستغفار، فقوله تعالى :﴿ استغفروا ربكم ﴾ [ هود، ٣ ]، ﴿ ويستغفرون لمن في الأرض ﴾ [ الشورى، ٥ ] ﴿ ويستغفرون للذين آمنوا ﴾ [ غافر، ٧ ] وهاهنا نكتة لطيفة وهي أن العبد له أسماء ثلاثة ؛ الظالم والظلوم والظلام إذا كثر منه الظلم، ولله تعالى في مقابلة كل واحد من هذه الأسماء اسم، فكأنه تعالى قال : إن كنت ظالماً فأنا غافر، وإن كنت ظلوماً فأنا غفور، وإن كنت ظلاماً فأنا غفار، فيجب على كل من ارتكب معصية كبيرة أو صغيرة أن يتوب منها لهذه الآية، ودلت على أن العمل الصالح غير داخل في الإيمان ؛ لأنه تعالى عطف العمل الصالح على الإيمان والمعطوف غاير المعطوف عليه.
ولما أمر تعالى موسى عليه السلام بحضور الميقات مع قوم مخصوصين قال المفسرون : هم السبعون الذين اختارهم الله تعالى من جملة بني إسرائيل ليذهبوا معه إلى الطور ليأخذوا التوراة، فسار بهم موسى، ثم عجل موسى عليه السلام من بينهم شوقاً إلى ربه وخلف السبعين، وأمرهم أن يتبعوه إلى الجبل، فقال تعالى له :﴿ وما أعجلك عن قومك ﴾ أي : لمجيء ميعاد أخذ التوراة ﴿ يا موسى ﴾.
﴿ قال ﴾ مجيباً لربه تعالى :﴿ هم أولاء ﴾ أي : بالقرب مني يأتون ﴿ على أثري ﴾ أي : ماشين على آثار مشي قبل أن ينطمس، وما تقدمتهم إلا بخطى يسيرة لا يعتد بها عادة، وليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة يتقدم بها الرفقة بعضهم على بعض ﴿ وعجلت إليك رب لترضى ﴾ أي : لتزداد عني رضاً، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك.
تنبيه : في الآية سؤالات :
الأول : قوله تعالى :﴿ وما أعجلك ﴾ استفهام، وهو على الله تعالى وأجيب عنه : بأنه كان في صورة الاستفهام، ولا مانع منه.
الثاني : أن موسى عليه السلام لا يخلو إما أن يكون ممنوعاً من ذلك التقدم، أو لم يكن، فإن كان الأول كان التقدم معصية، وإن لم يكن فلا إنكار، وأجيب عنه : بأنه عليه السلام لعله ما وجد نصاً في ذلك، فاجتهد، فأخطأ في اجتهاده، فاستوجب العتاب.
الثالث : قوله :﴿ وعجلت ﴾، والعجلة مذمومة، أجيب عنه بأنها ممدوحة في الدين قال تعالى :﴿ وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ﴾ [ آل عمران، ١٣٣ ].
الرابع : قوله :﴿ لترضى ﴾ يدل على أنه إنما فعل ذلك ليحصل الرضا، وإذا لم يكن راضياً عنه، وجب أن يكون ساخطاً عليه، وذلك لا يليق بحال الأنبياء عليهم السلام، أجيب عنه : بأن المراد تحصيل دوام الرضا، أو زيادته كما مرَّ.
الخامس : قوله :﴿ إليك ﴾ يقتضي كون الله تعالى في جهة لأن إلى لانتهاء الغاية، وأجيب عنه : بأنا اتفقنا على أن الله تعالى لم يكن في الجبل، فالمراد مكان وعدك.
السادس : قوله تعالى :﴿ ما أعجلك عن قومك ﴾ سؤال عن سبب العجلة، فكان جوابه اللائق به أن يقول : طلب زيادة رضاك، أو التشوق إلى كلامك، وأما قوله :﴿ هم أولاء على أثري ﴾ فغير منطبق عليه كما ترى ؛ أجيب عنه بأن سؤال الله تعالى يتضمن شيئين ؛ أحدهما : إنكار نفس العجلة، والثاني : السؤال عن سبب التقدم، فأجاب عن السؤال عن العجلة ؛ لأنها أهم، فقال : وعجلت إليك رب لترضى.
﴿ قال ﴾ تعالى :﴿ فإنا ﴾ أي : تسبب عن عجلتك عنهم أنا ﴿ قد فتنا ﴾ أي : ابتلينا ﴿ قومك من بعدك ﴾ أي : بعد فراقك لهم بعبادة العجل، وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ستمائة ألف، وما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفاً ﴿ وأضلهم السامري ﴾ باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته، فأطاعه بعضهم، وامتنع بعضهم، والسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لهم السامرة، وقيل : كان علجاً من أهل كرمان وقع إلى مصر، وقيل : كان من قوم يعبدون البقر جبران لبني إسرائيل، ولم يكن منهم، واسمه موسى بن ظفر، وكان منافقاً.
﴿ فرجع موسى ﴾ لما أخبره ربه بذلك ﴿ إلى قومه ﴾ بعدما استوفى الأربعين ذا القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، وأخذ التوراة ﴿ غضبان ﴾ عليهم ﴿ أسفاً ﴾ أي : حزينا بما فعلوا ﴿ قال ﴾ أي : لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم :﴿ يا قوم ﴾ وأنكر عليهم بقوله :﴿ ألم يعدكم ربكم ﴾ أي : الذي أحسن إليكم ﴿ وعداً حسناً ﴾ أي : بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم إلى غير ذلك من إكرامه، ولما جرت العادة بأنّ طول الزمان ناقض للعزائم مغير للعهود كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري :
لا أنسينك طال الزمان بنا وكم حبيب تمادى عهده فنسى
قال لهم :﴿ أفطال عليكم العهد ﴾ أي : زمن لطف الله تعالى بكم، فتغيرتم عما فارقتكم عليه كما تغير أهل الرذائل والانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر ﴿ أم أردتم ﴾ أي : بالنقض مع قرب العهد، وذكر الميثاق ﴿ أن يحل ﴾ أي يجب ﴿ عليكم ﴾ بسبب عبادة العجل ﴿ غضب من ربكم ﴾ المحسن إليكم، أي : وكلا الأمرين لم يكن أما الأول فواضح، وأما الثاني : فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول : فعلتم ما لا يفعله عاقل ﴿ فأخلفتم ﴾ أي : فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم ﴿ موعدي ﴾ أي : وعدكم إياي بالثبات على الإيمان بالله، والقيام على ما أمركم به،
ولما تشوق السامع إلى جوابهم استأنف ذكره، فقال :﴿ قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ﴾ أي : بأن ملكنا أمرنا إذ لو خلينا، وأمرنا ولم يسوِّل لنا السامري لما أخلفناه، واختلف في هذا المجيب على وجهين :
الأول : هم الذين لم يعبدوا العجل، فكأنهم قالوا : ما أخلفنا موعدك بملكنا أي : بأمر كنا نملكه، وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه كقوله تعالى :﴿ وإذ فرقنا بكم البحر ﴾ [ البقرة، ٥٠ ]، ﴿ وإذ قتلتم نفساً ﴾ [ البقرة، ٧٢ ]، وإن كان الفاعل لذلك آباءهم لا هم، فكأنهم قالوا : الشبهة قويت على عبدة العجل، فلم نقدر على منعهم عنه، ولم نقدر أيضاً على مفارقتهم لأنا خفنا أن يصير ذلك سبباً لوقوع النفرة، وزيادة الفتنة.
الثاني : أن هذا قول عبدة العجل، والمراد أن غيرنا أوقع الشبهة في قلوبنا، وفاعل السبب فاعل المسبب، فمخلف الوعد هو الذي أوقع الشبهة، فإنه كان كالمالك لنا فإن قيل : كيف كان رجوع قريب من ستمائة ألف إنسان من العقلاء المكلفين عن الدين الحق دفعة واحدة إلى عبادة عجل يعرف فسادها بالضرورة ؟ أجيب : بأنَّ هذا غير ممتنع في حق البله من الناس وقرأ عاصم ونافع بفتح الميم، وحمزة والكسائي بضمها، والباقون بكسرها، وثلاثتها في الأصل لغات في مصدر ملكت الشيء، ثم إن القوم فسروا الضرر الحامل لهم على ذلك الفعل، فقالوا :﴿ ولكنا حملنا ﴾ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بضم الحاء وكسر الميم مشددة، وأبو عمرو، وشعبة وحمزة والكسائي بفتح الحاء والميم مخففة ﴿ أوزاراً ﴾ أي : أثقالاً ﴿ من زينة القوم ﴾ أي : حلي قوم فرعون استعارها منهم بنو إسرائيل بسبب عرس، وقيل : استعاروها لعيد كان لهم، ثم لم يردوها عند الخروج مخافة أن يعلموا به، وقيل : هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم، فأخذوه، قال البيضاوي : ولعلهم سموها أوزاراً لأنها آثام فإن الغنائم لم تكن تحل بعد، ولأنهم كانوا مستأمنين، وليس للمستأمن أن يأخذ من مال الحربي ﴿ فقذفناها ﴾ أي : في النار ﴿ فكذلك ألقى السامري ﴾ أي : ما كان معه إما من المال أو من أثر الرسول، روي أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه، وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض، فقال له ربه : أو ما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك، ارجع فصم عشراً، وقيل : إنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة، وحسبوها أربعين بأيامها، وقالوا : قد كملت العدة، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عوار، فاحفروا حفرة وألقوها فيها، ثم أوقدوا عليها ناراً، فلا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري قد رأى أثراً، فقبض منه قبضة، فمر بهارون فقال له : يا سامري ألا تلقي ما في يدك، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها على شيء إلا أن تدعوا الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون فقال : أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما في الحفرة وصار عجلاً، فهذا معنى قوله تعالى :﴿ فأخرج لهم عجلاً جسداً ﴾.
﴿ فأخرج لهم عجلاً جسداً ﴾ من ذلك الحلي المذاب به جوف ليس فيه روح ﴿ له خوار ﴾ أي : صوت يسمع ؛ قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط، وإنما كان الريح يدخل في دبره، فيخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، وقيل : إنه صاغه، ووضع التراب بعد صوغه في فمه ﴿ فقالوا ﴾ : أي السامري : ومن افتتن به أول ما رأوه مشيرين إلى العجل ﴿ هذا إلهكم وإله موسى فنسي ﴾ أي : فنسيه موسى، وذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري، أي : ترك ما كان عليه من الإيمان.
﴿ أفلا يرون ﴾ أي : قالوا ذلك فتسبب عن قولهم علمهم عن روية ﴿ أن ﴾ أي : أنه ﴿ لا يرجع إليهم قولاً ﴾ والإله لا يكون أبكم ﴿ ولا يملك لهم ضراً ﴾ فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون، فيقولون ذلك خوفاً من ضرره ﴿ ولا نفعاً ﴾ فيقولون ذلك رجاءً له.
﴿ ولقد قال لهم هارون من قبل ﴾ أي : قبل رجوع موسى مستعطفاً لهم ﴿ يا قوم إنما فتنتم ﴾ أي : وقع اختياركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه، وثباتكم عليه ﴿ به ﴾ أي : بهذا العجل في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة، وأكد لأجل إنكارهم، فقال :﴿ وإن ربكم ﴾ أي : الذي أخرجكم من العدم، ورباكم بالإحسان ﴿ الرحمن ﴾ وحده الذي فضله عامّ ونعمه شاملة، فليس على بر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه تعالى قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده، ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وأرجوا إسباغها بطاعته ﴿ فاتبعوني ﴾ بغاية جهدكم في الرجوع إليه ﴿ وأطيعوا أمري ﴾ أي : في الثبات على الدين.
﴿ قالوا لن نبرح عليه ﴾ أي : العجل ﴿ عاكفين ﴾ أي : مقيمين ﴿ حتى يرجع إلينا موسى ﴾ فدافعهم فهموا به، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكفار، فلا يفيد ذلك شيئاً مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل، وإنما قال له :﴿ وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ [ الأعراف، ١٤٢ ]، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي.
تنبيه : إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق ؛ أما شفقته على نفسه، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان مأموراً من عند أخيه بقوله :﴿ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ [ الأعراف، ١٤٢ ]، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى، ولأمر موسى، وذلك لا يجوز. أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم، ومائتي ألف من شرارهم، فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار ؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين، فليس منهم » وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم :«مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد » وعن عبد الله بن أبي أوفى قال :«خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر عنده، فجاء صغير يبكي، فقال لعمر : ضم الصبي إليك، فإنه ضال، فأخذه عمر، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعاً على ابنها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدرك المرأة، فنادها، فجاءت، وأخذت ولدها، وجعلت تبكي والصبي في حجرها، فالتفتت، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : أترون هذه رحيمة بولدها ؟ قالوا : يا رسول الله كفى بهذه رحمة، فقال : والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها » ولقد سلك هارون في موعظته أحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله :﴿ إنما فتنتم به ﴾، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله :﴿ وإن ربكم الرحمن ﴾، ثم دعاهم ثالثاً إلى النبوة بقوله :﴿ فاتبعوني ﴾، ثم دعاهم رابعاً بقوله : وأطيعوا أمري، وهذا هو الترتيب الجيد ؛ لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات، ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل، ثم النبوة، ثم الشريعة، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً.
ولما ذكر الله تعالى ما قال هارون تشوقت النفس إلى علم ما قال موسى فقيل :﴿ قال يا هارون ﴾ أنت نبي الله، وأخي ووزيري وخليفتي، فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه ﴿ ما منعك إذ ﴾ أي : حين ﴿ رأيتهم ضلوا ﴾ عن طريق الهدى واتبعوا سبيل الردى.
﴿ أن لا تتبعني ﴾ في سيرتي من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً.
تنبيه : لا مزيدة للتأكيد ؛ لأن النافي إذا زيد في كلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضمون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد، وأثبت الياء بعد النون ابن كثير وقفاً ووصلاً، وأثبتها نافع، وأبو عمرو وصلاً لا وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً ﴿ أفعصيت ﴾ أي : فتكبرت عن اتباعي، فتسبب عن ذلك أنك عصيت ﴿ أمري ﴾ وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى،
فكأنه قيل : ما قال له ؟ فقال :﴿ قال ﴾ مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة ﴿ يا ابن أمّ ﴾ فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه ؛ لأنها يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب، وقرأ نافع وابن كثير، وأبو عمرو وحفص بفتح الميم، وكسرها ابن عامر وشعبة وحمزة والكسائي ﴿ لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي ﴾ أي : بشعرهما. ثم علل ذلك بقوله :﴿ إني خشيت أن تقول ﴾ إذا شددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال ﴿ فرقت بين بني إسرائيل ﴾ يفعلك هذا الذي لم يجسد شيئاً لقلة من كان معك وضعفك عن ردهم ﴿ ولم ترقب قولي ﴾ ﴿ اخلفني في قومي، وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ﴾ [ الأعراف، ١٤٢ ]، ولم تقل : وارددهم، ولو أدى الأمر إلى السيف.
ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه، وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله :﴿ قال ﴾ أي موسى لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه ﴿ فما خطبك ﴾ ؟ أي : أمرك هذا العجب العظيم الذي حملك على ما صنعت، وأخبرني ربي أنك أضللتهم به ﴿ يا سامري ﴾.
﴿ قال ﴾ السامري : مجيباً له ﴿ بصرت ﴾ من البصر والبصيرة ﴿ بما لم يبصروا به ﴾ أي : رأيت ما لم ير بنو إسرائيل، وعرفت ما لم يعرفوا، وقال ابن عباس : علمت ما لم يعلموا، ومنه قولهم : رجل بصير، أي : عالم قاله أبو عبيدة وأراد أنه رأى جبريل عليه السلام، فأخذ من موضع حافر دابته قبضة من تراب كما قال :﴿ فقبضت ﴾ أي : فكان ذلك سبباً ؛ لأن قبضت ﴿ قبضة ﴾ أي : مرة من القبض أطلقها على المقبوض تشبيهاً للمفعول بالمصدر ﴿ من أثر ﴾ فرس ذلك ﴿ الرسول ﴾ أي : المعهود ﴿ فنبذتها ﴾ أي : في الحلي الملقى في النار، أو في العجل ﴿ وكذلك ﴾ أي : وكما سولت لي نفسي أخذ أثره ﴿ سوَّلت ﴾ أي : حسنت وزينت ﴿ لي نفسي ﴾ نبذها في الحلي، فنبذتها، وكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع، ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
تنبيه : كون المراد بالرسول جبريل عليه السلام هو ما عليه عامة المفسرين، وأراد بأثره التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته لما رآه يوم فلق البحر، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن جبريل عليه السلام لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس، واختلفوا في أنه كيف اختص السامري برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته من بين الناس، فقال ابن عباس في رواية الكلبي : إنما عرفه لأنه رباه في صغره، وحفظه من القتل حين أمر فرعون بذبح أولاد بني إسرائيل، فكانت المرأة إذا ولدت طرحت ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون، فتأخذ الملائكة الولدان ويربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس، فكان السامري ممن أخذه جبريل، وجعل كف نفسه في فيه، وارتضع منه العسل واللبن، فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه، فلما رآه عرفه ؛ قال ابن جريح : فعلى هذا قوله :﴿ بصرت بما لم يبصروا به ﴾ يعني : رأيت ما لم يروه.
ومن فسر الإبصار بالعلم، فهو صحيح، ويكون المعنى : علمت أن تراب فرس جبريل عليه السلام له خاصية الإحياء ؛ قال أبو مسلم ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون، فهاهنا وجه آخر، وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل : إن فلاناً يقفوا أثر فلان، ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل، قال : بصرت بما لم يبصروا به ؛ أي : عرفت أن الذي أنت عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول ؛ أي : شيئاً من دينك، فقذفته ؛ أي : طرحته، فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة، وإنما أورد لفظ الإخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا، أو بماذا يأمر الأمير، وأما ادعاؤه أن موسى رسول مع جحده وكفره.
فعلى مذهب من حكى الله فيه قوله :﴿ يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون ﴾ [ الحجر، ٦ ]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قال الرازي : وهذا القول الذي ذكره أبو مسلم ليس فيه إلا أنه مخالف للمفسرين، ولكنه أقرب إلى التحقيق لوجوه :
أحدها : أنَّ جبريل عليه السلام ليس معهود باسم الرسول، ولم يجرِ له فيما تقدم ذكر حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه، فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل كأنه تكليف بعلم الغيب.
وثانيها : أنه لا بد فيه من الإضمار، وهو قبضة من أثر حافر دابة الرسول، والإضمار خلاف الأصل. r
وثالثها : أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل ومعرفته، وكيف عرف أن تراب حافر فرسه له هذا الأثر، والذي ذكروه من أن جبريل هو الذي رباه فبعيد ؛ لأن السامري إن عرف أنه جبريل حال كمال عقله عرف قطعاً أن موسى نبّي صادق، فكيف يحاول الإضلال، وإن كان ما عرفه حال البلوغ، فأنى ينفعه كون جبريل مر بباله حال الطفولية في حصول تلك المعرفة.
ثم إن موسى لما سمع من السامري ما ذكر ﴿ قال ﴾ له ﴿ فاذهب ﴾ أي : فتسبب عن فعلك أن أقول لك : اذهب من بيننا، وحيث ذهبت ﴿ فإن لك في الحياة ﴾ أي : ما دمت حياً ﴿ أن تقول ﴾ لكل من رأيته ﴿ لا مساس ﴾ أي : لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك، فكان يهيم في البرية مع الوحوش والسباع، وإذا مس أحداً أو مسه أحد حما جميعاً عاقبه الله تعالى بذلك، وكان إذا لقي أحداً يقول لا مساس ؛ أي : لا تقربني ولا تمسني، وقال ابن عباس لا مساس لك ولولدك حتى أن بقاياهم اليوم يقولون ذلك، وإذا مس أحد من غيرهم أحداً منهم حما جميعاً في ذلك الوقت ﴿ وإن لك ﴾ بعد الممات ﴿ موعداً ﴾ للثواب إن تبت، والعقاب إن أبيت ﴿ لن تخلقه ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام أي : لن تغيب عنه، والباقون بفتحها أي : بل تبعث إليه، فلا انفكاك لك عنه كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو. ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين أتبعه عجز العجل، فقال :﴿ وانظر إلى إلهك ﴾ أي : بزعمك ﴿ الذي ظلت ﴾ أي : دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف، فإن أصله ظللت بلامين أولاهما مكسورة حذفت تخفيفاً ﴿ عليه عاكفاً ﴾ أي : مقيماً تعبده ﴿ لنحرّقنّه ﴾ أي : بالنار وبالمبرد قال البقاعي : كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان، فهان على المبارد انتهى، ﴿ ثم لننسفنه ﴾ أي : لنذرينه إذا صار سحالة ﴿ في اليمّ ﴾ أي : في البحر الذي أغرق الله تعالى فيه آل فرعون، ثم يجمع الله تعالى سحالته التي هي من حليهم، فيحميها في نار جهنم، ويكويهم بها، ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله تعالى الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد، فقال :﴿ نسفاً ﴾ قال الجلال المحلي، وفعل موسى عليه السلام بعد ذبحه ما ذكره انتهى، وعلى هذا لا يصح أن يبرد بالمبرد ؛ قال الرازي : ويمكن أن يقال صار لحماً ودماً، وذبح ثم بردت عظامه بالمبرد حتى صارت بحيث يمكن نسفها.
ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان أخبرهم بالحق على وجه الحصر، فقال :﴿ إنما إلهكم الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال، ثم كشف المراد من ذلك، وحققه بقوله :﴿ الذي لا إله إلا هو ﴾ أي : لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره ؛ لأنه ﴿ وسع كل شيء ﴾ وقوله :﴿ علماً ﴾ تمييز محمول على الفاعل، أي : أحاط علمه بكل شيء، فكل شيء إليه مفتقر، وهو غني عن كل شيء، وأما العجل الذي عبدوه، فلا يصلح للإلهية بوجه، ولا في عبادته شيء من حق، ولما شرح الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون أولاً، ثم مع السامري ثانياً على هذا الأسلوب الأعظم والسبيل الأقوم
كأنه قيل : هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع، والمثال الرفيع، فقيل : نعم ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا القص العالي في هذا النظم العزيز الغالي كقصة موسى ومن ذكر معه ﴿ نقص عليك من أنباء ﴾ أي : أخبار ﴿ ما قد سبق ﴾ من الأمم زيادة في علمك وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك بما اتفق للرسل من قبلك، وتكثيراً لبيناتك، وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة، وتتأكد الحجة على من عاند وكابر ﴿ وقد أتيناك ﴾ أي : أعطيناك تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك ﴿ من لدنا ﴾ أي : من عندنا ﴿ ذكراً ﴾ أي : كتاباً هو القرآن وفي تسمية القرآن بالذكر وجوه أحدها : أنه كتاب فيه ذكر ما يحتاج إليه الناس من أمر دينهم ودنياهم، وثانيها : أنه يذكر فيه أنواع آلاء الله ونعمائه، وفيه التذكير والموعظة، وثالثها : فيه الذكر والشرف لك ولقومك كما قال الله تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك ﴾ [ الزخرف، ٤٤ ] وسمى الله تعالى كل كتاب أنزله ذكراً فقال :﴿ فاسألوا أهل الذكر ﴾ [ النحل، ٤٣ ]، والتنكير فيه للتعظيم، فإنه مشتمل على أسرار كتب الله تعالى المنزلة.
﴿ من أعرض عنه ﴾ فلم يؤمن به ﴿ فإنه يحمل يوم القيامة وزراً ﴾ أي : حملاً ثقيلاً من الإثم.
﴿ خالدين فيه ﴾ أي : في عذاب الوزر ﴿ وساء ﴾ أي : وبئس ﴿ لهم ﴾ أي : ذلك الحمل ﴿ يوم القيامة ﴾ وقوله :﴿ حملاً ﴾ تمييز مفسر للضمير في ساء، والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم، واللام للبيان، ومن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة ويبدل من يوم القيامة.
﴿ يوم ينفخ في الصور ﴾ أي : القرن النفخة الثانية، وقرأ أبو عمرو بنونين الأولى مفتوحة، وضم الفاء على إسناد الفعل إلى الآمر به تعظيماً له، أو إلى النافخ، والباقون بياء مضمومة، وفتح الفاء ﴿ ونحشر المجرمين ﴾ أي : الكافرين ﴿ يومئذٍ زرقاً ﴾ أي : عيونهم مع سواد وجوههم ؛ لأن زرقة العيون أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب ؛ لأن الروم أعداؤهم، وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو : أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين، وقيل : المراد العمى ؛ لأن حدقة من يذهب نور بصره تزرق، وقيل : عطاشاً حال كونهم.
﴿ يتخافتون ﴾ أي : يخفضون أصواتهم ﴿ بينهم ﴾ لما يملأ صدورهم من الرعب والهول، والخفت خفض الصوت وإخفاؤه ﴿ إن ﴾ أي : يقول بعضهم لبعض ما ﴿ لبثتم ﴾ أي : مكثتم ﴿ إلا عشراً ﴾ أي : من الليالي بأيامها في الدنيا، وقيل : في القبور وقيل : بين النفختين، وهو مقدار أربعين سنة ؛ قالوا : ذلك إما استقصاراً لمدة الراحة في جنب ما بدا لهم من المخاوف ؛ لأن أيام السرور قصار، وإما لأنها ذهبت عنهم، وانقضت، والذاهب وإن طالت مدته قصيرة بالانتهاء، ومنه توقيع عبد الله بن المعتز أطال الله تعالى بقاءك كفى بالانتهاء قصراً، وإما لاستطالتهم الآخرة، فإنه يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة كما قال تعالى :﴿ كم لبثتم في الأرض عدد سنين ١١٢ قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فاسأل العادين ﴾ [ المؤمنين : ١١٢، ١١٣ ]، وإما غلطاً ودهشة قال الله تعالى :﴿ نحن أعلم ﴾.
﴿ نحن أعلم ﴾ أي : من كل أحد ﴿ بما يقولون ﴾ في ذلك اليوم أي : ليس كما قالوا :﴿ إذ يقول أمثلهم ﴾ أي : أعدلهم ﴿ طريقة ﴾ أي : رأياً أو عملاً في الدنيا فيما يحسبون ﴿ أن ﴾ أي : ما ﴿ لبثتم إلا يوماً ﴾ أي : مبدأ الآحاد لا مبدأ العقود كما قال تعالى في آية أخرى :﴿ يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون ﴾ [ الروم، ٥٥ ]، فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين ؛ لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه.
ولما وصف سبحانه وتعالى أمر يوم القيامة حكى سؤال من لا يؤمن بالحشر فقال تعالى :﴿ ويسألونك ﴾ يا أشرف الخلق ﴿ عن الجبال ﴾ كيف تكون يوم القيامة ؟ قال الضحاك : نزلت في مشركي مكة قالوا : يا محمد كيف تكون الجبال يوم القيامة، وكان سؤالهم على سبيل الاستهزاء، ولما كان مقصودهم من هذا السؤال الطعن في الحشر والنشر، فلا جرم أمره الله تعالى بالجواب مقروناً بحرف التعقيب بقوله :﴿ فقل ﴾ لهم ﴿ ينسفها ربي نسفاً ﴾ ؛ لأن تأخير البيان في هذه المسألة الأصولية غير جائز، وأما المسائل الفروعية فجائز فلذلك ذكر هناك في نحو قوله تعالى :﴿ يسألونك ماذا ينفقون قل العفو ﴾ [ البقرة، ٢١٩ ]، وقوله تعالى :﴿ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير ﴾ [ البقرة، ٢٢٠ ] بغير حرف التعقيب والنسف التذرية، وقيل : القلع الذي يقلعها من أصلها ويجعلها هباءً منثوراً ؛ قال الخليل : ينسفها يذهبها ويطيرها.
وفي ضمير ﴿ فيذرها ﴾ قولان أحدهما : أنه ضمير الأرض أضمرت للدلالة عليها كقوله تعالى :﴿ ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ فاطر، ٤٥ ]، والثاني : ضمير الجبال، وذلك على حذف مضاف أي : فيذر مراكزها ومقارها، ويذر يجوز أن يكون بمعنى يخليها، فيكون ﴿ قاعاً ﴾ حالاً وأن يكون بمعنى يترك التصييريه، فيتعدى لاثنين فقاعاً ثانيهما، والقاع هو المكان المستوي، وقيل : الأرض التي لا بناء فيها، ولا نبات، وفي قوله تعالى :﴿ صفصفاً ﴾ قولان أحدهما : الأرض الملساء، والثاني : المستوية، والقاع والصفصف قريبان من الترادف، وجمع القاع أقوع وأقواع وقيعان.
﴿ لا ترى فيها ﴾ أي : الأرض أو مواضع الجبال ﴿ عوجاً ﴾ أي : انخفاضاً ﴿ ولا أمتاً ﴾ أي : ارتفاعاً بوجه من الوجوه، وعبر هنا في العوج بالكسر، وهو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي توصف به الأعيان، فإن الأرض أو مواضع الجبال أعيان لا معان نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأرض لاتفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا بمقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك.
﴿ يومئذٍ ﴾ أي : يوم إذ نسفت الجبال ﴿ يتبعون ﴾ أي : الناس بعد القيام من القبور بغاية جهدهم ﴿ الداعي ﴾ أي : إلى المحشر، وهو إسرافيل يضع الصور على فيه ويقف على صخرة بيت المقدس ويقول : أيتها العظام البالية، والجلود الممزقة واللحوم المتفرقة هلموا إلى عرض الرحمن ﴿ لا عوج له ﴾ أي : الداعي في شيء من قصدهم إليه ؛ لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعويج، ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء، وقيل : لا عوج لدعائه، وهو من المقلوب، أي : لا عوج له عن دعاء الداعي لا يزيغون عنه يميناً ولا شمالاً، ولا يقدرون عليه، بل يتبعونه سراعاً ﴿ وخشعت الأصوات ﴾ أي : سكنت وذلت وتطامنت لخشوع أهلها ﴿ للرحمن ﴾ الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، وتخشى نقمه ﴿ فلا ﴾ أي : فتسبب عن خشوعها أنك لا ﴿ تسمع إلا همساً ﴾ أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل : أخفى شيء من أصوات الأقدام في نقلها إلى المحشر كصوت أخفاف الإبل في مشيها.
﴿ يومئذٍ ﴾ أي : إذا كان ما تقدم ﴿ لا تنفع الشفاعة ﴾ أحداً ﴿ إلا من أذن له الرحمن ﴾ أن يشفع له ﴿ ورضي له قولاً ﴾ ولو الإيمان المجرد قال ابن عباس : يعني قال : لا إله إلا الله، فهذا يدل على أنه لا يشفع لغير المؤمن،
ولما نفى أن تنفع شفاعة بغير إذنه علل ذلك كما سلف في آية الكرسي بقوله :﴿ يعلم ما بين أيديهم ﴾ أي : الخلائق من أمور الآخرة ﴿ وما خلفهم ﴾ من أمور الدنيا، وقيل : ما بين أيديهم ما قدموا وما خلفهم ما خلفوا من الأعمال ﴿ ولا يحيطون به علماً ﴾ أي : لا يحيط علمهم بمعلوماته، وقيل : الضمير إلى ﴿ ما ﴾ أي : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهم لا يعلمونه، وقيل : راجع إلى الله تعالى أي : ولا يحيطون بالله علماً.
ولما ذكر خشوع الأصوات أتبعه خضوع ذويها، فقال :﴿ وعنت الوجوه ﴾ أي : ذلت وخضعت في ذلك اليوم، ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره، وخص الوجوه بالذكر مع أن المراد الأشخاص لشرف الوجوه، ولأنها أول ما يظهر فيها الذل ﴿ للحي ﴾ الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل ﴿ القيوم ﴾ الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت ؛ روى ابن أسامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«اطلبوا اسم الله الأعظم في هذه السور الثلاث : البقرة وآل عمران، وطه »، قال الرازي : فوجدنا المشترك في السور الثلاث : الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم ﴿ وقد خاب ﴾ أي : خسر خسارة ظاهرة ﴿ من حمل ظلماً ﴾ قال ابن عباس : خسر من أشرك بالله، والظلم الشرك.
ولما شرح الله تعالى أحوال القيامة ختم الكلام فيها بشرح أحوال المؤمنين، فقال :﴿ ومن يعمل من الصالحات ﴾ أي : التي أمره الله تعالى بها بحسب طاقته ؛ لأنه لن يقدر الله أحد حق قدره، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ﴿ وهو مؤمن ﴾ ليكون بناؤها على الأساس كما في قوله تعالى :﴿ ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات ﴾ [ طه، ٧٥ ] ﴿ فلا يخاف ظلماً ﴾ أي : بزيادة في سيئاته ﴿ ولا هضماً ﴾ أي : بنقص من حسناته ؛ قاله ابن عباس، وقيل : لا يؤاخذ بذنب لم يعمله، ولا تبطل حسنة عملها، وعبّر تعالى بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال، وأما غير المؤمن، فلو عمل أمثال الجبال لم يكن لها وزن.
وقوله تعالى :﴿ وكذلك ﴾ معطوف على قوله تعالى :﴿ وكذلك نقص ﴾، أي : ومثل إنزال ما ذكر ﴿ أنزلناه ﴾ أي : القرآن ﴿ قرآناً ﴾ جامعاً لجميع المعاني المقصودة، ثم وصفه تعالى بأمرين ؛ أحدهما : قوله تعالى ﴿ عربياً ﴾ أي : بلسان العرب ليفهموه، ويقفوا على إعجازه وحسن نظمه وخروجه عن كلام البشر، الثاني : قوله تعالى :﴿ وصرّفنا فيه من الوعيد ﴾ أي : كرّرناه، وفصلناه، ويدخل تحت الوعيد بيان الفرائض والمحارم ؛ لأن الوعد بهما يتعلق بتكريره وتصريفه يقتضي بيان الأحكام، فلذلك قال تعالى :﴿ لعلهم يتقون ﴾ أي : يجتنبون الشرك والمحارم، وترك الواجبات، فتصير التقوى لهم ملكة ﴿ أو يحدث لهم ذكراً ﴾ أي : عظة واعتباراً حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذه النكتة أسند التقوى إليهم، والأحداث إلى القرآن.
﴿ فتعالى الله ﴾ في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته وصفاته ذاتهم وصفاتهم ﴿ الملك ﴾ الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره ﴿ الحق ﴾ أي : الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما، ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة، ولما شرح الله تعالى كيفية نفع القرآن للمكلفين، وبيّن أنه سبحانه وتعالى متعالٍ عن كل ما لا ينبغي موصوف بالإحسان والرحمة، ومن كان كذلك صان رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي، فلذلك قال تعالى :﴿ ولا تعجل بالقرآن ﴾ أي : بقراءته ﴿ من قبل أن يقضى إليك وحيه ﴾ من الملك النازل به إليك من حضرتنا كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه، ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه، فإنا نجمعه في قلبك، ولا نكلفك المساوقة بتلاوته ﴿ وقل رب ﴾ أيها المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ ﴿ زدني علماً ﴾ أي : سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال، فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة ؛ روى الترمذي عن أبي هريرة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار » وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم زدني علماً ويقيناً،
ولما قال تعالى :﴿ كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق ﴾ [ طه، ٩٩ ] ذكره هذه القصة إنجازاً للوعد، فقال تعالى :﴿ ولقد عهدنا ﴾. بما لنا من العظمة ﴿ إلى آدم ﴾ أبي البشر أي : وصيناه أن لا يأكل من الشجرة، وإنما عطفها على قوله تعالى :﴿ وصرفنا فيه من الوعيد ﴾ [ طه، ١١٣ ] للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وعرقهم راسخ بالنسيان ﴿ من قبل ﴾ أي : في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدّم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم ﴿ فنسي ﴾ عهدنا، وأكل منها ﴿ ولم نجد له عزماً ﴾ أي : تصميم رأي وثبات على الأمر ؛ إذ لو كان ذا عزيمة وتصلب لم يزله الشيطان، ولم يستطع تغريره ؛ قال البيضاوي : ولعل ذلك كان في بدء أمره قبل أن يجرب الأمور ويذوق أريها وشريها انتهى، والأري العسل، والشري : الحنظل ؛ قال البغوي : قال أبو أمامة الباهلي : لو وزن حلم آدم بحلم ولده لرجح حلمه، وقد قال الله تعالى :﴿ ولم نجد له عزماً ﴾، وقال البيضاوي : وعن النبي صلى الله عليه وسلم «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه »، وقد قال تعالى : ولم نجد له عزماً، قال ابن الأثير : والحلم بالكسرة الأناة والتثبت في الأمور.
فإن قيل : ما المراد بالنسيان ؟ أجيب بأنه يجوز أن يراد بالنسيان الذي هو نقيض الذكر، وإنه لم يعنِ بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بقصد القلب عليها، وضبط النفس حتى تولد من ذلك النسيان، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان بل كان يؤاخذ به، وإنما رفع عنا، وكان الحسن يقول : ما عصى أحد قط إلا بنسيان، وإن يراد الترك وأنه ترك ما أوصي به من الاحتراز عن الشجرة وأكل ثمرتها، وقيل : نسي عقوبة الله تعالى، وظن أنه نهي تنزيه.
تنبيه : هذا هو المرّة الخامسة من قصة آدم في القرآن أولها في البقرة، ثم في الأعراف، ثم في الحجر، ثم في الكهف، ثم هاهنا، وقوله تعالى :﴿ وإذا قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ﴾ تقدَّم الكلام على ذلك مفصلاً في سورة البقرة، وقوله تعالى :﴿ أبى ﴾ جملة مستأنفة ؛ لأنها جواب سؤال مقدر ؛ أي : ما منعه من السجود ؟ فأجيب بأنه أبى، ومفعول الإباء يجوز أن يكون مراداً، وقد صرح به في الآية الأخرى في قوله تعالى :﴿ أبى أن يكون من الساجدين ﴾ [ الحجر، ٣١ ]، وحسن حذفه هنا كون العامل رأس فاصلة، ويجوز أن لا يراد أصلاً، وأنَّ المعنى أنه من أهل الإباء والعصيان من غير نظر إلى متعلق الإباء ما هو.
﴿ فقلنا ﴾ بسبب امتناعه بعد أن حلمنا عليه ولم نعاجله بالعقوبة ﴿ يا آدم إنَّ هذا ﴾ الشيطان الذي تكبر عليك ﴿ عدوّ لك ولزوجك ﴾ حوَّاء بالمدّ لأنها منك، وسبب تلك العداوة من وجوه ؛ الأول : أن إبليس كان حسوداً، فلما رأى آثار نعم الله في حق آدم حسده، فصار عدواً له، الثاني : أن آدم عليه السلام كان شاباً عالماً لقوله تعالى :﴿ وعلم آدم الأسماء كلها ﴾ [ البقرة، ٣٠ ]، وإبليس كان شيخاً جاهلاً ؛ لأنه أثبت فضيلته بفضيلة أصله، وذلك جهل، والشيخ الجاهل أبداً يكون عدواً للشاب العالم، الثالث : أن إبليس مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الماء والتراب، فبين أصليهما عداوة، فثبتت تلك العداوة فإن قيل : لمَ قال تعالى :﴿ فلا يخرجنكما من الجنة ﴾ مع أن المخرج لهما منها هو الله تعالى ؟ أجيب بأنه لما كان هو الذي فعل بوسوسته ما ترتب عليه الخروج صح ذلك فإن قيل : لمَ قال تعالى :﴿ فتشقى ﴾ أي : فتتعب وتنصب في الدنيا، ولم يقل : فتشقيا ؟ أجيب بوجهين ؛ أحدهما : أن في ضمن شقاء الرجل وهو قيّم أهله وأميرهم شقاءهم كما أن في ضمن سعادته سعادتهم، فاختص الكلام بإسناده إليه دونها مع المحافظة على كونه رأس فاصلة، وعن سفيان بن عيينة قال : لم يقل فتشقيا ؛ لأنها داخلة معه، فوقع المعنى عليهما جميعاً وعلى أولادهما جميعاً كقوله تعالى :﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ [ الطلاق، ١ ]، و﴿ يا أيها النبي لم تحرِّم ما أحل الله لك ﴾ [ التحريم، ١ ] ﴿ قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم ﴾ [ التحريم، ٢ ]، فدخلوا في المعنى معه، وإنما كلم النبي وحده، الثاني : أريد بالشقاء التعب في طلب القوت، وذلك على الرجل دون المرأة ؛ لأن الرجل هو الساعي على زوجته، روي أنه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويمسح العرق عن جبينه ويحتاج بعد الحرث إلى الحصد والطحن والخبز وغير ذلك مما يحتاج إليه، وعن الحسن قال : عنى به شقاء الدنيا، فلا تلقى ابن آدم إلا شقياً ناصباً أي : ولو أراد شقاوة الآخرة ما دخل الجنة بعد ذلك.
ولما كان الشبع والريّ والكسوة والمكن هي الأمور التي يدور عليها كفاف الناس ذكر الله تعالى حصول هذه الأشياء في الجنة من غير حاجة إلى الكسب والطلب، وذكرها بلفظ النفي لأضدادها بقوله تعالى :﴿ إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى ﴾.
﴿ وإنك لا تظمأ ﴾ أي : تعطش ﴿ فيها ولا تضحى ﴾ أي : لا يحصل لك حر شمس الضحى لانتفاء الشمس في الجنة بل أهلها في ظل ممدود وهذه الأشياء كأنها تفسير للشقاء المذكور في قوله تعالى :﴿ فتشقى ﴾.
﴿ فوسوس ﴾ أي : فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في زمان أن وسوس ﴿ إليه الشيطان ﴾ المحترق المطرود وهو إبليس أي : أنهى إليه الوسوسة، وأما وسوس له، فمعناه لأجله، فلذلك عدي تارة باللام في قوله تعالى :﴿ فوسوس لهما ﴾ [ الأعراف، ٢٠ ]، وتارة بإلى، ثم بيّن تعالى تلك الوسوسة ما هي بقوله تعالى :﴿ قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد ﴾ أي : على الشجرة التي إن أكلت منها بقيت مخلداً ﴿ وملك لا يبلى ﴾ أي : لا يبيد ولا يفنى، قال الرازي : واقعة آدم عجيبة، وذلك لأن الله تعالى رغبه في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى :﴿ فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ﴾ ﴿ إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ﴾، ورغبة إبليس أيضاً في دوام الراحة بقوله تعالى :﴿ هل أدلك على شجرة الخلد ﴾ وفي انتظام المعيشة بقوله :﴿ وملك لا يبلى ﴾ فكان الشيء الذي رغب الله تعالى فيه آدم هو الذي رغبه إبليس فيه إلا أن الله تعالى وقف ذلك الأمر على الاحتراس عن تلك الشجرة، وإبليس وقفه على الإقدام عليها، ثم إن آدم عليه السلام مع كمال عقله وعلمه بأن الله مولاه وناصره ومربيه وعلمه بأن إبليس عدوّه حيث امتنع من السجود له وعرض نفسه للعنة بسبب عداوته كيف قبل في الواقعة الواحدة، والمقصود الواحد قول إبليس مع علمه بعداوته له، وأعرض عن قول الله تعالى مع علمه بأنه الناصر له والمربي، ومن تأمل هذا الباب طال تعجبه، وعرف آخر الأمر أن هذه القصة كالتنبيه على أنه لا دافع لقضاء الله، ولا مانع له منه، وأن الدليل وإن كان في غاية الظهور ونهاية القوة، فإنه لا يحصل النفع به إلا إذا قضى الله ذلك وقدَّره انتهى.
ويدل على ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح روى البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«احتج آدم وموسى عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض، فقال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاك الألواح فيها بيان كل شيء، وقرّبك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن يخلقني ؛ قال موسى : بأربعين عاماً قال آدم : فهل وجدت فيها ﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ قال : نعم، قال : أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى »، وروى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء، وقال : كل شيء بقدر حتى العجز والكيس »، ثم كأن إبليس قال لآدم بلسان الحال أو المقال مشيراً إلى الشجرة التي نهي عنها ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
﴿ فأكلا ﴾ أي : فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل ﴿ منها ﴾ هو وزوجته متبعين لقوله ناسين ما عهد إليهما لأمر قدّره الله في الأزل ﴿ فبدت لها سوآتهما ﴾ قال ابن عباس عرياً من النور الذي كان الله ألبسهما حتى بدت فروجهما، وإنما جمع سوآتهما كما قال :﴿ صغت قلوبكما ﴾ [ التحريم، ٤ ] أي : فظهر لكل منهما قبله وقبل الآخر ودبره، وسمى كل منهما سوأة ؛ لأن انكشافه يسوء صاحبه ﴿ وطفقا يخصفان ﴾ أي : أخذا يلزقان ﴿ عليهما من ورق الجنة ﴾ ليستترا به، قال ابن عادل : وهو ورق التين ﴿ وعصى آدم ﴾ بالأكل من الشجرة، وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء، ودوام المراقبة ﴿ ربه ﴾ المحسن إليه بما لم ينله أحد من بنيه من تصويره له بيده، وإسجاد ملائكته له، ومعاداة من عاداه ﴿ فغوى ﴾ أي : فعل ما لم يكن له فعله، وقيل : أخطأ طريق الحق، وقيل : حيث طلب الخلد بأكل ما نهى عنه، فخاب، ولم ينل مراده وصار من العز إلى الذل، ومن الراحة إلى التعب ؛ قال ابن قتيبة : يجوز أن يقال : عصى آدم، ولا يجوز أن يقال : آدم عاص ؛ لأنه إنما يقال : عاص لمن اعتاد فعل المعصية كالرجل يخيط ثوبه، فيقال : خاط ثوبه، ولا يقال : هو خياط حتى يعاوده ويعتاده.
تنبيه : تمسك بعضهم بقوله تعالى :﴿ وعصى آدم ربه فغوى ﴾ في صدور الكبيرة عنه من وجهين ؛ الأول : أن العاصي اسم للذم، فلا ينطلق إلا على صاحب الكبيرة لقوله تعالى :﴿ ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالداً فيها ﴾ [ الجن، ٢٣ ]، ولا معنى لصاحب الكبيرة إلا من فعل فعلاً يعاقب عليه، الثاني : أن الغواية والضلالة اسمان مترادفان، والغي ضد الرشاد، ومثل هذا لا يتناول إلا الفاسق المنهمك في فسقه، وأجيب : بأن المعصية مخالفة الأمر، والأمر قد يكون بالواجب وقد يكون بالمندوب، فإنك تقول : أمرته فعصاني، وأمرته بشرب الدواء فعصاني، وإذا كان كذلك لم يمتنع إطلاق اسم العصيان على آدم بكونه للمندوب، وإن كان وصف تارك المندوب بأنه عاص مجاز، وأجاب أبو مسلم الأصبهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف، وكذا القول في غوى ؛ قال الرازي : والأولى عندي في هذا الباب أن يقال : هذه الواقعة كانت قبل النبوَّة، وقد تقدم شرح ذلك في البقرة، وقيل : بل أكل من الشجرة متأولاً، وهو لا يعلم أنَّ الشجرة التي نهى الله عنها شجرة مخصوصة لا على الجنس، ولهذا قيل : إنما كانت التوبة من ترك التحفظ لا من المخالفة، فهو كما قيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين أي : يرونها بالإضافة إلى علو أحوالهم كالسيئات
﴿ ثم اجتباه ربه ﴾ أي : اختاره واصطفاه ﴿ فتاب عليه ﴾ أي : قبل توبته، وأعاد عليه بالعفو والمغفرة ﴿ وهدى ﴾ أي : هداه لرشده حتى رجع إلى الندم والاستغفار، ولما كانت دار الملوك لا تحتمل مثل ذلك وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها قال على طريق الاستئناف.
﴿ قال ﴾ الرب سبحانه وتعالى : الذي انتهكت حرمة داره ﴿ اهبطا ﴾ أي : آدم وحواء بما اشتملتما عليه من ذريتكما ﴿ منها ﴾ أي : الجنة ﴿ جميعاً ﴾ وقيل : الخطاب لآدم ومعه ذريته، ولإبليس، فقوله تعالى :﴿ بعضكم لبعض عدوٌّ ﴾ يكون على التفسير الأول بعض الذرية لبعض عدوٌّ من ظلم بعضهم لبعض، وعلى الثاني آدم وذريته، وإبليس وذريته، وقوله تعالى :﴿ فإما ﴾ فيه إدغام نون أن الشرطية في ما المزيدة ﴿ يأتينكم مني هدى ﴾ أي : كتاب ورسول ﴿ فمن اتبع هداي ﴾ الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول ﴿ فلا يضل ﴾ أي : بعد ذلك عن طريق السداد في الدنيا ﴿ ولا يشقى ﴾ في الآخرة ؛ قال ابن عباس : من قرأ القرآن، واتبع ما فيه هداه الله تعالى من الضلالة، ووقاه الله تعالى يوم القيامة سوء الحساب، وذلك أن الله تعالى يقول :﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ﴾.
ولما وعد تعالى من اتبع الهدى أتبعه بوعيد من أعرض فقال تعالى :﴿ ومن أعرض عن ذكري ﴾ أي : عن القرآن، فلم يؤمن به ولم يتبعه ﴿ فإن له معيشة ضنكاً ﴾ والضنك أصله الضيق والشدة، وهو مصدر، فكأنه قال : له معيشة ذات ضنك، واختلف في ذلك، فقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وابن مسعود : المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر، وروى أبو هريرة أنَّ عذاب القبر للكافر، قال : قال صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده ليسلط عليه في قبره تسعة وتسعون تنيناً هل تدرون ما التنين ؟ تسعة وتسعون حية لكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلسعونه، وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون »، وقال الحسن وقتادة والكلبي : هو الضيق في الآخرة في جهنم، فإنّ طعامهم الضريع والزقوم، وشرابهم الحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون، وقال ابن عباس : المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، وعن عطاء : المعيشة الضنك هي معيشة الكافر ؛ لأنه غير موقن بالثواب والعقاب، وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«عقوبة المعصية ثلاثة ؛ ضيق المعيشة والعسر في الشدة، وأن لا يتوصل إلى قوته إلا بمعصية الله »، وذلك أن مع الدين التسليم والقناعة والتوكل على الله تعالى، وعلى قسمته، فهو ينفق ما رزقه الله تعالى بسماح وسهولة، فيعيش عيشاً رفيعاً كما قال الله تعالى :﴿ فلنحيينه حياة طيبة ﴾ [ النحل، ٩٧ ]، والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الإنفاق فعيشه ضنك، وحاله مظلمة، قال صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو كان له واديان لابتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب » متفق عليه. قال بعض الصوفية : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته، وتشوش عليه رزقه، وقال تعالى :﴿ استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ١٠ يرسل السماء عليكم مدراراً ﴾ [ نوح : ١٠، ١١ ] الآية، وقال تعالى :﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً ﴾ [ الجن، ١٦ ]. ثم ذكر حال المعرض في الآخرة بقوله تعالى :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى ﴾ قال ابن عباس : إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، ولعله جمع بذلك بين هذا وبين قوله تعالى :﴿ أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ﴾ [ مريم، ٣٨ ]، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلا جهنم، وفي لفظ قال : لا يبصر إلا النار، وعن مجاهد المراد بالعمى عدم الحجة، ويؤيد الأول قوله تعالى :﴿ قال رب لم حشرتني أعمى ﴾.
﴿ قال رب لم حشرتني أعمى ﴾ في هذا اليوم ؟ ﴿ وقد كنت بصيراً ﴾ أي : في الدنيا، أو في أول هذا اليوم،
فكأنه قيل : بما أجيب ؟ فقيل :﴿ قال ﴾. له ربه ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك فعلت، ثم فسره، فقال :﴿ أتتك آياتنا ﴾ واضحة نيرة ﴿ فنسيتها ﴾ فعميت عنها، وتركتها غير منظور إليها ﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل تركك إياها ﴿ اليوم تنسى ﴾ أي : تترك في العمى والعذاب.
﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل هذا الجزاء الشديد ﴿ نجزي من أسرف ﴾ في متابعة هواه، فتكبر عن متابعة أوامرنا ﴿ ولم يؤمن ﴾ بل كذب ﴿ بآيات ربه ﴾ وخالفها ﴿ ولعذاب الآخرة أشدّ ﴾ مما نعذبهم به في الدنيا والقبر لعظمه ﴿ وأبقى ﴾ فإنه غير منقطع.
ولما بيّن الله تعالى أنَّ من أعرض عن ذكره كيف يحشر يوم القيامة اتبعه بما يعتبر به المكلف من الأفعال الواقعة في الدنيا ممن كذب الرسل، فقال :﴿ أفلم يهد ﴾ أي : يبين بياناً يقود إلى المقصود ﴿ لهم ﴾ أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم أعظم رسلي، وفاعل يهد مضمون قوله :﴿ كم أهلكنا ﴾ وقال أبو البقاء : الفاعل ما دل عليه أهلكنا أي : إهلاكنا، والجملة مفسرة له، وقال الزمخشري : فاعل لم يهد الجملة بعده يريد : ألم يهد لهم هذا بمعناه ومضمونه، ونظيره قوله تعالى :﴿ وتركنا عليه في الآخرين ٧٨ سلام على نوح في العالمين ﴾ [ الصافات : ٧٨، ٧٩ ]، أي : تركنا عليه هذا الكلام، ويجوز أن يكون فيه ضمير الله أو الرسول انتهى. وكم خبرية مفعول أهلكنا ﴿ قبلهم من القرون ﴾ أي : بتكذيبهم لرسلنا حال كونهم ﴿ يمشون ﴾ أي : هؤلاء العرب من أهل مكة وغيرهم ﴿ في مساكنهم ﴾ أي : في سفرهم إلى الشام، ويشاهدون آثار هلاكهم ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة ﴿ لآيات ﴾ عظيمات بينات ﴿ لأولي النهى ﴾ أي : لذوي العقول الناهية عن التغافل والتعامي.
ولما هددهم بإهلاك الماضين ذكر سبب التأخير عنهم بقوله تعالى :﴿ ولولا كلمة ﴾ أي : عظيمة قاضية نافذة ﴿ سبقت ﴾ أي : في أزل الآزال ﴿ من ربك ﴾ الذي عودك بالإحسان بتأخير العذاب عنهم إلى الآخرة فإنه يعامل بالحلم والأناة ﴿ لكان ﴾ أي : العذاب ﴿ لزاماً ﴾ أي : لازماً أعظم لزوم لهم في الدنيا مثل ما نزل بعاد وثمود، ولكن نمدُّ لهم لنرد من شئنا منهم، ونخرج من أصلاب بعضهم من يؤمن، وإنما فعلنا ذلك إكراماً لك ورحمة لأمتك، فيكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم «وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً »، وفي رفع قوله تعالى ﴿ وأجل مسمى ﴾ وجهان ؛ أظهرهما : عطفه على ﴿ كلمة ﴾ أي، ولولا أجل مسمى لكان العذاب لازماً لهم، وهذا ما صدَّر به البيضاوي، والثاني : أنه معطوف على الضمير المستتر في كان، وقام الفصل بخبرها مقام التأكيد، واقتصر الجلال المحلي على هذا، وجوَّزه الزمخشري والبيضاوي، وفي هذا الأجل المسمى قولان ؛ أحدهما : ولولا أجل مسمى في الدنيا لذلك العذاب، وهو يوم بدر، والثاني : ولولا أجل مسمى في الآخرة لذلك العذاب، وهذا كما قال الرازي أقرب قال أهل السنة تعالى بحكم المالكية أن يخص من شاء بفضله، ومن شاء بعذابه من غير علة إذ لو كان فعله لعلة لكانت تلك العلة إما قديمة، فيلزم قدم الفعل، وإما حادثة، فيلزم افتقارها إلى علة أخرى، ويلزم التسلسل.
ثم إنه تعالى لما أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه لا يهلك أحداً قبل استيفاء أجله أمره بالصبر، فقال :﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ لك من الاستهزاء وغيره، وهذا كان أول الأمر، ثم نسخ بآية القتال ﴿ وسبح ﴾ أي : صل، وقوله تعالى :﴿ بحمد ربك ﴾ حال أي : وأنت حامد لربك على أنه وفقك لذلك، وأعانك عليه ﴿ قبل طلوع الشمس ﴾ صلاة الصبح ﴿ وقبل غروبها ﴾ صلاة العصر ﴿ ومن أناء الليل ﴾ أي : ساعاته ﴿ فسبح ﴾ أي : صل المغرب والعشاء، وقوله تعالى :﴿ وأطراف النهار ﴾ معطوف على محل من آناء المنصوب أي : صل الظهر ؛ لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف النصف الأول، وطرف النصف الثاني قال ابن عباس : دخلت الصلوات الخمس في ذلك، وقيل : المراد الصلوات الخمس والنوافل ؛ لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها، فالليل والنهار داخلان في هاتين العبارتين.
وأوقات الصلوات الواجبة دخلت فيهما، فبقي قوله :﴿ ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار ﴾ للنوافل، وقال أبو مسلم : لا يبعد حمل التسبيح على التنزيه والإجلال، والمعنى اشتغل بتنزيه الله تعالى في هذه الأوقات.
فإن قيل : النهار له طرفان، فكيف قال :﴿ وأطراف النهار ﴾ ولم يقل : طرفي النهار أجيب بوجهين أظهرهما : أنه إنما جمع لأنه يلزم في كل نهار ويعود، والثاني : أن أقل الجمع اثنان، وقرأ قوله تعالى ﴿ لعلك ترضى ﴾ أبو بكر والكسائي بضم التاء أي : ترضى بما تنال من الثواب كقوله تعالى :﴿ وكان عند ربه مرضياً ﴾ [ مريم، ٥٥ ]، وقرأ الباقون بفتحها أي : ترضى بما تنال من الشفاعة قال تعالى :﴿ ولسوف يعطيك ربك فترضى ﴾ [ الضحى، ٥ ]، وقال تعالى :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ﴾ [ الإسراء، س٧٩ ]، والمعنى : على القراءتين لا يختلف ؛ لأن الله تعالى إذا أرضاه، فقد رضيه، وإذا رضيه، فقد أرضاه.
ولما كانت النفس ميالة إلى الدنيا مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخليها عن ذلك هو الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها قال تعالى مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك :﴿ ولا تمدن ﴾ مؤكداً له بالنون الثقيلة ﴿ عينيك ﴾ أي : لا تطول نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها ﴿ إلى ما متعنا به ﴾ في هذه الحياة الفانية ﴿ أزواجاً ﴾ أي : أصنافاً ﴿ منهم ﴾ أي : الكفرة استحساناً له وتمنياً أن يكون لك مثله والإمتاع الإلذاذ بما يدرك من المناظر الحسنة، ويسمع من الأصوات المطربة ويشم من الروائح الطيبة وغير ذلك من الملابس والمناكح، وقوله تعالى :﴿ زهرة الحياة الدنيا ﴾ أي : زينتها وبهجتها منصوب بمحذوف دل عليه متعنا، أو به على تضمنه معنى أعطينا، فأزواجاً مفعول أول، وزهرة هو الثاني، وذكر ابن عادل غير هذين الوجهين سبعة أوجه لا حاجة لنا بذكرها، ثم علل تعالى تمتعهم بقوله تعالى :﴿ لنفتنهم فيه ﴾ أي : لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغرّ من لم يتأمل معناه حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه ﴿ ورزق ربك ﴾ في الجنة ﴿ خير ﴾ مما أوتوه في الدنيا ﴿ وأبقى ﴾ أي : أدوم أو ما رزقته من نعمة الإسلام والنبوّة، أو لأنّ أموالهم الغالب عليها الغصب والسرقة والحرمة من بعض الوجوه، والحلال خير وأبقى، قال الزمخشري : لأن الله تعالى لا ينسب إلى نفسه إلا ما حل وطاب دون ما حرم وخبث، والحرام لا يسمى زرقاً انتهى، وهذا جار على مذهبه المخالف لأهل السنة من أن الحرام لا يسمى زرقاً، وقال أبو مسلم الذي نهى عنه بقوله :﴿ ولا تمدَّن عينيك ﴾ ليس هو النظر بل هو الأسف أي : لا تأسف على ما فاتك مما نالوه من حظ الدنيا، وقال أبو رافع : نزلت هذه الآية في ضيق نزل بالنبيّ صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهودي يبيع أو يستلف إلى مدة، فقال : والله لا أفعل إلا برهن، فأخبرته بقوله فقال صلى الله عليه وسلم :«إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض احمل إليه درعي الحديد » فنزل قوله :﴿ ولا تمدن عينيك ﴾، وقال صلى الله عليه وسلم :«إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم
وأعمالكم »، وقال أبو الدرداء : الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له ولها يجمع من لا عقل له، وعن الحسن لولا حمق الناس لخربت الدنيا، وعن عيسى ابن مريم عليه السلام : لا تتخذوا الدنيا داراً، فتتخذكم لها عبيداً.
ولما أمر الله تعالى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتزكية النفس أمره بأن يأمر أهله بالصلاة بقوله عز وجل :﴿ وأمر أهلك بالصلاة ﴾ أي : أمر أهل بيتك والتابعين لك من أمتك بالصلاة كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام يدعوهم إلى كل خير إذ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليتعاونوا على الاستعانة على خصاصتهم، ولا يهتموا بأمر المعيشة، ولا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، وكان صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعلي رضي الله عنهما كل صباح ويقول : الصلاة ﴿ واصطبر ﴾ أي : داوم ﴿ عليها لا نسألك ﴾ أي : نكلفك ﴿ رزقاً ﴾ لنفسك ولا لغيرك ﴿ نحن نرزقك ﴾ وغيرك كما قال تعالى :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ٥٦ ما أريد منهم من رزق وما أريد إن يطعمون ٥٧ إن الله هو الرازق ذو القوة المتين ﴾ [ الذاريات، ٥٦ - ٥٨ ] ففرِّغ بالك لأمور الآخرة، وفي معناه قول الناس : من كان في عمل الله كان الله في عمله.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أصاب أهله ضرٌّ أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية، وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلطان قرأ :﴿ ولا تمدن عينيك ﴾ الآية، ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله وعن بكر بن عبد الله المزني كان إذا أصاب أهله خصاصة قال : قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله، ثم يتلو هذه الآية :﴿ والعاقبة ﴾ أي : الجميلة المحمودة ﴿ للتقوى ﴾ أي : لأهل التقوى قال ابن عباس : الذين صدقوك واتبعوك واتقوني، ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر :﴿ والعاقبة للمتقين ﴾ [ الأعراف، ١٢٨ ]، ولا معونة على الرزق وغيره بشيء يوازي الصلاة، فقد كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر أي بالباء الموحدة أي : إذا أحزنه فزع إلى الصلاة قال ثابت : وكان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال صلى الله عليه وسلم :«يقول الله تعالى : تفرغ لعبادتي املأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك »، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به هموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك » وعن زيد بن ثابت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة همه جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة ".
ثم إنه تعالى بعد هذه الوصية حكى عنهم شبهاً بقوله تعالى :﴿ وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه ﴾ فكأنه من لوازم قوله تعالى :﴿ فاصبر على ما يقولون ﴾ وهو قولهم :﴿ لولا ﴾ أي : هلا يأتينا بآية، وقال في موضع آخر : فليأتنا بآية كما أرسل الأوّلون } [ الأنبياء، ٥ ] ثم أجاب الله تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله :﴿ أولم تأتهم بينة ﴾ أي : بيان ﴿ ما في الصحف الأولى ﴾ من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية المشتمل عليه القرآن أنباء الأمم الماضية وإهلاكهم بتكذب الرسل فما يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآيات كحال أولئك، وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص بالفوقية على التأنيث، والباقون بالتحتية على التذكير.
﴿ ولو أنّا أهلكناهم ﴾ معاملة لهم في عصيانهم ﴿ بعذاب من قبله ﴾ أي : هذا القرآن المذكور في الآية الماضية وما قاربها، وفي قوله تعالى :﴿ ولا تعجل بالقرآن ﴾ [ طه، ١١٤ ] وفي مثنى السورة في :﴿ ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ﴾ [ طه، ٢ ] أو من قبل محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ لقالوا ﴾ أي : يوم القيامة ﴿ ربنا ﴾ يا من هو متصف بالإحسان إلينا ﴿ لولا ﴾ أي : هلا ولم لا ﴿ أرسلت إلينا رسولاً ﴾ يأمرنا بطاعتك ﴿ فنتبع ﴾ أي : فيتسبب عنه أن نتبع ﴿ آياتك ﴾ التي تنجينا بها ﴿ من قبل أن نذل ﴾ بالعذاب هذا الذل ﴿ ونخزى ﴾ بالمعاصي التي عملناها على جهل، فلأجل ذاك أرسلناك إليهم، وأقمنا بك الحجة عليهم، ولما علم بهذا أنّ إيمانهم كالممتنع، وجدالهم لا ينقطع بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا
ثم كأنه قيل : فما الذي أفعل معهم ؟ فقيل :﴿ قل ﴾ لهم ﴿ كل ﴾ أي : كل مني ومنكم ﴿ متربص ﴾ أي : منتظر ما يؤول إليه أمري وأمركم ﴿ فتربصوا ﴾ فأنتم كالبهائم ليس لكم تأمل ﴿ فستعلمون ﴾ أي : عما قريب بوعد لا خلف فيه، وهو يوم القيامة ﴿ من أصحاب الصراط ﴾ أي : الطريق ﴿ السويّ ﴾ أي : المستقيم ﴿ ومن اهتدى ﴾ أي : من الضلال، فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره أنحن أم أنتم ؟.
Icon