تفسير سورة طه

تفسير البغوي
تفسير سورة سورة طه من كتاب معالم التنزيل المعروف بـتفسير البغوي .
لمؤلفه البغوي . المتوفي سنة 516 هـ

تفسير سورة طه
مكية [وهي مائة وأربع، وقيل: خمس وثلاثون آية] [١]
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (١) مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦)
«١٤١٢» أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ أَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَانِيُّ أَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ أَنَا ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ [٢] حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ [٣] عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ السُّورَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَأُعْطِيتُ طه وَالطَّوَاسِينَ مِنْ أَلْوَاحِ موسى [عليه السلام] [٤]، وَأُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْقُرْآنِ وَخَوَاتِيمَ السُّورَةِ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الْبَقَرَةُ مِنَ كنز تَحْتِ الْعَرْشِ، وَأُعْطِيتُ الْمُفَصَّلَ نَافِلَةً».
طه، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِفَتْحِ الطاء وكسر الهاء، ويكسرهما حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهِمَا، قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ. وَقِيلَ: اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ:
مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ يَا رَجُلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ يَا إِنْسَانُ بِلُغَةِ عك. وقال مقاتل:
مَعْنَاهُ طَإِ الْأَرْضَ بِقَدَمَيْكَ يُرِيدُ فِي التَّهَجُّدِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب القرظي: هو قسم أقسم الله عزّ وجلّ
١٤١٢- إسناده ضعيف لضعف أبي بكر الهذلي، وابن أبي أويس، فيه كلام، وأبو عنده مناكير، وكلاهما وثق، وعلة الحديث هي ضعف الهذلي، وهو سلّمى بن عبد الله بن سلّمى البصري، ابن أبي أويس هو إسماعيل بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الله بن أويس الأصبحي، عكرمة هو مولى ابن عباس.
- وعزاه السيوطي في «الدر المنثور» ٤/ ٥١٥ لابن مردويه وحده!.
- وله شاهد من حديث معقل بن يسار:
- أخرجه الحاكم ١/ ٥٦٨/ ٢٠٨٧ والبيهقي في «الشعب» ٢٤٧٨ وإسناده ضعيف جدا، صححه الحاكم، وتعقبه الذهبي بقوله: عبيد الله بن أبي حميد، قال أحمد: تركوا حديثه.
(١) زيد في المطبوع.
(٢) تصحف في المخطوط «إدريس».
(٣) تصحف في المخطوط «الهزلي».
(٤) زيادة عن المخطوط.
بِطَوْلِهِ وَهِدَايَتِهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر والهاء افتتاح اسمه هاد.
ع «١٤١٣» قال الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَحْيُ بِمَكَّةَ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ حَتَّى كَانَ يُرَاوِحُ بَيْنَ قَدَمَيْهِ فِي الصَّلَاةِ لِطُولِ قِيَامِهِ وَكَانَ يُصَلِّي اللَّيْلَ كُلَّهَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُخَفِّفَ عن [١] نَفْسِهِ فَقَالَ:
مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢).
ع «١٤١٤» وَقِيلَ: لَمَّا رَأَى الْمُشْرِكُونَ اجْتِهَادَهُ في العبادة فقالوا مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنُ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا لِشَقَائِكَ، فَنَزَلَتْ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) أَيْ لِتَتَعَنَّى وَتَتْعَبَ، وَأَصْلُ الشَّقَاءِ فِي اللُّغَةِ الْعَنَاءُ.
إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣)، أَيْ لَكِنْ أَنْزَلْنَاهُ عِظَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَقِيلَ: تَقْدِيرُهُ مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، مَا أَنْزَلْنَاهُ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.
تَنْزِيلًا، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ تَذْكِرَةً، مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ أَيْ مِنَ اللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ، وَالسَّماواتِ الْعُلى، يَعْنِي الْعَالِيَةَ الرَّفِيعَةَ وَهِيَ جَمْعُ العليا كقولهم كُبْرَى وَكُبَرُ وَصُغْرَى وَصُغَرُ.
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥).
لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما، يَعْنِي الْهَوَاءَ، وَما تَحْتَ الثَّرى، وَالثَّرَى هُوَ التُّرَابُ الندي [و] [٢] قال الضحاك: يعني ما وارى الثَّرَى مِنْ شَيْءٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ الْأَرَضِينَ عَلَى ظَهْرِ النُّونِ وَالنُّونُ عَلَى بَحْرٍ وَرَأْسُهُ وَذَنَبُهُ يَلْتَقِيَانِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَالْبَحْرُ عَلَى صَخْرَةٍ خَضْرَاءَ خُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا، وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي قِصَّةِ لُقْمَانَ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ، وَالصَّخْرَةُ عَلَى قَرْنِ ثَوْرٍ وَالثَّوْرُ عَلَى الثَّرَى، وَمَا تَحْتَ الثَّرَى لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا الله، وَذَلِكَ الثَّوْرُ فَاتِحٌ فَاهُ فَإِذَا جَعَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْبِحَارَ بَحْرًا وَاحِدًا سَالَتْ فِي جَوْفِ ذَلِكَ الثَّوْرِ، فَإِذَا وَقَعَتْ فِي جوفه يبست [٣].
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧ الى ١٤]
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨) وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى نَارًا فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يَا مُوسى (١١)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤)
١٤١٣- ساقه المصنف هاهنا بدون إسناد، وإسناده إلى الكلبي أول الكتاب، وهو إسناد ساقط، الكلبي هو محمد بن السائب، متروك الحديث متهم بالكذب، ليس بأهل للرواية عنه.
- وورد بنحوه من حديث علي، أخرجه البزار ٢٢٣٢ «كشف» وإسناده ضعيف لضعف يزيد بن بلال وكيسان أبي عمرو، وانظر «المجمع» ٧/ ٥٦ و «الكشاف» ٣/ ٥١ بتخريجي. [.....]
١٤١٤- أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٤ عن الضحاك مرسلا.
- وفي إسناده جويبر بن سعيد، وهو ضعيف جدا كما في «التقريب».
(١) في المطبوع «على».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) هذا الأثر من الإسرائيليات المنكرة الباطلة، ولا يصح عن ابن عباس.
255
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ، أَيْ تُعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى، قَالَ الْحَسَنُ: السِّرُّ مَا أَسَرَّ [١] الرَّجُلُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَخْفَى مِنْ ذلك ما أسر في [٢] نفسه. [ولم يعلم به أحد إلا الله] [٣]. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: السِّرُّ مَا تُسِرُّ فِي نَفْسِكَ وَأَخْفَى مِنَ السِّرِّ مَا يلقيه عَزَّ وَجَلَّ فِي قَلْبِكَ مِنْ بَعْدُ وَلَا تَعْلَمُ أَنَّكَ سَتُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَكَ لِأَنَّكَ تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ بِهِ الْيَوْمَ وَلَا تَعْلَمُ مَا تُسِرُّ بِهِ غَدًا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا أَسْرَرْتَ الْيَوْمَ وَمَا تُسِرُّ بِهِ غَدًا. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ السِّرُّ مَا أَسَرَّ ابْنُ آدَمَ فِي نَفْسِهِ، وَأَخْفَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ فَاعِلُهُ قبل أن يعمله. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: السِّرُّ الْعَمَلُ الَّذِي تَسِرُّونَ [٤] مِنَ النَّاسِ، وَأَخْفَى: الْوَسْوَسَةُ.
وَقِيلَ: السِّرُّ هُوَ الْعَزِيمَةُ، وَأَخْفَى: مَا يَخْطُرُ عَلَى الْقَلْبِ وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَيْهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى أَيْ يَعْلَمُ أَسْرَارَ الْعِبَادِ، وَأَخْفَى سِرَّهُ عن [٥] عِبَادِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ، ثُمَّ وَحَّدَ نَفْسَهَ، فَقَالَ:
اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨).
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩)، أَيْ: قَدْ أَتَاكَ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التقرير.
إِذْ رَأى نَارًا، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اسْتَأْذَنَ شُعَيْبًا فِي الرُّجُوعِ مِنْ مَدْيَنَ إِلَى مِصْرَ لِزِيَارَةِ وَالِدَتِهِ وَأُخْتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَخَرَجَ بِأَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَكَانَتْ أَيَّامَ الشِّتَاءِ، فأخذ على غير الطريق مخافة من ملوك الشام وامرأته في شهرها [٦] لا تدري أليلا تضع أَمْ نَهَارًا، فَسَارَ فِي الْبَرِيَّةِ غَيْرَ عَارِفٍ بِطُرُقِهَا، فَأَلْجَأَهُ الْمَسِيرُ إِلَى جَانِبِ الطُّورِ الْغَرْبِيِّ الْأَيْمَنِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ مُثَلَّجَةٍ شَدِيدَةِ الْبَرْدِ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ الطَّلْقُ فَقَدَحَ زنده فلم يور.
وَقِيلَ: إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلًا غيورا وكان يَصْحَبُ الرُّفْقَةَ بِاللَّيْلِ وَيُفَارِقُهُمْ بِالنَّهَارِ لِئَلَّا تُرَى امْرَأَتُهُ فَأَخْطَأَ مَرَّةً الطَّرِيقَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ شَاتِيَةٍ لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ من كرامته [وإظهار رسالته] [٧]، فَجَعَلَ يَقْدَحُ الزَّنْدَ فَلَا يُوَرِي، فَأَبْصَرَ نَارًا مِنْ بَعِيدٍ عَنْ يَسَارِ الطَّرِيقِ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ، فَقالَ لِأَهْلِهِ [لزوجته] [٨] امْكُثُوا، أَقِيمُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ بِضَمِّ الْهَاءِ هَاهُنَا وَفِي الْقَصَصِ [٢٩]، إِنِّي آنَسْتُ، أَيْ أَبْصَرْتُ، نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ، [أي شُعْلَةٍ] [٩] مِنْ نَارٍ، وَالْقَبَسُ قِطْعَةٌ من نار يأخذها فِي طَرَفِ عَمُودٍ مِنْ مُعْظَمِ النَّارِ، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً، أَيْ أَجِدُ عِنْدَ النَّارِ مَنْ يَدُلُّنِي عَلَى الطَّرِيقِ.
فَلَمَّا أَتاها، رَأَى شَجَرَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَسْفَلِهَا إِلَى أَعْلَاهَا أَطَافَتْ بِهَا نار بيضاء تتقد كأضوأ مَا يَكُونُ، فَلَا ضَوْءُ النَّارِ يُغَيِّرُ خُضْرَةَ الشَّجَرَةِ وَلَا خُضْرَةُ الشَّجَرَةِ تُغَيِّرُ ضَوْءَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَانَتِ الشَّجَرَةُ سَمُرَةً خَضْرَاءَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: كَانَتْ مِنَ الْعَوْسَجِ. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَتْ مِنَ الْعَلِيقِ. وَقِيلَ:
كَانَتْ شجرة العناب، وَرَوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عنهما، وقال أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمْ يَكُنِ الَّذِي رَآهُ مُوسَى نَارًا بَلْ كَانَ نُورًا ذُكِرَ بِلَفْظِ النَّارِ لِأَنَّ مُوسَى حَسِبَهُ نَارًا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهُ نُورُ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَغَيْرِهِمَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ النَّارُ بِعَيْنِهَا وَهِيَ إِحْدَى حُجُبِ اللَّهِ تَعَالَى، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا:
«١٤١٥» رُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حجابه النار لو كشفها الله لأحرقت
١٤١٥- تقدم في تفسير سورة البقرة عند آية: ٢٥٥ خرجه مسلم وغيره.
(١) في المطبوع «أسره»
.
(٢) في المخطوط «من».
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) في المطبوع «تسره» والمثبت عن المخطوط و «الدر المنثور» ٤/ ٥١٩.
(٥) في المطبوع «من».
(٦) في المطبوع «سقمها».
(٧) زيادة عن المخطوط.
(٨) زيادة عن المخطوط.
(٩) في المطبوع «قطعة». [.....]
256
سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ».
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ مُوسَى أَخَذَ شَيْئًا مِنَ الحشيش اليابس وقصد الشجرة فكان كُلَّمَا دَنَا نَأَتْ مِنْهُ النَّارُ، وَإِذَا نَأَى دَنَتْ، فَوَقَفَ مُتَحَيِّرًا فسمع تَسْبِيحَ الْمَلَائِكَةِ، وَأُلْقِيَتْ عَلَيْهِ السَّكِّينَةُ، نُودِيَ يَا مُوسى.
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ كثير وأبو عمرو، وإني بِفَتْحِ الْأَلِفِ عَلَى مَعْنَى نُودِيَ بِأَنِّي، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْأَلِفِ أَيْ نُودِيَ، فَقِيلَ: إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، قَالَ وَهْبٌ: نُودِيَ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَقِيلَ يَا مُوسَى فَأَجَابَ سَرِيعًا لَا يَدْرِي مَنْ دَعَاهُ، فَقَالَ إِنِّي أَسْمَعُ صَوْتَكَ وَلَا أَرَى مَكَانَكَ فَأَيْنَ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا فَوْقَكَ وَمَعَكَ، وَأَمَامَكَ وَخَلْفَكَ وَأَقْرَبُ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ فَعَلِمَ أَنْ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ فَأَيْقَنَ بِهِ، قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ:
«١٤١٦» مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا فِي قَوْلِهِ: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ، قَالَ: «كَانَتَا مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيِّتٍ». وَيُرْوَى «غَيْرُ مَدْبُوغٍ». وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُمِرَ بِخَلْعِ النَّعْلَيْنِ لِيُبَاشِرَ بِقَدَمِهِ تُرَابَ الْأَرْضِ المقدسة، فتناله بَرَكَتُهَا لِأَنَّهَا قُدِّسَتْ مَرَّتَيْنِ، فَخَلَعَهُمَا مُوسَى وَأَلْقَاهُمَا مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ، أَيِ الْمُطَهَّرِ، طُوىً، وَطُوًى اسم الوادي، قرأ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَالشَّامِ: «طُوًى» بِالتَّنْوِينِ هَاهُنَا وَفِي سُورَةِ النَّازِعَاتِ [١٦]، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ به عَنْ طَاوٍ فَلَمَّا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ إِعْرَابِهِ، مِثْلُ عُمْرَ وَزُفَرَ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: طُوًى وَادٍ مُسْتَدِيرٌ عَمِيقٌ مِثْلُ الطَّوِيِّ فِي اسْتِدَارَتِهِ.
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ، اصْطَفَيْتُكَ بِرِسَالَاتِي [١]، قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَنَّا مُشَدَّدَةَ النُّونِ، اخْتَرْنَاكَ عَلَى التَّعْظِيمِ.
فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى، إِلَيْكَ.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي، وَلَا تَعْبُدْ غَيْرِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَقِمِ الصَّلَاةَ لِتَذْكُرَنِي فِيهَا [٢]، وقال مقاتل: إذا تركت صلاة ثُمَّ ذَكَرْتَهَا، فَأَقِمْهَا.
«١٤١٧» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو عُمَرَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَنِيُّ أَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بن عبد الله
١٤١٦- باطل، أخرجه الترمذي ١٧٣٤ والحاكم ٢/ ٣٧٩ والطبري ٢٤٠٣٨ وابن حبان في «المجروحين» ١/ ٢٦٢ والذهبي في «الميزان» ١/ ٦١٥ وابن العربي في «أحكام القرآن» ١٤٨٠ من طرق عن حميد بن عبد الله الأعرج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عن ابن مسعود مرفوعا.
- وصححه الحاكم على شرط البخاري! وتعقبه الذهبي بقوله: بل ليس على شرط البخاري وإنما غره أن في الإسناد حميد بن قيس كذا، وهو خطأ. إنما هو حميد الأعرج الكوفي ابن علي أو ابن عمار، أحمد المتروكين فظنه المكي الصادق.
- وقال الترمذي: غريب، وحميد هو ابن علي، سمعت محمدا- البخاري- يقول: منكر الحديث.
- ونقل الذهبي في «الميزان» ١/ ٦١٥ عن ابن حبان في قوله: روى عن ابن مسعود نسخة كأنها موضوعة.
١٤١٧- صحيح. الحسين بن الفضل فمن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- عفان بن مسلم، همام بن يحيى، قتادة بن دعامة.
- وهو في «شرح السنة» ٣٩٥ بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري ٥٩٧ ومسلم ٦٨٤ ح ٣١٤ وأبو داود ٤٤٢ وأحمد ٣/ ٢٦٩ والطحاوي في «المعاني» ١/ ٤٦٦
(١) في المخطوط «برسالتي».
(٢) في المطبوع «بها».
257
الْحَفِيدُ أَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَجَلِيُّ [١] أَنَا عَفَّانُ أَنَا هَمَّامٌ أنا قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مِنْ نَسْيِ صَلَاةً فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ»، ثُمَّ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٥ الى ٢٣]
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦) وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يَا مُوسى (١٩)
فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها، قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أخفيها وأكاد صِلَةٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا:
مَعْنَاهُ أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي، وَكَذَلِكَ هو فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «أَكَادُ أُخْفِيهَا مِنْ نَفْسِي فَكَيْفَ يَعْلَمُهَا مَخْلُوقٌ»، وَفِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ [٢] «فَكَيْفَ أُظْهِرُهَا لَكُمْ» وَذَكَرَ ذَلِكَ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ إِذَا بَالَغُوا فِي كِتْمَانِ الشَّيْءِ يَقُولُونَ كَتَمْتُ سِرَّكَ مِنْ نَفْسِي أَيْ أَخْفَيْتُهُ غَايَةَ الإخفاء والله تعالى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ وَقَالَ [الْأَخْفَشُ] [٣] أَكَادُ أَيْ أُرِيدُ وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أُرِيدُ أُخْفِيهَا، وَالْمَعْنَى فِي إِخْفَائِهَا [٤] التَّهْوِيلُ وَالتَّخْوِيفُ لِأَنَّهُمْ إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ كَانُوا عَلَى حَذَرٍ مِنْهَا كُلَّ وَقْتٍ، وَقَرَأَ الحسن [أخفيها] [٥] بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ أُظْهِرُهَا، يُقَالُ: خَفِيتُ الشَّيْءَ إِذَا أَظْهَرْتَهُ وَأَخْفَيْتُهُ إِذَا سَتَرْتُهُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى، أَيْ بِمَا تَعْمَلُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها، فَلَا يَصْرِفَنَّكَ عَنِ الْإِيمَانِ بِالسَّاعَةِ، مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ، مُرَادُهُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ فَتَرْدى، أَيْ فَتَهْلَكَ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسى (١٧)، سُؤَالُ تَقْرِيرٍ وَالْحِكْمَةُ فِي هَذَا السُّؤَالِ تَنْبِيهُهُ وَتَوْقِيفُهُ عَلَى أَنَّهَا عَصًا حَتَّى إِذَا قَلَبَهَا حَيَّةً عَلِمَ أنها مُعْجِزَةٌ عَظِيمَةٌ، وَهَذَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ يَقُولُ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ: هَلْ تَعْرِفُ هَذَا وَهُوَ لَا يَشُكُّ أَنَّهُ يَعْرِفُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَنْضَمَّ [٦] إِقْرَارُهُ بِلِسَانِهِ إِلَى مَعْرِفَتِهِ بِقَلْبِهِ.
قالَ هِيَ عَصايَ، قيل: وكان لَهَا شُعْبَتَانِ وَفِي أَسْفَلِهَا سِنَانٌ وَلَهَا مِحْجَنٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: اسْمُهَا نبعة، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، أَعْتَمِدُ عَلَيْهَا إِذَا مَشَيْتُ وإذا عييت وَعِنْدَ الْوَثْبَةِ، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي، أضرب
وأحمد ٣/ ٢٦٩ والبيهقي ٢/ ٢١٨ و٤٥٦ من طرق عن همام به.
- وأخرجه مسلم ٦٨٤ والترمذي ١٧٨ والنسائي ١/ ٢٩٣ وابن ماجه ٦٩٦ وأحمد ٣/ ٢٤٣ وابن حبان ١٥٥٥ وأبو عوانة ٢/ ٢٥٢ والبيهقي ٢/ ٢١٨ من طرق عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ به.
- وأخرجه مسلم ٦٨٤ ح ٣١٥ وأحمد ٣/ ١٠٠ والدارمي ١/ ٢٨٠ وأبو عوانة ١/ ٣٨٥ و٢/ ٢٦٠ من طرق عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عن قتادة به.
وانظر الحديث المتقدم في سورة الكهف عند آية: ٢٤.
(١) تصحف في المطبوع «الجبلي».
(٢) في المطبوع «القراءة».
(٣) سقط من المطبوع.
(٤) في المخطوط «حقائها».
(٥) زيادة عن المخطوط.
(٦) في المخطوط «يتضمن».
258
بِهَا الشَّجَرَةَ الْيَابِسَةَ لِيَسْقُطَ وَرَقُهَا فَتَرْعَاهُ الْغَنَمُ، وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ وَأَهُسُّ بِالسِّينِ غَيْرِ الْمُعْجَمَةِ، أَيْ أَزْجُرُ بها الغنم، والهس زَجْرُ الْغَنَمِ، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى، حَاجَاتٌ وَمَنَافِعُ أُخْرَى، جَمْعُ مَأْرَبَةٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ [وَضَمِّهَا] [١] وَلَمْ يقل أخر لرؤوس الآي، وأراد بالمئارب مَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ الْعَصَا فِي السفر، فكان يَحْمِلُ بِهَا الزَّادَ وَيَشُدُّ بِهَا الْحَبْلَ فَيَسْتَقِي الْمَاءَ مِنَ الْبِئْرِ، وَيَقْتُلُ بِهَا الْحَيَّاتِ وَيُحَارِبُ بِهَا السِّبَاعَ، وَيَسْتَظِلُّ بِهَا إِذَا قَعَدَ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ مُوسَى كَانَ يَحْمِلُ عَلَيْهَا زَادَهُ وَسِقَاءَهُ، فَجَعَلَتْ تُمَاشِيهِ وتحادثه وَكَانَ يَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ فَيَخْرُجُ مَا يَأْكُلُ يَوْمَهُ، وَيَرْكُزُهَا فَيَخْرُجُ الْمَاءُ فَإِذَا رَفَعَهَا ذَهَبَ الْمَاءُ وإذا اشتهى ثمرة ركزها فتفصّنت [٢] غصنا كالشجرة وَأَوْرَقَتْ وَأَثْمَرَتْ، وَإِذَا أَرَادَ الِاسْتِقَاءَ مِنَ الْبِئْرِ أَدْلَاهَا فَطَالَتْ عَلَى طُولِ الْبِئْرِ وَصَارَتْ شُعْبَتَاهَا كَالدَّلْوِ حَتَّى يَسْتَقِيَ، وَكَانَتْ تُضِيءُ بِاللَّيْلِ بِمَنْزِلَةِ السِّرَاجِ، وَإِذَا ظَهَرَ لَهُ عَدُوٌّ كَانَتْ تُحَارِبُ وَتُنَاضِلُ عَنْهُ.
قالَ، اللَّهُ تَعَالَى، أَلْقِها يَا مُوسى، انْبِذْهَا، قَالَ وَهْبٌ: ظَنَّ مُوسَى أَنَّهُ يَقُولُ ارْفُضْهَا.
فَأَلْقاها، عَلَى وَجْهِ الرَّفْضِ [٣] ثُمَّ حَانَتْ مِنْهُ نَظْرَةٌ، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ، صَفْرَاءُ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ، تَسْعى، تَمْشِي بِسُرْعَةٍ عَلَى بَطْنِهَا وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخر: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص: ٣١] وَهِيَ الْحَيَّةُ الصَّغِيرَةُ الْخَفِيفَةُ [٤] الْجِسْمِ، وقال في موضع: [فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الأعراف: ١٠٧]، وهي أَكْبَرُ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ، فَأَمَّا الْحَيَّةُ فَإِنَّهَا تَجْمَعُ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَالذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَقِيلَ: الْجَآنُّ عِبَارَةٌ عَنِ ابْتِدَاءِ حَالِهَا فَإِنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً عَلَى قَدْرِ الْعَصَا ثُمَّ كَانَتْ تَتَوَرَّمُ وَتَنْتَفِخُ حَتَّى صارت ثعبان، وَالثُّعْبَانُ عِبَارَةٌ عَنِ انْتِهَاءِ حَالِهَا، وَقِيلَ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي عِظَمِ الثعبان خفة [٥] الْجَانِّ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: نَظَرَ مُوسَى فَإِذَا الْعَصَا حَيَّةٌ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ مِنَ الْحَيَّاتِ صَارَتْ شُعْبَتَاهَا شِدْقَيْنِ لَهَا، والمحجن عنقا لها وَعُرْفًا تَهْتَزُّ كَالنَّيَازِكِ، وَعَيْنَاهَا تَتَّقِدَانِ كَالنَّارِ تَمُرُّ بِالصَّخْرَةِ الْعَظِيمَةِ مِثْلَ الحلقة من الإبل، فتلتقمها وَتَقْصِفُ الشَّجَرَةَ الْعَظِيمَةَ بِأَنْيَابِهَا، وَيُسْمَعُ لِأَسْنَانِهَا صَرِيفٌ عَظِيمٌ، فَلَمَّا عَايَنَ ذَلِكَ مُوسَى وَلَّى مُدْبِرًا وَهَرَبَ، ثُمَّ ذَكَرَ رَبَّهُ فَوَقَفَ اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، ثُمَّ نُودِيَ أَنْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَارْجِعْ حَيْثُ كُنْتَ، فَرَجَعَ وَهُوَ شَدِيدُ الْخَوْفِ.
قالَ خُذْها، بِيَمِينِكَ، وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى، هَيْئَتَهَا الْأُولَى أَيْ نَرُدُّهَا عَصًا كَمَا كَانَتْ، وَكَانَ عَلَى مُوسَى مُدَرَّعَةٌ مِنْ صُوفٍ قد خللها بِعِيدَانٍ [٦] فَلَمَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُذْها وَلا تَخَفْ لَفَّ طَرَفَ الْمُدَرَّعَةِ عَلَى يَدِهِ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكْشِفَ يده فكشفها، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أَنَّهُ لَمَّا لَفَّ كُمَّ الْمُدَرَّعَةِ عَلَى يَدِهِ قَالَ لَهُ مَلَكٌ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَذِنَ اللَّهُ بِمَا تُحَاذِرُهُ أَكَانَتِ الْمُدَرَّعَةُ تُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا [٧] ولكن ضَعِيفٌ وَمِنْ ضَعْفٍ خُلِقْتُ، فَكَشَفَ عَنْ يَدِهِ ثُمَّ وَضَعَهَا [فِي فَمِ الْحَيَّةِ] [٨] فَإِذَا هِيَ عَصًا كَمَا كَانَتْ وَيَدُهُ فِي شُعْبَتِهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ يَضَعُهَا إِذَا تَوَكَّأَ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُرِيَ مُوسَى مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْآيَةِ الَّتِي لَا يَقْدِرُ عَلَيْهَا مَخْلُوقٌ لِئَلَّا يَفْزَعَ مِنْهَا إِذَا أَلْقَاهَا عند فرعون. وقوله: سِيرَتَهَا نصب
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «فجعلت تماشيه».
(٣) في المطبوع وحده «الأرض». [.....]
(٤) في المخطوط «الخفية».
(٥) في المطبوع «سرعة».
(٦) زيد في المطبوع «من الخلال».
(٧) في المخطوط «بلى».
(٨) زيادة عن المخطوط.
259
بِحَذْفِ إِلَى يُرِيدُ إِلَى سِيرَتِهَا «الْأُولَى».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ، يعني إِبْطِكَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: تَحْتَ عَضُدِكَ، وَجَنَاحُ الْإِنْسَانِ عَضُدُهُ إِلَى أَصْلِ إِبْطِهِ، تَخْرُجْ بَيْضاءَ، نَيِّرَةً مُشْرِقَةً، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ، مِنْ غَيْرِ عيب [قال مجاهد] [١] :
وَالسُّوءُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَرَصِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ لِيَدِهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُضِيءُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشمس والقمر، آيَةً أُخْرى، يعني دَلَالَةً أُخْرَى عَلَى صِدْقِكَ سِوَى الْعَصَا.
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣)، ولم يقل الكبر لرؤوس الْآيِ. وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ مَعْنَاهُ لنريك من آياتنا [الآية] [٢] الْكُبْرَى، دَلِيلُهُ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كَانَتْ يَدُ مُوسَى أَكْبَرَ آيَاتِهِ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٤ الى ٣٨]
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨)
قوله تَعَالَى: اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)، يعني جَاوَزَ الْحَدَّ فِي الْعِصْيَانِ وَالتَّمَرُّدِ، فَادْعُهُ إِلَى عِبَادَتِي.
قالَ، مُوسَى، رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَسِّعْهُ لِلْحَقِّ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ حَتَّى لَا أَخَافَ غَيْرَكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ يَخَافُ فِرْعَوْنَ خَوْفًا شَدِيدًا لِشِدَّةِ شَوْكَتِهِ وَكَثْرَةِ جُنُودِهِ، وَكَانَ يَضِيقُ صَدْرًا بِمَا كلّف من مقاومة فرعون وجنده، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُوَسِّعَ قَلْبَهُ لِلْحَقِّ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى مَضَرَّتِهِ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، وَإِذَا عَلِمَ ذَلِكَ لم يخف فرعون مع [٣] شدة شَوْكَتِهِ وَكَثْرَةَ جُنُودِهِ.
وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)، يعني سَهِّلْ عَلَيَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ إِلَى فِرْعَوْنَ.
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧)، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي صِغَرِهِ، فَلَطَمَ فِرْعَوْنَ لَطْمَةً وَأَخْذَ بِلِحْيَتِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ لِآسِيَةَ امْرَأَتِهِ: إِنَّ هَذَا عَدُوِّي وَأَرَادَ أَنْ يَقْتُلَهُ، فَقَالَتْ آسِيَةُ: إِنَّهُ صَبِيٌّ لَا يَعْقِلُ وَلَا يُمَيِّزُ. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ أُمَّ مُوسَى لَمَّا فَطَمَتْهُ رَدَّتْهُ فَنَشَأَ مُوسَى فِي حَجْرِ فِرْعَوْنَ وَامْرَأَتِهِ آسِيَةَ يُرَبِّيَانِهِ، وَاتَّخَذَاهُ وَلَدًا فَبَيْنَمَا هُوَ يَلْعَبُ يَوْمًا بَيْنَ يَدَيْ فِرْعَوْنَ وَبِيَدِهِ قَضِيبٌ يَلْعَبُ بِهِ إِذْ رَفَعَ الْقَضِيبَ فَضَرَبَ بِهِ رَأْسَ فِرْعَوْنَ، فَغَضِبَ فِرْعَوْنُ [وَتَطَيَّرَ بِضَرْبِهِ] [٤] حَتَّى هَمَّ بقتله، فقالت [له] [٥] آسِيَةُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ فَجَرِّبْهُ إِنْ شِئْتَ، فجاءت بطستين فِي أَحَدِهِمَا الْجَمْرُ وَفِي الْآخَرِ الْجَوَاهِرُ، فَوَضَعَتْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ مُوسَى فأراد [موسى] [٦] أَنْ يَأْخُذَ الْجَوَاهِرَ، فَأَخَذَ جِبْرِيلُ بِيَدِ مُوسَى فَوَضَعَهَا عَلَى النَّارِ فأخذ جمرة فوضعها في فيه [٧] فأحرقت لِسَانُهُ وَصَارَتْ عَلَيْهِ عُقْدَةٌ.
يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨)، يَقُولُ احْلُلِ الْعُقْدَةَ كَيْ يفقهوا كلامي.
(١) سقط من المطبوع.
(٢) زيد في المطبوع «عن».
(٣) في المطبوع «و».
(٤) في المخطوط «من ذلك».
(٥) زيادة عن المخطوط.
(٦) زيادة عن المخطوط.
(٧) في المطبوع «فمه».
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً، مُعِينًا وَظَهِيرًا، مِنْ أَهْلِي وَالْوَزِيرُ مَنْ يُوَازِرُكَ وَيُعِينُكَ وَيَتَحَمَّلُ عَنْكَ بَعْضَ ثِقَلِ عَمَلِكَ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُوَ فَقَالَ:
هارُونَ أَخِي (٣٠)، وَكَانَ هَارُونُ أَكْبَرَ مِنْ مُوسَى بِأَرْبَعِ سِنِينَ وَكَانَ أَفْصَحَ مِنْهُ لِسَانًا وَأَجْمَلَ وأوسم، أبيض اللَّوْنِ، وَكَانَ مُوسَى آدَمَ أَقْنَى أجعد.
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)، قَوِّ بِهِ ظهري.
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢)، يعني فِي النُّبُوَّةِ وَتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ «أَشْدُدْ» بِفَتْحِ الْأَلِفِ «وَأُشْرِكْهُ» بِضَمِّهَا عَلَى الْجَوَابِ حِكَايَةً عن موسى يعني أَفْعَلُ ذَلِكَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الدُّعَاءِ، وَالْمَسْأَلَةِ عَطْفًا عَلَى مَا تقدم من قوله: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦).
كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣)، قَالَ الْكَلْبِيُّ: نُصَلِّي لَكَ كَثِيرًا.
وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤)، نَحْمَدُكَ وَنُثْنِي عَلَيْكَ بِمَا أَوْلَيْتَنَا مِنْ نِعَمِكَ.
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)، خَبِيرًا عَلِيمًا.
قالَ، اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أُوتِيتَ، أُعْطِيتَ، سُؤْلَكَ، جَمِيعَ مَا سَأَلْتَهُ، يَا مُوسى.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ، أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ، مَرَّةً أُخْرى، يَعْنِي قَبْلَ هَذِهِ الْمَرَّةِ وَهِيَ:
إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ، وَحْيُ إِلْهَامٍ، مَا يُوحى، مَا يُلْهَمُ. ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ الْإِلْهَامَ وَعَدَّدَ نِعَمَهُ عليه فقال:
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، يعني أَلْهَمْنَاهَا أَنِ اجْعَلِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، يَعْنِي نَهْرَ النِّيلِ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَعْنِي شاطىء النَّهْرِ، لَفْظُهُ أَمْرٌ وَمَعْنَاهُ خَبَرٌ، ومجازه حَتَّى يُلْقِيَهُ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ، فَاتَّخَذَتْ تَابُوتًا وَجَعَلَتْ فِيهِ قُطْنًا مَحْلُوجًا وَوَضَعَتْ فِيهِ مُوسَى وَقَيَّرَتْ رَأْسَهَ وَخَصَاصَهُ يَعْنِي شُقُوقَهُ ثُمَّ أَلْقَتْهُ فِي النِّيلِ، وَكَانَ يَشْرَعُ مِنْهُ نَهْرٌ كَبِيرٌ فِي دَارِ فِرْعَوْنَ، فَبَيْنَمَا فِرْعَوْنُ جَالِسٌ عَلَى رَأْسِ الْبِرْكَةِ مَعَ امْرَأَتِهِ آسية إذ التابوت [١] يَجِيءُ بِهِ الْمَاءُ فَأَمَرَ الْغِلْمَانَ وَالْجَوَارِيَ بِإِخْرَاجِهِ، فَأَخْرَجُوهُ وَفَتَحُوا رَأْسَهُ فَإِذَا صَبِيٌّ مِنْ أَصْبَحِ النَّاسِ وَجْهًا، فَلَمَّا رَآهُ فِرْعَوْنُ أَحَبَّهُ بحيث لم يتمالك [لبه في محبته] [٢]، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحَبَّهُ وَحَبَّبَهُ إِلَى خَلْقِهِ. قَالَ عِكْرِمَةُ: مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا أَحَبَّهُ. قَالَ قَتَادَةُ: مَلَاحَةٌ كَانَتْ فِي عَيْنَيْ مُوسَى، مَا رَآهُ أَحَدٌ إِلَّا عَشِقَهُ. وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي، أي لِتُرَبَّى بِمَرْأَى وَمَنْظَرٍ مِنِّي، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَلِتُصْنَعَ بِالْجَزْمِ.
إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، وَاسْمُهَا مَرْيَمُ مُتَعَرِّفَةً خَبَرَهُ، فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ، أَيْ عَلَى امْرَأَةٍ تُرْضِعُهُ وَتَضُمُّهُ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَقْبَلُ ثَدْيَ امْرَأَةٍ فلما قالت لهم أخته ذلك قالوا: نعم، فجاءت بالأم [فضمته وألقمته ثديها] [٣] فَقَبِلَ ثَدْيَهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(١) في المطبوع «إذ تابوت».
(٢) زيادة عن المخطوط. [.....]
(٣) زيادة عن المخطوط.
فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها، بِلِقَائِكَ، وَلا تَحْزَنَ، أَيْ ليذهب عَنْهَا الْحَزَنُ، وَقَتَلْتَ نَفْساً، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كَانَ قَتَلَ قِبْطِيًّا كَافِرًا. قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: كَانَ إِذْ ذَاكَ ابْنَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ، أَيْ مِنْ غَمِّ الْقَتْلِ وَكَرْبِهِ، وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَبَرْنَاكَ اخْتِبَارًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلَاءً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَخْلَصْنَاكَ إِخْلَاصًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْفُتُونَ وُقُوعُهُ فِي مِحْنَةٍ بَعْدَ مِحْنَةٍ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنْهَا، أَوَّلُهَا أَنَّ أُمَّهُ حَمَلَتْهُ فِي السَّنَةِ التي كان فرعون يذبح فيها الْأَطْفَالَ، ثُمَّ إِلْقَاؤُهُ فِي الْبَحْرِ فِي التَّابُوتِ، ثُمَّ مَنْعُهُ الرِّضَاعَ إِلَّا مِنْ ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ أَخْذُهُ بِلِحْيَةِ فِرْعَوْنَ حَتَّى هَمَّ بِقَتْلِهِ، ثُمَّ تَنَاوُلُهُ الْجَمْرَةَ بَدَلَ الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إِلَى مَدْيَنَ خَائِفًا فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُصُّ الْقِصَّةَ عَلَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، فَعَلَى هَذَا مَعْنَى فتناك خَلَّصْنَاكَ مِنْ تِلْكَ الْمِحَنِ كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ فَيُخَلَّصُ مَنْ كُلِّ خَبَثٍ فِيهِ، وَالْفُتُونُ مَصْدَرٌ، فَلَبِثْتَ
، فَمَكَثْتَ أَيْ فَخَرَجْتَ مِنْ أرض مصر إلى مدين فَلَبِثْتَ، سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ، يعني ترعى الأغنام [لشعيب] [١] عَشْرَ سِنِينَ، وَمَدْيَنُ بَلْدَةُ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى ثَمَانِ مَرَاحِلَ مِنْ مِصْرَ، هَرَبَ إِلَيْهَا مُوسَى.
وَقَالَ وَهْبٌ: لَبِثَ عِنْدَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ثَمَانِيًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، عشر سنين منها مهر [زوجته صفوراء بِنْتُ] [٢] شُعَيْبٍ، وَثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً أَقَامَ عِنْدَهُ حَتَّى وُلِدَ لَهُ، ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى، قَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى مَوْعِدٍ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْعِدُ مَعَ مُوسَى وَإِنَّمَا كَانَ مَوْعِدًا فِي تَقْدِيرِ اللَّهِ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ:
جِئْتَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي قَدَّرْتُ لك أنك تجيء إليّ فيه. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَيْسَانَ: عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُوحَى فِيهِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، أَيْ عَلَى الْمَوْعِدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ وَقَدَّرَهُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ بِالرِّسَالَةِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤١ الى ٤٨]
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥)
قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)، أَيِ اخْتَرْتُكَ وَاصْطَفَيْتُكَ لِوَحْيِي وَرِسَالَتِي، يعني لتتصرف عَلَى إِرَادَتِي وَمَحَبَّتِي وَذَلِكَ أَنَّ قِيَامَهُ بِأَدَاءِ الرِّسَالَةِ تَصَرُّفٌ عَلَى إِرَادَةِ اللَّهِ وَمَحَبَّتِهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ:
اخْتَرْتُكَ لِأَمْرِي وَجَعَلْتُكَ الْقَائِمَ بِحُجَّتِي وَالْمُخَاطَبَ بَيْنِي وَبَيْنَ خَلْقِي، كَأَنِّي الَّذِي أَقَمْتُ بِكَ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةَ وَخَاطَبْتُهُمُ.
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي، بدلالاتي، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي بَعَثَ بِهَا مُوسَى وَلا تَنِيا، ولا تَضْعُفَا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا تَفْتُرَا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا تُقَصِّرَا، فِي ذِكْرِي.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣)، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لِنَفْسِي اذْهَبْ، وذِكْرِي اذْهَبا، وإِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا ومِنْ بَعْدِي اسْمُهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ فِيهِنَّ وَوَافَقَهُمْ أَبُو بكر:
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «ابنته صغير ابنة».
262
مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ [١] بِإِسْكَانِهَا.
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، يقول دارياه وارفقا بِهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنه: لا تعنفا في قولكما [له] [٢]، وَقَالَ السُّدِّيُّ وَعِكْرِمَةُ: كَنِّيَاهُ فَقُولَا يَا أَبَا الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بالقول اللَّيِّنَ: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) [النازعات: ١٨- ١٩]، وقيل: أمرهما بِاللَّطَافَةِ فِي الْقَوْلِ لِمَا لَهُ مِنْ حَقِّ التَّرْبِيَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْقَوْلُ اللَّيِّنُ أَنَّ مُوسَى أَتَاهُ وَوَعَدَهُ عَلَى قَبُولِ الْإِيمَانِ شَبَابًا لا يهرم معه وَمُلْكًا لَا يُنْزَعُ مِنْهُ إِلَّا بالموت، ويبقى له لَذَّةُ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ إِلَى حِينِ مَوْتِهِ، وَإِذَا مَاتَ دَخَلَ الْجَنَّةَ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَا يَقْطَعُ أَمْرًا دُونَ هَامَانَ، وَكَانَ غَائِبًا فَلَمَّا قَدِمَ أَخْبَرَهُ بِالَّذِي دَعَاهُ إِلَيْهِ مُوسَى، وَقَالَ أَرَدْتُ أَنْ أَقْبَلَ مِنْهُ، فَقَالَ لَهُ هَامَانُ: كُنْتُ أَرَى أَنَّ لَكَ عَقْلًا وَرَأْيًا أَنْتَ رَبٌّ تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مَرْبُوبًا وَأَنْتَ تُعْبَدُ تريد أن تعبد، فغلبه على رَأْيِهِ، وَكَانَ هَارُونُ يَوْمَئِذٍ بِمِصْرَ، فَأَمْرَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ يَأْتِيَ هَارُونَ وَأَوْحَى إِلَى هَارُونَ وَهُوَ بِمِصْرَ أَنْ يَتَلَقَّى مُوسَى فَتَلَقَّاهُ إِلَى [٣] مَرْحَلَةٍ وَأَخْبَرَهُ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى، أَيْ يَتَّعِظُ وَيَخَافُ فَيُسْلِمُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ وقد سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَذَكَّرُ وَلَا يُسْلِمُ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ اذْهَبَا عَلَى رَجَاءٍ مِنْكُمَا وَطَمَعٍ وَقَضَاءُ اللَّهِ وَرَاءَ أَمْرِكُمَا. وَقَالَ الْحُسَيْنُ [٤] بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ يَنْصَرِفُ إِلَى غَيْرِ فِرْعَوْنَ مَجَازُهُ لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ [مُتَذَكِّرٌ] [٥] وَيَخْشَى خَاشٍ إِذَا رَأَى بِرِّي وَأَلْطَافِي بِمَنْ خَلَقْتُهُ وَأَنْعَمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَرَّاقُ: لَعَلَّ مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ، وَلَقَدْ تَذَكَّرَ فِرْعَوْنُ وَخَشِيَ حِينَ لَمْ تَنْفَعْهُ الذِّكْرَى وَالْخَشْيَةُ وَذَلِكَ حِينَ أَلْجَمَهُ الْغَرَقُ، قَالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ هَذِهِ الآية: فقالا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا، فَبَكَى يَحْيَى، وَقَالَ: إِلَهِي هَذَا رِفْقُكَ [٦] بِمَنْ يَقُولُ أَنَا الْإِلَهُ، فَكَيْفَ رِفْقُكَ بِمَنْ يَقُولُ أَنْتَ الْإِلَهُ؟! قَالَا، يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ، رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
يَعْجَلُ عَلَيْنَا بِالْقَتْلِ وَالْعُقُوبَةِ، يُقَالُ: فَرَطَ عَلَيْهِ فُلَانٌ إِذَا عَجِلَ بِمَكْرُوهٍ، وَفَرَطَ مِنْهُ أَمْرٌ أَيْ بَدَرَ وَسَبَقَ، أَوْ أَنْ يَطْغى، أَيْ يُجَاوِزُ الْحَدَّ فِي الْإِسَاءَةِ إِلَيْنَا.
قالَ لَا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)، قَالَ ابْنُ عباس: أسمع دعاء كما فَأُجِيبُهُ وَأَرَى مَا يُرَادُ بِكُمَا فَأَمْنَعُهُ لَسْتُ بِغَافِلٍ عَنْكُمَا فَلَا تَهْتَمَّا.
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ، أَرْسَلَنَا إِلَيْكَ، فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ، أَيْ خَلِّ عَنْهُمْ وأطلقهم عن [٧] أَعْمَالِكَ، وَلا تُعَذِّبْهُمْ لَا تُتْعِبْهُمْ فِي الْعَمَلِ، وَكَانَ فِرْعَوْنُ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِي الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ، قَالَ فِرْعَوْنُ: وَمَا هِيَ فَأَخْرَجَ يَدَهُ لَهَا شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ، وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، لَيْسَ الْمُرَادُ منه التحية إنما معناه يسلم مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مَنْ أَسْلَمَ.
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى، أي إِنَّمَا يُعَذِّبُ اللَّهُ مَنْ كَذَّبَ بِمَا جِئْنَا بِهِ وَأَعْرَضَ عَنْهُ.
(١) في المخطوط «الآخرون».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المخطوط «من».
(٤) في المخطوط «الحسن».
(٥) زيادة عن المخطوط.
(٦) في المطبوع «برك».
(٧) في المطبوع «من».
263

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٦]

قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦)
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩)، مَنْ إِلَهُكُمَا الَّذِي أَرْسَلَكُمَا.
قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠)، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صَلَاحَهُ ثم هداه لِمَا يُصْلِحُهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ صُورَتَهُ، لَمْ يَجْعَلْ خَلْقَ الْإِنْسَانِ كَخَلْقِ الْبَهَائِمِ، وَلَا خَلْقَ الْبَهَائِمِ كَخَلْقِ الْإِنْسَانِ ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى مَنَافِعِهِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَنْكَحِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ يَعْنِي الْيَدَ لِلْبَطْشِ وَالرِّجْلَ لِلْمَشْيِ وَاللِّسَانَ لِلنُّطْقِ وَالْعَيْنَ لِلنَّظَرِ وَالْأُذُنَ لِلسَّمْعِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَعْطَى كُلَّ شيء خلقه يعني زوج الإنسان المرأة، والبعير الناقة والفرس الرمكة والحمار الأتان، ثُمَّ هَدى أَيْ أَلْهَمَهُ كَيْفَ يأتي الذكر الأنثى.
قالَ فِرْعَوْنُ، فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى، وَمَعْنَى الْبَالِ الْحَالُ، أَيْ مَا حَالُ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ فِيمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [١] فَإِنَّهَا كَانَتْ تَعْبُدُ الْأَوْثَانَ وَتُنْكِرُ الْبَعْثَ.
قالَ، مُوسَى، عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي، أَيْ أَعْمَالُهُمْ مَحْفُوظَةٌ عِنْدَ اللَّهِ يُجَازِي بِهَا. وَقِيلَ: إِنَّمَا رَدَّ مُوسَى عِلْمَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ التوراة أنزلت إليه بَعْدَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ. فِي كِتابٍ، يَعْنِي فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، لَا يَضِلُّ رَبِّي، أَيْ لَا يخطىء. وقيل: لا يغيب عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَغِيبُ عَنْ شيء، وَلا يَنْسى، مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ حَتَّى يُجَازِيَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ وَقِيلَ: لَا يَنْسَى أي لا يترك الانتقام فَيَنْتَقِمُ مِنَ الْكَافِرِ وَيُجَازِي الْمُؤْمِنَ.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، قرأ أهل الكوفة: مَهْداً، هاهنا وَفِي الزُّخْرُفِ [١٠] فَيَكُونُ مَصْدَرًا أَيْ فَرْشًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: «مِهَادًا»، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) [النَّبإِ: ٦] أَيْ فِرَاشًا وَهُوَ اسْمٌ [لِمَا] [٢] يُفْرَشُ كَالْبِسَاطِ اسْمٌ لِمَا يُبْسَطُ، وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا السَّلْكُ إِدْخَالُ الشَّيْءِ فِي الشَّيْءِ وَالْمَعْنَى أَدْخَلَ فِي الْأَرْضِ لِأَجْلِكُمْ طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَهَّلَ [٣] لَكُمْ فِيهَا طُرُقًا تَسْلُكُونَهَا، وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً، يَعْنِي الْمَطَرَ. تَمَّ الْإِخْبَارُ عَنْ مُوسَى، ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: فَأَخْرَجْنا بِهِ، بِذَلِكَ الْمَاءِ أَزْواجاً، أَصْنَافًا، مِنْ نَباتٍ شَتَّى، مُخْتَلِفِ الْأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالْمَنَافِعِ مِنْ أَبْيَضَ وَأَحْمَرَ وَأَخْضَرَ وَأَصْفَرَ، فَكُلُّ صنف منها زوج، فمنها الناس ومنها الدواب [٤].
كُلُوا وَارْعَوْا أَيْ وَارْتَعُوا، أَنْعامَكُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: رَعَيْتُ [٥] الْغَنَمَ فَرَعَتْ أي أسيموا أنعامكم
(١) في المخطوط «تدعوني إليها».
(٢) سقط من المطبوع.
(٣) في المطبوع «سلك».
(٤) في المطبوع «للناس- للدواب». [.....]
(٥) في المطبوع «رعيتم».
تَرْعَى، إِنَّ فِي ذلِكَ، الَّذِي ذَكَرْتُ، لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى، لِذَوِي الْعُقُولِ، وَاحِدَتُهَا نُهْيَةٌ سُمِّيَتْ نُهْيَةً لِأَنَّهَا تَنْهَى صَاحِبَهَا عَنِ الْقَبَائِحِ وَالْمَعَاصِي. قَالَ الضَّحَّاكُ: لِأُولِي النُّهَى الذين ينتهون عمّا حرّم الله عَلَيْهِمْ، قَالَ قَتَادَةُ: لِذَوِي الْوَرَعِ.
مِنْها أَيْ مِنَ الْأَرْضِ، خَلَقْناكُمْ، يَعْنِي أَبَاكُمْ آدَمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: إِنَّ الْمَلَكَ يَنْطَلِقُ فَيَأْخُذُ مِنْ تُرَابِ الْمَكَانِ الَّذِي يُدْفَنُ [فِيهِ] [١] فَيَذَرُهُ عَلَى النُّطْفَةِ فَيَخْلُقُ مِنَ التُّرَابِ وَمِنَ النُّطْفَةِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ، أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالدَّفْنِ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى، يَوْمَ البعث.
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ، آياتِنا كُلَّها، يَعْنِي الْآيَاتِ التِّسْعَ الَّتِي أَعْطَاهَا اللَّهُ مُوسَى، فَكَذَّبَ، بِهَا وَزَعَمَ أَنَّهَا سِحْرٌ، وَأَبى، أَنْ يسلم.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٧ الى ٦١]
قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١)
قالَ، يَعْنِي فِرْعَوْنَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا، يعنى أرض مصر، بِسِحْرِكَ يا مُوسى، أي أتريد أَنْ تَغْلِبَ عَلَى دِيَارِنَا فَيَكُونَ لَكَ الْمُلْكُ وَتُخْرِجَنَا مِنْهَا.
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً، أي فاضرب بيننا وبينك أَجَلًا وَمِيقَاتًا، لَا نُخْلِفُهُ، قَرَأَ أبو جعفر لا نُخْلِفُهُ جزما لَا نُجَاوِزُهُ، نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: سُوىً بِضَمِّ السِّينِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ عِدًى وَعُدًى وَطِوًى وَطُوًى، قَالَ مُقَاتِلٌ وَقَتَادَةُ: مَكَانًا عَدْلًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ. وَعَنِ ابْنِ عباس: نصفا، ومعناه تستوي [فيه] [٢] مسافة الفريقين إليه. قال أبو عبيدة والقتيبي: وسطا بين الفريقين. قَالَ مُجَاهِدٌ: مُنْصِفًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي سِوَى هَذَا الْمَكَانِ.
قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ يَوْمَ عِيدٍ لَهُمْ يَتَزَيَّنُونَ فِيهِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي كُلِّ سَنَةٍ. وَقِيلَ: هُوَ يَوْمُ النَّيْرُوزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى، أَيْ وقت الضحوة نهارا وجهارا لِيَكُونَ [أَبْعَدَ] [٣] مِنَ الرَّيْبَةِ.
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ، مَكْرَهُ وَحِيلَتَهُ وسحرته، ثُمَّ أَتى، إلى الْمِيعَادَ.
قالَ لَهُمْ مُوسى، يَعْنِي لِلسَّحَرَةِ الَّذِينَ جَمَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَكَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ سَاحِرًا مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ حَبْلٌ وَعَصًا. وَقِيلَ: كَانُوا أربعمائة. وقال كعب [الأحبار] [٤] : كَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. وَقِيلَ: أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ: فَيُسْحِتَكُمْ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ وَهُمَا لُغَتَانِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: فَيُهْلِكَكُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فَيَسْتَأْصِلَكُمْ، وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى.
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) زيادة عن المخطوط.

[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٢ الى ٦٤]

فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ، أَيْ تَنَاظَرُوا وَتَشَاوَرُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ فِي أَمْرِ مُوسَى سِرًّا مِنْ فِرْعَوْنَ.
قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالُوا سِرًّا إِنْ غَلَبَنَا مُوسَى اتَّبَعْنَاهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا قَالَ لَهُمْ مُوسَى [وَيْلَكُمْ] [١] لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا هَذَا بِقَوْلِ سَاحِرٍ [٢]. وَأَسَرُّوا النَّجْوى، أي المناجاة يكون مصدورا أو اسما، ثُمَّ قالُوا، وَأَسَرَّ بَعْضُهُمْ إِلَى بعض يتناجون، إنّ هذين لساحران، يعني موسى وهارون، وقرأ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ: إِنْ بِتَخْفِيفِ النُّونِ، هذانِ أَيْ مَا هَذَانِ إِلَّا سَاحِرَانِ، كَقَوْلِهِ:
وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ [الشُّعَرَاءِ: ١٨٦]، أَيْ مَا نظنك إلّا من الكاذبين، وشدد ابْنُ كَثِيرٍ النُّونَ مِنْ هذانِ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو إِنْ بِتَشْدِيدِ النُّونِ هَذَيْنِ بِالْيَاءِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: إِنْ بِتَشْدِيدِ النُّونِ، هذانِ بِالْأَلِفِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، [فَرَوَى عَنْ] [٣] هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ: أنه خطأ من الكاتب [٤]. وقال قوم: هو لغة بالحارث بْنِ كَعْبٍ وَخَثْعَمَ وَكِنَانَةَ فَإِنَّهُمْ يجعلون الاثنين في موضع الرَّفْعِ وَالنَّصْبِ وَالْخَفْضِ بِالْأَلِفِ، يَقُولُونَ: أَتَانِي الزَّيْدَانِ وَرَأَيْتُ الزَّيْدَانِ وَمَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ، فَلَا يَتْرُكُونَ أَلِفَ التَّثْنِيَةِ في شيء، وَكَذَلِكَ يَجْعَلُونَ كُلَّ يَاءٍ سَاكِنَةٍ انْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا أَلِفًا، [كَمَا فِي التَّثْنِيَةِ] [٥]، يَقُولُونَ: كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عَلَاهُ، يَعْنِي يَدَيْهِ وَعَلَيْهِ. وَقَالَ شَاعِرُهُمْ:
تَزَوَّدَ مِنِّي بَيْنَ أُذْنَاهُ [٦] ضَرَبَةً دَعَتْهُ إِلَى هَابِي [٧] التراب عقيم
يريد بين أذنه. وَقَالَ آخَرُ:
إِنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجِدِ غَايَتَاهَا [٨]
وَقِيلَ: تَقْدِيرُ الْآيَةِ إِنَّهُ هَذَانِ، فَحَذَفَ الْهَاءَ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ حَرْفَ إِنَّ هَاهُنَا بِمَعْنَى نَعَمْ، أَيْ نَعَمْ هَذَانِ. رُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ شَيْئًا فَحَرَّمَهُ، فَقَالَ: لَعَنَ اللَّهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إِلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: إِنَّ وَصَاحِبَهَا، أَيْ: نَعَمْ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
بَكَرَتْ عَلَيَّ عواذلي يلحينني [٩] فألومهنّه
وَيقُلْنَ شَيبٌ قَدْ عَلَا كَ وَقَدْ كَبُرْتَ فَقُلْتُ إَنَّهْ
أَيْ: نَعَمْ. يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ، مِصْرَ، بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِسَرَاةِ قَوْمِكُمْ وَأَشْرَافِكُمْ، يُقَالُ: هَؤُلَاءِ طريقة قومهم أي أشرافهم، والمثل تأنيث الأمثل
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «الساحر».
(٣) في المطبوع «قرأ» وفي- ط- «فروى».
(٤) منكر. أخرجه أبو بكر بن أبي داود في «المصاحف» ص ٤٣ من طريق عمرو بن عبد الله الأودي، وهو ثقة عن أبي معاوية عن هشام به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة أبي معاوية، وهو مدلس، والمتن منكر.
(٥) زيد في المطبوع وط.
(٦) في المطبوع «أدناه».
(٧) في المطبوع «هاني».
(٨) في المطبوع «غايتها».
(٩) في المطبوع «يلهمني». [.....]
وهو الأفضل، حدث [١] الشَّعْبِيِّ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: يَصْرِفَانِ وجوه الناس إليهما. وقال قتادة: طريقتهم المثلى كان بنو إسرائيل يومئذ أَكْثَرَ الْقَوْمِ عَدَدًا وَأَمْوَالًا، فَقَالَ عدو الله: يريد أَنْ يَذْهَبَا بِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ:
بطريقتكم بِسُنَّتِكُمْ وَدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، والمثلى نَعْتُ الطَّرِيقَةِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: فُلَانٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُثْلَى، يَعْنِي عَلَى الصراط المستقيم.
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو فَاجْمَعُوا بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَفَتْحِ الْمِيمِ، مِنَ الْجَمْعِ [٢] أَيْ لَا تَدَعُوا شَيْئًا [٣] مِنْ كَيْدِكُمْ إِلَّا جِئْتُمْ بِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: [ (فَجَمَعَ كَيْدَهُ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْمِيمِ فَقَدْ قِيلَ: مَعْنَاهُ الْجَمْعُ أَيْضًا تَقُولُ الْعَرَبُ أَجْمَعْتُ الشَّيْءَ) ] [٤] وَجَمَعْتُهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَعْنَاهُ الْعَزْمُ وَالْإِحْكَامُ، أَيِ اعْزِمُوا كُلُّكُمْ عَلَى كَيْدِهِ مُجْتَمِعِينِ لَهُ وَلَا تَخْتَلِفُوا فَيَخْتَلَّ أَمْرُكُمْ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أَيْ جَمِيعًا، قَالَهُ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ، وَقَالَ قَوْمٌ أَيْ مُصْطَفِّينَ مُجْتَمِعِينَ لِيَكُونَ أَشَدَّ لِهَيْبَتِكُمْ، وقال أبو عبيدة [٥] : الصف المجتمع، وَيُسَمَّى الْمُصَلَّى صَفًّا مَعْنَاهُ ثُمَّ ائتوا المكان الموعود [٦] صَفًّا، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى، أَيْ فَازَ مَنْ غَلَبَ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٧١]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١)
قالُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ، يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، عَصَاكَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى، عَصَاهُ [٧].
قالَ، مُوسَى، بَلْ أَلْقُوا، أَنْتُمْ أَوَّلًا، فَإِذا حِبالُهُمْ، وَفِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ فَأَلْقَوْا فَإِذَا حِبَالُهُمْ، وَعِصِيُّهُمْ، جَمْعُ الْعَصَا، يُخَيَّلُ إِلَيْهِ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ تُخَيَّلُ بالتاء رد إِلَى الْحِبَالِ وَالْعِصِيِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ رَدُّوهُ إِلَى الْكَيْدِ وَالسِّحْرِ، [مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى، حتى تظن أنها تسعى أي تمشي وذلك أنهم كانوا لطخوا حبالهم وعصيّهم بالزئبق، فلما أصابه حرّ الشمس انهمست واهتزت فظن موسى أنها تقصده] [٨] وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَلْقَوُا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ أَخَذُوا أَعْيُنَ النَّاسِ فَرَأَى مُوسَى وَالْقَوْمُ كَأَنَّ الْأَرْضَ امْتَلَأَتْ حَيَّاتٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَخَذَتْ مَيْلًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَرَأَوْا أنها تسعى [وهو قوله يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى] [٩].
(١) في المطبوع «حديث».
(٢) في المخطوط «المجمع».
(٣) في المطبوع «أشياء».
(٤) سقط من المطبوع.
(٥) في المطبوع «عبدة».
(٦) في المطبوع «الموعد».
(٧) في المطبوع «عصيّنا».
(٨) زيد في المطبوع.
(٩) زيادة عن المخطوط.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧)، أَيْ وَجَدَ، وَقِيلَ: أَضْمَرَ فِي نَفْسِهِ خَوْفًا، وَاخْتَلَفُوا فِي خَوْفِهِ طَبْعِ الْبَشَرِيَّةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا تَقْصِدُهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: خَافَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الْأَمْرُ فَيَشُكُّوا فِي أَمْرِهِ فَلَا يتبعوه [١].
قُلْنا، لِمُوسَى، لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى، أَيِ الْغَالِبُ، يَعْنِي لَكَ الْغَلَبَةُ وَالظَّفَرُ.
وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ، يَعْنِي الْعَصَا، تَلْقَفْ، تَلْتَقِمُ، وَتَبْتَلِعُ، مَا صَنَعُوا، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ تَلْقُفُ بِرَفْعِ الْفَاءِ هَاهُنَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَزْمِ عَلَى جواب الأمر، إِنَّما صَنَعُوا، أي الَّذِي صَنَعُوا، كَيْدُ ساحِرٍ، أَيْ حِيلَةُ سِحْرٍ هَكَذَا قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ السِّينِ بِلَا أَلِفٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ «سَاحِرٍ» لِأَنَّ إِضَافَةَ الْكَيْدِ إِلَى الْفَاعِلِ أَوْلَى مِنْ إِضَافَتِهِ إِلَى الْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى، مِنَ الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَسْعَدُ حَيْثُ كَانَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ حَيْثُ احْتَالَ.
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ، لَرَئِيسُكُمْ وَمُعَلِّمُكُمْ، الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً، يعني على إيمانكم به أنا أَوْ رَبُّ مُوسَى عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَبْقى، أَيْ أَدْوَمُ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥)
قالُوا، يَعْنِي السَّحَرَةَ، لَنْ نُؤْثِرَكَ، لَنْ نَخْتَارَكَ، عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، يَعْنِي الدَّلَالَاتِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْيَدَ الْبَيْضَاءَ وَالْعَصَا. وَقِيلَ: كَانَ اسْتِدْلَالُهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا لَوْ كَانَ هَذَا سِحْرًا فَأَيْنَ حِبَالُنَا وَعِصِيُّنَا. وَقِيلَ: مِنَ الْبَيِّنَاتِ يعني من اليقين [٢] وَالْعِلْمِ. حُكِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهُمْ لَمَّا أُلْقُوا سُجَّدًا مَا رَفَعُوا رؤوسهم [من السجود] [٣] حَتَّى رَأَوُا الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، وَرَأَوْا ثَوَابَ أَهْلِهَا وَرَأَوْا مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ فَعِنْدَ ذَلِكَ قَالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى مَا جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ، وَالَّذِي فَطَرَنا، أَيْ لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى اللَّهِ الَّذِي فَطَرَنَا، وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ، فَاصْنَعْ مَا أَنْتَ صَانِعٌ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا، أَيْ: أَمْرُكَ وَسُلْطَانُكَ فِي الدُّنْيَا وَسَيَزُولُ عَنْ قَرِيبٍ.
إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَالُوا هَذَا وَقَدْ جَاءُوا مُخْتَارِينَ يَحْلِفُونَ بِعَزَّةِ فِرْعَوْنَ أَنَّ لَهُمُ الْغَلَبَةَ. قِيلَ: رُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ فِرْعَونُ يُكْرِهُ قَوْمًا [٤] عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ لِكَيْلَا يَذْهَبَ أَصْلُهُ وَقَدْ كَانَ أَكْرَهَهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتِ السَّحَرَةُ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ اثْنَانِ مِنَ الْقِبْطِ وَسَبْعُونَ مِنْ بَنِي إسرائيل كان عدو الله فِرْعَوْنُ أَكْرَهَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى تَعَلُّمِ السِّحْرِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ [٥] وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبَانَ: قَالَتِ السَّحَرَةُ لِفِرْعَوْنَ
(١) في المطبوع «فلا يتبعونه».
(٢) في المخطوط «التبين».
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) في المطبوع «قومه».
(٥) في المطبوع «قوله». [.....]
أَرِنَا مُوسَى إِذَا نَامَ فَأَرَاهُمْ مُوسَى نَائِمًا وَعَصَاهُ تَحْرُسُهُ، فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِسَاحِرٍ إِنَّ السَّاحِرَ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يتعلموا [وأكرههم على السحر] [١]، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: خير منك ثوابا وأبقى عذابا. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: خَيْرٌ مِنْكَ ثَوَابًا إِنْ أُطِيعَ وَأَبْقَى عذابا منك إِنْ عُصِيَ وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: ٧١].
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، قِيلَ هَذَا ابْتِدَاءُ كَلَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ: مِنْ تَمَامِ قَوْلِ السَّحَرَةِ مُجْرِماً أَيْ مُشْرِكًا يعني من مَاتَ عَلَى الشِّرْكِ، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها، فَيَسْتَرِيحُ، وَلا يَحْيى، حَيَاةً يَنْتَفِعُ بِهَا.
وَمَنْ يَأْتِهِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو سَاكِنَةَ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَبُو جَعْفَرٍ، وَقَالُونُ وَيَعْقُوبُ، وقرأ الآخرون بالإشباع، مُؤْمِناً، أي: من مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ، قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى، أي الرفيعة، والعلى جمع العليا [والعليا] [٢] تأنيث الأعلى.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٦ الى ٨١]
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦) وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لَا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠)
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)، يعني تَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَعْطَى زَكَاةَ نَفْسِهِ [٣] وَقَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
«١٤١٨» أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عبيد الله [٤] السمسار أنا أبو
١٤١٨- للحديث شواهد دون لفظ «وإن أبا بكر » فإنه ضعيف، والظاهر أنه مدرج.
- إسناده ضعيف جدا، فيه أحمد بن عبد الجبار، وهو ضعيف، وعطية العوفي ضعيف مدلس، وقد عنعن، وقد توبع أحمد فانحصرت العلة في عطية.
- أبو معاوية محمد بن خازم، الأعمش سليمان بن مهران، عطية بن سعد.
- وهو في «شرح السنة» ٣٧٨٥ بهذا الإسناد.
- وأخرجه أحمد ٣/ ٢٧ و٩٨ وابن ماجه ٩٦ وأبو يعلى ١٢٧٨ من طرق عن الأعمش به.
وأخرجه أبو داود ٣٩٨٧ والترمذي ٣٦٥٩ وأحمد ٣/ ٩٣ وأبو يعلى ١١٣٠ و١٢٩٩ والبيهقي في «البعث» ٢٥٠ من طرق عن عطية به، وقد توبع عطية فقد:
- أخرجه أحمد ٣/ ٢٦ و٦١ وأبو يعلى ١٢٧٨ وابن حبان في «المجروحين» ٣/ ١١ والذهبي في «الميزان» ٣/ ٤٣٨ من طريق مُجَالِدٍ عَنْ أَبِي الْوَدَّاكِ عَنْ أبي سعيد الخدري به. وإسناده ضعيف، مجالد غير حجة. قال أحمد: يرفع كثيرا مما لا يرفعه الناس، ليس بحجة.
- وأخرجه البخاري ٣٢٥٦ ومسلم ٢٨٣١ ح ١١ وأحمد ٥/ ٣٤٠ وابن حبان ٧٣٩٣ والبيهقي ٢٤٩ من طرق عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سَلِيمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عن أبي سعيد الخدري، وليس فيه لفظ «وإن أبا بكر.....» والأشبه أنه
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المخطوط «الزكاة».
(٤) في المطبوع «عبيد» دون لفظ الجلالة.
أَحْمَدَ حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ العباس الدّهقان أَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ العطاردي أَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ فِي أُفُقٍ مِنْ آفَاقِ السَّمَاءِ، وَإِنَّ أَبَا [١] بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ وَأَنْعَمَا».
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، يعني سِرْ بِهِمْ لَيْلًا مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يعني اجْعَلْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا، يَبَساً، لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ وَلَا طِينٌ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَيْبَسَ لَهُمُ الطَّرِيقَ فِي الْبَحْرِ، لَا تَخافُ دَرَكاً، قَرَأَ حَمْزَةُ لَا تَخَفْ بِالْجَزْمِ عَلَى النَّهْيِ، وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ وَالرَّفْعِ عَلَى النَّفْيِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَخْشى، قِيلَ: لَا تَخَافُ أَنْ يُدْرِكَكَ فِرْعَوْنُ مِنْ وَرَائِكَ وَلَا تَخْشَى أَنْ يُغْرِقَكَ الْبَحْرُ [من] [٢] أمامك.
فَأَتْبَعَهُمْ، فَلَحِقَهُمْ، فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَمَرَ فِرْعَوْنُ جُنُودَهُ أَنْ يَتْبَعُوا مُوسَى وَقَوْمَهُ، وَالْبَاءُ فِيهِ زَائِدَةٌ وَكَانَ هُوَ فِيهِمْ، فَغَشِيَهُمْ، أَصَابَهُمْ، مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ، وَهُوَ الْغَرَقُ. وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ عَلَاهُمْ وسترهم من اليم ما غشيهم يريد غشيهم بَعْضُ مَاءِ الْيَمِّ لَا كُلُّهُ. وَقِيلَ: غَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا يغشى [٣] قوم موسى فغرقهم [٤] وَنَجَا مُوسَى وَقَوْمُهُ.
وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩)، يعني مَا أَرْشَدَهُمْ وَهَذَا تَكْذِيبٌ لِفِرْعَوْنَ فِي قَوْلِهِ: وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: ٢٩].
قوله: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ، فِرْعَوْنَ، وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ، قَرَأَ حمزة والكسائي أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم بِالتَّاءِ عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ وَالْأَلِفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وَنَزَّلْنَا لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ بِالْأَلِفِ، وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، قَالَ ابن عباس: لا تظلموا، وقال الْكَلْبِيُّ: لَا تَكْفُرُوا النِّعْمَةَ فَتَكُونُوا ظالمين طَاغِينَ. وَقِيلَ: لَا تُنْفِقُوا فِي معصيتي. وقيل: لا تتقووا بنعمتي على معاصيي [٥]. وقيل: لا تدخروا، فادخروا فَتَدَوَّدَ، فَيَحِلَّ، قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَالْكِسَائِيُّ فَيَحِلَّ بِضَمِّ الْحَاءِ، وَمَنْ يَحْلِلْ بضم اللام، يعني ينزل، وقرأ الآخرون بكسرها يعني يَجِبُ، عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى، هَلَكَ وتردى في النار.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٢ الى ٨٦]
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦)
- مدرج، والله أعلم.
الخلاصة: الطريق الآخر لا يقوي ما قبله لشدة ضعف الأول.
(١) في المطبوع «وإنما أبو».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المطبوع وط «غشيهم».
(٤) في المخطوط «ففرقوا هم».
(٥) في المطبوع «معاصي».
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ، وَآمَنَ، وحدّ اللَّهَ وَصَدَّقَهُ، وَعَمِلَ صالِحاً، أَدَّى الْفَرَائِضَ، ثُمَّ اهْتَدى، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: عَلِمَ أَنَّ ذلك توفيق من الله تعالى.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي لَزِمَ الْإِسْلَامَ حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ. وقال الشَّعْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: عَلِمَ أَنَّ لِذَلِكَ [١] ثَوَابًا. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: تَعَلَّمَ الْعِلْمَ لِيَهْتَدِيَ بِهِ كيف يعمل. وقال الضحاك: استقام [لَهُ] [٢].
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَقَامَ عَلَى السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَما أَعْجَلَكَ، أي ما حَمَلَكَ عَلَى الْعَجَلَةِ، عَنْ قَوْمِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ مُوسَى اخْتَارَ مِنْ قَوْمِهِ سَبْعِينَ رَجُلًا حَتَّى يَذْهَبُوا مَعَهُ إِلَى الطُّورِ [٣] لِيَأْخُذُوا التَّوْرَاةَ فَسَارَ بِهِمْ ثُمَّ عَجَّلَ مُوسَى مِنْ بَيْنِهِمْ شَوْقًا إِلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَخَلَّفَ السَّبْعِينَ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْبَعُوهُ إِلَى الْجَبَلِ فَقَالَ الله تعالى: وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣).
قالَ، مُجِيبًا لِرَبِّهِ تَعَالَى: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي، يعني هُمْ بِالْقُرْبِ مِنِّي يَأْتُونَ مِنْ بَعْدِي، وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى، لِتَزْدَادَ رِضًا.
قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَيِ ابْتَلَيْنَا الَّذِينَ خَلَّفْتَهُمْ مَعَ هَارُونَ وَكَانُوا سِتَّمِائَةِ أَلْفٍ فَافْتُتِنُوا بِالْعِجْلِ غَيْرَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنْ بَعْدِكَ أَيْ مِنْ بَعْدِ انْطِلَاقِكَ إِلَى الْجَبَلِ، وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ، أَيْ دَعَاهُمْ وَصَرَفَهُمْ إِلَى عِبَادَةِ الْعِجْلِ، [أضاف الضلال] [٤] إِلَى السَّامِرِيِّ لِأَنَّهُمْ ضَلُّوا بِسَبَبِهِ.
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، حزينا. قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً، صِدْقًا أَنَّهُ يُعْطِيكُمُ التَّوْرَاةَ، أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ، مُدَّةُ مُفَارَقَتِي إِيَّاكُمْ، أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ، أَيْ أَرَدْتُمْ أن تفعلوا فعلا يوجب [٥] عليكم الْغَضَبُ مِنْ رَبِّكُمْ، فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٧ الى ٩٠]
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠)
قالُوا مَا أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَعَاصِمٌ: بِمَلْكِنا بِفَتْحِ الْمِيمِ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا أَيْ وَنَحْنُ نَمْلِكُ أَمْرَنَا. وَقِيلَ: بِاخْتِيَارِنَا، وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ فَمَعْنَاهُ بِقُدْرَتِنَا وَسُلْطَانِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَرْءَ إِذَا وَقَعَ فِي الْبَلِيَّةِ وَالْفِتْنَةِ لَمْ يَمْلُكْ نَفْسَهُ، وَلكِنَّا حُمِّلْنا، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ حُمِّلْنا بِفَتْحِ الْحَاءِ، وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ أَيْ جَعَلُونَا نَحْمِلُهَا وَكُلِّفْنَا حَمْلَهَا، أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، مِنْ حُلِيِّ قَوْمِ فِرْعَوْنَ، سَمَّاهَا أَوْزَارًا لِأَنَّهُمْ أَخَذُوهَا عَلَى وَجْهِ الْعَارِيَةِ فَلَمْ يَرُدُّوهَا [٦]، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا قد استعاروا حليا من
(١) في المطبوع «ذلك».
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المطبوع «الجبل». [.....]
(٤) في المطبوع «وأضافه».
(٥) في المطبوع «يجب».
(٦) في المطبوع «يردها».
الْقِبْطِ وَكَانَ ذَلِكَ مَعَهُمْ حِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ. وَقِيلَ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَغْرَقَ فِرْعَوْنَ [وقومه] [١] نبذ البحر حليهم فأخذوها فكانت غَنِيمَةً وَلَمْ تَكُنِ الْغَنِيمَةُ حَلَالًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ، فَسَمَّاهَا أَوْزَارًا لِذَلِكَ، فَقَذَفْناها، قِيلَ: إِنَّ السَّامِرِيَّ قَالَ لَهُمُ احْفِرُوا حُفَيْرَةً فَأَلْقُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى، قَالَ السُّدِّيُّ:
قَالَ لَهُمْ هَارُونُ إِنَّ تِلْكَ غَنِيمَةٌ لَا تَحِلُّ فَاحْفِرُوا حُفَيْرَةً فَأَلْقُوهَا فِيهَا حَتَّى يَرْجِعَ مُوسَى، فَيَرَى فِيهَا رَأْيَهُ، فَفَعَلُوا. قَوْلُهُ: فَقَذَفْناها أَيْ طَرَحْنَاهَا في الحفيرة [٢]، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُ
، مَا مَعَهُ مِنَ الْحُلِيِّ فِيهَا، وَقَالَ سَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أو قد هارون نارا وقال: اقذفوا ما معكم فيها، [فَأَلْقَوْهُ فِيهَا] [٣] ثُمَّ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ تُرْبَةِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ. قَالَ قَتَادَةُ: كان [قد] صر قَبْضَةً مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ فِي عِمَامَتِهِ.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هَذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ، أَيْ تَرَكَهُ مُوسَى هَاهُنَا وَذَهَبَ يَطْلُبُهُ. وَقِيلَ: أَخْطَأَ الطَّرِيقَ وَضَلَّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، أَيْ: لَا يَرَوْنَ أن العجل لا يكلمهم ولا يجيبهم إِذَا دَعَوْهُ، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً، وَقِيلَ: إِنَّ هَارُونَ مَرَّ عَلَى اَلسَّامِرِيِّ وَهُوَ يَصُوغُ الْعِجْلَ فَقَالَ لَهُ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَصْنَعُ مَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ فَادْعُ لِي، فَقَالَ هَارُونُ: اللَّهُمَّ أَعْطِهِ مَا سَأَلَكَ عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، فَأَلْقَى [السامري] [٤] التُّرَابَ فِي فَمِ الْعِجْلِ وَقَالَ: كن عجلا يخور فكان ذلك بِدَعْوَةِ هَارُونَ، وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِتْنَةً ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ رجوع موسى، يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، ابْتُلِيتُمْ بِالْعِجْلِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي، عَلَى دِينِي فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، وَأَطِيعُوا أَمْرِي، فِي تَرْكِ عِبَادَةِ الْعِجْلِ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩١ الى ٩٦]
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥)
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦)
قالُوا لَنْ نَبْرَحَ، أَيْ لَنْ نَزَالَ، عَلَيْهِ، عَلَى عِبَادَتِهِ، عاكِفِينَ، مُقِيمِينَ، حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى، فَاعْتَزَلَهُمْ هَارُونُ فِي اثْنَيْ عَشَرَ ألفا وهم الَّذِينَ لَمْ يَعْبُدُوا الْعِجْلَ، فَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى وَسَمِعَ الصِّيَاحَ وَالْجَلَبَةَ وكانوا يرقصون حول العجل فقال لِلسَّبْعِينَ الَّذِينَ [٥] مَعَهُ هَذَا صَوْتُ الْفِتْنَةِ، فَلَمَّا رَأَى هَارُونَ أَخَذَ شَعْرَ رَأْسِهِ بِيَمِينِهِ وَلِحْيَتِهِ بِشِمَالِهِ.
وقالَ، له، يَا هارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَشْرَكُوا.
أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أي: أن تتبعني ولا صلة أي [أن] [٦] تَتَّبِعَ أَمْرِي وَوَصِيَّتِي، يَعْنِي: هَلَّا قاتلتهم
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «الحفرة».
(٣) زيد في المطبوع وط.
(٤) زيادة عن المخطوط.
(٥) زيد في المطبوع «كانوا».
(٦) سقط من المطبوع.
وَقَدْ عَلِمْتَ أَنِّي لَوْ كُنْتُ فِيهِمْ لِقَاتَلْتُهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: أَنْ لَا تَتَّبِعَنِي أَيْ مَا مَنَعَكَ مِنَ اللُّحُوقِ بِي وَإِخْبَارِي بضلالتهم، فتكون مفارقتك إياهم تقريعا وزجرا لَهُمْ عَمَّا أَتَوْهُ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، أي خالفت أمري.
لَ يَا بْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
، أَيْ بِشَعْرِ رَأْسِي وَكَانَ قد أخذ ذوائبه، نِّي خَشِيتُ
، لَوْ أَنْكَرْتُ عَلَيْهِمْ لَصَارُوا حزبين يقتل بعضهم بعضا، نْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
، أني خَشِيتُ إِنْ فَارَقْتُهُمْ وَاتَّبَعْتُكَ صَارُوا أحزابا يتقاتلون، فتفول: أَنْتَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
، وَلَمْ تَحْفَظْ وَصِيَّتِي حِينَ قُلْتُ لَكَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ أَيِ ارْفُقْ بِهِمْ، ثُمَّ أَقْبَلَ مُوسَى عَلَى السَّامِرِيِّ.
قالَ فَما خَطْبُكَ أي مَا أَمْرُكَ وَشَأْنُكَ؟ وَمَا الَّذِي حملك على ما صنعت؟ يا سامِرِيُّ.
قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، رَأَيْتُ مَا لَمْ يَرَوْا وَعَرَفْتُ مَا لَمْ يَعْرِفُوا، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مَا لَمْ تَبْصُرُوا بالتاء على الخطاب، وقرأ الباقون بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، أَيْ مِنْ تُرَابِ أَثَرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، فَنَبَذْتُها، أَيْ أَلْقَيْتُهَا فِي فَمِ الْعِجْلِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا خَارَ لِهَذَا [السبب] [١] لِأَنَّ التُّرَابَ كَانَ مَأْخُوذًا مِنْ تَحْتِ حَافِرِ فَرَسِ جِبْرِيلَ، فَإِنْ قيل: كيف عرف [٢] وَرَأَى جِبْرِيلَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ النَّاسِ؟ قِيلَ: لِأَنَّ أُمَّهُ لَمَّا ولدته فِي السَّنَةِ الَّتِي [كَانَ فِرْعَوْنُ] [٣] يقتل فيها البنين وضعته في كهف حذرا عليه [من فرعون] [٤] فَبَعَثَ اللَّهُ جِبْرِيلَ لِيُرَبِّيَهُ لِمَا قَضَى عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ. وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ، أَيْ زَيَّنَتْ، لِي نَفْسِي.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٧ الى ١٠١]
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ، أَيْ مَا دُمْتَ حَيًّا، أَنْ تَقُولَ لَا مِساسَ، أَيْ لَا تُخَالِطْ أَحَدًا وَلَا يُخَالِطْكَ أَحَدٌ وَأَمَرَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ لَا يُخَالِطُوهُ وَلَا يَقْرَبُوهُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا مِسَاسَ لك ولولدك، والمساس مِنَ الْمُمَاسَّةِ مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَصَارَ السَّامِرِيُّ يَهِيمُ فِي الْبَرِّيَّةِ مَعَ الْوُحُوشِ وَالسِّبَاعِ لَا يَمَسُّ أَحَدًا وَلَا يَمَسُّهُ أحد، فعاقبه اللَّهُ بِذَلِكَ، وَكَانَ إِذَا لَقِيَ أَحَدًا يَقُولُ لَا مِسَاسَ، أَيْ لَا تَقْرَبْنِي وَلَا تَمَسَّنِي، وَقِيلَ: كَانَ إِذَا مَسَّ أَحَدًا أَوْ مَسَّهُ أَحَدٌ حُمَّا جَمِيعًا حَتَّى أَنَّ بَقَايَاهُمُ الْيَوْمَ يَقُولُونَ ذَلِكَ، وَإِذَا مَسَّ [أَحَدٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَحَدًا مِنْهُمْ] [٥] حُمَّا جَمِيعًا فِي الْوَقْتِ، وَإِنَّ لَكَ، يَا سَامِرِيُّ، مَوْعِداً، لعذابك، لَنْ تُخْلَفَهُ.
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «عرفه».
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) زيادة عن المخطوط.
(٥) العبارة في المخطوط «واحدا منهم واحدا من غيرهم». [.....]
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: لَنْ تُخْلَفَهُ بِكَسْرِ اللَّامِ. أَيْ لَنْ تَغِيبَ عَنْهُ وَلَا مَذْهَبَ لَكَ عَنْهُ بَلْ تُوَافِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ لَنْ تُكَذِّبَهُ وَلَنْ يُخْلِفَكَ اللَّهُ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تعالى يكافئك على فعلك فلا تَفُوتُهُ، وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ، بِزَعْمِكَ، الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً، أَيْ ظَلْتَ وَدُمْتَ عَلَيْهِ مُقِيمًا تَعْبُدُهُ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ظَلْتُ أَفْعَلُ كَذَا بِمَعْنَى ظَلَلْتُ وَمِسْتُ بِمَعْنَى مَسَسْتُ [لَنُحَرِّقَنَّهُ بالنار] [١]، وقرأ أَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْإِحْرَاقِ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ، لَنَذْرِيَنَّهُ، فِي الْيَمِّ، فِي الْبَحْرِ، نَسْفاً.
رُوِيَ أَنَّ مُوسَى أَخْذَ الْعِجْلَ فَذَبَحَهُ فَسَالَ مِنْهُ دَمٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَدْ صَارَ لَحْمًا وَدَمًا ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالنَّارِ، ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ، قَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ: لَنُحَرِّقَنَّهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَضَمِّ الرَّاءِ لَنَبْرُدَنَّهُ بِالْمِبْرَدِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْمِبْرَدِ الْمُحْرِقُ. وَقَالَ [٢] السُّدِّيُّ: أَخَذَ مُوسَى الْعِجْلَ فَذَبَحَهُ ثُمَّ حَرَّقَهُ بِالْمِبْرَدِ ثُمَّ ذَرَاهُ فِي الْيَمِّ.
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)، وَسِعَ عِلْمُهُ كُلَّ شَيْءٍ.
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ مَا قَدْ سَبَقَ، مِنَ الْأُمُورِ، وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً، يَعْنِي الْقُرْآنَ.
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، أَيْ عَنِ الْقُرْآنِ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِمَا فِيهِ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً، حِمْلًا ثَقِيلًا مِنَ الْإِثْمِ.
خالِدِينَ فِيهِ، مُقِيمِينَ فِي عَذَابِ الْوِزْرِ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا، أَيْ بِئْسَ مَا حَمَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الإثم كفرا [٣] بالقرآن.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٨]
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قَاعًا صَفْصَفاً (١٠٦)
لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو نَنْفُخُ بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَضَمِّ الْفَاءِ لِقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا وَفَتَحِ الْفَاءِ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ، الْمُشْرِكِينَ، يَوْمَئِذٍ زُرْقاً، وَالزُّرْقَةُ هِيَ الْخُضْرَةُ فِي سَوَادِ الْعَيْنِ فَيُحْشَرُونَ زُرْقَ الْعُيُونِ سُودَ الْوُجُوهِ. وَقِيلَ: زُرْقًا أَيْ عُمْيًا. وَقِيلَ:
عِطَاشًا.
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، أَيْ يَتَشَاوَرُونَ بَيْنَهُمْ وَيَتَكَلَّمُونَ خُفْيَةً، إِنْ لَبِثْتُمْ، أَيْ مَا مَكَثْتُمْ فِي الدُّنْيَا، إِلَّا عَشْراً، أَيْ عَشْرَ لَيَالٍ. وَقِيلَ: فِي الْقُبُورِ. وَقِيلَ: بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، وَهُوَ أَرْبَعُونَ سَنَةً، لِأَنَّ الْعَذَابَ يُرْفَعُ عَنْهُمْ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ اسْتَقْصَرُوا مُدَّةَ لَبْثِهِمْ لِهَوْلِ مَا عَايَنُوا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، أي يتشاورون بَيْنَهُمْ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً، أَوْفَاهُمْ عَقْلًا وَأَعْدَلُهُمْ قَوْلًا، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً، قَصُرَ ذَلِكَ فِي أَعْيُنِهِمْ فِي جَنْبِ مَا اسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: نَسُوا مِقْدَارَ لَبْثِهِمْ لِشِدَّةِ ما دهمهم.
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المخطوط «قال».
(٣) في المخطوط «لأنهم كفروا».
قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥).
«١٤١٩» قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ سَأَلَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَيْفَ تَكُونُ الْجِبَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَالنَّسْفُ هو القلع يعني يَقْلَعُهَا مِنْ أَصْلِهَا وَيَجْعَلُهَا هَبَاءً منثورا.
فَيَذَرُها، أي يدع [١] أَمَاكِنَ الْجِبَالِ مِنَ الْأَرْضِ، قَاعًا صَفْصَفاً، يعني أَرْضًا مَلْسَاءَ مُسْتَوِيَةً لَا نَبَاتَ فيها، والقاع ما انبسط من الأرض والصفصف الْأَمْلَسُ.
لَا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧)، قَالَ مُجَاهِدٌ: انْخِفَاضًا وَارْتِفَاعًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْعِوَجُ مَا انخفض من الأرض، والأمت مَا نَشَزَ مِنَ الرَّوَابِي، أَيْ لَا تَرَى وَادِيًا وَلَا رَابِيَةً. قَالَ قَتَادَةُ: لَا تَرَى فِيهَا صَدْعًا وَلَا أَكَمَةً.
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أَيْ صَوْتَ الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إِلَى مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ إِسْرَافِيلُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَضَعُ الصُّورَ فِي فِيهِ، وَيَقُولُ أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَفَرِّقَةُ هَلُمُّوا إِلَى عَرْضِ الرَّحْمَنِ، لَا عِوَجَ لَهُ، يعني لدعائه، وهو من المقلوب يعني لَا عِوَجَ لَهُمْ عَنْ دُعَاءِ الدَّاعِي لَا يَزِيغُونَ عَنْهُ يَمِينًا ولا شمالا وَلَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ بَلْ يَتَّبِعُونَهُ سراعا، وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ، يعني سكتت وَذَلَّتْ وَخَضَعَتْ وَوَصَفَ الْأَصْوَاتَ بِالْخُشُوعِ وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا، فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً، يَعْنِي صَوْتَ وَطْءِ الْأَقْدَامِ إلى المحشر، والهمس الصَّوْتُ الْخَفِيُّ كَصَوْتِ أَخْفَافِ الْإِبِلِ فِي الْمَشْيِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ تَخَافُتُ الْكَلَامِ وَخَفْضُ الصَّوْتِ.
وَرَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَحْرِيكُ الشِّفَاهِ مِنْ غير منطق.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٩ الى ١١٤]
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ، يَعْنِي لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ، يَعْنِي إِلَّا مَنْ أَذِنَ له الله أَنْ يَشْفَعَ، وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا، يَعْنِي وَرَضِيَ قَوْلَهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي قَالَ لَا إِلَهَ إلا الله، فهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ لغير [٢] الْمُؤْمِنِ.
يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ، أَيْ يَعْلَمُ الله مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَمَا خَلَّفُوا مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنَ [أمر] [٣] الْآخِرَةِ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ،
١٤١٩- ساقه المصنف تعليقا هاهنا، وإسناده إلى ابن عباس أول الكتاب فله عدة أسانيد بعضها ضعيف، وبعضها ضعيف جدا، وبعضها الآخر حسن صحيح، والظاهر أن هذا مما ورد بإسناد ساقط، حيث تفرد المصنف به عند هذه الآية دون سائر أهل التفسير، ولم أجده عند غيره، فهو شبه موضوع.
(١) في المطبوع «يعني فيدع».
(٢) في المطبوع «غير».
(٣) زيادة عن المخطوط.
وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً، قِيلَ: الْكِنَايَةُ تَرْجِعُ إِلَى مَا، أَيْ هُوَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ، وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَهُ. وَقِيلَ: الْكِنَايَةُ رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ لِأَنَّ عِبَادَهُ لَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا.
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، أي ذَلَّتْ وَخَضَعَتْ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْأَسِيرِ: عَانٍ. وَقَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ:
هو [ما قدم من] [١] السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَسِرَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ، وَالظُّلْمُ هُوَ الشِّرْكُ.
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ «فَلَا يَخَفْ» مَجْزُومًا عَلَى النَّهْيِ جَوَابًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَعْمَلْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ فَلا يَخافُ مَرْفُوعًا عَلَى الْخَبَرِ، ظُلْماً وَلا هَضْماً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يخاف أن يزداد [عليه في] [٢] سيآته ولا أن يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يُنْقَصُ مِنْ ثَوَابِ حَسَنَاتِهِ وَلَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ ذَنْبُ مُسِيْءٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُؤْخَذُ بِذَنْبٍ لم يعمله ولا يبطل [٣] حَسَنَةٌ عَمِلَهَا، وَأَصِلُ الْهَضْمِ النَّقْصُ وَالْكَسْرُ، وَمِنْهُ هَضْمُ الطَّعَامِ.
وَكَذلِكَ، أَيْ كَمَا بَيَّنَّا فِي هَذِهِ السُّورَةِ، أَنْزَلْناهُ، يَعْنِي أَنْزَلْنَا هَذَا الْكِتَابَ، قُرْآناً عَرَبِيًّا، يَعْنِي [٤] بِلِسَانِ الْعَرَبِ، وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، أَيْ صَرَّفْنَا الْقَوْلَ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَعِيدِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، أَيْ يَجْتَنِبُونَ الشِّرْكَ، أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً، أَيْ يُجَدِّدُ لَهُمُ الْقُرْآنُ عِبْرَةً وعظة فيعتبروا ويتعظوا بذكر عتاب اللَّهِ لِلْأُمَمِ الْخَالِيَةِ.
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [أي] [٥] جَلَّ اللَّهُ عَنْ إِلْحَادِ الْمُلْحِدِينَ وَعَمَّا يَقُولُهُ الْمُشْرِكُونَ، وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بِالْقُرْآنِ يُبَادِرُ فَيَقْرَأُ مَعَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مما يريد من التلاوة، مخافة الِانْفِلَاتِ وَالنِّسْيَانِ، فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ، أَيْ لَا تَعْجَلْ بِقِرَاءَتِهِ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَفْرَغَ جِبْرِيلُ مِنَ الْإِبْلَاغِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
[الْقِيَامَةِ: ١٦] وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: نَقْضِي بِالنُّونِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِ الضَّادِ، وَفَتْحِ الْيَاءِ وَحْيُهُ بالنصب، وقال مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: مَعْنَاهُ لَا تُقْرِئْهُ أَصْحَابَكَ وَلَا تُمْلِهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى نبين [٦] لَكَ مَعَانِيهِ، وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً، يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ. وَقِيلَ: عِلْمًا إِلَى مَا عَلِمْتُ. وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِذَا قَرَأَ هَذِهِ الآية قال: اللهم زدني إيمانا ويقينا.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١١٩]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، يَعْنِي أَمَرْنَاهُ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنَ الشَّجَرَةِ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ نَقَضُوا عَهْدَكَ وَتَرَكُوا الْإِيمَانَ بِي، وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [طه: ١١٣]، فَنَسِيَ، فَتَرْكَ الْأَمْرَ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ [إن] [٧] نَقَضُوا الْعَهْدَ فَإِنَّ آدَمَ أَيْضًا عهدنا إليه فنسي،
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) في المطبوع «على».
(٣) في المطبوع «وتبطل».
(٤) زيد في المطبوع «لتعجل به».
(٥) زيادة عن المخطوط.
(٦) في المطبوع «يتبين».
(٧) زيادة عن المخطوط. [.....]
وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، قَالَ الْحَسَنُ لَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْرًا عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: حِفْظًا لِمَا أُمِرَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: رَأْيًا مَعْزُومًا حَيْثُ أَطَاعَ عَدُوَّهُ إِبْلِيسَ الَّذِي حَسَدَهُ وَأَبَى أَنْ يَسْجُدَ لَهُ، والعزم فِي اللُّغَةِ هُوَ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ، قَالَ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ: لَوْ وُزِنَ حِلْمُ آدَمَ وحلم [١] جميع ولده لرجع حِلْمُهُ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً، فَإِنْ قِيلَ: أَتَقُولُونَ إِنَّ آدَمَ كَانَ نَاسِيًا لِأَمْرِ اللَّهِ حِينَ أَكَلَ مِنَ الشَّجَرَةِ؟ قِيلَ:
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ أَمْرَهُ، وَلَمْ يَكُنِ النِّسْيَانُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرْفُوعًا عَنِ الْإِنْسَانِ بَلْ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ، وَإِنَّمَا رُفِعَ عَنَّا، وَقِيلَ: نَسِيَ عقوبة الله وظن أنه نهاه تنزيها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى (١١٦)، أن يسجد.
فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، حَوَّاءَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى، يَعْنِي تَتْعَبُ وَتَنْصَبُ، وَيَكُونُ عَيْشُكَ مِنْ كَدِّ يَمِينِكَ بِعَرَقِ جَبِينِكَ. قَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْحَرْثَ والزرع والحصيد والطحن والخبز. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: قَالَ أُهْبِطَ إِلَى آدَمَ ثَوْرٌ أَحْمَرُ فَكَانَ يَحْرُثُ عَلَيْهِ وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبِينِهِ، فَذَلِكَ شَقَاؤُهُ، وَلَمْ يَقُلْ: فَتَشْقَيَا رُجُوعًا بِهِ إِلَى آدَمَ لِأَنَّ تَعَبَهُ أَكْثَرُ فَإِنَّ الرَّجُلَ هُوَ السَّاعِي عَلَى زَوْجَتِهِ. وقيل: لأجل رؤوس الْآيِ.
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها، أَيْ فِي الْجَنَّةِ وَلا تَعْرى.
وَأَنَّكَ، قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ الْأَلِفِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ نَسَقًا عَلَى قوله:
أَلَّا تَجُوعَ فِيها لا تَظْمَؤُا، لَا تَعْطَشُ، فِيها وَلا تَضْحى، يَعْنِي لَا تَبْرُزُ لِلشَّمْسِ فَيُؤْذِيكَ حَرُّهَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا تُصِيبُكَ الشَّمْسُ وَأَذَاهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ شَمْسٌ، وَأَهْلُهَا فِي ظِلٍّ ممدود.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٥]
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ، يَعْنِي عَلَى شَجَرَةٍ إِنْ أَكَلْتَ مِنْهَا بَقِيتَ مُخَلَّدًا، وَمُلْكٍ لَا يَبْلى، لَا يَبِيدُ وَلَا يَفْنَى.
فَأَكَلا، يَعْنِي آدَمُ وَحَوَّاءُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ، [بأكله من] [٢] الشَّجَرَةِ، فَغَوى، يَعْنِي فَعْلَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِعْلُهُ. وَقِيلَ: أخطأ طريق الحق وَضَلَّ حَيْثُ طَلَبَ الْخُلْدَ بِأَكْلِ مَا نُهِيَ عَنْ أَكْلِهِ، فَخَابَ ولم ينل مراده. وقال ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: أَيْ فَسَدَ عَلَيْهِ عَيْشُهُ وَصَارَ مِنَ الْعِزِّ إِلَى الذُّلِّ، وَمِنَ الرَّاحَةِ إِلَى التَّعَبِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ عَصَى آدَمُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ آدَمُ عَاصٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُقَالُ عَاصٍ لِمَنِ اعْتَادَ فِعْلَ الْمَعْصِيَةِ، كَالرَّجُلِ يَخِيطُ ثَوْبَهُ ويقال خَاطَ ثَوْبَهُ وَلَا يُقَالُ هُوَ خَيَّاطٌ حَتَّى يُعَاوِدَ ذَلِكَ وَيَعْتَادَهُ.
(١) في المطبوع «بحلم».
(٢) في المطبوع «بأكل».
277
«١٤٢٠» حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ زِيَادُ بْنُ محمد الحنفي أنا أَبُو مُعَاذٍ الشَّاهُ [بْنُ] [١] عَبْدِ الرحمن المزني [حدثنا] [٢] أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ النَّيْسَابُورِيُّ بِبَغْدَادَ أَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصدفي أَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ مُوسَى:
يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا [خَيَّبْتَنَا] [٣] وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ، فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ، أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى»
.
«١٤٢١» وَرَوَاهُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَادَ: «قَالَ آدَمُ يَا مُوسَى بِكَمْ وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ قَالَ مُوسَى: بِأَرْبَعِينَ عَامًا، قَالَ آدَمُ: فَهَلْ وَجَدْتَ فِيهَا وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: أَفَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى»
.
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، اخْتَارَهُ وَاصْطَفَاهُ، فَتابَ عَلَيْهِ، بِالْعَفْوِ، وَهَدى، هَدَاهُ إلى التوبة حتى قَالَا [٤] رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا.
قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، يَعْنِي الْكِتَابَ وَالرَّسُولَ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى، رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ هَدَاهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الضَّلَالَةِ، ووقاه يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُوءَ الْحِسَابِ، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يَقُولُ: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَجَارَ اللَّهُ تَعَالَى تَابِعَ الْقُرْآنِ مِنْ أَنْ يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا وَيَشْقَى فِي الْآخِرَةِ، وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، يَعْنِي الْقُرْآنَ فَلَمْ يُؤْمِنْ بِهِ وَلَمْ يَتَّبِعْهُ، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، ضَيِّقًا، رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: يُضْغَطُ حتى تختلف أضلاعه.
١٤٢٠- إسناده صحيح، يونس بن عبد الأعلى من رجال مسلم، وقد توبع ومن دونه، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- طاوس هو ابن كيسان اليماني، قيل: طاوس لقب، واسمه ذكوان.
- وهو في «شرح السنة» ٦٧ بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري ٦٦١٤ ومسلم ٢٦٥٢ وأبو داود ٤٧٠١ وابن ماجه ٨٠ وأحمد ٢/ ٢٤٨ والحميدي ١١٥ وابن أبي عاصم في «السنة» ١٤٥ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٥٦ وابن حبان ٦١٨٠ والآجري في «الشريعة» ٦٩٥ والبيهقي في «الإعتقاد» ص ١٣٨ وفي «الأسماء والصفات» ٤١٥ من طرق عن سفيان به.
- وأخرجه البخاري ٣٤٠٩ و٤٧٣٦ و٤٧٣٨ و٧٥١٥ ومسلم ٢٦٥٢ والترمذي ٢١٣٤ وأحمد ٢/ ٢٦٤ و٢٦٨ و٣٩٨ وابن أبي عاصم ١٣٩ و١٤٦ وابن حبان ٦١٧٩ والبيهقي في «الإعتقاد» ص ٩٩ من طرق من حديث أبي هريرة.
١٤٢١- صحيح. أخرجه البخاري ٦٦١٤ ومسلم ٢٦٥٢ ح ١٤ وابن أبي عاصم في: «السنة» ١٥٥ وابن خزيمة في «التوحيد» ٥٤ وابن حبان ٦٢١٠ من طرق عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ به.
(١) سقط من المطبوع.
(٢) سقط من المطبوع.
(٣) زيادة عن «صحيح البخاري».
(٤) في المخطوط «قال».
278
«١٤٢٢» وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ [١] مَرْفُوعًا. «يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ الْقَبْرُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ فَلَا يَزَالُ يُعَذَّبُ حَتَّى يُبْعَثَ». وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الزَّقُّومُ وَالضَّرِيعُ وَالْغِسْلِينُ فِي النَّارِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ الْحَرَامُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
هُوَ الْكَسْبُ الْخَبِيثُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّقَاءُ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ مَالٍ [٢] أُعْطِيَ الْعَبْدُ قَلَّ أَمْ كَثُرَ فَلَمْ يَتَّقِ فِيهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ، وَهُوَ الضَّنْكُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَإِنَّ أَقْوَامًا أَعْرَضُوا عَنِ الْحَقِّ وَكَانُوا أُولِي سَعَةٍ مِنَ الدُّنْيَا مُكْثِرِينَ، فَكَانَتْ مَعِيشَتُهُمْ ضَنْكًا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ [أن] [٣] الله ليس بمخلف [٤] لهم فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ مَعَايِشُهُمْ مِنْ سُوءِ ظنهم بالله [عَزَّ وَجَلَّ] [٥]، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: نسلبه الْقَنَاعَةَ حَتَّى لَا يَشْبَعَ، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْمَى الْبَصَرِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَعْمَى عَنِ الْحُجَّةِ.
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (٢٥)، بِالْعَيْنِ أَوْ بَصِيرًا بِالْحُجَّةِ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٦ الى ١٢٩]
قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)
قالَ كَذلِكَ، أَيْ كَمَا أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها، فَتَرَكْتَهَا وَأَعْرَضَتْ عَنْهَا، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى، تُتْرَكُ فِي النَّارِ. قَالَ قَتَادَةُ: نُسُوا مِنَ الْخَيْرِ وَلَمْ يُنْسَوْا مِنَ الْعَذَابِ.
وَكَذلِكَ، أَيْ وَكَمَا جَزَيْنَا مَنْ أَعْرَضَ عَنِ الْقُرْآنِ كَذَلِكَ، نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، أَشَرَكَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ، مِمَّا يُعَذِّبُهُمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْقَبْرِ، وَأَبْقى، وَأَدْوَمُ.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، يُبَيِّنْ لَهُمُ الْقُرْآنُ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، دِيَارِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ [إِذَا سَافَرُوا، وَالْخِطَابُ لِقُرَيْشٍ كَانُوا يُسَافِرُونَ إِلَى الشَّامِ فَيَرَوْنَ دِيَارَ الْمُهْلَكِينَ] [٦] مَنْ أَصْحَابِ الجر وثمود وقريات قوم لُوطٍ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى، لذوي العقول.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩)، فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ [إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى] [٧] لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى، وَالْكَلِمَةُ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، أَيْ وَلَوْلَا حُكْمٌ سَبَقَ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عنهم وأجل مسمى وهو [يوم]]
الْقِيَامَةُ لَكَانَ لِزَامًا، أَيْ لَكَانَ العذاب
١٤٢٢- الصحيح موقوف. أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ١٨٤٤ بإسناد كالشمس عن أبي سعيد الخدري موقوفا.
- وأخرجه الطبري ٢٤٤١٩ من وجه آخر بإسناد على شرطهما عن أبي سعيد موقوفا.
- وأخرجه الطبري ٢٤٤٢١ بإسناد حسن عن أبي هريرة موقوفا، والمرفوع لم أر له إسنادا.
(١) في المخطوط «الأسانيد».
(٢) في المطبوع «ما».
(٣) زيادة عن المخطوط.
(٤) في المطبوع «بمختلف».
(٥) زيادة عن المخطوط. [.....]
(٦) زيد في المطبوع وط.
(٧) سقط من المطبوع وط.
(٨) زيادة عن المخطوط.
لازما لهم [في الدنيا] [١] كَمَا لَزِمَ الْقُرُونَ الْمَاضِيَةَ الْكَافِرَةَ.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٣]
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣)
فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ، أَيْ صَلِّ بِأَمْرِ رَبِّكَ. وَقِيلَ:
صَلِّ لِلَّهِ بِالْحَمْدِ لَهُ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ، قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَقَبْلَ غُرُوبِها، صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ، سَاعَاتِهَا وَاحِدُهَا إِنْيٌ، فَسَبِّحْ، يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَوَّلَ اللَّيْلِ، وَأَطْرافَ النَّهارِ، يَعْنِي صَلَاةَ الظُّهْرِ، وَسَمَّى وَقْتَ الظُّهْرِ أَطْرَافَ النَّهَارِ لِأَنَّ وَقْتَهُ عِنْدَ الزَّوَالِ، وَهُوَ [طَرَفُ] [٢] النِّصْفِ الْأَوَّلِ انْتِهَاءً وَطَرَفُ النِّصْفِ الْآخَرِ ابْتِدَاءً، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَمِنْ أَطْرَافِ النَّهَارِ صَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ، لِأَنَّ الظَّهْرَ فِي آخِرِ الطَّرَفِ الْأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ، وَفِي أَوَّلِ الطَّرَفِ الآخر من النهار، فَهُوَ فِي طَرَفَيْنِ مِنْهُ وَالطَّرَفُ الثَّالِثُ غُرُوبُ الشَّمْسِ، وَعِنْدَ ذَلِكَ يُصَلَّى الْمَغْرِبُ، لَعَلَّكَ تَرْضى، أَيْ تَرْضَى ثَوَابَهُ فِي الْمَعَادِ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (تَرْضَى) بِضَمِّ التَّاءِ أَيْ تُعْطَى ثَوَابَهُ. وَقِيلَ: تَرْضَى أَيْ يَرْضَاكَ اللَّهُ تَعَالَى، كَمَا قَالَ: وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا [مَرْيَمَ: ٥٥]، وَقِيلَ: مَعْنَى الْآيَةِ لَعَلَّكَ تَرْضَى بِالشَّفَاعَةِ، كَمَا قَالَ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) [الضَّحَى: ٥].
«١٤٢٣» أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الخطيب الحميدي أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ أَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يعقوب الشيباني إملاء أَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ السعدي أَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنِ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: «إِنَّكُمْ تَرَوْنَ [٣] رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا»، ثُمَّ قَرَأَ: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.
١٤٢٣- حديث صحيح. إبراهيم السعدي فمن دونه توبعوا، ومن فوقه رجال البخاري ومسلم.
- وهو في «شرح السنة» ٣٧٩ بهذا الإسناد.
- وأخرجه البخاري ٥٥٤ و٧٤٣٤ ومسلم ٦٣٣ وأبو داود ٤٧٢٩ والترمذي ٢٥٥١ وابن ماجه ١٧٧ والحميدي ٧٩٩ وأحمد ٤/ ٣٦٠ و٣٦٥ وابن أبي عاصم في «السنة» ٤٤٦- ٤٤٩ وابن خزيمة في «التوحيد» ص ١٦٧- ١٦٨ وابن حبان ٧٤٤٢ والطبراني ٢٢٢٤- ٢٢٣٧ وابن مندة ٧٩١ و٧٩٣- ٨٨٠ من طرق عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ به.
(١) زيادة عن المخطوط.
(٢) زيادة عن المخطوط.
(٣) في المطبوع «سترون».
280
«١٤٢٤» قَالَ أَبُو رَافِعٍ: نَزَلَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَيْفٌ فَبَعَثَنِي إِلَى يَهُودِيٍّ فَقَالَ لِي: «قُلْ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ لَكَ بِعْنِي كَذَا وَكَذَا مِنَ الدَّقِيقِ وَأَسْلِفْنِي إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ» فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ وَاللَّهُ لَا أَبِيعُهُ وَلَا أُسْلِفُهُ إِلَّا بَرْهَنٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: «وَاللَّهِ لَئِنْ بَاعَنِي وَأَسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ وَإِنِّي لِأَمِينٌ فِي السَّمَاءِ وَأَمِينٌ فِي الْأَرْضِ، اذْهَبْ بِدِرْعِي الْحَدِيدِ إِلَيْهِ» فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ، لَا تَنْظُرْ، إِلى مَا مَتَّعْنا بِهِ، أَعْطَيْنَا، أَزْواجاً، أَصْنَافًا، مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا، أَيْ زِينَتَهَا وَبَهْجَتَهَا، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ زَهَرَةَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِجَزْمِهَا، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، أَيْ لِنَجْعَلَ ذَلِكَ فِتْنَةً لَهُمْ بِأَنْ أُزِيدَ لَهُمُ النِّعْمَةَ فَيَزِيدُوا كُفْرًا وَطُغْيَانًا وَرِزْقُ رَبِّكَ، في المعاد يعني في الْجَنَّةَ، خَيْرٌ وَأَبْقى، قَالَ أُبَيُّ بن كعب: من لم يعتز بعز اللَّهِ تَقَطَّعَتْ نَفْسُهُ حَسَرَاتٍ، وَمَنْ يتبع بصره فيما في أيدي الناس طال حُزْنُهُ، وَمَنْ ظَنَّ أَنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَلْبَسِهِ فقد قلّ علمه وَحَضَرَ عَذَابُهُ.
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ، أَيْ قَوْمَكَ. وَقِيلَ: مَنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [مَرْيَمَ: ٥٥]، وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، أَيِ اصْبِرْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَإِنَّهَا تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، لَا نُكَلِّفُكَ أَنْ تَرْزُقَ أَحَدًا مِنْ خَلْقِنَا، وَلَا أَنْ تَرْزُقَ نَفْسَكَ وَإِنَّمَا نُكَلِّفُكَ عَمَلًا، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ، الْخَاتِمَةُ الْجَمِيلَةُ الْمَحْمُودَةُ، لِلتَّقْوى، أَيْ لِأَهْلِ التَّقْوَى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ صَدَّقُوكَ وَاتَّبَعُوكَ وَاتَّقَوْنِي.
«١٤٢٥» وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَانَ إِذَا أَصَابَ أَهْلَهُ ضُرٌّ أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقالُوا، يعني المشركين، لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَيِ الْآيَةُ الْمُقْتَرَحَةُ فَإِنَّهُ كَانَ قَدْ أَتَاهُمْ بِآيَاتٍ كَثِيرَةٍ، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ، قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ وحفص عن عاصم: (تأتهم) [بالتاء] لِتَأْنِيثِ الْبَيِّنَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لتقديم الْفِعْلِ، وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْبَيَانُ فَرُدَّ إِلَى الْمَعْنَى، بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولى، أَيْ بَيَانُ مَا فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ أَقْوَى دَلَالَةٍ وَأَوْضَحُ آيَةٍ: وَقِيلَ: أَوَلَمْ يَأْتِهِمْ بَيَانُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَنْبَاءِ الْأُمَمِ أَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ، فَلَمَّا أَتَتْهُمْ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، كَيْفَ عَجَّلْنَا لَهُمُ الْعَذَابَ وَالْهَلَاكَ، فَمَا يُؤَمِّنُهُمْ إِنْ أَتَتْهُمُ الْآيَةُ أَنْ يَكُونَ حَالُهُمْ كَحَالِ أُولَئِكَ.
١٤٢٤- إسناده ضعيف، والمتن منكر. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٦١٥ من طريق روح عن موسى بن عبيدة الربذي عن يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قسيط عن أبي رافع به.
- وفيه موسى بن عبيدة الربذي، ضعيف ليس بشيء.
- وأخرجه الطبري ٢٤٤٥٥ من طريق موسى بن عبيدة بالإسناد السابق مختصرا.
- وأخرجه الطبري ٢٤٤٥٦ من وجه آخر من حديث أبي رافع، وفيه الحسين بن داود، وهو ضعيف.
- ثم إن السورة مكية كما تقدم في مطلعها، وأما الخبر فمدني.
- وانظر «فتح القدير» ١٦١٦ و «الكشاف» ٦٨٨ بتخريجي.
١٤٢٥- ضعيف. أخرجه الطبراني في «الأوسط» ٨٩٠ والبيهقي في «الشعب» ٩٧٠٥ وأبو نعيم في «الحلية» ٨/ ١٧٦ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام.
وصححه السيوطي في «الدر» ٤/ ٥٦١.
وقال الهيثمي في «المجمع» ١١١٧٣: رجال الطبراني ثقات اهـ.
قلت: هو عند أبي نعيم والطبراني «عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام» وهذا منقطع، وهو عند البيهقي عن يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سلام به وفيه يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الْحِمَّانِيُّ، وهو متروك، فالخبر ضعيف.
- وانظر «فتح القدير» ١٦٢٠ بتخريجي.
281

[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٥]

وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، يعني من قبل إرسال الرسل وإنزال القرآن، لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا، هَلَّا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، يَدْعُونَا، إلى لقاء يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى، بِالْعَذَابِ وَالذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالْخِزْيِ وَالِافْتِضَاحِ.
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ، مُنْتَظِرٌ دَوَائِرَ الزَّمَانِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا نَتَرَبَّصُ بِمُحَمَّدٍ حَوَادِثَ الدَّهْرِ، فَإِذَا مَاتَ تَخَلَّصْنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: فَتَرَبَّصُوا، فَانْتَظِرُوا، فَسَتَعْلَمُونَ، إِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ، مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ، الْمُسْتَقِيمِ، وَمَنِ اهْتَدى، مِنَ الضَّلَالَةِ نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ؟
تفسير سورة الأنبياء
[مكية وهي مائة واثنتا عشرة آية]
[سورة الأنبياء (٢١) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (٥)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ، قِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى من، يعني اقْتَرَبَ مِنَ النَّاسِ حِسَابُهُمْ، أَيْ وَقْتُ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَزَلَتْ فِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ، عَنِ التَّأَهُّبِ لَهُ.
مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ، يَعْنِي مَا يُحْدِثُ اللَّهُ مِنْ تَنْزِيلِ شَيْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُذَكِّرُهُمْ وَيَعِظُهُمْ بِهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يُحْدِثُ اللَّهُ الْأَمْرَ بَعْدَ الأمر. وقيل: الذِّكْرُ الْمُحْدَثُ مَا قَالَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَهُ مِنَ السُّنَنِ وَالْمَوَاعِظِ سِوَى [مَا في] [١] القرآن، وإضافته [٢] إِلَى الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ لِأَنَّهُ قَالَ بِأَمْرِ الرَّبِّ، إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ، يعني اسْتَمَعُوهُ لَاعِبِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ وَلَا يتعظون.
(١) سقط من المطبوع، وفي- ط «ما».
(٢) في المطبوع وط «وأضافه».
Icon