ﰡ
٨- العظة والاعتبار بهلاك الأمم السابقة وتأخير عذاب المشركين إلى يوم القيامة [١٢٨- ١٢٩].
٩- توجيهات ربانية للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأمته في الصبر على الأذى، وتنزيه الله تعالى في الليل والنهار، وعدم الافتتان بزهرة الحياة الدنيا لدى الآخرين، وأمر الأهل بإقامة الصلاة ومتابعة التنفيذ [١٣٠- ١٣٢].
١٠- طلب المشركين إنزال آيات مادية من الله، وإعذارهم بعد إرسال الرسول وإنزال القرآن، ثم وعيدهم بالعذاب المنتظر يوم القيامة [١٣٣- ١٣٥].
القرآن سبب السعادة
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤)الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨)
الإعراب:
طه، ما أَنْزَلْنا.. إِلَّا تَذْكِرَةً ما أنزلنا: إما جواب القسم لأن قوله تعالى: طه جار مجرى القسم، وإما أن يكون طه بمعنى: يا رجل، أي يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن
تَنْزِيلًا منصوب على المصدر. الرَّحْمنُ مبتدأ، أو مرفوع على المدح أي هو الرحمن. وعَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبران للمبتدأ.
يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي وأخفى من السر، كقولهم: الله أكبر، أي أكبر من كل شيء.
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ... اللَّهُ مبتدأ مرفوع، أو بدل من ضمير يَعْلَمُ وخبر المبتدأ:
جملة: لَهُ الْأَسْماءُ.
البلاغة:
مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ التفات من ضمير التكلم إلى الغيبة، تفننا في الكلام، وتفخيما للمنزل من وجهين: إسناد إنزاله إلى ضمير الواحد العظيم الشأن، والتنبيه على أنه واجب الإيمان به.
المفردات اللغوية:
طه هذه الحروف المقطعة نزلت للتنبيه والتحدي بإعجاز القرآن البياني، ما دام مركبا من الحروف التي تتكون منها لغة العرب نفسها. أو هو اسم من أسماء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، أو معناه:
يا رجل، كما روي عن ابن عباس وكبار جماعة التابعين.
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ يا محمد لِتَشْقى لتتعب بما فعلت بعد نزوله من طول قيامك بصلاة الليل، أي خفف عن نفسك. إِلَّا تَذْكِرَةً لكن أنزلناه للتذكير والعظة لمن يخشى؟
لمن يخاف الله. الْعُلى جمع عليا، مؤنث الأعلى، كالكبرى مؤنث الأكبر.
الْعَرْشِ في اللغة: سرير الملك، وهو هنا كناية عن الملك، أو هو مخلوق الله أعلم به، وهذا هو الأصح. اسْتَوى استولى عليه، بدليل قول الشاعر:
استوى بشر على العراق | من غير سيف ودم مهراق |
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ في ذكر أو دعاء، فالله غني عن الجهر به. وَأَخْفى من السر، وهو حديث النفس والخاطر الذي يدور في الذهن، دون التفوه به، فلا تجهد نفسك بالجهر. لَهُ الْأَسْماءُ الصفات والأسماء التسعة والتسعون الوارد بها الحديث. والحسنى: مؤنث الأحسن. والذي
سبب النزول:
قال مقاتل: قال أبو جهل، والوليد بن المغيرة، والنضر بن الحارث، ومطعم بن عدي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك لتشقى حيث تركت دين آبائك، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «بل بعثت رحمة للعالمين»
قالوا: بل أنت تشقى، فأنزل الله الآية ردا عليهم، وتعريفا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بأن دين الإسلام هو سبب كل سعادة، وما فيه المشركون هو الشقاء بعينه.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أول ما أنزل الله عليه الوحي يقوم على صدور قديمه إذا صلى، فأنزل الله: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى.
التفسير والبيان:
طه هذه الحروف المقطعة التي يبتدأ بها في أوائل السورة لتنبيه المخاطب إلى ما يلقى بعدها، ولتحدي العرب بالإتيان بمثل القرآن، ما دام مركبا من حروف اللغة التي ينطقون بها ويكتبون. وقيل: هو اسم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومعناه: طأ الأرض يا محمد، قال ابن الأنباري: وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتحمل مشقة الصلاة، حتى كادت قدماه تتورمان، ويحتاج إلى التروح، فقيل له: طأ الأرض، أي لا تتعب نفسك في الصلاة جدا، حتى تحتاج إلى المراوحة بين قدميك.
ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى أي لم ننزل القرآن عليك لتتعب نفسك بسبب تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وفرط تحسرك على أن يؤمنوا، فإن إيمانهم ليس إليك، بل أنزلناه لتبلغ وتذكر، فحسبك التبليغ
ونظير الآية قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الكهف ١٨/ ٦]. فقوله: لِتَشْقى لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا.
روى جويبر عن الضحاك قال، ومعه مقاتل: لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، قام به هو وأصحابه، فقال المشركون من قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى: طه، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى، إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى فليس الأمر كما زعمه المبطلون، بل من آتاه الله العلم، فقد أراد به خيرا، كما
ثبت في الصحيحين عن معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين».
وما أنزلناه إلا تذكرة لتذكر به من يخاف عذاب الله، وينتفع بما سمع من كتاب الله الذي جعلناه رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة، وليس عليك جبرهم على الإيمان، إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى ٤٢/ ٤٨]، ولَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية ٨٨/ ٢٢].
وفي هذا إيناس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على إعراض قومه عن دعوته، وضيق نفسه من تصميمهم على الكفر.
روى الحافظ أبو القاسم الطبراني عن ثعلبة بن الحكم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة، إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي».
وكلمة إِلَّا في الآية: إما استثناء منقطع بمعنى: لكن، أو متصل
وإنما خص لِمَنْ يَخْشى بالتذكرة لأنهم المنتفعون بها، وإن كان القرآن عاما في الجميع، وهو كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة ٢/ ٢]. ودليل العموم قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ، لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان ٢٥/ ١].
ووجه التذكير بالقرآن: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعظهم به وببيانه.
تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد نزل عليك تنزيلا من خالق الأرض والسموات العليا، والمراد بهما جهة السفل والعلو، الأرض بانخفاضها وكثافتها، والسموات في ارتفاعها ولطافتها.
والمراد بالآية: إخبار العباد عن كمال عظمة منزل القرآن، ليقدروا القرآن حق قدره.
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى أي ومنزل القرآن هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، وهو الذي علا وارتفع على العرش، ولا يعلم البشر كيف ذلك، بل نؤمن به على طريقة السلف الصالح الذين يؤمنون بالصفات من دون تحريف ولا تأويل، ومن غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل، فهو استواء يليق بجلال الله وعظمته، بلا كيف ولا انحصار، كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح ٤٨/ ١٠] لأن الله تعالى ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث، والعرش:
شيء مخلوق، لا ندري حقيقته.
ويرى الخلف تأويل الصفات، فيراد بالاستواء: الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل، والعرش: هو الملك، واليد: القدرة.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أي إن الله
وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى أي إن تجهر بدعاء الله وذكره، فالله تعالى عالم بالجهر والسر، وما هو أخفى منه مما يخطر بالبال، أو يجري في حديث النفس، فالعلم بكل ذلك سواء بالنسبة لله عز وجل. والمعنى:
إن تجهر بذكر الله ودعائه، فاعلم أنه غني عن ذلك، فإنه يعلم السر وما هو أخفى من السر.
وأما إجراء الأدعية والأذكار على اللسان، فلمساعدة القلب على ذلك، ولتصور المعنى، وشغل الحواس بالمطلوب وصرفها عن التفكر في غير ذلك، كما قال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف ٧/ ٢٠٥].
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى إن صفات الكمال المتقدمة هي لله المعبود الحق الذي لا إله غيره ولا رب سواه، وله أحسن الأسماء والصفات الدالة على كل الكمال والتقديس والتمجيد، وهي التسعة والتسعون التي ورد بها الحديث الصحيح، والتي تقدم ذكرها في سورة الأعراف [الآية: ١١٠] وله أيضا الأفعال الصادرة عن كمال الحكمة والصواب.
وبه يتبين أن هذه الآيات وصفت منزل القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بأنه خالق الأرض والسماء، وأنه الرحمن صاحب النعم، وأنه الذي استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون، وأن له الكون كله ملكا وتدبيرا وتصرفا، وأنه العالم بكل شيء، سواء عنده السر والجهر، وأنه الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى والصفات العليا والأفعال السديدة.
لذلك كله بادر عمر بن الخطاب في جاهليته بعقل متفتح إلى الإسلام والإيمان، لما قرأت عليه أخته هذه الآيات.
وقد نزلت سورة طه قبل إسلام عمر رضي الله عنه.
إسلام عمر:
روى ابن إسحاق في سيرته: أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام، وقد خرج في يوم متوشحا سيفه، يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلقيه نعيم بن عبد الله. فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا هذا الصابئ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم:
والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟! فقال: وأي أهل بيني؟ قال: ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب، فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه، فعليك بهما.
قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت، معه صحيفة فيها أول سورة يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهما، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة، فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة (الكلام الخفي الذي لا يفهم) الذي سمعت؟
قالا له: ما سمعت شيئا، قال: بلى والله، لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على
فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم، قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك.
ولما رأى عمر ما صنع، ندم وارعوى، وقال لأخته: أعطني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤونها آنفا أنظر ما هذا الذي جاء به محمد.
فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال لها: لا تخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه، فقالت له: يا أخي، إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر.
فقام عمر واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فلما قرأ منها صدرا، قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه، فقال له:
يا عمر، والله، إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه، فإني سمعته أمس، وهو
يقول: «اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام، أو بعمر بن الخطاب»
فالله الله يا عمر، فقال عمر: دلني يا خباب على محمد حتى آتيه. فأسلم ورضي الله عنه.
هذا ما ذكره ابن إسحاق مطولا، وروى القصة بإيجاز الدارقطني في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: خرج عمر متقلدا بسيف فقيل له: إن ختنك وأختك قد صبوا «١»، فأتاهما عمر وعندهما رجل من المهاجرين يقال له خباب، وكانوا يقرءون طه فقال: أعطوني الكتاب الذي عندكم فأقرؤه- وكان عمر رضي الله عنه يقرأ الكتب- فقالت له أخته: إنك رجس ولا يمسه إلا
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- ليس إنزال القرآن العظيم لإتعاب النفوس وإضناء الأجسام، وإنما هو كتاب تذكرة ينتفع به الذين يخشون ربهم. وفي هذا رد على كفار قريش- كما تقدم في سبب النزول- الذين قالوا: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فأنزل الله تعالى طه.
ويوضح ذلك ما قاله الكلبي: لما نزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي بمكة، اجتهد في العبادة، واشتدت عبادته، فجعل يصلي الليل كله زمانا حتى نزلت هذه الآية، فأمره الله تعالى أن يخفف عن نفسه، فيصلي وينام، فنسخت هذه الآية قيام الليل، فكان بعد هذه الآية يصلي وينام.
وهكذا لم يكن إنزال القرآن لإتعاب النفس في العبادة، وإذاقتها المشقة الفادحة، وإنما القرآن كتاب يسر، وما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا بالحنيفية السمحة.
٢- الله تعالى منزل القرآن هو خالق الأرض والسموات العليا، وهو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها الذي اعتلى عرشه، فكان مطلق التصرف في الخلق والكون، وله جميع ما في السموات وما في الأرض وما بينهما من الموجودات وما تحت الأرض من معادن وذخائر وأموال وغير ذلك، والأرضون سبع والسموات سبع أيضا، وهو العالم بكل شيء، يستوي عنده السر والجهر وما هو أخفى من السر، قال ابن عباس: السر: ما حدث به الإنسان غيره في خفاء، وأخفى منه:
ما أضمر في نفسه مما لم يحدث به غيره.
وقد وحد الله نفسه سبحانه وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دعا المشركين إلى عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، فكبر ذلك عليهم، فلما سمعه أبو جهل يذكر الرحمن، قال للوليد بن المغيرة: محمد ينهانا أن ندعو مع الله إلها آخر، وهو يدعو الله والرحمن فأنزل الله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى وأنزل:
قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ، أَيًّا ما تَدْعُوا، فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء ١٧/ ١١٠] وهو واحد وأسماؤه كثيرة ثم قال اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى.
قصة موسى عليه السلام
- ١- تكليم ربه إياه (أو مناجاة موسى) وابتداء الوحي إليه في الوادي المقدس
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩ الى ١٦]
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣)
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦)
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ إِنِّي بالكسر على الابتداء لأن النداء في معنى القول، وإن: تكسر بعد القول لأنها في تقدير الابتداء. وتقرأ بالفتح أني لوقوع نُودِيَ عليها، أي نودي يا موسى بأني، فحذف الياء تخفيفا. وأَنَا تأكيد لياء المتكلم.
طُوىً من قرأ بتنوين، جعله منصرفا اسما للمكان غير معدول، كجعل وصرد، ومن لم ينون جعله ممنوعا من الصرف إما للتأنيث والتعريف، أو للتعريف والعدل عن طاو كعدول عمر عن عامر. وإعرابه: بدل من الوادي في كلا الوجهين.
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ بدل مما يوحى.
لِذِكْرِي إما مضاف إلى المفعول، أي لتذكرني، وإما مضاف إلى الفاعل، أي لأذكرك.
أَكادُ أُخْفِيها أُخْفِيها إما أن الهمزة فيه همزة السلب، أي أريد إخفاءها، مثل:
أشكيت الرجل، إذا أزلت شكايته، وإما أن المعنى: أكاد أخفيها عن نفسي، فكيف أظهرها لكم.
ولام لِتُجْزى متعلقة ب أُخْفِيها.
فَتَرْدى إما منصوب جوابا للنهي بالفاء، بتقدير (أن) مثل: لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ.. [طه ٢٠/ ٨١] وإما مرفوع على تقدير: فإذا أنت تردى، مثل يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ [النساء ٤/ ٧٣].
البلاغة:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى؟ للتشويق والحث على الإصغاء، وهو استفهام تقرير.
لِتَشْقى يَخْشى أَخْفى تَسْعى سجع حسن.
المفردات اللغوية:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ تشويق لسماع قصته بقصد التأسي به، والحديث: ما يبلغ الإنسان من الكلام، سواء بالسمع أو بالوحي. وهو استفهام تقرير.
إِذْ رَأى ظرف للحديث لأنه حدث، أو مفعول لفعل مقدر وهو اذكر. لِأَهْلِهِ لامرأته. امْكُثُوا هنا، والمكث: الإقامة، قال ذلك في أثناء مسيره من مدين إلى مصر.
آنَسْتُ أبصرت. آتِيكُمْ أجيئكم. بِقَبَسٍ بشعلة من النار مقتبسة على رأس فتيلة أو عود وقال: لَعَلِّي لعدم الجزم بوفاء الوعد. هُدىً هاديا يدلني على الطريق، وكان أخطأها لظلمة الليل.
اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوة من قومك. لِما يُوحى إليك مني، أو للوحي، واللام تحتمل التعلق بكل من الفعلين. أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي دال على أن الأمر مقصور على تقرير التوحيد الذي هو منتهى العلم، والأمر بالعبادة التي هي كمال العمل. وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي لتكون ذاكرا لي، خصها بالذكر، لما فيها من تذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وقيل:
لذكر صلاتي، لما
روي أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي عن أنس: «من نام عن صلاة، أو نسيها، فليصلها إذا ذكرها»، إن الله تعالى يقول: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي.
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة. أَكادُ أُخْفِيها أبالغ في إخفائها ولا أظهرها بأن أقول: إنها آتية، أو أريد إخفاء وقتها عن الناس، ويظهر لهم قربها بعلاماتها. لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي لتجزى فيها كل نفس بما تسعى من خير أو شر. فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها لا يصرفنك عن الإيمان بها. هَواهُ ما تهواه نفسه في إنكارها. فَتَرْدى فتهلك إن صددت عنها.
المناسبة:
لما عظم الله تعالى حال القرآن وحال الرسول فيما كلفه به من التبليغ، أتبع ذلك بما يقوي قلب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في الإبلاغ من ذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود ١١/ ١٢٠]. وبدأ بقصة موسى ليأتم به في تحمل أعباء النبوة، وتبليغ الرسالة، والصبر على مقاساة الشدائد، فإن هذه السورة من أوائل ما نزل، وكان موسى أشد الناس صبرا على تحمل مكاره قومه. وفي سياق هذه القصة تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لما يلاقيه من مشاق أحكام النبوة.
التفسير والبيان:
وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي وهل بلغك خبر موسى وقصته مع فرعون وملئه، وكيف كان ابتداء الوحي إليه، وتكليمه إياه؟ وبدئ بالاستفهام لتثبيت الخبر، وتقريره في نفس المخاطب، فذلك أسلوب مؤثر في إلقاء الكلام العربي.
إِذْ رَأى ناراً، فَقالَ لِأَهْلِهِ: امْكُثُوا، إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً أي هل أتاك خبر موسى حين رأى نارا، وكانت رؤيته للنار في ليلة مظلمة لما خرج مسافرا من مدين إلى مصر، والصحيح كما قال الرازي أنه رأى نارا، لا تخيل نارا، ليكون صادقا في خبره إذ الكذب لا يجوز على الأنبياء.
فقال لزوجه وولده وخادمه مبشرا لهم: أقيموا مكانكم، إني رأيت نارا من بعيد، لعلني أوافيكم منها بشعلة مضيئة أو بشهاب، أو جذوة كما في آية أخرى، لعلكم تستدفئون (أو تصطلون) بها، مما يدل على وجود البرد، أو أجد عند النار من يهديني إلى الطريق ويدلني عليها، كما قال تعالى: لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ، لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [القصص ٢٨/ ٢٩]. والهدى: ما يهتدى به، وهو اسم مصدر، فكأنه قال: أجد على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة.
ومعنى الاستعلاء على النار: أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا بها كانوا مشرفين عليها.
فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ: يا مُوسى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ، فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً أي فلما أتى النار التي آنسها، واقترب منها نودي من قبل الرب تبارك وتعالى، كما قال: نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ
إِنِّي أَنَا رَبُّكَ أي نودي: يا موسى، إن الذي يكلمك ويخاطبك هو ربك، فاخلع حذاءك لأن ذلك أبلغ في التواضع، وأقرب إلى التشريف والتكريم، وحسن التأدب، إنك بالوادي المطهر المسمى طُوىً من أرض سيناء.
وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى أي وأنا الله الذي اخترتك للرسالة والنبوة، فاستمع سماع قبول واستعداد ووعي لما ينزل عليك من الوحي، كما قال تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف ٧/ ١٤٤] أي على جميع الناس الموجودين في زمانك.
ثم ذكر الموحى به فقال تعالى:
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا، فَاعْبُدْنِي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي أي إن الذي يناديك هو الله، وهو تأكيد لما سبق، وهذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ووحدني وقم بعبادتي من غير شريك لأن اختصاص الألوهية به سبحانه موجب لتخصيصه بالعبادة، والمعنى: أنا الإله الحق الواحد، المستحق للعبادة دون سواي.
وأد الصلاة المفروضة على النحو الذي آمرك به، مستكملة الأركان والشروط لتذكرني فيها وتدعوني دعاء خالصا إلي. وخص الصلاة بالذكر، لكونها أشرف طاعة وأفضل عبادة. أو المعنى: أقم الصلاة عند تذكرك بالواجب وذكرك لي لما
رواه الإمام أحمد عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها، فليصلها إذا ذكرها، فإن الله تعالى قال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي»
وفي الصحيحين عن أنس أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك».
وأخرج الترمذي وابن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
واقتصر الحديث على حالتي النوم أو النسيان لأن شأن المؤمن ألا يقصر في واجبه بأداء الصلاة، فإذا تركها عمدا كان قضاؤها ألزم وأوجب إذ لا كفارة لها إلا أداؤها أو قضاؤها.
ثم أخبر عن الساعة أو مجيء يوم القيامة ومصير الخلائق بعد توحيد الله وعبادته، باعتبارها مقر الحساب على الأعمال، فقال:
إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى أي إن الساعة قائمة لا محالة، وكائنة لا بد منها، أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها غيري، فاعمل لها الخير من عبادة الله والصلاة، ولأن مجيء الساعة أمر حتم لازم لأجزي كل عامل بعمله، ولتجزى كل نفس بما تسعى فيه من أعمالها، كما قال تعالى:
إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الطور ٥٢/ ١٦] وقال سبحانه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة ٩٩/ ٧- ٨].
والله أخفى الساعة أي القيامة، وأجل الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ونشاط، ولا يؤخر التوبة، ويترقب الموت كل لحظة. وكلمة أَكادُ أي أقارب، وهي زائدة، أي إن الساعة آتية أخفيها.
فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها، وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى أي فلا يصرفنك يا موسى عن الإيمان بالساعة (القيامة) والتصديق بها، والاستعداد لها من لا يصدق بها من الكفرة، واتبع أهواءه وتصوراته المغلوطة، بالانهماك في الملذات المحرمة الفانية، فإنك إن تفعل ذلك تهلك.
والخطاب ليس مقصورا على موسى الرسول عليه السلام، وإنما بدئ به لتعليم غيره، فهو شامل جميع الناس البالغين العقلاء.
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- ضرورة تعلم قصص الأنبياء والاطلاع عليها للعبرة والعظة، وقد حث القرآن على ذلك في مطلع الإخبار عن قصة موسى عليه السلام، بصيغة الاستفهام الذي هو استفهام إثبات وإيجاب. ولفظ الاستفهام وَهَلْ أَتاكَ وإن كان لا يجوز على الله تعالى، لأنه ليس بحاجة إليه، لكن المقصود به كما تقدم تقرير الجواب في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه الصيغة أبلغ في ذلك، كما يقول المرء لصاحبه على سبيل التشويق ولفت النظر والانتباه: هل بلغك خبر كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة الخبر.
٢- على الزوج واجب الإنفاق على الأهل (المرأة) من غذاء وكساء ومسكن ووسائل تدفئة وقت البرد، لذا بادر موسى عليه السلام إلى الذهاب في الليلة المظلمة الشاتية لإحضار شعلة نار أو جذوة (جمر من النار) للدفء، وللحاجة الشديدة إليه، وبخاصة حالة النفساء.
٣- كان ذهاب موسى عليه السلام من أجل استحضار النار سببا في تكليم الله له، وابتداء الوحي عليه، وإيتائه النبوة والرسالة.
٤- اقتضى أدب الخطاب الإلهي تكليفه بخلع نعليه، ففعل فورا. جاء في الخبر: أن موسى عليه السلام خلع نعليه وألقاهما من وراء الوادي.
لذا وجب خلع النعال في أثناء الصلاة أو عند دخول المسجد إذا كان فيها نجاسة أو قذر، فإن كانت طاهرة جازت الصلاة فيها، حتى لقد قال بعض العلماء: إن الصلاة في النعلين أفضل، وهو معنى قوله تعالى: خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [الأعراف ٧/ ٣١].
٥- حسن الاستماع واجب مطلوب في الأمور المهمة، وأهمها الوحي المنزل من عند الله. وقد مدح الله من يحسن استماع كلام الله، فقال: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ، فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ [الزمر ٣٩/ ١٨] وذم من يعرض عن الاستماع فقال: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ الآية [الإسراء ١٧/ ٤٧] فمدح المنصت لاستماع كلام الله مع حضور العقل، وأمر عباده بذلك أدبا لهم، فقال: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف ٧/ ٢٠٤] وقال هاهنا: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.
قال وهب بن منبه: من أدب الاستماع: سكون الجوارح وغض البصر، والإصغاء بالسمع، وحضور العقل، والعزم على العمل، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى، وهو أن يكف العبد جوارحه، ولا يشغلها، فيشتغل قلبه عما يسمع، ويغض طرفه، فلا يلهو قلبه بما يرى، ويحصر عقله، فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم.
٦- اشتمل أول الوحي على موسى على أصلين في العقيدة وهما الإقرار بتوحيد الله، والإيمان بالساعة (القيامة) وعلى أهم فريضة بعد الإيمان وهي الصلاة.
وإقامة الصلاة واجب في الوقت المخصص لها، ويجب قضاؤها كما دلت الأحاديث النبوية المتقدمة في حالتي النوم والنسيان. وأما من ترك الصلاة متعمدا، فالجمهور أيضا على وجوب القضاء عليه، وإن كان عاصيا آثما بتأخيرها عن وقتها، فالمتعمد آثم، والناسي والنائم غير آثمين. وحجة الجمهور قوله تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [البقرة ٢/ ٤٣] ولم يفرق بين أن يكون في وقتها أو بعده، وهو أمر يقتضي الوجوب. وأيضا فقد ثبت الأمر بقضاء النائم والناسي، مع أنهما غير آثمين، فالعامد أولى. ثم إن النسيان هو الترك، قال الله تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة ٩/ ٦٧] ونَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر ٥٩/ ١٩] سواء كان مع ذهول أو لم يكن لأن الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى لا ينسى، وإنما معناه تركهم. وكذلك الذكر يكون بعد نسيان وبعد غيره، قال الله تعالى في
الحديث القدسي المتفق عليه عن أبي هريرة: «إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي»
وهو تعالى لا ينسى، فيكون ذكره بعد نسيان، وإنما معناه: علمت، فكذلك يكون معنى
قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا ذكرها»
أي علمها.
وأيضا فإن ديون الآدميين إذا كانت متعلقة بوقت، ثم جاء الوقت، لم يسقط قضاؤها بعد وجوبها، وهي مما يسقطها الإبراء، فإذا شغلت الذمة بدين وجب إبراء الذمة منه، أداء أو قضاء، وديون الله أحق بالوفاء.
ثم إن ترك يوم من رمضان متعمدا بغير عذر يوجب القضاء، فكذلك الصلاة «١».
وهذا هو مذهب الحنفية إلا أنهم قالوا: الترتيب عندنا واجب في اليوم والليلة إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت. فإن خشي فوات الوقت بدأ بها، فإن زاد على صلاة يوم وليلة لم يجب الترتيب عندهم.
وقال الشافعي: الاختيار أن يبدأ بالفائتة ما لم يخف فوات هذه، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه.
وذكر الأثرم أن الترتيب عند أحمد واجب في صلاة ستين سنة فأكثر، وقال: لا ينبغي لأحد أن يصلي صلاة، وهو ذاكر لما قبلها لأنها تفسد عليه.
ودليل تقديم الفائتة قبل الحاضرة:
ما روي في الصحيح عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتته العصر يوم الخندق، حتى غربت الشمس، فصلى العصر بعد غروب الشمس، ثم صلى بعدها المغرب.
وروى الترمذي عن ابن مسعود: أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن أربع صلوات يوم الخندق، حتى ذهب من الليل ما شاء الله تعالى، فأمر بالأذان بلالا فقام فأذن، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء.
واختلف العلماء إذا ذكر فائتة في مضيق وقت حاضرة على ثلاثة أقوال:
- فذهب مالك والليث والزهري: إلى أنه يبدأ بالفائتة وإن خرج وقت الحاضرة.
وذهب الحسن البصري والشافعي وفقهاء الحديث والمحاسبي وابن وهب من المالكية: إلى أنه يبدأ بالحاضرة.
- وقال أشهب: يتخير فيقدم أيتهما شاء.
وقال مالك: من ذكر صلاة وهو في صلاة قد صلى منها ركعتين، سلم من ركعتين، فإن كان إماما انهدمت عليه وعلى من خلفه وبطلت. ولو ذكرها في صلاة قد صلى منها ثلاث ركعات، أضاف إليها رابعة وسلم، وصارت نافلة غير فاسدة.
والفائتة بسبب النوم يبدأ عقب الصحو بصلاتها،
لحديث مسلم والدارقطني عن أبي قتادة: «ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصلها حين يتنبه لها، فإذا كان الغد فليصلها عند وقتها»
والصحيح ترك العمل بإعادة الصلاة في الجملة الأخيرة
لحديث الدارقطني عن عمران بن حصين: «أينهاكم الله عن الربا ويقبله منكم».
- ٢- انقلاب عصا موسى حية (المعجزة الأولى)
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٧ الى ٢١]
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١)
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ ما: مبتدأ، وتِلْكَ: خبره، وبِيَمِينِكَ: في موضع نصب على الحال، أي ما تلك كائنة بيمينك، مثل: وَسارَ بِأَهْلِهِ أي سار غير منفرد.
سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى سِيرَتَهَا منصوب ب سَنُعِيدُها بتقدير حذف حرف جر، أي: سنعيدها إلى سيرتها، فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، أي منصوب بنزع الخافض.
البلاغة:
قالَ: هِيَ عَصايَ، أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي إطناب، وكان مقتضى الجواب:
هي عصاي، ولكنه استرسل في الجواب، تلذذا بالخطاب.
المفردات اللغوية:
وَما تِلْكَ؟ استفهام يتضمن تنبيها لما يريه فيها من العجائب يا مُوسى تكرار لزيادة الاستئناس والتنبيه أَتَوَكَّؤُا أعتمد عليها في المشي إذا عييت، أو عند الوقوف على رأس القطيع ونحو ذلك وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وأخبط ورق الشجر بها على رؤوس غنمي، ليسقط، فتأكله مَآرِبُ منافع وحاجات أخر، جمع مأربه، كحمل الزاد والسقاء وطرد الهوام.
حَيَّةٌ ثعبان عظيم لآية أخرى، والحية في الأصل: تطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى. والثعبان: العظيم من الحيات، والجان: الصغير منها تَسْعى تمشي على بطنها سريعا خُذْها بأن يدخل يده في فمها فتعود عصا وَلا تَخَفْ لما رآها حية تسرع وتبتلع الحجر والشجر، خاف وهرب منها سِيرَتَهَا الْأُولى أي إلى حالتها الأولى وهي كونها عصا.
المناسبة:
بعد مناجاة الله لموسى، بدأ تعالى بذكر براهين نبوته، لتصديق رسالته، وأولها انقلاب العصا حية، أي انقلاب الجماد حيوانا، وبالعكس، وتلك آيات باهرات ومعجزات قاهرات أحدثها الله فيها لأجله، وليست من خواصها.
التفسير والبيان:
معجزة العصا لموسى هي البرهان الأول الخارق للعادة الدال على أنه لا يقدر
وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى؟ هذا السؤال عن العصا سؤال تقرير، سأله الله تعالى لموسى عليه السلام وهو العليم به، للتنبيه على كمال قدرة الله، والتأمل بما يحدثه من خوارق العادات، والتأكد من أنها هي عصاه الحقيقية التي يعرفها، وأنها هي التي ستتحول حية تسعى، وإلا فقد علم الله ما هي. والمعنى: أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها، فسترى ما نصنع بها الآن؟! فأجابه موسى بالمطلوب وزاد عليه لأنه استمتع بخطاب الله تعالى، فقال:
قالَ: هِيَ عَصايَ قال موسى: هي عصاي، وبه تم المراد، ولكن موسى عليه السلام ذكر فائدتين لها، وأجمل الكلام في الجملة الثالثة، ليسأله ربه: وما هذه المآرب.
أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها، وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي، وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى هذه عصاي أعتمد عليها في حال المشي، وأخبط بها الشجر وأهزه ليسقط منه الورق لتأكله الغنم، ولي فيها مصالح ومنافع وحوائج أخرى غير ذلك، كحمل الزاد والسقي وطرد السباع عن الغنم، وغير ذلك، فمنافع العصا كثيرة معروفة.
فأمره الله بإلقائها لتظهر المعجزة:
قالَ: أَلْقِها يا مُوسى قال تعالى لموسى عليه السلام: ألق هذه العصا التي في يدك يا موسى.
فَأَلْقاها، فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى فألقاها موسى على الأرض، فإذا هي قد صارت في الحال حية عظيمة، ثعبانا طويلا، يتحرك حركة سريعة، وفي آية أخرى: فإذا هي تهتز كأنها جان، وهو أسرع الحيات حركة، ولكنه صغير، قال تعالى: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ، وَلَّى مُدْبِراً، وَلَمْ يُعَقِّبْ [النمل ٢٧/ ١٠] لما ظهر لها من سرعة الحركة والقوة، لا لصغرها، فتبين أن هذه الحية في غاية الكبر وفي غاية سرعة الحركة. وقوله تَسْعى تمشي وتضطرب.
قالَ: خُذْها وَلا تَخَفْ، سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى قال له ربه: خذها بيمينك، ولا تخف منها، سنعيدها بعد أخذك لها إلى حالتها الأولى التي تعرفها قبل ذلك.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى خطاب من الله تعالى لموسى وحيا لأنه قال: فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى. ولا بد للنبي في نفسه من معجزة يعلم بها صحة نبوة نفسه، فأراه في العصا وفي نفسه ما أراه لذلك.
٢- في جواب موسى في هذه الآية دليل على جواز كون الجواب على السؤال بأكثر مما سئل.
جاء في الحديث الذي أخرجه أصحاب السنن الأربعة وابن أبي شيبة عن أبي هريرة: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ماء البحر للتوضؤ به، فقال:
«هو الطهور ماؤه، الحل ميتته».
وسألته صلى الله عليه وآله وسلم امرأة عن الصغير حين رفعته إليه، فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولك أجر» أخرجه مسلم عن ابن عباس.
٣- قوله تعالى: وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ.. خطاب من الله تعالى لموسى بلا واسطة، لا يلزم منه أن يكون موسى أفضل من محمد لأن الله تعالى خاطب أيضا محمدا عليه الصلاة والسلام ليلة المعراج في قوله: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم ٥٣/ ١٠] إلا أن الفرق بينهما أن الذي ذكره مع موسى عليه السلام أفشاه الله إلى الخلق، والذي ذكره مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم كان سرا لم يطلع عليه أحدا من الخلق.
ومنافع العصا كثيرة، منها اتخاذها قبلة في الصحراء،
وقد كان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عنزة «١» تركز له فيصلي إليها، وكان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة، فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، وذلك ثابت في الصحيح.
وفي الصحيحين: أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان له مخصرة «٢».
والإجماع منعقد على أن الخطيب يخطب متوكئا على سيف أو عصا. وكان ابن مسعود صاحب عصا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعنزته وكان يخطب بالقضيب، وعلى ذلك الخلفاء وكبراء الخطباء وعادة العرب العرباء الفصحاء اللسن البلغاء: أخذ المخصرة والعصا والاعتماد عليها عند الكلام، وفي المحافل والخطب.
٥- لقد تحولت العصا الملقاة من يد موسى حية كبيرة سريعة الحركة بفعل الله عز وجل القادر على خرق العوائد، فقلب الله أوصافها وأعراضها، كذلك عادت الحية عصا إلى حالتها الأولى بفعل الله تعالى، وكل ذلك كان معجزة لموسى عليه السلام وبرهانا حسيا قطعيا على نبوته.
وإنما أظهر الله هذه الآية لموسى، لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون.
وكان خوف موسى عند انقلابها لأول مرة حية- بعد أن علم أنه مبعوث من عند الله إلى الخلق- بمقتضى الطبع الإنساني الذي يخاف من الحيات لسميتها
(٢) المخصرة: ما يختصره الإنسان بيده، فيمسكه من عصا أو عكازة أو مقرعة أو قضيب، وقد يتكئ عليها.
- ٣- اليد البيضاء (المعجزة الثانية)
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٢٢ الى ٣٥]
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦)
وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١)
وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥)
الإعراب:
تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى بيضاء: حال من ضمير تَخْرُجْ وآيَةً إما منصوبة على الحال بدلا من بَيْضاءَ أي تخرج مبينة عن قدرة الله تعالى، وإما منصوبة بتقدير فعل، أي آتيناك آية أخرى.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً لِي في موضع نصب ظرف ل- اجْعَلْ أو صفة ل وَزِيراً فلما تقدم صار منصوبا على الحال.
هارُونَ أَخِي هارُونَ منصوب على البدل من قوله: وَزِيراً وهو ممنوع من الصرف للعلمية (التعريف) والعجمة، وأَخِي عطف بيان، أو بدل.
اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي يقرأ بوصل الهمزة وقطعها، فالوصل دعاء وطلب وهو كالأمر، والقطع فعل مضارع مجزوم لأنه جواب اجْعَلْ على تقدير شرط مقدر، فهو مجزوم بجواب الطلب.
البلاغة:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ استعارة، استعار جناح الطير بجنب الإنسان.
بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فيه احتراس: وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم غير المراد، فلو اقتصر على بَيْضاءَ لأوهم أن ذلك من برص أو بهق، فاحترس بقوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ.
المفردات اللغوية:
وَاضْمُمْ الضم: الجمع يَدَكَ اليمنى بمعنى الكف إِلى جَناحِكَ إلى جنبك الأيسر تحت العضد، علما بأن أصل الجناح للطائر، ثم أطلق على اليد والعضد والجنب، وهذا هو المراد هنا تَخْرُجْ خلاف ما كانت عليه من الأدمة بَيْضاءَ مشعة كشعاع الشمس تعشي البصر مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير عاهة أو قبح كالبرص الذي تنفر الطباع منه آيَةً أُخْرى معجزة ثانية غير العصا.
لِنُرِيَكَ أي فعلنا ذلك لنريك بها مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى هي صفة: آياتِنَا أي من آياتنا العظمى الدالة على قدرتنا وعلى رسالتك. وإذا أراد عودها إلى حالتها الأولى، ضمها إلى جناحه كما تقدم، ثم أخرجها اذْهَبْ رسولا إِلى فِرْعَوْنَ ومن معه بهاتين الآيتين وادعه إلى العبادة إِنَّهُ طَغى جاوز الحد في كفره، وعتوه وتجبره، حتى ادعى الألوهية اشْرَحْ لِي صَدْرِي
أي وسعه لتحمل أعباء الرسالة والصبر على مشاقها وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي سهل لي ما أمرتني به من تبليغ الرسالة وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي أزل تلك العقدة التي في لساني، حدثت في احتراقه بجمرة وضعها بفيه وهو صغير، لئلا ينفر مني الناس ويستخفوا بي يَفْقَهُوا قَوْلِي يفهموا قولي عند تبليغ الرسالة.
وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً معينا، والأزر: القوة أو الظهر، يقال: آزره: أي قواه وأعانه وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي اجعله شريكا معي في النبوة والرسالة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً أي تسبيحا كثيرا وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي ونذكرك ذكرا كثيرا إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا، فأنعمت بالرسالة، ولا نريد بالطاعة إلا رضاك.
بعد أن ذكر تعالى معجزة العصا الدالة على صدق رسالة موسى عليه السلام، وهي المعجزة الأولى، ذكر المعجزة الثانية وهي معجزة اليد البيضاء التي تنقلب مشعة كشعاع الشمس، تعشي البصر.
وبعد هاتين الآيتين أمره الله بالذهاب إلى فرعون، لتبليغ رسالة ربه ودعوته إلى عبادة الله، فدعا موسى عليه السلام ربه بأربعة أمور: شرح صدره، وتيسير أمره، وحل عقدة لسانه، وجعل أخيه هارون نبيا وزيرا له، لتقويته، وتعاونه معه في أداء مهمة التبليغ، وذكر الله وعبادته، فصار مطلوب موسى ثمانية أمور، أربع منها وسائل، وأربع أخرى هي غايات.
التفسير والبيان:
هذا برهان ثان لموسى عليه السلام على نبوته، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه أو في جناحه (جنبه) معبرا عن الجنب بالجناح، فقال:
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى أي واضمم يا موسى يدك اليمنى أو كفك إلى جناحك (وهو جنبك تحت العضد) واجعلها تحت الإبط الأيسر، تخرج بيضاء لامعة ذات نور ساطع يضيء بالليل والنهار كضوء الشمس والقمر، من غير عيب كبرص أو أذى أو شين- علما بأن جلد موسى كان أسمر- معجزة أخرى غير العصا، ثم ردها فعادت كما كانت بلونها. وإذا حاول السحرة إبطال معجزة العصا، فإنه لم يحاول أحد إبطال معجزة اليد.
وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها، تخرج تتلألأ، كأنها فلقة قمر. قال الحسن البصري: أخرجها والله كأنها مصباح، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عز وجل.
لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى فعلنا هذا لنريك بهاتين الآيتين بعض دلائل قدرتنا على كل شيء في السموات والأرض والمخلوقات الموجودات.
وبعد أن أظهر تعالى له هذه الآية أمره بالذهاب إلى فرعون، وبين العلة في ذلك، وهي أنه طغى، فقال:
اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى أي اذهب رسولا إلى فرعون ملك مصر الذي خرجت فارا منه، ومعك ما رأيته من آياتنا الكبرى، وادعه إلى توحيد الله وعبادته، ومره بأن يحسن إلى بني إسرائيل، فإنه كفر وتجاوز قدره والحدود كلها، فآثر الحياة الدنيا وادعى أنه الرب الأعلى.
ولما أمر الله تعالى موسى عليه السلام بالذهاب إلى فرعون، وكان ذلك تكليفا شاقا، سأل ربه أمورا ثمانية، ثم ختمها بعلة سؤال تلك الأشياء، فقال:
١- قالَ: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي قال موسى: رب وسع لي صدري وأزل عنه الضيق فيما بعثتني به، فإنه أمر عظيم وخطب جسيم، وسبب هذا السؤال قوله: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي [الشعراء ٢٦/ ١٣]، فسأل الله تعالى أن يبدل ذلك الضيق بالسعة، ليحتمل أذى الناس وأعباء الرسالة.
٢- وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي أي سهل علي القيام بما كلفتني به من تبليغ الرسالة، وقوني على مهمتي، فإن لم تكن أنت عوني ونصيري وإلا فلا طاقة لي بذلك.
وروي أن الحسين رضي الله عنه كان في لسانه رتة، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «إن هذه ورثها من عمه موسى».
٤- وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي أي واجعل لي عونا ومساعدا لي في بعض أموري، من أهل بيتي هارون أخي، اجعله رسولا، ليتحمل معي أعباء الرسالة. ودعم الأنبياء تقتضيه حاجة نشر الدين، لذا قال عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ، قالَ الْحَوارِيُّونَ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمران ٣/ ٥٢].
٥- ٦: اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي أي يا رب أحكم به قوتي، واجعله شريكي في أمر الرسالة، حتى نؤدي المطلوب على الوجه الأكمل ونحقق أفضل الغايات. والحاصل أنه شفع له كي يكون نبيا مثله ليعينه، ويشد به أزره (قوته) ويجعله ناصرا له لأنه لا اعتماد على القرابة.
٧- ٨: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً أي لكي نزهك كثيرا عما لا يليق بك من الصفات والأفعال، ونذكرك كثيرا وحدك دون أن نشرك معك غيرك. قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله قائما وقاعدا ومضطجعا.
إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً أي إنك يا رب كنت عليما بأحوالنا وأحوال
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- إن إخراج موسى عليه السلام يده من جيبه أو جناحه بيضاء لامعة تضيء كضوء الشمس والقمر وأشد ضوءا: هي المعجزة الثانية بعد معجزة العصا.
٢- أرسل الله موسى رسولا إلى فرعون الطاغية الذي ادعى الألوهية، وآزرته فئته الباغية في ذلك الادعاء، وأيد الله موسى بالعصا واليد، وأراه ما يدل على أنه رسول.
٣- دعا موسى ربه، والدعاء نوع من العبادة، لتيسير القيام بمهمته وتحقيقه أحسن الغايات، وقد أجابه ربه لكل ما طلب لقوله تعالى: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى، فشرح صدره وأزال عنه الضيق والغم، ويسر أمره وقواه، وانحل أكثر العقد من لسانه، وإن بقي منها شيء قليل، لقوله تعالى حكاية عن فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ [الزخرف ٤٣/ ٥٢] وجعل له أخاه هارون نبيا ليعاونه في أداء الرسالة، والتعاون ضروري لإنجاح المقصود، وآزره وأحكم قوته به، وشاركه في مهمته، وكانا كثيرا ما يسبحان الله وينزهانه عما لا يليق به من نقص كادعاء ولد أو شريك معه، ويذكرانه وحده لا شريك له، عملا بما دعا به موسى عليه السلام.
٤- إن الله تعالى عالم بخفيات الأمور، عالم بموسى وأخيه وبأحوال فرعون وغير ذلك، مدرك ما تعرض له موسى في الصغر، فأحسن إليه، ونصره على فرعون وملئه.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٣٦ الى ٤١]
قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
الإعراب:
أَنِ اقْذِفِيهِ.. فَاقْذِفِيهِ أَنِ اقْذِفِيهِ في موضع نصب على البدل من ما. وهاء اقْذِفِيهِ لموسى، وهاء فَاقْذِفِيهِ للتابوت.
وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فُتُوناً إما منصوب على المصدر (مفعول مطلق) مثل: ضربت ضربا، وإما منصوب بحذف حرف الجر، أي فتناك بفتون، ومعناه: وفتناك بأنواع من الفتن.
البلاغة:
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي استعارة تبعية، شبه اختياره للمحبة والرسالة والتكريم والتكليم بمن يختاره الملك للمهام الجليلة، لما يرى فيه من المقومات والخصال الحميدة، لئلا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه.
سُؤْلَكَ مسئولك، أي مطلوبك مَنَنَّا أنعمنا إِذْ للتعليل أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ألهمنا أو في المنام، لما ولدتك وخافت أن يقتلك فرعون في جملة من يولد، كما أوحى إلى مريم، وإلى النحل، وإلى الحواريين وليس وحيا على جهة النبوة ما يُوحى في أمرك اقْذِفِيهِ ألقيه واطرحيه أي ألقي موسى الصغير في التابوت فَاقْذِفِيهِ فألقي التابوت فِي الْيَمِّ البحر، والمراد هنا نهر النيل فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ الشاطئ، والأمر هنا بمعنى الخبر يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وهو فرعون وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي محبة كائنة مني، لتصبح محبوبا بين الناس، فأحبك فرعون وكل من رآك وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي وتربى على رعايتي وحفظي لك بمرأى مني.
إِذْ تَمْشِي إذ للتعليل أُخْتُكَ مريم، لتتعرف على خبرك، وقد أحضروا مراضع وأنت لا تقبل ثدي واحدة منهن يَكْفُلُهُ يضمه إلى نفسه ويصبح كافلا له، فأجيبت، فجاءت بأمه، فقبل ثديها تَقَرَّ عَيْنُها تسر بلقائك وَلا تَحْزَنَ بفراقك وأنت بفراقها وفقد شفقتها وَقَتَلْتَ نَفْساً هو القبطي بمصر الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، فاغتممت لقتله خوفا من فرعون الْغَمِّ غم قتله، خوفا من عقاب الله تعالى، والغم: الكدر الحادث من خوف شيء أو فوات مقصود وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك بأنواع من الابتلاء، فخلصناك مرة بعد أخرى. والفتون:
الابتلاء والاختبار بالمحن، ثم تخليصه منها. وهو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، وترك الأصحاب، والمشي راجلا على حذر، وفقد الزاد، وأجر نفسه، وغير ذلك أثناء مسيره من مصر إلى مدين، ومدين: على ثماني مراحل من مصر، وهي جنوب فلسطين «١».
فَلَبِثْتَ سِنِينَ أقمت في أهل مدين عشر سنين، بعد مجيئك إليها من مصر عند شعيب النبي وتزوجك بابنته ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدرته في علمي لأن أكلمك وأكلفك بالرسالة، وهو أربعون سنة وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اخترتك بالرسالة والمحبة. وكرر: يا مُوسى للتنبيه على غاية القصة وهي التكليم.
المناسبة:
بعد أن سأل موسى ربه أمورا ثمانية، ذكر تعالى هنا أنه أجابه إليها، ليتمكن
وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي. وعودته إلى أمه للرضاع والحضانة: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها. ونجاته من القصاص بقتل القبطي: فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ. وابتلاؤه بالفتن: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً. ومقاساته الفقر والغربة مع أهل مدين: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ. وتكليم الله له واختياره للنبوة والرسالة والهداية: ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي.
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى في هذه الآيات دعاء موسى عليه السلام، وذكره بنعمه السالفة عليه، فقال:
قالَ: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أي قال الله عز وجل لموسى: قد أعطيتك ما سألته من الأمور الثمانية، من شرح الصدر، وتيسير الأمر، وحل العقدة، ونبوة هارون، وشد أزره به، وإشراكه في أمر الرسالة، والتمكين من التسبيح الكثير، والتذكر الكثير لله عز وجل.
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى أي ولقد أحسنا وتفضلنا عليك بنعم سابقة كثيرة قبل النبوة وهي:
١- إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ، يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ أي مننا عليك حين ألهمنا أمك لإنقاذك من فرعون، أن تضعك في تابوت (صندوق من خشب أو غيره) ثم تطرح هذا التابوت في البحر (اليم) وهو هنا نهر النيل، وأمرنا النيل
٢- وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي ألقيت عليك محبة كائنة مني في قلوب العباد، لا يراك أحد إلا أحبك، فأحبك فرعون وزوجه التي قالت: قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً [القصص ٢٨/ ٩].
٣- وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي أي ولتتربى بمرأى مني وفي ظل رعايتي.
٤- إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ، فَتَقُولُ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ أي خرجت أختك تمشي على الشاطئ، تسير بسير التابوت، تتابعه بنظراتها لترى في أي مكان يستقر، فوجدت فرعون وامرأته يطلبان له مرضعة، فقالت: هل أدلكم على من يربيه ويحفظه؟ فجاءت بالأم، فقبل ثديها، وكان لا يقبل ثدي مرضعة أخرى غيرها، فرددناك إلى أمك بألطافنا، ليحصل لها السرور برجوع ولدها إليها، بعد أن طرحته في البحر، وعظم عليها فراقه.
٥- وَقَتَلْتَ نَفْساً، فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ أي قتلت القبطي الذي وكزته حين استغاث بك الإسرائيلي، وكان قتلا خطأ، فنجيناك من الغم الحاصل عندك من قتله خوفا من العقوبة، بالفرار إلى مدين، فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب.
٦- وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً أي اختبرناك مرة بعد مرة بما أوقعناك فيه من المحن المذكورة، قبل أن يصطفيك الله لرسالته، حتى صلحت للقيام بالرسالة لفرعون ولبني إسرائيل.
ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى أي أتيت في وقت سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأجعلك نبيا.
٨- وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي أي اخترتك برسالاتي وبكلامي لإقامة حجتي، وجعلتك رسولا بيني وبين خلقي لتبليغ الدين، والهداية إلى التوحيد والشرع القويم.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لما سأل موسى عليه السلام ربه الأمور الثمانية، أجاب سؤله، وحقق مطلوبه ومرغوبه، فضلا من الله ونعمة، ورحمة ومنة.
٢- وبعد إجابة دعائه، ذكره الله بما أنعم عليه من النعم الثماني التي أنعم بها عليه، قبل سؤاله، وتتلخص في حفظه سبحانه له من شر الأعداء والقتل من ابتداء حياته، وحين شبابه.
٣- كان الإيحاء من الله لأم موسى بصنع الصندوق وقذفه في البحر إلهاما أو رؤيا رأتها في المنام، فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل، فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ [الأنبياء ٢١/ ٧].
٤- من عجائب فعل الله وتدبيره وصنعه أن ينجي الله موسى الرضيع من قتل فرعون، وأن يتربى في بيت فرعون على مائدته، وأن يكون سببا في هلاك فرعون وإغراقه في البحر مع ملئه وقومه.
٥- معنى محبة الله تعالى لموسى: إيصال النفع إلى عباده، بتهيئته للرسالة منذ الصغر، واستمرار ذلك حال الكبر إلى آخر عمره.
٦- ومن تدبير الله الخفي أن موسى الرضيع لم يقبل ثدي أحد من المراضع، حتى أقبلت أخته المتجاهلة أمره، فأخذته ووضعته في حجرها وناولته ثديها، فمصه وفرح به، فقالوا لها: تقيمين عندنا؟ فقالت: إنه لا لبن لي، ولكن أدلكم على من يكفله وهم له ناصحون، قالوا: ومن هي؟ قالت: أمي، فقالوا: لها لبن؟ قالت: لبن أخي هارون، وكان هارون أكبر من موسى بسنة، وقيل:
بثلاث، وقيل: بأربع. وذلك أن فرعون رحم بني إسرائيل فرفع عنهم القتل أربع سنين، فولد هارون فيها، كما قال ابن عباس. فجاءت الأم فقبل ثديها.
٧- ليس هناك في الدنيا بعد النبي أشد عاطفة من عاطفة الأم على ولدها، بخلق الله وتقديره بإفرازها الحنان على ولدها من خلايا خاصة بها، لذا حزنت أم موسى وقلقت على ابنها بعد إلقائه في البحر، ولكن الله الرحيم بعباده رد إليها ابنها، وأقر عينها، وأزال حزنها وغمها.
٨- لم يكن قتل موسى قبطيا كافرا عمدا، وإنما كان خطأ، وقبل النبوة حال الصغر، قال كعب كما روى مسلم في صحيحة: وكان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة.
١٠- أتم موسى عليه السلام عشر سنوات في رعي غنم شعيب الرجل الصالح مهرا لامرأته، وهو أتم الأجلين. وقال وهب: لبث موسى عند شعيب ثماني وعشرين سنة، منها عشر مهر امرأته «صفورا» ابنة شعيب، وثماني عشرة إقامة عنده حتى ولد له عنده.
١١- بعد مرور موسى بمحن كثيرة حان وقت نبوته، فجاء في وقت مقدر سابقا في علم الله وقضائه، موافقا للنبوة والرسالة لأن الأنبياء لا يبعثون إلا أبناء أربعين سنة.
فاصطفاه الله واختاره لوحيه ورسالته، وأرسله إلى فرعون وملئه. وتتمة القصة في الآيات التالية.
أخرج البخاري ومسلم في تفسير الاصطفاء عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «التقى آدم وموسى، فقال موسى: أنت الذي أشقيت الناس، وأخرجتهم من الجنة، فقال آدم: وأنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطفاك لنفسه، وأنزل عليك التوراة؟ قال: نعم، قال: فوجدته مكتوبا علي قبل أن يخلقني، قال: نعم، فحج آدم موسى».
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦)
فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
المفردات اللغوية:
بِآياتِي بمعجزاتي التسع كالعصا واليد البيضاء، فإن فرعون لما قال لموسى: فأت بآية، ألقى العصا ونزع اليد، وقال: فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ. وَلا تَنِيا لا تفترا ولا تقصرا فِي ذِكْرِي أي لا تنسياني حيثما تقلبتما بتسبيح وغيره، واتخذا ذكري عونا ومددا وتأييدا مني إليكما. قال الزمخشري: ويجوز أن يريد بالذكر: تبليغ الرسالة، فإن الذكر يقع على سائر العبادات، وتبليغ الرسالة من أجلها وأعظمها.
وأما وقت نبوة هارون: فروي أن الله تعالى أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى، وقيل: سمع بمقبله، وقيل: ألهم ذلك، وخوطب مع أخيه موسى لأنه كان تابعا، وموسى متبوعا.
طَغى تجاوز الحد بادعائه الربوبية قَوْلًا لَيِّناً فيه تلطف وبعد عن الغلظة والشدة، نحو قوله تعالى: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى [النازعات ٧٩/ ١٨- ١٩]. يَتَذَكَّرُ يتأمل ويتعظ فيؤمن. وقوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلق باذهبا، أو قولا، أي باشرا الأمر على رجاء وطمع منكما أنه يثمر. والفائدة في إرسالهما مع علمه تعالى بأنه- أي فرعون- لا يؤمن: إلزام الحجة وقطع المعذرة يَخْشى أي يخاف من بطش
فَأْتِياهُ قابلاه مواجهة فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أطلقهم من الأسر، ودعهم يذهبون معنا إلى الشام وَلا تُعَذِّبْهُمْ ولا تبقهم عندك معذبين بالتكاليف الصعبة والأشغال الشاقة كالحفر والبناء وحمل الأثقال، وقتل الولدان، وهذا دليل على أن تخليص المؤمنين من الكفرة أهم من دعوتهم إلى الإيمان قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ أي بحجة على صدقنا بالرسالة. وهي جملة مقررة لما تضمنه الكلام السابق من دعوى الرسالة. وإنما وحد الآية وكان معه آيتان لأن المراد إثبات الدعوى ببرهانها، فالمراد: جنس الآية، لا الإشارة إلى وحدة الحجة وتعددها.
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى أي السلامة من العذاب في الدارين، لمن صدق بآيات الله الدالة على الحق كَذَّبَ ما جئنا به وَتَوَلَّى أعرض عنه. ويلاحظ أنه قدم البشارة بالسلام للترغيب وعملا بسياسة اللين المأمور بها، ثم جاء التصريح بالوعيد والتوكيد فيه لأن العقاب مؤيد والتهديد مهم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى النعم الثماني على موسى في مقابل طلباته الثمانية، ذكر هنا الأوامر والنواهي أو التوجيهات التي ينفذها هو وأخوه هارون، كالتعليمات التي تعطى للرسل والسفراء والقناصل لدى الذهاب في مهمة إلى دولة أخرى، للتوصل إلى نجاح المهمة، وأداء الرسالة على أكمل وجه، والخلاصة: أنه لما قال تعالى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي عقبه بذكر ما لأجله اصطنعه، وهو الإبلاغ والأداء.
التفسير والبيان:
هذه هي الأوامر والنواهي الصادرة من الله لموسى وأخيه، فقال تعالى:
اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي أي اذهب يا موسى مع أخيك إلى فرعون وقومه بحججي وبراهيني ومعجزاتي التي جعلتها لك آية وعلامة على
الذي يذكرني وهو مناجز قرنه» أي نظيره في الشجاعة والحرب. والذكر يقع على كل العبادات، وتبليغ الرسالة من أعظمها، وذلك بأن يبينا لهم أن الله أرسلهما مبشرين ومنذرين، وأنه لا يرضى منهم بالكفر، ويذكرا لهما أمر الثواب والعقاب والترغيب والترهيب.
اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى اذهبا إلى فرعون، وأبطلا دعواه الألوهية بالحجة والبرهان لأنه جاوز الحد في الكفر والتمرد، وتجبر على الله وعصاه، حين قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات ٧٩/ ٢٤].
وبدأ بفرعون لأنه الحاكم، فإذا آمن تبعه الرعية، ثم بين الله تعالى أسلوب الدعوة، فقال:
فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً، لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى أي فكلماه كلاما رقيقا لطيفا لا خشونة فيه، وخاطباه بالقول اللين، فذلك أدعى به وأحرى أن يفكر فيما تبلغانه، ويخشى عقاب الله الموعود به على لسانكما. والمراد تركهما التعنيف، كقولهما: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى، وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى..
[النازعات ٧٩/ ١٨- ١٩] لأن نفس الحاكم مستعلية قاسية، لا تقبل القسر والقسوة، وتلين للمديح والاستعطاف. وكلمة «لعل» هنا لتوقع حصول ما بعدها، واحتمال تحققه، فالتوقع فيها من البشر، أي على أن تكونا راجيين لأن يتذكر أو يخشى. والخطاب وإن كان مع موسى، فإن هارون تابع له، فجعل الخطاب معه خطابا مع هارون.
وفي هذه الآية عبرة وعظة وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا
فأجاب موسى وهارون بقولهما:
قالا: رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى أي قال موسى وهارون: يا ربنا، إننا نخاف من فرعون إن دعوناه إلى التوحيد وعبادتك، أن يعجل ويبادر بعقوبتنا، ويشتط في أذيتنا ويعتدي علينا، لتجبره وعتوه وقساوته.
قالَ: لا تَخافا، إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي قال الله لموسى وهارون:
لا تخافا من فرعون، فإنني معكما بالنصر والتأييد، والحفظ والعون عليه، وإنني سميع لما يجري بينكما وبينه، ولست بغافل عنكما، وأرى كل ما يقع، فأصرف شره عنكما. والمراد أنه تعالى حثهما على التبليغ بجرأة وحكمة، وتكفل لهما بالحفظ والمعونة والنصرة والوقاية من شر فرعون وغضبه. وتدل هذه الآية على أن كونه تعالى سميعا بصيرا صفتان زائدتان على العلم لأن قوله: إِنَّنِي مَعَكُما دل على العلم، وأَسْمَعُ وَأَرى على السمع والبصر.
فَأْتِياهُ فَقُولا: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ أي فأتياه في مجلسه وقابلاه وقولا له:
إن الله أرسلنا إليك. وقوله رَبِّكَ إشارة إلى أن الرب الحقيقي هو الله، وأن دعواك الربوبية لنفسك لا معنى لها.
فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ أي أطلق سراح بني إسرائيل من الأسر، وخل عنهم، ولا تعذبهم بتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم، وتكليفهم مالا يطيقون من السخرة في أعمال البناء والحفر ونقل الأحجار. وإنما بدأ موسى وهارون بهذا الطلب لأنه أخف وأسهل من الدعوة المباشرة إلى الإيمان بالله تعالى.
مثل كتاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى هرقل عظيم الروم، ونصه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية الإسلام، فأسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتين».
ولما كتب مسيلمة الكذاب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا صورته:
«من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد: فإني قد أشركتك في الأمر، فلك المدر، ولي الوبر، ولكن قريش قوم يعتدون».
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين».
إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أي إننا وجهنا لك النصح والإرشاد لأن الله أخبرنا فيما أوحاه إلينا من الوحي المعصوم: أن العذاب متمحض خالص لمن كذب بآيات الله وبما ندعو إليه من توحيده، وتولى عن طاعته، كما قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات ٧٩/ ٣٧- ٣٩]، وقال سبحانه: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى، لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل ٩٢/ ١٤- ١٦]، وقال
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- ربط الله تعالى بين اصطناع موسى لنفسه، أي اختياره لوحيه ورسالته، وبين ما اختاره له، وهو إبلاغ الرسالة، وأداء الوحي إلى الناس.
٢- أيد الله تعالى موسى وأخاه هارون عليهما السلام بتسع آيات أنزلت على موسى، لتكون دليلا وآية على النبوة، ومعجزة تثبت الصدق، وبرهانا لفرعون وقومه على أن موسى وأخاه هارون أرسلهما الله إليهم.
٣- أمر الله تعالى موسى وهارون بالذهاب إلى دعوة فرعون إلى عبادة الله والإقرار بربوبيته وألوهيته وحده لا شريك له، وقد خاطب أولا موسى وحده تشريفا له، ثم كرر الخطاب له مع أخيه للتأكيد.
٤- قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً دليل على جواز الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأن ذلك يكون باللين من القول لمن معه القوة، وضمنت له العصمة، فنحن أولى بذلك، وحينئذ يحصل الآمر أو الناهي على مرغوبه، ويظفر بمطلوبه.
والقول اللين: هو القول الذي لا خشونة فيه.
٥- الخوف من عدوان الظلمة العتاة الجبابرة كفرعون من طبيعة البشر، لذا لم يكن مستغربا أن يقول موسى وهارون: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى أي أن يشطط في أذيتنا أو يعتدي علينا.
٦- قال العلماء: لما لحقهما- أي موسى وهارون- ما يلحق البشر من الخوف
لذا حكى القرآن عن موسى: فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص ٢٨/ ٢١]، وقال: فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ [القصص ٢٨/ ١٨]، وقال حين ألقى السحرة حبالهم وعصيهم: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى، قُلْنا: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه ٢٠/ ٦٧- ٦٨]، وقال في الآيات المتقدمة في هذه السورة: خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى.
ومنه حفر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخندق حول المدينة تحصينا للمسلمين وأموالهم، مع كونه من التوكل والثقة بربه بمحل لم يبلغه أحد. ثم كان من أصحابه ما لا يجهله أحد من تحولهم عن منازلهم، مرة إلى الحبشة، ومرة إلى المدينة، تخوفا على أنفسهم من مشركي مكة، وهربا بدينهم أن يفتنوهم عنه بتعذيبهم.
قال العلماء: فالمخبر عن نفسه بخلاف ما طبع الله نفوس بني آدم عليه كاذب، وقد طبعهم على الهرب مما يضرها ويؤلمها أو يتلفها.
٧- العصمة للأنبياء من الله تعالى وحده، لذا قال لموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى أي إنه معهما بالنصر والمعونة والقدرة على فرعون. والسماع والبصر: عبارة عن الإدراك الذي لا تخفى معه خافية.
والآية دليل كما تقدم على العلم الإلهي، وعلى كونه تعالى سميعا وبصيرا.
٨- كان أول مطلب موسى وهارون من فرعون إطلاق سراح بني إسرائيل من الأسر، وإنقاذهم من السخرة والتعب في العمل لأن بني إسرائيل كانوا عند فرعون في عذاب شديد، يذبح أبناءهم، ويستخدم نساءهم، ويكلفهم من العمل في الطين واللبن وبناء المدائن ما لا يطيقونه.
وأضافا أيضا في كلامهما: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب أي الهلاك والدمار في الدنيا، والخلود في جهنم في الآخرة على من كذب أنبياء الله، وتولى، أي أعرض عن الإيمان. قال ابن عباس: هذه أرجى آية للموحدين لأنهم لم يكذبوا ولم يتولوا.
- ٦- الحوار بين فرعون وموسى حول الربوبية
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٤٩ الى ٥٥]
قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣)
كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥)
الإعراب:
قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي: عِلْمُها: مبتدأ، وفِي كِتابٍ: خبره، وعِنْدَ رَبِّي: ظرف يتعلق بالخبر، وتقديره: علمها كائن في كتاب عند ربي. ويحتمل أن يكون عِنْدَ
في موضع نصب على الحال: لأنه في الأصل صفة لكتاب وهو نكرة، فلما تقدمت صفة النكرة عليها، وجب النصب على الحال. ويحتمل أن يكون فِي كِتابٍ بدلا من قوله: عِنْدَ رَبِّي ويكون عِنْدَ رَبِّي خبر المبتدأ.
ولا يَضِلُّ رَبِّي أي لا يضل ربي عنه، فحذف الجار والمجرور، كما حذفا في آية فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات ٧٩/ ٤١] أي المأوى له.
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ خبر لمبتدأ محذوف، أو صفة لربي، أو منصوب على المدح.
كُلُوا وَارْعَوْا حال من ضمير أخرجنا، أي مبيحين لكم الأكل ورعي الأغنام.
البلاغة:
نُعِيدُكُمْ ونُخْرِجُكُمْ بينهما طباق.
فَأَخْرَجْنا التفات من الغيبة إلى التكلم.
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ مقابلة، قابل بين مِنْها وفِيها وبين الخلق والإعادة.
المفردات اللغوية:
قالَ: فرعون. فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟ إنما خاطب الاثنين، وخص موسى بالنداء لأنه الأصل، وهارون وزيره وتابعه. أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ أي منح كل نوع من المخلوقات صورته وشكله الذي يطابق كماله، ويناسب خواصه ومنافعه، ومميزاته التي يتميز بها من غيره. ثُمَّ هَدى ثم عرفه كيف يرتفق بما أعطي له.
قالَ فرعون. فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالهم بعد موتهم من السعادة والشقاوة.
والبال في الأصل: الفكر، يقال: خطر ببالي كذا، ثم أطلق هنا على الحال المعني بها.
والْقُرُونِ الأمم، مثل قوم نوح وهود ولوط وصالح في عبادتهم الأوثان.
قالَ موسى. عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ أي علم حالهم محفوظ عند ربي في اللوح المحفوظ، يجازيهم عليها يوم القيامة. والمراد أن حالهم غيب لا يعلمه إلا الله، وقصد بذلك كما علم الله الذي لا يضيع منه شيء. لا يَضِلُّ لا يخطئ مكان الشيء، والضلال: أن تخطئ الشيء في مكانه، فلم تهتد إليه. وَلا يَنْسى ربي شيئا، والنسيان: عدم تذكر الشيء بحيث لا يخطر ببالك. وهما محالان على الله العالم بالذات.
وَسَلَكَ سهل. سُبُلًا طرقا، أي جعل لكم فيها طرقا بين الجبال والأودية والبراري، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها. السَّماءِ مطرا. فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً أصنافا وفيه التفات من لفظ الغيبة إلى صيغة المتكلم، على الحكاية لكلام الله تعالى، للتنبيه على ما فيه من الدلالة على كمال القدرة والحكمة، وللإشعار بأنه تعالى مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لمشيئته. مِنْ نَباتٍ شَتَّى شتى صفة. أَزْواجاً أي مختلفة الألوان والطعوم، وشَتَّى جمع شتيت، كمريض ومرضى، من شت الأمر: تفرق.
كُلُوا منها. وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ فيها، والأنعام جمع نعم: وهي الإبل والبقر والغنم.
والأمر للإباحة وتذكير النعمة. إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور هنا. لَآياتٍ لدلالات. لِأُولِي النُّهى أصحاب العقول، جمع نهية، كغرفة وغرف، سمي به العقل لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح.
مِنْها خَلَقْناكُمْ من الأرض، فإن التراب أصل خلقة أول آبائكم وأول مواد أبدانكم.
وَفِيها نُعِيدُكُمْ بالموت، وتفكيك الأجزاء. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ عند البعث. تارَةً أُخْرى مرة أخرى، كما أخرجناكم عند ابتداء خلقكم.
المناسبة:
بعد مبادرة موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون امتثالا لأمر الله، ووصولهما إلى قصر فرعون، والإذن لهما بالدخول بعد انتظار طويل، وصف الله تعالى الحوار الذي دار بينه وبينهما، فسألهما سؤال إنكار للرب تكبرا وتجبرا، بعد أن أثبت نفسه ربا في قوله: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. فاستدل موسى على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات.
التفسير والبيان:
قالَ: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى أي إذا كنتما رسولي ربكما إلي، فأخبراني:
من ربكما الذي أرسلكما؟ ويلاحظ أنه أضاف الرب إليهما، ولم يضفه إلى نفسه
فأجابه موسى:
قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي قال موسى: ربنا هو الذي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يليق به، ويطابق المنفعة المنوطة به، كاليد للبطش، والرجل للمشي، واللسان للنطق، والعين للنظر، والأذن للسمع.
ثم أرشدهم إلى طرق الانتفاع بما أعطاهم، فانتفعوا بكل شيء فيما خلق له، إما اختيارا كالإنسان والحيوان، وإما طبعا كالنبات والجماد، كقوله تعالى:
وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى ٨٧/ ٣] أي قدر قدرا، وهدى الخلائق إليه، أي كتب الأعمال والآجال والأرزاق، ثم مشى الخلائق على ذلك، لا يحيدون عنه، ولا يقدر أحد على الخروج منه. والآية لإثبات الصانع بأحوال المخلوقات.
قالَ: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى بعد أن أخبر موسى فرعون بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدر فهدى، شرع يحتج بالقرون الأولى، قائلا:
إذا كان الأمر كذلك، فما حال وما شأن الأمم الماضية، لم يعبدوا ربك، بل عبدوا غيره من الأوثان وغيرها من المخلوقات؟
فأجاب موسى:
قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى قال موسى:
إن كل أعمالهم محفوظة عند الله، مثبتة عنده في اللوح المحفوظ، يجازي بها، لا يخطئ في علم شيء من الأشياء، ولا ينسى ما علمه منها، فعلم الله محيط بكل
وقصد فرعون بالسؤال عن الأمم الماضية أن يصرف موسى عن البراهين القوية، فيتبين للناس صدقه، ويشغله بالتواريخ والحكايات، لكن موسى تنبه لهذا، فأجاب عن إثبات الإله بأوجز عبارة وأحسن معنى، وفوض أمر الماضي إلى علام الغيوب.
وبعد أن ذكر موسى الدليل الأول العام الذي يتناول جميع المخلوقات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النبات والجمادات، ذكر بعدئذ أدلة خاصة وهي ثلاثة:
أولها- قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي ربي الذي جعل الأرض ممهدة كالفراش، تعيشون فيها بيسر وسهولة، وقرارا تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها وتسافرون على ظهرها.
ثانيها- وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا أي جعل لكم فيها طرقا تسلكونها وسهلها لكم، كما قال تعالى: وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلًا، لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء ٢١/ ٣١]، وقال سبحانه: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً، وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف ٤٣/ ١٠]، وقال عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً، لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح ٧١/ ١٩- ٢٠].
ثالثها- وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً، فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى أي وأنزل من السحاب مطرا، أخرجنا به أنواعا من أصناف النبات المختلفة، من زروع وثمار حامضة وحلوة ومرة، وذات ألوان وروائح وأشكال مختلفة، بعضها صالح للإنسان، وبعضها للحيوان، لذا قال:
وبعد أن ذكر الله تعالى منافع الأرض والسماء، بين أنها غير مطلوبة لذاتها، بل هي وسائل إلى منافع الآخرة، فقال:
مِنْها خَلَقْناكُمْ، وَفِيها نُعِيدُكُمْ، وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى أي من الأرض مبدؤكم، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب، والنطفة المتولدة من الغذاء مرجعها إلى الأرض، لأن الغذاء الحيواني من النبات، والنبات من امتزاج الماء والتراب.
وإلى الأرض مصيركم بعد موتكم، فتدفنون فيها، وتتفرق أجزاؤكم حتى تصير من جنس الأرض ترابا.
وسوف نخرجكم من قبوركم في الأرض مرة أخرى بالبعث والنشور، والمعنى:
من الأرض أخرجناكم، ونخرجكم بعد الموت من الأرض تارة أخرى. والغرض من الآية هنا تنزيه الرب نفسه وتذكير فرعون بأصله وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر بدنياه وملكه، وليعلم أن أمامه يوما شديد الأهوال، يسأل فيه عن كل شيء، ويحاسب على أعماله.
ونظير هذه الآية قوله تعالى: فِيها تَحْيَوْنَ، وَفِيها تَمُوتُونَ، وَمِنْها تُخْرَجُونَ [الأعراف ٧/ ٢٥]، وقوله سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ، وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء ١٧/ ٥٢].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- لم يؤمن فرعون بدعوة موسى وهارون، وظل على كفره، وتساءل تكبرا وتجبرا وزورا وبهتانا، مع كونه عارفا بالله تعالى، وقال: فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟
٢- تدل الآية المذكورة على أنه يجوز حكاية كلام المبطل لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر، لكن يجب قرن الجواب بالسؤال، لئلا يبقى الشك.
٣- وتدل الآية أيضا على أن المحق يجب عليه استماع كلام المبطل، والجواب عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى بفرعون هنا، وكما أمر الله تعالى رسوله في قوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [النحل ١٦/ ١٢٥]، وقال سبحانه: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ، فَأَجِرْهُ، حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة ٩/ ٦].
٤- كان جواب موسى لفرعون: إن الله تعالى يعرف بصفاته، فهو خالق العالم، وهو الذي خص كل مخلوق بهيئة وصورة معينة. قال مجاهد: أعطى كل شيء صورة لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كل شيء فقدره تقديرا. وقال الشاعر:
وله في كل شيء خلقة... وكذاك الله ما شاء فعل
٥- الله هو المختص بعلم الغيب في الماضي والحاضر والمستقبل، فلما سأل فرعون عن حال وشأن الأمم الغابرة، أجابه موسى وأعلمه أن علمها عند الله تعالى، أي إن هذا من علم الغيب الذي سألت عنه، وهو مما استأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو، وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما أخبرني به علام الغيوب، وعلم أحوال القرون مكتوبة عند الله تعالى في اللوح المحفوظ.
٦- هذه الآية: قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ.. ونظائرها تدل على تدوين العلوم وكتبها لئلا تنسى، فإن الحفظ قد تعتريه الآفات من الغلط والنسيان. وقد لا يحفظ الإنسان ما يسمع، فيقيده لئلا يذهب عنه.
جاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه، فهو موضوع عنده: إن رحمتي تغلب غضبي».
وفي صحيح مسلم أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بكتب الخطبة التي خطب بها في الحج لأبي شاه- رجل من اليمن- لما سأله كتبها.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «قيدوا العلم بالكتابة».
وأسند الخطيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل من الأنصار لا يحفظ الحديث: «استعن بيمينك».
وأما النهي عن كتابة الأحاديث، فكان ذلك متقدما، فهو منسوخ بأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالكتابة، وإباحتها لأبي شاه وغيره.
قال أبو بكر الخطيب: ينبغي أن يكتب الحديث بالسواد، ثم الحبر خاصة، دون المداد «١» لأن السواد أصبغ الألوان، والحبر أبقاها على مر الدهور، وهو آلة ذوي العلم، وعدة أهل المعرفة.
٨- من نعم الله تعالى أن جعل الأرض رغم كرويتها الكلية ممهدة كالفراش، وقرارا للاستقرار عليها، لتصلح للعيش عليها.
٩- ظاهر آية وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ.. يدل على أنه سبحانه إنما يخرج النبات من الأرض بواسطة إنزال الماء، فيكون للماء فيه أثر، وهذا التأثير على تقدير أن الله تعالى هو الذي أعطى الماء هذه الخواص والطبائع، فيكون الماء المنزل سبب خروج النبات في الظاهر.
١٠- إن إخراج أصناف من النبات المختلفة الأنواع والألوان من الأرض دليل واضح على قدرة الله تعالى ووجود الصانع. وإن جعل بعض النبات صالحا للإنسان وآخر للحيوان: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ من أجل النعم على الإنسان، ومما يقتضي التأمل والتفكير عند ذوي العقول الصحيحة.
١١- ما أعظم خيرات الأرض، وما أحوج الناس إليها! فالله خلقنا منها، ويعيدنا إليها بعد الموت، ويخرجنا منها للبعث والحساب. أما كيفية الإخراج من الأرض فهو أن الله تعالى خلق أصلنا وهو آدم عليه السلام من التراب، فكنا تبعا له، وأما استمرار الخلق فهو أن تولد الإنسان من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدان من الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النبات، والنبات إنما يحدث من امتزاج الماء والتراب.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٩]
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦) قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩)
الإعراب:
مَكاناً سُوىً مَكاناً بدل منصوب من مَوْعِداً ولا يجوز نصبه بقوله مَوْعِداً لأن مَوْعِداً قد وصف بقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ والمصدر إذا وصف لا يعمل ويجوز أن يجعل مَكاناً منصوبا بنزع الخافض: في.
سوى: يقرأ بكسر السين وبضمها، فمن قرأ بالكسر، فلأن «فعل» لم يأت في الوصف إلا نادرا نحو: قوم عدى، ولحم زيم. والضم أكثر لأن «فعل» في الوصف كثير، نحو: لكع وحطم.
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ.. يَوْمُ: خبر مَوْعِدُكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي موعدكم وقت يوم الزينة، ولا يجوز أن يكون يَوْمُ ظرفا لأن العرب لم تستعمله مع الظرف استعمال سائر المصادر، ولهذا قال تعالى: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ [هود ١١/ ٨١] بالرفع إذ يراد به هنا المصدر، ولو قلت: إن خروجكم الصبح، لم يجز فيه إلا النصب، أي وقت الصبح.
وموعد مصدر بمعنى الوعد في الأظهر.
والموعد: يكون مصدرا وزمانا ومكانا بلفظ واحد، وَأَنْ يُحْشَرَ معطوف بالرفع على يَوْمُ الزِّينَةِ أي موعدكم وقت يوم الزينة، وموعدكم وقت حشر الناس، فحذف المضاف أيضا.
البلاغة:
سُوىً ضُحًى... سجع حسن.
أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها بصرنا فرعون آيات معهودة هي الآيات التسع المختصة بموسى.
فَكَذَّبَ بها وزعم أنها سحر. وَأَبى امتنع أن يوحد الله تعالى أو أبي الإيمان والطاعة، لعتوه. لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا مصر، ليصبح لك الملك فيها. بسحر مثله يعارضه.
مَوْعِداً ميعادا معينا لذلك. لا نُخْلِفُهُ لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه، إذا جعل (موعد) هنا هو الزمان، وإذا جعل مصدرا أي لا نخلف ذلك الموعد. سُوىً أي وسطا، تستوي إليه مسافة الجائي من الطرفين.
قالَ موسى. مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ يوم عيد كان لهم، يتزينون فيه ويجتمعون، ويوم: بضم الميم، وقرأ الحسن بالنصب، فمن رفع فعلى أنه خبر المبتدأ، والمعنى: وقت موعدكم يوم الزينة، ومن نصب فعلى الظرف، معناه: موعدكم يقع يوم الزينة. والسؤال وقع عن مكان الموعد، وطابقه من حيث المعنى ذكر الزمان، وإن لم يطابق لفظا لأنهم لا بد لهم من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان معين مشهود باجتماع الناس في ذلك اليوم، فبذكر الزمان علم المكان.
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ يجمعون. ضُحًى وقت ارتفاع شمس النهار.
المناسبة:
بعد سؤال فرعون عن رب موسى، ذكر الله تعالى أنه بصره بالآيات الدالة على توحيد الله، مثل رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى وقوله:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً والدالة على نبوة موسى مثل العصا واليد البيضاء، فكذب بكل هذا، واتهم موسى بالسحر، وطلب المبارزة مع السحرة، وتحديد مكان اللقاء وموعد الاجتماع.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى أي وتالله لقد بصرنا فرعون وعرفناه آياتنا الدالة على قدرتنا وتوحيدنا وعلى نبوة موسى، كالآيات التسع «١».
ثم ذكر الله تعالى شبهة فرعون وصفة تكذيبه، فقال:
قالَ: أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى أي قال فرعون لموسى مستنكرا معجزة العصا واليد: هل جئت يا موسى من أرض مدين لتخرجنا من أرضنا مصر بما أظهرته من السحر، وهو قلب العصا حية؟ توهم الناس بأنك نبي يجب عليهم اتباعك، حتى تتوصل بذلك إلى أن تغلب على أرضنا وتخرجنا منها. وإنما ذكر فرعون الإخراج من الأرض لتنفير قومه عن إجابة موسى، وحملهم على السخط على موسى والغضب منه، والعمل على طرده وإخراجه من مصر.
فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ أي لنعارضنك بمثل ما جئت به من السحر، فإن عندنا سحرا مثل سحرك، فلا يغرنك ما أنت فيه.
فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً أي حدد لنا يوما معلوما ومكانا معلوما، نجتمع فيه نحن وأنت، فنعارض ما جئت به بما عندنا من السحر، لا نخلف ذلك الوعد من قبل كل منا. وقد فوض فرعون تعيين الموعد إلى موسى إظهارا لكمال اقتداره.
وليكن المكان مكانا مستويا ظاهرا لا ارتفاع فيه ولا انخفاض، ليظهر فيه الحق، أو مكانا وسطا بين الفريقين، حتى لا يكون عذر في التخلف.
قالَ: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي قال موسى
واختيار هذا الوعد دليل على الثقة بالنصر، وسبيل لإيضاح الحجة.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- لم يبق عذر لفرعون في كفره، بعد إرسال موسى وهارون رسولين إليه، وتأييدهما بالمعجزات الدالة على نبوة موسى، وإبدائهما البراهين والدلائل والحجج على وحدانية الله وقدرته، وهذا يدل على أنه كفر عنادا لأنه رأى الآيات عيانا لا خبرا، واقتنع بها في أعماق نفسه، كما قال سبحانه: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل ٢٧/ ١٤].
٢- حاول فرعون تأليب قومه وتحريضهم على معاداة موسى وطرده، باتهامه بأنه بحسب عقلية الحاكم يريد إخراج الناس من مصر، والاستيلاء على السلطة.
٣- وحاول أيضا إبطال المعجزات النبوية بالسحر، ظنا منه أن ما جاء به موسى من الآيات سحر يوهم الناس به لاتباعه والإيمان به، فإذا عورض السحر بمثله، تبين للناس أن ما أتى به موسى ليس من عند الله.
٤- طلب فرعون من موسى تعيين يوم معلوم ومكان معروف لا يخلف فيه أحد الطرفين الوعد، إيهاما للناس بمدى الثقة به، وبكمال اقتداره، وإنهاء دعاوى موسى في يوم مشهود للجميع.
٥- اختار موسى يوم العيد (يوم الزينة) لتعلو كلمة الله، ويظهر دينه، ويكبت الكفر، ويزهق الباطل، أمام الناس قاطبة في المجمع العام، ليشيع الخبر، ويتناقل جميع أهل المدن والقرى والحضر والأعراب قصة الأمر العجيب، ونبأ المعجزة الكبرى. ثم عين موسى عليه السلام من اليوم وقتا معينا بقوله:
وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى أي في ضحوة الناس بعد طلوع الشمس، حيث تكون الرؤية واضحة، والنفوس مستعدة نشيطة، ولأنه أول النهار، فلو امتد الأمر فيما بينهم كان في النهار متسع. وكان ذلك بالصدفة مناسبا للسحرة، لتسخين الحبال والأدوات المعبأة بالزئبق.
- ٨- جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٠ الى ٦٤]
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤)
الإعراب:
إِنْ هذانِ لَساحِرانِ إِنْ إما مخففة من الثقيلة لم تعمل، وإما بمعنى «ما» واللام بمعنى «إلا» أي ما هذان إلا ساحران. وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين. ومن قرأ بالتشديد
وقيل: إن بمعنى «نعم» أي نعم هذان لساحران، لكن فيه ضعف، لدخول اللام في الخبر، وهو قليل في كلامهم. وقرئ «إن هذين لساحران».
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ قرئ: أجمعوا بقطع الهمزة ووصلها، ففي قراءة القطع نصب كَيْدَكُمْ ب فَأَجْمِعُوا على تقدير حذف حرف الجر، أي فأجمعوا على كيدكم. فحذف حرف الجر، فاتصل الفعل به فنصبه، يقال: أجمع على كذا: إذا عزم عليه، فحذف الجار من الآية، كما في آية: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة ٢/ ٢٣٥] أي على عقدة النكاح.
وعلى قراءة فاجمعوا بوصلها، لم يفتقر إلى تقدير حذف حرف الجر لأنه يتعدى بنفسه.
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصدر في موضع الحال، أي ائتوا مصطفين، أو مفعول به، أي ائتوا إلى صف، والأول أوجه.
المفردات اللغوية:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ أدبر وانصرف عن المجلس. فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي جمع ذوي كيده من السحرة، والكيد: ما يكاد به من السحرة وأدواتهم. ثُمَّ أَتى أي أتى بالموعد بهم. قالَ لَهُمْ مُوسى وهم اثنان وسبعون مع كل واحد حبل وعصا. وَيْلَكُمْ أي هلاك لكم. لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا، وتشركوا أحدا مع الله. والافتراء: الاختلاق والكذب.
فَيُسْحِتَكُمْ يهلككم. بِعَذابٍ شديد من عنده. وَقَدْ خابَ خسر. مَنِ افْتَرى كذب على الله، كما خاب فرعون، فإنه افترى واحتال ليبقى الملك معه، فلم ينفعه.
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ فتفاوض السحرة وتشاوروا في أمر موسى، حين سمعوا كلامه.
وَأَسَرُّوا النَّجْوى بالغوا في إخفاء الكلام بينهم. قالُوا لأنفسهم. وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى المثلى: مؤنث أمثل بمعنى أشرف، أي يذهبا بمذهبكم الذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبه وإعلاء دينه، لقوله تعالى حكاية لقول فرعون: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ [غافر ٤٠/ ٢٦].
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ بهمزة القطع من أجمع أي أحكموا كيدكم الذي يكاد به، وبهمزة الوصل من جمع، أي لم ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا أي مصطفين لأنه أهيب في صدور الرائين. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى فاز اليوم من غلب.
بعد اتفاق موسى وفرعون على موعد المبارزة وهو يوم عيد لهم، ذكر الله تعالى ما قام به فرعون من تدبير أمره بجمع السحرة وآلاتهم، ثم ذكر ما حذرهم به موسى من عذاب شديد إن أقدموا على إبطال آيات الله، فأوقع الخلاف بينهم، وعقدوا المشاورات في خطتهم، فاتفقوا على وحدة الصف أمام موسى وهارون اللذين يريدان الغلبة والتفوق على دينهم الذي هو في زعمهم أفضل الأديان.
التفسير والبيان:
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ، فَجَمَعَ كَيْدَهُ، ثُمَّ أَتى أي انصرف فرعون وشرع في جمع السحرة من مدائن مملكته، فجمع ما يكيد به من سحره وحيله وآلاته وأنصاره، وقد كان السحر شائعا عندهم، ثم أقبل في الموعد المعين، وجلس في مكان خاص به مع كبار أعوانه، كجناح العروض العسكرية المخصص اليوم لرئيس الدولة، وجاء موسى مع أخيه هارون، وجاءت السحرة ووقفوا صفوفا، وبدأ فرعون يحرضهم ويستحثهم ويعدهم، فتجرءوا أن يطلبوا منه الأجر، كما قال تعالى:
قالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ، قالَ: نَعَمْ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء ٢٦/ ٤٢] وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبي ليتفانوا في إجادة عملهم، ويتغلبوا على موسى عليه السلام.
وشرع موسى في الإعلان عن رسالته، فقال:
قالَ لَهُمْ مُوسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى أي قال موسى لفرعون والسحرة: الهلاك والعذاب لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، بأن تزعموا أن الذي جئت به ليس بحق، وأنه سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك من افترى على الله أي كذب كان.
فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى أي لما سمع السحرة كلام موسى تناظروا وتشاوروا وتفاوضوا فيما بينهم في ذلك، وتناجوا فيما بينهم سرا عن موسى وأخيه، وقرروا ما يأتي:
قالُوا: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما، وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى أي قالت السحرة: إن موسى وهرون لساحران يريدان إخراجكم أيها المصريون من أرضكم مصر بصناعة السحر، كما يريدان التغلب للاستيلاء على جميع المناصب، ولتكون لهما الرياسة في كل شيء، ومآل ذلك أن تنقضي سنتكم في الحياة، ويعصف بمنهجكم في العيش الحر العزيز الكريم، وتسلب خيراتكم، ويزول مذهبكم الأمثل الحسن.
قالوا ذلك متأثرين بما قاله فرعون، ومرددين ما يشيعه، مستخدمين أساليب ثلاثة للتنفير منهما، وهي تكذيب نبوتهما ووصفهما بالسحرة، والكشف عن نواياهما البعيدة بطرد السكان الأصليين من أرضهم مصر، والاستيلاء على جميع المناصب والرياسات.
فيجب علينا الوقوف صفا واحدا أمام هذا الخطر، فقالوا:
فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ، ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا، وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاعزموا على تقديم جميع خبراتكم ومهاراتكم، ولا تتركوا أقصى ما تستطيعون عليه من الكيد والحيلة، وقفوا صفا واحدا، وألقوا ما لديكم دفعة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتعظم هيبتكم، وتغلبوا هذين الرجلين، فإنه قد فاز اليوم بالمطلوب من غلب منا ومنهما.
وهذا كله من قول السحرة بعضهم لبعض، بقصد التحريض وشد العزائم، لبذل أقصى الجهود للفوز بالمطلوب.
دلت الآيات على ما يأتي:
١- بدأت استعدادات فرعون في جمع السحرة، وإعداد الحيل كما هي عادة التهيؤ للمبارزة، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا، مع كل ساحر منهم حبال وعصي.
٢- لما أتى فرعون وسحرته في الموعد المعين قال موسى لفرعون والسحرة:
الهلاك والعذاب لمن اختلق الكذب على الله، وأشرك به، ووصف المعجزات بأنها سحر، فيستأصلكم الله بعذاب شديد من عنده، وقد خسر وهلك، وخاب من الرحمة والثواب من ادعى على الله ما لم يأذن به. وهذا شعار الأنبياء، وهو الصدق في الدعوة، وانتهاز الفرص المناسبة لإعلان دعوتهم.
٣- تشاور السحرة سرا فيما بينهم، وقالوا: إن كان ما جاء به سحرا، فسنغلبه، وإن كان من عند الله فسيكون له أمر. وهذا حق وصدق لا شيء فيه.
٤- ثم أعلنوا قرارهم بأن موسى وأخاه هارون ساحران عظيمان، يريدان إخراج الناس من مصر بسحرهما، وإفساد دينهم، وإزالة مذهبهم الحسن، كما قال فرعون عن موسى: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ، أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ [غافر ٤٠/ ٢٦]. وهذا كله من دعاية فرعون وتحريضه.
٥- ثم حرضوا بعضهم قائلين: اعزموا وجدوا في تجميع أنواع الكيد والحيلة، وأقصى فنون السحر، وأحكموا أمركم، وقفوا صفا واحدا، ليكون أشد لهيبتكم، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة، لتبهروا الأبصار، وتغلبوا موسى وأخاه، وقد فاز اليوم من غلب. وهذا شأن كل من الفريقين المتبارزين، يحرص كل منهما على الفوز والانتصار، ويتأثران بالتأييد الشعبي وبحماس المتفرجين واللاعبين أنفسهم، كما هو معروف.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٦٥ الى ٧٦]
قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (٦٧) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (٦٨) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (٦٩)
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (٧٠) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (٧١) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (٧٤)
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (٧٦)
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى مُوسى فاعل أوجس، وهاء نَفْسِهِ تعود إلى موسى لأنه في تقدير التقديم، ونَفْسِهِ في تقدير التأخير. وخِيفَةً مفعول أوجس.
وأصل خيفة «خوفة» لأنها من الخوف، فانقلبت الواو ياء لسكونها، وانكسار ما قبلها.
تَلْقَفْ التاء إما لتأنيث ما وهي العصا، حملا على المعنى، كأنه قال: ألق العصا تلقف ما صنعوا، وإما أن تكون التاء للمخاطب، أي تلقف أنت. وهو مجزوم بجواب الأمر، بتقدير حذف حرف الشرط. ومن قرأ بالرفع، كان حالا من ما أو من ضمير فِي يَمِينِكَ. وما في قوله إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ إما اسم موصول بمعنى الذي اسم إن، والعائد محذوف، أي إن الذي صنعوه، وكَيْدُ خبر إن، وإما أن تكون ما كافة، وكَيْدُ عند من قرأ بالنصب منصوب ب صَنَعُوا. ومن قرأ كيد سحر أي كيد ذي سحر، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
«من خلاف» حال.
وَالَّذِي فَطَرَنا: إما مجرور بالعطف على ما جاءَنا أي «على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا» وإما مجرور بالقسم، وجوابه محذوف، لدلالة ما تقدم عليه.
وما في إِنَّما تَقْضِي إما بمعنى الذي في موضع نصب اسم «إن» والعائد محذوف، أي: إن الذي تقضيه. وهذه: خبر «إن». وإما أن تكون «ما» كافة، وهذه: في موضع نصب على الظرف، أي إنما تقضي في هذه الحياة الدنيا. والحياة الدنيا صفة هذِهِ في كلا الوجهين.
وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ ما إما في موضع نصب بالعطف على خَطايانا وإما مبتدأ مرفوع، وخبره محذوف، تقديره: ما أكرهتنا عليه مغفور لنا. ومِنَ السِّحْرِ متعلق ب أَكْرَهْتَنا.
فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جَنَّاتُ.. الدَّرَجاتُ مرفوع بالظرف لأنه جرى خبرا عن المبتدأ، وهو أولئك، وجَنَّاتُ بدل مرفوع من الدَّرَجاتُ أي أولئك لهم جنات عدن. وخالِدِينَ حال من الهاء والميم في لَهُمُ والعامل فيه: اللام، أي الاستقرار، أو معنى الإشارة.
البلاغة:
بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ فيه إيجاز بالحذف، أي فألقوا فإذا حبالهم. وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ ثم قال: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً فيه إيجاز بالحذف، وهو: فألقى موسى عصاه، فتلقفت ما صنعوا من السحر، فألقي السحرة سجدا. وحسن الحذف في الموضعين لدلالة المعنى عليه.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ووَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بينهما مقابلة: وهي أن يؤتى بمعينين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك.
إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى فيه مؤكدات هي: إن، وأنت، وتعريف الخبر: الْأَعْلى ولفظ العلو الدال على الغلبة، وصيغة التفضيل الْأَعْلى.
المفردات اللغوية:
إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى قال السحرة ذلك مراعاة للأدب، وخيروه بين أن يلقي عصاه أو يلقوا عصيهم. وأن وما بعده: منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع بخبر محذوف، أي اختر إلقاءك أولا أو إلقاؤنا، أو الأمر إلقاؤك، أو إلقاؤنا. قالَ: بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب، وعدم مبالاة بسحرهم، وليستنفدوا أقصى وسعهم، ثم يظهر الله سلطانه، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ.. أي فألقوا، وكلمة فَإِذا التحقيق أنها ظرفية متعلقة بفعل المفاجأة، والجملة ابتدائية، والمعنى: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخيل سعي حبالهم وعصيهم من سحرهم، وذلك بأنهم لطخوها بالزئبق، فلما ضربت عليها الشمس، اضطربت، فخيل إليه أنها تتحرك. وأَنَّها تَسْعى بدل اشتمال، أي أنها حيات تسعى على بطونها.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً أحس بشيء من الخوف، من جهة أن سحرهم من جنس معجزته، أن يلتبس أمره على الناس، فلا يؤمنوا به.
قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى قلنا له: لا تخف ما توهمت فإنك أنت الأعلى عليهم بالغلبة، وهذا الأخير تعليل للنهي وتقرير لغلبته، مؤكدا بالاستئناف وحرف التحقيق: «إن» وتكرير الضمير وتعريف الخبر ولفظ العلو الدال على الغلبة الظاهرة وصيغة التفضيل.
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ وهي العصا، ولم يقل: عصاك، تحقيرا لها، أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، أو تعظيما لها، أي لا تحتفل بكثرة هذه الأشياء وعظمها، فإن في يمينك ما هو أعظم منها أثرا، فألقه. تَلْقَفْ تبتلع بقوة وسرعة وبقدرة الله تعالى، والخطاب على إسناد الفعل إلى السبب إِنَّما صَنَعُوا إن الذي زوروا وافتعلوا كَيْدُ ساحِرٍ أي كيد سحري لا حقيقة له، أي ذي سحر، أو إضافة قصد بها البيان مثل: علم فقه. وإنما وحد الساحر لأن المراد به الجنس المطلق. وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس. حَيْثُ أَتى بسحره، أي أينما كان، وأينما أقبل.
ومن: ابتدائية. وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها، شبه تمكن المصلوب بالجذوع بتمكن المظروف بالظرف، وهو أول من صلب. وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه ورب موسى لقوله:
آمَنْتُمْ لَهُ. أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أدوم عذابا. وهل نفذ فيهم تهديده؟
الآيات لم تذكر ذلك، لكن ذكر المفسرون أنه أنفذ فيهم وعيده، فقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم، فماتوا على الإيمان، فقال ابن عباس: كانوا في أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة.
قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ قال السحرة: لن نختارك. عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ على ما جاءنا موسى به من المعجزات الواضحات الدالة على صدقه. وَالَّذِي فَطَرَنا خلقنا وأوجدنا من العدم. وهذا عطف على ما جاءنا، أو قسم فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ اصنع ما أنت قاضيه، أي صانعه، أو ما قلته أو احكم. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي إنما تصنع ما تهواه أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا، فالنصب على الاتساع، أي فيها، ثم تجزى عليه في الآخرة، والآخرة خير وأبقى، فهو كالتعليل لما قبله، والتمهيد لما بعده.
لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر والمعاصي. وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ تعلما وعملا في معارضة موسى والمعجزة. وَاللَّهُ خَيْرٌ منك ثوابا إذا أطيع. وَأَبْقى منك عذابا إذا عصي.
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً إن الأمر من يأت ربه كافرا، بأن يموت على كفره وعصيانه.
لا يَمُوتُ فِيها فيستريح. وَلا يَحْيى حياة هنيئة فتنفعه. قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ الفرائض والنوافل. لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى المنازل الرفيعة، جمع عليا مؤنث أعلى.
جَنَّاتُ عَدْنٍ أي جنات أعدت للإقامة. مِنْ تَحْتِهَا من تحت غرفها. جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهر من الذنوب والكفر.
قال البيضاوي: والآيات الثلاث- أي الأخيرة- يحتمل أن تكون من كلام السحرة، وأن تكون ابتداء كلام الله.
بعد ذكر الموعد وهو يوم الزينة وذكر مجيئهم صفا، حدثت المبارزة بين السحرة وموسى، فخيروه بين بدئه بالإلقاء، وبدئهم به، وكان ذلك أدبا منهم وتواضعا، رزقوا الإيمان ببركته، فقابلهم موسى أدبا بأدب، وقدمهم في الإلقاء لأنه الطريق إلى إزالة الشبهة، فما كان منهم إلا الإيمان، لمعرفتهم بأن فعل موسى معجزة وليس سحرا، وصمدوا على إيمانهم هازئين بتهديد فرعون بالتقطيع والصلب.
التفسير والبيان:
لما بدأت المبارزة، والتقى الفريقان، قالت السحرة لموسى:
قالُوا: يا مُوسى، إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ، وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى أي قالت السحرة لموسى حين تقابلوا معه: اختر أحد الأمرين: إما أن تلقي أنت أولا ما تريد، وإما أن نلقي نحن ما معنا من العصي والحبال على الأرض.
وهذا التخيير مع تقديمه في الكلام أدب حسن وتواضع له، ألهمهم الله به، ورزقوا الإيمان ببركته، فقابل موسى عليه السلام أدبهم بأدب، فقال:
قالَ: بَلْ أَلْقُوا قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولا، لنرى سحركم وتظهر حقيقة أمركم، ولتكون معجزته أظهر إذا ألقوهم ما معهم، ثم إذا ألقى عصاه فتبتلع ما ألقوه كله، وليظهر عدم المبالاة بسحرهم.
فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أي فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فتوهم موسى ومن رآهم من الناس أنها تتحرك بسرعة كالأفاعي. ففي بدء الكلام حذف، أي فألقوا، وقوله: فَإِذا في رأي الزمخشري أنها إذا المفاجأة، وتعقبه الرازي فقال: والتحقيق فيها أنها إذا الكائنة بمعنى الوقت الطالبة ناصبا لها وجملة تضاف إليها.
وذلك أنهم حشوها بالزئبق الذي يتأثر بحرارة الشمس، أو بمادة أخرى تتأثر بالحرارة، فيخيل للناظر أنها تسعى باختيارها، وكأن الوادي امتلأ حيات يركب بعضها بعضا.
فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى أي أحس موسى بالخوف من أن يغلب، تأثرا بالطبيعة البشرية. وابتهج فرعون وقومه، وظنوا أنهم قد نجحوا، وأن السحرة فازوا على موسى وهارون.
قُلْنا: لا تَخَفْ، إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي قال الله لموسى: لا تخف، فإنك أنت المستعلي عليهم بالظفر والغلبة.
وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا، إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ، وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى أي وألق يا موسى العصا التي في يمينك، تبتلع بعد أن تصير حية جميع ما صنعوه من الحبال والعصي، وسحروا بها أعين الناس، إن الذي صنعوه ليس إلا سحرا خيالا لا حقيقة له ولا بقاء، ولا يفوز الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، وأنه لا يحصل مقصوده بالسحر، خيرا كان أو شرا. وإنما أبهم العصا تهويلا لأمرها، وأنها ليست من جنس العصي المعروفة.
فقامت المعجزة، واتضح البرهان، وظهر الحق، وبطل السحر، ودهش الناس الذين ينظرون، وأدرك السحرة أن السحر لا يفعل هذا أبدا، وأن هذا خارج عن طاقة البشر، وأنه من فعل الإله خالق الكون، فآمنوا كما قال تعالى:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً، قالُوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى أي فلما ألقى
الله أكبر! ففعل الله أعجب وأدهش، والإيمان البسيط سبب للمجد العظيم، والفضل الكبير، والنعم الخالدة في جنان الله. وليس المراد بقوله:
فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً أنهم أجبروا على السجود، وإلا لما كانوا محمودين، بل إنهم من سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا، قال صاحب الكشاف: ما أعجب أمرهم، قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!! وإنما قالوا: آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى ولم يقولوا برب العالمين فقط لأن فرعون ادعى الربوبية في قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات ٧٩/ ٢٤] وادعى الألوهية في قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص ٢٨/ ٣٨] فلو أنهم قالوا: آمنا برب العالمين فحسب، لقال فرعون إنهم آمنوا بي، لا بغيري، فاختاروا هذه العبارة لإبطال قوله، والدليل عليه: أنهم قدموا ذكر هارون على موسى لأن فرعون كان يدعي ربوبيته لموسى لأنه رباه في صغره كما حكى تعالى عنه: أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء ٢٦/ ١٨].
ثم إن فرعون لما شاهد السجود والإقرار بالله تعالى، خاف متابعة الناس لهم واقتداءهم بهم في الإيمان بالله وبرسوله، فألقى شبهة أخرى في النبي ونبوته، فقال:
أراد فرعون بهذا القول أن يدخل الشبهة على الناس، حتى لا يؤمنوا، وإلا فإنه قد علم أنهم لم يتعلموا من موسى، ولا كان رئيسا لهم، ولا بينه وبينهم صلة أو مواصلة.
ثم لجأ فرعون إلى التهديد والتنفير عن الإيمان قائلا:
فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ، وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ، وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى أي أقسم أني لأمثلن بكم، فأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، أي بقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى أو عكسه. قال ابن عباس: فكان أول من فعل ذلك، وهذا تعطيل للمنفعة، وأيضا لأصلبنكم على جذوع النخل، زيادة في الإيلام والتشهير، وإنما اختارها لخشونتها وأذاها، ولتعلمن هل أنا أشد عذابا لكم أو رب موسى؟
وفي هذا تحد لقدرة الله، وتحقير لشأن موسى، وإيماء إلى ماله من سلطة وقهر واقتدار.
ولما صال عليهم بذلك وتوعدهم، هانت عليهم أنفسهم في الله عز وجل:
- قالُوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا أي لن
- فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ، إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي فافعل ما شئت، واصنع ما أنت صانع، إنما لك تسلط ونفوذ علينا في هذه الدنيا التي هي دار الزوال، بما تريد من أنواع القتل، ولا سبيل لك علينا فيما بعدها، ونحن قد رغبنا في دار القرار.
- إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا، وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ، وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى أي إننا صدقنا بالله ربنا المحسن إلينا، ليتجاوز ويستر ويعفو عن سيئاتنا وآثامنا وذنوبنا، خصوصا ما أجبرتنا عليه من عمل السحر، لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه، والله خير لنا منك جزاء وأدوم ثوابا، مما كنت وعدتنا، وأبقى منك عقابا.
ذكر أن رؤساء السحرة كانوا اثنين وسبعين، اثنان من القبط، والباقي من بني إسرائيل، فقالوا لفرعون: أرنا موسى نائما، فرأوه فوجدوه تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بساحر، الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه.
ولم تدل الآيات على تنفيذ فرعون ما هدد به السحرة، ولكن الظاهر أنه نفذ ذلك، لقول ابن عباس المتقدم: أصبحوا سحرة، وأمسوا شهداء بررة.
وتابع السحرة وعظ فرعون، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم، ويرغبونه في ثوابه الأبدي الخالد، فقالوا:
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً، فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ، لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى أي إن من يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم، فعذابه في جهنم، لا يموت فيها ميتة
ونظير الآية قوله تعالى: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا، وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها، كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر ٣٥/ ٣٦] وقوله سبحانه: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى، ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى [الأعلى ٨٧/ ١١- ١٣] وقوله عز وجل: وَنادَوْا يا مالِكُ، لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ، قالَ: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف ٤٣/ ٧٧].
وأخرج أحمد ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطب، فأتى على هذه الآية، فقال: «أما أهلها الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، وأما الذين ليسوا بأهلها، فإن النار تميتهم إماتة، ثم يقوم الشفعاء فيشفعون، فيؤتى بهم ضبائر «١» على نهر، يقال له: نهر الحياة أو الحيوان، فينبتون كما ينبت الغثاء في حميل السيل».
وفي الخبر الصحيح: «يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان».
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ، فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى أي ومن يلقى ربه يوم المعاد مؤمن القلب، قد صدق ضميره بقوله وعمله، فعمل الطاعات، فأولئك لهم بإيمانهم وعملهم الصالح الجنة ذات الدرجات والمنازل العالية الرفيعة، والغرف الآمنة، والمساكن الطيبة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة، ومنها تخرج الأنهار الأربعة، والعرش فوقها، فإذا سألتم الله تعالى، فاسألوه الفردوس».
وفي السنن: «وإن أبا بكر وعمر لمنهم وأنعما».
جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي تلك الدرجات العلى في جنات إقامة تجري من تحت غرفها الأنهار، ماكثين فيها أبدا، وذلك الفوز الذي أحرزوه جزاء من طهر نفسه من دنس الكفر والمعاصي الموجبة للنار، واتبع المرسلين فيما جاؤوا به من عند الله العلي القدير.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- الأدب الحسن يفيد في الدنيا والآخرة، فلما خير السحرة موسى بين أن يلقي أولا أو يلقوهم، أفادهم ذلك في التوفيق للإيمان. ولما قدمهم موسى في الإلقاء وهم الجمع الكثير، نصره ربه، فالتقمت عصاه التي تحولت حية جميع ما ألقوه من الحبال والعصي، وكان ظهور المعجزة أوقع وأتم وأوضح.
وليس أمر موسى بالإلقاء رضى منه بما هو سحر وكفر إذ لا يقصد منه ظاهر الأمر فلا يكون نفس الإلقاء كفرا ومعصية، وإنما هو وسيلة لما بعده، ليظهر الفرق بين ذلك الإلقاء وبين معجزة الرسول موسى عليه السلام، ولأن الأمر مشروط بتقدير محذوف هو: ألقوا ما أنتم ملقون إن كنتم محقين. ثم إنه قدمهم في الإلقاء على نفسه، مع أن تقديم إيراد الشبهة على إيراد الحجة غير جائز ليكون إظهار المعجزة سببا لإزالة الشبهة.
٣- أزال الله الخوف عن قلب موسى بقوله له: لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى أي الغالب لهم في الدنيا، وأنت في الدرجات العلى في الجنة، للنبوة والاصطفاء الذي آتاك الله به. وبقوله أيضا: وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا أي لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم، وألق العصا التي بيمينك، فإنها بقدرة الله تلتهم كل ما ألقوا، وهي أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فإنها تبتلع بإذن الله ما معهم وتمحقه.
٤- اختلف الرواة في عدد السحرة، والظاهر كما نقل عن ابن عباس وغيره كالكلبي: أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا، اثنان منهم من القبط، وسبعون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على ذلك. هذا مع العلم بأن ظاهر القرآن لا يدل على شيء من العدد، والمهم أنه لا يفوز ولا ينجو الساحر حيث أتى من الأرض، أو حيث احتال، ولا يحصل مقصوده بالسحر خيرا كان أو شرا، وذلك يقتضي نفي السحر بالكلية.
٥- خر السحرة ساجدين لله، لما رأوا من عظيم الأمر وخرق العادة في العصا فإنها ابتلعت جميع ما احتالوا به من الحبال والعصي، وكانت حمل ثلاث مائة بعير، ثم عادت عصا، لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي إلا الله تعالى «١».
وفي قوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً دلالة على أنه ألقى العصا، وصارت حية، وتلقفت ما صنعوه، وفي التلقف دلالة على أن جميع ما ألقوه تلقفته،
أحدها- ظهور حركة العصا على وجه لا يمكن بالحيلة.
وثانيها- زيادة عظمها على وجه لا يتم بالحيلة.
وثالثها- ظهور الأعضاء عليها من العين والمنخرين والفم وغيرها، ولا يتم ذلك بالحيلة.
ورابعها- تلقف جميع ما ألقوه على كثرته، وذلك لا يتم بالحيلة.
وخامسها- عودها خشبة صغيرة كما كانت، ولا يتم شيء من ذلك بالحيلة «١».
٦- قوله: إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ فيه دلالة على أن ما مع موسى معجزة إلهية، والذي معهم تمويهات باطلة.
٧- آمن السحرة بما رأوه من المعجزة، وعرفوا أن رب موسى وهارون هو الرب الحقيقي المستحق للعبادة، وكان إيمانهم أرسخ من الجبال، فهان عليهم عذاب الدنيا، ولم يأبهوا بتهديد فرعون.
٨- لم يملك فرعون إلا أن يعلن بأن موسى كبير السحرة ورئيسهم في التعليم، وأنه إنما غلبهم لأنه أحذق منهم ليشبه على الناس، حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإيمانهم، وإلا فقد علم فرعون أنهم لم يتعلموا من موسى، بل قد علموا السحر قبل قدوم موسى وولادته.
٩- ولجأ أخيرا إلى التهديد بالتقطيع للأيدي والأرجل من خلاف، لتعطيل المنفعة، وضم إليه التصليب للإذلال والإهانة، وزاد في غيه وكفره وعناده أنه أشد عذابا وأدوم أثرا من عذاب رب موسى. وهذا إفك شديد.
إننا صدقنا بالله وحده لا شريك له وما جاءنا به موسى ليغفر الله لنا خطايانا، أي الشرك الذي كانوا عليه، ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وثواب الله خير وأبقى.
قال عكرمة وغيره: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم من الجنة فلهذا قالوا: لَنْ نُؤْثِرَكَ.
وكانت امرأة فرعون تسأل من غلب؟ فقيل لها: غلب موسى وهارون فقالت: آمنت برب موسى وهارون. فأرسل إليها فرعون فقال: انظروا أعظم صخرة، فإن مضت على قولها فألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء، فأبصرت منزلها في الجنة، فمضت على قولها فانتزعت روحها، وألقيت الصخرة على جسدها، وليس في جسدها روح.
١١- استمر السحرة في وعظ فرعون وغيره وتحذيره من عذاب الآخرة وترغيبه في العمل للجنة، فقالوا: إن المجرم يدخل النار، والمؤمن يدخل الجنة، والمجرم: هو الكافر بدليل مقابلته بالمؤمن في الآية التالية: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً.. وصفة الكافر المكذب الجاحد أنه في جهنم لا يموت فيها ولا يحيا. وإذا كان هذا كلام السحرة، فلعلهم سمعوه من موسى أو من بني إسرائيل، إذ كان فيهم بمصر أقوام، وكان فيهم أيضا المؤمن من آل فرعون. ويحتمل أن يكون ذلك إلهاما من الله لهم، أنطقهم بذلك لما آمنوا.
وقد استدل المعتزلة بهذه الآية على وعيد أصحاب الكبائر، وقالوا: صاحب الكبيرة مجرم، وكل مجرم فإن له جهنم لقوله: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً ومن
وأما من يموت على الإيمان، ويلقى ربه مصدقا به وبرسله وبالبعث، ويعمل الصالحات، أي الطاعات وما أمر به وما نهي عنه، فله الدرجة الرفيعة التي عجز الوصف عن إدراكها والإحاطة بها. والدرجات العلى هي جنان الخلد والإقامة التي تجري من تحت غرفها وسررها الأنهار من الخمر والعسل واللبن والماء، ماكثين دائمين، وذلك جزاء من تطهر من الكفر والمعاصي.
- ١٠- إغراق فرعون وجنوده في البحر ونعم الله على بني إسرائيل
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٧٧ الى ٨٢]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (٧٩) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (٨١)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (٨٢)
الإعراب:
طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً يَبَساً صفة طَرِيقاً وهو مصدر، فهو إما أن يكون بمعنى: ذا يبس، فحذف المضاف، أو جعل الطريق اليبس نفسه.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، والمفعول الثاني محذوف، أي فأتبعهم فرعون عقوبته بجنوده، أي معه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي من ماء اليم، وما غَشِيَهُمْ: في موضع رفع فاعل، وكان حق الكلام: فغشيهم من ماء اليم شدته. فعدل إلى لفظه ما لما فيها من الإبهام، تهويلا للأمر، وتعظيما للشأن لأنه أبلغ من التعيين، فيكون أبلغ تخويفا وتهديدا.
وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ جانِبَ الطُّورِ مفعول ثان لواعدناكم، والتقدير:
واعدناكم إتيان جانب الطور الأيمن، ثم حذف المضاف. والْأَيْمَنَ صفة جانب.
وَعَمِلَ صالِحاً صفة لموصوف محذوف، أي: وعمل عملا صالحا، فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
البلاغة:
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ تهويل.
وَأَضَلَّ وَما هَدى طباق بينهما.
فَقَدْ هَوى استعارة، استعار لفظ الهوي: وهو السقوط من علو إلى سفل للهلاك والدمار.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ صيغة مبالغة، أي كثير المغفرة للذنوب.
المفردات اللغوية:
أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي ليلا من مصر، والسري والإسراء: السير ليلا فَاضْرِبْ لَهُمْ اجعل لهم بعصاك يَبَساً أي طريقا يابسا، لا ماء فيه، فامتثل ما أمر به، وأيبس الله الأرض في قاع البحر، فمروا فيها لا تَخافُ دَرَكاً أو دركا، أي إدراكا ولحوقا وَلا تَخْشى ولا تخاف غرقا فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ حذف المفعول الثاني، أي فأتبعهم فرعون نفسه ومعه جنوده.
فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ فغمرهم وعلاهم من ماء البحر ما علاهم، فأغرقهم، والضمير: له ولهم. وفيه مبالغة وتهويل وإيجاز، أي غشيهم ما سمعت قصته ولا يعرف كنهه إلا الله وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ أي أضلهم في الدين وما هداهم بدعوتهم إلى عبادته، وإيقاعهم في الهلاك، خلافا
أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون بإغراقه الْأَيْمَنَ أي عن يمين من يأتي من الشام إلى مصر، لإنزال التوراة، للعمل بها، وقرئ الأيمن بالجر على الجوار الْمَنَّ نوع من الحلوى يسمى الترنجبين وَالسَّلْوى طائر هو السماني، وكلاهما في التيه كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه أو حلالاته مما أنعمنا به عليكم وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بأن تكفروا النعمة به، وتخلوا بشكره، وتتعدوا لما حد الله لكم فيه، كالسرف والبطر والمنع عن المستحق فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي بكسر الحاء: أي فيجب ويلزمكم عذابي، وبضمها: أي ينزل وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ بكسر الحاء وضمها فَقَدْ هَوى سقط من النار وهلك.
لَغَفَّارٌ كثير المغفرة وستر الذنوب لِمَنْ تابَ من الشرك وَآمَنَ وحد الله وآمن بما يجب الإيمان به وَعَمِلَ صالِحاً عمل الفرائض والنوافل ثُمَّ اهْتَدى ثم استقام على الهدى المذكور إلى موته.
المناسبة:
بعد بيان الانتصار الساحق لموسى عليه السلام على السحرة، أبان الله تعالى طريق الخلاص بين فرعون الطاغية وقومه وبين بني إسرائيل، فأغرق الله فرعون وجنوده في البحر، حين تبعوا موسى وقومه، لما خرج من مصر إلى الطور، وذلك بمعجزة العصا التي ضرب بها موسى البحر، فأحدث فيه بقدرة الله طريقا يبسا، بالرغم من الآيات المفصلة التي حدثت على يد موسى في مدى عشرين سنة حسبما ذكر في سورة الأعراف.
وأنقذ الله بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم بأنواع من النعم الدينية والدنيوية وأهمها إزالة المضرة، فاقتضى تذكيرهم إياها، وابتدأ بالمنفعة الدنيوية بقوله: أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وهو إشارة إلى إزالة الضرر، ثم ثنى بذكر المنفعة الدينية بقوله: وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وهو إنزال التوراة كتاب دينهم ومنهاج شريعتهم، ثم ثلث بذكر المنفعة الدنيوية بقوله: وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ
ثم زجرهم عن العصيان بقوله:
وَلا تَطْغَوْا فِيهِ، فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ثم بيان قبول توبة العاصي بقوله:
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ.
التفسير والبيان:
أمر الله موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل، وينقذهم من قبضة فرعون، فقال:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي، فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ، يَبَساً، لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى أي ولقد أوحينا إلى النبي موسى أن يسير ببني إسرائيل من مصر ليلا، دون أن يشعر بهم أحد، وأمرناه أن يتخذ أو يجعل لهم طريقا يابسا في وسط البحر (بحر القلزم أو البحر الأحمر) وذلك أن الله تعالى أيبس لهم تلك الطريق حتى لم يكن فيها ماء ولا طين.
وأشعرناه بالأمان والنجاة، فقلنا له: أنت آمن لا تخاف أن يدركك وقومك فرعون وقومه، ولا تخشى أن يغرق البحر قومك، أو لا تخاف إدراك فرعون ولا تخشى الغرق بالماء.
والتعبير عن بني إسرائيل بكلمة بِعِبادِي دليل على العناية بهم، وأنهم كانوا حينئذ قوما صالحين، وإيماء بقبح صنع فرعون بهم من الاستعباد والظلم.
فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ، فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ أي تبعهم فرعون ومعه جنوده، فغشيهم من البحر ما غشيهم مما هو معروف ومشهور، فغرقوا جميعا. وتكرار غَشِيَهُمْ للتعظيم والتهويل.
وأما تورط فرعون الداهية الذكي في متابعة موسى فكان بسبب أنه أمر مقدمة عسكره بالدخول، فدخلوا وما غرقوا، فغلب على ظنه السلامة، فلما دخل الكل أغرقهم الله تعالى.
ثم بدأ الله تعالى يعدد نعمه على بني إسرائيل، مقدما إزالة المضرة على جلب المنفعة، وهو ترتيب حسن معقول لأن «درء المفاسد مقدم على جلب المصالح» فقال:
١- يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ أي قلنا لهم بعد إنجائهم:
يا بني إسرائيل، قد أنجيناكم من عدوكم: فرعون، الذي كان يذبح أبناءكم ويستحيي نساءكم، وأقررنا أعينكم منهم، حين أغرقتهم وأنتم تنظرون إليهم، فقد غرقوا في صبيحة واحدة، لم ينج منهم أحد، كما في آية أخرى: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة ٢/ ٥٠] وهو إشارة إلى إزالة الضرر.
٢- وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي جعلنا لكم ميقاتا وهو موعد تكليم موسى بحضرتكم، وإنزال التوراة ذات الشريعة المفصلة، وأنتم تسمعون الكلام الذي يخاطبه به رب العزة. وكان مكان الموعد جانب جبل الطور الأيمن، وهو جبل في سيناء. قال المفسرون: ليس للجبل يمين ولا يسار، بل المراد أن طور سيناء عن يمين من انطلق من مدين إلى مصر.
٣- وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أي وأنزلنا عليكم المن والسلوى وأنتم في التيه، أما المن: فهو حلوى كانت تنزل عليهم من الندى من السماء، من الفجر إلى طلوع الشمس، على الحجارة وورق الشجر. وأما السلوى: فهو طائر السماني الذي تسوقه ريح الجنوب، فيأخذ كل واحد منكم ما يكفيه.
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي وقلنا لهم: أنعموا بالأكل من تلك الطيبات المستلذات من الأطعمة الحلال.
وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى أي ومن ينزل به غضبي فقد شقي وهلك.
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى أي وإني لستار وذو مغفرة شاملة لمن تاب من الذنوب، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل عملا صالحا مما ندب إليه الشرع وحسنه، ثم استقام على ذلك حتى يموت. وفي التعبير ب ثُمَّ اهْتَدى دلالة على وجوب الاستمرار على تلك الطريقة إذ المهتدي في الحال لا يكفيه ذلك في الفوز بالنجاة، حتى يستمر عليه في المستقبل، ويموت عليه، ويؤكده قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا: رَبُّنَا اللَّهُ، ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت ٤١/ ٣٠] وكلمة ثُمَّ هنا للتراخي، وليست لتباين المرتبتين، بل لتباين الوقتين، فكأنه تعالى قال: الإتيان بالتوبة والإيمان والعمل الصالح، مما قد يحدث أحيانا لكل أحد، ولا صعوبة في ذلك، إنما الصعوبة في المداومة والاستمرار على المطلوب.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت هذه الآيات إلى ما يأتي:
١- تفضل الله على بني إسرائيل بإنقاذهم وإنجائهم من ظلم فرعون وقومه، فأوحى الله إليه أن يتخذ لهم طريقا يابسا في البحر لا طين فيه ولا ماء، بأن ضربه بعصاه، فانشق، وجف بما هيأ الله له من الأسباب كالرياح، فأضحى لا يخاف لحاقا من فرعون وجنوده، ولا يخشى غرقا من البحر.
٣- كان فرعون شؤما على نفسه وعلى قومه، فإنه أضلهم عن الرشد، وما هداهم إلى خير ولا نجاة لأنه قدر أن موسى عليه السلام ومن معه لا يفوتونه لأن بين أيديهم البحر.
فلما ضرب موسى البحر بعصاه انفلق منه اثنا عشر طريقا، وكان الماء بين الطرق قائما كالجبال، كما قال تعالى: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ [الشعراء ٢٦/ ٦٣] أي الجبل الكبير، فأخذ كل سبط من أسباط بني إسرائيل طريقا.
وأوحى الله إلى أطواد الماء بالتشبك، فصارت شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض، فكان هذا من أعظم المعجزات، وأكبر الآيات. فلما أقبل فرعون، ورأى الطرق في البحر، والماء قائما، أوهمهم أن البحر فعل هذا لهيبته، فدخل هو وأصحابه، فانطبق البحر عليهم. وهذا كله يحتاج إلى الإيمان بقدرة الله.
٤- أنعم الله على بني إسرائيل بنعم كثيرة، ذكر منها هنا ثلاثا، وهي الإنجاء من آل فرعون، والمواعدة: إتيان جانب الطور، وإنزال المن والسلوى في التيه.
٥- إن النعم تقتضي الحفظ والشكر، فقد يسر الله لهم الأكل من طيبات الرزق الحلال ولذيذه الذي لا شبهة فيه، فما عليهم إلا حفظ النعمة، فلا يؤخذ منها أكثر من الحاجة، وشكرها، فلا تؤدي إلى السرف والبطر والمعصية، وهذا هو الطغيان، أي التجاوز إلى ما لا يجوز.
٧- الله غفور على الدوام لمن تاب من الشرك والكفر والمعصية، وآمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وعمل صالح الأعمال بأداء الفرائض والطاعات، واجتنب المعاصي، ثم أقام على إيمانه حتى مات عليه.
- ١١- تكليم الله موسى في الميقات وفتنة السامري بصناعة العجل إلها
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٩]
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (٨٣) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (٨٤) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧)
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (٨٩)
وَما أَعْجَلَكَ... ما مبتدأ، وأَعْجَلَكَ خبره، وفيه ضمير يعود إلى ما وتقديره: أي شيء أعجلك؟.
يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً وَعْداً إما منصوب على المصدر، تقول: وعدته وعدا، كضربته ضربا، وإما أن يكون الوعد بمعنى الموعود، كالخلق بمعنى المخلوق، فيكون مفعولا به ثانيا ل يَعِدْكُمْ على تقدير حذف مضاف، أي تمام وعد حسن.
ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالفتح: هو اسم أي بإصلاح ملكنا ورعايته، ومن ضم الميم جعله مصدر «ملك» يقال: ملك بين الملك، ومن كسر الميم جعله مصدر «مالك» يقال: مالك بين الملك، والمصدر هنا مضاف إلى الفاعل.
فَنَسِيَ الفاعل إما السَّامِرِيُّ أي نسي طاعتنا وتركها، والنسيان بمعنى الترك، قال تعالى: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة ٩/ ٦٧] أي تركوا طاعة الله فتركهم في النار، وإما الفاعل مُوسى أي ترك موسى ذلك وأعرض عنه، والأول أوجه.
أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها محذوف: أنه.
المفردات اللغوية:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ لمجيء ميعاد أخذ التوراة، وهو يدل على تقدم قومه في المسير إلى المكان، وهو سؤال عن سبب العجلة، يتضمن إنكارها، من حيث إنها نقيصة في نفسها، انضم إليها إغفال القوم، وإيهام التعظم عليهم، فأجاب موسى عن الأمرين، وقدم جواب الإنكار لأنه أهم فقال: هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي أي ما تقدمتهم إلا بخطي يسيرة لا يعتد بها عادة، وهم قادمون ورائي، ليس بيني وبينهم إلا مسافة قريبة، يتقدم الرفقة بها بعضهم بعضا. ثم قال: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى عني، أي زيادة على رضاك، فإن المسارعة إلى امتثال أمرك والوفاء بعهدك يوجب مرضاتك. وقبل الجواب أتى بالاعتذار بحسب ظنه. يقال: جاء على أثره: أي لحقه بلا تأخير.
قال تعالى: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي ابتليناهم واختبرناهم بعبادة العجل، بعد فراقك لهم، وأضلهم موسى السامري: أي أوقعهم في الضلال والخسران، باتخاذ العجل والدعاء إلى عبادته. وهم الذين خلفهم مع هارون، وكانوا ست مائة ألف، ما نجا من عبادة العجل منهم إلا اثنا عشر ألفا. وقرئ: وأضلهم السامري، أي أشدهم ضلالة لأنه كان ضالا مضلا.
والسامري: منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة.
بِمَلْكِنا مثلث الميم أي بقدرتنا واختيارنا وأمرنا، إذ لو خلينا وأمرنا ولم يسول علينا السامري، لما أخلفنا موعدك وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ وقرئ: وحملنا، وأَوْزاراً أثقالا، وزينة القوم أي حلي قوم فرعون، أي حملنا أحمالا من حلي القبط التي استعرناها منهم حين هممنا بالخروج من مصر، باسم العروس فَقَذَفْناها طرحناها في النار بأمر السامري فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي كما ألقينا فكذلك ألقى السامري ما كان معه منها أي من حليهم ومن التراب الذي أخذه من أثر حافر فرس جبريل.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً أي صاغ من تلك الحلي المذابة عجلا جثة لا روح فيها لَهُ خُوارٌ الخوار: صوت العجل، والمراد هنا صوت يسمع بسبب التراب الذي يكون أثره الحياة فيما يوضع فيه، وقد وضعه في فم العجل بعد صوغه.
فَقالُوا أي السامري وأتباعه فَنَسِيَ أي نسي السامري وترك ما كان عليه من إظهار الإيمان، وقيل في زعم السامري: نسي موسى ربه هنا، وذهب يطلبه عند الطور.
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا ألا يرد العجل لهم جوابا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي لا يقدر على دفع ضر عنهم ولا جلب نفع لهم، فكيف يتخذ إلها؟!
المناسبة:
بعد تعداد النعم على بني إسرائيل، أردف هذا بقصة الكلام الذي جرى بينه تعالى وبين موسى في الميقات بحسب المواعدة التي واعده بها ربه سابقا، ثم أعقبه ببيان فتنة السامري لبني إسرائيل باختراع العجل من الذهب، وجعله إلها، يصدر صوتا حينما تهب رياح معينة، فتحرك التراب الذي في فمه، فوبخهم الله بأن هذا العجل لا يجيب سائله، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.
وتجاوب بني إسرائيل في تأليه العجل وعبادته نابع من ميلهم إلى الوثنية
التفسير والبيان:
وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أي ما حملك على أن تسبقهم، والقوم:
هم بنو إسرائيل، والمراد بهم هنا النقباء السبعون، أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم.
وذلك أن الله وعد موسى باللقاء في جبل الطور بعد هلاك فرعون، ليعطيه الألواح التي فيها الوصايا الدستورية لبني إسرائيل. فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب، فأمره أن يصوم ثلاثين يوما، ثم زيدت إلى أربعين يوما:
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف ٧/ ١٤٢].
وكانت المواعدة أن يوافي موسى وجماعة من وجوه قومه، فاختار موسى منهم سبعين رجلا: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا [الأعراف ٧/ ١٥٥] وهم النقباء السبعون الذين اختارهم، فسار موسى بهم، ثم عجل من بينهم شوقا إلى ربه، أي لما قرب من الطور سبقهم شوقا إلى سماع كلام الله، فقال الله له:
ما أعجلك؟ أي ما الذي حملك على العجلة حتى تركت قومك وخرجت من بينهم؟.
وهذا الإنكار إنكار للعجلة في ذاتها لما فيها من عدم العناية بصحبه لأن من شرط المرافقة الموافقة، وهو تعليم للأدب الحسن الرفيع في المصاحبة.
قالَ: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ أي قال الله تعالى: إنا قد اختبرنا قومك بني إسرائيل من بعد فراقك لهم، وهم الذين تركهم مع أخيه هارون، وجعلهم موسى السامري في ضلالة عن الحق، باتخاذهم عبادة العجل من ذهب.
والسامري من قبيلة السامرة، أو من قوم يعبدون البقر، والأكثرون أنه كان من عظماء بني إسرائيل من قبيلة السامرة، قال لمن معه من بني إسرائيل: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه وهو عشر ليال، لما صار معكم من الحلي، وهي حرام عليكم، وأمرهم بإلقائها في النار، وكان منها العجل، الذي يصدر منه صوت أحيانا بفعل تأثير الرياح.
فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً أي فعاد موسى إلى قومه بني إسرائيل بعد انقضاء الليالي الأربعين، شديد الغضب والحنق، والأسف والحزن والجزع.
قالَ: يا قَوْمِ، أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أي قال موسى: يا قوم أما وعدكم ربكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة، من إنزال الكتاب التشريعي العظيم لتعملوا به، والنصر على عدوكم، وتملككم أرض الجبارين وديارهم، والثواب الجزيل في الآخرة بقوله المتقدم: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى.
قالُوا: ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا أي أجابوه قائلين: ما أخلفنا عهدك ووعدك باختيارنا وقدرتنا، بل كنا مضطرين إلى الخطأ. وهذا إقرار منهم بالمعصية والوقوع في الفتنة بتسويل السامري وغلبته على عقولهم، كما قال تعالى:
وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ، فَقَذَفْناها، فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ أي ولكن حملنا أثقالا من زينة القوم أي القبط المصريين، حين خرجنا من مصر معك، وأوهمناهم أننا نجتمع في عيد لنا أو وليمة. وسميت أوزارا أي آثاما لأنه لا يحل لهم أخذها. وقال السامري لهم: إنما حبس موسى عنكم بشؤم حرمتها، ثم أمرنا أن نحفر حفرة، ونملأها نارا، وأن نقذف الحلي فيها، فقذفناها، أي فطرحناها في النار طلبا للخلاص من إثمها، فمثل ذلك قذف السامري ما معه، وصاغ من الحلي عجلا، ثم ألقى عليه قبضة من أثر الرسول جبريل.
فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ أي فأخرج السامري لبني إسرائيل من الذهب الملقى في النار (الأوزار) جسد عجل لا روح ولا حياة فيه، له خوار العجول لأنه صنعه بطريقة معينة، عمل فيه خروقا، وألقى فيه رملا من أثر جبريل، فكان إذا دخلت الريح في جوفه خار. والخوار: صوت البقر.
هذا هو إلهكم وإله موسى، فاعبدوه، ولكن موسى نسي أن يخبركم أن هذا إلهكم.
فرد الله تعالى عليهم مقرعا لهم ومسفها عقولهم، فقال:
أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا، وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً أي أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرد عليهم جوابا، ولا يكلمهم إذا كلموه، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضررا، أو يجلب لهم نفعا، فكيف يتوهمون أنه إله؟!.
فقه الحياة أو الأحكام:
تدل الآيات على ما يأتي:
١- تعجل موسى عليه السلام سابقا قومه النقباء السبعين شوقا للقاء ربه وسماع كلامه، باجتهاد منه، ولكنه أخطأ في ذلك الاجتهاد، فاستوجب العتاب.
ثم إن العجلة وإن كانت في الجملة مذمومة، فهي ممدوحة في الدين، قال تعالى: وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ [آل عمران ٣/ ١٣٣].
وكنى موسى عن ذكر الشوق وصدقه بابتغاء الرضا، قائلا: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي عجلت إلى الموضع الذي أمرتني بالمصير إليه لترضى عني.
٢- اختبر الله بني إسرائيل في غيبة موسى عليه السلام، ليتبين القائمين على أمر الله عز وجل، واعتقاد توحيده، والتزام شريعته، تبين انكشاف وظهور لأن الله عالم بالجميع.
٣- لقد أضلهم السامري، أي دعاهم إلى الضلالة، أو هو سببها.
٥- بادر موسى إلى عتاب قومه بتذكيرهم بنعم الله عز وجل عليهم، ومنها إنجاؤهم من فرعون وجنوده، ووعدهم بالجنة إذا أقاموا على طاعته، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه في التوراة على لسان موسى، ليعملوا بما فيها، فيستحقوا ثواب عملهم. وقوله: أَلَمْ يَعِدْكُمْ يدل على أنهم كانوا معترفين بالإله، لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي يذكره عبدة الأصنام.
٦- لا عذر لهم في نقض العهد الذي لم يطل أمره، ولكنهم أرادوا العصيان وإحداث الأعمال التي تكون سبب حلول غضب الله بهم، وأخلفوا الوعد مع موسى أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور.
٧- اعتذروا لموسى عليه السلام بأنهم كانوا مضطرين إلى خلف الموعد، ونقض العهد، وذلك للتخلص من آثام الحلي التي كانوا قد أخذوها من القبط المصريين، حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة، فألقوها في النار لتذوب.
٨- لما ذابت الحلي في النار، أخذها السامري، وصاغ لهم منها عجلا، ثم ألقى عليه قبضته من أثر فرس جبريل عليه السلام، فصار عجلا جسدا له خوار.
٩- زيف السامري الحقائق، ودلس على بني إسرائيل، وقال لهم مع أتباعه الذين كانوا ميالين إلى التجسيم والتشبيه إذ قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف ٧/ ١٣٨] : هذا إلهكم وإله موسى الذي نسي أن يذكر لكم أنه إلهه.
١٠- سفه الحق تعالى أحلامهم وعاب تفكيرهم، وقال لهم: أفلا يعتبرون
أما الذي يعبده موسى عليه السلام فهو يضر وينفع ويعطي ويمنع.
١١- دل قوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ.. على وجوب النظر في معرفة الله تعالى، كما في آية أخرى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا [الأعراف ٧/ ١٤٨]. وهو قريب في المعنى من قوله تعالى في ذم عبدة الأصنام:
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها [الأعراف ٧/ ١٩٥].
- ١٢- معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل وإلقائه في البحر وتوحيد الإله الحق
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٨]
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (٩١) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (٩٥) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (٩٨)
بْنَ أُمَ
بالفتح أراد يا بن أمي بفتح الياء، فأبدل من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، ثم حذف الألف تخفيفا لأن الفتحة تدل عليها. ومن قرأ بالكسرا بْنَ أُمَ
أراد يا بن أمي إلا أنه حذف الياء لأن الكسرة قبلها تدل عليها، والأصل إثباتها لأن الياء إنما تحذف من المنادي المضاف، نحو: يا قوم، ويا عباد، والأم ليست بمناداة هنا، وإنما المنادي هو «الابن».
لَنْ تُخْلَفَهُ فعل مبني للمجهول، وضمير المخاطب نائب الفاعل، وهاء تُخْلَفَهُ مفعول ثان منصوب. ومن قرأ بكسر اللام لَنْ تُخْلَفَهُ كان مضارع (أخلفت الموعد) والمفعول الثاني حينئذ محذوف، أي لَنْ تُخْلَفَهُ أي الموعد لأن أخلف: يتعدى إلى مفعولين.
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً تمييز محول عن الفاعل، أي وسع علمه كل شيء.
البلاغة:
أَمْرِي وْلِي
نَفْسِي وكذا نَفْعاً نَسْفاً عِلْماً سجع حسن غير متكلف.
المفردات اللغوية:
مِنْ قَبْلُ من قبل رجوع موسى إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ إنما وقعتم في الفتنة والضلال بالعجل فَاتَّبِعُونِي في الثبات على الحق وعبادة الرحمن وَأَطِيعُوا أَمْرِي في تلك العبادة لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ لن نزال على العجل وعبادته عاكِفِينَ مقيمين قالَ: يا هارُونُ قال موسى بعد رجوعه ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ لا: زائدة، أي أن تتبعني في الغضب لله ومقاتلة من كفر بالله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين، والمحاماة عنه، وعصيانك بإقامتك بين قوم لا يعبدون الله تعالى.
لَ: يَا بْنَ أُمَ
أراد أمي، وخص الأم استعطافا لقلبه تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
لا تأخذ بشعر لحيتي ولا بشعر رأسي، وكان أخذ بلحيته بشماله، وبشعره بيمينه، يجره إليه، من شدة
خفت لو اتبعتك لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
ولم تراع قولي فيما رأيته في ذلك.
قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ أي ثم أقبل عليه وقال منكرا: ما شأنك الداعي إلى ما صنعت، وما الذي حملك على هذا الأمر الخطير؟ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي علمت بما لم يعلموه فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فقبضت قبضة من تربة موطئ جبريل عليه السلام، فهو الرسول، وقيل: موسى عليه السلام، والقبضة: الأخذ بجميع الكف فَنَبَذْتُها ألقيتها وطرحتها في صورة العجل المصاغ وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي ومثل ذلك زينت وحسنت لي نفسي.
قالَ: فَاذْهَبْ قال موسى له: فَاذْهَبْ من بيننا فِي الْحَياةِ مده حياتك أَنْ تَقُولَ لمن رأيته، عقوبة على ما فعلت لا مِساسَ أي لا تقربني، ولا مخالطة، فلا يقربه ولا يخالطه أحد، ولا يخالط أحدا، فعاش وحيدا طريدا، وإذا حدث مساس مع أحد، أخذته الحمى وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً في الآخرة لعذابك لَنْ تُخْلَفَهُ أي سيأتيك الله به حتما، وتبعث إليه، وبكسر اللام: لن تغيب عنه ظَلْتَ أصله: ظلت، فحذفت الأولى تخفيفا، أي دمت عاكِفاً مقيما تعبده لَنُحَرِّقَنَّهُ أي بالنار لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرينه فِي الْيَمِّ في البحر نَسْفاً نذرا، فلا يصادف منه شيء، وقام موسى فعلا بإلقاء العجل في البحر.
وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً وسع علمه كل شيء وأحاط به.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى مخالفة عبادة العجل لأبسط مبادئ العقل لأنه لا يجيب سائله ولا يدفع عنه ضرا ولا يجلب له نفعا، ذكر أن بني إسرائيل أيضا عصوا الرسول الذي نبههم إلى خطأ فعلهم، ثم أوضح معاتبة موسى لأخيه هارون على سكوته على بني إسرائيل في عبادتهم العجل، ثم أردف به مناقشة موسى للسامري وعقابه من الله في الدنيا والآخرة، وإلقاء موسى العجل في البحر، وإعلان موسى صراحة: من هو الإله الحق، وهو الذي وسع علمه السموات والأرض، لا الجماد الذي لا يضر ولا ينفع.
يخبر الله تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام قومه عن عبادتهم العجل وتحذيرهم منه، وإخباره إياهم بأنه فتنة، فيقول:
وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ، وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ، فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي أي لقد قال هارون عليه السلام لقومه عبدة العجل من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم: إنما وقعتم في الفتنة والاختبار لإيمانكم وحفظكم دينكم بسبب العجل، وضللتم عن طريق الحق لأجله، ليعرف صحيح الإيمان من عليله.
وإن ربكم الله الذي خلقكم وخلق كل شيء فقدره تقديرا، لا العجل، فاتبعوني في عبادة الله، ولا تتبعوا السامري في أمره لكم بعبادة العجل، وأطيعوا أمري لا أمره، واتركوا ما أنهاكم عنه.
ويلاحظ أن هارون عليه السلام وعظهم بأحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل أولا بقوله: إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ ثم دعاهم إلى معرفة الله تعالى ثانيا بقوله:
وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ثم دعاهم ثالثا إلى معرفة النبوة بقوله: فَاتَّبِعُونِي ثم دعاهم إلى الشرائع رابعا بقوله: وَأَطِيعُوا أَمْرِي.
وقوله إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ تذكير لهم بربوبية الله وقدرته التي أنجتهم من فرعون وجنوده، وتذكير برحمة الله التي تدل على أنهم متى تابوا، قبل الله توبتهم لأنه هو الرحمن الرحيم، ومن رحمته تخليصهم من آفات فرعون وعذابه.
ولكنهم قابلوا الوعظ والنصح بالتقليد والجحود، فقالوا:
قالُوا: لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى أي قالوا:
لا نقبل حجتك، ولكن نقبل قول موسى، فلا نترك عبادة العجل، حتى نسمع
قالَ: يا هارُونُ، ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي أي قال موسى لهارون حين رجع إلى قومه بعد تكليم ربه في الميقات: ما الذي منعك من اتباعي إلى جبل الطور، واللحوق بي مع من بقي مؤمنا، فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع، حين وقعوا في هذه الضلالة ودخلوا في الفتنة؟ ففي مفارقتهم زجر لهم، ودليل على الغضب والإنكار عليهم. وأَلَّا في قوله أَلَّا تَتَّبِعَنِ زائدة، أي أن تتبع أمري ووصيتي.
أفعصيت أمري؟ أي كيف خالفت أمري لك بالقيام لله، ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها؟ ألم أقل لك:
اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي، وَأَصْلِحْ، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [الأعراف ٧/ ١٤٢].
فقال هارون معتذرا عن تأخره عنه وإخباره بما حدث، مستعطفا إياه:
لَ: يَا بْنَ أُمَّ، لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي
أي قال هارون لموسى:
يا ابن أم، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو:
، مترققا له بذكر الأم التي هي عنوان الحنو والعطف، مع أنه شقيفه لأبويه، لا تفعل هذا عقوبة منك لي، وكان موسى قد أخذ برأس أخيه يجره إليه، فإن لي عذرا هو: إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ، وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي أي إني خشيت إن خرجت عنهم وتركتهم أن يقتتلوا ويتفرقوا، فتقول: إني فرقت جماعتهم لأنه لو خرج لتبعه جماعة منهم، وتخلف مع السامري عند العجل آخرون، وربما أفضى ذلك إلى القتال بينهم، وحينئذ تقول: لم تعمل بوصيتي لك فيهم وتحفظها، وهي قوله المتقدم: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ ولم تراع ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم، واعتذر إليه أيضا بقوله في آية أخرى:
ثم كلم موسى كبير الفتنة وهو السامري قائلا:
قالَ: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي قال موسى للسامري: ما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ سأله ليتخذ من جوابه وإقراره حجة للناس ببطلان فعله وقوله.
قالَ: بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ، فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، فَنَبَذْتُها أي قال السامري: رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون على فرس، فأخذت قبضة من أثر فرسه- والقبضة: ملء الكف، والقبضة بأطراف الأصابع، وذلك الأثر لا يقع على جماد إلا صار حيا- فطرحتها في الحلي المذابة المسبوكة على صورة العجل، فصنعت لهم تمثال إله، حينما رأيتهم يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كآلهة المصريين عبدة الأصنام.
قال مجاهد: نبذ السامري، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل، فانسبك عجلا جسدا له خوار: وهو حفيف الريح فيه.
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي أي كما زينت لي نفسي السوء، زينت لي أيضا وحسنت هذا الفعل بمحض الهوى، أو حدثتني نفسي، لا بإلهام إلهي أو ببرهان نقلي أو عقلي.
فأخبره موسى بجزائه في الدنيا والآخرة، فقال: قالَ: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ: لا مِساسَ، وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ أي قال موسى للسامري: فعقوبتك في الدنيا أن تذهب من بيننا وتخرج عنا، وأن تقول ما دمت حيا: لا يمسك أحد، ولا تمس أحدا، وأمر موسى بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له، وهذه هي عقوبة النبذ من المجتمع أو العزل المدني.
وأما إلهك المزعوم فمصيره كما قال تعالى:
وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ، ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً أي وانظر إلى معبودك الذي أقمت على عبادته، يعني العجل لنحرقنه تحريقا بالنار، ثم لنذرينه في البحر لتذهب به الريح. قال قتادة: فحرقه بالنار، ثم ألقى رماده في البحر. وهذا موقف حازم من موسى عليه السلام أحد الأنبياء أولي العزم لأن مثل هذا المعبود في زعم السامري ومن اتبعه يجب استئصال آثاره، حفاظا على توحيد الله عز وجل وعبادته وحده لا شريك له، لذا أتبعه بقوله:
إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي قال موسى:
إن هذا العجل الذي فتنكم به السامري ليس بإله، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو، أي فهو المستحق للعبادة، ولا تنبغي العبادة إلا له، فكل شيء فقير إليه، عبد له. وهو عالم بكل شيء، أحاط بكل شيء علما، وأحصى كل شيء عددا، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، وما تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا حبة في ظلمات الأرض، ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين.
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها، ويعلم مستقرها ومستودعها، كل في كتاب مبين.
وهكذا بدأت قصة موسى بالتوحيد الخالص: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي.. وختمت به: إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ.. شأن رسالة كل نبي.
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- أنكر هارون عليه السلام على السامري وتابعيه عبادة العجل إنكارا شديدا قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم، فعصوه وكادوا أن يقتلوه، وسوفوا وما طلوا حتى يرجع موسى عليه السلام، لينظروا هل يقرهم على ما فعلوا أم لا.
٢- لقد توهموا أن موسى يعبد العجل، فاعتزلهم هارون مع اثني عشر ألفا لم يعبدوا العجل، فلما رجع موسى سمع الصياح والضجيج، وكانوا يرقصون حول العجل، فقال للسبعين الذين معه: هذا صوت الفتنة.
٣- قوله تعالى: قالَ: يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ، أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دليل على أن السكوت على المنكر ضلال، والمعنى: حين رأيتهم أخطئوا الطريق وكفروا، ما منعك عن اتباعي والإنكار عليهم، إن مقامك بينهم- وقد عبدوا غير الله- عصيان منك لي.
قال القرطبي: وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم.
وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله:
ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية؟ وهم جماعة يجتمعون، فيكثرون من ذكر الله تعالى، وذكر محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه، ويحضرون شيئا يأكلونه، هل الحضور معهم جائز أم لا؟
فأجاب: يرحمك الله، مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسوله، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب
٤- أجاب هارون معتذرا مبينا وجهة اجتهاده: وهي أنه خشي إذا خرج وتركهم- وقد أمره موسى بالبقاء معهم- أن تقع الفرقة بين بني إسرائيل، وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء، وخشي إن زجرهم أن يقع قتال، فيلومه موسى عليه، وقد أوضح ذلك هنا بقوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ: فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ
وفي الأعراف قال: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ لأنك أمرتني أن أكون معهم.
٥- بعد عتاب هارون اتجه موسى للسامري سائلا: فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ؟ أي ما أمرك وما شأنك، وما الذي حملك على ما صنعت؟ وقصده من سؤاله: انتزاع اعتراف منه بباطله.
قال قتادة: كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها «سامرة» ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة، وهم يعكفون على أصنام لهم قالُوا: يا مُوسَى، اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ فاغتنمها السامري، وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل، فاتخذ العجل.
٦- عاقب موسى عليه السلام ذلك السامري الذي اعترف بأنه صنع العجل لهوى في نفسه، فنفاه عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الحسن البصري: جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه، عقوبة له ولما كان منه إلى يوم القيامة وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة، بأن جعله لا يماس أحدا، ولا يمكن من أن يمسه أحد، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا.
ويقال: لما قال له موسى: فاذهب، فإن لك في الحياة أن تقول:
لا مِساسَ خاف فهرب، فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحش، لا يجد أحدا من الناس يمسه، حتى صار كالقائل: لا مساس لبعده عن الناس وبعد الناس عنه.
٧- قال القرطبي: هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا، وقد فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بكعب بن مالك وصاحبيه الذين خلفوا.
ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى، ليضطر إلى الخروج. ومن هذا القبيل: التغريب في حد الزنى.
٨- وهناك عقاب آخر للسامري يوم القيامة، وموعد لعذابه لا بد من مجيئه، والصيرورة إليه، ولا خلف فيه.
٩- حرق موسى عليه السلام بالنار العجل الذي اتخذه السامري. ثم ألقى
١٠- طوى موسى عليه السلام من تاريخ بني إسرائيل واقعة عبادة العجل التي طرأت في فترة زمنية قصيرة الأمد، وقرر إلى الأبد مبدأ التوحيد، وأوجب عبادة الله الذي لا إله إلا هو، العليم بكل شيء، وسع كل شيء علمه، الخبير بأحوال المخلوقات الظاهرة والباطنة، وهذه هي صفات الإله الحق المستحق للعبادة دون سواه.
١١- لم يكن أخذ موسى برأس أخيه وبلحيته معصية قادحة بعصمة الأنبياء عليهم السلام، كما زعم بعض الطاغين، وإنما كان هذا تعبيرا قويا عن إنكاره، وغضبا لله لا لنفسه، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يغضب لنفسه، وإنما يغضب إذا انتهكت محارم الله. والغضب في هذا الموضع محمود غير مذموم، ولا يستنكر ولا يستغرب ظهور أمارات الغضب على النفس، وقد أجرى موسى عليه السلام أخاه هارون مجرى نفسه لأنه كان أخاه وشريكه، فصنع به ما يصنع الرجل بنفسه في حال الفكر والغضب، فإن الغضبان المتفكر قد يعض على شفتيه، ويفتل أصابعه، ويقبض لحيته «١».
والدليل على ذلك أن هارون عليه السلام عذر أخاه موسى عليه السلام فيما فعل، وكل ما في الأمر أنه استمهله وهدأ أعصابه، ليبين له وجهة نظره، ووجه اجتهاده.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ٩٩ الى ١٠٤]
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (١٠٠) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (١٠٣)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (١٠٤)
الإعراب:
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً، خالِدِينَ فِيهِ أفرد ضمير أَعْرَضَ حملا على لفظ مَنْ، وجمع الضمير في قوله خالِدِينَ حملا على معناه. وخالِدِينَ حال من ضمير يَحْمِلُ.
وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا تمييز مفسر للضمير في ساءَ، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: وزرهم.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يَوْمَ: بدل من يوم القيامة السابق.
البلاغة:
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ تشبيه مرسل مجمل.
وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا استعارة تصريحية، شبه الوزر بالحمل الثقيل، مصرحا بلفظ المشبه به.
المفردات اللغوية:
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي مثل ذلك الاقتصاص- اقتصاص موسى والسامري- نقص عليك يا محمد من أخبار الأمم الماضية. وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً وقد أعطيناك من عندنا قرآنا، فالذكر: القرآن، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ وسمي بذلك لأن فيه ذكر كل ما يحتاج إليه الناس في الدين والدنيا، والقصص والأخبار، والتنكير فيه للتعظيم.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ يوم ينفخ في القرن النفخة الثانية. وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ نجمع الكافرين. زُرْقاً أي زرق الأبدان والعيون، مع سواد وجوههم، لاشتماله على الشدائد والأهوال. يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ أي يتسارون ويخفضون أصواتهم، لشدة الرعب والهول. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي ما لبثتم في الدنيا إلا عشرا من الليالي بأيامها، يستقصرون مدة لبثهم فيها لزوالها.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ في ذلك أي في مدة لبثهم. أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أعدلهم رأيا أو عملا. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي يستقلون لبثهم في الدنيا جدا، لما يشاهدونه من أهوال الآخرة.
وحكاية اختلافهم في مدة اللبث: عَشْراً أو يَوْماً أو (ساعة) ليس على سبيل الحقيقة أو الشك في التعيين، بل المراد تقرير سرعة زواله.
المناسبة:
بعد بيان قصص موسى والسامري، أبان الله تعالى لنبيه إيناسا له أن إعلامك بأخبار الأمم الماضية وأحوالهم كعاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة، هو زيادة في معجزاتك، وحث على الاعتبار والاتعاظ من قبل المكلفين في الدين.
وناسب بعده أن يذكر جزاء المعرضين عن أحكام القرآن، ذلك الجزاء الرهيب الذي تشيب منه الولدان.
التفسير والبيان:
كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ أي كما قصصنا عليك أيها الرسول خبر موسى مع فرعون وجنوده وخبره مع بني إسرائيل في الحقيقة والواقع، كذلك نقص عليك أخبار الحوادث التي جرت مع الأمم الماضية، كما وقعت من
وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي هذا.. وقد أعطيناك من عندنا ذكرا، وهو القرآن العظيم، للتذكر به على الدوام لأنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، ولأنه لم يعط نبي من الأنبياء قبلك مثله، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق، وخبر ما هو كائن، وفيه حكم الفصل بين الناس، وكل ما هو صلاح للبشر في الدين والدنيا والآخرة، وجميع مكارم الأخلاق، ومناهج الحياة الفاضلة.
مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً أي كل من كذب به، وأعرض عن اتباعه، فلم يؤمن به، ولا عمل بما فيه، وابتغى الهدى في غيره، يحمل إثما عظيما، وعقوبة ثقيلة يوم القيامة بسبب إعراضه، كما قال تعالى:
وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ، فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [هود ١١/ ١٧].
وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم، كما قال تعالى في بيان مهمة رسوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام ٦/ ١٩]، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له، وداع للإيمان به، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه وأعرض عنه، ضل وشقي في الدنيا، والنار موعده يوم القيامة.
خالِدِينَ فِيهِ، وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي ماكثين مقيمين على الدوام في جزائه ووزره، وهو النار، لا محيد لهم عنه ولا انفكاك، وبئس الحمل حملهم الذي حملوه من الأوزار، جزاء إعراضهم.
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً أي إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ فيه في الصور النفخة الثانية، نفخة البعث التي يحشر الناس
يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ، إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً أي يتسارون بينهم، فيقول بعضهم لبعض سرا: ما لبثتم في الدنيا إلا قليلا بمقدار عشرة أيام أو نحوها أو عشر ليال، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا أو في القبور، بمقارنتها بأيام الآخرة الطويلة الأمد وبأعمار الآخرة.
وإنما خص العشرة واليوم الواحد بالذكر لأن القليل في أمثال هذه المواضع لا يعبر عنه إلا بالعشرة والواحد.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً أي نحن أعلم بما يتناجون وبما يقولون في مدة لبثهم، حين يقول أعدلهم قولا، وأكملهم رأيا وعقلا، وأعلمهم عند نفسه: ما لبثتم إلا يوما واحدا لأن دار الدنيا كلها، وإن طالت في أنظار الناس، كأنها يوم واحد، وغرضهم من ذلك درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة، كما قال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ، يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم ٣٠/ ٥٥] وقال سبحانه: قالَ: كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ، قالُوا: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، فَسْئَلِ الْعادِّينَ [المؤمنون ٢٣/ ١١٢- ١١٣].
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن في قصص القرآن من أخبار الأمم وأحوالهم عبرة وعظة، يستعبر بها أو يتعظ العقلاء المكلفون، وسلوة للنبي، ودليلا على صدقه، وزيادة في معجزاته.
٣- وكما أن القرآن نعمة، ففيه أيضا وعيد شديد لمن أعرض عنه، ولم يؤمن به، ولم يعمل بما فيه، فهو- أي المعرض- يتحمل الإثم العظيم والحمل الثقيل يوم القيامة، حيث يقيم في جزائه، وجزاؤه جهنم، وبئس الحمل الذي حملوه يوم القيامة.
والوزر: هو العقوبة الثقيلة، سميت وزرا، تشبيها في ثقلها على المعاقب بثقل حمل الحامل، أو لأنها جزاء الوزر وهو الإثم.
وصفة ذلك الوزر كما تبين شيئان: أحدهما- أنه مخلد مؤبد، وثانيهما- أنه ما أسوأ هذا الوزر حملا، أي محمولا.
٤- إن يوم القيامة هو اليوم الذي ينفخ في الصور النفخة الثانية للبعث والحشر والحساب. والصور: قرن ينفخ فيه يدعى به الناس إلى الحشر.
٥- يكون النفخ في الصور سببا لحشر المجرمين، أي المشركين، زرق العيون والأبدان من شدة العطش وشدة الأهوال التي يكابدونها.
٦- يتسار المجرمون يوم القيامة قائلين: ما لبثتم في الدنيا إلا عشر ليال، يستقصرون مدة مقامهم في الدنيا لشدة ما يرون من أهوال يوم القيامة، ويخيل إلى أمثلهم أي أعدلهم قولا، وأعقلهم وأعلمهم عند نفسه: أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا يوما واحدا أي مثل يوم أو أقل.
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٠٥ الى ١١٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩)
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (١١٢)
البلاغة:
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ كناية عن أمر الدنيا والآخرة.
عِلْماً ظُلْماً هَضْماً سجع مؤثر غير متكلف.
المفردات اللغوية:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ عن حال أمرها وكيف تكون يوم القيامة، وقد سأل عنها رجل من ثقيف. فَقُلْ لهم. يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يفتتها ذرأت ويجعلها كالرمل السائل، ثم يطيرها كالريح. فَيَذَرُها فيتركها ويذر مقارها أو يذر الأرض. قاعاً أرضا منبسطة لا بناء ولا نبات. صَفْصَفاً أرضا ملساء مستوية. عِوَجاً انخفاضا. وَلا أَمْتاً ارتفاعا.
يَوْمَئِذٍ يوم نسف الجبال، على إضافة اليوم إلى وقت النسف، ويجوز أن يكون بدلا ثانيا من يوم القيامة. يَتَّبِعُونَ يتبع الناس بعد القيام من القبور. الدَّاعِيَ داعي الله إلى المحشر، بصوته، وهو إسرافيل يقول: هلموا إلى عرض الرحمن. لا عِوَجَ لَهُ لا يعوج له مدعو ولا يعدل عنه، أي لا يقدر ألا يتبع، أو لا عوج لدعائه، فلا يميل إلى ناس دون ناس.
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ الاستثناء من الشفاعة، أي إلا شفاعة من أذن له، فمن: مرفوع على البدلية بتقدير حذف المضاف إليه، أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن، وهذا هو المتبادر إلى الذهن، أو أن الاستثناء من أعم المفاعيل، أي إلا من أذن في أن يشفع له، فإن الشفاعة تنفعه، فتكون مَنْ: منصوبا على المفعولية، ورجح الرازي الاحتمال الثاني، أي لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شخصا مرضيا. وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي ورضي لمكانه عند الله قوله في الشفاعة، أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. والخلاصة: أن الإذن إما أن يكون للشافع دون تعيين، وإما أن يكون للشافع من أجل المشفوع له، ورضي قوله لأجله، أي رضي للمشفوع له قولا.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يعلم كل أمر من أمور الآخرة والدنيا، أو يعلم كل شؤون عباده في الدنيا والآخرة. فالمراد من قوله: وَما خَلْفَهُمْ إما أمور الدنيا على رأي، وإما أمور الآخرة وما يستقبلونه، على رأي الأكثرين. وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي لا يحيط علمهم بمعلوماته.
وَعَنَتِ خضعت وانقادت، ومنه العاني: الأسير. الْقَيُّومِ القائم بتدبير عباده ومجازاتهم. خابَ خسر. مَنْ حَمَلَ ظُلْماً شركا. الصَّالِحاتِ الطاعات. فَلا يَخافُ ظُلْماً منع الثواب عن المستحق بالوعد. وَلا هَضْماً ولا نقصا من حسناته.
سبب النزول: نزول الآية (١٠٥) :
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: قالت قريش: يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ الآية.
المناسبة:
بعد أن وصف الله تعالى أهوال يوم القيامة، حكى سؤال من لم يؤمن بالحشر عن مصير الجبال، ثم ضم إليه بيان حالة الأرض حينئذ، وحالة الناس الذين
التفسير والبيان:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ: يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً أي ويسألك المشركون أيها الرسول عن حال الجبال يوم القيامة، هل تبقى أو تزول؟ فقل: يزيلها الله ويذهبها عن أماكنها، ويدكها دكا، ويجعلها هباء منثورا.
فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً، لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً أي فيترك مواضعها بعد نسفها أرضا ملساء مستوية، بلا نبات ولا بناء، ولا انخفاض ولا ارتفاع، فلا تجد مكانا منخفضا ولا مرتفعا، ولا واديا ولا تلة أو رابية.
يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ أي حينئذ يتبع الناس داعي الله إلى المحشر، مسارعين إلى الداعي، حيثما أمروا بادروا إليه، لا معدل لهم عن دعائه، فلا يقدرون أن يميلوا عنه أو ينحرفوا منه، بل يسرعون إليه، كما قال تعالى:
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ [القمر ٥٤/ ٨].
وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً أي سكتت الأصوات رهبة وخشية وإنصاتا لسماع قول الله تعالى، فلا تسمع إلا همسا، أي صوتا خفيا.
يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي في ذلك اليوم لا تنفع شفاعة أحد إلا من أذن له الرحمن أن يشفع، ورضي قوله في الشفاعة لأن الله تعالى هو المالك المتصرف في الخلق جميعا في الدنيا والآخرة.
ونظير الآية قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ
وعلة تقييد الشفاعة بالإذن والرضا هي:
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً أي يعلم ما بين أيدي عباده من أمر القيامة وأحوالها، وما خلفهم من أمور الدنيا، وقيل بالعكس: يعلم ما بين أيديهم من أمر الدنيا والأعمال، وما خلفهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب، والمراد أنه تعالى يحيط علما بالخلائق كلهم، ولا تحيط علوم الخلائق بذاته ولا بصفاته ولا بمعلوماته.
ورجح الرازي معنى أن العباد لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علما لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وهو ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ولأنه تعالى أورد ذلك مورد الزجر ليعلم أن سائر ما يقدمون عليه وما يستحقون به المجازاة معلوم لله تعالى «١».
وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ، وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً أي ذلت وخضعت واستسلمت جميع النفوس والخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء يدبره ويحفظه، أي قائم بتدبير شؤون خلقه وتصريف أمورهم، وقد خسر من حمل شيئا من الظلم والشرك. وخص الوجوه بالذكر لأن الخضوع بها يبين وفيها يظهر.
جاء في الحديث الصحيح: «إياكم
وبعد ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وَهُوَ مُؤْمِنٌ، فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً أي ومن يعمل الأعمال الصالحة (أي الفرائض) مقرونا عمله بالإيمان بربه ورسله وكتبه واليوم الآخر، فلا يظلم ولا يهضم حقه، أي لا يزاد في سيئاته بأن يعاقب بغير ذنب، ولا ينقص من ثواب حسناته.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- تتبدد الجبال يوم القيامة بأمر الله تعالى، فتقلع قلعا من أصولها، ثم تصير كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا وهكذا، ويذر مواضعها أرضا ملساء بلا نبات ولا بناء، لا ترى في الأرض يومئذ واديا ولا رابية ولا مكانا منخفضا ولا مرتفعا، وعليه فإنه تعالى وصف الأرض بصفات ثلاث: كونها قاعا أي مستوية ملساء، وصفصفا أي لا نبات عليها، ولا عوج فيها ولا أمتا، أي لا منخفض ولا مرتفع.
٢- يسير الناس يوم القيامة وراء قائد المحشر، ويتبعون إسرافيل عليه السلام إذا نفخ في الصور، لا معدل لهم عن دعائه، لا يزيغون ولا ينحرفون، بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه.
وتذل الأصوات وتسكن من أجل الرحمن، فلا تسمع إلا صوتا خفيا، أو حسا خفيا.
٣- لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن، ورضي قوله في الشفاعة.
والخلاصة: وصف الله تعالى يوم القيامة بست صفات هي:
نسف الجبال نسفا تاما، واتباع الناس داعي الله إلى المحشر وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور، وخشوع الأصوات من شدة الفزع وخضوعها فلا تسمع إلا الصوت الخفي، وعدم قبول الشفاعة من الملائكة والأنبياء وغيرهم عند الله إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضي قوله في الشفاعة، وإحاطة علم الله بجميع أحوال الخلائق وأمورهم في الدنيا والآخرة، فيعلم تعالى ما بين أيدي العباد وما خلفهم، ولا يحيطون بالله علما، وتذل الوجوه أي النفوس ويصير الملك والقهر لله تعالى دون غيره.
عربية القرآن ووعيده وعدم التعجل بقراءته قبل إتمام الوحي
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (١١٤)
المفردات اللغوية:
وَكَذلِكَ معطوف على كَذلِكَ نَقُصُّ أي مثل إنزال ما ذكر، أو مثل إنزال هذه الآيات المتضمنة للوعيد. أَنْزَلْناهُ أي القرآن. قُرْآناً عَرَبِيًّا كله على هذه الوتيرة.
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كررنا وفصلنا فيه آيات الوعيد ويشمل بيان الفرائض والمحارم.
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي ومنها الشرك، فتصير التقوى لهم ملكة. والتقوى: اتقاء المحارم وترك الواجبات. أَوْ يُحْدِثُ القرآن لَهُمْ ذِكْراً عظة وعبرة حين يسمعونها، فيثبطهم عنها، ولهذا أسند التقوى إليهم، والإحداث إلى القرآن.
فَتَعالَى اللَّهُ تعاظم وتنزه وتقدس في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين، فلا يماثل كلامه كلامهم، كما لا يماثل ذاته ذاتهم. الْمَلِكُ النافذ أمره ونهيه. الْحَقُّ الثابت في ذاته وصفاته.
سبب النزول: نزول الآية (١١٤) :
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ: أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه جبريل بالقرآن، أتعب نفسه في حفظه، حتى يشق على نفسه، فيخاف أن يصعد جبريل، ولم يحفظه، فأنزل الله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ الآية. وثبت في الصحيح عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يعالج من الوحي شدة، فكان مما يحرك به لسانه، فأنزل الله هذه الآية. يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه من شدة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه.
المناسبة:
كما أنزل الله آيات الوعيد من أهوال يوم القيامة، أنزل القرآن كله بلغة عربية مبينة، ليفهمه العرب، ثم أبان تعالى نفع هذا القرآن للناس بالتحصن بالتقوى والاتعاظ والاعتبار بهلاك الأمم المتقدمة، وأنه سبحانه متصف بصفات الكمال ومنزه عن صفات النقصان، وأنه ضامن غرس القرآن في صدر نبيه، وصونه عن النسيان والسهو.
التفسير والبيان:
وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أي ومثل ذلك الإنزال لآيات الوعد
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ، لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً أي وبينا فيه أنواع الوعيد تخويفا وتهديدا، كي يخافوا الله، فيتجنبوا معاصيه، ويحذروا عقابه، أو يحدث لهم في قلوبهم عبرة وعظة يعتبرون بها ويتعظون، ويقبلون على فعل الطاعات.
وبعد تعظيم القرآن عظم تعالى نفسه، فقال:
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ أي تقدس وتنزه الله الملك المتصرف بالأمر والنهي، الثابت الذي لا يزول ولا يتغير عن إلحاد الملحدين، وعما يقول المشركون، فإنه الملك حقا الذي بيده الثواب والعقاب، وحقه وعدله: ألا يعذب أحدا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه، لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي ولا تتعجل أو تبادر إلى قراءة القرآن قبل أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا منه على ما كان ينزل عليه منه، بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده.
ومثله قوله تبارك وتعالى في سورة القيامة: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ
[١٦- ١٩] أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئا.
وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي سل ربك زيادة العلم، روى الترمذي
وابن ماجه والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما، والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار».
أرشدت الآيات إلى ما يلي:
١- نزل القرآن بلغة العرب، فهو فخر وشرف لهم إلى الأبد، كما قال تعالى:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف ٤٣/ ٤٤].
٢- اشتمل القرآن على ما فيه كفاية لجميع مستويات البشر، الأخيار والأشرار، من التخويف والتهديد، والثواب والعقاب، والعبرة والعظة، حتى يخاف الناس ربهم، فيجتنبوا معاصيه، ويحذروا عقابه.
٣- عظم الله القرآن وعظم ذاته، فلما عرف تعالى العباد عظيم نعمه، وإنزال القرآن، نزه نفسه عن الأولاد والأنداد، جل الله عن ذلك، فهو الملك المتصرف في الأكوان، الحق، أي ذو الحق، وتقدس لأنه هو حق ثابت دائم لا يتغير، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، وكل شيء منه حق.
٤- علم الله نبيه كيف يتلقى القرآن، قال ابن عباس: كان صلى الله عليه وآله وسلم يبادر جبريل، فيقرأ قبر أن يفرغ جبريل من الوحي، حرصا على الحفظ، وشفقة على القرآن مخافة النسيان، فنهاه الله عن ذلك، وأنزل: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ. وهذا كقوله: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة ٧٥/ ١٦].
٥- أمر الله نبيه بأن يدعو بقوله: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي فهما. قال الحسن البصري: نزلت في رجل لطم وجه امرأته، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تطلب القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها القصاص، فنزل الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [النساء ٤/ ٣٤] ولهذا قال: وَقُلْ: رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي فهما ومعرفة لأنه صلى الله عليه وآله وسلم حكم بالقصاص وأبى الله ذلك، لكن قال الرازي: وهذا
وفي الآية: الترغيب في تحصيل العلم والترقي فيه إلى ما شاء الله لأن رتبة العلم أعلى الرتب، وبحره واسع لا يحيط به إنسان.
قصة آدم في الجنة وإخراجه منها وإلزامه بالهداية الربانية
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١١٥ الى ١٢٧]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (١١٦) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (١٢١) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (١٢٢) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (١٢٤)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (١٢٧)
أَلَّا تَجُوعَ فِيها الجملة في موضع نصب لأنها اسم إن. وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها إما موضعها النصب بالعطف على أَلَّا تَجُوعَ أي: إن لك عدم الجوع وعدم الظمأ في الجنة، وإما موضعها الرفع بالعطف على الموضع، مثل: إن زيدا قائم، وعمرو، بالعطف على موضع إن.
ومن كسر وإنك فعلى الابتداء والاستئناف، مثل إن الأولى.
البلاغة:
أَعْمى وبَصِيراً بينهما طباق.
فَتَشْقى، تَعْرى، تَضْحى سجع حسن غير متكلف.
أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى فيه ما يسمى قطع النظير عن النظير، ففصل بين الظمأ والجوع، وبين الضحو والكسوة بقصد تحقيق تعداد هذه النعم، ومراعاة فواصل الآيات.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ أي وصيناه وأمرناه ألا يأكل من هذه الشجرة، يقال: عهد إليه:
إذا أمره وأوصاه به، ولام وَلَقَدْ جواب قسم محذوف، وإنما عطف قصة آدم على قوله:
وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ للدلالة على أن أساس بني آدم على العصيان، وأنهم متأصلون في النسيان. مِنْ قَبْلُ من قبل هذا الزمان وقبل أكله من الشجرة وقبل وجود هؤلاء المخالفين.
فَنَسِيَ العهد وتركه ولم يعن به حتى غفل عنه. وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ولم نعلم له تصميما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمده. ونجد من الوجود بمعنى العلم، له مفعولان، والعزم: التصميم على الشيء والثبات عليه.
وَإِذْ قُلْنا أي اذكر حاله في مثل ذلك الوقت، ليتبين لك أنه نسي ولم يكن من أولي العزيمة والثبات. إِبْلِيسَ هو أبو الجن، كان يصحب الملائكة، ويعبد الله معهم. أَبى امتنع عن السجود لآدم، قائلا: أنا خير منه، وهي جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، وهو الاستكبار.
شَجَرَةِ الْخُلْدِ أي التي يخلد من يأكل منها، فلا يموت أصلا. لا يَبْلى لا يفنى ولا يضعف، وهو لازم الخلد. فَأَكَلا مِنْها أي آدم وحواء. فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت لهما عوراتهما من القبل والدبر، وسمي كل منهما سوأة لأن انكشافه يسوء صاحبه. وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي شرعا وأخذا يلزقان ورق التين على سوآتهما ليستترا به. وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ بالأكل من الشجرة. فَغَوى فضل عن الرشد حيث اغتر بقول عدوه. ثُمَّ اجْتَباهُ اصطفاه وقربه إليه بالتوفيق للتوبة. فَتابَ عَلَيْهِ فقبل توبته لما تاب. وَهَدى إلى الثبات على التوبة والأخذ بأسباب العصمة.
اهْبِطا مِنْها أي آدم وحواء من الجنة. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي بعض الذرية عدو للبعض الآخر بالظلم والتحارب والتنافس الشديد على أمر المعاش. فَإِمَّا فيه إدغام نون (إن) الشرطية في (ما) المزيدة. هَدى كتاب ورسول. هُدايَ هدى الوحي الإلهي.
فَلا يَضِلُّ في الدنيا. وَلا يَشْقى في الآخرة.
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي الهداية بكتبي السماوية المذكرة بي والداعية إلى عبادتي.
وأعرض: أي امتنع فلم يؤمن بالذكر. ضَنْكاً مصدر وهو الضيق الشديد، والمعنى هنا: ضيقة.
وَنَحْشُرُهُ أي المعرض عن الذكر الإلهي ومنه القرآن. أَعْمى أي أعمى البصر أو القلب فلم ينظر في البراهين الإلهية، ويؤيد الأول: قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً أي في الدنيا وعند البعث. قالَ أي الأمر كَذلِكَ مثل ذلك فعلت، ثم فسره بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها تركتها ولم تؤمن بها. وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي ومثل تركك إياها- أي الآيات- تترك اليوم في العمى والعذاب. والآيات: الأدلة والبراهين الإلهية.
وَكَذلِكَ أي ومثل جزائنا من أعرض عن الذكر. نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ نعاقب من أشرك وأسرف في الانهماك في الشهوات، والإعراض عن الآيات. وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ بل كذبها وخالفها. أَشَدُّ من عذاب الدنيا وعذاب القبر وضنك العيش والعمى. وَأَبْقى أدوم.
وذلك كقوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد ١٣/ ٣٤].
هذه هي المرة السادسة لذكر قصة آدم في القرآن، بعد البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف.
ومناسبة هذه الآيات لما قبلها أنه بعد أن عظم أمر القرآن، وأبان ما فيه من الوعيد لتربية التقوى والعظة والعبرة، أردفه بقصة آدم، للدلالة على أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم، وأنهم ينسون الأوامر الإلهية، كما نسي أبوهم آدم. ثم ذكر إباء إبليس السجود لآدم للتحذير من هذا العدو الذي أخرج بوساوسه آدم من الجنة، ثم بين جزاء المطيع للهدي الإلهي، وجزاء المعرض عنه، وأنه سيحشر أعمى عن الحجة التي تنقذه من العذاب، بسبب إعراضه في الدنيا عن الآيات البينات التي تهديه إلى سبيل الرشاد.
التفسير والبيان:
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ، فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً أي وو الله لقد وصينا آدم بألا يأكل من الشجرة، فنسي ما عهد الله به إليه، وترك العمل بمقتضى العهد، فأكل من تلك الشجرة، ولم يكن عنده قبل ذلك عزم وتصميم على ذلك إذ كان قد صمم على ترك الأكل، ثم فتر عزمه، عند ما وسوس إليه إبليس بالأكل، فلم يصبر عن أكل الشجرة.
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه، فنسي. والمراد بالعهد: أمر من الله تعالى أو نهي منه، والمراد هنا: عهدنا إليه ألا يأكل من الشجرة ولا يقربها. والآية دليل على أن النسيان وعدم العزم هما سبب العصيان، وأن التذكر وقوة العزم هما سبب الخير والرشد.
ثم ذكر الله تعالى خلق آدم وتكريمه وتشريفه، فقال:
فَقُلْنا: يا آدَمُ، إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ، فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ، فَتَشْقى أي فقلنا له عقب إبائه السجود: يا آدم، إن إبليس عدو لك ولزوجك، فلم يسجد لك وعصاني، فلا تطيعاه، ولا يكوننّ سببا لإخراجكما من الجنة، فتتعب في حياتك الدنيا في الأرض في تحصيل وسائل المعاش كالحرث والزرع، فإنك هاهنا في عيش رغيد هنيء، بلا كلفة ولا مشقة، كما قال تعالى:
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى أي إن لك في الجنة تمتعا بأنواع المعايش، وتنعما بأصناف النعم من المآكل الشهية والملابس البهية، فلا تجوع ولا تعرى، ولا تعطش في الجنة، ولا يؤذيك الحرّ، كما يكون لسكان الأرض، فإن أصول المتاعب في الدنيا: هي تحصيل الشبع (ضد الجوع) والكسوة (ضد العري) والريّ (ضد الظمأ) والسكن (ضد العيش في العراء أو تحت حرّ الشمس).
ويلاحظ أن نعم الجنة كما جاء في الآية لا عناء فيها في هذه الأصول الأربعة، فلا جوع فيها ولا عري ولا ظمأ ولا إصابة بحرّ الشمس. فأيهما يفضل العقلاء: ما فيه تعب وعناء أو ما ليس فيه تعب؟! وبعد بيان مدى تكريم آدم وتعظيمه وتحذيره من عدوه، أبان تعالى تورطه في وسوسة الشيطان، فقال:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ، قالَ: يا آدَمُ، هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ
أي قال الشيطان لآدم بنوع من الخفية: ألا أرشدك إلى شجرة الخلد: وهي الشجرة التي من أكل منها لم يمت أصلا، وإلى ملك دائم لا يزول ولا ينقضي. وكان ذلك كذبا من إبليس ليستدرجهما إلى معصية الله تعالى:
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف ٧/ ٢١] فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ [الأعراف ٧/ ٢٢].
جاء في الحديث ذكر شجرة الخلد، أخرج الإمام أحمد وأبو داود الطيالسي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام، ما يقطعها، وهي شجرة الخلد».
فَأَكَلا مِنْها، فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى أي فأكل آدم وحواء من الشجرة التي منعا من الأكل منها، فانكشفت عورتهما وسقط عنهما لباسهما، فشرعا يلصقان عليهما ويلزقان ورق التين، فيجعلانه على سوآتهما، وعصى آدم ربه أو خالف أمر ربه بالأكل من الشجرة المنهي عن الآكل منها، فضلّ عن الصواب، وفسد عليه عيشه.
ولا شك بأن مخالفة الأمر الواجب معصية، وأن الجزاء حق وعدل بسبب المعصية، لكنها معصية من نوع خاص بترتيب وتدبير وإرادة الله عز وجل، وفي حال نسيان آدم عهد الله إليه بألا يأكل من الشجرة،
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «حاجّ موسى آدم، فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم: يا موسى، أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، أتلومني على أمر كتبه الله عليّ، قبل أن يخلقني، أو قدره الله علي قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: فحجّ آدم موسى».
ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ، فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى أي ثم اصطفاه ربه وقرّبه إليه، بعد أن تاب من المعصية واستغفر ربه منها، وأنه قد ظلم نفسه، فتاب الله عليه من معصيته، وهداه إلى التوبة وإلى سواء السبيل، كما قال تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ، فَتابَ عَلَيْهِ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة ٢/ ٣٧] وقال هو وزوجه: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف ٧/ ٢٣].
قالَ: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً، بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي قال الله تعالى لآدم وحواء: انزلا من الجنة إلى الأرض معا، بعضكم يا معشر البشر في الدنيا عدو لبعض في أمر المعاش ونحوه، مما يؤدي ذلك إلى وقوع الخصام والنزاع والاقتتال.
فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً، فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ، فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى أي فإن يأتكم أيها البشر مني هدى بواسطة الأنبياء والرسل وإنزال الكتب، فمن اتبع الهدى، فلا يضل عن الصواب في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. قال ابن عباس: «ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن، وعمل بما فيه، ألا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، وتلا الآية». وقال أيضا: «من قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب، ثم تلا الآية».
وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً أي ومن أدبر عن ديني وتلاوة كتابي والعمل بما فيه، فإن له في هذه الدنيا عيشا ضيقا، ومعيشة شديدة منغصة، إما بشح المادة وإما بالقلق والهموم والأمراض.
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أي ونحشره ونبعثه في الآخرة مسلوب البصر، أو أعمى عن الجنة وطريق النجاة، أو أعمى البصر والبصيرة، كما قال
قالَ: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً؟ أي قال المعرض عن دين الله: يا ربّ، لم حشرتني أعمى، وقد كنت مبصرا في دار الدنيا؟
فأجابه الله تعالى:
كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا، فَنَسِيتَها، وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى أي مثل ذلك فعلت أنت، فكما تركت آياتنا وأعرضت عنها ولم تنظر فيها، تترك في العمى والعذاب في النار، ونعاملك معاملة المنسي، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا [الأعراف ٧/ ٥١] فإن الجزاء من جنس العمل.
قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه، فليس داخلا في هذا الوعيد الخاص، وإن كان متوعدا عليه من جهة أخرى، فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك.
أخرج الإمام أحمد عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من رجل قرأ القرآن، فنسيه إلا لقي الله يوم يلقاه، وهو أجذم» «١».
وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ، وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى أي وهكذا نجازي ونعاقب المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة، ولعذاب الآخرة في النار أشد ألما من عذاب الدنيا، وأدوم عليهم، فهم مخلدون فيه. قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ، وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ
[الرعد ١٣/ ٣٤].
دلت قصة آدم عليه السلام على ما يلي:
١- قد يرتكب الإنسان معصية مخالفا أمر الله في حال النسيان والسهو عن عهد الله بطاعته، والنسيان مرفوع عنا الحرج والإثم فيه. قال ابن زيد: نسي آدم ما عهد الله إليه في ذلك اليوم، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.
٢- أمر الله تعالى الملائكة بالسجود لآدم سجود تحية وتشريف وتكريم، لا سجود عبادة، وأبى إبليس السجود مع الملائكة تكبرا واستعلاء وحسدا.
٣- لا شك بأن الجنة ذات نعيم مطلق، فلا تعب ولا عناء في الحصول على الملذات والرغبات، ومن أهمها الشبع والكساء والري والسكن أو المأوى، على عكس حال الدنيا التي ترتبط أصول المعايش هذه فيها بالجهد والمشقة.
٤- كانت وسوسة الشيطان لآدم بالأكل من الشجرة سببا في المخالفة والإخراج من الجنة والهبوط إلى الأرض.
٥- لا يجوز الحديث عن ذنوب الأنبياء إلا بالقدر المذكور في القرآن الكريم أو السنة النبوية الثابتة، قال بعض العلماء من المالكية: إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم (أي بعض الأنبياء) ونسبها إليهم، وعاتبهم عليها، وأخبروا بذلك عن نفوسهم، وتنصّلوا منها، واستغفروا منها وتابوا، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها، وإن قبل ذلك آحادها، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور، وعلى جهة الخطأ والنسيان، أو تأويل دعا إلى ذلك، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم، وعلو أقدارهم إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس، فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة.
٦- أما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة، فإن العلماء أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم، فيقول: تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت، وقد قدّر الله علي ذلك. والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه، ولوم المسيء على إساءته، وتعديد ذنوبه عليه «٢».
٧- لقد اجتبى الله تعالى آدم وهداه بعد العصيان، فإن وقع هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب لأن قبل النبوة لا شرع علينا في تصديقهم، وإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه، لم يضر ما سلف منهم من الذنوب.
٨- أمر الله تعالى آدم وزوجه حواء بالهبوط إلى دار الدنيا، والدنيا دار تكليف وتنافس وتزاحم ومعاداة، وسبيل التقويم والتميز: الالتزام بهداية الله، فمن اهتدى بهداية الرسل والكتب الإلهية فقد رشد، ولا يضل عن الصواب، ولا يشقى في الآخرة.
ومن أعرض عن دين الله، وتلاوة كتابه، والعمل بما فيه، كان له عيش ضيق مشحون بالعذاب النفسي والجسدي والعقلي، ويحشر يوم القيامة أعمى البصر والبصيرة، لا يدرك طريق النجاة، ويزج به في عذاب جهنم.
(٢) المصدر السابق: ١١/ ٢٥٧.
وهكذا يعاقب كل من أعرض عن القرآن، وعن النظر في مصنوعات الله، والتفكر فيها، وجاوز الحد في المعصية، ولم يصدق بآيات ربه، علما بأن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا حال الحياة أو في القبر، وأدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
الاعتبار بهلاك الأمم الماضية والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم وأمر الأهل بالصلاة
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٢٨ الى ١٣٢]
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (١٣٠) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (١٣٢)
الإعراب:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ فاعل يَهْدِ مقدر، وهو المصدر، أي: أفلم يهد لهم الهدى أو الأمر.
وكَمْ في موضع نصب ب أَهْلَكْنا وهو مفعول مقدم، أي كم قرية. وكَمْ خبرية. ويَمْشُونَ جملة حال من ضمير لَهُمْ
وَأَطْرافَ النَّهارِ معطوف على محل مِنْ آناءِ.
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا منصوب لثلاثة أوجه: الأول- بتقدير فعل دل عليه مَتَّعْنا الذي هو بمنزلة جعلنا فكأنه قال: وجعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا. والثاني- النصب على الحال، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين، مثل قُلْ: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص ١١٢/ ١- ٢] والْحَياةِ بدل من ما في قوله إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أي: ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة، أي في حال زهرتها. والثالث- النصب على البدل من هاء بِهِ على الموضع، كما يقال: مررت به أباك.
البلاغة:
زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا تشبيه تمثيلي، شبه متاع الحياة الدنيا ونعيمها بالزهر الجميل الذي يذبل وييبس.
المفردات اللغوية:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ أي أفلم يتبين لهم- لكفار مكة- العبر. كَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا إهلاكنا. الْقُرُونِ الأمم الماضية، لتكذيب الرسل. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يسيرون فيها، ويشاهدون آثار إهلاكهم أثناء سفرهم إلى الشام وغيرها، فيعتبروا لَآياتٍ لعبرا. لِأُولِي النُّهى لذوي العقول.
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ أي هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمة إلى الآخرة.
لَكانَ لِزاماً لكان الإهلاك لازما لهم في الدنيا، لا يتأخر عنهم. وَأَجَلٌ مُسَمًّى معطوف على كَلِمَةٌ أي ولولا الوعد بتأخير العذاب وأجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة، أو يوم القتل في المعركة في الدنيا كبدر، لكان العذاب لازما. ويجوز عطف وَأَجَلٌ على ضمير لَكانَ المستتر، أي لكان الأخذ العاجل والأجل المسمى لازمين لهم.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ اشتغل بتنزيه الله وتعظيمه مقترنا بحمده، أو: صلّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه. قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صلاة الصبح. وَقَبْلَ غُرُوبِها صلاة الظهر والعصر أو العصر وحده. وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ ساعاته، جمع إنى وإنو. فَسَبِّحْ صل المغرب والعشاء. وَأَطْرافَ النَّهارِ أي صل الظهر لأن وقتها يدخل بزوال الشمس، فهو طرف
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي لا تطيلن نظر عينيك رغبة واستحسانا إلى ما في أيدي الآخرين من متع الدنيا، وتتمنى أن يكون لك مثله. أَزْواجاً أصنافا وأشكالا. زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا زينتها وبهجتها. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبتليهم ونختبرهم فيه. وَرِزْقُ رَبِّكَ أي ما ادّخره لك في الآخرة، أو ما رزقك من الهدى والنبوة. خَيْرٌ مما منحهم في الدنيا. وَأَبْقى أدوم لا ينقطع. وَاصْطَبِرْ اصبر وداوم عليه. لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً لا نكلفك أن ترزق نفسك ولا أهلك. نَحْنُ نَرْزُقُكَ وإياهم، ففرغ بالك لأمر الآخرة. وَالْعاقِبَةُ المحمودة وهي الجنة.
لِلتَّقْوى لأهل التقوى أو لذويها.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى حال من أعرض عن ذكر الله، في الآخرة، أتبعه بما هو عبرة للناس من أحوال المكذبين بالرسل في الدنيا، كقوم عاد وثمود، ثم أبان فضله تعالى بتأخير العذاب عن الكافرين والعصاة إلى الآخرة، ثم أمر الله نبيه بالصبر على أذى المشركين، وبمداومة الصلاة والتسبيح ليلا نهارا، ونهاه عن تمني ما عند الكفار من متع الدنيا، ثم أمره بأن يأمر أهل بيته أو التابعين له من أمته بالصلاة،
روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا أصاب أهله ضر، أمرهم بالصلاة، وتلا هذه الآية.
التفسير والبيان:
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ، كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى أي أفلم يتبين لهؤلاء المكذبين أهل مكة بما جئتهم به يا محمد إهلاكنا كثيرا من الأمم الماضية المكذبين بالرسل قبلهم، فبادوا ولم يبق لهم أثر، كعاد وثمود وأصحاب الحجر وقرى قوم لوط الذين يتقلبون في ديارهم أو يمشون في مساكنهم، ويشاهدون آثارهم المدمرة، فإن في ذلك لعبرا وعظات
ونظير الآية قوله تعالى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ، فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ، وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج ٢٢/ ٤٦] وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ [السجدة ٣٢/ ٢٦].
ثم بيّن الله تعالى سبب تأخير العذاب عنهم، فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً، وَأَجَلٌ مُسَمًّى أي ولولا الكلمة السابقة النافذة من الله في الأزل، وهي وعد الله سبحانه بتأخير عذاب أمة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الدار الآخرة، لكان عقاب ذنوبهم لازما لهم، لا ينفك عنهم بحال، ولا يتأخر، ولولا الأجل المسمى عندنا لكان الأخذ العاجل.
لهذا قال الله لنبيه مسليا له وآمرا له بالصبر:
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى أي فاصبر أيها الرسول على ما يقول هؤلاء المكذبون بآيات الله، من أنك ساحر كذاب، أو مجنون، أو شاعر، ونحو ذلك من أباطيلهم ومطاعنهم، لا تأبه بهم، فإن لعذابهم وقتا معينا لا يتقدم، واشتغل بتنزيه ربك وحمده وشكره وأداء الصلوات الخمس المفروضة قبل طلوع الشمس، أي صلاة الفجر، وقبل غروبها، أي صلاة العصر والظهر، ومن ساعات الليل أي صلاة العشاء والمغرب والتهجد أواخر الليل، وفي أطراف النهار، أي صلاة الفجر والمغرب تأكيدا لهاتين الصلاتين الواقعتين في طرفي النهار، كالتأكيد على (الصلاة الوسطى) وهي العصر، سبّحه رجاء أن
أخرج الإمام أحمد ومسلم عن عمارة بن رؤيبة، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها».
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا عن صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فافعلوا، وقرأ هذه الآية».
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يقول الله تعالى: يا أهل الجنة فيقولون: لبّيك ربنا وسعديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ربّنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: إني أعطيكم أفضل من ذلك، فيقولون: وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا».
دلت الآية على أن سبيل التغلب على تكذيب المكذبين الكافرين المعاندين هو الصبر لما فيه من قوة الإرادة، ثم التسبيح والتحميد والصلاة والتكبير باعتبارها مقوية للروح والصلة بالله تعالى، فنزول عن النفس والجسد المتاعب والآلام والهموم.
والاستعلاء بالروح يستتبع الانصراف عن متع الحياة الدنيا، لذا قال تعالى:
وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ولا تنظر أو لا تطل النظر إلى ما عند هؤلاء المترفين من النعيم ومتع الدنيا من زينة وبهجة من مال وبناء ورياش ومراكب، فإنما هو زهرة زائلة، ونعمة حائلة، لنختبرهم بذلك، ونتعرف على من يؤدي
ثم أمره الله بأن يأمر أهله بالصلاة، فقال:
وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها، لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً، نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى أي وأمر أيها الرسول أهل بيتك واستنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة، واصبر أنت على فعلها وحافظ عليها، لا نطلب منك رزقا ترزق نفسك وأهلك ولا نكلفك الطلب، بل تفرغ للعبادة والتقوى، فنحن نرزقك ونرزقهم: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات ٥١/ ٥٨]، والعاقبة المحمودة، وهي الجنة لأهل التقوى والطاعة.
فإذا أقمت الصلاة مع أهلك، أتاك الرزق من حيث لا تحتسب، كما قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق ٦٥/ ٢- ٣]. وأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وأهله بالصلاة أمر للأمة قاطبة.
أخرج مالك والبيهقي عن أسلم قال: كان عمر بن الخطاب يصلي من الليل ما شاء الله تعالى أن يصلي حتى إذا كان آخر الليل، أيقظ أهله للصلاة ويقول لهم: الصلاة الصلاة، ويتلو هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني وأبو نعيم في الحلية عن
وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «يقول الله تعالى: يا ابن آدم، تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى، وأسدّ فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلا، ولم أسدّ فقرك».
وروى ابن ماجه عن ابن مسعود، سمعت نبيكم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم في أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديته هلك».
وروى أيضا عن زيد بن ثابت، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم يقول: «من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- يعظ الله تعالى الكفار بأن يعتبروا بأحوال الأمم الماضية الذين أهلكهم لتكذيبهم الرسل، فلربما حل بهم من العذاب مثلما حل بالكفار قبلهم.
٢- لولا الحكم السابق من الله في الأزل بتأخير عذاب أمة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى يوم القيامة، لكان العذاب لازما في الحال لمن كفر وأعرض عن آيات الله تعالى.
٣- الصبر علاج حاسم على أذى الكفار المناوئين دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لذا أمر الله تعالى نبيه بالصبر على أقوالهم: إنه ساحر، إنه كاهن، إنه كذاب، ونحو ذلك، وألا يحفل بهم فإن لعذابهم وقتا محددا معينا لا يتقدم ولا يتأخر.
٥- إن أداء الصلوات في أوقاتها من رضوان الله، وسبب للثواب العظيم، وقد جعل تعالى الثواب واسعا غير محدود على فعل الصلوات، فقال مخاطبا نبيه، وأمته مثله: لَعَلَّكَ تَرْضى أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به.
٦- إن همّ المؤمن أصالة هو العمل للآخرة، وأما الدنيا فهي تبع لهذا المقصد الأصلي، على عكس الحال بالنسبة للكفار، فلا همّ لهم إلا الدنيا، لذا نهى الله نبيه عن تمني مثل ما لدى الكفار من زهرة الحياة الدنيا من المال والمباني والأثاث والمراكب وغيرها، فهذا ابتلاء واختبار لهم، ليكون جحودهم ونكرانهم نعم الله سببا لعذابهم في الآخرة.
ويلاحظ التسلسل المنطقي في هذه الأحكام والآيات الدالة عليها، فقد وبخ الله تعالى الكفار على ترك الاعتبار بالأمم السابقة، ثم توعدهم بالعذاب المؤجل، ثم أمر نبيه باحتقار شأنهم، والصبر على أقوالهم، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا، إذ ذلك زائل عنهم، صائر إلى خزي.
وختم ذلك بتسلية النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله تعالى: وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى لأنه يبقى والدنيا تفنى.
٧- أمر الله نبيه بأن يأمر أهله بالصلاة وبالمحافظة عليها وملازمتها،
وكان صلّى الله عليه وآله وسلّم بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول: «الصلاة».
وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئا من أحوال السلاطين بادر إلى منزله فدخله، وهو يقرأ: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ.. الآية، ثم ينادي بالصلاة: الصلاة يرحمكم الله.
٨- نهى الله تعالى نبيه أن يشتغل عن الصلاة بسبب الرزق، بل تكفل له برزقه ورزق أهله، فكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل بأهله ضيق، أمرهم بالصلاة، وقد قال الله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ، وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات ٥١/ ٥٦- ٥٨].
٩- إن العاقبة الجميلة المحمودة وهي الجنة لأهل التقوى. وأما عاقبة غيرهم فهي مذمومة كالمعدومة.
اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أو إرسال رسول وتهديدهم بمآل المستقبل
[سورة طه (٢٠) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٥]
وَقالُوايَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
الإعراب:
أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ بغير تنوين مضاف إلى ما. ومن قرأ بتنوين، جعل ما في موضع نصب بدلا من بَيِّنَةُ.
البلاغة:
فَتَرَبَّصُوا وعيد وتهديد.
أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
وَقالُوا أي المشركون. هلا. يَأْتِينا محمد بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ بمعجزة يقترحونها تدل على صدقه في ادعاء النبوة، كناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص، فألزمهم بإتيانه بالقرآن الذي هو أم المعجزات وأعظمها وأتقنها لأن حقيقة المعجزة:
اختصاص مدّعي النبوة بنوع من العلم أو العمل، على وجه خارق للعادة، ولا شك أن العلم أصل العمل وأعلى منه قدرا، وأبقى أثرا، والقرآن محقق لذلك.
ونبههم أيضا على وجه أبين من وجوه إعجاز القرآن: وهو الإخبار عن الأمم السابقة، فقال:
أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى من التوراة والإنجيل وسائر الكتب السماوية، فإن اشتماله على خلاصة ما فيها من العقائد والأحكام الكلية، مع أن الآتي بها أمي، لم يرها ولم يتعلم من علمائها، إعجاز بين وفيه إشعار بأنه كما يدل على نبوته، برهان لما تقدمه من الكتب، من حيث إنه معجز، وهي ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى ما يشهد بصحتها.
فقوله: بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي بيان ما اشتملت عليه، وأخبار الأمم الماضية التي أهلكت بتكذيب الرسل، في القرآن.
مِنْ قَبْلِهِ قبل محمد الرسول. لَقالُوا يوم القيامة. هلا. آياتِكَ المرسل بها. مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ نهان في الدنيا بالقتل والسبي. أو في القيامة. وَنَخْزى نفتضح بدخول النار جهنم يوم القيامة.
قُلْ: كُلٌّ قل لهم: كل واحد منا ومنكم. مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر.
فَسَتَعْلَمُونَ في القيامة. الصِّراطِ السَّوِيِّ الطريق المستقيم. وَمَنِ اهْتَدى من الضلالة، أنحن أم أنتم؟
بعد أن أمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم بالصبر على ما يقوله المشركون، وأمره بأن يعدل إلى التسبيح والتحميد، وأتبع ذلك بنهيه عن مدّ عينيه إلى ما متع به القوم، ذكر هنا بعض أقاويلهم الباطلة، ومنها ادعاؤهم أن القرآن ليس بحجة ولا معجزة تدل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم أوضح لهم أنهم يوم القيامة سيعترفون بأنه آية بيّنة، وأنه لو أهلكناهم لطلبوا إرسال، ثم هددهم وأوعدهم بما سيؤول إليه الأمر في المستقبل، ويتميز المحق من المبطل.
التفسير والبيان:
كان المشركون يكثرون من اقتراح الآيات على النبي للتعجيز والعناد والمضايقة بسبب عدم إيمانهم، وعدم الاكتفاء بالمعجزات التي يرونها، فقال تعالى واصفا تعنتهم:
وَقالُوا: يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ، أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى أي وقال الكفار المشركون: هلا يأتينا محمد بآية من ربه دالة على صدقه في أنه رسول الله، كما كان يأتي بها من قبله من الأنبياء، من الآيات التي اقترحناها عليه؟ مثل ناقة صالح وعصا موسى، وإحياء عيسى الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، فأجابهم الله: ألم يأتهم القرآن المعجزة الباقية الخالدة، وهو البينة والشاهد على صحة ما في الكتب المتقدمة، كالتوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب المنزلة المشتملة على العقيدة والأحكام التشريعية، وفيها التصريح بنبوته والتبشير به، فإن هذه الكتب المنزلة هم معترفون بصدقها وصحتها، وفيها ما يدفع إنكارهم لنبوته، ويبطل تعنتاتهم وتعسفاتهم؟! ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ، وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
[العنكبوت ٢٩/ ٥٠- ٥١].
وفي الصحيحين عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة».
وقد ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو القرآن وإلا فله صلّى الله عليه وآله وسلّم من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر.
وسيعترف المشركون يوم القيامة بأن القرآن آية بينة كما قال تعالى:
وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ، لَقالُوا: رَبَّناأَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى أي ولو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل بعثة هذا الرسول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم وإنزال هذا الكتاب العظيم، لقالوا يوم القيامة: يا ربنا هلا كنت أرسلت إلينا رسولا في الدنيا، حتى نتبع آياتك التي يأتي بها الرسول من قبل أن نذل بالعذاب في الدنيا ونخزى بدخول النار؟ والآية دليل على أن التكليف والعقاب لا يكون قبل مجيء الشرع.
والحق أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون، لا يؤمنون ولو جاءتهم الآيات تترى، كما قال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها، قُلْ: إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ. وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ، كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام ٦/ ١٠٩- ١١٠].
قُلْ: كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ، فَتَرَبَّصُوا، فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى أي قل يا محمد لهؤلاء الذين كذبوك وخالفوك واستمروا على كفرهم وعنادهم: كل واحد منا ومنكم منتظر لما يؤول إليه الأمر، فانتظروا أنتم، فستعلمون عن قريب في عاقبة الأمر، من هو على الطريق الحق المستقيم، أنحن
وهذا كقوله تعالى: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان ٢٥/ ٤٢] وقوله سبحانه: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ [القمر ٥٤/ ٢٦].
والآية التي ختمت بها السورة مشتملة على وعيد وتهديد وزجر للكفار، وهي مناسبة لبدء السورة المتضمن قيام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بتبليغ رسالته حتى أتعب نفسه، وما على أهل البلاغ إلا الطاعة، فإن أطاعوا نجوا، وإن أعرضوا هلكوا، وسيتبين لهم الحق من الباطل، وقد تبين لجماعات كثيرة من الكفار في التاريخ خطؤهم وسوء حالهم وعاقبة كفرهم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- تكاثرت اقتراحات الكافرين من أهل مكة بأن يأتيهم محمد بآية تدل عيانا على الإيمان، أو علامة ظاهرة حسا كالناقة والعصا، أو آيات يقترحونها هم كما أتى الأنبياء من قبله.
٢- كان الرد القرآني الحاسم عليهم أنه يكفيهم هذا القرآن العظيم المعجزة الخالدة، وهو المهيمن على الكتب السماوية السابقة، والمعبر عما كان فيها من عقائد وحكم وأحكام وآداب. بل إن تلك الكتب الماضية تضمنت العلامة الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم بما وجدوه في الكتب المتقدمة من البشارة.
٣- لو أهلك الله الكفار قبل بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ونزول القرآن، لقالوا يوم القيامة: ربنا هلا أرسلت إلينا رسولا، حتى نتبع آياتك من قبل هذا الذل
٤- هدد الله الكفار بما ينتظرهم من العذاب وما يؤول إليه أمرهم، فإن كان كل فريق من المؤمنين والكافرين منتظرا دوائر الزمان ولمن يكون النصر، فسيعلم الكفار أن النصر سيكون لمن اهتدى إلى دين الحق.
[الجزء السابع عشر]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الأنبياءمكية، وهي مائة واثنتا عشرة آية
تسميتها:
سميت سورة الأنبياء لتضمنها الحديث عن جهاد الأنبياء المرسلين مع أقوامهم الوثنيين، بدءا من قصة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بإسهاب وتفصيل، ثم إسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإسماعيل، وإدريس، وذي الكفل، وذي النون: يونس، وزكريا، وعيسى، إلى خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليهم، وذلك بإيجاز يدل على مدى ما تعرضوا له من أهوال وشدائد، فصبروا عليها، وضحوا في سبيل الله، لإسعاد البشرية.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة هذه السورة لما قبلها من ناحيتين:
الأولى:
الإشارة إلى قرب الأجل المسمى للعذاب، ودنو الأمل المنتظر، فقال تعالى في آخر سورة طه: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى ثم قال: قُلْ: كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا وقال تعالى في مطلع هذه السورة:
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ.
التحذير من الاغترار بالدنيا، والعمل للآخرة، فقال تعالى في آخر سورة طه: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا..
فإن قرب الساعة يقتض الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا لدنوها من الزوال والفناء، وختمت سورة الأنبياء بمثل ما بدئت به السورة المتقدمة، فأبان الله تعالى أنه بالرغم من قرب الساعة والحساب، فإن الناس غافلون عنها، ولاهون عن القرآن والاستماع إليه.
فضلها ومزيتها:
ورد في فضل هذه السورة أحاديث صحاح منها:
ما رواه البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: «بنو إسرائيل، والكهف، ومريم، وطه، والأنبياء: هن من العتاق الأول، وهن من تلادي»
أي من قديم ما حفظ من القرآن، كالمال التّلاد.
ولما نزلت هذه السورة قيل لعامر بن ربيعة رضي الله عنه: هلا سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عنها؟ فقال: «نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا».
مشتملاتها:
موضوع السورة بيان أصول العقيدة الإسلامية ومبادئها وهي التوحيد، والرسالة النبوية، والبعث والجزاء، وقد بدأت بوصف أهوال القيامة، ثم ذكرت قصص جملة من الأنبياء الكرام عليهم السلام، كما تقدم.
كانت البداية مرهبة مرعبة، منذرة محذّرة بقرب قيام الساعة، والناس لاهون غافلون عنها وعن خطورة الحساب والعقاب، معرضون عن سماع القرآن، مفتونون بلذائذ الحياة الدنيا.
ثم ناقشهم القرآن في اتخاذهم آلهة من دون الله، وطالبهم بالدليل على ادعائهم، وأقام البرهان على وحدانية الله إذ لو كان في السماء والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، ووصف النشأة الأولى للسموات والأرض، وأنهما كانتا رتقا ففصلتا، وأبان أن الجبال أوتاد للأرض حتى لا تميد بأهلها، وأن الله تعالى خالق الليل والنهار والشمس والقمر، ثم تكون النهاية الموت والفناء لكل شيء، حتى للملائكة والأنبياء، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وأوضح أن استعجال الكافرين العذاب غباء وطلب في غير محله فإن العذاب قريب، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنها تأتيهم بغتة فتبهتهم، وأن موازين الحساب دقيقة وفي أتم عدل، فلا يبخس أحد شيئا من حقه، ولا يظلم إنسان مثقال حبة من خردل.
وتحقيقا لهاتيك الغايات وتأكيدا عليها، جاءت الأمثال الواقعية تنذر وتذكّر، من خلال إيراد قصص بعض الأنبياء كموسى وهارون، وإبراهيم ولوط، وإسحاق ويعقوب، ونوح، وداود وسليمان، وأيوب وإسماعيل، وإدريس وذي الكفل، ويونس وزكريا ويحيى، وعيسى عليهم السلام.
وأثبت القرآن عقب ذلك وحدة مهام الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة الله، وتطمين المؤمنين الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن، وأن الأمم المعذبة في الدنيا سترجع حتما إلى الله في الدار الآخرة لعذاب آخر.