تفسير سورة طه

الهداية الى بلوغ النهاية
تفسير سورة سورة طه من كتاب الهداية الى بلوغ النهاية المعروف بـالهداية الى بلوغ النهاية .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة طه ( مكية )١
١ انظر : مكيتها في تفسير القرطبي ١١/١٦٨..

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة طه (مكية)
قوله تعالى ذكره: ﴿طه * مَآ أَنَزَلْنَا﴾ إلى قوله: ﴿وَمَا تَحْتَ الثرى﴾.
قد قدمت علة الإمالة في هذه الحروف في أول " مريم ".
وأتى أول هذه السورة على غير ترتيب أوائل السور، لأن جميع أوائل السور يحتمل أن يكون ما بعدها خبراً لها، ولا يجوز أن يكون ما بعد " طه " خبراً لها، لأنه نفي، فلذلك تأولوه بمعنى " يا رجل " و " يا إنسان ".
وقيل: هو أمر من وطيء.
وروي عن بعضهم أنه قرأ " طه " بإسكان الهاء. وهي قراءة مروية عن الحسن وعكرمة، وفيها تقديران أحدهما أنه أراد الأمر من وطيء. أي: طأ الأرض. ولكن أبدل من الهزة هاء، كما قالوا: إياك وهياك.
وقيل: إنه إبدل من الهمزة ألفاً، ثم حذف الألف لدلالة الفتح عليها، وأتى بهاء للسكت.
4605
وقيل: الهاء هاء الكناية عن المكان. أي: طأ يا محمد المكان الذي تصلي فيه برجليك، ولا تقف على رجل واحدة، فتتعب. ودل على هذا المعنى قوله: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾ فأسكنت هاء الكناية على نية الوقف، أو على التشبيه بهاء السكت.
وقد قيل: إن الهاء في قراءة الجماعة تعود على الأرض، أي: طأ الأرض يا محمد برجليك في صلاتك، والألف في طأ بدل من همزة ساكنة.
ومن قرأ " طه " بحذف الألف، وإسكان الهاء فهو أمر بالوطء لكنه أبدل من الهمزة ألفاً قبل الأمر، ثم حذف الألف للأمر، والهاء تعود على المكان على ما ذكرنا، أو هي هاء سكت كما ذكرنا، أو هي بدل من همزة ساكنة على ما قدمنا، فهذه ثلاثة أقوال في الهاء في قراءة من قرأ " طه " بحذف الألف، وإسكان الهاء، وروي عن النبي ﷺ أنه قال: " لي عند ربي جلّ وعزّ عشرة أسماء " " فذكر أن منها " طه " و " يس " إسمان له.
4606
قال ابن عباس: " طه " بالنبطية: يا رجل. وهو قول الضحاك.
وقال أبو صالح: هي بالنبطية أيطأ.
وقال ابن جبير: طه بالسريانية: يا رجل. وهو قول قتادة.
وقال عكرمة: " طه " بالنبطية: يا إنسان.
وعن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله تعالى أقسم [الله به].
وهذه الآية نزلت فيما كان النبي ﷺ يصعنه من السهر والتعب والقيام بالليل.
قال الضحاك: كانوا يقومون حتى تتشقق، أقدامهم، فقال المشركون: ما نزل هذا القرآن إلا للشقاء، فأنزل الله تعالى ذكره: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾ ﴿إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى﴾.
4607
أي: ما أنزلناه إلا تذكرة لمن يخشى.
وقيل: كان النبي ﷺ يتعب في صلاته، ويقف على رجل واحدة، فأنزل الله: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾.
قال مجاهد: هذا في الصلاة. قال: هي مثل قوله تعالى: ﴿فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ﴾ [المزمل: ٢٠].
قال قتادة: " أنزل الله كتابه، وبعث رسوله رحمة، رحم بها الله العباد، ليتذكروا، وينتفع رجل بما سمع منه.
ونصب تذكرة على البدل من " لتشقى ".
وقيل: هي مفعول من أجله.
وقيل " نصبها على المصدر.
وقال الكوفيون: هي تكرير.
وقيل: من حروف الهجاء.
وقيل: هي حروف مقطعة، يدل كل حرف منها على معنى، وقد تقدم ذكر ذلك.
4608
وقال الطبري: " طه " يا رجل، لغة معروفة في عك. قال الشاعر:
هَتَفْتُ بِطَهَ فِي الْقِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ فَخِفْتُ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ مُوائِلاَ
وقال آخر:
إنَّ السًَّفاهَةَ طَهَ مِنْ خَلائِقِكُمْ لا بارَكَ اللهُ في الْقَوْمِ الملاَعِينِ
والتقدير على هذا: يا رجل، ما أنزلن عليك القرآن لتشقى بإنزاله عليك. ولا يوقف على " طه " على هذا القول، لأن النداء تنبيه على ما بعده. ومن جعلها افتتاحاً وقف عليها، وهو مذهب أبي حاتم.
ثم ابتدأ فخاطب النبي ﷺ بقوله: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾ وكذلك لا يقف عليها على قول من جعلها قسماً، لأن القسم يحتاج إلى جواب، وجوابه: ﴿مَآ أَنَزَلْنَا﴾.
وأجاز أبو حاتم الوقف على " طا " ويبتدئ ها. وليس عليه عمل عند أهل النقل من المقرئين.
وقيل: تقدير الكلام: ما أنزلنا عليك القرآن إلا تذكرة، لا لتشقى.
4609
ثم قال تعالى: ﴿تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى﴾.
أي: نزلناه تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى. " والعلى " جمع " علياً ": كالفضلى. والفضل.
ثم قال: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾.
أي: على عرشه، ارتفع وعلا.
قال أبو عبيدة: استوى: " علا.
وقال القتبي: استقر.
وقيل: معناها: استولى.
وأحسن الأقوال في هذه " علا " والذي يعتقده أهل السنة، ويقولونه في هذا: إن الله جلّ ذكره، سماواته على عرشه دون أرضه وأنه في كل م كان بعلمه، وله تعالى ذكره كرسي وسع السماوات والأرض كما قال جل ذكره. وكذلك ذكر شيخنا أبو محمد بن أبي زيد C.
4610
وقد سأل رجل مالكاً عن هذا، فقال له: كيف استوى؟ فاحمرت وجنتا مالك، وطأطأ رأسه، ثم رفع رأسه فقال: الاستواء منه غير مجهول، والكيف منه غير معقول، والإيما به واجب والسؤال عنه بدعة، وإني أخاف أن يكون ضالاً. أخرجوه، فأخرج، فناداه الرجل، يا أبا عبد الله، والله الذي لا إله غيره، لقد سألت عن هذه المسألة أهل البصرة، وأهل الكوفة، وأهل العراق، إلى أن وردت عليك، فلم أجد أحداً وفق لما وفقت له.
وروي أن خباب بن الأرت قرأ " طه " على عمر بن الخطاب إلى قوله: " فتردى " فأسلم عمر عند ذلك.
و" العلى " تمام إن رفعت " الرحمن على الابتداء، أو على إضمار مبتدأ، فإن جهلته بدلاً من الضمير في " خلق " لم تقف عليه.
و" أستوى " تمام إن جعلت " الرحمن " بدلاً من الضمير في " خلق " أو على إضمار مبتدأ، فإن جعلت " له ما في السموات " في موضع خبر الرحمن، لم تقف على استوى.
ثم قال: ﴿لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا﴾.
أي: هو يملك ذلك كله ويدبره/.
4611
وقوله: ﴿وَمَا تَحْتَ الثرى﴾: الثرى: التراب المبتل الندي يعني: وما تحت الأرضين السبع.
وقال محمد بن كعب: الثرى: سبع أرضين.
وقال ابن عباس: الأرض على نون، ونون على البحر، والبحر على صخرة وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قوله: ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات﴾ [لقمان: ١٦] والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، وما يعلم ما تحت الثرى إلا الله.
وروي عن وهب بن منبه أنه قال: على وجه الأرض سبعة أبحر والأرضين سبعة بين كل أرضين بحر، فالبحر الأسفل مطبق على شفير جهنم، ولولا عظم ذلك البحر، وكثرة مائة وبرده، لأحرقت جهنم كل شيء فوقها. قال: وجهنم على متن الريح ومتن الريح على حجاب من ظلمة لا يعلم غلظه إلا الله، وذلك الحجاب على الثرى، وإلى الثرى انتهى علم الخلائق، لا يعلك ما تحت الثرى إلا الله.
وقال الضحاك: الأرض السابعة على الحوت، والحوت على الماء، والماء على الصخرة، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، ولا يعلم ما تحت الثرى إلا الله.
4612
وسئل كعب ما تحت الأرض؟ قال ماء، قيل: فما تحت الماء؟ قال أرض. قيل فما تحت الأرض؟ قال: ماء، حتى بلغ سبع أرضين. قيل: له: لما تحت الأرض السابعة. قال: ماء. قيل فما حت الماء. قال صخرة، قيل فما تحت الصخرة؟ قال: هي على منكب ملك. قيل: فما تحت الملك؟ قال: هو قائم على وسط حوت معلق طرفاه بالعرش. قيل له: فما تحت الحوت قال: هواء وظلمات وانقطع العلم.
وروى ابن وهب عن رجاله أن كعب الأحبار قال: إن إبليس يقلقل للحوت الذي على ظهره الأرض كلها. قال: فألقى في قلبه. فقال: هل تدري ما على ظهرك يا لوبيا من الأمم والشجر والدواب والناس والجبال، لو هضتهم فألقيتهم عن ظهرك كلهم. قال: فهم لوبيا يفعل ذلك، فبعث الله تعالى دابة، فدخلت في منخره حتى دخلت في دماغه فعج إلى الله منها، فخرجت. قال: وكان كعب يقول: والذي نفسي بيده، إنه لينظر إليها، بين يديه وتنظر إليه، إن همَّ بشيء من ذلك عادت حيث كانت.
وروى عاصم عن زر عن ابن مسعود أنه قال: ما بين سماء الدنيا والتي تليها
4613
مسيرة خمس مائة عام، وما بين سماء إلى سماء مسيرة خمس مائة عام، وما بين السماء السابعة والكرسي خمسة مائة عام، وما بين الكرسي وبين الماء مسيرة خمس مائة عام، والعرش فوق ذلك، والله جل ذكره فوق العرِِش.
وعن ابن عباس: أيضاً أنه قال: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمس مائة عام، وذكر أن خطوة ملك الموت ما بين المشرق والمغرب.
قوله تعالى: ﴿وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى﴾.
أي: وإن تجهر بالقول يا محمد، فإن الله تعالى يعلم ما أسررت في نفسك، وأخفى منه.
قال الحسن ومجاهد وعكرمة: " السر ": ما أسررته إلى غيرك، " وأخفى " ما حدثت به نفسك.
وقال الضحاك: " السر " ما حدثت به نفسك، و " أخفى " ما لم تفعله وأنت فاعله "، وكذلك، روي عن ابن عباس.
قال ابن عباس: و " أخفى " ما تعمل غداً.
4614
وقال ابن جبير: " السر ": ما أسره الإنسان في نفسه، " وأخفى ": ما لم يعلم الإنسان مما هو كائن.
وقيل: معنى: " وآخفى ": ما ليس في نفس الإنسان. وسيكومن ذلك في نفسه، فهو لا إله إلا هو يعلم ما سيجري في نفس الإنسان قبل أن تجري.
وقال ابن زيد: " يعلم السر " أسرار العباد وأخفى سره. وقاله أبوه زيد بن أسلم. أي: يعلم سر عباده، وأخفى سره، فلا يعلمه أحد جلّ وعزّ، وهذا اختيار النحاس. وأنكر هذا القول الطبري.
وقوله: ﴿يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى﴾، أتى على غير ظاهر، جواب قوله: " وإن تجهر بالقول، إنما هو جواب لمن قيل له وأن تستر بالقول، فإن الله يعلم السر وأخفى، ولكنه محمول على المعنى، كأنه قال: ما حاجتك إلى الجهر، والله يعلم السر وأخفى من السر.
ثم قال: ﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى﴾.
من جعل الله بدلاً من الضمير في " يعلم " لم يقف على " أخفى "، ومن جعله مبتدأ، وقف على أخفى.
4615
أي: معبودكم واحد، لا معبود غيره، ولا إله إلا هو ﴿لَهُ الأسمآء الحسنى﴾ /. هي تسعة وتسعون أسماً على ما روي عن النبي ﷺ، وفي ألفاضها اختلاف.
قال النبي ﷺ: " لله تسعة وتسعون اسماً: مائة إلا واحدة من أحصاها دخل الجنة " أي: من حفظها.
وقيل: من آمن بها.
وقيل: من قالها معتقداً لصحتها.
ثم قال تعالى ذكره ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى﴾ ﴿إِذْ رَأَى نَاراً﴾.
معناه: أن الله يخبر نبيه ﷺ بما مضى من أخبار الأنبياء عليهم السلام قبله، وما مضى عليهم ليتعزى بذلك مما يناله من قريش.
ذكر: أن موسى عليه السلام أضل الطريق في شتاء ليلاً، فلما رأى ضوء النار، قال لأهله: امثكوا لعلي أتكيم بخبر نهتدي به على الطريق أو آتيكم بقبس توقدونه في هذا البرد.
قال ابن عباس: لما قضى موسى الأجل، سار بأهله فضل الطريق.
قال وهب بن منبه: لما قضى موسى الأجل.
خرج ومعه غنم له، ومعه زندله وعصاه في يده، يهش بها على غنمه نهاراً، وإذا أمسى اقتدح ناراً فبات عليها وأهله وغنمه، فإذا أصبح غدا بغنمه وبأهله يتوكأ على عصاه، فلما كان الليلة التي أراد الله
4616
جلّ وعزّ بموسى كرامته، وابتدأه فيها بنبوته، أخرج زنده ليقدح ناراً لأهله ليبيتوا عليها ويصبح ويعلم وجه سبيله، فقدح حتى إذا أعياه لاحت النار فرآها. ﴿فَقَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً﴾، أي أبصرتها، لعلي آتيكم منها... الآية...
وقيل: معنى: " آنست " علمت ووجدت.
و" القبس " النار في طرف العود أو قصبة.
﴿أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى﴾.
أي: دلالة تدلني على الطريق، قاله ابن عباس.
وقال مجاهد: " هدى " أي: هادياً يهدي إلى الطريق.
وقال وهب: " أو أجد على النار هدى " أي: علماً من أعلام الطريق يدلني عليه.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ ياموسى * إني أَنَاْ رَبُّكَ﴾ إلى قوله: ﴿بِمَا تسعى﴾.
أي: فلما أتى النار موسى، ناداه ربه: يا موسى، إني أنا ربك فاخلع نعليك.
قال وهب: خرج موسى نحو النار، فإذا هي في شجرة من العليق. (وبعض
4617
أهل الكتاب يقول في عوسجه] فلما دنا، استأخرت عنه، فلما رأى تأخرها عنه، رجع وأوجس في نفسه خيفة، فلما أراد أن يرجع دنت منه ثم كلم من الشجرة، فلما سمع الصوت، استأنس فقال له الله ﴿فاخلع نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى﴾ فخلعهما وألقاهما.
قال كعب: " كانتا من جلد حمار ميت، فأمر بخلعهما، وأراد الله أن يمسه القدس، وكذلك قال عكرمة وقتادة.
وكذلك روي عن النبي ﷺ أنه قال: " كانت على موسى يوم كلّمه الله جبة صوف، وكساء صوف، وسراويل صوف، ونعلاه من جلد حمار غير ذكي ".
وقال الحسن: كانتا من جلد بقر، ولكن الله تعالى أراد أن يباشر بقدميه بركة الأرض. وكان قد قدس الوادي مرتين. وكذلك قال ابن جريج. وهذا القول اختيار الطبري، لأن الحديث لم يصح عن النبي ﷺ أنهما من جلد حمار غير ذكي.
وقوله: ﴿إِنَّكَ بالواد المقدس طُوًى﴾.
أي: المطهر.
4618
وقال ابن عباس: " المقدس ": المبارك.
وقال مجاهد: ﴿المقدس طُوًى﴾: بورك فيه مرتين.
ويروى أن موسى ﷺ لما خرج من مدين ومعه امرأته بنت شعيب ريد مصر أخطأ الطريق، وكان ﷺ رجلاً غيوراً، فكان يصحب الناس بالليل، ولا يصحبهم بالنهار، فأخطأ الطريق عند انفراده لما سبق في علم الله من أمره. فرأى ناراً. فقال لأهله امكثوا، إني أبصرت ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. أي: من يهديني إلى الطريق، وكانت ليلة مظلمة، فلما توجه نحو النار فإذا النار في شجر عناب، فوقف متعجباً من ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة. فلا شدة النار تغيّر خضرة تلك الشجرة، ولا كثرة ماء الشجرة يغيّر حسن ضوء النار. فلما أتى الشجرة سمع النداء، يا موسى، إني أنا ربك، فاخلع نعليك، وكانتا من جلد حمار ميت.
وقال ابن عباس/: في معنى " طوى " أن موسى طواه الليل إذا مر به فارتفع إلى
4619
أعلى الوادي.
فيكون على هذا مصدراً عمل فيه ما هو من غير لفظه. كأنه قال: إنك يا موسى بالواد الذي طويته طوى: أي: تجاوزته فطويته بسيرك.
وقال قتادة: معناه: قدس مرتين، أين طهره وهو قول الحسن.
وقال مجاهد وابن أبي نجيج: " طوى " اسم الوادي.
وروي ذلك أيضاً عن ابن عباس. وقاله ابن زيد.
وعن ابن عباس: أنه أمر من الله تعالى لموسى أن يطأ الوادي بقدمه. فالمعنى: اخلع نعليك. طأ الوادي.
وقال ابن جبير: معنه: طأ الأرض حافياً كما تدخل الكعبة حافياً. وكذلك روي أيضاً عن مجاهد.
ومن فتح الهمزة في " إني أنا " فعلى تقدير: " نودي بأني ". ومن كسرها فعلى الاستئناف، لأن النداء وقع على موسى فاستؤنفت " إن بعده، فكسرت.
4620
وقيل: كسرت لأنها حكاية بعدها.
معناه: القول، لأن نؤدي مثل قيل.
ومن صرف " طوى " جعله اسما للوادي مذكراً، فصرفه، وجعله مصدراً.
والأكثر في المصدر من هذا أن يكون مكسور الأول مثل ثنى. ومن لم يصرفه جعله اسماً للبقعة.
وقيل: هو معدول عن طاوي. كعمر، معدول عن عامر، وقد ذهب الكسائي في صرفه إلى أنه صرف لخفته. وكان حقه ألا ينصرف. ولكن سمع صرفه من العرب. وعلقة صرفه قلة حروفه وخفته.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَأَنَا اخترتك فاستمع لِمَا يوحى﴾.
أي: وأنا اجتبيتك لرسالتي، فاستمع لما يوحى وَعِهِ بقلبك، واعمل به.
﴿إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني﴾.
أي: إني أنا المعبود، لا معبود غيري يستحق العبادة فاعبدني.
﴿وَأَقِمِ الصلاة لذكري﴾، أي: أقم الصلاة فإنك إذا أقمتها ذكرتني. فتقديره: أقم الصلاة، لأن تذكرني بها، هذا معنى قول مجاهد.
وقيل: معناه: أقم الصلاة حين تذكرها.
4621
ورو ى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال: " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها "، قال الله تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصلاة لذكري﴾ وزاد فيه قتادة " لا كفارة لها إلا ذلك ".
وقيل: المعنى: أقم الصلاة لأن أذكرها بالمدح.
وقيل: المعنى: أقم الصلاة إذا ذكرتني.
وقيل: المعنى: أقم الصلاة لتذكرني فيها.
وشاهده أن ابن عباس وأبا عبد الرحمن السلمي قرآ: ﴿وَأَقِمِ الصلاة لذكري﴾ بلامين، مشددة الذال. أي: لتذكرني فيها.
وقرأ الأعرج وأبو رجا والشعبي: " لِذِكْرَاً " أبدلوا من الياء ألفا. كما
4622
يقال: يا غلاماً.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا﴾. أي: إن القيامة جائية أكاد أسترها.
وقال ابن عباس معناه: لا أظهر عليها غيري.
وقال مجاهد وابن جبير: أكاد أخفيها من نفسي. وقاله قتادة والضحاك.
وقرأ ابن جبير بفتح همزة " أخفيها ". وكذلك روى عن مجاهد والحسن، بمعنى أظهرها. يقال خفيت الشيء وأخفيته بمعنى: أظهرته. ومنه قيل للنباس المختفي، لأنه يظهر الموتى ويقال: أخفى بمعنى ستر. هذا هو المشهور في كلام العرب. وإنما حسن أن تتأول الآية في قراءة من ضم الهمزة على أخفيها من نفسي - والله لا يخفى عليه شيء - لأنه تعالى خاطب العرب ما ما تعرف، وتستعمل فيما بينها من المخاطبات.
وقد كان الرجل منهم إذا تبالغ في الخبر على إخفاء شيء هو له مسر، قال: كدت أخفيه من نفسي. فخوطبوا على أبلغ ما يعقلون.
وقيل: إن: " كاد " بمعنى أريد. وذلك معروف اللغة. فيكون المعنى أريد أخفيها. أي أسترها لتجزي كل نفس بما تسعى.
وقيل: إن تمام الكلام " أكاد " أي: أكاد أن آتي بها، ثم ابتدأ فقال أخفيها أي: ولكني أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى.
4623
وقيل: أكاد زائدة. وهو قول الأخفش. قال ومنه قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا﴾ [النور: ٤٠] وإنما هو لم يرها.
وقيل: معنى قول من قال: معناها أكاد أخفيها من نفسي، أي من قِبلي ومن عندي.
وقيل: إن المعنى أن الله تعالى قد أرسل الرسل بخبر أن الساعة آتية، وكذب بها الأمم فقال: " أكاد أخفيها " أي: أكاد لا أجعل لها دليلاً، فتأتي بغتة. فلم يخفها تعالى ذكره لأنه قد أرسل الرسل ينذرون الناس ويحذرونهم من قيامها، وإنما احتاج العلماء إلى هذه التأويلات، لأن القائل إذا قال: كدت أخفيه " كان معنى قوله: أنه أظهره، فيجب أن يكون معنى " أكاد أخفيها " أظهرها. وذلك صحيح، لأن الله تعالى قد أظهر علاماتها وأشراطها.
واختار النحاس أن يكون المعنى: أن الساعة آتية أكاد " تم الكلام أي: " أكاد آتي بها. ودل " آتية " على " آتي بها ". ثم قال " أخفيها " على الابتداء. فصح المعنى، لأنه الله تعالى قد أخفى وقتها.
وقوله: ﴿لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى﴾ اللام متعلقة بـ " آتية ".
4624
وقيل: بـ ﴿وَأَقِمِ الصلاة لذكري﴾. أي: لتثاب كل نفس من المكلفين بما تعمل من خير وشر.
و" السعي " العمل. وأجاز أبو حاتم الوقف على " أخفيها ". ويبتدئ بلام ﴿لتجزى﴾ بجعلها لام قسم. وذلك غلط ظاهر.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا﴾ إلى قوله: ﴿سِيَرتَهَا الأولى﴾.
أي: فلا يردنك عن العمل للساعة من لا يؤمن بها. أي: من لا يؤمن بالبعث. ﴿واتبع هَوَاهُ﴾ أي: هوى نفسه، وخالف أمر الله.
﴿فتردى﴾ أي: فتهلك إن فعلت ذلك.
وقيل المعنى: فلا يصدنك يا موسى، عن الإيمان بالساعة من لا يؤمن بها، وهذا خطاب لموسى عليه السلام، والمراد به الجميع.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾.
" ما " لفظها، لفظ الاستفهام، ومعناها [معنى] التنبيه والتثبيت والتقرير لما يريد الله منها من إحالتها عما هي عليه. فإذا نبهه وقرره على حقيقتها، لم يقدر بعد استحالتها وكونها حية أن تقول: كذا كانت.
4625
وقال الزجاج: " تلك هنا موصولة بمعنى التي. أي: وما التي بيمينك.
وقال الفراء: " تلك " بمعنى هذه. يوصلان كما يوصل الذي.
وقوله: ﴿قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا﴾.
أي: اتكىء عليها في قيامي وقعودي.
﴿وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي﴾.
أي: أضرب بها الشجر، فيسقط ورقها فترعاه الغنم. فالمعنى: وأهش بها الورق. يقال: هش الشجر. إذا خبطه بالعصا. قال ذلك قتادة وعكرمة والضحاك وابن زيد.
ثم قال تعالى: ﴿وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى﴾.
أي: ولي في عصاي حاجات أخرى. والمآرب جمع واحدة مأربة ومآربة ومارِبة. بضم الراء وفتحها وكسرها. وهي من قولهم: لا إرب لي في هذا. أي: لا حاجة لي فيه.
وقال: " أخرى " ولم يقل " أخر ". لأن المآرب جماعة، فأتت على ذلك.
4626
قال السدي: " حاجات أخر، أحمل عليها المزود والسقاء.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ أَلْقِهَا ياموسى﴾.
أي: ألق عصاك. ﴿فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾.
قال ابن عباس: ألقاها فصارت حية تسعة، ولم تكن قبل ذلك حية. قال فمرت بشجرة فأكلتها، ومرت بصخرة فابتلعتها، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها فولى مدبراً. فنودي يا موسى، خذها فلم يأخذها. ثم نودي ثانية فلم يأخذها، ثم نودي ثالثة ﴿خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى﴾. أي: هيئتها الأولى، عصا كما كانت، فأخذها.
وقال السدي: ألقاها فإذا هي حية تسعى، فلما رآها تهتز كأنها جان، ولّى مدبراً ولم يعقب، فنودي يا موسى، لا تخف إني لا يخاف لدى المرسلون.
وقيل: إنما أراد الله جلَّ ذكره أن يريه الآية الكبرى من العصا لئلا يفزع منها إذا ألقاها عند فرعون ولا يولي مدبراً منها كما فعل عند الشجرة.
وقيل: إنها عصا آدم، نزل بها من الجنة، طولها اثنى عشر ذراعاً بذراع موسى.
4627
ويروى أن العصا كانت من ورقة آس الجنة، وهي من وسط الورقة الخط الثاني في وسط ورقة الآس " والآس " الريحان وكانت من ريحان الجنة من الخط لثاني في وسط الورقة المستطيل/، فما ظنك بحسن ريحان يكون الخط الثاني في وسط ورقه [منها] عصا في طولها اثنى عشر ذراعاً.
ويروى أن موسى ﷺ أمره الله أن يدخل يده في فيها فيقبض عليها، فأدخل يده في فيها وقبض عليها، فصارت يده بين الشعبتين اللتين كانتا في العصا، وصارت الحية في يده عصا على ما كانت عليه قبل ذلك؟ وكان للعصا شعبتان في رأسها، فصارت الشعبتان فم الحية، ثم عادت إلى حالتها.
قوله تعالى: ﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ﴾ إلى قوله: ﴿إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً﴾.
المعنى: واضمم يا موسى يدك، فضعها تحت عضدك.
وقال مجاهد: " إلى جناحك " كفه في عضده.
يقال الآخر العضد، إلى مبتدأ الإبط جناح.
وقيل: أمر أن يدخل يده في ثيابه مما يلي صدره وعضده، ففعل، ثم أخرجها بيضاء لها شعاع ونور.
4628
وقال أبو عبيدة: " إلى جناحك " إلى ناحية جنبك. والجناحان الناحيتان.
وقيل: " إلى جناحك " إلى صدرك، ففعل، فخرجت يده نوراً ساطعاً تضيء بالليل كضوء الشمس والقمر، فهي له آية أخرى مع العصا. أي: علامة على قدرة الله وصحة نبوته.
ومعنى: ﴿مِنْ غَيْرِ سواء﴾ من غير برص.
وقال مجاهد: كان موسى رجلاً آدم، فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء من غير سور أي من غير برص مثل الثلج، ثم ردها فخرجت كما كانت على لونه.
وقوله: ﴿آيَةً أخرى﴾ أي: دلالة أخرى على العصا.
وقوله: " بيضاء " نصب على الحال. " وآية " بدل من بيضاء عند الأخفش.
وقال الزجاج: هي نصب بإضمار فعل تقديره " آتيناك آية أخرى ".
وقيل: " آية " حال أيضاً، لأنه بمعنى مبينة.
ثم قال تعالى: ﴿لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى﴾.
أي: لنريك من آياتنا العجائب. ثم قال: ﴿اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾.
4629
أي: تجاوز قدره، وتمرد على ربه. وفي الكلام حذف. والتقدير: اذهب إلى فرعون إنه طغى فادعه إلى توحيد الله وطاعته، وإرسل بني إسرائيل معك.
وقوله: ﴿قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي﴾. أي: أفسح لي صدري لأعي عنك ما تودعه من وحيك، وأجترئ به على خطاب فرعون.
﴿وَيَسِّرْ لي أَمْرِي﴾.
أي: سهّل عليّ القيام بما كلفتني من الرسالة والطاعة.
﴿واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي﴾.
أي: واطلق لساني للمنطق.
قيل: كانت في لسانه عجمة عن الكلام من أجل الجمرة التي كان ألقاها إلى فيه يوم همّ فرعون بقتله.
قال ابن جبير: " عقدة من لساني " عجمة بجمرة نار أدخلها في فيه عن أمر امرأة فرعون، ترد به عنه عقوبة فرعون حين أخذ موسى بلحيته، وهو لا يعقل. فقال فرعون: هذا عدو لي فقالت له امرأته: إنه لا يعقل. وكذلك قال مجاهد.
وقال السدي: لما تحرك الغلام - يعني موسى ﷺ - أرته أمه آسية. فبينما هي ترضعه وتلعب به، إذ ناولته فرعون وقالت: خذه. فلما أخذه، أخذ موسى بلحيته
4630
فنتفها. فقال فرعون: علي الذباحين. فقالت آسية: لا تقتلوه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولداً. إنما هو صبي لا يعقل، وإنما صنع هذا من صباه، وقد علمت أنه ليس في أهل مصر أحلى مني.
أنا أضع له حلياً من الياقوت وأضع له جمراً. فإن أخذ الياقوت فهو يعقل فاذبحه، وإن أخذ الجمرة فإنما هو صبي فأخرجت له ياقوتاً ووضعت له طستاً من جمر، فجاء جبريل عليه السلام فطرح في يجه جمرة، فطرحها موسى ﷺ في فيه فأحرقت لسانه. فهو الذي يقول الله ﴿واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي﴾ أي يفهموا عني ما أقول لهم، وأبلغهم عنك. ففعل الله به ما سأل.
وقيل: إنه إنما زال بعض ما كان في لسانه من الحبسة ولم يزل كله بدلالة قول فرعون ﴿أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف: ٥٢] وقد يجوز أن يكون كان هذا قبل أن يزيل الله ما كان به، ثم أزاله كله بعد ذلك. والله أعلم.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى﴾ [طه: ٣٦].
يدل على أنه أزال عنه كل ما سأل، وأعطاه كل ما سأل.
ثم قالت تعالى: ﴿واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي﴾ ﴿هَارُونَ أَخِي﴾ /.
4631
وكان هاون أكبر من موسى.
والوزير هو الذي يلجأ إليه في الأمور. مشتق من الوزر، وهو الملجأ. والجبل وَزَرْ.
وقيل: " الوزير " الذي يتقلد خزائن الملك وأمتعته. فيكون مشتقاص من الوزار، وهي الأمتعة، ومن قوله: ﴿ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم﴾ أي: آنية الفضة والذهب.
وقيل: " الوزير ": الذي يتحمل أثقال الملك، ومنه قيل للذنب: وزره، فمعنى: ﴿واجعل لِّي وَزِيراً﴾ أي: صاحباً ألجأ إليه وأعتمد عليه.
وقوله: ﴿اشدد بِهِ أَزْرِي﴾.
أي: ظهري: وقيل للظهر أزر، لأنه محل الأوزار.
وقوله: ﴿وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي﴾.
أي: اجعله نبياً مثلي، وارسله إلى فرعون معي. هذا على قراءة من جعله كله طلباً بفتح همزة " وأشركه "، فأما من جعله جواباً للطلب، وضم الهمزة، فمعناه: أن يجعل لي وزيراً أشدد أنا به ظهري وأشركه أنا في أمري.
ثم قال: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً﴾: نعظمك بالتسبيح. ﴿وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً﴾، فنحمدك. ﴿إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً﴾ أي: كنت بنا ذا بصر منا، لا يخفى عليك من أفعالنا شيء.
وقيل: المعنى: إنك كنت عالماً بما يصلحنا.
4632
وروى زيد بن أسلم أن نبي الله ﷺ موسى قال: " يا رب، قد أنعمت عليّ كثيراً، فدلني على أن أشكرك. قال: اذكرني كثيراً فإنك إذا ذكرتني فقد شكرتني. وإذا نسيتني فقد كفرتني. قال: لي مواطن ينبغي أن أذكرك فيه. قال: اذكرني كثيراً. قال: فكان موسى عليه السلام إذا ادخل الغائط، قال: سبحانك ربي كما توقني الأذى " من رواية ابن وهب.
قوله تعالى وجلّ ثناؤه: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى﴾ إلى قوله: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾.
أي: قد أعطيتك ما سألت من شرح صدرك وتيسير أمرك، وحل العقدة من لسانك، وتصيير أخيك هارون عوناً لك.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى﴾.
أي: تطولنا عليكم قبل هذه المرة مرة أخرى، ثم بيَّن المرة الأخرى ما هي فقال: ﴿إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ﴾ أي: إذا ألهمنا أمك.
وقيل: كانت رؤيا رأتها.
وقيل: بل أوحى إليها ما شاء.
4633
وقال ابن إسحاق: لما ولدت أم موسى موسى ﷺ، أرضعته حتى إذا أمر فرعون بقتل من ولد سنته تلك، عمدت إليه، فصنعت به ما أمره الله تبارك وتعالى.
روي أنها رؤيا رأتها، ففعلت ما أمرت به في رؤياي. وكان فرعون يذبح ذكور أولاد بني إسرائيل لأجل أنه بلغه أنه سيكون زوال ملكه وهلاكه على يدي واحد من أولاد بني إسرائيل فخافت أم موسى من فرعون على ولدها. فأراها الله ما أمرها به في منامها، فجعلته في تابوت صغير، ومهدت له فيه، ثم عمدت إلى النبيل فقذفته فيه، وهو اليم، فأصبح فرعون في مجلس له كان يجلسه على شفير النيل كل غداة، فبينما هو جالس، إذ مرّ النيل بالتابوت فقذف به، وآسية بنت مزاحم امرأته جالسة إلى جنبه. فقال: إن هذا لشيء [عجيب] في البحر، فآتوني به، فخرج إليه أعوانه حتى جاءوا به ففتح التابوت، فإذا فيه صبي في مهد، فألقى الله تعالى عليه محبته فعطف عليه نفسه. فهو قوله: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ
4634
اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ}. يعني فرعون.
ثم قال تعالى: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾. أي: حببتك إلى عبادي.
وقال عكرمة معناه: إني حسنت خلقك، أي: جعلت لك حسناً وملاحة. وقيل: معناه: حببتك إلى [كلِّ] من رآك.
وقيل: إن الله جلّ ذكره جعل في موسى عليه السلام ملاحة، فكان لا يراه أحد إلا أحبه واستحلاه ومال قلبه إليه.
وذكر ابن الإعرابي عن قتادة في قوله: ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي﴾. قال: ملاحة في عينيك، لا يراك أحد إلا أحبك.
وعن عكرمة أنه قال: حسن وملاحة.
وقيل معناه: جبلت القلوب على محبتك، اختصاصاً لك.
وقال مجاهد: مودة في قلوب المؤمنين.
ثم قال: ﴿وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾ أي: ولتغذى على عيني، قاله قتادة.
4635
وقال ابن زيد: معناه: إني جعلتك في بيت الملك تنعم وتترف غذاؤه عندهم غذاء الملك.
وقال ابن زيد. معناه: وأنت بعيني إذ جعلتك أمك في التابوت ثم في البحر ثم إذ تمشي أختك.
و" اللام " في " ولتصنع " متعلقة بـ " ألقيت " أي: ألقى المحبة لتصنع.
ثم قال: / ﴿إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ﴾.
أي: ولتصنع على عيني حين تمشي أختك.
وفي الكلام حذف. والتقدير: إذ تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك ثم يأتي من يطلب المراضع لك فتقول: هل أدلكم على من يكفله؟
قال السدي: لما ألقته أمه في اليم، قالت لأخته: قصيه، فلما التقطه آل فرعون، أرادوا له المرضعات، فلم يقبل أحداً من النساء، وجعل النساء يطلبن ذلك لينزلن عند فرعون في الرضاع، وأبى أن يأخذه فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحونن. فأخذوها وقالوا لها: إنك قد عرفت هذا الغلام،
4636
فدلينا على أهله.
قالت: ما أعرفه ولكني إنما قلت: للملك ناصحون.
ومعنى: يكفله: يضمه إليه ويرضعه.
ورويَ أن موسى عليه السلام لما خرج من التابوت بكى وطلب اللبن فطلب له النساء، فلم يقبل أحداً، فشق ذلك على فرعون، واغتم له، وقلق، وجعل يبعث إلى كل مرضعة، ولم يقبل أحداً، عند ذلك، جاءت أخت موسى ﷺ، فقالت: هل أدلكم على من يرضعه؟ فقيل لها: هاتها، فجاءت بأم موسى، فقبل ثديها، فطابت نفس فرعون ومضت به معها، آمنة عليه مما كانت تخافه، وذلك وعد الله لها، وقوله لها: ﴿إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ﴾ وهو قوله: ﴿فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها﴾ أي رددناك إلى أمك بعد أن كنت في أيدي آل فرعون كي تقرّ عينها، أي: تقرّ عينها بسلامتك من القتل والغرق، ولا تحزن عليك من الخوف ومن فرعون أن يقتلك.
قال ابن إسحاق: لما قالت أخت موسى ما قالت، قالوا: هاته، فأتت أمه فأخبرتها، فانطلقت معها حتى أتتهم فناولتها إياه فوضعه في حجرها، وأخذ ثدييها، فسّروا بذلك، وردّوه إلى أمه تكفله، لطفاً من الله لها، وصار موسى وأمه كأنهم من
4637
أهل بيت فرعون في الأمان من القتل وغيره. وكان على فراش فرعون وسريره متغذياً بما يتغذى به الملك. وهذا من بديع لطفه، لا إله إلا هو.
ويروى عن ابن عباس أنه قرأ: (تقِرِ) بكسر القاف، وهي لغة.
ثم قال: ﴿وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم﴾.
يعني: قتله القبطي إذ استغاثه عليه الإسرائيلي: ﴿فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم﴾ أي: من غمّك بقتلك النفس إذا أرادوا أن يقتلوك. فخلصناك منهم حين هربت إلى أهل مدين.
روى ابن عمر أن النبي ﷺ قال: " إنما قتل موسى الذي قتل من آل فرعون خطأ ".
ثم قال: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾ قال ابن عباس: معناه: اختبرناك اختباراً. وعنه ابتليناك ابتلاء.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه إنجاؤه موسى من القوم. ومن اليم ومن الذبح حين أخذ بلحيه فرعون، ومن قتل حين قتل القبطي.
وذكر ابن جبير عن ابن عباس حديثاً طويلاً في قصة موسى عليه السلام معناه: أن
4638
فرعون تذاكر هو وجلساؤه، ما وعد الله إبراهيم أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكاً، فخافوا ذلك فأتمروا بينهم أن يذبح كل مولود ذكر من بني إسرائيل، فذبحوا كل من وجدوا، وتمادوا على ذلك، فقال بعضهم: يوشك أن يفنى بنو إسرائيل لذبحكم الصغار وموت الكبار بآجالهم فتبقون لمباشرة الأعمال والخدمة التي تكفيهم إياها بنو إسرائيل، فأجمعوا رأيهم على أن يقتلوا عاماً ويتركوا عاماً لئلا يفنى بنو إسرائيل، ولئلا يكثروا، فحملت أم موسى هارون في السنة التي لا يذبح فيها أحد فولدته علانية آمنة. وحملت بموسى في العام الثاني، وفيه الذبح، فوقع في قلبها الهم والحزن. قال ابن عباس: فذلك من الفتون مما دخل على موسى في بطن أمه. فأوحى الله تعالى ذكره إليها ألاّ تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين. وأمرها إذا ولدته أن تجعله في تابوت، ثم تلقيه في اليم، ففعلت ذلك، ثم أتاها إبليس، فوسوس إليها، وقال: لو ذبح ولدك في بيتك لكنت توارينه وتسترينه كان أحب إليك مما ألقيته بيدك إلى حيتان البحر ودوابه، فانطلق به الماء حتى أوفى به عند فرضة مستقى جواري آل فرعون، فرأينه، فأخذنه، فهممن بفتح التابوت ثم خفن أن يكون في التابوت مال فلا يصدقن عليه/، فمررن به على حاله إلى امرأة فرعون، ففتحت التابوت، فإذا بغلام، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق مثلها على أحد، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلا من ذكر موسى، فأتى الذابحون إلى امرأة فرعون ليذبحوه، فصرفتهم حتى تستوهبه من فرعون، فوهبها فرعون إياه، ومنعهم من ذلك. وذلك
4639
من الفتون.
وذكر ابن عباس، أنها لما أتت به إلى فرعون قالت: قرة عين لي ولك. قال فرعون: يكون لك، وأما أنا فلا حاجة لي فيه. فروي عن النبي ﷺ أنه قال: " والذي حلف به، لو أقرّ فرعون أن يكون له قرة عين كما أقرت هي به لهداه الله به كما هدى به امرأته. ولكن الله تعالى حرمه ذلك ".
وروي أن امرأة فرعون كان لها جوار لا تشرب الماء إلا من استقائهن، فأتين يوماً إلى ساحل النيل ليأخذن الماء، فوجدن التابوت، فاتفقن على أن لا يفتحن التابوت، وأن يمضين به إلى مولاتهن على حاله، فذهبن به إلى امرأة فرعون ففتحته، فوجدت فيه صبياً لم تر مثله قط، فألقى الله في قلبها المحبة له، فأخذته ودخلت به على فرعون، وقالت له: قرة عين لي ولك فقال فرعون: أما لك فنعم، وأما لي، فلا.
قال النبي ﷺ: " لو قال فرعون نعم هو قرة عين لي لآمن ".
فقالت: له: فهبه لي، لا تقتله. فوهبه لها، فطلبت له المراضع فلم يقبل على ثدي امرأة، وكان من أمره ما قص الله علينا.
4640
قال ابن عباس في حديث طويل معناه: أن امرأة فرعون طلبت له الرضاعة، فلم يقبل على ثدي أحد فغمّها ذلك حتى أخرجته إلى السوق ت طلب له مرضعة، فأتت أخته فقالت: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون. فأخذوها وقالوا: ما نصحهم له؟ هل تعرفونه، فشكوا في ذلك.
قال ابن عباس: وذلك من الفتون. فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في القرب من فرعون ورجاء منفعته، فتركوها، فانطلقت إلى أمه، فجاءت معها، فلما وضعته في حجرها ترامى إلى ثديها حتى امتلأ جنباه، وانطلقت البشرى إلى امرأة فرعون أن قد وجدنا لابنك مرضعة فوجهت وراءها، وجيء بها وبه فقالت لها: امكثي عندي ترضعين ابني هذا، فإن لم أحب حبه شيئاً قط، فأبت أم موسى وتعاسرت عليها في القيام عندها، وتذكرت ما وعدها الله من رده عليها، وأن الله منجز وعده، بابنها إلى بيتها من يومها، فأنبته الله نباتاً حسناً، فكان بنو إسرائيل يمتنعون من الظلم والسخرة بذمام موسى، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم
4641
موسى: أرني ولدي، فوعدتها بالإتيان به ليوم بعينه، فقالت امرأة فرعون لخواصها وقهارمتها: لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني بهدية وكرامة، فلما أتت به أمه، لم تزيل الهدية والكرامة والتحف تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون، فأكرمته هي أيضاً ونحلته وأعجبها ما رأت من حسن أثرها عليه، وانطلقت به إلى فرعون ليكرمه وينحله، فدخلت به عليه، وجعلته في حجره فتناول موسى لحية فرعون حتى مدها، فقال عدو من أعداء الله لفرعون: هذا من وعد الله إبراهيم أنه يصرعك ويعلوك فأراد ذبحه. قال ابن عباس: وذلك من الفتون. فقالت امرأته: قد وهبته لي فما بدا لك منه. قال: ألا ترينه يزعم أن يصرعني ويعلوني. فقالت: اجعل بين وبينك أمراً تعرف به الحق. ائت بجمرتين ولؤلؤتين، فقربهن إليه، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين فهو يعقل، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين [فهو لا يعقل] ففعل ذلك، فتناول الجمرتين، فصرفه الله تعالى عن قتله، فأقام حتى بلغ مبلغ الرجال، وانتفع به بنو إسرائيل وامتنعوا به من السخرة والظلم. فبينما هو يمشي في ناحية/ من المدينة إذ هو برجلين يقتتلان، أحدهما من آل فرعون، والآخر من بني إسرائيل، فاستغاثه الإسرائيل على الفرعوني. وقد ضرب الفرعوني
4642
الإسرائيلي، فضعب موسى واشتد غضبه لمعرفته لمنزلة الإسرائيلي وظلم الفرعوني له، فوكز موسى الفرعوني فقتله. ولم يرهما أحد إلا الله، فقال موسى ﷺ حين قتله: هذا من عمل الشيطان، ثم استغفر الله من قتله، فغفر له.
وأصبح موسى خائفاً يستمع الأخبار، فبحث القوم عن قاتل الفرعوني فما وجدوا أحداً يخبر به. فمر موسى بذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً آخر فرعونياً، فاستغاثه أيضاً الإسرائيلي، فقال موسى للإسرائيلي: إنك لغوي مبين. ثم مد يده للفرعوني ليبطش به، فظن الإسرائيلي أنه إياه يريد، لما سمعه قال: إنك لغوي مبين. فقال: يا موسى، أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس، فانطلق الفرعوني إلى قومه، فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي، فخرجوا في طلب موسى. وجاءه رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة فاختصر طريقاً حتى سبقهم، فأنذر موسى، قال ابن عباس: وذلك من الفتون.
وقال الضحاك: ﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾: أي بلاء على بلاء.
وقال مجاهد: هو إلقاؤه في التابوت، ثم في اليم، ثم التقاط فرعون إياه، ثم خروجه خائفاً.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ﴾ إلى قوله: ﴿يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾.
4643
في الكلام حذف واختصار. والتقدير: وفتناك فتوناً، فخرجت خائفاً إلى مدين، فلبثت سنين فيهم.
قال: عشر سنين، كان فيهم في خدمة أجرة مهر زوجته.
وقوله: ﴿ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى﴾.
أي: جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون فيه. هذا معنى قول ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم.
ثم قال: ﴿واصطنعتك لِنَفْسِي﴾.
أي: قويتك لتبلغ عبادي أمري ونهيي.
وقيل معناه: أخبرتك لتبلغ رسالتي.
ثم قال: ﴿اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي﴾.
أي: اذهبا بأدلتي وحججي ولا تفترا ولا تضعفا في أن تذكراني فيما أمرتكما ونهيتكما، فذكركما إياي يقوي عزيمتكما.
قال ابن عباس: " لاتنيا ": لا تبطئا.
وقال مجاهد وقتادة والضحاك: لا تضعفا.
4644
وقال ابن زيد: الوافي: الغافل المفرط.
ثم قال: ﴿اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾.
أي: تجاوز في الكفر. ﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً﴾. أي: كنياه. قاله مجاهد والسدي.
وعن السدي أنه قال: قال له موسى عليه السلام: هل لك أن يرد الله عليك شبابك، ويرد عليك مناكحك ومشاربك، وأذا مت دخلت الجنة؟ وتؤمن. فهذا هو القول اللين. فركن فرعون إليه وقال: مكانك حتى يأتي هامان.
وقيل: إن فرعون دخل إلى آسية فشاورها فيما قال له موسى. فقالت: ما ينبغي لأحد أن يرد هذا. فقال له هامان: أَتَعبْدُ بعدَما كُنتَ تُعْبَدْ، أنا أردك شاباً. فخضب لحيته بالسواد. فكان فرعون أول من خضب بالسواد. ودخل إلى آسية فقالت له: حسن إن لم ينصل.
وقيل: إن موسى عليه السلام قال له: إن ربنا أرسلنا إليك لتؤمن به وتعبده وتطيعه، فينسئ في أجلك أربع مائة سنة، ويملكك في أرضه ولا تبؤس ساعة من نهار، ثم تصير إلى الجنة، لا يضرك ما كنت فيه من نعيم الدنيا وسرورها ونضارتها جناح بعوضة.
فقال فرعون: دعوني أستشير فاستشار هامان. فقال له: لا ترض. أبعد أن
4645
كنت ملكاً تصير مملوكاً. وبعد أن كنت رباً تصير مربوباً. فلم يؤمن لما سبق له في علم الله من الشقاء.
وقوله: ﴿لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾. قيل: معنى " لعل " هنا الاستفهام. والمعنى: فقولاً له قولاً لينا، فانظرا هل يتذكر فيراجع، أو يخشى الله فيرتدع عن طغيانه. قاله: ابن عباس.
وقيل: معنى: " لعل " هنا: كي. أي قولا له قولاً ليناً كي يتذكر. كما تقول: اعمل لعلك تأخذ أجرك. أي: كي تأخذ أجرك.
وقال الحسن: " لعله يتذكر " هو إخبار من الله عن قول هارون، وذلك أنه تعالى لما قال له: قولا له قولاً ليناً. قال هارون لموسى: لعله يتذكر أو يخشى.
وقيل: إن " لعل " على بابها، ترج وطمع من المرسلين. والتقدير عند سيبويه: اذهبا أنتما على رجائكما/ وطمعكما ومبلغكما من العلم أن يتذكر، وقد علم الله تعالى أنه لا يتذكر ولا يخشى إلا أن الحجة لا تجب إلا بالإنابة وخروج الفعل إلى الظاهر.
وقيل: إن " لعل " و " عسى " في القرآن لم يقعا إلا وقد كانا. فتذكر فرعون
4646
وخشيته قد كانت حين أدركه الغرق.
قوله تعالى: ﴿قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ﴾. إلى قوله: ﴿خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾.
أي: قال موسى وهارون: يا ربنا إننا نخاف فرعون إن نحن دعوناه إلى ما أمرتنا به أن يفرط علينا بالعقوبة. أي يعجل علينا ويقدم علينا. وأصله من التقدم. ومنه حديث النبي ﷺ " أنا فرطكم على الحوض ".
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى﴾. أي: إنني أعينكما عليه وأبصركما. أسمع ما يجري بينكما وبينه، فألهمكما ما تجاوباه وأرى ما تفعلان ويفعل، فلا أخلي بينكما وبينه.
قال ابن جريج: " أسمع وأرى ما يحاوركما، فأوحي إليكما، فتجاوباه. ثم قال: ﴿فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ﴾.
أي: أرسلنا ربك إليك، يأمرك أن ترسل معناه بني إسرائيل، ولا تعذيبهم بما تكلفهم من الأعمال الصعبة.
﴿قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ﴾.
أي بمعجزة تدل على أنا أرسلنا إليك بذلك إن أنت لم تصدقنا فيما نقول
4647
أريناكها ﴿والسلام على مَنِ اتبع الهدى﴾. أي: والسلامة لمن ابتع الهدى.
وليس السلام هنا تحية.
ثم قال: ﴿إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى﴾.
هذا متصل بما قبله. أي: فقولا لفرعون: إنا رسولا ربك، وقولا له: إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى. أي: إن عذاب الله الذي لا انقطاع له على من كذب برسله وكتبه، وتولى عن طاعته.
ثم قال تعالى: ﴿فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى﴾.
هذا كلام فيه حذف واختصار. والتقدير: فأتياه [فقالا] له ما أمرهما به ربهما. فقال لهما فرعون: ﴿فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى﴾ اكتفى بخطاب موسى من خطاب أخيه من آخر الكلام. وقد خاطبهما جمعياً قبل ذلك في قوله: " ربكما " وإنما جاز ذلك لأن الخطاب إنما يكون من واحد، فردّ الخطاب إلى واحد مثله. وقريب منه " نسيا حوتهما " ولم ينسه إلا فتى موسى وحده. دل على ذلك قوله: ﴿فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت﴾.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى﴾. أي: قال موسى: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه. أي: جعل لك ذكر نظير خلقه من الإناث. ثم هداهم لموضع الوطء الذي فيه النماء والزيادة من الخلق. فهدى كل حي كيف يأتي الوطء
4648
فيكون التقدير: أعطى كل شيء مثل خلقه. ثم حذف المضاف.
قال ابن عباس. معناه: خلق لكل شيء زوجه ثم هداه لمنكحه ومطمعه ومشربه ومسكونه ومولده. وكذلك قال السدي.
وقال الحسن: معناه: تمم لكل شيء خلقه، ثم هداه لما يصلحه.
القرون الماضية وكيف تبعث، فأجابه موسى/ بعلمها فقال: علمها عند ربي. ثم قال: ﴿فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾ أي علمها في أم الكتاب و ﴿لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾.
نعتان لكتاب. أي: في كتاب غير ضال الله، أي: غير ذهب عن الله وغير ناس الله له.
وقيل: إن الكلام قد تم عند قوله: " في كتاب " ثم ابتدأ فقال: " لا يضل ربي " أي: لا يهلك.
وقيل: معنى الآية: لا يضل عن ربي علم شيء، ولا ينسى شيئاً.
وقال ابن عباس: لا يخطئ ربي ولا ينسى شيئاً.
وقال ابن عباس وقتادة: لا يخطئ ربي ولا ينسى شيئاً.
وقال قتادة: قوله: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى﴾ أي فما أعمار القرون الأولى. فوكلها
4649
موسى إلى الله فقال: ﴿عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي﴾.
وقرأ الحسن وقتادة وعيسى وعاصم الجحدري: ﴿لاَّ يَضِلُّ﴾ بضم الياء وكسر الضاد. أي: لا يضيعه. قال: ضل فلان منزله يضله إذا أخطأه. وكذلك يقال في كل شيء ثابت، لا يبرح فيخطئه. فإذا ضاع ما يزول بنفسه مثل: دابة، وناقة، وفرس مما ينفلت فيذهب بنفسه، فإنه يقال: أضل فلان بعيره يضله.
ثم قال تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً﴾.
أي: فراشاً يتمهدها الناس، ولم يجعلها خربة خشنة.
ومن قرأ " مهداً " فهو: مصدر وصفت الأرض به. أي: ذات مهد.
وقيل: " مهداً " اسم وصفت الأرض به، لأن الناس يتمهدونها فهي لهم كالمهد الذي يعرف.
وقيل: هما لغتان، كاللبس واللباس، والريش والرياش.
ثم قال تعالى: ﴿وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً﴾ أي: طرقاً.
ثم قال: ﴿وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي: مطراً.
4650
﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً﴾ خرج إلى الإخبار عن الله جلّ ذكره، لأن كلام موسى مع فرعون انتهى إلى قوله: " السماء ماء. ثم أخبر الله تعالى عن نفسه بجميل صنعه لخلقه في معاشهم ومعاش أنعامهم فقال: " فأخرجنا به ".
وقيل: كله من كلام موسى، أخبر موسى عن نفسه، ومن معه بالزراعة والمعالجة في الحرث. فالماء هو سبب خروج النبات وبه تم وكمل. والمعالجة في الحرث غيره لبني آدم بعون الله لهم وأقادره إياهم على ذلك. فلذلك أخبر عن نفسه فقال: فأخرجنا به أزواجاً. وقد قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ﴾ [الواقعة: ٦٣] فأضاف الحرث إلى الخلق، وهو الزارع المنبث للحرث لا إله إلا هو. أي: أخرجنا بالمطر من الأرض أشابهاً وضروباً من نبات شتى. " وتشى ": نعت للنبات أو للأزواج. ومعناه: مختلفة الأطعمة والرائحة والمنظر.
قوله تعالى: ﴿كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾.
أي: كلوا من طيبات ما أخرجنا لكم بالغيث وارعوا أنعامكم فيه. ﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى﴾ أي: إن في قدرة الله وسلطانه لعلامات لأولي العقول. أي: لأصحاب العقول.
قال قتادة: " لأولي النهي " لأولي الورع.
4651
" والنهي " جمع نهية. يقال: فلان ذو نهية. أي ذو عقل. وخص أهل النهى بذلك، لأنهم أهل التفكير والاعتبار والتدبر والاتعاظ.
ثم قال تعالى: ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ﴾.
أي: من الأرض خلقنا أصلكم. وهو آدم، وفي الأرض نعيدكم بعد الموت، ومن الأرض نخرجكم عند البعث في القيامة أحياء كما كنتم " تارة أخرى " أي: مرة أخرى.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ: " إذا قبض الملك روح المؤمن عرج به إلى السماء فقال: قد قبضت روح فلان. فيقول الله تعالى: " ردّ بها. أي: قد وعدته ﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾. قال: فإنه ليسمع صوت نعالهم (إذا ولوا مدبرين).
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا﴾ أي: أرينا فرعون أدلتنا وحججنا الي أعطينا موسى وهارون كلها عياناً فكذب بها وأبى أن يؤمن، استكباراً وعتواً.
ثم قال: ﴿قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى﴾ أي: قال فرعون لموسى لما رأى الآيات: ﴿أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى﴾ أي: مكاناً عدلاً نصفاً لنا/ ولك، قاله قتادة.
وقال مجاهد: " مكانا منصفاً بينهم ".
4652
وقال ابن زيد: مكاناً مستوياً يتبين للناس ما فيه لا صيب ولا نشز، فيغيب بعض ذلك عن بعض.
وقيل: معناه: مكاناً سوى ذلك المكان الذي كانوا فيه، فيكون الأحسن على هذا المعنى كسر السين. وعلى المعاني المتقدمة الضم. والكسر في السين لغتان بمعنى، وفي العدل لغة أخرى، وهي فتح السين والمد، ومنه قوله: ﴿إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا﴾ [آل عمران: ٦٤ أي: عدل.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾.
أي: ال موسى لفرعون - حين سأله فرعون الاجتماع - موعدكم يوم الزينة. يعني يوم اعيد كان لهم.
وقيل: يوم سوق كان لهم يتزينون فيه.
4653
﴿وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ أي: يساق الناس ويجمعنن من كل فج وناحية. والتقدير: وقت موعدكم يوم الزينة.
وقد قرأ الحسن " يوم " بالنصب على الظرف على غير حذف. أي: موعدكم في هذا اليوم. أي: موعدكم يقع يوم الزينة " وأن يحشر الناس ".
وإن في موضع رفع عطف على يوم على قراءة من رفع. أي: وقت موعدكم يوم الزينة، ووقت حشر الناس. واختار النحاس أن تكون " وإن " في موضع خفض عطفاً على الزينة.
قال السدي: " يوم الزينة يوم عيد لهم.
وقال ابن جبير: " هو يوم سوق لهم ".
وقوله: ﴿وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ أي يجتمعون في ذلك الوقت الموضع.
4654
وعن ابن عباس أنه قال: " يوم الزينة، كان يوم عاشوراء. كذلك روى الأعمش.
والضحى، مؤنثة. وتصغيرها بغير هاء، لئلا تشبه تصغير ضحوة.
وقرأ الحسن: ﴿وَأَن يُحْشَرَ الناس ضُحًى﴾ بفتح الياء وضم الشين، ونصب الناس، على تقدير: وأن يحشر فرعون الناس ضحى.
وقوله تعالى ذكره: ﴿فتولى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى﴾. إلى قوله: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾.
أي: فأدبر فرعون معرضاً عن موسى وعما جاءه به من الحق، فجمع مكره وسحرته، ثم أتى للموعد. قال لهم موسى لما أتوا: ﴿لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً﴾. ﴿وَيْلَكُمْ﴾ نصب على المصدر. وقيل: على إضمار فعل. أي: ألزمكم الله ويلاً.
4655
وقيل: نصبه على النداء المضاف.
﴿لاَ تَفْتَرُواْ﴾ أي: لا تختلقوا الكذب على الله. أي: لا تقولوا: إن الذي جئتكم به من عند الله سحر، ﴿فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ﴾.
قال ابن عباس: معناه: " فيهلككم ".
وقال ابن زيد: معنا: (فيهلككم هلاكاً ليس فيه بقية).
وقال قتادة: " فيستأصلكم بالهلاك ". وفيه لغتان: سحته واستحته، إذا أهلكه وأمحقه، وقد قرئ بهما جميعاً.
ثم قال: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى﴾.
أي: خاب من الرحمة والثواب، من اختلق الكذب.
ثم قال تعالى: ﴿فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّواْ النجوى﴾.
أي: تنازع السحرة فيما بينهم.
4656
قال قتادة: " قال السحرة بعضهم لبعض: إن كان هذا ساحراً، فسنغلبه وإن كان من السماء، فله أمر " وهو قوله: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى﴾.
قال وهب: " جمع كل ساحر حباله وعصيه، وخرج موسى، معه أخوه يتكئ على عصاه حتى أتى الجمع، وفرعون في مجلسه، معه أشراف أهل مملكته، فقال موسى للسحرة حين جاءهم: ﴿وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً﴾ فترادد السحرة بينهم، وقالوا: ما هذا بقول ساحر. وهو قوله: ﴿وَأَسَرُّواْ النجوى﴾ أي أسر السحرة والمناجاة بينهم.
وقال وهب: كان سرهم: ﴿إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ﴾ إلى قوله: ﴿مَنِ استعلى﴾. وكذلك قال السدي.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ﴾.
أي: قالت السحرة في سرهم وتناجيهم: إن موسى وهارون ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسرحهما.
وفي حرف ابن مسعود " إن هذان/ إلا ساحران ": أي: ما هذان يخفف " إن " يجعلها بمعنى ما.
4657
ومن شدد " إن " ورفع " هذان "، فقد خرج العلماء فيها سبعة أقوال: فالأول: أن يكون بمعنى نعم. حكى سيبويه أن " إن " تأتي بمعنى أجل. واختبار هذا القول المبرد وإسماعيل القاضي والزجاج وعلي بن سليمان.
واستبعد الزجاج قراءة أبي عمرو " إن هذين " لمخالفتها للمصحف.
وقال علي بن أبي طالب: لا أحصي كم سمعت رسول الله ﷺ على منبره يقول: إن الحمدُ لله نحمده ونستعينه، يعني يرفع الحمد يجعل " إن " بمعنى " أجل ". ومعنى: أجل: نعم. ثم يقول: أنا أفصح قريش كلها، وأفصحها بعدي سعيد بن
4658
إبان بن العاصي.
وكذكل كانت خطباء الجاهلية تفتتح خطبها بـ " نعم "، وكذلك وقعت في أشعارها. قال الشاعر:
قالت غدرت، فقلت: إن وربما... نال العُلي وشقى الخليل الغادر
وقال بان قيس الرقيات:
بكرت على عواذ لي... يلحينني وألومهنه
ويقلن شيب قد علاك... وقد كبرت فقلت أنه
وأنشد ثعلب:
ليس شعري هل للمحب شفاء... من جوى حبهن إن اللقاء.
أي: نعم.
فهذا قول حسن لولا دخول اللام في الخبر.
وقد قيل: إن اللام يراد بها التقديم، وهو أيضاً بيعد، إنما يجوز التقديم في اللام
4659
وهي مؤخرة في الشعر.
لكن الزجاج قال: التقدير: نعم هذان لهما ساحران. فتكون اللام داخلة على الابتداء في المعنى، كما قال: أم الحليس لعجوز شهربة.
وقيل: إن اللام يراد بها التقديم.
وقيل: هي في موضعها، و " لعجوز " مبتدأ، وشهرية الخبر، والجملة خبر عن اللام.
والقول الثاني: ما حكاه أبو زيد والكسائي والأخفش والفراء أنها لغة لبني الحارث بن كعب، يقولون: رأيت الزيدان ومررت بالزيدان، وأنشدوا.
- فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى مساغاً باه الشجاع لصماً
وأنشدوا أيضاً:
4660
- تزود منا بين أذناه طعنة على رأسه تلقى العظام من الفم.
وحكى أبو الخطاب أنها لغة لبني كنانة.
وحكى غيره أنها لغة خثعم. وهذا القول قول، حسن، لا نطعن فيه لثقة الناقلين لهذه اللغة، وتواتر نقلهم واتفاقهم على ذلك، وقد نقلها أبو زيد، وكان سيبويه إذا قال حدثني من أثق به، فإياه يعني.
ورواه الأخفش، وهو ممن روى عنه سيبويه، وقول سيبويه في ألف التثنية أنها حرف الأعراب، يدل على أن حكمه لا تتغير عن لفظها، كما لا تتغير الدال من زيد، فجاءت في هذه الآية على الأصل، كما جاء " استحوذ " على الأصل.
والقول الثالث: قاله الفراء. قال: الألف في " هذان " دعامة، ليست بلام
4661
الفعل، فزدت عليها نوناً ولم أغيرها، كما قلت " الذي " ثم زدت عليه نوناً، ولم أغيرها، فقلت " الذين " في الرفع والنصب والجر.
والقول الرابع: يحكى عن بعض الكوفيين أن الألف في هذان مشبهة بألف يفعلان، فلم تغير كما لا يغير ألف يفعلان.
والقول الخامس: حكاه الزجاج. قال: القدماء يقولون: الهاء مضمرة ها هنا، والمعنى: أنه هذان لساحران، ويعترض هذا القول دخول اللام في الخبر.
والقول السادس: قاله ابن كيسان، قال: سألني إسماعيل ابن إسحاق عنها، فقلت: القول عندي، أنه لما كان يقال هذا في موضع الرفع والنصب والجر، وكانت التثنية يجب ألا تغير، أجريت التثنية مجرى الواحد. فقال إسماعيل: ما أحسن هذا، لو تقدمك أحد بالقول به، حتى تؤنس به. فقلت: فيقول القاضي به حتى يؤنس به، فتبسم.
والقول السابع: حكاه أبو عمرو وغيره، أنه من غلط الكاتب.
4662
روي أن عثمان وعائشة/ رضي الله عنهما قالا: إن في الكتاب غلطاً ستقيمه العرب بألسنتها.
وعنهما: إن في الكتاب لحناً ستقيمه العرب بألسنتها. وهذا القول قد طعن فيه، لأن أصحاب النبي ﷺ قد أجمعوا على صحة ما بين اللوحين، فلا يمكن أن يجتمعوا على غلط.
فأما من خفف " إن " فإنه رفع ما بعدها، لنقصها عن وزن الفعل ويجوز أن يكون أعملها مخففة على الثقيلة، كما يعمل الفعل محذوفاً عمله وهو غير محذوف، وإلا أنه أتى بـ " هذان "، على الوجوه التي ذكرنا، فأتى بالألف في النصب.
فأما من شدد نون " هذان "، فإنه جعل التشديد عوضاً مما حذف من هذا في التثنية.
وعن الكسائي والفراء في: " إن هذان " قولان تركنا ذكرهما لبعد تأويلهما في ذلك.
ثم قال تعالى: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾.
4663
أي: يغلبكم على ساداتكم وإشرافكم. يقال للسيد: هو طريقة قومه. ولفظ الواحد والجمع والتثنية سواء. وربما جمعوا فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم، أي أشرافهم وساداتهم. ومنه قوله: ﴿كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً﴾.
والمثلى: نعت للطريقة، وهو تأنيث أمثل، وجاز نعت الجماعة بلفظ التوحيد. كما قال: ﴿هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى﴾ [طه: ٨].
ويجوز أن تكون " المثلى " أنثت لتأنيث الطريقة.
قال ابن عباس: ﴿بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾ أي أمثلكم، وهم بنو إسرائيل.
وقال مجاهد: " أولي العقول والشرف الأنساب ".
وقال قتادة: " كانت طريقتهم المثلى يومئذ بني إسرائيل، كانوا أكثر الناس عدداً وأموالاً وأولاداً ".
وقيل: المعنى: ويذهبا بدينكم وسنتكم التي أنتم عليها.
وقل ابن وهب: " يذهبا بالذي أنتم عليه من الدين، وقرأ قول فرعون
4664
﴿إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ﴾ [غافر: ٢٦] قال: فهذا قوله: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى﴾.
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهـ أن المعنى: ويصرفان وجوه الناس إليهما.
ويكون التقدير: ويذهبان بأهل طريقتكم، ثم حذف، مثل: ﴿وَسْئَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢].
ثم قال تعالى: ﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً﴾.
أي: اعزموا على أمركم واحكموه. هذا على قراءة من همزة وكسر الميم. فأما من فتح الميم ووصل الألف - وهي قراءة أبي عمرو - فمعناه: فاجمعوا كل كيد لكم وحيلة، فضموه مع صاحبه. ويشهد له قوله: ﴿فَجَمَعَ كَيْدَهُ﴾. وقطع الألف أحسن، لأن السحرة لم يؤمروا بهذا إلا في اليوم الذي اجتمعوا فيه، والوقت الذي
4665
أظهروا فيه سحرهم، واستعدوا بما يحتاجون من السحر، فبعيد أن يؤمروا بجميع ما قد جمعوه واستعدوا به، وإنما يؤمن بذلك من لم يجمع ما يحتاج إليه ولم يستعد به، وليس ذلك اليوم إلا يوم استعلاء وفراغ مما يحتاجون إليه من الكيد.
ويحن قطع الألف، لأن معناه: اعزموا على أمركم وأحكموه.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ ائتوا صَفّاً﴾. أي: جيئوا المصلى، وهو الموضع الذي يجتمعون فيه يوم الوعيد.
فيكون ﴿صَفّاً﴾ مفعولاً بـ ﴿ائتوا﴾. ويجوز أن يكون المعنى: ائتوا مصطفين، ليكون أعظم لأمركم، وأشد لهيبتكم، فيكون حالاً. ووحد لأنه مصدر. فهو مصدر في موضع الحال.
ثم قال: ﴿وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾.
أي: قد ظفر بحاجته اليوم من علا على صاحبه فقهره.
قال وهب: " جمع فرعون الناس لذلك الجمع، ثم أمر السحرة قال: ﴿ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾، أي: من علا على صاحبه بالغلبة ".
قوله تعالى: ﴿قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى﴾ إلى قوله: ﴿هَارُونَ وموسى﴾.
أي: قال السحرة: ﴿قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى﴾.
4666
وفي الكلام حذف، والتقدير: فأجمعت السحرة كيدهم ثم أتوا صفاً، فقالوا: ﴿ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ﴾. وكان السحرة يومئذ فيما ذكر ابن أبي بزة سبعين ألفاً، مع كل ساحر منهم حبل وعصاً. فألقوا سبعين ألف/ عصاً، وسبعين ألف حبل.
وقيل: كانت حبالهم وعصيهم حمل ثلاث مائة بعير، فصار جميع ذلك في بطن الحية، ثم رجعت عصاً كما كانت في يد موسى فألقى موسى عصاه، فإذا هي ثعبان مبين، فابتلع حبالهم وعصيهم، فألقى السحرة عند ذلك سجداً، فما رفعوا رؤوسهم حتى رأوا الجنة والنار وثواب أهلها، فعند ذلك قالوا: لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات.
وقال السدي: " كانوا بضعاً وثلاثين ألفاً، مع كل واحد حبل وعصاً ".
وقال وهب بن منبه: " كانوا خمسة عشراً ألفاً مع كل ساحر حباله وعصيه ".
وقال ابن جريج: كانوا تسعة مائة: ثلاث مائة من العريش، وثلاث مائة من الفيوم، وثلاث مائة من الاسكندرية.
4667
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ بَلْ أَلْقُواْ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى﴾. أي: قال لهم موسى: بل ألقوا أنتم أولاً: ما معكم إن كنتم على حق.
وفي الكلام حذف. أي: فألقوا ما معهم من الحبال والعصي، فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
قيل: " إن السحرة سحروا أعين الناس، وعين موسى قبل أن يلقوا حبالهم وعصيهم، ثم ألقوها، فخيل إلى موسى ﷺ حينئذ أنها تسعى " قاله وهب بن منبه.
وقوله تعالى: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى﴾.
أي: أحس ووجد موسى خوفاً في نفسه.
قيل: إنه خاف أن يفتن الناس بما صنعوا قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه.
وكان السحرة في ناحية بالبعد من الناس، وكان فرعون وجنوده في ناحية، وموسى وهارون صلى الله عليهما وسلم في ناحية.
وقيل: إنما خاف لما أبطأ عليه الوحي بالأمر بإلقاء العصا، فخاف أن ينصرف الناس قبل أن يؤمر بإلقاء عصاه فيفتتنون، فأوحى الله تعالى إليه: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى﴾ أي: لا تخف على انصراف الناس وافتتانهم قبل أن تلقي عصاك فأنت الغالب.
ثم قال: ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ﴾ يعني العصا ﴿تَلْقَفْ مَا صنعوا﴾، فألقاها فتلقفت
4668
حبالهم وعصيهم، وكانت حمل ثلاث مامئة بعير، ثم عادت عصا لا يعلم أحد أين ذهبت الحبال والعصي، إلا الله. وهذه آية تشتمل على آيات، منها: انقلاب العصا ثعباناً، ومنها: ابتلاعها الحمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي.
وأعظمها: أنها عادت عصا يحملها موسى في يده كما كانت أولاً، وتلاشى وقر ثلاث مائة بعير بقدرة الله، فلا أثر لذلك، فسبحان من لا يقدر على هذه القدرة أحد سواه، لا إله غيره.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ﴾ ما " بمعنى الذي مع ﴿صَنَعُواْ﴾ " ها " محذوفة. و ﴿كَيْدُ﴾ خبر " إن " و " الذي " اسمها.
فإن جعلت " ما " كافة ل " إن " عن العمل، نصبت كيداً بـ ﴿صَنَعُواْ﴾ و " الكيد ": المكره أي: مكر الساحر وخدعه لا على حقيقة.
ثم قال: ﴿وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى﴾ أي: لا يظفر بسحره أين كان.
وقيل: المعنى: يقتل الساحر حيث وجد.
وفي حرف ابن مسعود: أين أتى.
ثم قال تعالى: ﴿فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً﴾.
4669
في الكلام حذف والتقدير، فألقى موسى ما في يده فتلقفت ما صنعوا فألقيَ السحرة سجداً.
قال ابن جبير: لما ألقى [موسى] ما في يده، صار ثعباناً مبيناً، قال: ففتحت فما لها مثل الرحى ثم وضعت مشفرها على الأرض ورفعت الآخرة، فاستوعبت كل شيء ألقوا من السحر ثم جاء موسى إليها، فقبض عليها، فإذا هي عصا، فخرت السحرة سجداً، وقالوا: آمنا برب هارون وموسى.
ورويَ أن رئيس السحرة قال لهم: إن كان هذا سحراً من موسى فأين مضى حمل ثلاث مائة بعير من حبال وعصي، وأين ذهب ذلك، هذا أمر من فعل الله، وليس هو سحراً، فاخلصوا التوحيد لله جل ذكره وآمنوا وخرّوا سجّداً.
قوله تعالى ذكره: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾ إلى قوله ﴿خَيْرٌ وأبقى﴾.
المعنى: قال فرعون للسحرة الذين خرّوا سجّداً: ﴿آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾ يهددهم ويوعدهم أي: أصدقتم بموسى: إن موسى لكبيركم الذي علمكم السحر، ﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾ فكان فرعون أول مَن قطع الأيدي والأرجل من خلاف.
﴿وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل﴾.
4670
أي: عليها. وكان أول مَن صلب في جذوع النخل.
ويقال: إن فرعون شبه على الناس بما قال. وذلك أنه لما رأى ما نزل به، قال للسحرة: إن موسى لكبيركم الذي علملكم السحر فواطتموه على ما صنعتم وعاملتموه على ذلك ليشكك الناس في الآيات التي ظهرت، فقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم حتى ماتوا، ومعنى " خلاف " أن يقطع يمين اليدين ويسرى الرجلين، أو يسرى اليدين ويمنى الرجلين.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى﴾. أي: أنا أشد عذاباً أو موسى. يخاطب بذلك السحرة.
ومعنى: ﴿وأبقى﴾ وأدوم.
ثم قال: ﴿قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات﴾.
أي: قال السحرة لفرعون لما توعدهم: لن نفضلك على ما رأينا من الحجج والبراهين فنتبعك ونكذب موسى.
ثم قال: ﴿والذي فَطَرَنَا﴾.
أي: لن نفضلك على الذي جاءنا وعلى الذي فطرنا.
وقيل: الواو، واو قسم. و ﴿فَطَرَنَا﴾ خلقنا.
4671
﴿فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ﴾.
أي: افعل ما أنت فاعل.
ثم قال: ﴿إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ﴾.
أي: قال له السحرة ذلك. والمعنى: إنما تقضي في متاع هذه الحياة الدنيا.
و" ما " كافة ل " إن " عن العمل. ولو جعلت " ما " بمعنى " الذي " رفعت " هذه الحياة الدنيا " أي: إن الذي تقتضيه هذه الحياة الدنيا.
وقيل: معنى الكلام إنما يجوز أمرك في هذه الحياة الدنيا.
ثم قال: ﴿إِنَّآ آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر﴾.
أي: ليغفر لنا خطايانا من السحر. ﴿وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر﴾. ف: " ما " نافيه. أي: لم تكرهنا على السحر، نحن جئنا به طائعين، فهو ذنب عظيم، نطمع أن يغفره الله لنا إذا متنا، فتكون ﴿مِنَ﴾ لإبانة الجنسِ.
وقيل: المعنى: ليغفر لنا ربنا خطايانا، ويغفر لنا الذي أكرهتنا عليه من السحر. فتكومن ﴿مِنَ﴾ للتبيين، موضعها نصب، ولا موضع لها في القول الأول.
وهذا القول رويَ عن ابن عباس، قال: " ذلك غلمان دفعهم فرعون إلى السحرة يعلمهم السحر ".
4672
وقال ابن زيد: " أمرهم بتعلم السحر "
وقال الحسن: " كانوا إذا نشأ المولود فيهم، أكرهه على تعلم السحر.
ثم قال تعالى: ﴿والله خَيْرٌ وأبقى﴾ أي: خير ثواباً وأبقى عذاباً.
قال محمد بن كعب: معناه: " خير منك ثواباً أن أطيع، وأبقى منك عذاباً إن عصى " وهذا جواب منهم لوله: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى﴾.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تخشى﴾.
والمعنى: إن السحرة قالوا لفرعون ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً﴾ أي مكتسباً الكفر، فإن له جهنم أي: مأواه [جهنم ومسكنه] جزاء على كفره. ﴿لاَ يَمُوتُ فِيهَا﴾ فتخرج نفسه ﴿وَلاَ يحيى﴾ فتستقر نفسه في مقرها، ولكنها تتعلق بالحناجر. وعلق الإتيان بالله مجازاً في هذا. والمعنى: من يأت موعد ربه " كما قال إبراهيم: ﴿إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ [الصافات: ٩٩] أي: إلى موعد ربي. وليس الإتيان إلى الله إتيان مقاربة منه، لأنه قريب في كل أوان لا يبعده مكان ولا يقربه مكان، ولا يحويه مكان دون مكان، ولا يحتاج إلى مكان لأنه تعالى لم يزل قديماً قبل المكان ولا تجوز صفة القرب بالمكان إلا على الأجسام، لأنها
4673
محدثة بعد حدوث المكان، وكان الله ولا مكان. فالإتيان إلى الله إنماهو إتيان من الخلق يوم القيامة إلى ثواب الله وجزائه، وكذلك المعنى فيما كان مثله.
ثم قال: ﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات﴾.
أي: ومن يأت ربه موحداً له قد عمل ما أمره به، وانتهى عما نهى عنه: ﴿فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى﴾ أي: لهم درجات الجنة العلى. ثم بين تلك الدرجات ما هي، فقال: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ أي: حنات إقامة لا ظعن عنها ولا نفاذ لها ولا فناء ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار﴾ أي: / تجري من تحت أشجارها ماء الأنهار. خالدين فيها. أي: ماكثين فيها أبداً.
ثم قال: ﴿وذلك جَزَآءُ مَن تزكى﴾.
هذه الإشارة بـ " ذلك " هي إلى جميع ما تقدم بعد أولئك. أي: ذلك جزاء مَن تظهر من الذنوب.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي﴾.
أي: أوحينا إلى موسى إذ أبى فرعون أن يستجيب له، أن أسر بعبادي، يعني بني إسرائيل.
﴿فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً﴾.
أي: اتخذ لهم طريقاً في البحر يبساً. أي: يابساً. وهو مصدر نعت به الطريق. والمعنى: ذا يبس.
4674
ثم قال: ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى﴾.
أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوه، ولا تخشى غرقاً من بين يديك.
قال ابن جريج: " قال أصحاب موسى: هذا فرعون قد أدركنا وهذا البحر قد غشينا. فأنزل الله تعالى ذكره: ﴿لاَّ تَخَافُ دَرَكاً﴾ من أحصاب فرعون، ﴿وَلاَ تخشى﴾ من البحر وحلاً.
وتقديره عن الأخفش: لا تخاف دركاً فيه. ثم حذف " فيه ".
ومن قرأ ﴿لاَّ تَخَافُ﴾ بالرفع جعله في موضع الحال من موسى.
وقيل: هو نعت لطريق على تقدير: لا تخاف فيه.
وقيل: هو مستأنف على معنى: لست تخاف وتخشى، عطف عليه في الوجوه الثلاثة.
ومن قرا: لا تخف بالجزم، جعله جوباً للأمر في قوله: ﴿فاضرب﴾.
وقيل: هو جزم على النهي. نهى أن يخاف فرعون. ويكون ﴿وَلاَ تخشى﴾ مقطوعاً من الأول.
4675
وأجاز الفراء أن يكون معطوفاً على ﴿لاَّ تَخَافُ﴾ وثبتت الألف في الجزم كما ثبتت الياء والواو وهذا غلط عند جميع البصريين لأن الألف لا تتحرك فيقدر فيها حركة. والياء والواو يتحركان فيجوز أن تقدر فيهما حركة محذوفة. وأيضاً فإن ذلك لا يجوز في الياؤ والواو إلا الشعر.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ﴾ إلى قوله: ﴿ثُمَّ اهتدى﴾.
في الكلام حذف، والتقدير: فسرى موسى بهم فاتبعهم فرعون بجنوده.
والسرى، سير الليل. وكان فرعون ظن أن موسى ومن معه لا يفوتونه لأن البحر بين أيديهم. فلما أتى موسى البحر، ضربه بعصاه، فانفلق منه اثني عشر طريقاً. وبين الطريق والطريق الماء قائماً كالجبال فأخذ كل سبط طريقاً، فلما أقبل فرعون، ورأى الطريق في البحر، أوهم من معه أن البحر فعل ذلك لمشيئته. فدخل هو وأصحابه فانطبق البحر عليهم.
وروي أنهم لما تراءوا وطمع فرعون في موسى ومن معه أرسل الله ضبابة فسترت بعضهم من بعض حتى دخل موسى وقومه في البحر فلما أمنعوا في البحر، انجلت الضبابة، فنظر أصحاب فرعون فلم يروا منهم أحداً، فتقربوا حتى أتوا البحر،
4676
فرأوه منفلقاً. فيه طريق قائمة واضحة يابسة والماء قائم بين الطريق والطريق بمنزلة الجبل العظيم لا يتحرك ولا يزول، فشاهدوا هذه الآيات العظيمة، وأوهمهم فرعون أن البحر إنما انفلق من هيبته ومخافته فدخل خلف بني إسرائيل ليلحقهم، فلما استكمل هو وجنوده في داخل البحر، انطبق عليه، فهلكوا أجمعين.
وقوله: ﴿فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ﴾.
أي: ما غرقهم. وفيه معنى العظيم، ولذلك كنى عن الغرق بغشيهم.
قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعري شعري.
أي: شعري ما قد عرفتموه. فكنى عنه ليعظمه.
ثم قال: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى﴾.
أي: وجار فرعون بقومه عن سواء السبيل. ﴿وَمَا هدى﴾ أي: ما سلك بهم الطريق المستقيم. يعني في الإيمان والكفر، لأنه نهاهم عن اتباع الرسول فأطاعوه.
4677
ثم قال: ﴿يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ﴾.
يعني فرعون وهذا خطاب لهم بعد هلاك فرعون وجنوده في البحر.
ثم قال: ﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى﴾.
يذكرهم بنعمه عندهم وأياديه لديهم، وقد مضى تفسير هذا كله في البقرة.
﴿كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾.
أي: من شهية وحلاله.
﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ﴾.
أي: لا يظلم بعضكم بعضاً.
والمعنى: لا يحملنكم السعة والخصب/ على الطغيان فتظلموا فيحل عليكم غضبي. أي: ينزل بكم ويجب.
﴿وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى﴾.
أي: شقى وهلك، أي: صار إلى الهاوية وهي قعر جهنم، نعوذ بالله منها.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ﴾.
قال ابن عباس: ﴿لِّمَن تَابَ﴾ من الشرك و ﴿وَآمَنَ﴾ وحّد الله ﴿وَعَمِلَ صَالِحَاً﴾: أدّى الفرائض.
4678
والتقدير: وإني لستار لذنوب مَن تاب من الشرك.
وقل قتادة: وإني لغفار لمن تاب من ذنبه وآمن بربه وعمل صالحاً فيما بينه وبين الله جل ذكره.
وقوله: ثم اهتدى. معناه عند أبن عباس: لم يشكك.
وقال قتادة: ثم لزم الإسلام حتى يموت عليه.
وقال أنس بن مالك: ﴿ثُمَّ اهتدى﴾: أي: أخذ بسنة نبيه ﷺ.
وقال ابن زيد: ﴿ثُمَّ اهتدى﴾ ثم أصاب العمل.
وقال الفراء: " ثم اهتدى " ثم علم أن لذلك ثواباً وعليه عقاباً.
قوله تعالى ذكره: ﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى﴾ إلى قوله: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري﴾.
أي: وأي شيء أعجلك يا موسى وتركت قومك خلفك، وذلك أن الله تعالى
4679
أنجى موسى وقومه من فرعون وقطع به البحر وأهلك فرعون وقومه، ووعد موسى ومن معه جانب الطور الأيمن، فتعجل موسى إلى ربه، وترك قومه مع هارون يسير بهم في أثر موسى.
وقال ابن إسحاق: وعد الله موسى وقومه بعد أن أنجاه وقومه ثلاثين ليلة وأتمها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة تلقاه فيها بما شاء، واستخلف موسى على قومه هارون ومعه السامري يسير بهم على أثر موسى ليلحقه بهم. فلما كلم الله موسى. قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى. قال هم أولاء على أثري، وعجلت إليك رب لترضى.
وقيل: المعنى: أن الله تعالى ذكره وعد موسى أن يأتيه في جماعة من بني إسرائيل، ويترك باقيهم مع هارون. فخرج بجماعة من خيارهم، فتقدمهم موسى إلى الموضع الذي وعد بالإتيان إليه. فلذلك قال له تعالى ذكره
4680
﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى﴾ أي: عن القوم الذين أتوا معك للميعاد.
قيل: وعدهم أن يسمعوا كلام الله، فلذلك قال: هم أولاً على أثري أي: قريب، مني سائرون إلي. وإنماتقدمتهم لترضى عن].
ثم قال تعالى ﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري﴾.
أي: قد ابتلينا قومك من بعدك بعبادة العجل وإضلال السامري لهم، دعاؤه إياهم إلى عبادة العجل.
قيل: إن السامري كان من القبط، آمن بموسى، فترك الإيان فهو قوله ﴿فَنَسِيَ﴾ أي: فترك العهد، وأكثر الأقوال أنه من بني إسرائيل. وأنه ابن خالة موسى، ويكون قوله: " فنسي " يريد أنه من قول السامري. قال لهم: إن موسى نسي إلهكم عندي ومضى يطلبه. يريد العجل.
وأراد بقوله: " قومك من بعدك " الذين تأخروا مع هارون لا الذين صحبوا موسى ومضوا معه للميقات. وهم الذين اختارهم موسى للميقات، وهم سبعون. فلذلك قال موسى لما أخذتهم الرجفة فماتوا: ﴿أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ﴾ [الأعراف: ١٥٥]. يعني الذين تأخروا مع هارون وعبدوا العجل.
4681
ثم قال: ﴿فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غضبان أَسِفاً﴾.
أي: فانصرف موسى إلى قومه من بني إسرائيل بعد تمام الأربعين ليلة غضبان على قومه لاتخاذهم العجل من بعده.
﴿أَسِفاً﴾ أي: حزيناً لما أحدثوا من الكفر. والأسف: يكون الحزن، ويكون الغضب. ومن الغضب، قوله تعالى: ﴿فَلَمَّآ آسَفُونَا﴾ [الزخرف: ٥٥] أي: أغضبونا.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾.
أي: قال موسى عليه السلام لبني إسرائيل لما رجع إليهم غضباناً حزيناً: ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً. وذلك الوعد، قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى﴾.
وقيل: وعدهم إنزال التوراة عليهمز
وقيل: وعدهم الجنة إذا أقاموا على الطاعة.
وقيل: وعدهم أن يسمعهم كلامه/.
ثم قال: ﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد﴾.
أي: طال عليكم إنجاز الوعد.
وقوله: ﴿فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي﴾.
4682
كان قد وعدوه أن يقيموا على طاعته ويسيروا في أثره للموعد إلى جانب الطور الأيمن، فعبدوا العجل بعده وأقاموا، وقالوا لهارون: ﴿لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى﴾.
ثم قال تعالى: ﴿مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾.
من ضم الميم في " بملكنا ": فمعناه: ما أخلفنا موعدك بسلطاننا. أي: لم نملك الصواب ولا القدرة على ترك الأخلاف، بل كان ذلك خطأ منا.
ومن كسر الميم: فمعناه: ما أخلفنا موعدك بأن ملكنا الصواب. ومن فتح الميم فمعناه: بقوتنا.
وقيل: هي لغات يرجعن إلى معنى واحد.
وقيل: إن هذا من قول الذين لم يعبدوا العجل، أي: لم نملك ردهم عن عبادة العجل، ولا منعهم من ذلك، فتبرءوا منهم واعتذروا.
ثم قال: ﴿ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا﴾.
قال ابن عباس: كان مع بني إسرائيل حلي من حلي آل فرعون، فهو الأوزار من زينة القوم، أي قوم فرعون.
4683
ويقال: إن بني إسرائيل لما أرادوا موسى أن يسير بهم ليلاً من مصر بأمر الله، أمرهم أن يستعيروا من أمتعة آل فرعون وحليهم، وقال لهم: إن الله مغنمكم ذلك، ففعلوا، فذلك الزينة الذي حمِّلوا من زينة القوم.
وقوله: ﴿فَقَذَفْنَاهَا﴾.
أي: في النار لتذوب.
وقوله: ﴿فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري﴾.
أي: فألقى السامري الحلي مثل ذلك، أي: ألقى ما كان معه من تربة حافر فرس جبريل ﷺ فكاف في موضع نصب لمصدر محذوف.
قوله تعالى: ﴿فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ﴾. إلى قوله: ﴿وأطيعوا أَمْرِي﴾.
أي: أخرج لهم السامري من الحلي الذي قذفوه في النار، وألقى هو عليه التربة التي كانت معه، عجلاً محسداً، أي: له جسد لا روح فيه.
وقيل: كان لا رأس له، فلذلك قيل جسداً.
4684
وقوله: " له خوار "، أي: له صوت مثل البقر.
قال قتادة: " كان الله جل ذكره وقّت لموسى ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر، فلما مضت الثلاثون، قال عدو الله السامري: إنما أصابكم بالحلي الذي كان معكم، (يعني إنما أبطأ عليكم موسى عقوبة من أجلي الحلي، ثم قال لهم): فهلموا وكانت حلياً تعوروها من آل فرعون، فساروا وهي معهم، فدفعوها إليه، فصورها صورة بقرة، وكان قد صر في عمامته أو ثوبه قبضة من أثر فرس جبريل ﷺ فقذفها في الحلي والصورة فأخرج لهم عجلاً جسداً له خوار، فجعل يخور خوار البقرة، فقال: هذ ألهكم وإله موسى.
وقال السدي: إن هارون قال لهم: يا بني إسرائيل، إن الغيمة لا تحل لكم، وإن حلي القبط إنما هو غنيمة، فاجمعوها جميعاً واحفروا لها حفرة فادفنوها، فإن جاء موسى فأحلها أخذتموها، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه. فجمعوا ذلك الحلي في حفرة، فجاء السامري بتلك القبضة التي من حافر فرس جبريل عليه السلام، فقذفها فأخرج الله
4685
من الحلي عجلاً جسداً له خوار، وعدّت بنو إسرائيل موعد موسى، فعدّوا الليلة يوماً واليوم يوماً، فلما كان العشرون خرج لهم العجل، فلما رأوه، قال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى، ﴿فَنَسِيَ﴾، فعكفوا عليه يعبدونه، وكان يخور ويمشي.
وقوله: ﴿فَنَسِيَ﴾ يعني فنسي السامري دينه، أي تركه حين أمرهم بعبادة العجل.
قال ابن عباس: ﴿فَنَسِيَ﴾: أي: ترك السامري ما كان عليه من الإيمان، فيكون ﴿فَنَسِيَ﴾ من قول الله جل ذكره، إخباراً عن السامري.
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿فَنَسِيَ﴾ أي: فنسي موسى إلاهه عندكم وذهب يطلبه، فأضله ولم يهتد إليه.
فيكون ﴿فَنَسِيَ﴾ من قول السامري لبني إسرائيل، وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد.
وقيل: معناه: فنسي موسى الطريق وضل عنه.
وقيل: فنسي السامري العهد الذي عهد إليه في الإيمان، فيكون/ ﴿فَنَسِيَ﴾ على هذا القول من الترك. وعلى القولين الأولين من النيسان.
ثم قال تعالى: ﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً﴾. أي: أفلا يرى هؤلاء
4686
الذين عبدوا العجل أنه لا يكلمهم ولا يرد عليهم جواباً. وهذا توبيخ لهم.
﴿وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾.
أي: لا يقدر لهم على ضر ولا نفع، فكيف يكون من هذه حاله إلهاً يُعبد؟!.
ثم قال: ﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ﴾ أي قال لهم هارون من قبل رجوع موسى إليهم: يا قوم، ﴿إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ﴾ أي: إنما أخبركم الله به لينظر محافظتكم على الإيمان بهذا العجل الذي أحدث فيه الخوار، فيعلم صحيح الإيمان من مريض القلب الشاك في دينه.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي﴾ أي: إن معبودكم الذي يستحق العبادة هو الرحمن، فاتبعوني ولا تعبدوا غيره. وأطيعوا أمري في ترك عبادة العجل.
قوله تعالى ذكره: ﴿قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ﴾ إلى قوله: ﴿إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾.
أي: قال بنو إسرائيل لهارون لما نهاهم عن عبادة العجل: لن نفارق عبادة العجل حتى يرجع إلينا موسى.
ثم قال: ﴿قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ﴾ في الكلام حذف. والتقدير: لما رجع موسى، قال: يا هارون: ما منعك أن تتبعني بمن لم يعبد العجل على ما كان بين وبينهم.
قال ابن عباس: لما قال القوم: ﴿قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى﴾، أقام هارون بمن معه من المسلمين ممن لن يفتتن، وأقام من يعبد العجل على عبادة العجل،
4687
وخشي هارون إن مضى في أثر موسى بمن معه من المسلمين أن يقول له موىس: فرقت بين بني إسرائيل، ولم ترقب قولي. وكن هارون لموسى مطيعاً.
وقال ابن جريج: أمر موسى هارون أن يصلح ولا يتبع سبيل المفسدين فذلك قوله: ما منعك ألا تتبعني أفعصيت أمرمي أي: ألا تتبع ما أمرتك به من الصلاح عليهم.
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾.
في الكلام حذف، والتقدير: فأخذ موسى بلحية هارون يجره إليه، فقال هارون: ﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي﴾.
وقيل: المعنى: لا تفعل هذا، فيتوهموا أنه منك استخفاف وعقوبة.
وقيل: إن موسى إنما فعل هذا على غير استخفاف ولا عقوبة، كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه.
وقوله: ﴿إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾.
قال ابن زيد: خشي هارون أن يمضي في أثر موسى بمن بقي معه من المسلمين الذين لم يعبدوا العجل، ويترك الذين قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا
4688
موسى، فيقول له موسى فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي: أي: جئت بطائفة وتركت طائفة. وهو قول ابن عباس.
وقال ابن جريج: معنه: خشيت أن نقتتل فيقتل بعضنا بعضاً.
ومعنى: ﴿وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾ أي: ولم تحفظ قولي.
ثم قال: ﴿قَالَ فَمَا خَطْبُكَ ياسامري﴾.
أي: فما شأنك، وما الذي دعاك إلى ما صنعت؟ قال: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ﴾: أي: علمت ما لم يعلما.
قال ابن جريج: لما قتل فرعون الولدان، قالت أم السامري: لو نحيته حتى لا أراه ولا أرى قتلته. فجعلته في غار، فأتى جبريل عليه السلام فجعل كف نفسه في فيه، فجعل يرضع العسل واللبن، فجعل يختلف إليه حتى عرفه، فمن ثم معرفته إياه حين قبض قبضة من أثر فرس جبريل عليه السلام.
وقيل: معنى: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ﴾ أي: أبصرت ما لم يبصروا يعني: فرس جبريل.
ومن قرأ بالياء، جعله إخباراً عن بني إسرائيل.
4689
ومن قرأ بالتاء. جعله خطاباً لموسى وبني إسرائيل.
ثم قال: ﴿فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول﴾.
أي: من أثر حافر فرس جبريل عليه السلام.
وقرأ الحسن وقتادة: فقبصت قبصة بالصاد غير المعجمة، وذلك الأخذ بأطراف الأصابع.
" والقبضة " على قراءة الجماعة قبضك على الشيء بملء كفك مرة واحدة.
" والقُبضة " بضم القاف، مقدار ما يقبض كالغرفة والغرفة.
وقوله: ﴿فَنَبَذْتُهَا﴾.
أي: ألقيتها في العجل ليخور.
﴿وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾.
أي: زيّنت لي نفسي أن الحلي إذا سبك وألقيت فيه القبضة أنه يصير عجلاً جسداً.
وروى أبو صالح عن ابن عباس أنه قال/: " لما خرج موسى عليه السلام ببني
4690
إسرائيل السبعين رجلاً، أمرهم أن ينتظروه في أسفل الجبل، وصعد موسى الجبل وكلمه الله أربعين يوماً وليلة، وكتب له في الألواح وأن بني إسرائيل عدوا عشرين يوماً وعشرين ليلة، فاستبطأوا موسى بعد ذلك، فاتخذوا العجل من بعده، قال: فبلغنا - والله أعلم - أن الله قال لموسى عند ذلك أن قومك قد اتخذوا العجل من بعدك، قال: عجلاً جسداً له خوار. فقال مسى: رب، من جعله لهم؟ فقال السامري، فقال موسى: رب، السامري جعل لهم العجل وأنت فتنت قومي بالخوار، وجعلت الروح فيه، فما أصنع؟ فرجع موسى إلى قومه معه السبعون رجلاً، ولم يخبرهم موسى بالذي أحدث بنو إسرائيل بـ عده من عبادة العجل، وبالذي قال له ربه، فلما غشي موسى ومن معه محلة قومه، سمع اللغط حول العجل، فقال السبعون الذين معه: ما هذا في المحلة؟ أقتال؟ فقال موسى ﷺ: ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة، فلما دخل موسى، ونظر إلى ما يصنع بنو إسرائيل حول العجل، غضب،
4691
فألقى الألواح، فتسكرت، وصعد عامة الذي كان فيها من كلام الله وأخذ موسى برأس أخيه يجره إليه، فقال له هارون: يا أخي ﴿لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾، فأرسله ثم أقبل على السامري، فقال: ما خطبك يا سامري، ولِمَ صنعت ما أرى، فقال له ما نص الله علينا، فأمر موسى بالسامري أن يخرج من محلة بني إسرائيل، وأن لا يخالطهم في شيء، وأمر بالعجل فذبح، ثم أحرقه بالنار، ثم ذراه في اليم، ثم أتاهم موسى بكتاب ربهم فيه الحلال والحرام، والفرائض والحدود فلما نظروا إليه قالوا: لا حاجة لنا في الذي آتيتنا به، فإن العجل الذي حرقت كان أحب إلينا من الذي آتينا به فلسنا بقابليه ولا آخذين بما فيه. فقال موسى: رب إن عبادك بني إسرائيل قد ردوا كتابك وكذبوا نبيك، فأمر الله تعالى الملائكة فرفعوا الجبل فغشوا به بني إسرائيل حتى ظلوا به عسكرهم، فحال بينهم وبين السماء، فقال موسى ﷺ: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقى عليكم الجبل، فقالوا: سمعنا وعصينا الذي جئتنا به، ثم أخذوا ولم يجدوا من أخذه بداً، فرفع عنهم الجبل فنظروا في الكتاب، فبين راض وكاره ومؤمن وكافر فعفا الله تعالى عنهم، فهو قوله: ﴿ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
4692
[ثم قال: وكذلك سولت لي نفسي].
وقال ابن زيد: كذلك حدثتني نفسي.
ثم قال تعالى جلّ ذكره: ﴿قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ﴾.
أي: قال موسى للسامري: فاذهب فإنك لك في حياة الدنيا: أي: أيام حياتك أن تقول لا مساس، أي لا أمس، أي: عقوبتك في الدنيا أن لا تكلم ولا تخالط.
وقيل: معناه: لك في [الحياة] الدنيا أن تعيش مع البهائم والسباع والوحوش في البرية، مستوحشاً لا تقرب أحداً ولا تمس أحداً ولا يمسك أحد.
وروي أن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل ألا يؤاكلوه، ولا يخالطوه ولا يبايعون، فلذلك قال له: أن تقول لا مساس وذلك فيما يذكر في قبيلته إلى الآن.
وقال قتادة: كان السامري عظيماً من عظماء بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعدما قطع البحر مع بني إسرائيل.
وقال ابن جبير: كان من أهل كرمان.
وقوله: ﴿لاَ مِسَاسَ﴾ منصوب على التبرئة ك (لا رجل في الدار).
4693
ويجوز: ﴿لاَ مِسَاسَ﴾ بكسر السين وتبنيه على الكسر.
ثم قال: ﴿وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ﴾ يعني القيامة.
ومن كسر اللام، أراد لن تغيب عنه، وهو قول قتادة، أي: تأتي إليه طائعاً أو كارهاً وفيه معنى التهديد والوعيد، ولفظه لفظ الخبر.
ومن فتح اللام، أراد لن يخلفكه الله، ثم رد إلى ما لم يسم فاعله.
ثم قال: ﴿وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً﴾.
أي: انظر إلى العجل الذي عبدته من دون الله، وأقمت بعدي على عبادته لنحرّقنّه بالنار قطعة بعد قطعة، لأن في التشديد معنى التكثير.
وقرأ الحسن: بتخفيف الراء على معنى: لنحرقنه/ مرة واحدة.
وقرأ أبو جعفر القارئ: ﴿لَّنُحَرِّقَنَّهُ﴾ بفتح النون وضم الراء، بمعنى لنبردنه
4694
بالمبارد، يقال: أحرقه وحرقه بالنار، يحرقه ويُحَرِّقه: إذا نحته بمبرد أو غيره.
وقراءة أبي جعفر تروى عن علي وابن عباس.
قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنهـ: أمر موسى بالعجل فبرج في البحر فلم يشرب منه أحد ممن عبد العجل إلا اصفّر لونه، فقالوا: ما توبتنا قال: أن يقتل بعضكم بعضاً، فأخذوا السكاكين، فكان الرجل يقتل أباه وأخاه حتى قُتِلَ منهم سبعون ألفاً، فأوحى الله إليه: مرهم فليرفعوا القتل، فقد رحمت مَن قتل منهم، وقد تبت على مَن بقي.
وقوله: ﴿ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً﴾ أي: لنذرينه في البحر ذرواً.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾.
أي: إنما معبودكم الذي تجب له العبادة والإخلاص لله الذي لا معبود إلا هو، وسع كل شيء علماً أي: أحاط بكل شيء علماً فلا يَخفى عليه شيء.
قال قتادة: معناه: ملأ كل شيء علماً.
يقال: فلان يسع هذا الأمر، إذا أطاقه وقَوِيَ عليه.
ثم قال تعالى: ﴿كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ﴾.
4695
أي: كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى وقومه، كذلك نقص عليك من أخباكر من قد سبق قبلك مما لم تشاهده، ولا عاينته.
ثم قال: ﴿وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً﴾.
أي: وقد أعطيناك يا محمد من عندنا ذكراً تتذكر به وتتعظ. وهو القرآن.
﴿مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً﴾.
أي: من لم يؤمن به ويعمل بما فيه، فإنه يحمل يوم القيامة إثماً عظيماً ﴿خَالِدِينَ فِيهِ﴾ أي: [ما كثين] في عقوبته في النار.
ثم قال تعالى وجل ثناؤه: ﴿وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً﴾.
أي: وساء لهم الوزر حملاً. أي: بئس الوزر لهم. يعني ذنوبهم.
ثم قال تعالى: ﴿يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور﴾.
﴿يَوْمَ﴾ بدل من يوم الأول، والمعنى: يوم ينفخ ملك الصور فيه. ثم رد إلى ما لم يسم فاعله، وكانت الياء أولى عند من قرأ بها، لأن النفخ في الصور لا يتولاه الله جل ذكره، إنما يتولاه الملك، بأمره وقدرته. ولا حجة في " ونحشر " لأن النافخ الملك والحاشر الله.
4696
ومَن قرأه بالنون، فلأن بعده، ونحشر فأتى بالفعلين على الإخبار عن الله جل ذكره للمطابقة لأن الله تعالى هو الفاعل لجميع الأحوال المقدر لها.
ثم قال تعالى: ﴿وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً﴾.
أي: زرق الأعين من العطش الذي يكون بهم في الحشر.
وقال ابن عباس: يكونون يوم القيامة في حال عمياً، وفي حال زرقاً.
وقال جماعة زرقاً: عمياً.
ويروى: أنهم يقومون من قبروهم يبصرون، ثم يصيرون عمياً.
ويروى: أنهم لا يبصرون شيئاً إلا جهنم.
وقيل: زرقاً شعثين متغيرين كلون الرماد.
ثم قال: يتخافتون بينهم. أي: يسرون القول بينهم، يقولون بعضهم لبعض، إن لبثتم في الدنيا إلا عشراً.
4697
وأصل الخفت في اللغة السكون. أي: ما لبثتم من النفخة الأولى إلى البعث، إلا عشراً، وبين النفختين أربعون سنة.
ثم قال: ﴿نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً﴾ أي: نحن أعلم بسرهم إذ يقول: أمثلهم طريقة أي: أعلمهم في أنفسهم إن لبثتم إلا يوماً، وذلك من شدة هول المطلع، ينسون ما كانوا فيه في الدنيا من النعيم وطول العمر حتى يتخيل إليهم من شدة ما هم فيه أنهم لم يعيشوا في الدنيا إلا يوماً واحداً.
وقيل: ذلك تقديرهم فيما بين النفختين.
وقيل: عني بذلك إقامتهم في القبور، ظنوا أنهم لم يلبثوا فيها إلى يوماً بعد انقطاع العذاب عنهم في القبور، لأنهم في طول مكثهم يعذبون، ثم ينقطع عنهم العذاب فيما بين النفختين.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾.
المعنى: ويسألك يا محمد قومكم عن الجبال، فقل يذريها ربي تذرية. وهو تصييرها هباء منبثاً، فَيَذَرُها قَاعاً. أي: فيذر أماكنها قاعاً، أي: أرضاً ملساء صفصفاً:
4698
أي: مستوياً لا نبات فيها ولا نشز ولا ارتفاع.
وقيل: معناه يجعلها رملاً، ثم يرسل عليها الرياح تنسفها وتفرقها حتى يصير مواضعها قاعاً مستوياً. فالصفصف، المستوى.
قال ابن عباس: قاعاً صفصفاً/: مستوياً، لا نبات فيه.
والقاع في اللغة، المكان المنكشف.
والصفصف: المستوى الأملس.
وقال بعض أهل اللغة: القاع: مستنقع الماء. والصفصف الذي لا نبات فيه.
ثم قال: ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾.
معناه عند ابن عباس: لا ترى فيها وادياً ولا رابية.
والأمت عند أهل اللغة، أن يكون في الموضع ارتفاع وانهباط وعلو وانخفاض.
وقال قتادة: ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً﴾ أي: صدوعاً، ﴿ولا أَمْتاً﴾ أي: دوعاً، ﴿ولا أَمْتاً﴾
4699
أي: أكمة.
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿عِوَجاً﴾: ميلاً، والأمت: الأثر: مثل الشراك.
ثم قال تعالى ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ﴾ أي: يومئذ إذ يتبع الناس صوت الداعي الذي يدعوهم إلى موقف القيامة، ﴿لاَ عِوَجَ لَهُ﴾ أي: لا عوج لهم عنه، ولكنهم يأتمون به، ويأتونه.
قال محمد بن كعبك القرظي: يحشر الناس يوم القيامة في ظلمة، تطوى السماء وتتناثر النجوم، وتذهب الشمس والقمر، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه.
وقوله: ﴿وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن﴾.
أي: وسكنت أصوات الخلائق للرحمن. فلا تسمع إلا همساً.
أي: حس الأقدام إلى المحشر، قاله: ابن عباس وعكرمة والحسن.
وقيل: هو الصوت الخفي الذي يوجد لتحريك الشفتين، وأصله الصوت الخفي.
يقال: همس فلان إلى فلان بحديث، إذا أسره إليه وأخفاه.
وعن ابن عباس أيضاً: ﴿هَمْساً﴾ صوتاً خفياً. وهو قول مجاهد.
4700
ثم قال: ﴿يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن﴾.
أي: لا تنفع الشفاعة، إلا شفاعة من أذن له الرحمن في الشفاعة، ﴿وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً﴾ أي: قال: لا إله إلا الله.
﴿يَوْمَئِذٍ﴾ بدل من الأولى. وإن شئت جعلته متعلقاً به ﴿يَتَّبِعُونَ﴾ فتبتدئ به إن شئت، ولا تبتدئ به في القول الأول.
ثم قال تعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾.
قال قتادة: " ما بين أيديهم من أمر الشفاعة وما خلفهم من أمر الدنيا ".
وقيل: معناه: علم ما بين أيدي هؤلاء، الذين يتبعون الداعي من أمر القيامة، وما الذي يصيرون إليه من الثواب والعقاب، وما خلفهم أي ما خلفوه وراءهم من أمر الدنيا.
﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً﴾ أي: لا يحيط خلقه به علماً، وهو يحيط بهم علماً.
وقيل: المعنى، لا يحيطون بما بين أيديهم وما خلفهم علماً. فتكون الهاء تعود على " ما ".
وقال الطبري: الضمير في أيديهم وخلفهم، يعود على الملائكة، وكذلك هو في يحيطون. أعلم الله بذلك الذين كانوا يعبدون الملائكة، وأن الملائكة لا تعلم ما بين أيديها وما خلفها يوبخهم بذلك. وإن من كان هكذا، كيف يعبد، وأن العبادة إنما
4701
تصلح لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. وهو الله لا إله إلا هو.
قوله تعالى: ﴿وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم﴾ إلى قوله: ﴿زِدْنِي عِلْماً﴾.
قال ابن عباس: ﴿عَنَتِ﴾: ذلك أي: استسلمت.
وقال مجاهد: ﴿عَنَتِ﴾ خشعت.
وقال طلق بن جبيب: هو وضعك جبهتك وأنفك وركبتك وكفيك وأطراف قديمك في السجود فهذا يراد به أنها عنت في الدنيا، والأقوال غير هذا يراد بها الآخرة.
وقال ابن زيد: ﴿عَنَتِ﴾ استأسرت للحي القيوم. أي: صاروا أسارى.
وقال الفراء: ﴿عَنَتِ﴾ الوجوه نصبّ وعملته، والعاني الأسير.
وهذا قول أهل اللغة، أن العاني الأسير، سمي بذلك لأنه يذل ويخضع.
ومنه الحديث: " النساء عندكم عوان " ومنه: افتتحت الأرض عنوة، ومنه: عنيت فلانا.
4702
ثم قال تعالى: ﴿وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾.
أي: قد خسر من حمل يوم القيامة شركاً بالله، قاله: قتادة وابن زيد وغيرهما.
ثم قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً﴾.
أي: مَن يؤد الفرائض التي افترض الله عليه، وهو مصدق بالله وملائكته وكتبه ورسله، فلا يخاف ظلماً، أي: لا يخاف أن تحمل عليه سيئات غيره ويعاقب عليها.
﴿وَلاَ هَضْماً﴾ أي: نقصاً من ثوابه. قاله قتادة وغيره.
ومن قرأ: فلا يخف بالجزم، جعله نهياً، نهاه الله جل ذكره عن الخوف من أن يصيبه ظلم أو هضم.
وقال ابن جريج/: ﴿الصالحات﴾ هنا: الفرائض.
وقال الضحاك: ﴿وَلاَ هَضْماً﴾: هو أن يقهر الرجل الرجل بقوته وأصل الهضم، الانتقاص يقال: هضمني فلان حقي، أي: نقصني، ومنه امرأة هضيم الكشح، أي: ظاهرة البطن. وهذا دواء يهضم الطعام. أي: ينقصه، فيزول ثقله.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد﴾.
المعنى: كما رغب أهل الإيمان في صالح الأعمال فوعدهم ما وعدهم، كذلك حذر بالوعيد أهل الكفر، فقال: ﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً﴾ أي: أنزلناه بلغتكم أيها
4703
العرب لتفهموه. ﴿وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد﴾ أي: وخوفناهم بضروب من الوعيد ﴿لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ ما فيه من الوعيد أو يحدث لهم ذكراً فينقلبون عما هم مقيمون عليه من الكفر بالله، يعني: أو يحدث لهم القرآن ذكراً.
قال قتادة: " ذكرا ": ورعاً.
وقيل: معناه: أو يحدث لهم شرفاً بإيمانهم به، كما قال: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ أي: شرفكم إن آمنتم به. روي ذلك أيضاً عن قتادة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿فتعالى الله الملك الحق﴾ أي: فتعالى الله الذي له العبادة من جميع خلقه، ملك الدنيا والآخرة جميعاً على ما يصفه به المشركون من خلقه.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ﴾.
أي: لا تعجل بالقرآن فتقرئه أصحابك أو تقرأه عليهم من قبل أن يقضى إليك وحيه، أي: بيان معانيه فأمر النبي ﷺ ألا يكتب القر آن أو يتلوه على أحد حتى يبينه له، قال: ابن عباس وقتادة.
4704
وقيل: إن النبي ﷺ كان يستعجل القراءة من قبل أن يفرغ جبريل مما يأتيه به، خوف النيسان. ومنه ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ﴾ [القيامة: ١٦].
﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾ أي: زدني علماً إلى ما علمتني. أمره الله تعالى أن يسأل ذلك.
وذكر ابن وهب أن الحسن قال: أتت امرأة النبي ﷺ فقالت: " إن زوجي لكم وجهي " قال لها: بينكما القصاص، فأنزل الله تعالى: ولا تعجل بالقرآن... الآية. فأمسك النبي ﷺ حتى نزلت: ﴿الرجال قوامون عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ﴾ [النساء: ٣٤].
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ﴾ إلى قوله: ﴿وَلاَ تضحى﴾.
المعنى: أن يترك هؤلاء المشركون أمري، ويتبعوا أمر عدوهم إبليس، فقديماً فعل أبوهم آدم ذلك. فلقد عهدنا إليه أن إبليس عدوه، فنسي، وأطاعه، أي: فترك ما عهد إليه، وأطاع إبليس إذ وسوس إليه.
قال ابن عباس ومجاهد: " نسي " ترك أمر الله.
4705
وقال الحسن: " نسي ": ترك: ولو كان من النيسان، لم يكن عليه شي.
وقال ابن زيد: العهد الذي عهد الله جلّ ذكره إلى آدم هو قوله: ﴿إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ﴾ أي: نسي العداوة التي أعلم بها.
وقيل: قول عدوه، فيكون نسي من النسيان على هذا القول لا من الترك.
وقال ابن عباس: إنما سمي الإنسان إنسانً لأنه عهد إليه فنسي.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾.
قال قتادة: ﴿عَزْماً﴾: صبراً.
وقال عطية: ﴿عَزْماً﴾ خفظاً لما أمر به. وروي ذلك عن ابن عباس.
وقال ابن زيد: " العزم ": المحافظة والتمسك بأمر الله.
وعن ابن عباس: ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾ أي لم نجل له عزماً.
قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم، يعني: عقولهم جمعت منذ خلق الله آدم
4706
إلى أن تقوم الساعة، وضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة [الأخرى] لرجح حلمه بأحلامهم وقد قال الله تعالى ذكره ﴿وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾.
وقيل: المعنى: " ولم نجد له عزماً " على ترك المعصية. وأصل العزم في اللغة، اعتقاد القلب على الشيء، فيكون المعنى على هذا، ولم نجد له عزم قلب على الصبر على الوفاء بما عهد إليه.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ﴾ أي: واذكر يا محمد، إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدمك أي اجعلوه قبلة لأنهم أمروا بالعبادة له والسجود له دون الله، فسجدوا إلا إبليس أبى. وهذا تذكير من الله تعالى لنبيّه بما كان من قصة آدم، وأن أولاده لن/ يعدوا أن يكونوا على منهاجه في ارتكاب المعاصي إلا من عصمه الله.
ثم قال تعالى: ﴿فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ﴾.
ولذلك لم يسجد لك وخالف أمري.
﴿فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى﴾.
أي: لا تطيعاه فيما يأمركما به فيخرجكما من الجنة. أي: فيكون عيشك من كد
4707
يمينك، فهو من شقاء الدنيا لا من شقاء الآخرة.
قال ابن جبير: أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه ويسمح العرق عن جبينه، فذلك قوله: " فتشقى " فكان ذلك شقاوه.
وجرى الخطاب لآدم وحده، إذ قد علم أن حكم حواء حكمه، ولأن ابتداء الخطاب كان لآدم وحده في قوله " يا آدم إن هذا عدو لك " ولأن التعب في المعيشة في الدنيا على الرجل يجري أكثره، فخصّ بالخطاب لذلك.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى﴾.
أي: إن لك الشبع في الجنة والكسوة والري والسترة.
ومعنى " ولا تضحى " لا يصيبك حرّ الشمس، ولا تظهر إليها، لأن الشمس جعلها الله دون الموضع الذي كان فيه، فليس في الجنة شمس ولا في السماء السابعة. " والظمأ " العطش، مقصور مهموز. والظمى مقصور على غير مهموز سعة في الشفتين.
وقد قال ابن عيينة في الآية، أنه يراد بها الأرض.
4708
فالهاء في " فيها " في الموضعين تعود على الأرض، وهي في القول الأول تعود على الجنة.
قوله تعالى ذكره: ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان﴾ إلى قوله: ﴿مَعِيشَةً ضَنكاً﴾.
أي: فألقى إلى آدم الشيطان، فقال له: ﴿ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد﴾ أي: على شجرة من أكل منها خلد فلم يمت، ﴿وَمُلْكٍ لاَّ يبلى﴾ أي: لا ينقضي. وقال السدي: على شجرة الخلد: أي: على شجرة إن أكلت منها كنت ملكاً مثل الله تعالى، أو تكونا من الخالدين "، لا تموتان أبداً.
ثم قال تعالى: ﴿فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا﴾ أي: فأكل آدم وحواء من الشجرة التي نهيا عنها، وأطاعا أمر إبليس، فبدت لهما سواءتهما. أي ظهرت وانكشفت لهما عورتهما، وكانت مستورة عن أعينهما.
قال السدي: إنما أراد إبليس اللعني أن يظهر لهما سوءاتهما، لأنه علم أن لهما سوأة، لما كان يقرأ من كتب الملائكة، ولم يعلم ذلك آدم، وكان لباسهما الظفر، فأبى آدم أن يأكل منها، فتدمت حواء فأكلت منها. ثم قالت: يا آدم، كُلْ [فإني] قد أكلت،
4709
فلم يضرني، فلما أكل آدم منها بدت لهما سوءاتهما.
ثم قال: ﴿وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة﴾ أي: أقبلا.
وقيل: معناه: جعلا يخصفان عليهما ورق التين. قاله السدي.
وقال قتادة: ﴿يَخْصِفَانِ﴾ يوصلان.
ثم قال تعالى: ﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾.
أي: وخالف آدم أمر به، فتعدى إلى الأكل من الشجرة فغوى.
ثم قال: ﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾.
أي: اصطفاه [واختاره] ربه بعد معصيته وهداه للتوبة ووفقه لها.
ثم قال: ﴿قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾. أي: قال الله لآدم وحواء اهبطا من الجنة جميعاً إلى الأرض، أي: انزلا. وهذا يدل على أن الجنة في السماْ.
﴿بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ﴾.
أي: أنتم عدو إبليس وذريته، وإبليس عدوّكما، وعدو ذريتكما.
4710
قال الضحاك: أُهبط آدم بالهند على جبل يقال له الوسي على رأسه أكليل من ريحان الجنة، وفي يده قبضة من حشيشها فانتثر في ذلك الجبل، فكان منه الطيب، وأهبطت حواء بجدة وأهبط إبليس بالبصرة.
ثم قال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى﴾.
يعني: آدم وحواء وإبليس. أي: بيان لسبيلي وما اختاره لخلقي من ديني. ﴿فَمَنِ اتبع هُدَايَ﴾ أي: بياني وعمل به.
﴿فَلاَ يَضِلُّ﴾ أي: ليس يزول عن حجة الحق.
﴿وَلاَ يشقى﴾ أي: في الآخرة بعذابها.
قال ابن عباس: فضمن الله لمن قرأ القرآن، واتّبع ما فيه، أن لا يضلّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة. أي: وقاه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب. ثم تلا هذه الآية.
وقال ابن جبير: من قرأ القرآن واتبع ما فيه، عصمه الله من الضلالة ووقاه.
ثم قال: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي﴾.
أي: من لم يؤمن بالقرآن، ﴿فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً﴾.
قال ابن عباس/: هي الشقاء.
4711
وقال مجاهد: معيشة ضيقة. وهو قول قتادة.
وذلك في جهنم، لأنه جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم. قاله: الحسن وابن زيد وقتادة.
وقيل: عني بذلك أكلهم في الدنيا الحرام، فالحرام ضيق بسوء عاقبته وإن اتسع في الظاهر. قاله: عكرمة والضحاك.
وعن ابن عباس أنه: كل ما أنفق في غير ذات الله فهو معيشة ضنك.
وعن أبي سعيد الخدري أنه: عذاب القبر يضيق عليه في قبره، حتى تخلتف أضلاعه، وقاله السدي: وهو مروي عن النبي ﷺ.
روي عنه أنه قال: " أتدرون ما المعيشة الضنك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال
4712
عذاب الكافر في قبره، والذي نفسي بيده، إنه يسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون عحية لكل حية سبعة رؤوس ينفخن في جسمه ويلسعنه ويخدشنه إلى يوم القيامة ".
وروى أبو هريرة رضي الله عنهـ أن النبي ﷺ قال: " إن المؤمن إذا ألحد في قبره أتاه ملكان أرزقان أسودان، فيأتيانه من قبل رأسه، فتقول صلاته لا يؤتى من قبلي، فرب ليلة قد بات فيها ساهراً حذاراص لهذا المضجع فيوتى من قبل رجليه، فتقول رجلاه لا يؤتي من قبلنا، فقد كان ينصب ويمشي علينا في طاعة الله حذاراً لهذا المضجع فيؤتى من قبل يمينه فتقول صدقته لا يؤتى من قبلي، فقد كان يتصدق حذاراً لهذا المضجع، فيؤتى من قبل شماله، فيقول صومه لا يؤتى من قبلي، فقد كان يجوع ويظمأ حذاراً لهذا المضجع، فيوقظ كما يوقظ النائم، ثم يسأل ".
قوله تعالى: ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ إلى قوله: ﴿لأُوْلِي النهى﴾.
قال مجاهد: أعملى عن حجة، لا حجة له يهتدي بها، وقاله أبو صالح.
وقيل: معنى ذلك، أنه لا يهتدي إلى وجه ينال منه نفعاً ولا خيراً، كما لا يهتدي الأعمى إلى الجهات المنافع في الدنيا.
وقيل: " أعمى " من عمى البصر، كما قال: ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً.
4713
ثم قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴾.
قال مجاهد، معناه: لِمَ حشرتني ولا حجة لي، وقد كنت عالماً بحجتي بصيراً بها عند نفسي في الدنيا.
وقال إبراهيم بن عرفة: كلما ذكر الله جلّ وعز في القرآن من العمى، فذمّه فإنما يريد به عمى القلب. قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور﴾.
وقيل: معناه، وقد كنت ذا بصر أنظر به الأشياء في الدنيا.
وقيل: معنى الآية: ونحشره يوم القيامة أعمى عن حجته، ورؤية الأشياء، لأن الآية عامة.
وقوله: " لم حشرتني أعمى "، أي: أعمى عن حجتي وعن رؤية الأشياء وقد كنت بصيراً، أي بصيراً بحجتي في الدنيا رائياً للأشياء.
وهذا سؤل من العبد لربه أن يعلمه الجُرم الذي استحق ذلك عليه، لأنه جهله وظن أنه لا ذنب له، فقال الله جلّ ذكره: ﴿قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا﴾ أي: فعلت ذلك بك كما أتتك آياتنا، وهي ما أنزل في كتابه من فرائضه.
﴿فَنَسِيتَهَا﴾. أي فتركتها، أي: أعرضت عنها، ولم تؤمن بها.
4714
﴿وكذلك اليوم تنسى﴾.
أي: كما نيست آياتنا في الدنيا، ولم تؤمن بها، كذلك تترك اليوم في النار.
وقال قتادة: ﴿وكذلك اليوم تنسى﴾ أي: تنسى من الخير، ولم تنسى من الشر.
ثم قال: ﴿وكذلك نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ﴾.
أي: وهكذا نتيبُ من أسرف فعصى ربه، ولم يؤمن برسله وكتبه، فنذيقه معيشة ضنكاً في البرزخ ﴿وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى﴾. أي: ولعذاب الله إياهم في الآخرة أشد من عذاب القبر " وأبقى " أي: أدوم.
ثم قال: ﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون﴾.
أي: أفلم يهد يا محمد لقومك كثرة ما أهلكنا قبلهم من القرون الماضية، يمشرون في مساكنهم وآثارهم، ويرون آثار العقوبة التي أحللنا بهم لما كفروا، فيؤمنون بالله وكتبه ورسله خوفاً أن يصيبهم بفكرهم مثل ما أصاب القرون قبلهم، فيكون " كم " فاعلة ليهد على هذا التقدير، كأنه قال: أفلم يهد لهم القرون التي هلكت. " ويهد " بمعنى، يبين، وشاهد هذا التقدير أن في حرف/ ابن مسعود: أفلم يهد لهم من أهلكنا قبلهم فكم في موضع " من ".
وقيل: " كم " استفهام، فلا يعمل ما قبلها فيها، وهي في موضع نصب
4715
ب " أهلكنا ". وهذا القول هو الصحيح عند البصريين، لا يعمل ما قبل " كم " فيها خبراً كانت أو استفهاماً، إنما يعمل فيها عندهم ما بعدها، كأي في الاستفهام.
وكانت قريش تسافر إلى الشام، فيرون آثار عاد وثمود ومن هلك بكفره قبلهم وبعدهم، فحذرهم الله أن يصيبهم مثل ما عاينوا.
وقيل: التقدير: أفلم يهد لهم الأمر، بإهلاكنا من أهلكنا، فالفاعل مضمر.
وقال المبرد: الفاعل المصدر، ودل " يهدي " عليه، كأنه قال: يهدي الهدى.
ثم قال تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى﴾.
أي: إن في ما يعاين هؤلاء من مساكن القرون الهالكة التي كذبت رسلها قبلهم لدلالات وعبراً ومواعظ لأولى القعول.
وقال ابن عباس: ﴿لأُوْلِي النهى﴾: لأولي التقى.
وقال قتادة: لأولي الورع.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ إلى قوله: ﴿خَيْرٌ وأبقى﴾.
4716
أي: ولولا أن الله قدر أن كل من قضى له أجلاً، فإنه لا يحترمه قبل بلوغ ذلك الوقت، والأجل المسمى " لكان لزاماً " أي: لكان العذاب لزاماً لهم.
وقيل: المعنى: لولا أنه قد سبق في علم الله تأخير عذاب هذه الأمة إلى يوم القيامة لكان العذاب لازماً لهم على كفرهم.
وقل: معنى: ﴿كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ﴾ أي: أنه لا يعذبهم حتى يبلغوا آجالهم.
ومعنى: ﴿وَأَجَلٌ مُّسَمًّى﴾ هو يوم القيامة.
وقال مجاهد: " الأجل المسمى هو الدنيا.
وقال قتادة: الأجل المسمى، الساعة، يقول الله تعالى: ﴿بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ﴾ [القمر: ٤٦].
قال ابن عباس: " لكان لزاماً " لكان موتاً.
وقال ابن زيد: اللزام: القتل.
ثم قال: ﴿فاصبر على مَا يَقُولُونَ﴾.
أي: اصبر يا محمد على قول هؤلاء المكذبين بآيات الله بأنك ساحر وأنك مجنون، وأنك شاعر، ونحو ذلك.
ثم قال: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾.
4717
وقال ابن عباس: هي الصلاة المكتوبة أي: وصَلِّ بثنائك على ربك.
وقيل: قوله: ﴿بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾ معناه: بحمدك ربك، وقوله: ﴿قَبْلَ طُلُوعِ الشمس﴾ يعني بعد صلاة الصبح وقيل غروبها، صلاة العصر وقوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ أي: ومن ساعات الليل فسبح، يريد صلاة العشاء الآخرة. وأطراف النهار يعني: صلاة الظهر والمغرب لأن صلاة الظهر في آخر طرف النهار الأول وفي أول طرف النهار الآخر فهي في طرفين منه، والطرف الثالث غروب الشمس، وعند ذلك تصلي المغرب، فلذلك قيل أطراف النهار، لأن النهار أربعة أطراف، عند طلوع الشمس وعند غروبها وعند زوال الشمس وعند وقوفها للزوال.
وقيل: إنه جمع في موضع تثنية. كما قال: فقد صغت قلوبكما.
وقيل: قوله ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ أوله وأوسطه وآخره قاله الحسن: يعني: به النافلة.
وقال ابن عباس: " هو جوف الليل ".
4718
وقوله: ﴿لَعَلَّكَ ترضى﴾ أي: في الآخرة. ولعل من الله واجبة.
ثم قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ﴾.
أي: لا تنظر يا محمد إلى ما جعلناه لهؤلاء المعرضين عن آيات الله وأشكالهم من متعة متعوا بها في الدنيا ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ أي: لنختبرهم فيما متعناهم به.
وروي أن النبي ﷺ مر على إبل لبعض العرب قد سمنت فتقنع ثم مر ولم ينظر إليها، لقول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ...﴾ الآية.
" وزهرة " منصوبة بمعنى: متعنا، لأن " متعنا " بمعنى: جعلنا، أي: جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة.
ثم قال تعالى ذكره: ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى﴾.
أي: وعده لك بما يعطيك في الآخرة خير لك " وأبقى " أي: " وأدوم ":.
ويروى أن هذه الآية نزلت على النبي ﷺ من قبل أنه بعث إلى يهدي يستسلف منه طعاماً، فأبى أن يسلفه إلا برهن فحزِن النبي لذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا﴾ الآية، ونزلت ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم * لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ [الحجر: ٨٧ - ٨٨] الآية.
وقوله: ﴿زَهْرَةَ الحياة الدنيا﴾ يعني: زينتها.
4719
وقوله: ﴿لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾.
أي: / لنبتليهم فيه. وقيل: لنجعل لهم ذلك فتنة.
قوله تعالى: ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة﴾ إلى آخر السورة.
أي: وامر أهلك بالدوام على الصلاة، واصطبر على القيام عليها والإتيان بها بحدودها. ﴿لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً﴾ أي: أن ترزق نفسك ولا ترزق أحداً من العباد. وكان عمر رضي لله عنه إذا قام من الليل صلى، فإذا كان من السحر أيقظ أهله فقال: الصلاة الصلاة وتأول هذه الآية، وامر أهلك بالصلاة... الآية.
وكان رسول الله ﷺ إذا نزل بأهله ضيق أو شدة، أمرهم بالصلاة ثم قرأ ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة﴾... الآية.
وكان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر يصلي.
وقال ﷺ في رواية عثمان بن عفان عنه: " من توضأ فأحسن الوضوء ثم صلى ركعتين غفر له ".
4720
قال محمد بن كعب: وكنت إذا سمعت الحديث طلبت تصديقه في كتاب الله تعالى، فطلبت تصديق هذا فوجدته في كتاب الله تعالى في قوله: لنبيه ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ [الفتح: ١ - ٢] فجعل تمام النعمة أن غفر له ذنبه، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: ٦] فعلمت حين جعل تمام النعمة على النبي ﷺ المغفرة أنها هنا، مثل ذلك حين قال: وليتم عليكم فهو المغفرة.
ثم قال: ﴿والعاقبة للتقوى﴾.
أي: والعاقبة الصالحة من عمل كل عامل لأهل التقوى.
ثم قال تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ﴾.
أي: وقل المشركون هلاّ يتينا محمد بآية من ربه، كما أتى صالح قومه بالناقة من ربه، وعيسى بإحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص.
ثم قال تعالى جواباً لهم: ﴿أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى﴾.
أي: ما في الكتاب التي قبل هذا الكتاب من أخبار الأمم من قبلهم التي
4721
أهلكناهم لما سألوا الآيات. فكروا بها لما أتتهم كيف عجلنا لهم العذاب.
فالمعنى: فيما يؤمنهم إن أتتهم آية أن يكون حالهم كحال أولئك.
قال مجاهد: ﴿مَا فِي الصحف الأولى﴾: التوراة والإنجيل.
وقال قتادة: ﴿الصحف الأولى﴾ الكتب التي خلت من الأمم التي يمشون في مساكنهم.
ثم قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ﴾.
أي: ولو أنا أهلكنا هؤلاء المشركين الذين يكذبون بهذا القرآن بعذاب من قبل ننزله عليهم.
وقيل: من قبل أن نبعث داعيً يدعوهم إلى ما فرضنا عليهم. فالهاء تعود على القرآن، أو على النبي.
ثم قالت: ﴿لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾.
أي: لقالوا يوم القيامة إذا وردوا على الله تعالى، فأراد عقابهم: ربنا هلاّ أرسلت إليها رسولاً يدعونا إلى طاعتك فنتبع آياتك، أي: حججك وأدلتك وأمرك ونهيك من قبل أن تذل بتعذيبك لنا ونخزي بها.
4722
روى الخدري عن النبي ﷺ أنه قال: " يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير. فيقول المغلوب على عقله: لم يجعل لي عقلاً أنتفع به، ويقول الهالك: لم يأتني رسول ولا نبي، ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك لك، وقرأ ﴿لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً﴾ ويقول الصغير: كنت صغيراً لا أعقل قال فترفع لهم النار فيقال لهم ردوها. قال: فيردها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي. فيقول: إياي عصيتم، فكيف برسلي لو أتتكم ".
ثم قال: ﴿قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ﴾.
أي قل يا محمد: كلكم أيها المشركون متربص، أي: منتظر دوائر الزمان، فتربصوا، أي: فترقبوا، وانتظروا ﴿فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي﴾.
أي: من أهل الطريق المعتدل المستقيم، أنحن أم أنتم؟.
﴿وَمَنِ اهتدى﴾.
أي: وستعلمون حينئذ من المهتدي الذي هو على سنن الطريق القاصد، غير الجائر عن قصده منا ومنكم.
" وممن " استفهام في موضع رفع، / لا يعمل فيها ستعلمون.
وأجاز الفراء: أن تكون في موضع نصب قوله: ستعلمون. بمنزلة
4723
﴿والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح﴾ [البقرة: ٢٢٠].
فإن جعلت " مَنْ " غير استفهام، جاز أن يعمل فيها ما قبلها.
وقرأ يحيى بن يعمر وعاصم الجحدري: " السَّوَّى " بتشديد الواو من غير همز على " فعلى " أراد السوأي. ثم سهل الهمزة على البدل والإدغام وأنثها لأن الصراط يؤنث، والتذكير فيه أكثر.
4724
Icon