ﰡ
﴿ إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ ﴾؛ قال مجاهدُ: (نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ لِسَبَب مَا كَانَ يَلْقَى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ التَّعَب وَالسَّهَرِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ). وقال الحسنُ: (هَذا جَوَابٌ لِلْمُشْرِكِيْنَ، وَذلِكَ أنَّ أبَا جَهْلٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ قَالاَ لِلنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: وَإنَّكَ لَتَشْقَى، لِمَا رَأواْ مِنْ طُولِ عِبَادَتِهِ وَشِدَّةِ اجْتِهَادِهِ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:" " بُعِثْتُ رَحْمَةً لِلْعَالَمِيْنَ " قَالُوا: بَلْ أنْتَ شَقِيٌّ "، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ لِتَشْقَىٰ ﴾ وَلَكِنْ لِتَسْعَدَ وَتَنَالَ الْكَرَامَةَ بهِ في الدُّنيا والآخرةِ). والشَّقَاءُ في اللغة: احمرارُ ما شُقَّ على النفْسِ من التعب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ ٱلأَرْضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلْعُلَى ﴾؛ نُصِبَ على المصدرِ؛ أي نَزَلْنَاهُ تَنْزِيلاً. والعُلَى: جمع العَلْيَاءِ.
﴿ إِذْ رَأَى نَاراً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ مُوسَى عليه السلام رَجُلاً غَيُوراً لاَ يَصْحَبُ الرِّفْقَةَ؛ لِئَلاَّ يَرَى أحَدٌ امْرَأتَهُ، فَأَخْطَأَ الطَّرِيْقَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، فَرَأى نَاراً مِنْ بَعِيْدٍ). ﴿ فَقَالَ لأَهْلِهِ ٱمْكُثُوۤاْ ﴾؛ أي قالَ لامرأتهِ: أقيموا مَكَانَكُمْ.
﴿ إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً ﴾؛ أي رأيتُها وأبصرتُها.
﴿ لَّعَلِّيۤ آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ ﴾؛ أي بشُعلةٍ.
﴿ أَوْ أَجِدُ عَلَى ٱلنَّارِ هُدًى ﴾؛ أي مَن يدلُّني على الطريقِ. قال الفرَّاء: (أرَادَ هَادِياً، فَذُكِرَ بلَفْظِ الْمَصْدَرِ). قال السديُّ: (لأنَّ النَّارَ لاَ تَخْلُو مِنْ أهْلٍ لَهَا وَنَاسٍ عِنْدَهَا). كانت رؤيتهُ للنارِ في ليلةِ الجمعة، وكان قد استأذنَ شُعيباً عليه السلام في الرجوعِ إلى والدتهِ فأذِنَ لهُ، فخرجَ بامرأتهِ، فولدت في الطريقِ في ليلةٍ باردة مثلجة، وقد حادَ عن الطريقِ، فقدحَ فلم يرَ نورَ المقدحة شيئاً، فبينما هو في مداولةِ ذلك إذ أبصرَ ناراً عن يسار الطريق، فقال لامرأتهِ: امْكُثُوا - أي أقِيمُوا مكانَكم - إنِّي أبصرتُ ناراً، لَعَلِّي آتِيْكُمْ مِنْهَا بقَبَسٍ، أوْ أجِدُ عَلَى النَّار مَن يدلُّني على الطريقِ.
﴿ إِنِّيۤ أَنَاْ رَبُّكَ ﴾؛ وإنَّما كرَّرَ الكنايةَ؛ لتوكيدِ الدلالة، وإزالة الشُّبهة، وتحقيقِ المعرفة. قُرِئَ (إنِّي أنْ رَبُّكَ) بفتحِ الهمزة وكسرِها، فمن فتحَ فعلى معنى بأَنِّي، ومَن كسرَ فعلى معنى الابتداء. قال وهبُ: (نودي من الشجرةِ، فقيل: يا موسى، فأجابَ سريعاً لا يدري مَن دعاهُ، فقال: إنِّي أسمعُ صوتَكَ فلا أرى مكانكَ، فأين أنتَ؟ قال: أنا فوقكَ ومعك وأمامكَ وخلفك وأقربُ إليك من نفسك، فعَلِمَ أن ذلك لا ينبغي إلاّ لرَبهِ عَزَّ وَجَلَّ، فأيقنَ به). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱخْلَعْ نَعْلَيْكَ ﴾؛ قال الحسنُ: (إنَّمَا أُمِرَ بخَلْعِ نَعْلَيْهِ لِيَنَالَ قَدَمَاهُ بَرَكَةَ الْوَادِي الْمُقَدَّسِ، وَيُبَاشِرَ تُرَابَ الأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ بقَدَمِهِ، فَيَنَالُهُ بَرَكَتُهَا) وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱلْمُقَدَّسِ ﴾ أي الْمُطَهَّرِ. قال عكرمةُ: (كَانَتْ نَعْلاَهُ مِنْ جِلْدِ حِمَارٍ مَيْتٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّكَ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى ﴾؛ المقدَّس: هو المطهَّر، وَقِيْلَ: المباركُ، ولا يستدلُّ بما قالَهُ عكرمةُ على أنَّ جلودَ الميتة لا تَطْهُرُ بالدِّباغ؛ لأنه إنْ كانَ كذلك فهو منسوخٌ بقولهِ عليه السلام:" إيَّمَا إهَابٍ دُبغَ طَهُرَ "قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ طُوًى ﴾ هو اسم الوادي.
﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ ﴾؛ أي لتَذْكُرَنِي بها بالتسبيحِ والتعظيم كذا قال مجاهدُ والحسن، وَقِيْلَ: لأَنْ أذْكُرَكَ بالثناءِ والمدح، وقال مقاتلُ: (مَعْنَاهُ: إذا نَسِيْتَ الصَّلاَةَ، فَأَقِمْهَا إذا ذكَرْتَهَا)، قال صلى الله عليه وسلم:" " مَنْ تَأَخَّرَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا؛ فَلْيُصَلِّهَا إذا ذكَرَهَا، فَإنَّ ذلِكَ وَقْتُهَا " ثُمَّ قَرَأ ﴿ وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ ﴾ ".
﴿ وَٱتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾ بالإنكارِ ﴿ فَتَرْدَىٰ ﴾؛ أي فَتَهْلَكَ، وهو خطابٌ لِموسى عليه السلام، ونَهيٌ لسائرِ المكلَّفين. والصَّدُّ: هو الصَّرْفُ عن الخيرِ، يقالُ: صَدَّهُ عن الخيرِ، وصَدَّهُ عن الإيْمانِ، ولا يقالُ: صَدَّهُ عن الشَّرِّ، ولكن يقالُ: صَرَفَهُ عن الشرِّ وَمَنَعَهُ عنهُ.
﴿ فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ ﴾؛ تشتدُّ رافعةٌ رأسَها، عيناها تتوقَّدان ناراً، تَمشي بسرعةٍ على بطنِها، لَها عُرْفٌ كعُرف الفَرسِ، فلما عاينَ ذلك موسى ولَّى مُدبراً ولَم يُعَقِّبْ هارباً منها، فنُودِيَ يا موسى: إرْجِعْ، فرجعَ وهو شديدُ الخوفِ و ﴿ قَالَ ﴾؛ اللهُ له: ﴿ خُذْهَا ﴾ بيمينِكَ؛ ﴿ وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا ٱلأُولَىٰ ﴾؛ عصاً كما كانت. فلما أمَرَهُ اللهُ بأخذِها أدنَى طَرَفَ ثوبهِ على يده، وكان عليه مَدْرَعَةٌ من صُوفٍ، فلما جعل طَرَفَ المدرعةِ على يدهِ ليتناولَها، قال مَلَكٌ: يا موسى؛ أرأيتَ لو أنَّ الله قد رَعَاكَ ما تحاذرهُ؟ أكانت المدرعةُ تُغني عنكَ شيئاً؟ قال: لاَ، ولكنِّي ضعيفٌ ومن ضعفٍ. فأُمِرَ أن يُدخِلَ يدهُ في فَمِها فكشفَ عن يدهِ، ثُم وضعَها في فمِ الحيَّة، وإذا يدهُ في الموضعِ الذي كان يضعُها فيه بين الشُّعبتين اللَّتين في رأسِ العصا، وإنَّما أُمِرَ بإدخالِ يده في فمِها؛ لأنه إنَّما يُخشى من الحيَّة مِن فمِها، فأرادَ اللهُ أن يُريَهُ من الآيةِ التي لَم يقدر عليها مخلوقٌ. ولئلا يفزعَ منها اذا ألقَاها عند فرعونَ، فلا يولِّي مُدبراً.
﴿ لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ ﴾؛ سِوَى هَاتَين الآيتين، فكان عَلَيْهِ السَّلامُ إذا جَعَلَ يدَهُ في جيبهِ خرجت بيضاءَ يغلبُ شعاعُها نورَ الشمس. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ لِيَدِهِ نُورٌ سَاطِعٌ يُضِيْءُ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَضَوْءِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَأشَدُّ ضَوْءًا).
﴿ ٱشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ﴾؛ أي أُقَوِّي به ظَهرِي، والأَزْرُ الظَّهْرُ، لنتعاونَ على الأمرِ الذي أمَرْتَنَا به، يقالُ: آزَرْتُ فُلاناً إذا عاونتهُ.
﴿ مَا يُوحَىٰ ﴾؛ أي ما يُلْهَمُ، ثم فسَّرَ ذلك الإلْهَامَ فقال: ﴿ أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ ﴾ وكان السببُ في ذلك أن فرعونَ كان يقتلُ غِلْمَانَ بنِي إسرائيلَ على ما تقدَّم ذكرهُ، ثُم خَشِيَ أن يَفْنَى نسلُ بني إسرائيلَ، فكان يقتلُ بعد ذلك في سنةٍ ولا يقتلُ في سنةٍ، فوُلِدَ موسى في السَّنة التي يقتلُ فيها الغلمانَ، فنجَّاهُ الله من القتلِ بأن ألْهَمَ أُمَّهُ أن جعلته في التابوتِ، وأُطْرِحَ التابوت في اليَمِّ وهو البحرُ، وأرادَ به النِّيْلَ ومعنى قوله تعالى: ﴿ أَنِ ٱقْذِفِيهِ ﴾ أي اجعليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ ﴾؛ لفظهُ لفظ الأمر وهو خبرُ (بتقدير) حتى يلقيه اليَمُّ بالسَّاحل. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ﴾؛ وأرادَ به فرعون. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾؛ وذلك أن أُمَّ موسى لَمَّا اتخذت لِموسى تابوتاً جعلت فيه قُطْناً مَحْلُوجاً، ووضعت فيه موسَى وألقتْهُ في النِّيلِ، وكان يشرعُ منه نَهر كبيرٌ في دار فرعون، فبينما هو جالسٌ على رأسِ البرْكَةِ مع امرأتهِ آسْيَةُ، إذا بالتابوتِ يَجِيْءُ بالماء. فلما رأى ذلك أمَرَ الجوارِي والغلمان بإخراجهِ فأخرجوهُ، فإذا هو صبيٌّ من أحسنِ الناس وَجْهاً، فلما رآهُ فرعون أحَبَّهُ بحيثُ لَم يتمالك، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ قال عطية العوفي: (وَجَعَلَ عَلَيهِ مِسْحَةً مِنْ جَمَالٍ فَأَحَبَّهُ كُلُّ مَن رآهُ). وقال عطاءٌ عن ابنِ عبَّاس: (مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي ﴾ أيْ لاَ يَلْقَاكَ أحَدٌ إلاَّ أحَبَّكَ مِنْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ)، وقال عكرمةُ: (ألْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً ومَلاَحَةً وَحُسْناً)، فحين أبصرَتْ آسية وجهَهُ قالت لفرعون: قُرَّةَ عَيْنٍ لِي ولكَ. وقال أبو عبيدةُ: (مَعْنَاهُ: جَعَلْتُ لَكَ مَحَبَّةً عِنْدِي وَعِنْدَ غَيْرِي، أحَبَّكَ فِرْعَوْنُ، فَسَلِمْتَ مِنْ شَرِّهِ، وَأحَبَّتْكَ امْرَأتُهُ فَتَبَنَّتْكَ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ ﴾؛ أي ولِتُرَبَّى وتغذى بمرأى أراكَ على ما أريدُ بك من الرفاهيَةِ في غذائِكَ. وقال قتادةُ: (مَعْنَاهُ: لِتُغَذى عَلَى مَحَبَّتِي). وأرادَ في قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ إِذْ تَمْشِيۤ أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ مَن يَكْفُلُهُ ﴾؛ وذلكَ أن موسى جَعَلَ يبكي ويطلبُ اللَّبَنَ، فأمَرَ فرعونُ حتى أتَى بالنَّساءِ اللَّواتِي حولَ فرعون ليُرضعْنَ موسى، فلم يَقْبَلْ ثَديَ واحدةٍ منهن، وكانت أُخْتُ موسى مُتَّبعَةً للتابوتِ ماشيةً خَلْفَهُ. فلما حُمل التابوتُ إلى فرعونَ، ذهبت هي معهُ، فقالت: هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ؟ أي يرضعهُ ويضمُّه ويحصنهُ؟ فقالوا: مَن هي؟ قالت: امرأةٌ قد قُتِلَ ولدُها، وهي تحبُّ أن تجدَ صبيّاً ترضعهُ. فأذِنَ لَها فرعونُ في إحضارِها، فانطلقت وأتَتْ بأُمِّ موسى، فأعطتْهُ الثديَ فأخذهُ موسى، وفَرِحَ به فرعونُ، وجعل لَها الأُجرة على الإرضاعِ، وحملتهُ أمُّهُ إلى دارِها، فذلك قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَرَجَعْنَاكَ إِلَىٰ أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ ﴾؛ أي رَدَدْنَاكَ إليها؛ كي تطيبَ نفسُها، ولا تحزن على ابنِها. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَقَتَلْتَ نَفْساً ﴾؛ يعني القِبْطِيَّ الذي وَكَزَهُ موسى فقضى عليه.
﴿ فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ ٱلْغَمِّ ﴾؛ أي غَمِّ القَوَدِ، وخلَّصناكَ مِن أن تُقْتَلَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾؛ أي أوقعناكَ في مِحْنَةٍ بعدَ محنةٍ، ونحنُ نخلِّصُكَ منها، وذلك أنه حُمِلَ به في السَّنة التي يَذبحُ فرعونُ فيها الأطفالَ، ثم إلقاؤهُ في البحرِ، ومنعُ الرَّضاع إلاّ ثدي أُمِّهِ، ثم جَرُّ لِحيَةِ فرعون حتى هَمَّ بقتلهِ، ثم تناوله الجمرةَ، ثم قتلهُ القبطيَّ، ثم خروجهُ إلى مَدْيَنَ خائفاً يَتَرَقَّبُ. فمعنى: ﴿ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً ﴾ أي خلَّصناكَ مِن تلك الْمِحَنِ. وَقِيْلَ: معناه شَدَّدْنَا عليكَ في أمرِ المعاش حتى رَعَيْتَ لشعيب عشرَ سنين. وقال ابنُ عبَّاس: (مَعْنَاهُ: اخْتَبْرَناكَ اخْتِبَاراً)، وقال الضحَّاك: (ابْتَلَيْنَاكَ ابْتِلاَءً)، وقال مجاهدُ: (خَلَّصْنَاكَ خَلاَصاً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِيۤ أَهْلِ مَدْيَنَ ﴾؛ يعني لَبثْتَ في أهل مَدْيَنَ حين كنت رَاعياً لشُعيبٍ، مكثتَ عشرَ سنين. وتقديرُ الكلامِ: وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً؛ فخرجتَ إلى أهلِ مَدْيَنَ فلبثْتَ سِنِينَ. وبلادُ أهلِ مَدْيَنَ على ثلاثِ مراحل من مِصْرَ. وقال وهبُ: (لبثتَ في أهلِ مدينَ عند شُعيب ثَمانِي وعشرين سنةً، عشرَ سنين التي رعَى فيها لشعيب، وثَمانِي عشرة سنةً أقامَ عنده حتى وُلِدَ لهُ، وقتلَ القبطيَّ يوم قتلهِ وهو ابنُ اثْنَتي عشرةَ سنةً). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ جِئْتَ عَلَىٰ قَدَرٍ يٰمُوسَىٰ ﴾؛ معناهُ: فلبثتَ سنين في أهلِ مَدين حين كنتَ راعياً لشُعيب، ثُم جئتَ على المقدارِ الذي قَدَّرَهُ اللهُ عليك، وكَتَبَهُ في اللَّوح الْمَحفُوظِ. قال ابنُ كيسانَ: (جَاءَ عَلَى رَأسِ أرْبَعِيْنَ سَنَةً، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي يُوحَى فِيْهِ إلَى الأَنْبيَاءِ).
﴿ وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي ﴾؛ اي لا تُقَتِّرَا في تبليغِ رسالَتِي إلى فرعونَ، ولا تضْعُفَا عن ذِكري، وَقِيْلَ: لا تُقَصِّرا ولا تُبْطِئَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ٱذْهَبَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ ﴾؛ قد تقدَّم تفسيرهُ.
وعن السديِّ قال: (الْقَوْلُ اللَّيِّنُ: أنَّ موسَى أتَاهُ فَقَالَ لَهُ: تُؤِمِنُ بمَا جِئْتُ بهِ، وَتَعْبُدُ رَبَّ الْعَالَمِيْنَ عَلَى أنَّ لَكَ شَبَابَكَ فَلاَ تَهْرَمُ، وَأنَّ لَكَ مُلْكَكَ لاَ تُنْزَعُ حَتَّى تَمُوتَ، وَلاَ تُنْزَعُ عَنْكَ لَذةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَاب وَالْجِمَاعِ حَتَّى تَمُوتَ، فَإذا مِتَّ دَخَلْتَ الْجَنَّةَ. فَأَعْجَبَهُ ذلِكَ، وَكَانَ لاَ يَقْطَعُ أمْراً دُونَ هَامَانَ، وَكَانَ هَامَانُ غَائِباً، فَقَالَ فِرْعَونُ: إنَّ لِي ذا أمْرٍ غَائِبٍ، فَاصْبرْ حَتَّى يَقْدُمَ. فَلَمَّا قَدِمَ قَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ إنَّ مُوسَى دَعَانِي إلَى أمْرٍ فَأَعْجَبَنِي - وَأخْبَرَهُ بالَّذِي دَعَاهُ إلَيْهِ - وَأرَدْتُ أنْ أقْبَلَ مِنْهُ. فَقَالَ هَامَانُ: قَدْ كُنْتُ أرَى أنَّ لَكَ عَقْلاً، بَيْنَمَا أنْتَ رَبٌّ فَتُرِيْدُ أنْ تَكُونَ مَرْبُوباً، وَأنْتَ تُعْبَدُ فَتُرِيْدُ أنْ تَعْبُدَ؟. فَغَلَبَهُ عَلَى رَأيهِ فَأَبَى. رُويَ أنَّ رَجُلاً قَرَأ فِي مَجْلِسِ يَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ: ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾ فَبَكَى يَحْيَى ابْنُ مُعَاذٍ وَقَالَ: (إلَهِي، هَذا رفْقُكَ بمَنْ يَقُولُ أنَا إلَهٌ، فَكَيْفَ رفْقُكَ بمَنْ يَقُولُ أنْتَ إلَهِي، إنَّ قَوْلَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ يَهْدِمُ كُفْرَ خَمْسِيْنَ سَنَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ ﴾؛ أي يَتَّعِظُ أو يخشى العاقبةَ، وكلمة (لَعَلَّ) للترجِّي والطمعِ؛ أي اذهبَا على رجائِكُما وطمَعِكُما وأنا عالِمٌ بما يفعلُ، فإن قيلَ: كيفَ قال ﴿ لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ ﴾ وعلمهُ سابقٌ في فرعونَ أنه لا يؤمنُ، ولا يتذكر ولا يخشَى؟ قِيْلَ: هذا مصروفٌ إلى غيرِ فرعون، تقديرهُ: لِكَي يتذكرُ متذكرٌ ويخشَى خَاشٍ إذا رأى بَرِئ، وألطَافِي بمن خلقتهُ ورزقتُهُ وصحَّحتُ جِسمَهُ وأنعمتُ عليه، ثم ادَّعى الربوبيةَ دونِي. قال بعضُ العارفين في قولهِ تعالى: ﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً ﴾: (إذا كَانَ هَذا رفْقُكَ بمَنْ ينافيكَ، فكيفَ رفقُكَ بمن يصافيكَ؟ هذا رفقُكَ بمن يعاديكَ، فكيف رفقُكَ بمن يواليكَ؟ هذا رفقُكَ بمن يسبُّكَ، فكيفَ رفقُكَ بمن يحبُّكَ؟ هذا رفقُكَ بمن يقولُ نداً فكيفَ بمن يقول فرداً؟ هذا رفقُكَ بمن ضَلَّ، فكيفَ رفقُكَ بمن زلَّ؟ هذا رفقُكَ بمن اقترفَ، فكيفَ رفقُكَ بمن اعترفَ؟ هذا رفقُكَ بمن أصرَّ، فكيف رفقُكَ بمن أقرَّ؟ هذا رفقُكَ بمن استكبرَ، فكيف رفقكَ بمن استغفرَ؟). وعن وهب بن منبه قال: (أوحى اللهُ إلى موسى: انطلِقُ إلى فرعونَ برسالتِي، فمعكَ نَظَرِي وأنتَ جندٌ عظيم من جُنودِي، بعثتُكَ إلى خلقٍ ضعيف قد عزَّته الدنيا حتى كفرَ وأقسَم بعزي لولا اتخاذُ الحجَّة عليه والعذرَ إليه لبطشتُ به بطشةَ جبارٍ يغضبُ لغضبهِ السَّماوات والأرض، فإن أذنَ للسَّماء صَعَقَتْهُ، وللأرضِ ابتلعتْهُ، وللجبال دمَّرتهُ، وللبحار أغرقته، ولكنهُ وسعَهُ حِلْمي، فبلِّغْهُ رسالَتي وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لا يغرُّ بك فألبسه من لباسِ الدُّنيا، فأحِبْ ربك الذي هو واسعُ المغفرة، أنه قد أمهلَكَ منذُ خمسمائة سنة لَم تَهرمْ ولَم تسقمْ وَلم تفتَقِرْ، واعلم أنَّ أفضلَ ما تزينَ به العبادُ الزهدَ في الدنيا، ومن أهانَ ولِيّاً فقد بارَزَنِي بالْمُحاربةِ).
﴿ أَسْمَعُ ﴾؛ ما يَرُدُّ عليكُما.
﴿ وَأَرَىٰ ﴾؛ ما يصنعهُ بكما، وَقِيْلَ: معناهُ: أسْمَعُ دعاءَكما فأجيبهُ، وأرى ما يريدُ بكما فأمنعهُ، ولستُ بغافلٍ عنكُما، فلا تَهتمَّا.
﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ ﴾؛ أرسلنا إليكَ.
﴿ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ ﴾؛ أي أطلِقْهُم من اعتقالِكَ، ولا تُتْعِبْهُمْ بالأعمالِ الشَّاقة.
﴿ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾؛ أي بعلامةٍ من ربك وهي اليدُ والعصا، وهما أوَّلُ آية، وَقِيْلَ: اليدُ خاصَّة. وكان فرعونُ قد أتعبَ بنِي إسرائيلَ بالأعمالِ الشَّاقة، مثلَ اللَّبن والطينِ والبناء، وما لا يقدرونَ عليه. فلمَّا قال موسى: قَدْ جِئْنَاكَ بآيَةٍ مِنْ رَبكَ، قال: ما هيَ؟ فأدخلَ يدَهُ في جيب قميصه ثُم أخرجَها، فإذا هي بيضاءُ لَها شعاعٌ غَلَبَ نورَ الشمسِ، ولَم يُرِهِ العصا إلاّ بعدَ ذلك يوم الزِّينة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلسَّلاَمُ عَلَىٰ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلْهُدَىٰ ﴾؛ ليس هو بتحيَّةٍ لفرعون ولكن معناهُ: أن مَن اتَّبَعَ الْهُدى سَلِمَ من عذاب الله بدليلِ أنه عَقَّبَهُ بقولهِ تعالى: ﴿ إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ ﴾؛ أي إنَّما يُعَذِّبُ اللهُ مَن كذبَ بما جئنا به وأعرضَ عنه، فأمَّا مَن اتَّبَعَهُ فإنه يَسْلَمُ.
﴿ قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ﴾؛ أي ربُّنا الذي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ على الْهَيْأَةِ التي ينتفعُ بها، فأعطاهُ صحَّته وسلامتَهُ وَركَّبَ فيه شهوتَهُ، ثم هَدَاهُ لمعيشتهِ. وَقِيْلَ: معناهُ: الذي صَوَّرَ كُلَّ جنسٍ من الحيوان على صورةٍ أُخرى، فلم يجعل خَلْقَ الإنسانِ كخلق البهائمِ، ولا خَلْقَ البهائمِ كخلق الإنسانِ، ولكن خَلَقَ كلَّ شيء فقَدَّرَهُ تقديراً. وقال الضحَّاك: (أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقْهُ؛ يَعْنِي لِلْيَدِ الْبَطْشَ، ولِلرِّجْلِ الْمَشْيَ، وَلِلِّسَانِ النُّطْقَ، وَلِلْعَيْنِ النَّظَرَ، وَلِلأُذُنِ السَّمْعَ). وقال سعيدُ بن جبير: (أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ شَكْلَهُ لِلإنْسَانِ زَوْجَةً، وَلِلْبَعِيْرِ نَاقَةً، وَلِلْفَرَسِ رَمَكَةً، وَلِلْحِمَارِ أتَاناً، وَلِلثَّوْر بَقَرَةً.
﴿ ثُمَّ هَدَىٰ ﴾؛ أي ألْهمَ وعَرَّفَ كيف يأتِي الذكرُ الأنثى في النِّكاحِ).
﴿ قَالَ ﴾ موسى: ﴿ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ﴾؛ وإذا عَلِمَ لا بدَّ أن يُجازي. وَقِيْلَ: معناهُ: عِلْمُ أعمالِها عند ربي في كتاب الله، أراد به اللَّوحَ الْمَحفُوظَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى ﴾؛ أي لا يذهبُ عليه شيءٌ، ولا يخطئُ ولا ينسى ما كان من أمرِهم حتى يُجازِيهم عليه، وَقِيْلَ: لا يغفلُ ربي ولا يتركُ شيئاً، ولا يغيبُ عنه شيءٌ، وفي هذا دليلٌ أنَّ الله تعالى لَم يكتُبْ أفعالَ العبادِ لحاجتهِ في معرفتها إلى الكتاب، ولكن لمعرفةِ الملائكة. ويقالُ: كان سؤالُ فرعون عن القرونِ الأُولى: هل بُعِثَ فيهم أنبياءُ كما بُعْثْتَ إلينا، فأحالَها على ما في المعلومِ من أمرها.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ ﴾؛ أي إنَّما ذكَرْتُ لكم لعلامةٍ دالَّة على البعثِ لذوي العقول من الناس، وإنَّما سُميت العقولُ (نُهَى)؛ لأن أصحابَها ينتهون بها عن القبيحِ والمعاصي.
﴿ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ ﴾؛ عند الموتِ والدفنِ.
﴿ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ﴾؛ للبعثِ، وقد جَرَى ذكرُ الأرضِ في قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ مِهَٰداً ﴾[النبأ: ٦].
﴿ بِسِحْرِكَ يٰمُوسَىٰ * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ ﴾؛ أي مِثْلِ ما جِئْتَنَا به.
﴿ فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً ﴾؛ أي مِيْقَاتاً وأجَلاً في موضعٍ معلوم.
﴿ لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ ﴾؛ أي لا نجاوزهُ ولا يقع منا خَلْفٌ في حضورهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ مَكَاناً سُوًى ﴾؛ أي مكاناً مُستوياً يُبَيِّنُ للناسِ ما بيننا، ويستوي حالُنا من الرِّضى به. وَقِيْلَ: تستوي مسافتهُ على الفريقينِ فتكونُ مسافةُ كلِّ فريقٍ إليه كمسافة الفريق الآخر. فواعدَهُ موسى يوماً مَعْلُوماً وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ ٱلزِّينَةِ ﴾ أي يومُ العيدِ الذي لكم. قال سعيدُ بن جبير: (كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ)، قرأ الحسنُ: (يَوْمَ الزِّيْنَةِ) بنصب الميم؛ أي فِي يوم. وقرأ الباقون بالرفعِ على الخبرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى ﴾؛ أي ضُحى ذلك اليومِ، وأراد بالناسِ أهلَ مصر، ومعنى يُحشرون أي يجتمعون إلى العيدِ، وإنَّما جعلَ موسى موعدَهم نَهاراً في يومِ اجتماعهم؛ ليكون أبلغَ في الحجَّة، وأبعدَ من الرِّيبة. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَن يُحْشَرَ ﴾ يحتمل أن يكون في موضعٍ رفعٍ على معنى موعدٍ كما حُشِرَ الناسُ وقتَ الضُّحى يوم الزينة، ويحتملُ أن يكون في موضعِ خَفْضٍ عَطْفاً على الزينةِ، المعنى يومُ الزينةِ، ويومُ حشرِ الناس في وقتِ الضَّحوة.
﴿ فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ ﴾؛ أي فيُهْلِكَكُمْ ويستأصِلَكم بعذاب من عندهِ.
﴿ وَقَدْ خَابَ مَنِ ٱفْتَرَىٰ ﴾؛ أي وقد خابَ منِ اخْتَلَقَ على الله كَذباً. ومعنى قولهِ: ﴿ وَيْلَكُمْ ﴾ أي أُلْزِمُكُمُ الوَيْلَ. قرأ أهلُ الكوفة: (فَيُسْحِتَكُمْ) بضمِّ التاء وكسرِ الحاء، يقالُ: سَحَتَهُ اللهُ وأسْحَتَهُ؛ أي أهْلَكَهُ.
﴿ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا ﴾؛ من أرضِ مصرَ.
﴿ وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ ﴾؛ أي بدِيْنِكُم الأمثلُ، وَقِيْلَ: معناه: ويَذْهَبَا بأهلِ طريقتكم. واختلفَ القُرَّاء في قولهِ تعالى ﴿ إِنْ هَـٰذَانِ ﴾، قرأ أبو عمرو (هَذيْنِ) على اللغة المعروفةِ وهي لغةُ أهلِ الحجاز، وقرأ نافعُ وابن عامر وحمزةُ والكسائي (هَذانِ) بالألفِ وهي لغَةُ كنانةَ وبني الحارثِ بن كعب وخَثْعَمَ وزيدٍ وقبائلَ من اليمنِ: يجعلون ألِفَ الاثنين في الرفعِ والنصب والخفضِ على لفظٍ واحد، يقولون: أتانِي الزَّيدان، ورأيتُ الزَّيدان، مَرَرْتُ بالزيدان. قال الفرَّاءُ: أنْشَدَنِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي أسَدٍ، وَمَا رَأيْتُ أفْصَحَ مِنْهُ: فَأَطْرَق إطْرَاقَ الأُفْعُوَانِ وَلَوْ يَرَى مَسَاغاً لِنَابَاهُ الشُّجَاعُ لَصَمَّمَاويقولون: كَسَرْتُ يَدَاهُ وَرَكِبْتُ عُلاَهُ، يعني يديهِ وعليه، قال شاعرُهم: تَزَوَّدَ مِنَّا بَيْنَ أُذْنَاه ضَرْبَةً دَعَتْهُ إلَى هَابي التُّرَاب عَقِيْمُأراد بين أُذُنيهِ فقال آخرُ: أيُّ قُلُوصِ رَاكِبٍ تَرَاهَا طَارُوا عَلاَهُنَّ فَطِرْ عَلاَهَاأي عليهنَّ وعليها، وقال آخرُ: إنَّ أبَاهَا وَأبَا أبَاهَا قَدْ بَلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَاوقال بعضُهم (إنْ) هنا بمعنى: نَعَمْ. رويَ أنَّ أعرابياً سألَ ابن الزُّبير شيئاً فَحَرَّمَهُ، فقال: لَعَنَ اللهُ نَاقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: (إنْ وَصَاحِبُهَا) يعنِي نَعَمْ. وقال الشاعرُ: بَكَرَ الْعَوَاذِلُ فِي الصَّبا حِ يَلُمْنَني وَألُومُهُنَّهْوَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ كَ وَقَدْ كَبرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْأي نعم. وقد ذكرَ أهلُ النحوِ لتصحيح هذه القراءةِ وجُوهاً: أحدُها: ضَعْفُ عملِ (إنْ) لأنَّها تعملُ بالمشبَّه بالفعلِ وليست بأصلٍ في العمل، ألا ترى أنَّها لَمَّا خُففت لَم تعمل. والثانِي: أنَّها تشبهُ (اللَّذيْنِ) في البناءِ؛ لأن (اللَّذيْنِ) في الرفع والنصب والخفض سواءٌ، ولأنَّ الألفَ في (هَذانِ) ليس ألفَ التشبيهِ لوجودها في الوِحْدَانِ، وإنَّما زيْدَتْ النونُ في التثنيةِ ليكون فرقاً بين الواحدِ والاثنين، كما قالواُ (الَّذِيْ) ثُم زادوا نُوناً تدلُّ على الجمعِ، قالوا (الَّذِيْنَ) في رفعِهم ونصبهم. والثالثُ: (إنْ) ها هُنا مخففة وليست مضمرة إلاّ أنه حُذفت الهاء. والرابعُ: أنه لَمَّا حُذفت الألِفُ صارت ألفَ التثنية عِوَضاً منها. والخامسُ: أنَّ (إنْ) بمعنى نَعَمْ.
﴿ قَالَ ﴾ لَهم موسى: ﴿ بَلْ أَلْقُواْ ﴾؛ فألْقَوا حبالَهم وعِصِيَّهم. روي أنَّهم كانوا سبعينَ ألفَ ساحرٍ، وكان عددُ ما عمِلُوا من الحبالِ والعصيِّ حِمْلَ ثلاثِمائة بعيرٍ، فألْقَوا ما معهم.
﴿ فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَىٰ ﴾؛ أي تَمشي وتتحرَّكُ، وكانوا قد احتالُوا فيها بحيلةٍ، فكان كلُّ مَن رآها مِن بعيد يُخَيَّلُ إلَيْهِ أنَّها تتحركُ. قرأ ابنُ عامر: (تُخَيِّلُ) بالتاء، ردَّهُ إلى الحبالِ والعِصِيِّ، وقرأ الباقون بالياء، ردُّوهُ إلى الكيدِ والسِّحر، وذلك أنَّهم لَطَّخُوا حبالَهم وعصيَّهم بالزِّئبقِ، فلما أصَابَهُ حرُّ الشمسِ ارتعشت واهتَزَّت، فظنَّ موسى أنَّها تقصده.
﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ ﴾؛ أي أحسَّ ووَجَدَ، وَقِيْلَ: أضْمَرَ في نفسه خِيْفَةً. فإن قِيْلَ: لِمَ جازَ أمرُهم بالإلقاءِ وهو كفرٌ؟ قِيْلَ: يجوزُ أن يكون معناهُ: ألْقُوا إنْ كنتم مُحِقِّيْنَ كما زعمتُم، ويجوزُ أن يكون أمراً بالإلقاءِ على وجه الاعتبارِ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَىٰ * قُلْنَا لاَ تَخَفْ ﴾، فإن قِيْلَ: ما الذي خَافَهُ موسى؟ قِيْلَ: خافَ أن يلتبسَ على الناسِ أمرُ السَّحَرَةِ فيتوهَّمون أنَّ حبالَهم وعصيهم بمنْزِلة عصاهُ. وَقِيْلَ: كان خوفهُ خوفَ الطبعِ لِمَا رأى من كثرةِ الحيَّات العِظَامِ.
﴿ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوۤاْ ﴾؛ أي تَلْقَمْ وتَبْلَعْ ما طَرحُوا من العصيِّ والحبالِ.
﴿ إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ ﴾؛ أي أنَّ الذي صنعوهُ كَيْدُ سَاحِرٍ. وقُرئ (كَيْدُ سِحْرٍ) كما قالوا بمعنى حذر.
﴿ وَلاَ يُفْلِحُ ٱلسَّاحِرُ حَيْثُ أَتَىٰ ﴾؛ أي لا يَغْلِبُ حَقَّكَ بباطلهِ. وَقِيْلَ: لا يُسْعَدُ السَّاحرُ حيث كان. فألقَى موسى عصاهُ فتلقَّفت جميعَ ما صنعوا، ثُم أخذها موسى فرجعت عصا كما كانت.
﴿ فَأُلْقِيَ ٱلسَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوۤاْ آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَىٰ ﴾؛ فما رفَعُوا رؤوسَهم حتى رأوا الجنةَ والنار، ورأوا ثوابَ أهلِها، فعندَ ذلك قالوا: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ البيِّنات) يعني الجنةَ والنار، وما رأوا مِن درجاتِهم. قال: وكانتِ امرأةُ فرعون تسألُ مَنْ غَلَبَ؟ فقيل لَها: موسى، فقالت: آمنتُ برب موسى وهارون، فأرسلَ إليها فرعونُ، فقال: انظرُوا إلى أعظمِ صخرة تَجدونَها فأْتُوها، فإنْ هي رجعت عن قولِها وإلاّ فألْقُوها عليها، فلما أتَوها رفعت ببصرِها إلى السَّماءِ فرأتِ الجنَّةَ فقالت:﴿ رَبِّ ٱبْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي ٱلْجَنَّةِ ﴾[التحريم: ١١] فانْتُزِعَتْ روحُها، والصخرةُ على جسدٍ لا روحَ فيه.
﴿ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ ﴾؛ في الإيْمانِ. والفرقُ بين (آمنْتُمْ لَهُ) وآمَنتُم بهِ: أنَّ في (آمَنْتُمْ لَهُ) معنى الاتِّباع لهُ، وآمنتم به إيْمانٌ بالخبر من اتباع له في ما دعَا اليه. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ ٱلَّذِي عَلَّمَكُمُ ٱلسِّحْرَ ﴾؛ أي رئيسُكم ومعلِّمُكم، وإنَّما قال فرعونُ هذه المقالةَ قصداً منه إلى صَرْفِ الناس عن اتِّباع موسى؛ لأن السَّحرةَ لَم يتعلَّموا من موسى، وإنَّما كانوا يعلَّمون السحرَ قبل قُدوم موسى وقبل ولادته.
﴿ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ ﴾؛ قد تقدَّم تفسيرهُ.
﴿ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ ٱلنَّخْلِ ﴾؛ أي على جُذوع النَّخلِ، أُقيمَ حرفُ (في) مقام حرفِ (على)، فكان فرعونُ أوَّلَ من قطعَ اليد والرِّجل من خلافٍ وصَلَبَ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَىٰ ﴾؛ أي لتعلمنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى عذاباً، أنا أمْ ربُّ موسى وهارون.
﴿ فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ ﴾؛ أي إصْنَعُ ما أنتَ صانع.
﴿ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ ﴾؛ أي إنَّما تحكمُ علينا في الدُّنيا وهي منقضيةٌ لا محالةَ، وأما الآخرةُ فليسَ لك فيها حظٌّ.
﴿ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ﴾؛ فيستريحَ.
﴿ وَلاَ يَحْيَىٰ ﴾؛ حياةً تنفعهُ، قال ابنُ عبَّاس: (الْمُجْرِمُ الْكَافِرُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾؛ أي قد عَمِلَ الطاعاتِ.
﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمُ ٱلدَّرَجَاتُ ٱلْعُلَىٰ ﴾؛ أي الرفيعةُ في الجنَّة. ودرجاتُ الجنة بعضُها أعلى من بعضٍ، والعُلْى جمعُ العُلْيَا، قال صلى الله عليه وسلم:" إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لَيَرَاهُمْ مَنْ هُوَ أسْفَلُ مِنْهُمْ كَأَضْوَاءِ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ، وَإنَّ أبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ مِنْهُمْ ".
﴿ فَٱضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي ٱلْبَحْرِ يَبَساً ﴾؛ أي يَابساً، وذلك أنَّ اللهَ تعالى أيْبَسَ لَهم ذلك الطريقَ حتى لَم يكن فيه ماءٌ ولا طين. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تَخْشَىٰ ﴾؛ أي إنكَ آمنٌ لا تخافُ أن يُدركَكَ فرعونُ، ولا تخشَ الغرقَ من البحرِ. وقرأ حمزةُ (لاَ تَخَفْ) على النَّهي مجزوماً، (وَلاَ تَخْشَى) بالألفِ، كأنه استأنفٌ، وتقديرهُ: وأنتَ لا تخشى، كقولهِ:﴿ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ﴾[آل عمران: ١١١].
﴿ وَمَا هَدَىٰ ﴾ أي وما أرْشَدَهم حين أورَدَهم مواقعَ الْهَلَكَةِ، وهذا تكذيبٌ له في قولهِ﴿ وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ ﴾[غافر: ٢٩].
﴿ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ ٱلطُّورِ ٱلأَيْمَنَ ﴾؛ قرأ حمزةُ: (نَجَّيْتُكُمْ... وَوَعَدْتُكُمْ... وَرَزَقْتُكُمْ) بغيرِ ألف. وذلك أنَّ اللهَ وَعَدَ موسى بعد ما أغرقَ فرعون ليأتِي جانبَ الطُّورِ الأيْمَنَ فيؤتيهِ التوراةَ فيها بيانُ ما يحتاجُ إليه. ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ ﴾ في التِّيْهِ.
﴿ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾؛ أي من حَلاَلِ ما رزقناكم من الْمَنِّ والسَّلْوَى، واشكروا إنعامِي. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ ﴾، أي لا تَبْطَرُوا فيما أنعمتُ عليكم فَتَتَظَالَمُوا، ولا تُجاوزُوا عن شُكري إلى معاصِيّي، ولا تجحدوا نِعمَتي فتكونوا طاغينَ.
﴿ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي ﴾، أي فتجبُ عليكم عقوبَتي. قرأ الأعمشُ والكسائيُّ: (فَيَحُلُّ) أي فينْزِلُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ ﴾؛ أي فقد تَرَدَّ في النار. وَقِيْلَ: معناهُ: فقد هَلَكَ وسقط في النارِ. وقرأ الكسائيُّ: (وَمَنْ يَحْلُلْ) بضمِّ اللام، قال الفرَّاءُ: (وَالْكَسْرُ أوْلَى مِنَ الضَّمِّ؛ لأنَّ الضَّمَّ مِنَ الْحُلُولِ وَهَُوَ الْوُقُوعُ، وَيَحْلِلُ بالْكَسْرِ يَجِبُ، وَجَاءَ التَّفْسِيْرُ بالْوُجُوب لاَ بالْوُقُوعِ).
﴿ هُمْ أُوْلاۤءِ عَلَىٰ أَثَرِي ﴾؛ أي هُم أولاء يجيئون بعدي.
﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ ﴾؛ أي لتزدادَ رضىً عنِّي، والرِّضَى من اللهِ إيجابُ الدرجةِ والكرامة لَهم.
﴿ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ ٱلْعَهْدُ ﴾؛ مدَّةَ مُفارقَتي إياكم.
﴿ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ ﴾؛ بأن يَنْزِلَ بكم بعبادتكم العجلَ.
﴿ فَأَخْلَفْتُمْ مَّوْعِدِي ﴾؛ ما وَعَدَ الْمَوْلَى منْ حُسنِ الخلافةِ بعدي.
﴿ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا ﴾؛ ونحنُ نَملكُ من أمرِنا شيئاً؛ أي لَم نُطِقُ رَدَّ عَبَدَةِ العجلِ مِن ما ارتكبوهُ لكثرَتِهم وقِلَّتِنَا؛ لأنَّهم اثنا عشر ألفاً، والذين عَبَدُوا العجلَ خمسُمائة ألفٍ وثَمانية وثَمانون ألفاً؛ لأنَّهم كانوا جميعاً ستُمائة ألف. وأكثرَ القُرَّاءُ (بِملْكِنَا) بالكسرِ أي بأمرِنا. ومَن قرأ بفتحِ الميم فهو المصدرُ، ومَن قرأ بضمِّ الميم فمعناه: بسُلطاننا وقُدرتنا؛ أي لَم نقدِرْ على ردِّهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَـٰكِنَّا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ ٱلْقَوْمِ ﴾؛ أي أثْقَالاً وحمالاً من حِلِيِّ آلِ فرعون، والوِزْرُ في اللغة: هو الْحِمْلُ الثقيلُ، وذلك أن موسَى كان أمرَهم أن يستعيرُوا مِن حِلِيِّهم حين أرادوا أن يَسْرُوا، هكذا روي عن ابنِ عباس. وَقِيْلَ: إنهم كانوا استعارُوها؛ ليتزيَّنُوا بها في عِيْدٍ كان لَهم، ثم يردُّوها عليهم عند الخروجِ، وكان ذلك ذنْباً منهم، فعلى ذلك يكونُ معناه: حُمِّلْنَا آثاماً مِن حِلِيِّ القوم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَقَذَفْنَاهَا ﴾؛ أي فَقَذفْنَا الحِلِيَّ في النارِ ليُذابَ.
﴿ فَكَذَلِكَ أَلْقَى ٱلسَّامِرِيُّ ﴾؛ ما معهُ من الحليِّ كما ألقينا، وذلكَ أنَّ اللهَ تعالى قد وَقَّتَ لِموسى ثلاثينَ ليلةً ثُم أتَمَّها بعشرٍ، فلما مضت الثلاثونَ قال السامريُّ: إنَّما أصابَكم هذا عقوبةً لكم بالحليِّ الذي معكم، فاجْمَعُوها حتى يجيءَ موسى فيقضي فيها، فجُمعت لهُ، فصنعَ منها العجلَ في ثلاثةِ أيَّام، ثُم قَذفَ فيه القبضةَ التي اتخذها من أثَرِ فرسِ جبريلَ.
﴿ وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً ﴾؛ جرَّ منفعةٍ ولا دفعَ ضُرِّ شيءٍ.
﴿ وَإِنَّ رَبَّكُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ ﴾؛ لا العجلُ.
﴿ فَٱتَّبِعُونِي ﴾؛ لِما أدعوكم اليه.
﴿ وَأَطِيعُوۤاْ أَمْرِي ﴾؛ لا أمرَ السامريِّ، فَعَصَوْهُ؛ ﴿ قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ ﴾؛ أي لا نزالُ مقيمين على عبادتهِ.
﴿ حَتَّىٰ يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَىٰ ﴾؛ ومعنى قولهِ تعالى ﴿ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبلِ أن يأتِي موسى. فلما رجعَ موسى؛ ﴿ قَالَ ﴾؛ لِهارون: ﴿ يٰهَرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوۤاْ ﴾؛ بعبادةِ العجل.
﴿ أَلاَّ تَتَّبِعَنِ ﴾؛ لا زائدةٌ؛ أي ما منعكَ من اتِّباعي واللحوقِ بي بمن أقامَ على إيْمَانِهِ.
﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾؛ بإقامتِكَ بينهم وقد كفروا، ثُم أخذ موسى برأسِ هارون ولِحيَته غضباً منهُ عليه فـ ﴿ قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي ﴾؛ ولا بشعرِ رأسي.
﴿ إِنِّي خَشِيتُ ﴾؛ إن فارقتُهم واتبعتك بمن أقامَ على دِينك أن يتفرَّقُوا أحزاباً، وخشيتُ أن يَقْتُلَ بعضُهم بعضاً و ﴿ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِيۤ إِسْرَآءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ ﴾؛ أي ولَم تحفَظْ.
﴿ قَوْلِي ﴾؛ وصيَّتي، ولَم تنتَظِر قُدُومِي وأمري، فلذلك لَم أتَّبعْكَ بمن أقامَ منهم على دِينك. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ هَارُونُ أخَا مُوسَى لأَبيْهِ وَأُمِّهِ، وَإنَّمَا قَالَ: يَا ابْنَ أُمِّ ليرفقَهُ ويستعطفه عليه)، وفي قولهِ (يَا ابْنَ أُمِّ) قِرَاءَتان، مَن قرأ بفتح الميمِ جعلهُ بمنْزِلة اسمٍ واحد يصلُ الثانِي بالأول، مثلُ خمسةَ عشر، ومَن قرأ بالكسرِ فعلى معنى الإضافة، ودلَّتْ كسرةُ الميم على الياءِ التي بعدها. فإن قِيْلَ: كيف جازَ أن يأخذ موسى بلحيةِ هارون ورأسه مع أن ذلك يقتضِي الاستخفافَ به؟ قِيْلَ: لأن العادةَ في ذلك الوقتِ لَم تكن كهذهِ العادة، بل كان ذلكَ في زمانِهم يجري مجرَى القبضِ على يده، وَقِيْلَ: لأنه أجرَى هارون مُجرى نفسهِ؛ لأنه لَم يكن يتَّهم، كما لا يتهم على نفسهِ، فقد يأخذُ الإنسانُ بلحيةِ نفسهِ إذا غَضِبَ، ويقال: (إنَّ عُمَرَ عليه السلام كَانَ إذا غَضِبَ يَفْتِلُ شَارِبَهُ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي ﴾ أي فتركتَ وصيَّتي، قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ﴾ يعني: ولَم تحفَظْ وصيَّتي حين قلتُ لكَ أخلفني في قومي وأصلِحْ. فلما اعتذرَ هارونُ بهذا العذرِ أقبلَ موسى على السامريِّ؛ ﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يٰسَامِرِيُّ ﴾؛ أي ما شأنُكَ وما الذي دعاكَ إلى ما صنعتَ؟ وَقِيْلَ: معناه: ما هذا الْخَطْبُ الْعظيم الذي دعاكَ إلى ما صنعتَ، والْخَطْبُ هو الجليلُ من الأمرِ. قال قتادةُ: (كَاَنَ السَّامِرِيُّ مِنْ عُظَمَاءِ بَنِي إسْرَائِيْلَ، مِنْ قَبيْلَةٍ يُقَالُ لَهَا سَامِرَةٌ، وَلَكِنَّهُ بَعْدَ مَا قَطَعَ الْبَحْرَ مَعَ بَنِي إسْرَائِيْلَ مَرَّ بجَمَاعَةٍ وَهُم يَعْكِفُونَ عَلَى أصْنَامٍ لَهُمْ وَمَعَهُ بَنُو إسْرَائِيْلَ، فَقَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَنَا إلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، فَاغْتَنَمَهَا السَّامِرِيُّ فَاتَّخَذَ الْعِجْلَ).
﴿ قَالَ ﴾؛ السَّامِرِيُّ مُجيباً لِموسى: ﴿ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ ﴾؛ أي رأيتُ ما لَم يَرَوا، بَصُرْتُ به، وعرفتُ ما لَم يعرفوا وفطنتُ ما لَم يفطنوا، قال له موسى: وما الذي بَصُرْتَ به دون بني إسرائيل؟قال: ﴿ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ ٱلرَّسُولِ ﴾؛ من حافرِ فرسِ جبريل، وكان قد أُلقي في نفسِي أن أقبضها؛ وما ألقيهِ على شيءٍ إلاّ صارَ له روحٌ ولَحم ودمٌ، فحين رأيتُ قومَكَ طلبوا منكَ أن تجعل لَهم إلَهاً حدَّثَتني نفسي بذلكَ.
﴿ فَنَبَذْتُهَا ﴾ أي فطرحتُها في العجلِ.
﴿ وَكَذٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾؛ أي زَيَّنَتْ لِي نفسي من أخذِ القبضة وإبقائها في صورةِ العجل. وَقِيْلَ: معناهُ (وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي) أي أطمَعَتني نفسي في أن العجلَ ينقلبُ حيواناً. وقرأ الحسنُ: (فَقَبَصْتُ قَبْصَةً) بالصاد فيهما، والفرقُ بينهما أن القبضَ بجميع الكفِّ، والقبصَ بأطرافِ الأصابع.
﴿ ٱلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً ﴾؛ أي مُقيماً تعبدهُ، تقولُ العرب ظَلْتُ أفْعَلُ كذا بمعنى ظَلَلْتُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (حَرَّقَهُ بالنَّارِ، ثُمَّ ذرَّاهُ فِي الْيَمِّ) وهذه القراءةُ تدلُّ على أن ذلك العجلَ صار حيواناً لَحماً ودماً لأن الذهبَ والفضَّة لا يُمكن إحراقُهما بالنار. وذُكِرَ في بعضِ التفاسير: أن موسى أخذ العجلَ فذبَحَهُ فسالَ منه دمٌ، لأنَّه كان قد صارَ دماً ولحماً، ثُم أحرقه بالنارِ ثم ذرَّاهُ في البحرِ. وكان الحسنُ يقرأ (لَنُحْرِقَنَّهُ) بالتخفيف، ومعناه: لَنَذْبَحَنَّهُ ثم لنحرقنه بالنار، لأنه لا يجوزُ إحراقُ الحيوانِ قبل الذبحِ كما روي في الخبر:" لاَ تُعَذِّبُوا أحَداً بعَذاب اللهِ ". وقرأ أبو جعفرٍ وأشهبُ العقيلي: (لَنَحْرُقَنَّهُ) بنصب النونِ وضمِّ الراء؛ أي لَنَبْرُدَنَّهُ بالْمِبْرَدِ، يقال: حرقتُ الشيءَ أُحرِقهُ أذا بَرَدْتَهُ، والْمِحْرَقُ هو الْمِبْرَدُ، وهذه القراءةُ تدلُّ على أن العجلَ كان ذهباً، ولكن كان له خُوار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي ٱلْيَمِّ نَسْفاً ﴾ أي لَنُذرِّيَهُ في البحرِ تذريةً، يقالُ: نَسَفَ فلانٌ الطعامَ بالْمَنْسَفِ إذا ذرَّاهُ ليطيرَ عنه قشوره وترابه.
﴿ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً ﴾ أي وقد أكرمناكَ بالقُرْآنِ العظيم.
﴿ وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ حِمْلاً ﴾؛ أي ساء وِزْرُهُمْ، يومئذ حملاً.
﴿ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾؛ نَسَوا مقدارَ لُبْثِهِمْ لشدَّة وهمِهم، فقالوا هذا القولَ وهو كذبٌ منهم.
﴿ وَلاَ هَضْماً ﴾؛ بالنُّقصان من حسناتهِ، والْهَضْمُ: النَّقْصُ؛ يقال: هَضَمَنِي فلانٌ حَقِّي؛ أي نَقَصَنِي، وهذا شيءٌ يَهْضِمُ الطعامَ أي ينقصُ نقله.
﴿ وَصَرَّفْنَا فِيهِ ﴾؛ أي وكَرَّرْنَا فيه.
﴿ مِنَ ٱلْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾؛ وَقِيْلَ: معنى (وَصَرَّفْنَا) أي بَيَّنَّا فِيْهِ مِنَ الْوَعِيْدِ، يعني الوقائعَ في الأُممِ الْمُكَذِّبَةِ؛ لكي يَتَّقُوا الشِّركَ بالاتِّعاظ بمن قبْلَهم.
﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً ﴾؛ أي يُحْدِثُ لَهمُ الْقُرْآنُ اعتباراً فيذكروا به عقابَ الله، وَقِيْلَ: معناهُ: أوْ يُحْدِثَ لَهُمْ ذِكْراً شَرفاً بإيْمانِهم، كما قالَ تَعَالَى﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾[الزخرف: ٤٤] أي شَرَفٌ لكَ ولقومك.
﴿ فَنَسِيَ ﴾؛ وتركَ عهدِي وما أُمِرَ بهِ.
﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾؛ أي لَم نَجِدْ له حِفْظاً لِمَا أمَرْنَا به. وقال الحسنُ: (مَعْنَاهُ: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ صَبْراً عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ، وَلَمْ نَجِدْ لَهُ رَأْياً مَعْزُوماً عَلَيْهِ)، حيثُ أطاعَ عَدُوَّهُ إبليسَ الذي حَسَدَهُ وأبَى أن يسجُدَ لهُ. قال الحسنُ: (كَانَ عَقْلُ آدَمَ كَعَقْلِ جَمِيْعِ ذُرِّيَّتِهِ)، قال اللهُ ﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾.
وجاءَ في الحديث:" لَوْ وُزِنَ حِلْمُ بَنِي آدَمَ مُذْ كَانَ آدَمُ إلَى أنْ تَقُومَ السَّاعَةُ لَرَجَحَ حِلْمُ آدَمَ عَلَى حِلْمِهِمْ، وَقَدْ قالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ ".
﴿ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا ﴾؛ أي فيكونُ ذلك سببَ خروجكما.
﴿ مِنَ ٱلْجَنَّةِ ﴾؛ إلى شَدائدِ الدنيا وجُوعِها وعطَشِها وفَقْرِها وتعبها في طلب المعاش، وهذا معنى قولهِ: ﴿ فَتَشْقَىٰ ﴾؛ أي تتعبُ بالأكلِ من كَدِّ يدِكَ، وما تكسبهُ لنفسك، والمعنى: إنَّ عيشَكَ لا يكونُ إلاّ من كَدِّ يَمينك وعرقِ جبينك. قال سعيدُ بن جبير: (أهْبَطَ اللهُ إلَى آدَمَ ثَوْرَيْنِ، فَكَانَ يَحْرِثُ عَلَيْهِما، وَيَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ جَبيْنِهِ) فهو شقاؤُهُ الذي قالَ اللهُ تَعَالَى، وكان مِن حَقِّهِ أن يقولَ: فَيَشْقَيَا أو تَشْقَى أنتَ وزوجُكَ، لكن غَلَّبَ المذكَّرَ؛ لأن تَعَبَهُ أكثرُ، وَقِيْلَ: لأجلِ رُؤُوسِ الآيِ.
﴿ وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا ﴾؛ أي لا تعطشُ.
﴿ وَلاَ تَضْحَىٰ ﴾؛ أي ولا تَبْرُزُ إلى الشَّمسِ؛ لأنه ليس في الجنَّة شَمسٌ، إنَّما هو ظِلٌّ ممدودٌ. وقرئ: (وَإنَّكَ لاَ تَظْمَأُ) بكسرِ الهمزة عطفاً على (إنَّ لَكَ أنْ لاَ تَجُوعَ)، وقرئَ بالنصب عطفاً على (أنْ لاَ تَجُوعَ).
﴿ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَىٰ ﴾؛ وَيبقى في ملك لا يبلى ولا يفنَى.
﴿ مِن وَرَقِ ٱلْجَنَّةِ ﴾؛ ويجعلانه على سوءاتِهما. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَعَصَىٰ ءَادَمُ رَبَّهُ ﴾؛ أي عصاهُ بأكلِ الشجرةِ.
﴿ فَغَوَىٰ ﴾؛ أي فَعَلَ ما لَم يكن لهُ فِعْلُهُ. وَقِيْلَ: ضَلَّ حين طلبَ الْخُلْدَ بأكلِ ما نُهِيَ عن أكلهِ. وَقِيْلَ: الغيُّ الفسادُ؛ أي فَسَدَ عليه عيشهُ، وَقِيْلَ: (فَغَوَى) أي أخطأ، وَقِيْلَ: خابَ في طلبه في أكلِ الشجرة.
﴿ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ ﴾؛ إلى ذِكْرِهِ، وَقِيْلَ: اصطفاهُ فتابَ عليه وهداهُ حين قال﴿ قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا ﴾[الأعراف: ٢٣] الآيةُ.
﴿ فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَايَ ﴾؛ أي مَنِ اتَّبَعَ الكتابَ والرسول.
﴿ فَلاَ يَضِلُّ ﴾ في الدُّنيا.
﴿ وَلاَ يَشْقَىٰ ﴾ في الآخرةِ. قال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (ضَمِنَ اللهُ لِمَنْ قَرَأ الْقُرْآنَ وَعَمِلَ بهِ أنْ لاَ يَضِلَّ وَلاَ يَشْقَى).
﴿ قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ﴾؛ بعَيْنَيَّ.
﴿ قَالَ كَذٰلِكَ ﴾؛ تكونُ كَمَا ﴿ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ﴾؛ أي فتَرَكْتَهَا وأعرضتَ عنها.
﴿ وَكَذٰلِكَ ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ ﴾؛ أي تُتْرَكُ في النار.
﴿ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَىٰ ﴾؛ أي أشدُّ مِن عذاب الدُّنيا وأدومُ، لأن عذابَ الدُّنيا ينقطعُ.
﴿ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾؛ يعني صلاةَ العصرِ.
﴿ وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ فَسَبِّحْ ﴾؛ يعني المغرِبَ والعشاءَ، وآناءُ اللَّيلِ ساعاتهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ ﴾؛ يعني صلاةَ الظهر، قال قتادةُ: (كَأَنَّهُ ذهَبَ إلَى أنَّهُ آخِرُ النِّصْفِ الأَوَّلِ مِنَ النَّهَارِ طَرَفٌ، وَأوَّلُ النِّصْفِ الثَّانِي طَرَفٌ). وقال الحسنُ: ((وَقَبْلَ غُرُوبهَا): الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ، (وَأطْرَافَ النَّهَار): صَلاَةُ التَّطَوُّعِ). قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ ﴾؛ قرأ الكسائيُّ وأبو بكر بضَمِّ التاء؛ أي تُعْطَى الرِّضَى بالدرجاتِ الرفيعة، يرضاكَ اللهُ ويسمى مَرْضِيّاً، وتصديقهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً ﴾[مريم: ٥٥].
وقرأ الباقونَ (تَرْضَى) بفتحِ التاء؛ أي لَعَلَّكَ تَرْضَى بالثَّواب والشَّفاعةِ، ودليلُ ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى:﴿ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ ﴾[الضحى: ٥]، والمعنى: أقِمْ هذه الصَّلَواتِ لكي تُعطى من الثواب ما ترضَى.
﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾؛ أي لِنَخْتَبرَهُمْ في ما أعطيناهم من الزِّينة. وَقِيْلَ: لنجعلَهُ فتنةً لَهم وضَلالاً بأنْ أزيدَ لَهم في النعمةِ، فيزدادوا كُفراً وطغياناً. قال أبو رافع:" بَعَثَنِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى يَهُودِيٍّ، فَقَالَ: " قُلْ لَهُ: إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَنِي إلَيْكَ لِتُسْلِفَهُ كَذا وَكَذا مِنَ الدَّقِيْقِ، أوْ تَبيْعَهُ وَتَصْبرَ عَلَيْهِ إلَى هِلاَلِ رَجَبٍ " فَأتَيْتُهُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أبيْعُهُ وَلاَ أُسْلِفُهُ إلاَّ برَهْنٍ! فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " وَاللهِ لَوْ بَاعَنِي أوْ أسْلَفَنِي لَقَضَيْتُهُ، وَإنِّي لأَمِيْنٌ فِي الأَرْضِ، إذهَبْ بدِرْعِي إلَيْهِ " ثُمَّ حَزِنَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى ذلِكَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ كأنه يعزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا "وَقِيْلَ: معنى قولهِ تعالى ﴿ أَزْوَاجاً ﴾ أي أصْنَافاً من نِعَمِ الدُّنيا وزهرَتِها. قولهُ: ﴿ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ ﴾؛ أي وَرِزْقُ رَبكَ الذي وعدكَ في الجنَّة خَيْرٌ وَأبْقَى مما رُزِقَ هو.
﴿ لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً ﴾؛ لِخَلْقِنَا ولا لنفسكَ، لَم نَخْلُقْكَ لِحاجتنا إليكَ كحاجة السَّادَةِ إلى عبيدِهم، بل ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ﴾؛ ونرزقُ جميعَ خَلْقِنَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ ﴾؛ أي وَالْعَاقِبَةُ الْمَحمودةُ لِمن يَتَّقِي اللهَ ولا يعصيهِ، وتقديرهُ: والعاقبةُ لأهلِ التقوى." وَكَانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ الضِّيْقِ فِي الرِّزْقِ أمَرَ أهْلَهُ بالصَّلاَةِ، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ ﴾ إلى آخِرِها ".
﴿ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ ﴾؛ أي بيانُ ما في التَّوراة والإنجيلِ من البشَارَةِ بما وافَقَهُما من صِفَةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقِيْلَ: معناهُ: أوَلَمْ يأْتِهم ما في الصُّحُفِ الأُوْلَى من أنبياءِ الأُمَمِ الذين أهلكنَاهم لَمَّا سألُوا الآياتِ ثُم كَفَرُوا بها، فماذا يُؤَمِّنُهُمْ أن يكون حالُهم في سؤالِهم الآيةَ كَحَالِ أولئكَ. وهذا البيانُ إنَّما قُصَّ عليهم في القُرْآنِ.
﴿ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ﴾؛ في الدُّنيا بالقتلِ ونُفْضَحَ في الآخرةِ بالعذاب. والمعنى: ولو أنَّا أهلكنا كُفَّارَ مكَّة بعذابٍ مِن قَبْلِ بعث مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ونُزُولِ القُرْآنِ لقالوا يومَ القيامةِ: ربَّنَا هلاَّ أرسلتَ إلينا رسُولاً يدعُونا إلى طاعتِكَ فنتَّبعَ آياتِكَ من قَبْلِ أن ينْزِلَ العذابُ.
﴿ وَنَخْزَىٰ ﴾؛ فِي جهنَّمَ.