ﰡ
﴿ لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾؛ اللِّسانَ العربيَّ.
﴿ بَشِيراً ﴾؛ بالجنَّة لِمَن أطاعَ.
﴿ وَنَذِيراً ﴾؛ بالنار لِمن عصَى اللهَ.
﴿ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ ﴾؛ أهلُ مكَّة عنِ الإيْمانِ.
﴿ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾؛ سَماعاً ينتفعُون بهِ.
﴿ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ ﴾؛ أي ثُقْلٌ وصَمَمٌ يَمنعُ مِن استماعِ ما تقرؤهُ. والأَكِنَّةُ: جمعُ كِنَانٍ، مثل عِنَانٍ وأعِنَّةُ. ﴿ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾؛ وبيننا وبينَكَ حاجِزٌ وفِرْقَةٌ في الدِّين فلا نوافِقُكَ على ما تقولُ.
﴿ فَٱعْمَلْ ﴾؛ على أمرِكَ ودِينِكَ.
﴿ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾؛ على أمرِنا ومذهَبنا.
﴿ فَٱسْتَقِيمُوۤاْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي لا تَمِيلُوا عن سَبيلهِ وتوجَّهُوا إليه إلى طاعتهِ.
﴿ وَٱسْتَغْفِرُوهُ ﴾؛ مِن الشِّرك ووحِّدُوهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ ﴾؛ وويلٌ لِمَن لا يقولُ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ.
﴿ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ ﴾، ولا يُطَهِّرُونَ أنفُسَهم من الشِّركِ بالتوحيدِ.
﴿ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴾، وقال الحسنُ: (لاَ يُقِرُّونَ بالزَّكَاةِ، وَلاَ يَرَوْنَ إيْتَاءَهَا وَلاَ يُؤْمِنُونَ بهَا)، قال الكلبيُّ: (عَابَهُمُ اللهُ وَقَدْ كَانُواْ يَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ)، قال قتادةُ: (الزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الإسْلاَمِ، فَمَنَ قَطَعَهَا نَجَا) أي فمَن عَبَرَهَا نَجَا، ومَن لَم يعبُرْها هَلَكَ. وفي هذهِ الآية دلالةٌ على أنَّ الكفارَ يُعاقَبون في الآخرةِ على تَرْكِ الشَّرَائِعِ كما يُعاقَبون على تَرْكِ الإيْمَانِ؛ لأن اللهَ وَعَدَهم على ذلكَ، وقال فِي جواب أهلِ النار حين يقالُ لَهم﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ ﴾[المدثر: ٤٢-٤٤].
﴿ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ﴾؛ من الأصنامِ؛ أي أضداداً، وقولهُ تعالى: ﴿ ذَلِكَ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي ذلكَ الذي هذهِ قدرتهُ رَبُّ كلِّ ذِي رُوحٍ ومَلِكُهم.
﴿ وَبَارَكَ فِيهَا ﴾؛ أي بَارَكَ في الأرضِ بالسَّماء والشجرِ والنبات والثمار.
﴿ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ ﴾؛ أي معايشَها، قدَّرَ اللهُ لكلِّ حيوانٍ ما يكفيهِ بحسبَ الحاجةِ، وجعلَ في كلِّ أرضٍ معيشةً ليست في غيرِها لتعايَشُوا وتَتَّجِرُوا. وكان تقديرُ الأقواتِ في يومِ الأربعاءِ، فتَمَّ خلقُ الأرضِ بما فيها في أربعةِ أيَّام، ولو أرادَ اللهُ أن يخلُقَها في لحظةٍ واحدة لفَعَلَ وقَدِرَ، ولكنه خلقَها في ستَّة أيامٍ لأنه تعالى حَلِيْمٌ ذُو أنَاةٍ، أحبَّ أن يُعَلِّمَ الخلقَ الأَنَاةَ في الأمور. وقال الحسنُ: (مَعْنَى قَوْلِهِ ﴿ وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا ﴾ أيْ قَسَّمَ الأَرْضَ أرْزَاقَ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ)، وقال الكلبيُّ: (الْخُبْزُ لأَهْلِ قُطْرٍ؛ وَالثَّمَرُ لأَهْلِ قُطْرٍ؛ وَالذرَّةُ لأَهْلِ قُطْرٍ؛ وَالسَّمَكُ لأَهْلِ قُطْرٍ، جَعَلَ اللهُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْ فِي الأُخْرَى؛ لِيَعِيْشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بالتِّجَارَةِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ﴾؛ رفعَهُ أبو جعفرٍ على الابتداءِ؛ أي هُنَّ سَوَاءٌ، وخفضَهُ الحسنُ ويعقوب نعتُ أربعةِ أيَّام، ونصبَهُ الباقون على معنى: اسْتَوَتْ سَوَاءً للسَّائِلِيْنَ، واستواءً يعني على المصدر كما يقالُ: في أربعةِ أيَّام تَماماً. ومعناهُ: مَن سألَ عنه فهكذا الأمرُ. وقال السديُّ: (سَوَاءً لاَ زيَادَةَ وَلاَ نُقْصَانَ جَوَاباً لِمَنْ سَأَلَ فِي كَمْ خُلِقَتِ الأَرْضُ وَالأَقْوَاتُ، فَيُقَالُ: أرْبَعَةِ أيَّامٍ سَوَاءً). و(لِلسَّائِلِيْنَ) ها هنا هُم اليهودُ، سألُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن مدَّة خَلْقِ السَّماوات والأرضِ، ويجوزُ قولهُ ﴿ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ﴾ عائداً على تقديرِ الأقواتِ، كأنه قال: لكلِّ مُحتاجٍ إلى القُوتِ.
وانتصب (طَوْعاً) و (كَرْهاً) على معنى أطِيعَا طاعةً أو تُكرَهَانِ كَرْهاً. وبلَغَنا أن بعضَ الأنبياءِ قالَ: يا ربِّ؛ لو أنَّ السَّماواتِ والأرضَ حين قُلْتَ لَهما ﴿ ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً ﴾ عصَياكَ ما كُنْتَ صانِعاً بهما؟ قال: كنتُ آمُرُ دابَّة من دوابي فتبتلعهُما. قال: فأينَ تلك الدابةُ؟ قال: في مَرْجٍ من مُروج، قال: وأين ذلكَ الْمَرْجُ؟ قال: فِي علمٍ من عُلومِي.
﴿ فِي يَوْمَيْنِ ﴾، في يوم الخميسِ والجمُعة، فَتَمَّ خلقُ السماوات والأرض في ستَّة أيامٍ. لفظُ القََضَاءِ في اللغة بمعنى الإتْمَامِ، ومِن ذلك: انقضاءُ الشَّيء إذا تَمَّ، وقضَى فلانٌ إذا ماتَ؛ لأنه تَمَّ عمرهُ، وقال الشاعرُ: وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَان قََضَاهُمَا دَاودُ أوْ صَنَعُ السَّوَابغِ تُبَّعُعَمِلَهما وصَنَعَهُمَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَأَوْحَىٰ فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا ﴾؛ قال قتادةُ: (يَعْنِي خَلْقَ شَمْسِهَا وَقَمَرِهَا وَنُجُومِهَا، وَخَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلاَئِكَةِ وَالْخَلْقِ الَّذِي فِيْهَا مِنَ الْبحَار وَجِبَالِ الْبَرِّ وَمَا لاَ يَعْلَمُهُ إلاَّ هُوَ). وَقِيْلَ: أمَرَ في كلِّ سَماءٍ بما أرادَ. وَقِيْلَ: أوحَى إلى أهلِ كلِّ سَمَاءٍ ما يصلحُها به مِن أمرهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَزَيَّنَّا ٱلسَّمَآءَ ٱلدُّنْيَا بِمَصَٰبِيحَ ﴾؛ أي زَيَّنَا السَّمَاءَ القُربَى إلى الأرضِ بمصابيحَ وهي النجومُ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَحِفْظاً ﴾؛ أي وحَفِظْنَاهَا بالنُّجوم من استراقِ الشَّياطين السمعَ حِفْظاً. وَقِيْلَ: انتصبَ (حِفْظاً) على تقديرِ: وزيَّنَّا السَّماءَ الدُّنيا بمصابيحَ زينةً وحِفظاً، فبعضُ النُّجوم زينةٌ للسَّماء لا يتحرَّكُ، وبعضُها يُهتدَى بها في ظُلمات البَرِّ والبحرِ، وبعضُها رجومٌ للشَّياطينِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ ﴾؛ أي ذلكَ الذي سَبَقَ ذِكْرُهُ؛ تقديرهُ: الْعَزِيْزُ في مُلكهِ القادرُ القاهرُ الذي لا يلحقهُ عَجْزٌ ولا يَعْتَرِيهِ سهوٌ ولا جهل، أحكَمَ ذلك كلَّهُ وأتقنَهُ حتى لا يدخلَهُ الخللُ مدَى الدُّهور.
فَوَثَبَ عُتْبَةُ فَزَعاً مَخَافَةَ أنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ الَّذِي خَوَّفَهُ بهِ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَى قَوْمَهُ مَذْعُوراً وَأقْسَمَ لاَ يُكَلِّمُ مُحَمَّداً بَعْدَهَا أبَداً. فَقَالَ لَهُ أبُو جَهْلٍ: لَعَلَّكَ صَبَوْتَ إلَى مُحَمَّدٍ، وَمَا ذاكَ إلاَّ مِنْ حَاجَةٍ أصَابَتْكَ، وَإنْ كَانَ بكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أمْوَالِنَا مَا يُغْنِيْكَ عَنْ مُحَمَّدٍ! فَغَضِبَ عُتْبَةُ وَقَالَ: وَاللهِ لَقَدْ كَانَ أبي مِنْ أكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالاً، وَلَكِنْ أتَيْتُهُ وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَجَابَنِي بشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بشِعْرٍ وَلاَ كَهَانَةٍ وَلاَ سِحْرٍ، وَاللهِ مَا اهْتَدَيْتُ لِجَوَابهِ. فَقَالَ حَرْثُ بْنُ عَلْقَمَةَ: وَاللهِ لَقَدْ أفْسَدَ هَذا الرَّجُلُ دِيْنَنَا وَفَرَّقَ بَيْنَ كَلِمَتِنَا، وَأيْمِ اللهِ لَئِنْ بَقِيَ هَذا الرَّجُلُ وَيُقِيْمُ لَيَكُونَنًّ بَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ ظَهْرِهَا، وَسَيَبيْنُ ذلِكَ لَكُمْ إذا خَرَجَ مِنْكُمْ إلَى غَيْرِكُمْ، فَذرُوهُ مَا تَرَكَكُمْ. ومعنى الآيةِ: فإنْ أعرَضُوا عنِ الإيْمَانِ بكَ ولَمْ يقبَلوا قولكَ بعد هذا البيانِ، فقُلْ: خوَّفْتُكم عَذاباً مثلَ عذاب قوم هودٍ وقوم صالِح. والصَّاعِقَةُ: هو الهلاكُ على حالةٍ هائلةٍ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِذْ جَآءَتْهُمُ ٱلرُّسُلُ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ أي إذا جاءتهم الرسلُ إلى مَن كان قبلَهُم فعلِمُوا بتواترِ الأخبار. ثم إنَّهم الرسلُ أيضاً من خَلَفِ مَن كان قبلَهم بأن لا يعبدُوا إلاّ اللهَ.
﴿ قَالُواْ لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾؛ أي لو شاءَ رَبُّنا أنْ ينَزِّلَ إلينا رسُولاً لأنزلَ ملائكةً من جُندهِ.
﴿ فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾؛ ما أنتم إلاّ بشرٌ مثلُنا. ويجوز أن يكونَ معنى ﴿ مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ ﴾ بأن الرُّسُلَ أتَتْهُمْ من جميعِ جِهاتِهم.
﴿ وَقَالُواْ ﴾؛ لنَبيِّهم: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾؛ بالبَدَنِ فيهلِكَنا، وذلك أنَّ هُوداً عليه السلام خوَّفَهم وهدَّدَهم بالعذاب، فقالوا: نحن نقدرُ على دفعهِ بفضل قوَّتنا، وكانت لَهم أجسامٌ طويلة وخَلْقٌ عظيمٌ، فلما أَتَتْهُمُ الريحُ قاموا ليصدُّون عنهم فحملَتْهم إلى عَنَانِ السَّماء ثُم صرَعتهم على وجوهِهم ثُم ألقت عليهم الرَّملَ حتى غطَّتهم، وكان يُسمَعُ أنينُهم تحتَ التُّراب حتى أهلكَهم اللهُ. فلمَّا قالوا لنَبيِّهم: ﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾ قَالَ اللهُ تَعَالَى رَدّاً عليهم: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ ٱلَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾؛ لأن الخالقَ للشَّيءِ لا بدَّ أن تكون له مِزْيَةٌ على خلقهِ.
﴿ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾؛ أي يكفُرون.
﴿ وَلَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ أَخْزَىٰ وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ ﴾، وعذابُ الآخرةِ أبلغُ في الْمَذلَّةِ وأبقَى وأشدُّ، لا يدفعُ عنهم ولا يخفَّفُ عنهم.
﴿ فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ ٱلْعَذَابِ ٱلْهُونِ ﴾، أي ذِي الْهَوَانِ.
﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾، بكُفرِهم وعَقْرِهم الناقةَ.
﴿ وَنَجَّيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ بصَالِح.
﴿ وَكَانُواْ يتَّقُونَ ﴾؛ الشِّركَ والكبائرَ.
﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ ﴾، فيقولُ الكفَّار لجلودِهم بَعدَما يُرَدُّ النطقُ إلى ألسِنتهم: ﴿ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ﴾؛ وعمِلتُم على هلاكِنا.
﴿ قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ ﴾؛ وتَمَّ الكلامُ. ثُم قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ أي ليسَ إنطاقهُ الجلودَ أبدعَ من خلقهِ إيَّاكم ابتداءً وإعادةً بعد الموتِ، وليس هذا مِن كلامِ الجلود.
﴿ وَلَـٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾؛ ولكن عمِلتُم بالمعاصِي عَمَلَ مَن يظُنُّ أنَّ الله لا يعلمُ بما يعملهُ في السرِّ. قال ابنُ عبَّاس: (كَانَ الْكُفَّارُ يَقُولُونَ: إنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ مَا فِي أنْفُسِنَا وَلَكِنَّهُ يَعْلَمُ مَا يَظْهَرُ!).
﴿ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ ٱلُخَاسِرِينَ ﴾؛ أي أهلَكَكُم فصِرتُم من المنبذين بالوِزْر والعقوبةِ. وَقِيْلَ: معنى ﴿ أَرْدَاكُمْ ﴾ أي طَرَحَكم في النار.
﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ ٱلْمُعْتَبِينَ ﴾؛ أي وإنْ يطلبُوا العُتْبَى وهي الرِّضَا فمَاهُم عن " أنْ " يطلبُوا رضَاهُم ويقبلُ عُذْرُهم. يقالُ: أعْتَبَنِي فلانٌ؛ أي أرْضَانِي بعدَ اسْتِخَاطِهِ إيَّايَ، وَاسْتَعْتَبْتُهُ طلبتُ منه أن يَعْتَبَ أي يرضَى.
﴿ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾؛ من أمرِ الدُّنيا أن لا يُنفِقُوا في وجوهِ البرِّ، وأن يتلَذذُوا في الدُّنيا ويجمَعُوا الأموالَ.
﴿ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلْقَوْلُ ﴾؛ أي وجبَ عليهم.
﴿ فِيۤ أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ ﴾.
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾، ولنُعاقِبَنَّهم في الآخرةِ بعذابٍ أشدَّ مِن عذابهم في الدُّنيا.
﴿ ذَلِكَ ﴾؛ العذابُ.
﴿ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ ٱلنَّارُ ﴾؛ بدلٌ مِن العذاب؛ أي بدلٌ من قولهِ ﴿ جَزَآءُ أَعْدَآءِ ٱللَّهِ ﴾.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ ﴾؛ أي لَهم في النَّار دارُ الإقامةِ.
﴿ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ ﴾؛ يعني الْقُرْآنَ جَحَدُوا أنه مِن عند اللهِ.
﴿ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا ﴾؛ أي أسْفَلَ منَّا في النار.
﴿ لِيَكُونَا مِنَ ٱلأَسْفَلِينَ ﴾؛ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ. وَقِيْلَ: معناهُ: ليَكونَا أشَدَّ عذاباً منَّا.
﴿ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ ﴾، على الإيْمَانِ ولَم يشرِكُوا. وكان الحسنُ إذا قرأ هذه الآيةَ قال: (اللَّهُمَّ أنْتَ رَبُّنَا فَارْزُقْنَا الاسْتِقَامَةَ). وقال أبُو بكرٍ رضي الله عنه: (يَعْنِي ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى أنَّ اللهَ رَبٌ لَهُمْ)، وقال مجاهدُ: (هُمُ الَّذِيْنَ لَمْ يُشْرِكُواْ بهِ شَيْئاً حَتَّى يَلْقَوْهُ). وقال بعضُهم: يعني الاستقامةَ على أداءِ الفرائضِ ولُزومِ السُّنة. وروي عن عُمر رضي الله عنه: (اسْتَقَامُواْ للهِ بطَاعَتِهِ وَلَمْ يَرُوغُواْ رَوَغَانَ الثَّعَالِب). وقوله: ﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلاَئِكَةُ ﴾؛ يعني قَبْضَ أرواحِهم فتقولُ لَهم: ﴿ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴾؛ أي لا تَخافُوا ما أنتم وَاقِفُونَ عليه، ولا تَحزَنُوا على الدُّنيا وأهلِها، وتقولُ لَهم عند خُروجِهم حين يَرَونَ أهوالَ القيامةِ: ﴿ نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ ﴾؛ تولَّينَاكم وحَفِظْنَا أعمالَكم، ونتولاَّكم في الآخرةِ ونحفَظُكم. وعن ثابتٍ أنه قالَ: (بَلَغَنَا أنَّ الْمُؤْمِنَ إذا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَظَرَ إلَى حَافِظِيْنَ قَائِمِيْنَ عَلَى رَأسِهِ يَقُولاَنِ لَهُ: لاَ تَخَفِ الْيَوْمَ وَلاَ تَحْزَنْ وَأَبْشِرْ بالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتَ تُوعَدُ). وقال عثمانُ رضي الله عنه في معنى قولهِ: (ثُمَّ اسْتَقَامُواْ: ثُمَّ أخْلَصُواْ الْعَمَلَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ). وقال مجاهدُ وعكرمة: (مَعْنَاهُ: ثُمَّ اسْتَقَامُواْ عَلَى شَهَادَةِ أنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ حَتَّى لَحِقُوا باللهِ). وقال مقاتلُ: (اسْتَقَامُواْ عَلَى الْمَعْرِفَةِ، وَلَمْ يَرْتَدُّوا، تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ) فِي ثَلاَثِ مَوَاطِن: عِنْدَ الْمَوْتِ، وَفِي الْقَبْرِ، وَفِي وَقْتِ الْبَعْثِ: أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى صَنِيعِكُمْ وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مُخَلِّفِيكُمْ. وقال مجاهدُ: (أنْ لاَ تَخَافُواْ عَلَى مَا تُقْدِمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أمْرِ الآخِرَةِ، وَلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى خِلْفَتِكُمْ فِي الدُّنْيَا مِنْ وَلَدٍ وَأهْلٍ، فَإنَّهُ سَيَخْلِفُكُمْ فِي ذلِكَ كُلِّهِ). وقال السديُّ: (لاَ تَخَافُواْ مِنْ ذُنُوبكُمْ فَإنِّي أغْفِرُهَا لَكُمْ). وقال بعضُهم: معنى هذه الآيةِ: أنَّ الذين قالُوا: ﴿ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ ﴾ بالوفاءِ على ترك الْخَنَى تَتَنَزَّلُ عليهمُ الملائكةُ بالرِّضَى: أن لا تخافُوا من الغِنَى ولا تحزنُوا على الغنَى وأبْشِرُوا بالبَقاءِ مع الذي كنتم توعدونَ من اللقاءِ. وَقِيْلَ: معناهُ: ألاَّ تَخافُوا فلا خوفٌ على أهلِ الاستقامةِ، ولا تَحزنُوا فإن لكم أنواعَ الكرامةِ وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ السَّلامةِ، لا تخافُوا فعل دِينِ الله إنِ استقمتُم، ولا تحزَنُوا، فبحبلِ اللهِ اعتصَمتُم، وأبْشِرُوا بالجنةِ إن تُبْتُمْ لا تخافوا ما دُمتم ولا تحزنوا فقد نِلتُمْ ما طلبتم، وأبشِرُوا بالجنةِ التي فيها رَغِبْتم، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الإيْمانِ، ولا تحزنوا وأنتم أهلُ الغفرانِ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ الرِّضوانِ، لا تخافوا وأنتم أهلُ الشَّهادة، ولا تحزَنوُا فأنتم أهلُ السَّعادة، وأبشروا بالجنةِ التي هي دارُ الزِّيادة، لا تخافوا فأنتم أهلُ النَّوالِ، ولا تحزنوا فأنتم أهلُ الوصالِ، وابشروا بالجنة التي هي دارُ الحَلالِ، لا تخافوا فقد أمنتم الثُّبُورَ، ولا تحزنوا فإن لكم الحورَ، وأبشروا بالجنة التي هي دار السرور، ولا تخافوا فسعيُكم مشكورٌ، ولا تحزنوا فذنبُكم مغفورٌ، وابشروا بالجنة التي هي دار النور، لا تخافوا فطَالَما كنتم خائفينَ، ولا تحزنوا فقد كنتم عَارفين، وأبشِرُوا بالجنة التي عَجَزَ عنها وصفُ الواصفين، لا تخافُوا فأنتم مِن أهل الإيْمانِ، ولا تحزنوا فأنتم من أهلِ الحرمَان، وأبشِروا بالجنة التي هي دارُ الأمانِ. لا تخافوا فسَلِمتُم من أهلِ الجحيم، ولا تحزنوا فقد وَصلتُم إلى الرب الرحيم، وأبشِروا بالجنةِ التي هي دارُ النعيمِ، لا تخافُوا فقد زالت عنكم المخافةُ، ولا تحزنوا فقد سَلِمتُم من كلِّ آفةٍ، وابشِرُوا بالجنةِ التي هي دارُ الضيافةِ، لا تخافوا العَزْلَ من الولايةِ، ولا تحزنوا على ما قدَّمتُم من الجنايةِ، وأبشِرُوا بالجنةِ التي هي دار الهداية، لا تخافوا حلُولَ العذاب، ولا تحزنوا من هَولِ الحساب، وأبشِرُوا بالجنة التي هي دارُ الثواب، لا تخافوا فأنتم سَالِمون من العقاب، ولا تحزنوا فأنتم وَاصِلون إلى الثواب، وأبشِرُوا بالجنة فأنَّها نِعْمَ المآب. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ ﴾؛ أي تقولُ لَهم الملائكةُ: نحنُ أولياؤُكم؛ أي نحنُ الْحَفَظَةُ الذي كنا معَكُم في الأُولَى، ونحنُ أحبَّاؤُكم أولياؤكم في الآخرةِ، لا نفارقُكم حتى تدخلُوا الجنةَ.
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ ﴾ من الكَراماتِ واللَّذاتِ، يعني ولكم في الآخرةِ ما تشتَهي أنفسُكم.
﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾؛ أي أنْزَلََهم اللهُ نُزُلاً، ولا يجوزُ أن يكونَ قولهُ (نُزُلاً) جمع نَازلَةٍ، ويكون المعنَى: ولَكُمْ ما تَدَّعُونَ من غَفُورٍ رَحِيْمٍ نَازلِينَ. ويجوزُ أن يرادَ به القوتُ الذي يقامُ للنازلِ والضَّيفِ، والمعنى: ثَبَتَ لَهم ما يدَّعون ﴿ نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ ﴾ أي كثيرِ المغفرةِ، رَحيمٍ بمن كان على الإيْمانِ والتوبةِ. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ ﴾ قَالَ: " أُمَّتِي وَرَب الْكَعْبَةِ "، لأنَّ اليهودَ قالوا ربُّنا اللهُ ثُم لَم يَستَقِيمُوا إذ قالُوا: عزير ابن الله! والنصارى قالوا: ربنا الله، ثم لم يستقيموا إذ قالوا: المسيحُ ابنُ اللهِ!.
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَآ ﴾، أي وما يُعْطَاها.
﴿ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾؛ من الخيرِ. وَقِيْلَ: مِن الصبرِ، وَقِيْلَ: الحظُّ العظيمُ الجنَّة، أي ما يُلَقَّاهَا إلاّ مَن وجبت له الجنةُ. وَقِيْلَ: الحظُّ العظيمُ القَدْر، العظيمُ عندَ الله.
﴿ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي اعْتَصِمْ باللهِ من شرِّ الشَّيطانِ، امْضِ على حُكْمِكَ.
﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾؛ لِمقالَةِ أعدائِكَ.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بهم وبمُجارَاتِهم. ثُم ذكرَ اللهُ علاماتِ توحيدهِ ودلائل قُدرتهِ؛ فقال: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ٱلَّيلُ وَٱلنَّهَارُ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ ﴾؛ أي ومن آياتهِ الدَّالةِ على رُبُوبيَّتِهِ ووَحدَانِيَّتهِ الليلُ والنهارُ بما فيهما من المنافعِ والمقاصدِ، والشمسُ والقمرُ بما فيهما من البدائعِ.
﴿ لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ ٱلَّذِي خَلَقَهُنَّ ﴾؛ أي لا تَعبدُوا الشمسَ والقمرَ، واعبدُوا اللهَ الذي خَلَقَهُنَّ.
﴿ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾؛ أي إنْ كُنتم تُرِيدونَ بعبادةِ الشَّمس والقمرِ عبادةَ اللهِ. وذلك أنَّ قَوماً من الكفَّار يَسجُدونَ لَهما ويزعمونَ أنَّهم يتقرَّبون بذلكَ إلى اللهِ تعالى، فقيلَ لَهم: إنْ كنتم تريدون بذلكَ عبادةَ الله تعالى، فالسُّجود لِخالِقِهما أولَى من السُّجود لَهما. فإنْ قِيْلَ: ما معنى قولهِ ﴿ خَلَقَهُنَّ ﴾ والقمرُ مذكَّرٌ والشمسُ مؤنَّثة، والمذكَّرُ والمؤنث إذا اجتمَعا غلبَ المذكَّر؟ قُلْنَا: إنَّ قوله (خَلَقَهُنَّ) راجعٌ إلى الآياتِ التي سَبَقَ ذكرُها في أوَّلِ هذه الآيةِ من الليل والنهار والشَّمسِ والقمر، ويكون ضميرُ ما لا يعقلُ على لفظ التأنيثِ كما يقالُ: هذه كِبَاشُ ذُبحْنَ وذُبحَتْ.
﴿ وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ ﴾؛ أي لا يَميلُونََ على عبادتهِ ولا يَفْتَرُونَ. واختلَفُوا في موضعِ السُّجود من هذه السُّورةِ؛ فقال الحسنُ: (عِنْدَ قَوْلِهِ (تَعْبُدُونَ). وهو قولُ الشَّافعي. وقا ابنُ عبَّاس ومسروقُ: (هُوَ عِنْدَ قَوْلِهِ: لاَ يَسْأَمُونَ) وهو قولُ عُلمائِنَا، وهو الأصحُّ لأنه موضِعُ تَمام الكلامِ.
﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ٱهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾؛ تحرَّكت للنباتِ وانتفخَتْ وارتفعت له حتى يكادُ النباتُ يظهر.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاهَا ﴾؛ بإنزالِ المطر.
﴿ لَمُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ ﴾؛ في الآخرة.
﴿ إِنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ من الإحياءِ والإمَاتةِ.
﴿ لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ ﴾، بأَشْخَاصِهِمْ وَأفْعَالِهِمْ وَأقْوَالِهِمْ وَعَزَائِمِهْمِ. واللَّحْدُ واللِّحَادُ بمعنى واحدٍ وهو الْمَيْلُ، ومنهُ الْمُلْحِدُ لعدولهِ عن الحقِّ، ومنهُ اللَّحْدُ الذي في القَبرِ لأنه في جانبٍ منهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾؛ هو تقديرُ نفيِ المساواة بين الفريقينِ. قِيْلَ: المرادُ قولهُ ﴿ أَفَمَن يُلْقَىٰ فِي ٱلنَّارِ ﴾ أبو جهل وجدلهُ ﴿ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِيۤ آمِناً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ ﴾ حمزة، وَقَوْلُهُ: ﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾؛ لفظهُ لفظُ الأمرِ، ومعناهُ التهديدُ والوعيدُ.
﴿ لَمَّا جَآءَهُمْ ﴾؛ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ﴾؛ محذوفُ الجواب، تقديرهُ: (إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ) سيَنْزِلُ بهم مِن العذاب ما هو مذكورٌ في الكتاب العزيزِ. والعَزِيزُ: هو الكريمُ على اللهِ. وَقِيْلَ: هو الممتنعُ على مَن يريدُ مُعَارَضَتَهُ وَتَغْييْرَهُ بزيادةٍ ونُقصانٍ.
﴿ قُلْ ﴾؛ يا مُحَمَّد: ﴿ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ ﴾؛ يعني القُرْآنَ هُدًى للذين آمَنُوا من الضَّلالةِ وشِفَاءٌ من الأوجاعِ. وقال مقاتلُ: (شِفَاءٌ لِمَا فِي الْقُلُوب بالْبَيَانِ الَّذِي فِيْهِ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ ﴾؛ أي إنَّهم في تَرْكِ القَبُولِ بمنْزِلَةِ الصُّمِّ العُمْيِ، وسيؤدِّيهم تكذيبُهم إلى العَمَى، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾؛ أي عُمُوا عنِ القُرْآنِ وصُمُّوا عنه. وقال السديُّ: (عَمَتْ قُلُوبُهُمْ عَنْهُ). والمعنى: وهو عليهم ذُو عمَى. وانتصبَ قولهُ (عَمًى) على المصدر. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ﴾؛ أي إنَّهم لا يَسمَعُونَ ويفهمونَ كما أنَّ مَن دعَا مِن مكانٍ بعيدٍ لَم يسمَعْ ولَم يفهم. والمعنى: أنَّهُ بعيدٌ عندَهم مِن قُلوبهم ما يُتْلَى عليهم.
﴿ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ ﴾؛ قومهُ كما اختلفَ قومُكَ في القُرْآنِ، وهذا تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أي كما آتينَاكَ الكتابَ وكذبَ به قومُكَ وصدَّقَ به بعضُهم كذلك آتينَا موسى الكتابَ فكذبَ به بعضُ قومهِ وصدَّقَ به بعضُهم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ﴾؛ معناهُ: ولولا كلمةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ في تأخيرِ العذاب عن هذه الأُمةِ إلى يوم القيامةِ كما قَالَ تَعَالَى﴿ بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ ﴾[القمر: ٤٦] لعَذبَهم بعذاب الاستئصالِ. وَقِيْلَ: أرادَ بسبقِ الكلمةِ: أنْ لا يعَذِّبَهم وأنتَ فيهم. والمعنى: ولَوْلاَ كلمةٌ سَبَقَتْ مِن ربكَ في تأخيرِ العذاب عن مُكَذِّبي القُرْآنِ إلى أجلٍ مُسمَّى يعني القيامةَ، لقُضِيَ بينَهم بالعذاب الواقعِ بمَن كذبَ.
﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ ﴾، مِن صِدقِكَ وكِتَابكَ.
﴿ مُرِيبٍ ﴾؛ أي موقعٌ لَهم الرِّيبة، وَقِيْلَ: إنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ من القُرْآنِ ظاهرِ الشَّكِّ.
﴿ مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ ﴾؛ يَعبُدُونَ.
﴿ مِن قَبْلُ ﴾؛ في الدُّنيا. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ ﴾؛ أي أيْقَنُوا أنه لا خلاصَ لَهم من النَّار.
﴿ وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ ﴾؛ والمكروهُ والأمراض والأسقامُ والشَّدائدُ.
﴿ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾؛ أي يصيرُ آيَسَ شيءٍ من عَوْدٍ النِّعمةِ، وزوالِ المكروهِ عنه، فيَضْجَرُ على ذلكَ غايةَ الضَّجرِ.
﴿ مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ ﴾؛ من بعدِ مَكْرُوهٍ مَسَّهُ.
﴿ لَيَقُولَنَّ هَـٰذَا لِي ﴾؛ أي بفَضْلِي وقوَّتِي وعملٍ اسْتَحْقَقْتُهُ، وهذا من اختلافِ الكفَّار. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَآئِمَةً ﴾؛ هذا يدلُّ على أنَّ هذا الإنسانَ كافرٌ. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّيۤ إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ ﴾؛ أي لستُ على يقينٍ من البعثِ، فإن كان الأمرُ على ذلكَ ورُدِدْتُ إلَى رَبي أنَّ لِي عندَهُ الجنةَ ويعطيني في الآخرةِ أفضلَ ما أعطانِي في الدُّنيا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَنُنَبِّئَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴾؛ وعيدٌ لَهم.
﴿ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾، وإذا أصابَهُ مكروهُ الدَّهرِ فإذا هو يَئِسٌ يدعُو اللهَ ليكشِفَ ذلك عنهُ. والمعنى بقولهِ تعالى ﴿ دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ أي كثيرٍ لا يَمِلُّ من الدُّعاء. وإنَّما لَم يقل: طَوِيلٍ؛ لأن ذِكْرَ العريضِ أبلغُ في باب الامتدادِ والانبساط، لأن العريضَ يدلُّ على الطويلِ، ولا يدلُّ الطويلُ على العريضِ.
﴿ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ ﴾؛ عن الحقِّ والْهُدَى.
﴿ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾؛ خِلاَفٍ للحقِّ بعيدٍ عنهُ، وهو أنتُمْ، فلا أحدٌ أضَلُّ منكُم.
﴿ أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ﴾؛ أحاطَ بكلِّ شيءٍ عِلْماً؛ إنَّهُ يعلَمُ الغيبَ والشَّهادةَ.