ﰡ
موقف المشركين من القرآن
عارض المشركون المكيون النبي والقرآن معارضة شديدة، اتسمت بالعناد والاستهزاء والتحدي، فاستحقوا التهديد بقواصف العذاب، وصواعق العقاب، يتبين ذلك من سبب نزول أوائل سورة فصّلت أو سجدة المؤمن، أو المصابيح، التي هي مكية بإجماع المفسرين،
يروى أن عقبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليبيّن له أمر مخالفته لقومه، وليحتجّ عليه فيما بينه وبينه، وليبعد ما جاء به، فلما تكلم عتبة، قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حم (١) ومرّ في صدر هذه السورة، حتى انتهى إلى قوله تعالى: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) فأرعد الشيخ، وقفّ شعره «١»، وأمسك على فم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، وناشده بالرّحم أن يمسك، وقال حين فارقه: «والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشّعر ولا بالسّحر ولا بالكهانة، ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي».
وهذه هي بداية هذه السورة:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨)
«٢» «٣»
(٢) أي أغطية، جمع كنان: وهو الجعبة: وعاء السهام.
(٣) أي صمم.
افتتحت السورة بالحروف المقطعة: حم (١) للتنبيه ولفت النظر لما يعرض فيها، وتحدي العرب بإعجاز القرآن المتكون من الحروف العربية الأبجدية أو الهجائية، وتقترن هذه الحروف عادة بالكلام عن القرآن، للدلالة على الصلة بينه وبين مكوناته العربية، وذكر هنا أن القرآن الكريم منزل من الله تعالى المتصف بالرحمة الواسعة والدقيقة، فقوله تعالى: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ صفتا رجاء ورحمة لله تعالى.
وهذا الكتاب فصلت آياته، أي بيّنت بيانا كافيا، وفسّرت معانيه، وتميز حلاله وحرامه، وزجره وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، وأنزله الله كتابا مقروءا باللغة العربية، موضحا لقوم يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، ويعلمون معانيه لنزوله بلغتهم، ويعلمون الأشياء، ويعقلون الدلائل ويتأملون بنظر ثاقب بمشتملاته.
وهذا القرآن الذي أنزله الله يبشر المؤمنين بالجنة لاتباعهم له، وينذر الكافرين بالنار لمخالفتهم أحكامه، ولكن أكثر الكافرين أعرضوا عما اشتمل عليه، من الإنذارات والبشائر، لأسباب ثلاثة وهي:
- إنهم قالوا: قلوبنا في أغطية تحجز ما بيننا وبينه، وفي آذاننا صمم، أو ثقل سمع يمنعها من استماعه، ومن بيننا وبينك ساتر يستر عنا رؤيتك، ويمنعنا من إجابتك ودعوتك، فالحجاب: هو مخالفة النبي إياهم، ودعوته إلى الله تعالى دون أصنامهم، هذه الحواجز الثلاثة تمنعنا من قبول دعوة النبي، فاعمل على دينك وطريقتك، إننا عاملون على ديننا وطريقتنا، ولا نتبعك. فقوله تعالى: فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ يحتمل أن يكون القول تهديدا، ويحتمل أن يكون متاركة محضة. ثم أمر الله نبيه أن يصدع أو
ثم هدد الله المشركين على موقفهم المعارض، والمناوئ لدعوة التوحيد والحق، ومضمون التهديد والوعيد: ويل: كلمة تهديد أو واد في جهنم، للمشركين الذين أشركوا مع الله إلها آخر، ولا يؤدون الزكاة للمحتاجين لكراهيتهم الناس، وهم جاحدون بالآخرة، منكرون لها. والزكاة: للمحاجين لكراهيتهم الناس، وهم جاحدون بالآخرة، منكرون لها. والزكاة: المال فهي قنطرة الإسلام، وذلك بالمعنى العام للزكاة، وإما زكاة النفس وهي (لا إله إلا الله) أساس التوحيد، وهذا رأي الجمهور، كما في قول موسى لفرعون: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى [النازعات: ٧٩/ ١٨].
ويرجح هذا التأويل أن الآية من أوائل السور المكية، وزكاة المال نزلت بالمدينة، فهي زكاة القلب والبدن، أي تطهيرهما من الشرك والمعاصي.
وبعد تهديد المشركين، وعد الله المؤمنين بالنجاة، وذكر الله حالة الذين آمنوا لمقارنتها بحال الكفار المذكورين، ليتبين الفرق. فالذين صدقوا بالله ورسوله، وعملوا بما أمر الله تعالى وانتهوا عما نهى عنه، لهم عند ربهم ثواب غير منقوص أو مقطوع، أو لا يشتمل على المنّ والأذى، فهو من جهة الله تشريف لا منّ فيه، أما أعطيات البشر: فهي التي يدخلها المنّ.
وقال السدّي: نزلت هذه الآية في المرضى والزّمنى (المرضى مرضا يدوم طويلا) إذا عجزوا عن إكمال الطاعات، كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
في مناسبات قرآنية كثيرة، أورد الله تعالى بعض الأدلة على وجوده وتوحيده، وكمال قدرته وحكمته، ومن أهم هذه الأدلة: خلق السماوات والأرض وتقديرها في مدة قليلة، وأتبع ذلك في بعض الآيات كما هنا توبيخ المشركين على كفرهم بخالق الأرض والسماء ومخترعهما، لذا فإنه آن للبشرية أن ينتهي الشرك من ساحتها.
ويتخلصوا من العقائد الباطلة، والموروثات الزائفة حتى في عصرنا الحاضر، وهذا ما تضمنته هذه الآيات الكريمة الآتية:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٩ الى ١٢]
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (٩) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (١٠) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (١١) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (١٢)
«١» «٢» «٣» [فصلت: ٤١/ ٩- ١٢].
قل أيها النبيّ لقومك المشركين على سبيل التوبيخ والتقريع: كيف تكفرون بالله الذي خلق الأرض في مقدار يومين، وتجعلون له شركاء من الملائكة والجن، والأصنام والأوثان، فذلك الخالق المبدع: هو رب العالمين كلّهم من إنس وجن، وهو مالكهم وخالقهم ومدبّرهم.
والحكمة في خلق هذه المخلوقات في مدة ممتدة، مع قدرته على إيجادها في لحظة واحدة: هي إظهار القدرة في ترتيب ذلك، حسب شرف الإيجاد أولا فأولا، وقال قوم: ليعلّم عباده التأني في الأمور والمهل.
(٢) الرواسي: هي الجبال الثوابت.
(٣) أي جعلها منبتة للطيبات والأطعمة، وطهورا إلى غير ذلك من أنواع البركة.
وكلمة (سواء) مثل كلمة (عدل) ترد على المفرد والجمع، والمذكر والمؤنث. وهي مصدر مؤكّد لمضمر هو صفة لأيام، أي استوت استواء أو سواء.
ثم عمد الله وقصد بقدرته واختراعه إلى خلق السماوات وإيجادها، حسبما تقتضي الحكمة الإلهية، فقال للأرض وللسماء: كونا مخلوقتين منقادتين، خاضعتين للأمر الإلهي، طائعتين أو مكرهتين، فاستجابتا، وقالتا بلسان الحال أو المقال: أتينا ووجدنا طائعين، أي ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل والوصف. وبه يتبين أن الله تعالى خلق الأرض أولا، ثم خلق السماء بعدها، ثم بعد السماء، دحا الأرض، أي بسطها بحسب نظرنا، وهذا توفيق بين هذه الآية، وآية: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات: ٧٩/ ٣٠].
ثم ذكر الله كيفية تكوين السماوات، وهو أنه تعالى أتم خلق السماوات السبع وأحكمهن، وفرغ منهن في مقدار يومين، فأصبح خلق السماوات والأرض في مقدار
٧/ ٥٤] وغيرها، قال مجاهد: ويوم من الأيام الستة كألف سنة مما تعدّون، والراجح أن هذه الأيام مثل أيام الدنيا.
وأوحى الله في كل سماء أمرها، أي جعل فيها النظام الذي تجري عليه الأمور فيها، وزيّن سماء الدنيا بكواكب منيرة مضيئة، مشرقة على أهل الأرض، متلألئة كالمصابيح، وجعل المصابيح زينة، وحفظا من الشياطين الذين يسترقون السمع، ومن الاضطراب في سيرها، ومن اصطدام بعضها ببعض، ذلك النظام البديع هو من ترتيب الله القادر على صنع كل شيء، القاهر كل شيء، والعليم علما تاما بمصالح الخلق وحركاتهم وسكناتهم جميعها.
تهديد المشركين بعذاب الدنيا
لم يترك القرآن الكريم وسيلة في خطاب المشركين لإقناعهم بوحدانية الله تعالى، وترك عبادة الأصنام إلا سلكها، ونوّع في عرضها، وأبان ما ينبغي أن يكون عليه العقلاء والسعداء في وجوب المبادرة إلى سماع النصيحة، والإقلاع عن عادة الوثنية وسلوكياتها الضالة، وطرقها الوعرة، وما يترتب عليها من خرافات وأساطير، وحينما لم تجد معهم وسائل الإقناع والنقاش، أنذرهم القرآن الكريم بالتعرض لأشد ويلات العذاب وألوان العقاب، مثل الذي أنزله الله بالأمم السابقة العاتية، كما تبين هذه الآيات الشريفة:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٣ الى ١٨]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (١٥) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (١٦) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٧)
وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (١٨)
«١»
هذه الآيات من أشد الإنذارات الإلهية لعبدة الأوثان في مكة حين نزول الوحي، ومضمونها: فإن أعرضت قريش والعرب الذين دعوتهم أيها النبي إلى توحيد الله تعالى، عن الإيمان برسالتك وعن هذه الآيات البيّنات، فأعلمهم بأنك تحذرهم من إصابتهم بمثل العذاب الذي أصاب الأمم التي كذبت، كما يكذّبون الآن، وأنهم سيتعرضون لصواعق العقاب والهلاك، كما حدث لعاد قوم هود، وثمود قوم صالح.
وذلك حين أتتهم الرسل المتقدمون في الزمان وبعد اكتمال أعمارهم، والذين بلّغوهم رسالات الله، وأمروهم بعبادة ربهم وحده لا شريك له، فكذبوهم وقالوا لرسلهم: لو شاء ربنا إرسال الرسل، لأرسل إلينا ملائكة، لا بشرا مثلنا، فإنا بما أرسلتم به أيها الرسل جاحدون منكرون، فلا نتبعكم. وقوله تعالى: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي تقدموا في الزمان، وقوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ أي بعد اكتمال أعمارهم، وتقدم وجودهم في الزمن.
ثم فصّل الله تعالى ما حل بقوم عاد وثمود، فأما قوم عاد في الأحقاف في شمال حضرموت من اليمن، فإنهم طلبوا وآثروا ساحة التكبر ووضعوا أنفسهم فيه بغير حق، بل بالكفر والمعاصي، واغتروا بأجسادهم والنعم عليهم، وقالوا: لا أحد
(٢) أي مشؤومات.
(٣) أي الهوان. وأما عذاب الخزي فهو عذاب الذل.
وعقابهم أن الله تعالى أرسل عليهم ريحا شديدة التأثير بصوتها، وشديدة البرد والحر، في بضعة أيام مشؤومات متتابعات، لإذاقتهم عذاب الذل والهوان في الدنيا، وعذاب الآخرة أشد إهانة وإذلالا من عذاب الدنيا، وهم لا يجدون ناصرا ينصرهم، ولا دافعا يدفع عنهم العذاب.
وأما قبيلة ثمود في شمال الحجاز نحو الشام إلى وادي القرى، فبيّن الله لهم طريق الحق والهدى والنجاة، فآثروا العمى، أي اختاروا الكفر على الإيمان، وآثروا العصيان على الطاعة، وكذّبوا رسولهم، وعقروا الناقة معجزة صالح عليه السّلام، فأصابهم العذاب الشديد المهلك المهين، بسبب تكسبهم وجناية أيديهم: وهو التكذيب للرّسل، وجحود رسالاتهم.
وأنقذ الله تعالى من العذاب صالحا عليه السّلام ومن آمن معه برسالته، وكانوا متّقين ربهم، بأداء فرائضه، وترك معاصيه، لم يمسّهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر أو مكروه.
وهذا الإخبار عن مصائر الكافرين الجاحدين من عذاب الهوان والإذلال، وعاقبة من آمن واتقى ونجا بإيمانه، ليبين الله الفرق، ويظهر الشيء ويتميز بضده.
ألم يكف هؤلاء المشركين إنذار الله تعالى بسوء العذاب، ألم يفكروا بسوء المصير، ويوازنوا بينه وبين مصير المؤمنين؟! ولكن القوم كانوا عمي البصيرة، أخذتهم العزة بالإثم، ولم يتفادوا العقاب الإلهي.
لم يقتصر القرآن الكريم على تهديد الكافرين والمشركين بعذاب الهوان والإذلال في الدنيا، وإنما جاء التهديد فيه بعذاب القيامة الذي هو أشد وأنكى، وأدوم وأبقى، ووصف الله هؤلاء المهددين بأنهم أعداء الله، أي الكفار المخالفون لأمره، وذلك ليكون التهديد أتم في الزجر والتحذير، وحمل المعادي على الصلاح والاستقامة، والرشد والهداية، ومن هدّد أو أنذر فقد أعذر، ولم يبق مجال للوم والندم، ومحاولة العدول عن الشر والضلال، في يوم لا ينفع فيه الندم، ولا يقبل فيه الإيمان والصلاح، وهذا ما أبانته الآيات الشريفة:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٩) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٠) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢١) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢٢) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (٢٤) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (٢٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [فصلت: ٤١/ ١٩- ٢٥].
المعنى: واذكر أيها النبي لقريش حال جمع الكفار الأعداء: وهم المخالفون لأمره، وسوقهم بعنف في يوم القيامة إلى النار، فهم يوزعون، أي يكفّ ويحبس أولهم على
(٢) أهلككم.
(٣) مأوى ومقام.
(٤) أي إن يطلب منهم الاسترضاء، فليس مقبولا عتابهم.
(٥) هيأنا لهم شياطين الإنس والجن.
حتى إذا ما وصلوا إلى النار ووقفوا عليها، يسألون عما فعلوا سؤال توبيخ، فإذا أنكروا شهدت عليهم جوارحهم من السمع والبصر والجلد، بما ارتكبوا من ألوان الشرك والمعاصي، وبما عملوا في الدنيا من سوء الأعمال، وهذا وصف حال من أحوالهم في بعض أوقات القيامة، وذلك عند وصولهم إلى جهنم، فإن الله تعالى سيطلب منهم الإقرار عند ذلك على أنفسهم، ويسألون سؤال توبيخ عن كفرهم، فينكرون ذلك، ويظنون السؤال سؤال استفهام واستخبار، فينطق الله جوارحهم بالشهادة عليهم،
فروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم- فيما أخرجه ابن جرير عن عقبة- «إن أول ما ينطق عن الإنسان فخذه اليسرى، ثم تنطق الجوارح، فيقول الكافر: تبا لك أيتها الأعضاء، فعنك كنت أدافع».
فيتعجب الناس من نطق جوارحهم، فيقولون على جهة اللوم لجلودهم حين شهدوا عليهم: لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا فقالوا: أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء من مخلوقاته، فإنه كما أنطق الألسن في الدنيا، فكذلك أنطق بقية الأعضاء في الآخرة، علما بأن الله أيها البشر خلقكم في المرة الأولى، وهو قادر على إعادتكم وإرجاعكم إليه، فإليه وحده المصير بعد الموت.
ثم تقول الملائكة بأمر الله سبحانه: لم تكونوا تتصاونون وتحجزون أنفسكم عن المعاصي والكفر، خوف أن يشهد عليكم، أو لأجل أن يشهد، من قبل سمعكم وأبصاركم وجلودكم، ولكنكم ظننتم ظنا خطأ أن الله تعالى حال عصيانكم، لا يعلم كثيرا مما تعلمون من المعاصي، فتجرأتم على فعلها.
وسبب نزول هذه الآية: هو ما رواه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن
ثم خاطب الله نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم بما معناه: فإن يصبر أعداء الله، لم ينفعهم الصبر، وإن لم يصبروا، فهم في النار في الحالين، وإن يطلب منهم العتبى، وتسويغ أعمالهم، وإبداء أعذارهم، فليسوا ممن يقبل عذرهم، لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار التكليف والطاعة والعمل.
ثم أبان الله سبب بقائهم في الكفر بعد إدمانهم عليه: وهو أن الله سلّط وهيأ لهم شياطين الجن والإنس وهم القرناء، فحسّنوا لهم أعمالهم في الماضي والمستقبل، وزيّنوا لهم أحوال الدنيا التي بين أيديهم وهي كل ما تقدمهم في الزمن، وأمور الآخرة التي هي خلفهم، وهي معتقدات السوء وكل ما يأتي بعدهم من أمر القيامة والبعث، ونحو ذلك مما يقال فيه: «إنه خلف الإنسان» والمراد أمامه. وثبت عليهم العذاب في جملة أمم كافرة مضت قبلهم، مع جملة من الجن والإنس فعلوا كفعلهم، فوجب لهم العذاب نفسه، وكانوا جميعا متساوين في الخسارة والدمار بسبب تكذيبهم وسوء أفعالهم.
جزاء أهل الكفر أو التشويش عند سماع القرآن وجزاؤه
تعددت مواقف المشركين المكيين من معاداة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وصد الناس عن دعوته، وبخاصة عند سماع القرآن الكريم.
فاتفقوا على التشويش الشديد عند سماع آيات القرآن لصرف الناس عنه، فقال
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٢٦ الى ٢٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (٢٦) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٧) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٢٨) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (٢٩)
«٢» «٣» [فصلت: ٤١/ ٢٦- ٢٩].
المعنى: قال بعض الكفار لبعضهم: لا تستمعوا لهذا القرآن عند تلاوته، ولا تتأثروا أو تنقادوا له، وعارضوه بالكلام اللغو الساقط الذي لا معنى له، من إنشاد الأشعار ورفع الأصوات والتصفيق والتصفير، والتخليط بالخرافات والأساطير، حتى تغلبوا القارئ على قراءته، وتطمسوا أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم وتميتوا ذكره وتصرفوا القلوب عنه.
فهددهم الله تعالى بأنه ليجازين في الدنيا في بدر وغيرها جميع الكفار بعذاب شديد، ومنهم كفار قريش، الذين يحاولون صد الناس عن سماع القرآن، ثم يجازينّهم في الآخرة جزاء أقبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وهو الشرك. وهذه آية وعيد لقريش والعذاب الشديد: هو عذاب الدنيا في بدر وغيرها والجزاء بأسوأ أعمالهم:
هو عذاب الآخرة.
ثم ذكر الله تعالى صفة ذلك العذاب بأن ذلك الجزاء لأقبح أعمال الكفار وهو دخول النار، هو جزاء أعداء الله الذين كذبوا رسله، واستكبروا عن عبادته، فهم
(٢) ائتوا باللغو عند قراءته، وهو ما لا معنى فيه من سقط القول.
(٣) أي الأذلين المهانين.
فقال الكفار طالبين من الله تعالى: ربّنا أرنا من أضلنا من فريقي الجن والإنس، الذين كانوا يزينون لنا الكفر والمعاصي، لندوسهم بأقدامنا أو أرجلنا، ليكون الفريقان من الأذلين المهانين، في الدرك الأسفل من النار. والطلب لكلا نوعي المضلين، سواء الذين أضلوا الناس، وأدى بهم الكفر إلى الخلود في النار، أو الذين أوقعوا الناس في المعاصي الكبائر. وكل كافر يطلب إبليس، وكل مرتكب كبيرة يطلبه أيضا ويطلب أعوانه من الإنس. وقولهم: نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يراد به: في أسفل طبقة في النار، وهي أشد عذابا، وهي درك المنافقين.
إن من يحذّره القرآن بهذا التحذير الذي يملأ النفس رعبا وهلعا، وكان عنده قليل من عقل أو وعي أو تأمل، يبادر إلى البحث عن طريق الإنقاذ، كحال من يتعرض لخطر مشاهد في الدنيا من حريق، أو غرق، أو هدم، أو زلزال أو بركان، إن كل إنسان يبحث عن طريق النجاة، خوفا من الخطر، وهذا في الدنيا، فكيف بأهوال العذاب الخالد (الدائم) في نيران الجحيم يوم القيامة.
إن الإنسانية التي تريد النجاة الدائمة والحفاظ على وجودها لا يمكنها تحقيق آمالها، وتجنب آلامها ومخاطر المستقبل، إلا بالإصغاء التام لنداءات القرآن العظيم وتوجيهاته ومواعظه السديدة وإرشاداته البليغة، وحين يستجيب الإنسان لهذا النداء الإلهي تصبح الحياة جنة في الدنيا، ويتخلص الجميع من الآلام وألوان الشقاء والعذاب الذي يتعرضون له، فهل من واع أو مدرك لهذا؟!
الاستقامة على منهاج الحق والخير وطاعة الله تعالى. دليل على توافر العقل والوعي.
والرجولة والشجاعة والعزة والكرامة، والانحراف عن ذلك المنهاج أمارة واضحة على الجهالة وقلة الوعي وضعف الإدراك، والجبن والمهانة، والانصياع للذّات والأهواء والشهوات، فما استقام أحد إلا نجا وأفلح، وكان متماسك الشخصية، قوي العزيمة والإرادة، وما ضل أحد إلا هلك ودمّر نفسه، وكان خائر العزيمة، ضعيف الإرادة. لذا كان الدين سبيلا لخير الإنسان، وإبعاده عن الشرور والآثام، فجاء القرآن الكريم يحضّ على الاستقامة، ويعد بالجزاء الأحسن في هذه الآيات الآتية:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ الى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)
[فصلت: ٤١/ ٣٠- ٣٢].
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا، وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم عبده ورسوله، فاستقام.
وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا قال: «قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها، فهو ممن استقام».
هذه الآية واردة إذن في أحوال المؤمنين المستقيمين ونهايتهم، بعد بيان أحوال المشركين ونهايتهم، ليتبين الفرق بين المؤمن والكافر، وبين الطيب والخبيث، وهي وعد للمؤمنين، بعد آيات وعيد المشركين.
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والحاكم عن معاذ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة».
وطريق الاستقامة: أداء الطاعات، واجتناب المعاصي، تلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذه الآية وهو على المنبر، ثم قال: استقاموا- والله- لله تعالى بطاعته، ولم يروغوا روغان الثعالب.
وقال سفيان بن عبد الله الثقفي- فيما رواه أحمد ومسلم والبخاري في تاريخه وغيرهم-: قلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أخبرني بأمر أعتصم به، فقال: قل: ربي الله، ثم استقم، قلت: ما أخوف ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلسان نفسه، وقال: هذا. أي اللسان، فهو أخوف شيء على الإنسان، يورده المخاطر والمزالق، ويردي به إلى النار.
وتقول الملائكة للمؤمنين: نحن المتولون لحفظكم ومعونتكم في أمور الدنيا والآخرة، نؤنسكم من وحشة القبور، وعند نفخة الصور، ونؤمّنكم يوم البعث والنشور، ونجاوز بكم الصراط المستقيم، الذي هو جسر دقيق بين الجنة والنار، ونوصلكم إلى جنات النعيم. قال السدي: معنى الآية: نحن- أي الملائكة- حفظتكم في الدنيا، وأولياؤكم في الآخرة.
أي لكم في الجنة ما تطلبون. وكل ذلك حال كونه معدّا لكم، ضيافة وعطاء وإنعاما، من رب غفور لذنوبكم، رحيم شامل الرحمة بأحوالكم، حيث غفر وستر، ورحم ولطف.
ومعنى قوله تعالى: نُزُلًا: أنزلناه نزلا، فهو منصوب على المصدر. أي إن الله تعالى أعد هذا النعيم وأنزله إنزالا على أهل الجنان، فهو جزاء على طاعتهم واستقامتهم. وإعداد هذه النزل دليل على تحقيق السعادة لهم، كما جاء في آية أخرى:
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦) [الواقعة: ٥٦/ ٥٦]. أي يوم الجزاء.
فضل الدعوة إلى الله تعالى
تبليغ الدعوة إلى توحيد الله وطاعته: واجب في الإسلام، والإرشاد إلى الخير والسلامة والأمان: منهاج أهل الحق، المحبين للإنسانية، السالكين مع غيرهم ما يحبونه لأنفسهم، فإن أهل الإيمان يصلحون أنفسهم أولا، ثم يحاولون إصلاح غيرهم، وتكون مرتبة تربية النفس وإعدادها معروفة من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا ثم تأتي مرتبة دعوة الآخرين إلى الهدى والخير، ويؤخذ ذلك من هذه الآيات الآتية:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ الى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
أوضح ابن عباس سبب نزول هذه الآية، فقال: هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحا فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نحلة. وقال أيضا: هم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والمؤذنون هم أيضا داخلون في هذه الآية. لأنهم يدعون إلى الله وأداء الصلاة، ولكن ليست الآية نازلة في المؤذنين، خلافا لما روي عن عائشة وعكرمة ومجاهد وقيس بن أبي حازم، لأن سورة (فصلت) مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة أذان، وإنما شرع الأذان بالمدينة، لكن الأذان من الدعوة إلى الله تعالى.
والآية تعم بلفظها كل من دعا قديما وحديثا إلى الله تعالى وإلى طاعته، من الأنبياء عليهم السّلام، ومن المؤمنين. والمعنى: لا أحد أحسن ممن هذه حاله. إن أحسن الناس حالا: هم الدعاة إلى توحيد الله تعالى وطاعته وعبادته، وإلى العمل الصالح:
وهو أداء ما فرض الله على الإنسان واجتناب ما حرمه، والذين يتخذون الإسلام دينا ومنهجا ومذهبا، ويعمل كل واحد مع إخوته المسلمين على كل ما يشد أواصر الأخوة والتعاون والتناصر معهم.
ومن المعلوم بداهة أنه لا تساوي بين الفعلة الحسنة التي يرضى الله بها ويثيب عليها، وبين الفعلة السيئة التي يكرهها الله ويعاقب عليها. والمداراة: من الحسنة، والغلطة: من السيئة، فادفع أيها الداعية المخلص من أساء إليك بالإحسان إليه، بواسطة الكلام الطيب ومقابلة الإساءة بالإحسان، والذنب بالعفو، والغضب بالصبر والحلم، وادفع أمورك وما يعرض لك مع الناس، ومخالطتك لهم بالفعلة أو بالسيرة التي هي أحسن الفعلات والسير، ومنها: بذل أو إفشاء السّلام، وحسن
وما يتقبل هذه الوصية أو الموعظة ويعمل بها، ويروّض نفسه على هذه الخصلة:
وهي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على كظم الغيظ، واحتمال المكروه، والصبر شاق على النفوس، والصبر على الطاعات وعن الشهوات جامع لخصال الخير كلها. وكذلك لا يتقبل هذه الوصية إلا ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة، وذو حظ في الثواب والخير، والآية مدح للصابرين ووعد لهم بالجنة.
وطريق التغلب على أهواء النفس ونزواتها هو الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فإن وسوس إليك الشيطان، وحاول صرفك عن الدفع بالتي هي أحسن، وزيّن لك أن تقابل السيئة بمثلها، فاستعذ بالله من شره، والتجئ إلى الله لكفّه عنك ورد كيده، فالله هو السميع لاستعاذتك منه، والتجائك إليه، العليم بوساوس الشيطان، وبما يعزم عليه الإنسان.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة يقول- فيما رواه أحمد والترمذي- عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه». ولما انتصر أبو بكر لنفسه من رجل شتمه، قام النبي صلّى الله عليه وسلّم من المجلس وقال لأبي بكر: «إنه أي (حين سكوتك) كان يرد عنك ملك، فلما قربت تنتصر، ذهب الملك، وجاء الشيطان، فما كنت لأجالسه».
تكرر إيراد الآيات الكونية الدالة على وحدانية الله وقدرته وعظمة خلقه، في آيات متنوعة من القرآن الكريم، لإقناع المشركين بعقيدة الحق والتوحيد والعدل الإلهي، ويمكن لكل إنسان واع إدراك هذه الظواهر الحسية، والاقتناع بدلالاتها وما تومئ إليه، فلا يبقى بعدئذ عذر لأحد في إنكار وجود الله تعالى وتوحيده، وقدرته التي لا تضارع، ولا يرقى لمثيلها إنسان. وهذا ما وجهت إليه الآيات الشريفة:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (٣٧) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (٣٨) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)
«١» «٢» [فصلت: ٤١/ ٣٧- ٣٩].
تضمنت الآيات الكريمة دلائل أربعة فلكية: وهي الليل والنهار والشمس والقمر، وآية أرضية: وهي إنبات النباتات بالأمطار والأنهار، لإثبات قدرة الله تعالى على إبداع الأشياء وخلقها، وعلى إحياء الموتى مرة أخرى، في عالم الآخرة والبعث.
إن من آيات الله تعالى ودلائل قدرته وعظمته: إيجاد الليل والنهار، وتعاقبهما، وخلق الشمس المضيئة والقمر المنير، ففي ذلك خير للإنسان ونفعه، وتمكينه من الحياة البشرية بنحو مريح ومفيد، وبما أن الشمس والقمر مخلوقان خاضعان لسلطان الله وتسخيره، فإياكم أيها البشر من السجود للشمس والقمر وعبادتهما، لأنهما مخلوقان لله، وكل مخلوق عاجز عن فعل شيء، والأولى عبادة الخالق جل جلاله، إن
(٢) انتفخت وعلت بالنبات أو الزرع.
وهذا ردّ على الصابئة عبدة الكواكب، وعلى عبدة الشمس الذين يزعمون أنهم يريدون من السجود للشمس والقمر السجود لله تعالى. ويلاحظ أن ذكر الليل والنهار يتضمن ما فيهما من طول وقصر، وتداخل واستواء وتفاوت، وذكر القمر والشمس يتضمن ما فيهما من عجائب وحكمة ونفع؟ فإن تكبر هؤلاء المشركون عبدة الكواكب عن امتثال أوامر الله تعالى وتوجيه رسوله، وأبو إلا البقاء على شركهم، فلا يهمنك أمرهم أيها الرسول، فإن الذين يعبدون الله بحق كثيرون، فمنهم الملائكة الأشراف ذوو المكانة عند الله، لا المكان أو الموضع، الذين يواظبون على عبادة الله، وتنزيهه في كل وقت، ليلا ونهارا، وهم لا يملّون من عبادة الله سبحانه، ولا ينقطعون عن متابعة العبادة، وكلمة عِنْدَ رَبِّكَ ليست ظرف مكان، وإنما هي بيان المنزلة والقربة.
إن هذه الآية تتضمن وعيد المشركين وحقارة أمرهم، وأن الله تعالى غير محتاج إلى عبادتهم، فأولى بهم إعادة النظر في صرف جهودهم في شيء لا طائل معه ولا نفع، وإنما هو سبب عذاب وغضب وسخط من الله تعالى.
ثم ذكر الله تعالى دلائل أخرى من الأرض وما فيها من أسرار على وجوده وقدرته ووحدانيته، ومن هذه الدلائل: أنك أيها الناظر ترى الأرض هامدة جامدة، لا نبات فيها ولا حياة، فإذا أنزل الله عليها المطر، تحركت بالنبات، وانتفخت وعلت، وأخرجت مختلف ألوان الزروع والحبوب والثمار، وفيها مع ذلك خزائن الثروة المعدنية، النفطية السائلة، والجامدة من معادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والفوسفات وغيرها.
إن الذي أحيا هذه الأرض الجدبة بالنبات والزرع، قادر على أن يحيي الأموات،
وبعد هذا البيان الإلهي لا يبقى عذر لأحد في خطأ الاعتقاد، وعبادة غير الله سبحانه، والتماس الخير والنفع من غير الله القادر، أو منع الضرر والشر من عبيد الله ومخلوقاته. ألا إنها عظة وذكرى لمن كان له قلب وعقل ووعي، وألقى السمع وتنبه، وهو شهيد، أي صرف سمعه إلى هذه الأنباء الواعظة وانتبه في سماعها.
الميل والإعراض عن القرآن
عجيب أمر الإنسان، يرى الحق ويشاهده، ويلمس فائدة الاستقامة وجدواها، وطريق النجاة والسلامة، ومع ذلك يعرض عنه، ويميل إلى غيره من ألوان الباطل والانحراف، متأثرا بأهوائه وشهواته، مؤثرا نفعا عاجلا في ظنه، ولكنه في الواقع هو عين الهلاك والضياع. وما مثله إلا كمثل المريض الأحمق، ينصحه الطبيب بتناول دواء معين، فيتركه ويهمله، إلى أن يلقى حتفه ونهايته، وهكذا بعض الناس يلحدون في القرآن، أي يميلون عنه وعن توجيهاته، وهو الحق الأبلج، والصواب الأسدّ، ويتجهون إلى غيره، وهو الباطل اللجلج، والخطأ البين. وهذا ما أبانته الآيات الآتية:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (٤٣)«١» «٢» [فصلت: ٤١/ ٤٠- ٤٣].
هذا تهديد لأولئك الضالين الذي يهجرون القرآن العظيم، أي يتركون الحق إلى غيره، ويميلون عن الاستقامة على منهج آيات القرآن بالطعن فيها وتحريفها، وتأويلها تأويلا باطلا، لاغين عند سماعها، إنهم لا يخفون على الله، وإنما يعلم بهم وسيجازيهم أشد الجزاء.
وهل أدرك هؤلاء هذا المصير، وهل غفلوا عن الفرق الشاسع بين المؤمن المستقر الآمن في الدنيا والآخرة، وبين الكافر الجبار المتكبر في الدنيا، والذي يلقى به في الآخرة في دركات النار؟ فالمؤمن يدخل الجنة، ويطمئن لما فيها من خيرات، والكافر يزجّ به في نيران جهنم، فيبقى في عذابها على الدوام، لا يقول عاقل بالتسوية بين الحالين أو الفريقين. ثم أكد الله التهديد والوعيد بقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ أي اعملوا أيها الضالون المكذبون ما شئتم من الأعمال، فإن الله عالم بكم، وبصير بأعمالكم، ومجازيكم بحسب ما قدمتم من أعمال، خيرها وشرها، وقوله تعالى: لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا معناه: فنحن بالمرصاد لهم وسنعذبهم، وقوله تعالى: إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ دليل الوعيد والتهديد.
قال مقاتل: نزلت هذه في أبي جهل، وفي عثمان بن عفان رضي الله عنه. وقيل:
(٢) أي القرآن.
والمفاضلة بين الإلقاء في النار والأمن يوم القيامة في كلمة (خير)، وإن كانا لا يشتركان في صفة الخير، إنما هي بسبب كون الكلام تقريرا نهائيا بسوء مصير الكافرين، لا مجرد خبر وحكاية. وذلك مثل آية: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (٢٤) [الفرقان: ٢٥/ ٢٤]. لأن المقرّر قد يقرر خصمه على قسمين: أحدهما بيّن الفساد، حتى يرى جوابه، فإذا اختار طريق الفساد، بان جهله وغباؤه.
وتابع القرآن التهديد وتأكيد الجزاء، بقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ أي إن الذين كفروا بالقرآن الكريم ذي الذكر العالي والشرف الرفيع، لما جاءهم، نجازيهم على كفرهم، والحال أن القرآن متصف بصفات ثلاث: أولها: أنه كتاب عزيز عن المعارضة أو الطعن، منيع عن كل عيب من أي بشر، وثانيهما أنه لا يتمكن أحد من إبطاله وتحريفه، وليس لأحد أن يبطله من جميع جوانبه، لا في اللفظ ولا في المعنى، ولا في الحكم والأسلوب، ولا في الغرض أو القصة، فلا يكذبه كتاب سابق قبله، ولا فكر أو نظر لاحق بعده، محفوظ من النقص والزيادة، كما في آية أخرى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) [الحجر: ١٥/ ٩].
وثالث الصفات: أنه تنزيل من إله حكيم في قوله وفعله، محمود في جميع أوامره ونواهيه، مشكور على نعمه وأفضاله، فكيف يأتيه الباطل بأي صورة أو باب؟! ثم أبان الله لرسوله وحدة الرسالات، وأنها تهدف إلى التوحيد الخالص، وإثبات الآخرة، وتقرير مبدأ الثواب والعقاب، مبينا أن ما يقال لك أيها الرسول من هؤلاء الكفار المشركين من وصفك بالسحر والجنون والكذب، وما ينالك من مكروه، ما هو إلا كأقوال الجاحدين لأنبيائهم ورسلهم، الذين تقدموك، فإن أقوامهم كانوا يقولون
القرآن العربي شفاء وهدى
أكد الله تعالى على أن القرآن الكريم كله عربي اللسان، فصيح البيان، ليس مختلطا بين العربية والأعجمية، ليؤدي مهمته على أكمل وجه، فهو هداية للحيارى، وشفاء لما في الصدور، مما قد يكون فيها من وساوس وشبهات وضلالات، وليس محلا للخلاف أو الاختلاف، وهكذا شأن جميع الكتب السماوية، فهذا كتاب موسى- التوراة نزل وحدة متناسقة، ومع ذلك وقع الاختلاف فيه وفي القرآن، من قبل المكذبين بهما وهم اليهود وغير المؤمنين، ولكن وبال التكذيب على أصحابه، والإنسان ولي نفسه، فمن آمن وعمل صالح الأعمال حقق الفوز والنجاة لنفسه، ومن أساء الاعتقاد والعمل، أتى بالضرر على نفسه، وليس الله تعالى بظلام لأحد، وهذا ما أبانته الآيات القرآنية الآتية:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٤ الى ٤٦]
وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)
«١» «٢»
(٢) أي معمى، وهذا أيضا مجاز، فإنهم لما لم يفهموا القرآن، لتعاميهم عن آياته، جعلوا كالعميان.
هذه الآية الكريمة نزلت بسبب تخليط قريش في أقوالهم، من أجل الحروف المعرّبة في القرآن من كلام العجم، كالسّجين والإستبرق ونحوه، فقال الله عز وجل: ولو جعلنا هذا القرآن أعجميا (أي كلاما لا يبين ولا يفهم ولا يفهم ولا يفصح) لقالوا واعترضوا: لولا بيّنت آياته بلغتنا حتى نفهمها.
وهذا غير صحيح، فهل يصح أن يكون هذا القرآن العربي بعضه عربيا، وبعضه أعجميا؟ هذا لا يحسن، وإنما المقصود الدلالة على أن مشركي قريش قوم متعنتون، محاربون للقرآن، بأي لغة أو صفة كان عليها. والواقع أن جميع ما في القرآن عربي، إذا أرادوا الفهم والإفادة منه، ولو نزل بلغة أعجمية لأنكروا ذلك، وغاية القرآن:
أن تقول أيها الرسول لقومك المشركين: إنه هداية من الظلمات إلى النور لقلب من آمن به، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والرّيب، كما جاء في آية أخرى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: ١٧/ ٨٢].
وبعبارة أخرى: أمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم: إن هذا القرآن هدى وشفاء للمؤمنين المبصرين للحقائق، وإنه عمى على الذين لا يصدقون بالله ورسوله، ولا يقلّبون أنظارهم في مصنوعات الخالق، أي إنه معمّى عليهم، فعلى أعينهم غشاوة، وفي آذانهم صمم أو ثقل في السمع، وعلى قلوبهم أقفال، وهذا من قبيل المجاز المراد به أنهم لا يفهمون ما في القرآن، كالعميان والطرشان، ولا يهتدون إلى ما فيه من البيان ولا يبصرون ما اشتمل عليه من البراهين والمواعظ، لتعطيلهم سبل المعرفة والإدراك.
ثم أكد الله تعالى على عدم استعدادهم لفهم القرآن، فإن حالهم كحال من ينادى
وهذا شأن مستمر بين الأمم المكذبة، فلا تستغرب أيها الرسول موقف قومك، فتلك عادة قديمة للأمم مع الرسل، فإنهم يختلفون في الكتب المنزلة عليهم، كما حدث من بني إسرائيل، فلقد أرسل الله موسى عليه السّلام وآتاه التوراة، فاختلفوا في كتابهم بين مصدّق ومكذّب، وشأنك أيها الرسول مع قريش، كشأن موسى مع بني إسرائيل، حين جاءهم بالتوراة، ولقد أخّر الله العذاب على الفريقين، ولولا الكلمة السابقة (وهي أن الله حتّم تأخير عذابهم إلى يوم القيامة) لقضي بينهم، أي لعجّل لهم العذاب، كما فعل بالأمم المكذبة السابقة، وسبب الهلاك قائم فيهم، فإن كفار قريش لفي شك من القرآن، موقع في الريبة والقلق، ولم يكن تكذيبهم للقرآن ناجما عن تبصر وتأمل، بل كانوا شاكّين فيه وفيما قالوا، غير متحققين لشيء كانوا فيه.
وقانون الجزاء الإلهي واضح، فمن عمل صالح الأعمال بأداء الفرائض واجتناب المعاصي، فإنما ينفع نفسه، ويجازى بخير عمله، ومن أساء فعصى الله تعالى، فإنما يرجع وبال ذلك عليه، ويعاقب بسوء عمله، والجزاء للفريقين قائم على أساس من الحق والعدل المطلق، فلا ينقص المحسن شيئا من ثوابه، ولا يعاقب أحد إلا بذنبه أو معصيته.
العلم بالساعة وطبيعة الإنسان
هناك أمر خطير جدا، مرتقب لا شك فيه: وهو يوم القيامة، ولكن حكمة الله تعالى اقتضت تجهيله، فلا يعلم به أحد من المخلوقات، واختص الله تعالى وحده بعلم الساعة، كما اختص بالعلم بالأحداث المستقبلة، ليظل الإنسان رقيبا على نفسه،
وفي حال النعمة والترف يبتعد عن الله تعالى الذي أمده بالنعم، ويهمل شكر ربه المنعم، ويزعم أن له المكان الحسن عند الله في الآخرة، وإذا أصابه الشر، أقبل على الدعاء، والتضرع لله سبحانه، وإذا تعرض لخير نسي الله ونأى عنه، فهو دائم الطمع، كثير التبدل والتغير، لا يستقر على حال، ولا يثبت على مبدأ، ولا وفاء عنده لمعروف، قال الله تعالى مبينا ذلك كله:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ الى ٥١]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [فصلت: ٤١/ ٤٧- ٥١].
المعنى: إن علم وقت القيامة ومجيئها، يردّه كل مؤمن متكلّم فيه إلى الله عز وجل، لذا كان جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم لجبريل عليه السّلام،
في الحديث الصحيح المتفق عليه، عن عمر رضي الله عنه: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل».
وفي حديث آخر ثابت: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة..) ».
الحديث، وهو وارد في آية: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ [لقمان: ٣١/ ٣٤].
(٢) أخبرناك وأعلمناك.
(٣) ليس منا أحد يشهد أو شهد بأن لله شريكا.
(٤) أي من مهرب من العذاب.
(٥) أي شديد صعب.
(٦) أي طويل.
ثم رد الله تعالى على المشركين لإبطال شركهم، فاذكر أيها الرسول يوم ينادي الله تعالى المشركين، في يوم القيامة، قائلا على سبيل التوبيخ والتهكم والتحدي: أين شركائي الذين كنتم تزعمون من الأصنام وغيرها، فادعوهم الآن للشفاعة بكم أو دفع العذاب عنكم؟ فيجيب هؤلاء المعبودون بغير حق: لقد أخبرناك وأعلمناك أن ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك يا رب شريكا، ونحن لا نشاهدهم أمامنا، بل ضلوا واختفوا عنا، وذهبت تلك المعبودات من الأصنام وغيرها محتجبة في آفاق الغيبة عن العيون، وقد كانوا يعبدونهم في الدنيا، وتيقنوا الآن ألا مهرب لهم ولا ملجأ من عذاب الله. وهذا وعيد وتهديد. وقد استعمل الظن هنا مكان اليقين: وهو كل موضع علم علما قويا وتقرر في النفس ولم يلتبس بشيء.
ثم نزلت الآيات الآتية في بعض كفار مكة، كالوليد بن المغيرة أو عتبة بن ربيعة، ومضمونها: أن أولها يتضمن خلقا «١» ربما شارك فيها بعض المؤمنين: وهو أنه لا يمل الإنسان من طلب الخير من ربه، كالمال والصحة والرفعة ونحوها، وإن أصابه الشر من بلاء وشدة، أو فقر أو مرض، كان شديد اليأس والقنوط من رحمة الله، وهذه الصفة الأخيرة (اليأس) من صفة الكافر وحده، والصفة الأولى (طلب الخير في الدنيا) صفة مشتركة، فأما خير الآخرة فهو للمؤمنين.
والصفة الثالثة: هي أنني إن أعدت إلى ربي- على سبيل الافتراض- فليحسنن إليّ ربي كما أحسن لي في هذه الدنيا، والحسنى: الكرامة والجنة، فأجيب بمفاجأة نقيض ظنه: لنخبرن هؤلاء الكفار يوم القيامة بما عملوا من المعاصي، ولنجازينهم بعذاب شديد صعب. والعيش بالأمل أو الأماني مذموم لكل أحد تارك الطاعة،
جاء في الحديث «١» :«الكيّس: من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز: من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني».
ثم ذكر الله تعالى خلقا ذميما للإنسان جملة، وهو واضح في الكفار وهي أن الله تعالى إذا أنعم على الإنسان، أعرض عن الشكر والطاعة، واستكبر عن الانقياد لأوامر الله تعالى، وإذا تبدل الحال، وأصيب بشر، من بلاء وجهد، أو فقر أو مرض، أطال الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وهذا خلق ذميم يدل على العمل الانتهازي أو المصلحي المحض. وأما المؤمن في الغالب فإنه يشكر عند النعمة، ويصبر عند الشدة.
إذا استبد الكفر والعناد ببعض الناس، لم يبق إلا أن يقهر على المعرفة، ويتحدى بالمحسوسات المشاهدة الدالة على الحق، والتي تستأصل كل ريب أو شك في النفس إذا استجاب لهذا الإقناع، ولذا حمل القرآن الكريم على المشركين الذين أغلقوا على أنفسهم نافذة الوصول إلى الحق والخير والهداية، فاستحقوا التهديد والوعيد، وكشف الله باطلهم، وأبان حقيقة أمرهم، وهي أنهم قوم يشكون في الآخرة، وما فيها من ثواب وعقاب وحساب عسير. وهذا ما أوضحته الآيات الآتية:
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)
«١» «٢» «٣» [فصلت: ٤١/ ٥٢- ٥٤].
أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسّلام أن يقف قريشا على هذه الحجة الدامغة، الصادرة من أنفسهم، فقل أيها الرسول: أرأيتم أي أخبروني إن كان هذا الشرع من عند الله وبأمره، ثم خالفتموه أنتم، ألستم على هلكة من الله تعالى؟ فلا أحد أضل ممن يبقى على هذه الحال من الغرور من الله، ومجافاة الحق، والوقوف في جانب المخالفة والمشاقّة، والمعاداة البعيدة المدى. وإن كان هذا القرآن من عند الله حقا، ثم كذبتم به، ولم تقبلوه، أفلا تكونون أعداء للحق والصواب؟ بل في الواقع لا أحد أضل منكم لشدة عداوتكم، وإمعانكم في الكفر والعناد، ومعاداة الحق وأهله.
فيكون الضمير في قوله تعالى أَنَّهُ الْحَقُّ عائدا على الشرع والقرآن.
(٢) أي شاهد على ما يفعله الناس وغيرهم. [.....]
(٣) أي في شك خطير.
وللمفسرين ثلاثة اتجاهات في إراءة آيات الله تعالى في الآفاق، فقال المنهال بن عمرو، والسّدّي وجماعة: هو وعد بما يفتحه الله تعالى على رسوله من الأقطار حول مكة، وفي غير ذلك من الأرض كخيبر ونحوها. ويكون قوله وَفِي أَنْفُسِهِمْ أراد به فتح مكة. قال ابن عطية: هذا التأويل أرجح التأويلات.
وقال قتادة والضحاك سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ: هو ما أصاب الأمم المكذبة في أقطار الأرض. ويكون قوله وَفِي أَنْفُسِهِمْ يوم بدر.
وقال ابن زيد وعطاء: الآفاق: آفاق السماء، وأراد به الآيات في الشمس والقمر والرياح وغير ذلك. وقوله تعالى: وَفِي أَنْفُسِهِمْ: يراد به اعتبار الإنسان بجسمه وحواسّه، وغريب خلقته، ومراحل تكوينه في البطن ونحو ذلك.
وهذا المعنى الثالث: هو الظاهر لعمومه وانسجامه مع سياق الآيات، فيراد من إراءة الله تعالى آياته في الآفاق: إقناعهم بقدرته وعظمته، وإلزامهم بالحجة المحسوسة الملجمة لهم، ليتبين الحق، ويظهر لهم أن القرآن هو الحق القاطع. وقد أيدت وصدقت القرآن وإشاراته تلك النظريات العلمية الصحيحة في المطر والسحاب، وغزو الفضاء، واكتشاف الكواكب وخزائن الأرض، وعجائب خلق الأجنة في الإناث، وغير ذلك وغير ذلك من الآيات الدالة على كمال القدرة الإلهية، وتمام الحكمة، وعجائب مصنوعات الله، حتى يظهر أن دين الحق هو ما اشتمل عليه كتاب الحق:
وهو القرآن العظيم.
ثم كشف الله تعالى سبب عناد المشركين: وهو أنهم في الواقع في شك خطير من أمر البعث والحساب، والثواب والعقاب، ولا قيمة لهذا الموقف المعادي، فإن الله تعالى أنذر وبشّر، وأبلغ وأقنع، وأحاط علمه بجميع المعلومات، وشملت قدرته جميع المقدورات، والمخلوقات كلها تحت قدرته وفي قبضته، والأحداث جميعها في تصرفه وعلمه وتدبيره، فبإظهار الله تعالى شرعه ودينه في كل مكان، وفتح البلاد للنبي عليه الصلاة والسّلام، يتبين لهم أنه الحق، وتوّج كل هذا بوعد الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسّلام أنه كافيه وناصره ومدبر أموره كلها، وفي هذا الوعد بإحاطة الله لكل شيء: وعيد للكفار أيضا. وإحاطته تعالى: هي بالقدرة والسلطان، وقد تحقق الوعد والوعيد مع مرور الزمان.