ﰡ
القيامة وقدرة الله عليها وتهديد منكريها
تكرّر في القرآن الكريم إيراد الأدلّة والبراهين القاطعة على وقوع القيامة حتما، ومنها قسم الله بذاته كما في سورة التّغابن: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [الآية: ٧]، ومنها قسم الله بالقيامة نفسها كما في مطلع سورة القيامة: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (١) [القيامة: ٧٥/ ١].
ومنها القسم الإلهي بالرّياح الهادرة المتتابعة، أو بالرّسل إلى الناس من الأنبياء عليهم السّلام، أو بالملائكة المرسلة، كما في مطلع سورة المرسلات المكّية، في قول جمهور المفسّرين:
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ١ الى ٢٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (٧) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (٨) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (٩)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (١٠) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (١١) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (١٢) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (١٣) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (١٤)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٥) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (١٦) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (١٧) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٩)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (٢٠) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (٢١) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢٢) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (٢٣) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٤)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً (٢٦) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (٢٧) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» «١١»
(٢) الرّياح الشديدة.
(٣) الرّياح التي تنشر المطر.
(٤) الملائكة التي تنزل بالوحي إلى الأنبياء والرّسل.
(٥) الملائكة الملقيات الذّكر من الوحي. [.....]
(٦) إعذار من الله للعباد، وإنذار بالعذاب.
(٧) ذهب ضوؤها.
(٨) تشققت.
(٩) تفرّقت أجزاؤها.
(١٠) بلغت الوقت المحدّد لها.
(١١) يوم القيامة.
يقول الله تعالى: أقسم بالرّسل المرسلين إلى الأنبياء والرّسل جماعات، إفضالا على العباد بالبعثة، أو بالرّياح المتتابعة التي هي نعم، بها الأرزاق والنجاة في البحر، وبالرياح التي ترسل عاصفة لما أمرت به من نعمة أو نقمة، وبالرياح التي تنشر السحاب وتفرّقه في آفاق السماء، كما يشاء الله تعالى.
وأقسم بالملائكة الذين ينزلون بأمر الله على الرّسل بما يفرّق بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والحلال والحرام، والذين يلقون الوحي إلى الأنبياء والرّسل، إعذارا من الله تعالى إلى خلقه، وإنذارا من عذابه إن خالفوا أمره.
إن ما وعدتم به من مجيء الساعة ونفخ الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، وجزاء كل إنسان بما عمل خيرا أو شرّا، إن هذا كله لواقع حتما.
وعلامات وقوعه: إذا ذهب ضوء النجوم، وتشققت السماء وتصدعت، وقلعت الجبال من أماكنها، وصارت في الأجواء هباء منبثا.
وإذا الرّسل جمعت وجعل لها وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، ويقال لتعجيب العباد من الهول: لأي يوم عظيم أخّرت الأمور المتعلّقة بهؤلاء الرّسل؟
وهي تعذيب من كذّبهم، وتعظيم من صدّقهم. والجواب من الله تعالى: بأنهم أجّلوا
(٢) مستقر حصين وهو الرّحم.
(٣) زمان معين.
(٤) هيّأنا وأحكمنا.
(٥) جمعا وضما.
(٦) جبالا ثوابت عاليات.
(٧) عذبا.
وتهديد آخر من سيرة الماضين: ألم نهلك الكفار المكذّبين للرّسل المخالفين لما جاؤوا به من الأمم الماضية، من لدن آدم عليه السّلام، كقوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، إلى زمن محمد صلّى الله عليه وسلّم، بتعذيبهم في الدنيا، ثم نتبعهم بأمثالهم ونظرائهم، وهم كفار مكة حين كذبوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم، أهلكهم الله يوم بدر وغيره من المعارك. وهذا وعيد شديد لكل من كفر بالله تعالى.
وتلك سنّة الله لا تبديل لها، فإن سنّتنا في جميع الكفار واحدة، فمثل ذلك الإهلاك للمكذّبين بكتب الله ورسله، الذين أجرموا في حقّ أنفسهم، نفعل بكل من أجرم وأشرك مع الله إلها آخر. والهلاك الشديد يومئذ للمكذّبين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وقوله: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (١٨) أي في المستقبل، قريش وسائر الكفار.
ثم ذكر الله تعالى بعض مظاهر القدرة الإلهية على الناس، ومنها: ألا ترون وتدركون أننا نحن خلقناكم من ماء ضعيف حقير، وهو المني، وجعلناه مجموعا في مستقر مكين، أي حرز حصين، وهو الرّحم، ثم أبقيناه في الرّحم مدة معينة هي مدة الحمل من ستة إلى تسعة أشهر.
نحن الذين مارسنا قدرتنا على الخلق وتقديرنا في تكوين الأعضاء والصفات،
ثم عدّد الله تعالى نعمه الثلاث في الآفاق بعد نعمة تكوين الأنفس وهي: ألم نجعل الأرض ضامّة للأحياء على ظهرها في منازلهم، والأموات في بطنها تضمّهم وتجمعهم؟ وجعلنا في الأرض جبالا ثوابت عاليات، لئلا تميد وتضطرب بكم، وأسقيناكم من ينابيعها، أو من السّحاب ماء عذبا صافيا. وهذا كله أعجب من البعث.
ويل، أي عذاب وهلاك شديد في الآخرة، لمن كذب أو كفر بهذه النّعم، وويل لمن تأمل في هذه المخلوقات الدالّة على عظمة الله تعالى خالقها، وعلى قدرته الفائقة، ثم استمرّ على تكذيبه وكفره.
ألوان التهديد والعذاب، وأصناف النعيم
وصف الله تعالى ألوان عذاب الكفار وصفا تقشعر منه الأبدان، وتشيب منه الغلمان، فهو يشتمل على عشرة أنواع من التهديد والتخويف، أربعة منها في آيات سابقة من سورة المرسلات، وهي: القسم الإلهي على العذاب، والتهديد بعذاب مماثل للأمم الغابرة، واللوم على كفران النعم في الأنفس، وكفران النعم في الآفاق، وستة منها في الآيات الآتية: وهي أولا قول الملائكة للكفار: انطلقوا لعذاب الآخرة، وله أوصاف أربعة: ألسنة النار وأدخنتها ذات شعب ثلاث، ولا ظل من الحر، ولا يفيد شيئا في رد الحر، وشرر النار كالقصر، وثانيا بطلان الحجة
[سورة المرسلات (٧٧) : الآيات ٢٩ الى ٥٠]
انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٩) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٤) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٣٧) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨)
فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٠) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (٥٠)
«١» «٢» «٣» [المرسلات: ٧٧/ ٢٩- ٥٠].
هذه تهديدات متوالية للكفار، يقال لهم من خزنة جهنم: انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون من عذاب الآخرة. ذلك العذاب سيروا فيه إلى ظل من دخان جهنم، متشعب ثلاث شعب، فإن لهب النار إذا ارتفع وتصاعد دخانه، تشعب إلى ثلاث شعب من شدته وقوته، وليس للنار ظل يمنع الحر ولا البرد، ولا يرد الحر ولا يفيد شيئا في تخفيف العذاب. واللهب: ما يعلو على النار بعد اشتعالها. وشرر هذه النار متفرق، كل شرارة ترمي بها هي كالقصر (البناء العظيم) في العظم والارتفاع، وكالإبل الصفر في اللون والكثرة والتتابع وسرعة الحركة. وهلاك وعذاب وخزي يومئذ في القيامة للمكذبين رسل الله وآياته. ولا عذر ولا حجة لأولئك المعذّبين فيما ارتكبوا من قبائح ومنكرات، فهم لا يتكلمون في ذلك اليوم، لهول ما يرون، وللحيرة والدهشة التي تعتريهم، ولا يأذن الله لهم بالكلام، فيكون لهم اعتذار، لقيام
(٢) مكر أو حيلة.
(٣) جمع ظل.
وعذاب القيامة للمكذبين بسب ما أنذرتهم الرسل من العذاب في الدنيا، إن استمروا على الكفر، ومعاداة الرسل. وهذا لون من التعذيب الأدبي.
ويقال لهم من الله أو من ملائكته: هذا يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الخلائق، ويتميز فيه الحق من الباطل، جمعناكم بقدرتنا معشر كفار قريش وأمثالكم على ممر الدهر. و (الأولون) المشار إليهم: قوم نوح وغيرهم، ممن جاء في صدر الدنيا، وعلى وجه الدهر. فإن قدرتم أيها الكفار على مكر أو حيلة أو مكيدة لتتخلصوا من العذاب وتنجيكم، فافعلوها، فإنكم لا تقدرون على ذلك. وهذا نهاية التقريع والتوبيخ، وهو تعذيب روحي. وعذاب يوم القيامة متحقق لكل مكذب بالبعث، لظهور العجز وفقد الأمل بالنجاة.
وأما المتقون في الآخرة: فهم في جنات وظلال وارفة تحت الأشجار والقصور، وتحيط بهم الأنهار والينابيع من كل مكان، ولديهم أنواع من الفاكهة والثمار، بحسب ما تطلبه نفوسهم، وتستدعيه شهواتهم.
ويقال لهم في الآخرة على سبيل الإحسان إليهم والتكريم: كلوا أيها المتقون من طيبات الجنة وفاكهتها، واشربوا شربا هنيئا، بسبب ما عملتم في الدنيا، من العمل الصالح. وهذا أمر تكريم، لا أمر تكليف.
هذا جزاؤنا لمن أحسن العمل، ومثل ذلك الجزاء العظيم لهؤلاء المتقين، نجزي المحسنين في أعمالهم، فلا نضيع لهم أجرا، وعذاب وخزي يوم القيامة للمكذبين بالله ورسله، وبما أخبر الله من تكريم هؤلاء المتقين في الآخرة، حيث صاروا في شقاء عظيم، وصار المؤمنون في نعيم مقيم.
وإذا أمروا بالصلاة لا يصلون، فهم يستكبرون عن طاعة الله تعالى، وهذا ذم على ترك الخشوع والتواضع لله، بقبول وحيه وأمره وتكليفه. وهلاك يوم القيامة ثابت للمكذبين بأوامر الله تعالى ونواهيه.
ومما يدعو للتعجب من صنيع الكفار: أنه إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن، وما اشتمل عليه من أدلة وجود الله وتوحيده وصدق نبيه صلّى الله عليه وسلّم، فبأي كلام بعده يصدقون؟ ففي القرآن كل ما يرشد إلى الخير وسعادة الدارين، وهو الكتاب الكامل الذي جميع فأوعى.
أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة، كان إذا قرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فقرأ: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ؟ قال: فليقل: آمنت بالله وبما أنزل.
ألا إن الضالين الكافرين لا ينتفعون بمواعظ القرآن وحكمه البالغة، ولا يهتدون بنوره، وأما المتقون فهم المتدبرون لكلام القرآن، الملتزمون بهديه ونوره.