لما ختمت سورة الإنسان بالوعد لأوليائه والوعيد لأعدائه، وكان
164
الكفار يكذبون بذلك، افتتح هذه بالإقسام على أن ذلك كائن فقال:
﴿والمرسلات﴾ أي من الرياح والملائكة
﴿عرفاً *﴾ أي لأجل إلقاء المعروف من القرآن والسنة وغير ذلك من الإحسان، ومن إلقاء الروح والبركة وتيسير الأمور في الأقوات وغيرها، أو حال كونها متتابعة متكاثرة بعضها في أثر بعض، من قول العرب: الناس إلى فلان عرف واحد - إذا توجهوا إليه فأكثروا، ويقال: جاؤوا عرفاً واحداً، وهم عليه كعرف الضبع - إذا تألبوا عليه.
ولما كان العصوف للعواصف يتعقب الهبوب، عطف بالفاء تعقيباً وتسبيباً فقال:
﴿فالعاصفات﴾ أي الشديدات من الرياح عقب هبوبها ومن الملائكة عقب شقها للهواء بما لها من كبر الأجسام والقوة على الإسراع التام
﴿عصفاً *﴾ أي عظيماً بما لها من النتائج الصالحة.
ولما كان نشر الرياح للسحاب متراخياً عن هبوبها ومتباطئاً في الثوران وكذا نشر الملائكة لأجنحتها كما يفعل الطائر القوي في طيرانه، عطف بالواو الصالحة للمعية والتعقب بمهلة وغيرها قوله:
﴿والناشرات﴾ أي للسحاب والأجنحة على وجه اللين في الجو وللشرائع التي تنشر العدل بين الناس
﴿نشراً *﴾ وإذا راجعت أول الذاريات ازددت في هذا بصيرة.
165
ولما كان السحاب يجتمع بعد الثوران من مجال البخارات ويتكاثف ثم يحمل الماء، وكان ذلك - مع كونه معروفاً - قد تقدم في الذاريات والروم وغيرهما ثم بعد الحمل تضغط السحاب حتى يتحامل بعضه على بعض فتنفرق هناك فُرَج يخرج منها، طوى ذلك وذكر هذا فقال بالفاء الفصيحة:
﴿فالفارقات فرقاً *﴾ أي للسحاب حتى يخرج الودق من خلاله وللأجنحة وبين الحق والباطل والحب والنوى - وغير ذلك من الأشياء.
ولما كانت السحاب عقب الفرق ينزل منها ما في ذلك السحاب من ماء أو ثلج أو برد أو صواعق أو غير ذلك مما يريده الله مما يبعث على ذكر الله ولا بد والملائكة تلقي ما معها من الروح المحيي للقلوب، قال معبراً بفاء التعقيب والتسبيب:
﴿فالملقيات ذكراً *﴾ أطلق عليه الذكر لأنه سببه إن كان محمول السحاب أو محمول الملائكة، وقد يكون محمول الملائكة ذكر الله حقيقة، ولا يخفى أنهما سبب لإصلاح الدين والدنيا.
ولما ذكر هذه الأقسام عللها بقوله:
﴿عذراً أو نذراً *﴾ وهما منصوبان على الحال جمعان لعذر بمعنى المعذرة أو العاذر، والنذير بمعنى الإنذار أو المنذر، أي كانت هذه منقسمة إلى عذر إن كانت ألقت
166
مطراً نافعاً مريئاً مريعاً غير ضار كان بعد قحط فإنه يكون كأنه اعتذار عن تلك الشدة، وإن كانت الملائكة ألقت بشائر فهي واضحة في العذر لا سيما إن كانت بعد إنذار، وإلى نذر إن كانت ألقت صواعق أو ما هو في معناها من البرد الكبار ونحوها، وكذا الملائكة، والكل سبب لذكر الله هو سبب لاعتذار ناس بالتوبة، وسبب لعذاب الذين يغفلون عن الشكر، ويستقبلون ذلك بالمعاصي أو ينسبون ذلك إلى الأنواء.
ولما تمت هذه الأقسام مشتملة على أمور عظام منبهة على أن أسبابها من الرياح والمياه كانت مع الناس وهم لا يشعرون بها كما أنه يجوز أن تكون القيامة كذلك سواء بسواء، قال ذاكراً للمقسم عليه مؤكداً لأجل إنكارهم:
﴿إنما﴾ أي الذي
﴿توعدون﴾ أي من العذاب في الدنيا والآخرة، ومن قيام الساعة ومن البشائر لأهل الطاعة، وبناه للمفعول لأنه المرهوب لا كونه من معين مع أنه معروف أنه مما توعد به الله على لسان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿لواقع *﴾ أي كائن لا بد من وقوعه وأسبابه عتيدة عندكم وإن كنتم لا ترونها كما في هذه الأشياء التي أقسم بها وما تأثر عنها.
167
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: أقسم تعالى بالملائكة المتتابعين في الإرسال، والرياح المسخرة، وولايته بالمطر والملائكة الفارقة بمائة بين الحق والباطل، والملقيات الذكر بالوحي إلى الأنبياء إعذاراً من الله وإنذاراً، أقسم تعالى بما ذكر من مخلوقاته على صدق الموعود به في قوله:
﴿إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً﴾ [الإنسان: ٤] الآيات وقوله:
﴿إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً﴾ [الإنسان: ١٠] وقوله:
﴿وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً﴾ [الإنسان: ١٢] الآيات إلى
﴿وكان سعيكم مشكوراً﴾ [الإنسان: ٢٢] وقوله:
﴿ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً﴾ [الإنسان: ٢٧] وقوله:
﴿يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً﴾ [الإنسان: ٣١] ولو لم يتقدم إلا هذا الوعد والوعيد المختتم به السورة لطابقه افتتاح الأخرى قسماً عليه أشد المطابقة، فكيف وسورة
﴿هل أتى على الإنسان﴾ [الإنسان: ١] مواعد أخراوية وإخبارات جزائية، فأقسم سبحانه وتعالى على صحة الوقوع، وهو المتعالي الحق وكلامه الصدق - انتهى.
ولما كان من المعلوم أنهم يقولون استهزاء: متى هو؟ وكان وقته مما استأثر الله بعلمه لأن إخفاءه عن كل أحد أوقع في النفوس وأهيب عند القعول، سبب عن ذلك قوله ذاكراً ما لا تحتمله العقول لتزداد الهيبة ويتعاظم الخوف معبراً بأدة التحقق:
﴿فإذا النجوم﴾
168
أي على كثرتها
﴿طمست *﴾ أي أذهب ضوءها بأيسر أمر فاستوت مع بقية السماء، فدل طمسها على أن لفاعله غاية القدرة، وأعاد الظرف تأكيداً للمعنى زيادة في التخويف فقال:
﴿وإذا السماء﴾ أي على عظمتها
﴿فرجت *﴾ أي انشقت فخربت السقوف وما بها من القناديل بأسهل أمر
﴿وإذا الجبال﴾ أي على صلابتها
﴿نسفت *﴾ أي ذهب بها كلها بسرعة ففرقتها الرياح، فكانت هباء منبثاً فلم يبق لها أثر، وذلك كما ينسف الحب، فزال ثبات الأرض بالأسباب التي هي الرواسي، لأن تلك الدار ليست بدار أسباب.
ولما ذكر تغيير السماء والأرض، ذكر ما فعل ذلك لأجله فقال:
﴿وإذا الرسل﴾ أي الذي أنذروا الناس ذلك اليوم فكذبوهم
﴿أقتت *﴾ أي بلّغها الذي لا قدير سواه بأيسر أمر ميقاتَها الذي كانت تنتظره، وهو وقت قطع الأسباب وإيقاع الرحمة والثواب للأحباب والنقمة والعقاب للأعداء بشهادتهم بعد جمعهم على الأمم بما كان منهم من الجواب، وحذف العامل في
«إذا» تهويلاً له لتذهب النفس فيه كل مذهب، فيمكن أن يكون تقديره: وقع ما توعدون فرأيتم من هذا الوعيد ما لا يحتمل ولا يثبت لوصفه العقول، وعلى ذلك دل قوله ملقناً لما ينبغي
169
أن يقال: وهو
﴿لأيّ يوم﴾ أي عظيم
﴿أجلت *﴾ أي وقع تأجيلها به، بناه للمفعول لأن المقصود تحقيق الأجل لا كونه من معين، وتنبيهاً على أن المعين له معلوم أنه الله الذي لا يقدر عليه سواه، ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله مبدلاً من
«لأي يوم» :
﴿ليوم الفصل *﴾ أي الذي إذا أطلق ذلك لم ينصرف إلا إليه لأنه لا يترك فيه شيئاً إلا وقع الفصل فيه بين جميع الخلق من كل جليل وحقير، ثم هوله وعظمه بقوله:
﴿وما أدراك﴾ أي وأي شيء أعلمك وإن اجتهدت في التعرف، ثم زاده تهويلاً بقوله:
﴿ما يوم الفصل *﴾ أي إنه أمر يستحق أن يسأل عنه ويعظم، وكل ما عظم بشيء فهو أعظم منه، ولا يقدر أحد من الخلق على الوصول إلى علمه لأنه لا مثل له يقال عليه.
ولما هول أمره ذكر ما يقع فيه من الشدة على وجه الإجمال فقال:
﴿ويل﴾ أي هلاك عظيم جداً
﴿يومئذ﴾ أي إذ يكون يوم الفصل
﴿للمكذبين *﴾ أي بالمرسلات التي أخبرت بذلك اليوم وغيره من أمر الله، والويل في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله، عدل به إلى الرفع للدلالة على ثبات معناه، وقد كررت هذه الجملة بعدة المقسم به وما ذكر هنا مما يكون في يوم الفصل من الطمس وما بعده وهو تسعة
170
أشياء، وزادت واحدة فتكون كل جملة بواحدة من المذكورات، والعاشر للتأكيد دلالة على أن لهم من الويل ما لا ينتهي كما أن الواحد لا ينتهي على أنها لو كانت كلها لتأكيد الأول لكان ذلك حسناً، فإن من كذبك في أشياء كان من البلاغة أن تقرره بواحدة منها ثم تقول له عند قيام الدليل
«ويل لك» ثم تفعل فيما بعده كله كذلك وتعيد عليه ذلك القول بعينه تأكيداً له وتحقيقاً لوقوع معناه دلالة على أن الغيظ قد بلغ منتهاه والفجور وانقطاع العذر لم يدع موضعاً للتنصل منه والبعد عنه، وذلك في كلام العرب شائع معروف سائغ.
ولما أقسم على وقوع الوعد والوعيد مطلقاً أعم من أن يكون في الدنيا أو في الآخرة لأنه قادر على كل ما يريد بأقسام دلت على القدرة عليه دلالة جلية، أتبعه دلالة أجلى منها بما يشاهد من خراب العالم النفسي فقال منكراً على من يكذب به تكذيبهم مع ما كان منه سبحانه إلى من كذب الرسل ومن آمن بهم:
﴿ألم نهلك﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿الأولين *﴾ أي إهلاك عذاب وغضب بتكذيبهم الرسل عليهم الصلاة والسلام كقوم نوح ومن بعدهم أمة بعد أمة وقرناً بعد قرن، لم ندع منهم أحداً.
ولما كان إهلاك من في زمن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن
171
لم ينقص عن إهلاك الأولين لم يزد، وكان جواب هذا التقدير: بلى قد أهلكتهم، قال عاطفاً على هذا الذي أرشد السياق إليه إرشاداً ظاهراً جعله كالمنطوق ما تقديره: نعم أهلكناهم
﴿ثم﴾ أي بعد إهلاكنا لهم. ولما كان الفعل مرفوعاً، علمنا أنه ليس معطوفاً على
«تهلك» ليكون تقديراً، بل هو إخبار للتهديد تقديره: نحن إن شئنا
﴿نتبعهم الآخرين *﴾ أي الذين في زمانك من كفار العرب وغيرهم لتكذيبهم لك أو الذين قربوا من ذلك الزمان كأصحاب الرس وأصحاب الفيل.
ولما هدد من واجه الرسل بالتكذيب تسلية لهم، سلى من قطعوه من أتباعهم مما يجب وصله بهم من المعروف فقال مستأنفاً منبهاً على الوصف الموجب لذلك الإهلاك:
﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك الإهلاك
﴿نفعل بالمجرمين *﴾ أي جميع الذين يفعلون فعل أولئك الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وهم عريقون في ذلك القطع، وذلك مثبت لنا القدرة على جمعهم ليوم الفصل كما قدرنا على جمعهم لوقت الإجرام وعلى فصلنا في الإهلاك والإنجاء بين مكذبي الأمم ومصدقيهم فلا بد من إيجادنا ليوم الفصل:
﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ يوجد
﴿للمكذبين *﴾ أي بالعاصفات التي أهلكنا بها تلك الأمم تارة بواسطة القلب وإمطار الحجارة وأخرى بواسطة الماء وتارة بالرجفة وتارة بغير واسطة.
172
ولما ذكر الإهلاك على ذلك الوجه الدال على القدرة التامة على البعث وعلى ما يوعد به بعد البعث، أتبعه الدلالة بابتداء الخلق وهو أدل فقال مقرراً ومنكراً على من يخالف علمه بذلك عمله:
﴿ألم نخلقكم﴾ أي أيها المكذبون بما لنا من العظمة التي لا تعشرها عظمة
﴿من ماء مهين *﴾ أي نطفة مذرة ذليلة، وهو من مهن بالفتح، قال في القاموس: والمهين: الحقير الضعيف والقليل
﴿فجعلناه﴾ أي بما لنا من العظمة بالإنزال لذلك الماء في الرحم
﴿في قرار مكين *﴾ أي محفوظ مما يفسده من الهواء وغيره ومددنا ذلك لأجل التطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار الصنعة
﴿إلى قدر﴾ أي مقدار من الزمان قدره الله تعالى للولادة
﴿معلوم *﴾ أي عندنا من تسعة أشهر للولادة إلى ما فوقها أو دونها لا يعلمه غيره.
ولما كان هذا عظيماً ترجمه وبينه معظماً له بقوله:
﴿فقدرنا﴾ أي بعظمتنا على ذلك أو فجعلناه على مقدار معلوم من الأرزاق والآجال والأحوال والأعمال
﴿فنعم القادرون *﴾ نحن مطلقاً على ذلك وغيره، أو المقدرون في تلك المقادير لما لنا من كمال العظمة بحيث نجعل ذلك
173
بمباشرة من أردناه منه بطوعه واختياره. ولعل التعبير بما قد يفيد مع العظمة الجمع لما أقام سبحانه في ذلك من الأسباب بالملائكة وغيرها، وفيه مع ذلك ابتلاء للعباد الموحد منهم والمشرك:
﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ كان ذلك
﴿للمكذبين *﴾ أي بالناشرات التي نشرت تلك النفوس وكل ما يراد نشره وهم يعلمون قدرتنا على ما ذكر وتقديره من ابتدائنا لخلقهم وغيره مما يفيد كمال القدرة وهم يكذبون بالبعث ولا يقيسونه بمثله. ولما دل بابتداء الخلق على تمام قدرته، أتبعه الدلالة بانتهاء أمره وأثنائه وما دبر فيهما من المصالح فقال:
﴿ألم نجعل﴾ أي نصير بما سببنا بما لنا من العظمة
﴿الأرض كفاتاً *﴾ أي وعاء قابلة لجمع ما يوضع فيها وضمه جمعاً فيه فتك وهدم، وهو اسم لما يكفت من الحديد مثلاً أي يغلف بالفضة ويضم ويجمع، كالضمام والجماع لما يضم ويجمع، أو هو مصدر نعت به أو جمع كافتة، كصائمة وصيام أو جمع كفت وهو الوعاء، ولو شئنا لجعلناها ناشرة لكم إذا وضعتم فيها كما تنشر النبات، وسنجعل ذلك إذا أردنا البعث، ولما كان من المعلوم أنه حذف المفعول وهو لكم، أبدى حالة دالة أيضاً عليه فقال:
﴿أحياء﴾ أي على ظهرها في الدور وغيرها
﴿وأمواتاً *﴾ أي
174
في بطنها في القبور وغيرها كما كنتم قبل خلق آدم عليه السلام.
ولما ذكر ما تغيبه من جبال العلم والملك وغيرهما، أتبعه ما تبرزه من الشواهق إعلاماً بأنه لو كان الفعل للطبيعة ما كان الأمر هكذا، فإنه لا يخرج هذه الجبال العظيمة على ما لها من الكبر والرسوخ والثقل والصلابة وغير ذلك من العظمة إلا الفاعل المختار، هذا إلى ما يحفظ في أعاليها من المياه التي تنبت الأشجار وتخرج العيون والأنهار، بل أكثر ما يخرج من المياه هو منها، وكذا غالب المنافع من المعادن وغيرها قال:
﴿وجعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿فيها﴾ أي الأرض
﴿رواسي﴾ لولاها لمادت بأهلها، ومن العجائب أن مراسيها من فوقها خلافاً لمراسي السفن
﴿شامخات﴾ أي هي مع كونها ثوابت في أنفسها مثبتة لغيرها طوال جداً عظيمة الارتفاع كأنها قد تكبرت على بقية الأرض وعلى من يريد صعودها، وتنكيره للتعظيم.
ولما كان من العجائب الخارقة للعوائد فوران الماء الذي من طبعه أن يغور لا أن يفور لما له من الثقل واللطافة التي أفادته قوة السريان في الأعماق وفي كون ذلك منه من موضع من الأرض دون آخر، وكونه من الجبال التي هي أصل الأرض ومن صخورها غالباً دلالة ظاهرة على أن الفعل للواحد المختار الجبال القهار لا للطبائع قال:
﴿وأسقيناكم﴾ أي جعلنا لكم بما لنا من العظمة شراباً لسقيكم وسقي ما تريدون سقيه من الأنعام والحرث وغير ذلك
﴿ماء﴾ من لأنهار
175
والغدران والعيون والآبار وغيرها
﴿فراتاً *﴾ أي عظيماً عذباً سائغاً وقد كان حقيقاً بأن يكون ملحاً أجاجاً لما للأراضي الممسكة له من ذلك. ولما كان في هذا دلالة على ظاهرة على قدرته على البعث وغيره قال:
﴿ويل يومئذ﴾ أي يوم إذ تقوم الساعة ليكون الفصل بين العباد فساقها مساق ما هو ثابت لا نزاع فيه إشارة إلى أنه لا يكذب بها بعد ظهور الأدلة إلا من لا مسكة له
﴿للمكذبين *﴾ أي الذين هم في غاية الرسوخ في التكذيب حتى كذبوا بما لنا في هذا من الفرق الذي فرقنا به بين أرض وأخرى حتى جعلنا بعضها صالحاً لانفراق أرضه عن الماء، وبعضها غير صالح وجعلنا بعضها قابلاً للجبال وبعضها غير قابل - إلى غير ذلك من الفروق البديعة.
ولما وصلت أدلة الساعة في الظهور إلى حد لا مزيد عليه، وحكم على المكذبين بالويل مرة، وأكد بثلاث، فكان من حق المخاطب أن يؤمن فلم يؤمن، أمر بما يدل على الغضب فقال تعالى معلماً لهم بما يقال لهم يوم القيامة إذ يحل بهم الويل:
﴿انطلقوا﴾ أي أيها المكذبون
﴿إلى ما كنتم﴾ أي بما هو لكم كالجبلة
﴿به تكذبون *﴾ عدماً، وتجددون ذلك التكذيب مستمرين عليه.
176
ولما كان المراد زيادة تبكيتهم وتقريعهم والتهويل عليهم، كرر الأمر واصفاً ما أمروا بالانطلاق إليه فقال:
﴿انطلقوا﴾ هذا على قراءة الجماعة، وقراءة رويس عن يعقوب بصيغة الماضي للدلالة على تمام انقيادهم هناك، وأنه لا شيء من منعه عندهم أصلاً، وهي استئنافية لجواب من يقول: ما كان حالهم عند هذا الأمر الفظيع؟
﴿إلى ظل﴾ أي من دخان جهنم الذي سمي باليحموم لما ذكر في الواقعة
﴿ذي ثلاث شعب *﴾ ينشعب من عظمه كما ترى الدخان العظيم يتفرق ذوائب، وخصوصية الثلاث لأن التكذيب بالله وكتبه ورسله، فتعذبهم كل واحدة منها عذاباً يعلمون هناك لأي تكذيبة منها هي، أو لأن الحاجب عن أنوار القدس الحس والخيال والوهم، أو لأن السبب فيه القوة الوهمية الحالة في الدماغ، والغضبية التي في عين القلب، والشهوية التي في يساره، وقيل: تخرج عنق من النار تكون ثلاث فرق: نار ونور ودخان، يقف النور على المؤمنين، واللهب الصافي على الكافرين، والدخان على المنافقين، تكون كذلك إلى حين الفراغ من الحساب، وقال الرازي: الشعب لهب وشرر ودخان.
177
ولما كان المبتادر من الظل ما يستروح إليه فظنوا ذلك، أزال عنهم هذا التوهم على طريق التهكم بهم ليكون أشد في النكال فقال واصفاً ل
«ذي» :
﴿لا ظليل﴾ أي من الحر بوجه من الوجوه. ولما كان ما انتفى عنه غزارة الظل التي أفهمتها صيغة المبالغة قد يكون فيه نفع ما قال:
﴿ولا يغني﴾ أي شيئاً من إغناء
﴿من اللهب *﴾ أي هذا الجنس.
178
ولما بين أن هذا الظل في العذاب، وكان من المعلوم أنه لا يكون دخان إلا من نار، قال مبيناً أنه لو كان هناك ظل ما أغنى:
﴿إنها﴾ أي النار التي دل عليها السياق
﴿ترمي﴾ أي من شدة الاستعار
﴿بشرر﴾ وهو ما تطاير من النار إذا التهبت، واحدتها شرارة وهي صواعق تلك الدار
﴿كالقصر *﴾ أي كل شرارة منها كأنها قصر مشيد من عظمها وقيل: هو الغليظ من الشجر، الواحدة قصر مثل جمر وجمرة، وهي اسم جنس جمعي لم يستعمل إلا في جمع فهو شامل لكثير الجموع وقليلها، وكذا كل ما فرق بين واحدة وجمعه التاء وليس بجمع لأنه ليس بجمع سلامة وهو ظاهر ولا تكسير لأن أوزانه معروفة وليس منها فعل وليس بجنس، فإنه لا يشمل ما دون الجمع ومن عظمة شرارها تعرف عظمة جمرها.
178
ولما شبهه في عظمه، شبهه في لونه فقال:
﴿كأنه جملات﴾ جمع جمالة جمع جمل مثل حجارة وحجر للدلالة مع كبره على كثرته وتتابعه واختلاطه وسرعة حركته، ومن قرأ بضم الجيم فهو عنده جمع جمالة وهي الحبل الغليظ من حبال السفينة - شبهه به في امتداده والتفافه، ولا تنافي فإن الشرر منه ما هو هكذا ومنه ما هو كما تقدم
﴿صفر*﴾ جمع أصفر للون المعروف، وقيل: المراد به سواد يضرب إلى صفرة كما هي ألوان الجمال.
ولما كان هذا أمراً هائلاً كانت ترجمته:
﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ يكون ذلك
﴿للمكذبين *﴾ أي العريقين في التكذيب بإلقاء الذكر على الأنبياء للبشارة والنذارة.
ولما دلت قراءة
«انطلقوا» بالفتح على امتثالهم للأمر من غير أن ينبسوا بكلمة، صرح به فقال دالاً على ما هم فيه من المقت والغضب:
﴿هذا﴾ أي الموقف الذي هو بعض مواقف ذلك اليوم، سمي يوماً لتمام أحكامه، فلذا قال مخبراً عن المبتدأ:
﴿يوم لا ينطقون *﴾ أي ببنت شفة من شدة الحيرة والدهشة في بعض المواقف، وينطقون في بعضها
179
فإنه يوم طويل ذو ألوان - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما، أو لا ينطقون بما ينفعهم لأنهم كانوا في الدنيا لا ينطقون بالتوحيد الذي ينفعهم.
ولما كانوا لا يقدرون على شيء ما إلا بإذن الله، وكان الموجع لهم عدم الإذن، بني للمفعول قوله دلالة على عدم ناصر لهم أو فرج يأتيهم:
﴿ولا يؤذن﴾ أي من آذن ما
﴿لهم﴾ أي في كلام أصلاً، ولما كان المراد أنه لا يوجد لهم إذن ولا يوجد منهم اعتذار من غير أن ينظر إلى تسببه عن عدم الإذن لئلا يفهم أن لهم عذراً ولكنهم لم يبدوه لعدم الإذن، قال رافعاً عطفاً على
«يؤذن» ﴿فيعتذرون *﴾ فدل ذلك على نفي الإذن ونفي الاعتذار عقبه مطلقاً، ولو نصبه لدل على أن السبب في عدم اعتذارهم عدم الإذن فينقض المعنى.
ولما كان هذا أمراً فظيعاً ترجمه بقوله:
﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ كان هذا الموقف
﴿للمكذبين *﴾ أي العريقين في التكذيب بالإخبار بطمس النجوم فجعلت عقوبتهم سكوتهم الذي هو ذهاب نور الإنسان ليكون كالطمس كذبوا به.
ولما ذكر حيرتهم ودهشتهم التي هي أمارة قول الحكم، وكانت
180
مواطن ذلك اليوم تسمى أياماً لتمام الأحكام في كل مواطن منها، وتميزه بذلك عما عداه، قال:
﴿هذا﴾ أي ذلك اليوم كله
﴿يوم الفصل﴾ أي بين ما اختلف فيه العباد من الحق والباطل العالي والسافل؛ ثم استأنف قوله:
﴿جمعناكم﴾ أي يا مكذبي هذه الأمة بما لنا من العظمة
﴿والأولين *﴾ أي الذين تقدم أنا أهلكناهم، وقد كانوا أكثر منكم عدداً وأعظم عدداً لنفصل بين المتنازعين ونصلي العذاب ونجزي بالثواب، وقد كان منكم من يقول: أنا أكفي عشرة من ملائكة النار، ثم أشار إلى انقطاع الأسباب فقال مسبباً عن ذلك:
﴿فإن كان لكم﴾ أي أيها المكذبون على وجه هو ثابت من ذواتكم
﴿كيد﴾ أي مقاواة بنوع حيلة أو شدة
﴿فكيدون *﴾ تقريع لهم على كيدهم لأوليائنا المؤمنين في الدنيا - بما مكنهم به من الأسباب وتنبيه على أنه من آذى وليه فقد آذنه بالحرب على أنهم عاجزون.
ولما كانوا أقل من أن يجيبوا عن هذا وأحقر من أن يمهلوا للكلام، قال مترجماً لحالهم بعد هذا الكلام منبهاً على أنهم لو عقلوا بكوا على أنفسهم الآن لأنه لا حيلة إذ ذاك:
﴿ويل يومئذ﴾ أي
181
إذ يقال لهم هذا الكلام فيكون زيادة في عذابه
﴿للمكذبين *﴾ أي الراسخين في التكذيب بأن السماء تفرج كما كانوا يكذبون بأنه يفصل بينهم بعد الموت.
ولما كان الواقع بعد الفصل قرار كل في داره، وكان قد بدأ بالمكذبين لأن التحذير في السورة أعظم ففصلهم عن المصدقين فقال: انطلقوا - إلى آخره، ثنى بأضدادهم الفريق الناجي المشار إليه في آخر الإنسان بقوله تعالى:
﴿يدخل من يشاء في رحمته﴾ [الإنسان: ٣١] فقال مؤكداً لأجل تكذيب الكفار بتلك الدار وبأن يكون المؤمنون أسعد منهم:
﴿إن المتقين﴾ أي الذين كانوا يجعلون بينهم وبين كل ما يغضب الله وقاية مما يرضيه لعراقتهم في هذا الوصف يوم القيامة
﴿في ظلال﴾ هي في الحقيقة الظلال لا كما تقدم من ظل الدخان، ولا يشبهها أعلى ظل في الدنيا ولا أحسنه إلا بالاسم، ودل على أنها على حقيقتها بقوله:
﴿وعيون *﴾ لأنها تكون عنها الرياض والأشجار الكبار كما دل على أن ذلك الظل المتشعب للتهكم بما ذكر بعده من أوصاف النار، فهذه العيون تبرد الباطن وتنبت الأشجار المظلة كما أن اللهب يحرّ الظاهر والباطن ويهلك ما قرب منه من شجر وغيره فلا يبقى ولا يذر.
182
ولما ذكر العيون، أتبعها ما ينشأ عنها فقال دالاً على أن عيشهم كله لذة:
﴿وفواكه﴾ ولما كان يوجد في فواكه الدنيا الدون، قال دالاً على أن عيشهم كله لذة وأنه ليس هناك دون:
﴿مما يشتهون *﴾ أي الرغبة.
183
ولما فهم من التعبير ب
«في» أنهم متمكنون من هذا جميعه تمكن المظروف من ظرفه، قال منبهاً على أنه أريد بالفاكهة جميع المآكل، وإنما عبر بها إعلاماً بأن كل أكل فيها تفكه ليس منه شيء لجلب نفع غير اللذة ولا دفع ضر:
﴿كلوا﴾ أي مقولاً لهم: تناولوا جميع المآكل على وجه التكفه والتلذذ لا لحفظ الصحة فإنها حاصلة بدونه
﴿واشربوا﴾ أي من جميع المشارب كذلك فإن عيونها ليست من الماء خاصة بل من كل شراب أكلاً وشرباً
﴿هنيئاً﴾ ليس في شيء من ذلك توقع ضر، وزاد في نعيمهم بأن جعل ذلك عوضاً فقال:
﴿بما كنتم﴾ أي بجبلاتكم التي جبلتكم عليها
﴿تعملون *﴾ أي في الدنيا من الأعمال الصالحة المبنية على أساس العلم الذي أفاد التصديق بالجنة فأوجب دخولها كما أوجب
183
تكذيب المجرمين بالنار دخولهم إياها وعذابهم بها، وتكذيبهم بالجنة طردهم عنها وحرمانهم لنعيمها جزاء وفاقاً.
ولما كان ربما توهم متوهم أن هذا لناس معينين في زمن مخصوص - قال معلماً بالتعميم مؤكداً رداً على من ينكر:
﴿إنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الجزاء العظيم
﴿نجزي المحسنين *﴾ أي كل من كان عريقاً في وصف الإحسان لسنا كملوك الدنيا، يعوقهم عن الإحسان إلى بعض المحسنين عندهم بما يرونه جزاء لهم بعضُ أهل مملكتهم لما لهم من الأهوية ولملوكهم من الضعف.
ولما كان هذا النعيم عذاباً عظيماً على من لا يناله قال:
﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ يكون هذا النعيم للمتقين المحسنين
﴿للمكذبين *﴾ أي الذين يكذبون بأن الجبال تنسف فتكون الأرض كلها سهلة دمثة مستوية لا عوج فيها أصلاً صالح للعيون والاشجار والتبسط في أرجائها كيفما يريد صاحبها ويختار.
ولما ذكر نعيم أهل الجنة الذي لا ينقضي لأن لهم غاية المكنة فيه، وكان ذلك آجلاً، وكان المكذبون في اتساع في الدنيا، وتقدم قوله
184
تعالى
﴿إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع﴾ [الطور: ٧] وكان الشقاء متى وقع بعد نعيم نسخه وعد النعيم - ولو كان كثيراً طويلاً - قليلاً، قال نتيجة لجواب القسم ضد ما يقال للمتقين تسلية لهم وتحزيناً للمكذبين بناء على ما تقديره: إن المكذبين في هذه الدنيا في استدراج وغرور، ويقول لهم لسان الحال المعرب عن أحوالهم في المآل توبيخاً وتهديداً:
﴿كلوا﴾ أي أيها المكذبون في هذه الدنيا
﴿وتمتعوا﴾ أي كذلك بمثل الجيفة، فإن المتاع من أسمائها كما مر غير مرة عن أهل اللغة
﴿قليلاً﴾ أي وإن امتد زمنه فإنه زائل مع قصر مدته في مدة الآخرة، ولا يؤثر ذلك على الباقي النفيس إلا خسيس الهمة، قال الرازي، وقال بعضهم: التمتع بالدنيا من أفعال الكافرين، والسعي لها من أفعال الظالمين، والاطمئنان إليها من أفعال الكاذبين، والسكون فيها على حد الإذن والأخذ منها على قدر الحاجة من أفعال عوام المؤمنين، والإعراض عنها من أفعال الزاهدين، وأهل الحقيقة أجل خطراً من أن يؤثر فيهم حب الدنيا وبغضها وجمعها وتركها.
ولما أحلهم هذا المحل الخبيث، وكان التقدير: فإنه لا بد من وقوع العذاب بكم يوم الفصل، علل ذلك بقوله مؤكداً لأنهم ينكرون وصفهم بذلك:
﴿إنكم مجرمون *﴾ أي عريقون في قطع كل ما أراد الله به أن
185
يوصل، فلا جائز أن تعاملوا معاملة المحسنين، فلذلك كانت نتيجة هذا
﴿ويل يومئذ﴾ أي إذ تعذبون بأجرامكم
﴿للمكذبين *﴾ أي بوصول الرسل إلى وقتها المعلوم الذي كانت تتوعد به المجرمين في الدنيا حيث كذبوهم لأجل تمتعهم هذا القليل الكدر، وعرضوا أنفسهم للعذاب الدائم المستمر.
ولما كان التقدير: فإنهم كانوا في دار العمل إذا قيل لهم آمنوا لا يؤمنوا، عطف عليه قوله:
﴿وإذا قيل لهم﴾ أي لهؤلاء المجرمين من أي قائل كان
﴿اركعوا﴾ أي صلوا الصلاة التي فيها الركوع، وأطلقه عليها تسمية لها باسم جزء منها، وخص هذا الجزء لأنه يقال على الخضوع والطاعة، ولأنه خاص بصلاة المسلمين، ولأن بعض العرب نفر عن الدين من أجله، وقال: لا أجبي لأن فيه - زعم - إبرازاً للاست فيكون ذلك مسبة، وكذلك السجود، قال في القاموس: جبى تجبئة: وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض أو انكب على وجهه، والتجبئة أن تقوم قيام الركوع
﴿لا يركعون *﴾ أي لا يخضعون ولا يوجدون الصلاة فلذلك كان وعيدهم، وفيه دلالة على أن الأمر للوجوب ليستحق تاركه العذاب وعلى أن الكفار مخاطبون بالفروع
﴿ويل يومئذ﴾
186
أي إذ يكون الفصل
﴿للمكذبين *﴾ أي بذلك الذي تقدم في هذه السورة أو بشيء منه أو بغيره مما جاءت به الرسل، وقد كررت هذه الجملة بعدد أجزاء طرف القسم أو أجزاء الجواب لتكون كل جملة منها وعيداً على التكذيب بواحد من تلك الأجزاء، وتكون هذه الجملة العاشرة مؤكدة لتلك التسع، وتكملة لعدها ومعناها، ومعلمة بأن الويل لهم دائماً من غير انقضاء كما أن الواحد لا انقضاء له.
ولما أعلم هذا أن لهم الويل دائماً، ذكر أن سببه عدم الإيمان بالقرآن وأن من لم يؤمن بالقرآن لم يؤمن بشيء أبداً، فقال مسبباً عن معنى الكلام:
﴿فبأيّ حديث﴾ أي ذكر يتجدد نزوله على المرسل به في كل وقت تدعو إليه حاجة
﴿بعده﴾ أي بعد هذا القرآن الذي هو شاهد لنفسه عنه بصحة النسبة إلى الله تعالى من جهة ما حاز من البلاغة في تراكيبه بالنسبة إلى كل جملة وبالنسبة إلى نظم الجمل بعضها مع بعض، وبالإخبار بالمغيبات والحمل على المعالي والتنبيه على الحكم وغير ذلك من بحور العلم ورياض الفنون، فالله باعتبار ذلك هو الشاهد بأنه كلامه
﴿يؤمنون *﴾ أي يجددون الإيمان بسببه بكل ما أتى به
187
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا لم يؤمنوا بهذا الحديث الذي الله شاهد بأنه كلامه بما اشتمل عليه بعد إعجازه من الدلائل الواضحة، والمعاني الشريفة الصالحة، والنظوم الملائمة للطبع والرقائق المرققة لكل قلب، والبشائر المشوقة لكل سمع، فمن لم يؤمن به لم يؤمن بحديث غيره، فإنه لا شيء يقاربه ولا يدانيه، فكيف بأن يدعي شيء يباريه أو يراقيه، ومثل هذا إنما يقال عند مقاربة اليأس من الموعوظ والعادة قاضية بحلول العذاب إذ ذاك وإنزال البأس، فهو من أعظم أنواع التهديد، فقد رجع آخرها على أولها في وعيد المكذبين، وانطبق أولها على آخرها في إخزاء المجرمين - والله الهادي للصواب.
188
مقصودها الدلالة على أن يوم القيامة الذي كانوا مجمعين على نفيه، وصاروا بعد بعث النبي (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) في خلاف فيه مع المؤمنين ثابت ثباتاً لا يحتمل شكاً ولا خلافاً بوجه، لأن خالق الخلق مع أنه حكيم قادر على ما يريد دبرهم أحسن تدبير، بنى لهم مسكناً وأتقنه، وجعلهم على وجه يبقى به نوعهم من أنفسهم بحيث لا يحتاجون إلى أمر خارج يرونه، فكان ذلك أشد لإلفتهم وأعظم لأنس بعضهم ببعض، وجعل سقفهم وفراشهم كافلين لمنافعهم، والحكيم لا يترك عبيده وهو تام القدرة كامل السلطان يمرحون يبغي بعضهم على بعض ويأكلون خيره ويعبدون غيره بلا حساب، فكيف إذا كان حاكماً فكيف إذا كان أحكم الحاكمين، هذا ما لا يجوز في عقل ولا خطر ببال أصلاً، فالعلم واقع به قطعاً، وكل من اسميها واضح في ذلك بتأمل آيته ومبدأ ذكره وغايته) بسم الله (الحكيم العليم
189
الذي له جميع صفات الكمال) الرحمن (الذي ساوى بين عباده في أصول النعم الظاهرة: الإيجاد والجاه والمال، وبيان الطريق الأقوام بالعقل الهادي والإنزال والإرسال) الرحيم (الذي خص من شاء بإتمام تلك النعم فوفقهم لمحاسن الأعمال لما أخبر في المرسلات بتكذيبهم بيوم الفصل وحكم على أن لهم بذلك الويل المضاعف المكرر، وختمها بأنهم إن كفروا بهذا القرآن لم يؤمنوا بعده بشيء، افتتح هذه بأن ما خالفوا فيه وكذبوا الرسول في أمره لا يقبل النزاع لما ظهر من بيان القرآن لحكمة الرحمن التي يختلف فيها اثنان مع الإعجاز في البيان، فقال معجباً منهم غاية العجب زاجراً لهم ومنكراً عليهم ومتوعداً لهم ومفخماً للأمر بصيغة الاستفهام منبهاً على أنه ينبغي أن لا يعقل خلافهم، ولا يعرف محل نزاعهم، فينبغي أن يسأل عنه كل أحد حتىالعالم به إعلاماً بأن ما يختلفون فيه لوضوحه لا يصدق أن عاقلاً يخالف أمره فيه وأنه لا ينبغي التساؤل إلا عما هو خفي فقال:
190