﴿براءة﴾ أي عظيمة، ثم وصفها بقوله:
﴿من﴾ أي حاصلة واصلة من
﴿الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال، فهو العالم بمن يستحق الولاية ومن يستحق البراءة
﴿ورسوله﴾ أي المتابع لأمره لعلمه به.
ولما كانوا قد توقفوا في الحديبية كلهم أو كثير منهم تارة في
361
نفس العهد وتارة في التأخر عن الأمر بالحلق، ثم تابعوا في كل منهما، وكان الكفار بمحل البعد عن كل خير، أشار إلى ذلك بأداة الغاية، وجعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الله إشارة إلى أنه لا يخالفه أصلاً، وأسندت المعاهدة إليهم إشارة إلى ذلك التوقف تحذيراً من أن يقع مثله، فقال مخبراً عن النبذ الموصوف:
﴿إلى الذين عاهدتم﴾ أي أوقعتم العهد بينكم وبينهم
﴿من المشركين*﴾ أي وإن كانت معاهدتكم لهم إنما كانت بإذن من الله ورسوله، فكما فعلتم المعاهدة بإذنهما فافعلوا النقض تبعاً لهما، ودل سياق الكلام وما حواه من بديع الانتظام أن العهد إنما هو لأجل المؤمنين، وأما الله ورسوله فغنيان عن ذلك، أما الله فبالغنى المطلق، وأما الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبالذي اختاره للرسالة لأنه ما فعل ذلك به إلا وهو قادر على نصره بسبب وبغير سبب، وعلم أن ذلك فيمن نقض أو قارب من قوله بعد
﴿إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً﴾ - الآية؛ قال البغوي: لما خرج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى تبوك كان المنافقون يرجفون الأراجيف، وجعل المشركون ينقضون عهوداً كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر الله بنقض عهودهم وذلك قوله تعالى
﴿وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم﴾ [الأنفال: ٥٨] انتهى. وذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، ولعله أطلق هنا ولم يقيد ممن خيف
362
نقضه ليكون ذلك أول السورة مؤذناً بأن الخيانة وهم بالنقض شأن أكثرهم ولا سيما مشركو قريش، وهم - لكون قريش رؤوس الناس والناس تبع لهم في الخير والشر - يستحقون أن يعبر عنهم بما يفهم الكل ومبنى هذه السورة على البراءة من المشركين والموالاة للمؤمنين الدال على إيمانهم طاعة الله بالصلاة والزكاة والجهاد لمن أمر بالبراءة منه قل أو كثر قرب أو بعد في المنشط والمكره والعسر واليسر.
ولما كان ظاهر الحال وقت تكامل نزولها - وهو شوال أو ذو العقدة أو ذو الحجة سنة تسع بعد مرجع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك - أن الحرب قد وضعت أوزارها وأطفئت نارهم ببسط الإسلام في الخاص والعام، وما بين اليمن والشام، وانتشار ألويته وأعلامه، وتأيد رئيسه وإمامه بقهر جيوش الكفار، وقصد الناس له بالاتباع من جميع الأمصار، أكد أمر الجهاد ومصادمة الأنداد في هذه السورة تأكيداً لم يؤكد في غيرها؛ ذكر الواقدي في أواخر غزوة تبوك كلاماً ثم قال: قالو: وقدم رسول الله صلى لله عليه وسلم المدينة - يعني من غزوة تبوك - في رمضان سنة تسع ثم قال: وجعل المسلمون يبيعون أسلحتهم ويقولون: قد انقطع الجهاد، فجعل القوي منهم يشتريها لفضل قوته، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنهاهم عن ذلك وقال:
«لا تزال عصابة
363
من أمتي يجاهدون على الحق حتى يخرج الدجال» وإنما قلت: إن تكامل نزولها كان في شوال أو في ذي القعدة أو في ذي الحجة لأن البغوي نقل عن الزهري أن أولها نزل في شوال، وقال ابن إسحاق - ونقله عنه البيهقي في دلائل النبوة -: ثم أقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد منصرفه من تبوك بقية شهر رمضان وشوالاً وذا القعدة ثم بعث أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج في سنة تسع ليقيم للمؤمنين حجهم والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجهم - وأسند البيهقي في دلائله إلى عروة قال: فلما أنشأ الناس الحج تمام سنة تسع بعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بكر أميراً على الناس وكتب له سنن الحج - انتهى. فخرج أبو بكر والمؤمنون رضي الله عنهم ونزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينهم وبينه أن لا يصد عن البيت أحد جاءه ولا يخاف أحد في الشهر الحرام؛ وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك؛ ونقل أبو محمد البستي عنه أنه قال: فكانت هذه المدة والعهد الذي كان بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين العرب أنه لا يصد أحد عن البيت ولا يتعرض لحاج ولا معتمر، ولا يقاتل في الشهر الحرام؛ وكان أماناً مستفيضاً من بعضهم لبعض على غير مدة معلومة؛ رجُع إلى ما رأيته أنا في سيرته: وكانت بين ذلك عهود بين رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين
364
قبائل من العرب خصائص إلى آجال مسماة فنزلت فيه وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون؛ ثم قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي أنه قال:
«لما نزلت براءة على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه ليقيم للناس الحج قيل له: يارسول الله! لو بعثت بها إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي، ثم دعا علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له: اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يجح بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فهو له إلى مدته»
فهذا فيه أنها نزلت بعد سفر أبي بكر رضي الله عنه، وإنما قيدت أنا بتكامل نزولها لأنه ورد أن الذي في النقض فبعث به علياً رضي الله عنه إنما هو عشر آيات أو سبع، وفي بعض الروايات التصريح بنزولها قبل سفر أبي بكر رضي الله عنه، ففي زيادات مسند الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه قال: «لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا أبا بكر رضي الله عنه فبعثه بها ليقرأها على أهل مكة، ثم دعاني النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أدرك أبا بكر، فحيث ما لحقته
365
فخذ الكتاب منه فاذهب به إلى أهل مكة فاقرأه عليهم - فذكره، وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدما رجع: أنزل فيّ شيء؟ قال: لا، ولكن جبريل عليه السلام جاءني فقال: لن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» ونقل البغوي عن ابن إسحاق أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث مع أبي بكر بأربعين آية من صدر سورة براءة ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث بعده علياً على ناقته الغضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذن بمكة ومنى وعرفة. وفيه أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله! أنزل في شأني شيء؟ قال:
«لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا الأمر إلا رجل من أهلي» فتبين أن الأول من إطلاق الكل على الجزء لا سيما وهو الذي فيه البراءة، وما سميت السورة براءة إلا به؛ وأن المعنى: لا يؤدي عني في العهود، لا مطلقاً، فقد أرسل رسلاً للأداء عنه من غير أهل بيته؛ وقال المهدوي في تفسير
﴿فسيحوا في الأرض﴾ : وروي أن هذه الآية نزلت على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد خروج أبي بكر بالناس ليحج بهم سنة تسع، فبعث بها النبي صلى الله صلى عليه وسلم علياً رضي الله عنه ليتلوها على الناس بالموضع الذي يجتمع فيه الفريقان وهو منى، وأمره أن ينادي: أن لا يحج بعد
366
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فنادى عليّ وأعانه أبو هريرة وغيره رضي الله عنهم، وكان على مكة حينئذ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، استخلفه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام الفتح وهو عام ثمان، وكان حج عتاب وأبي بكر سنة تسع في ذي العقدة - كذا قال وسيأتي بيان بطلانه، وتقدم خلافه عن ابن إسحاق في دلائل النبوة؛ وقال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره: حدثنا قتيبة عن الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين فرغ من تبوك فأراد الحج فقال: إنه يحضر البيت المشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك، فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما، فطافا في الناس بذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها كلها وبالموسم كله، وآذنوا أصحاب العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر - يعني اشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، فآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا، فآمن الناس أجمعون.
وفي سيرة ابن إسحاق: حدثنا يونس - يعني ابن بكير - عن أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي {فسيحوا في الأرض
367
أربعة أشهر} قال: عشرين من ذي الحجة إلى عشر من ربيع الآخر ثم لا أمان لأحد ولا عهد إلى السيف أو الإسلام؛ وقال ابن هشام: حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأجل الناس أربعة اشهر من يوم أذن فيهم ليرجع كل قوم إلى مأمنهم؛ وللترمذي عن زيد بن أثيع قال: سألت علياً رضي الله عنه: بأيّ شيء بعثت؟ قال: بأربع: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عهد فعهده إلى مدته ومن لا مدة له فأربعة أشهر. ونقل ابن سيد الناس عن ابن عائذ انه لما ضرب للمشركين هذا الأجل قالوا: بل الآن لا نبتغي تلك المدة، نبرأ منك ومن ابن عمك إلا بالضرب والطعن؛ فحج الناس عامهم ذلك، فلما رجعوا رغب الله المشركين فدخلوا في الإسلام طوعاً وكرهاً. وصدق الله ورسوله فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ولم يطف بالبيت عريان. وقد وردت نصوص وظواهر في كثير من سورة براءة أنه نزل قبل الرجوع عن تبوك أو قبل الاعتذار، فمن النصوص قوله تعالى {لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك
368
ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} وقوله
﴿فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً﴾ - الآيات،
﴿يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم قد نبأنا الله من أخباركم﴾ إلى أن قال:
﴿سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم﴾ [التوبة: ٩٤] وأما الظواهر فإن الواقدي قال في سيرته فأنزل من القرآن في غزوة تيوك، ثم ذكر اكثر سورة براءة وقال هو وغيره من أصحاب السير: «وكان رهط من المنافقين يسيرون مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تبوك منهم وديعة بن ثابت - فذكر القصة التي فيها أن بعضهم قال ترهيباً للمؤمنين: أتحسبون قتال بني الأصفر كقتال غيرهم؟ والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال، وقال كل منهم شيئاً إلى أن قال: فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمار بن ياسر: أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا وكذا - إلى أن قال: إن بعضهم قال: إنما كنا نخوض ونلعب! فأنزل الله فيه
﴿ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب - إلى قوله - بأنهم كانوا مجرمين﴾ ثم قال: وجاء الجلاس إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلف ما قال من ذلك شيئاً، وكان قد قال: إن كان محمد صادقاً فنحن شر من الحمير، فأنزل الله عز وجل فيه
﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر﴾ - إلى آخرها، فاعترف الجلاس حينئذ
369
وتاب وحسنت توبته»، وذكر مسجد الضرار وأن أهله كانوا سألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو متجهز إلى تبوك أن يصلي لهم فيه فاعتذر إليهم بشغله بالسفر ووعدهم أن يصلي فيه إذا رجع، فلما نزل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي أوان - قال ابن هشام: بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار - أتاه خبره وخبر أهله من السماء، فدعا اثنين من أصحابه فأمرهما به فأحرقاه، وتفرق أهله ونزل فيه من القرآن ما نزل
﴿والذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً﴾ - إلى آخر القصة؛ قال الواقدي: وكان عاصم ابن عدي يقول: كنا نتجهز إلى تبوك مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأيت عبد الله بن نبتل وثعلبة بن حاطب قائمين على المسجد الضرار - إلى أن قال: فوالله ما رجعنا من سفرنا حتى نزل القرآن بذمه وذم أهله
﴿والذين اتخذوا مسجداً ضراراً﴾ [التوبة: ١٠٧]- إلى آخرها، ومن ذلك تسميتها بالفاضحة، فلولا نزولها قبل معرفة أخبارهم لم تكن فاضحة، وهي في الظاهر للمعاهدين وفي الباطن مشيرة إلى أهل الردة وأن لا يقبل منهم إيمان ما لم يجمعوا بين الصلاة والزكاة كما فهم أبو بكر رضي الله عنه، وأقيمت على ذلك قرائن منها تكرير الجمع بين الصلاة والزكاة في سياق الإيمان تكريراً لم يكن في غيرها من السور، فهي من أعلام النبوة؛
370
وروى أبو محمد إسحاق بن إبراهيم القاضي البستي في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذا الإسلام ثلاثون سهماً: عشر منها في براءة، وعشر في الأحزاب، وعشر في المؤمنين وسأل سائل.
ولما أعلمهم سبحانه بأنه رد إليهم عهدهم، وكانوا مختلطين مع أهل الإسلام، جعل لهم مخلصاً إن آثروا البقاء على الشرك مع إعلامهم بأنه لا خلاص لهم لأنهم في قبضته، فقال مخاطباً لهم ولكل مشرك مسبباً عن البراءة:
﴿فسيحوا﴾ والسياحة: الاتساع في السير والبعد عن المدن والعمارة مع الإقلال من الطعام، والشراب، ولذلك يقال للصائم: سائح: والمراد هنا مطلق السير.
ولما كانت السياحة تطلق على غيره، حقق المعنى بقوله:
﴿في الأرض﴾ أي في أيّ جهة شئتم
﴿أربعة أشهر﴾ أي من أيام الحج، فيكون آخرها عاشر شهر ربيع الآخر، تأمنون فيها أمناً لا نعرض لكم بسوء، بل تذهبون فيها حيث شئتم، أو ترمون حصونكم وتهيئون سلاحكم وتلمون شعثكم لا نغدركم، لأن ديننا مبني على المحاسن، ولولا أن الأمر يتعلق بنفوسنا ما نبذنا عهدكم ولا نقضنا عقدكم، ولكن الخطر في النفس وقد ظهرت منكم أمارات الغدر ولوائح الشر
«وعن أيّ نفس بعد نفسي أقاتل» فإذا نقضت الأربعة الشهر فتهيؤوا لقتالنا وتدرعوا لنزالنا.
ولما كان الإسلام قد ظهر بعد أن كان خفياً، وقوي بعد أن كان
371
ضعيفاً، افتتح وعظهم بالكلمة التي تقال أولاً لمن يراد تقريع سمعه وإيقاظ قلبه وتنبيهه على أن ما بعدها أمر مهم ينبغي مزيد الاعتناء به فقال:
﴿واعلموا أنكم﴾ أي أيها الكفرة وإن كثرتم
﴿غير معجزي الله﴾ لأن علمه محيط بكل شيء فهو قادر على كل ممكن
﴿وأن الله﴾ أي لما له من الإحاطة بالجلال والإكرام
﴿مخزي الكافرين*﴾ أي كلهم منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة لأن قوله قد سبق بذلك، ولا يبدل القول لديه، والإخزاء: الإذلال مع إظهار الفضيحة والعار -. وأظهر الوصف موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم به؛ ولعل الالتفات إلى الخطاب إشارة إلى أن من ترك أمر الله حدباً على قريب أو عشير فهو منهم، وقد برئت منه الذمة، فلينج بنفسه ولا نجاء له، أو يكون لا ستعطاف الكفار تلذيذ الخطاب وترهيبهم بزواجر العقاب.
372
ولما أنزل البراءة، أمر بالإعلام بها في المجمع الأعظم ليقطع الحجج، فقال عاطفاً ظهرة الجملة إلى مضمونها: الإخبار بوجوب الإعلام بما ثبت بالجملة الأولى المعطوفة عليها من البراءة:
﴿وأذان﴾ أي وهذا إعلام وإعلان واقع وواصل
﴿من الله﴾ أي المحيط بجميع صفات العظمة
﴿ورسوله﴾ أي الذي عظمته من عظمته، فلا يوجهه إلى شيء إلا أعلاه عليه؛ ولما كان المقصود الإبلاغ الذي هو وظيفة الرسول، عداه بحرف الانتهاء فقال:
﴿إلى الناس﴾ أي كلهم من أهل البراءة
372
وغيرهم
﴿يوم الحج الأكبر﴾ قيده لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
ولما كان كأنه قيل: ماهذا الإعلام؟ قال مفسراً له مصرحاً بما هو المقصود لئلا يقع فيه نوع لبس حاذفاً الصلة إعلاماً بأن هذا مستأنف على تقدير سؤال سائل، لا معمول لأذان:
﴿أن الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق والقوة الباهرة
﴿بريء من المشركين*﴾ أي الذين لا عهد لهم خاص فلا مانع من قتالهم، قيل: والذين وقعت البراءة منهم صنفان: أحدهما كانت مدته دون أربعة أشهر فرفع إليها، والآخر مدته بغير حد فقصر عليها، ومن لم يكن له عهد فهو أولى، ومن كان عهده محدوداً بأكثر من أربعة أشهر ولم يحدث شراً أمر بإتمام عهده إلى مدته
﴿ورسوله﴾ أي بريء منهم، فهو موفوع عطفاً على المنوي في
«بريء» أو على محل
﴿أن﴾ المكسورة واسمها عند من كسرها، وقرىء بالنصب عطفاً على اسم
﴿أن﴾ أو لأن الواو بمعنى مع، وبالجر على الجوار، وقيل: على القسم - قال في الكشاف، قال: ويحكى أن أعرابياً سمع رجلاً يقرؤها فقال: إن كان الله بريئاً من رسوله فأنا منه بريء، فلببه الرجل إلى عمر رضي الله عنه فحكى الأعرابي قراءته فعندما أمر عمر رضي الله عنه بتعلم العربية، وروى الإمام أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في مقدمة كتاب الوقف والابتداء بسنده عن ابن أبي ملكية قال: قدم أعرابي في زمان عمر رضي الله عنه فقال: من يقرئني
373
مما أنزل الله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فأقرأه رجل براءة فقال:
﴿أن الله بريء من المشركين ورسوله﴾ بالجر، فقال: أوقد بريء الله من رسوله؟ إن يكن الله بريء من رسوله فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر رضي الله عنه مقالة الأعرابي فدعاه - يعني فسأله فأخبره - فقال عمر رضي الله عنه: ليس هكذا يا أعرابي! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ فقال
﴿أن الله بريء من المشركين ورسولُه﴾ فقال الأعرابي: وأنا والله أبرأ مما برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن لا يقرىء القرآن إلا عالم باللغة.
وأمر أبا الأسود فوضع النحو، ونحو ذلك في الاهتمام بشأن العربية ما حكاه الشريف محمد بن أسعد الجواني النسابة في كتابه في الأنساب في ترجمة أبي الأسود الدؤلي بسنده إليه أنه قال: دخلت على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فرأيته مطرقاً مفكراً فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني سمعت ببلدكم هذا لحناً، فأردت أن أضع كتاباً في أصول العربية، فقلت له: إن فعلت هذا بقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيام فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، الفعل ما أنبأ عن حركة
374
المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل: ثم قال: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم أن الأشياء ثلاثة: ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر، وإنما يتفاضل الناس في معرفة ما ليس بمضمر ولا ظاهر، قال أبو الأسود الدؤلي: فجمعت أشياء فعرضتها عليه، فكان من ذلك حروف النصب، فذكرت منها إن وأن وليت ولعل وكأن، ولم أذكر لكن، فقال لي: لم تركتها؟ فقلت: لم أحسبها فيها، فقال بل هي منها فزدها فيها، وقال أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي في طبقات النحويين: وقال أبو العباس محمد بن يزيد: سئل أبو الأسود الدؤلي عمن فتح له الطريق إلى الوضع في النحو وأرشده إليه، فقال: تلقنته من علي بن أبي طالب، وفي حديث آخر: ألقى إليّ أصولاً احتذيت عليها؛ وفي مختصر طباتهم للحافظ محمد بن عمران المرزباني: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه قد رسم لأبي الأسود الدؤلي حروفاً يعلمها الناس لما فسدت ألسنتهم فكان لا يحب أن يظهر ذلك ضناً به بعد علي رضي الله عنه، فلما كان زياد وجه إليه أن عمل شيئاً تكون فيه إماماً وينتفع به الناس فقد كنت شرعت فيه لتصلح ألسنة الناس، فدافع بذلك حتى مر يوماً بكلإ البصرة وإذا قارئ يقرأ
﴿أن الله بريء من المشركين ورسوله﴾ وحتى سمع رجلاً قال: سقطت عصاتي، فقال: لا يحل لي بعد هذا أن أترك الناس! فجاء إلى زياد فقال: أنا أفعل ما أمر به الأمير
375
فليبتغ لي كاتباً حصيفاً ذكياً يعقل ما أقول، فأتي بكاتب من عبد القيس فلم يرضه، فأتي بآخر من ثقيف؛ وقال ابن الأنباري في كتاب الوقف: حدثني أبي قال: حدثنا أبو عكرمه قال: قال العتبي: كتب معاوية إلى زياد يطلب عبيد الله ابنه، فلما قدم عليه كلمه فوجده يلحن، فرده إلى زياد وكتب إليه كتاباً يلومه فيه ويقول: أمثل عبيد الله يضيع؟ فبعث زياد إلى أبي الأسود فقال: يا أبا الأسود! إن هذه الحمراء قد كثرت وأفسدت من ألسن العرب، فلو وضعت شيئاً يصلح به الناس كلامهم ويعربون به كتاب الله، فأبى ذلك أبو الأسود وكره إجابة زياد إلى ما سأل، فوجه زياد رجلاً فقال له: اقعد في طريق أبي الأسود، فإذا مر بك فاقرأ شيئاً من القرآن وتعمد اللحن فيه، ففعل ذلك.
فلما مر به أبو الأسود رفع الرجل صوته يقرأ
﴿أن الله بريء من المشركين ورسولِه﴾ فاستعظم ذلك أبو الأسود وقال: عز وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم رجع من فوره إلى زياد فقال: يا هذا، قد أجبتك إلى ما سألت، ورأيت أن أبدأ بإعراب القرآن، فابعث إليّ ثلاثين رجلاً، فأحضرهم زياد فاختار منهم أبو الأسود عشرة، ثم لم يزل يختارهم حتى اختار منهم رجلاً من عبد القيس، فقال: خذ المصحف وصبغاً يخالف
376
لون المداد، فإذا فتحت شفتيّ فانقط واحدة فوق الحرف، وإذا ضممتهما فاجعل النقطة إلى جانب الحرف، وإذا كسرتهما فاجعل النقطة في أسفله، فإن أتبعت شيئاً من هذه الحركات غنة فانقط نقطتين، فابتدأ بالمصحف حتى أتى على آخره، ثم وضع المختصر المنسوب إليه بعد ذلك - انتهى. ويوم الحج المذكور هنا للجنس، أي في جميع أيام الحج - قاله سفيان الثوري - كيوم صفين والجمل وبعاث يراد به الحين والزمان الذي كان فيه ذلك، ولذلك نادى علي رضى الله عنه بنفسه ومن ندبه لذلك في جميع تلك الأيام، وقال أبو حيان: الظاهر أنه يوم واحد فقال عمر رضي الله عنه وجماعة: هو يوم عرفة، وروي مرفوعاً الى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال أبو موسى رضي الله عنه وجماعة: هو يوم النحر، وقيل: أيام الحج كلها - قاله سفيان بن عيينة قال ابن عطية: والذي تظاهرت به الأحاديث أن علياً رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالإسماع
377
فتتبعهم بالأذان بها أيضاً يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر رضي الله عنه من يعينه بها كأبي هريرة وغيره رضي الله عنهم ويتبعوا ايضاً أسواق العرب كذي المجاز وغيره؛ وبهذا يترجح قول سفيان - انتهى. وروى عبد الرزاق عن علي رضي الله عنه أن يوم النحر، وقال في تفسيره أيضاً: أخبرنا معمر عن الحسن قال: إنما سمي الحج الأكبر لأنه حج أبو بكر رضي الله عنه الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، ووافق أيضاً ذلك عيد اليهود والنصارى -.
ولما أعلم سبحانه بالبراءة عنها، سبب عنها مرغباً مرهباً قوله التفاتاً إلى الخطاب:
﴿فإن تبتم﴾ أي عن الكفر والغدر
﴿فهو﴾ أي ذلك الأمر العظيم وهو المتاب
﴿خير لكم﴾ أي لأنكم تفوزون في الوفاء بالأمان في الدنيا، وفي الإسلام بالسلامة في الدارين.
ولما كانت التوبة محبوبة بالطبع لما لها من النفع قال:
﴿وإن توليتم﴾ أي كلفتم أنفسكم خلاف ما يشتهي من التوبة موافقة للفطرة الأولى، وأصررتهم على الكفر والغدر اتباعاً للهوى المكتسب من خباثة الجبلة ورداءة الأخلاط التي قعدت بالروح عن أوجها الأول إلى الحضيض الأسفل
﴿فاعلموا﴾ أي علماً لا شبهة فيه
﴿أنكم غير معجزي الله﴾
378
أي لأن له صفات الكمال من الجلال والجمال، والالتفات هنا مثله في
﴿فسيحوا﴾ والإشارة به إلى ما ذكر في ذلك.
ولما واجههم بالتهديد، أعرض عنهم وجه الخطاب تحقيراً لهم مخاطباً لأعلى خلقه مبشراً له في أسلوب التهكم بهم، فقال عاطفاً على ما تقديره: فبشر الغادرين بالخدلان، أو فبشر التائبين بنعيم مقيم:
﴿وبشر الذين كفروا﴾ أي أوقعوا هذا الوصف
﴿بعذاب أليم*﴾ أي في الدنيا والآخرة أو فيهما.
ولما أعلمهم بالبراءة وبالوقت الذي يؤذن بها فيه، وكان معنى البراءة منهم أنه لا عهد لهم، استثنى بعض المعاهدين فقال:
﴿إلا الذين عاهدتم﴾ أي أوقعتم بينكم وبينهم عهداً
﴿من المشركين ثم﴾ أي بعد طول المدة اتصفوا بأنهم
﴿لم ينقصوكم شيئاً﴾ أي من الأمارات الدالة على الوفاء في أنفسهم كما نقض بنو الديل من بني بكر في قتالهم لخزاعة حلفاء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿ولم يظاهروا﴾ أي يعاونوا معاونة تظهر
﴿عليكم أحداً﴾ أي من أعدائكم كما ظاهرت قريش حلفاءهم من بني الدليل على حلفائكم من خزاعة
﴿فأتموا﴾ واشار إلى بعدهم عن الخير بحرف الغاية فقال:
﴿إليهم عهدهم إلى مدتهم﴾ أي وإن طالت؛ قال البغوي: وهم بنو ضمرة
379
حي من كنانة، وكان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه أنهم لم ينقضوا؛ وقال النحاس: ويقال: إن هذا مخصوص يراد به بنو ضمرة خاصة؛ وقال أبو محمد البستي: حدثنا قتيبة قال: ثنا الحجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال: كان بين بني مدلج وخزاعة عهد، وهم الذين قال الله
﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم﴾.
ولما كانت محافظتهم على عهدهم من أفراد التقوى، وكان الأمر بالإحسان إلى شخص من أفعال المحب، قال تعالى معللاً:
﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿يحب المتقين*﴾ أي يفعل بهم وبكم افعال المحب، فهو قول حاث للكل على التقوى، وكل ينزله على ما يفهم، فهو من الإعجاز الباهر.
ولما قرر أمر البراءة إثباتاً ونفياً، أمر بما يصنع بعد ما ضربه لهم من الأجل فقال:
﴿فإذا﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه إذا
﴿انسلخ﴾ أي انقضى وانجرد وخرج ومضى
﴿الأشهر الحرم﴾ أي التي حرمت عليكم فيها قتالهم وضربتها أجلاً لسياحتهم، والتعريف فيها مثله
﴿كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول﴾ [المزمل: ١٥-١٦]
﴿فاقتلوا المشركين﴾ أي الناكثين الذين ضربتم لهم هذا الأجل إحساناً وكرماً؛ قال البغوي: قال الحسن بن الفضل: هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصبر على
380
أذى الأعداء - انتهى.
ومعنى
﴿حيث وجدتموهم﴾ أي في حل أو حرم في شهر حرام أو غيره
﴿وخذوهم﴾ أي بالأسر
﴿واحصروهم﴾ أي بالحبس عن إتيان المسجد والتصرف في بلاد الإسلام وكل مقصد
﴿واقعدوا لهم﴾ أي لأجلهم خاصة فإن ذلك من أفضل العبادات
﴿كل مرصد﴾ أي ارصدوهم وخذوهم بكل طريق يمكن ولو على غرة أو اغتيالاً من غير دعوة، وانتصابه على الظرف لأن معنى اقعدوا لهم: ارصدوهم، ومتى كان العامل في الظرف المختص عاملاً من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة
«في» فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف - ذكره أبو حيان، والتعبير بالقعود للارشاد إلى التأني، وفي الترصد والاستقرار والتمكن وإيصال الفعل إلى الظرف إشارة إلى أن يشغلوا في الترصد كل جزء من أجزاء كل مرصد إن قدروا على ذلك بخلاف ما لو عبر ب
«في» فإنه إنما يدل على شغل كل مرصد الصادق بالكون في موضع واحد منه أيّ موضع كان.
ولما أمر تعالى بالتضييق عليهم، بين ما يوجب الكف عنهم فقال:
﴿فإن تابوا﴾ أي عن الكفر
﴿وأقاموا﴾ أي وصدقوا دعواهم التوبة بالبينه العادلة بأن أقاموا
﴿الصلاة وآتوا الزكاة﴾ أي فوصلوا
381
ما بينهم وبين الخالق وما بينهم وبين الخلائق خضوعاً لله تعالى وتركاً للفساد ومباشرة للصلاح على الوجه الذي أمر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإذا وجد هذان الشاهدان العدلان
﴿فخلوا﴾ أي بسبب ذلك
﴿سبيلهم﴾ أي بأن لا تعرضوا لشيء مما تقدم لأن الله يقبل ذلك منهم ويغفر لهم ما سلف
﴿إن﴾ أي لأن
﴿الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام
﴿غفور رحيم*﴾ أي بليغ المحو للذنوب التي تاب صاحبها عنها والاتباع له بالإكرام.
382
ولما سد عليهم طريق مخالطتهم ما لم يتصفوا بالتوبة المدلول عليها بالشهيدين المذكورين سداً مطلقاً، وفتحه عند الاتصاف بها فتحاً مطلقاً، عطف على ذلك طريقاً آخر وسطاً مقيداً فقال:
﴿وإن أحد من المشركين﴾ أي الذين أمرناكم بقتالهم
﴿استجارك﴾ أي طلب أن تعامله في الإكرام معاملة الجار بعد انقضاء مدة السياحة
﴿فأجره﴾ أي فآمنه ودافع عنه من يقصده بسوء
﴿حتى يسمع كلام الله﴾ أي الملك الأعظم بسماع التلاوة الدالة عليه، فيعلم بذلك ما يدعو إليه من المحاسن ويتحقق أنه ليس كلام الخلق. ولما ذكر إجارته، وكان له بعدها توبة وإصرار. وكان حال التائب قد ذكر، بين ما يفعل به إن أصر فقال:
﴿ثم أبلغه﴾ أي إن أراد الانصراف ولم يسلم
﴿مأمنه﴾ أي الموضع الذي يأمن فيه ثم قاتله بعد بلوغه المأمن إن شئت من غير
382
غدر ولا خيانه؛ قال الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة؛ ثم علل ذلك بما يبين غدرهم بقوله:
﴿ذلك بأنهم﴾ أي الأمر بالإجارة للغرض المذكور بسبب أنهم
﴿قوم لا يعلمون*﴾ أي لا علم لهم لأنه لا عهد لهم بنبوة ولا رسالة ولا كتاب، فإذا علموا أوشك أن ينفعهم العلم.
ولما كان الأمر بالنبذ مظنة لأن يعجب منه، عجب فقال: فمن يتعجب منه؟ وأنكر عليه فقال:
﴿كيف يكون للمشركين﴾ أي أهل العراقة في الشرك الذين توجب عراقتهم فيه ومحبتهم لظهوره نكثَ العهد الذي لا أقبح منه عند العرب ولا أشنع
﴿عهد عند الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال، فهو لا يحب النقض من أوليائه فكيف به من أعدائه
﴿وعند رسوله﴾ أي الذي هو أكمل الخلق وأوفاهم وأحفظهم للعهود وأرعاهم فهم أضداده فأعمالهم أضداد أعماله، وقد بدا منهم الغدر.
ولما كان استفهام الإنكار في معنى النفي، صح الاستثناء منه، فكأنه قيل: لا يكون للمشركين عهد
﴿إلا الذين عاهدتم﴾ أي منهم كما تقدم
﴿عند المسجد الحرام﴾ أي الحرم يوم الحديبية، وهذا مما يدل على أن الاستثناء المتقدم من
﴿الذين﴾ في قوله {براءة من الله
383
ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين} ؛ قال البغوي؛ قال السدي والكلبي وابن اسحاق: هم من قبائل بكر: بنو خزيمة وبنو مدلج وبنو ضمرة وبنو الديل وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية، فلم يكن نقض العهد إلا قريش وبنو الديل من بني بكر فأمر بإتمام العهد لمن لم ينقض، ولما استثنى، بين حكم المستثني فقال:
﴿فما استقاموا لكم﴾ أي ركبوا الطريق الأقوم في الوفاء بعهدهم
﴿فاستقيموا لهم﴾ والقول في
﴿إن الله﴾ أي المحيط بالجلال والجمال
﴿يحب المتقين*﴾ كما سبق.
ولما أنكر سبحانه ان يكون للمشركين غير المستثنين عهد، بين السبب الموجب للانكار مكرراً أداة الإنكار تأكيداً للمعنى فقال:
﴿كيف﴾ أي يكون لهم عهد ثابت
﴿وإن﴾ أي والحال أنهم مضمرون لكم الغدر والخيانة فهم إن
﴿يظهروا عليكم﴾ أي إن يعل أمر لهم على أمركم بأن يظفروا بكم بعد العهد والميثاق
﴿لا يرقبوا﴾ أي لا ينظروا ويرعوا
﴿فيكم﴾ أي في أذاكم بكل جليل وحقير
﴿إلاًّ﴾ أي قرابة محققة
﴿ولا ذمة﴾ أي عهداً، يعني أن الأمر المبيح للنبذ خوف الخيانة، وعلام الغيوب يخبركم أنهم في غاية الخيانة لكم، والإل هذا: القرابة - وهو قول ابن عباس، والمادة تدور على الألة وهي حربة في نصلها
384
عرض، ويلزمها الصفاء والرقة والبريق، ويشبه به الإسراع في العدو، والثبات في نفسها، ومنه القرابة والعهد والتغير في وصفها، ومنه تغير رائحة الإناء وفساد الأسنان والصوت، ومنه الأنين والجؤار في الدعاء مع البكاء وخرير الماء والطعن والقهر-، ومنه: إن هذا - أي كلام مسيلمة - ما يخرخ من إل، أي من ربوبية، وفي إل الله، أي قدرته وإلهيته.
ولما كان ذلك مظنة لأن يقال: قد أكدوا لنا الأيمان وأوثقوا العهود، ولم يدعوا باباً من أبواب الاستعطاف، قال معللاً لما مضى مجيباً لمن استبعده:
﴿يرضونكم﴾ وعبر بأقصى ما يمكن الكلام به من القلوب تحقيقاً لأنهم ليس في قلوبهم شيء منه فقال:
﴿بأفواههم﴾ أي بذلك التأكيد، وصرح بالمقصود بقوله:
﴿وتأبى قلوبهم﴾ أي العمل بما أبدته ألسنتهم، وقليل منهم من يحمله الخوف ونحوه على الثبات أو يرجع عن الفسق ويؤمن
﴿وأكثرهم فاسقون*﴾ أي راسخو الأقدام في الفسق خارجون - لمخالفة الفعل للقول - عما تريدونه، وإذا نقض الأكثر اضطر الأقل إلى موافقتهم.
ولما دام ما ترى من كشف سرائرهم، شرع سبحانه يقيم لهم الدليل على فسقهم وخيانتهم بتذكيرهم ما بدا من بعضهم من النقض بعد أن أثبت فيما مضى أنهم شرع واحد بعضهم أولياء بعض، وفيما يأتي أنهم بعضهم من بعض، فقال معبراً بما يفيد أنهم تمكنوا من ضد
385
الإيمان تمكناً صار به كأنه في حوزتهم:
﴿اشتروا﴾ أي لجوا في أهويتهم بعد قيام الدليل الذي لا يشكون فيه فأخذوا
﴿بآيات الله﴾ أي الذي لا شيء مثله في جلال ولا جمال على ما لها من العظم في أنفسها وبإضافتها إليه
﴿ثمناً قليلاً﴾ من أعراض الدنيا فرضوا بها مع مصاحبة الكفر، وذلك أن أبا سفيان أطعمهم أكلة فنقضوا بها عهودهم
﴿فصدوا﴾ أي فسبب لهم ذلك وأداهم إلى أن صدوا
﴿عن سبيله﴾ أي من يريد السير عليه ومنعوا من الدخول في الدين أنفسهم ومن قدروا على منعه.
ولما دل على ما أخبر به من فساد قلوبهم، استأنف بيان ما استحقوه من عظيم الذم بقوله معجباً منهم:
﴿إنهم ساء ما﴾ وبين عراقتهم في القبائح وأنها في جبلتهم بذكر الكون فقال:
﴿كانوا يعملون*﴾ أي يجددون عمله في كل وقت، وكأنه سبحانه يشير بهذا إلى ما فعلت عضل والقارة بعاصم بن ثابت وخبيب بن عدي، ذكر ابن إسحاق في السيرة عن عاصم بن عمر رضي الله عنه - والبخاري في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه -، كل يزيد على صاحبه وقد جمعت بين حديثيهما أنه قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين ويقرؤوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام
386
فبعث معهم نفراً ستة - وقال البخاري: عشرة - وأمر عليهم عاصم بن ثابت فخرج معهم، حتى إذا كانوا بالرجيع ماء لهذيل غدروا بهم فاستصرخوا عليهم هذيلاً، فلما أتوهم أخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا: إنا والله لا نريد قتلكم، ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئاً من أهل مكة، ولكن عهد الله وميثاقه أن لا نقتل منكم أحداً، فأما عاصم فلم يقبل وقاتل حتى قتل هو ناس من أصحابه، ونزل منهم ثلاثة نفر على العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم أطلقوا أوتار قسيهم فربطوهم بها، فقال رجل منهم: هذا أول الغدر، والله لا أصحبكم، إن لي بهؤلاء أسوة - يريد القتلى، فجرروه وعالجوه فأبى أن يصحبهم فقتلوه؛ فانطلقوا بخبيب وزيد بن الدثنة حتى باعوهما بمكة فقتلوهما.
وقصة العرنيين الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأظهروا الإسلام ثم خرجوا إلى لقاح النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقتلوا الراعي واستاقوا اللقاح بعد ما رأوا من الآيات، فبعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آثارهم فقتلهم؛ وفي تاريخ ابن الفرات عن القتبي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث عبد الله بن عوسجة البجلي إلى بني حارثة بن عمرو بن قرط بكتاب فرقعوا دلوهم بالكتاب فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما لهم! أذهب الله عقولهم، فهم أهل رعدة وكلام مختلط؛ ولما خرج أهل مكة بعد أن عاملهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغاية
387
الإحسان أعتقهم وعفا عنهم بعد تلك الحروب والأذى في المبالغة في النكايات التي لا يعفو عن مثلها إلا الأنبياء، خرجوا معه إلى حنين غير مريدين لنصره ولا محبين لعلو أمره، بل هم الذين انهزموا بالناس - كما نقله البغوي عن قتادة؛ وقال أبو حيان ويقال: إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة -انتهى. وقال الواقدي: وخرج رجال مكة مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يتغادر منهم أحد على غير دين ركباناً ومشاة، ينظرون لمن تكون الدائرة فيصيبون من الغنائم، ولا يكرهون أن تكون الصدمة بمحمد وأصحابه، وقال هو وغيره: فلما كانت الهزيمة حيث كانت والدائرة على المسلمين تكلم قوم بما في أنفسهم من الكفر والضغن والغش، وذكروا أنه عزم ناس منهم على قتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولكن الله منعه منهم.
هذا بعض ما غدر فيه كفار العرب، وأما اليهود فكلهم نقض: بنو قينقاع ثم النضير ثم قريظة ثم أهل خيبر، حتى كان ذلك سبب إخراجهم منها وإجلائهم إلى بلاد الشام، ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أنهم قد تبين لهم مثل الصبح جميعاً ما أخبرهم به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما لم يرجعوا لمجرد أهوائهم كانوا قد اشتروا بذلك ثمناً قليلاً، وهو
388
التمتع بما هم فيه مدة حياتهم على ما صاروا إليه من سفول الكلمة وإدبار الأمر، فمن قاده هواه إلى ترك السعادة العظمى لهذا العرض الزائل اليسير كان غير مأمون على شيء لأنه رهينة داعي الهوى وأمر الشيطان، لأنه أول ما بدأ بنفسه فغدر بها وغشها غير ناظر في مصلحة ولا مفكر في عاقبة.
389
ولما أخبر تعالى بعراقتهم في الفسق، دل عليه بأن خيانتهم ليست خاصة بالمخاطبين، بل عامة لكل من اتصف بصفتهم من الإيمان، فمدار خيانتهم على الوصف، فقال:
﴿لا يرقبون في مؤمن إِلاًّ﴾ أي قرابة وأصلاً جيداً ثابتاً
﴿ولا ذمة﴾ أي عهداً أكيداً
﴿وأولئك﴾ أي البعداء من كل خير
﴿هم﴾ أي خاصة لتناهي عدوانهم
﴿المعتدون*﴾ أي عادتهم المبالغة في حمل أنفسهم على أن يعدوا الحدود لعدم ما يردهم عن ذلك من وازع إلهي ورادع شرعي كما فعل عامر بن الطفيل بأهل بئر معونة مع أنهم في جوار عمه وكان من خبرهم أن عمه أبا براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة قدم على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال له: لو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد رجوت أن يستجيبوا لك، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أخشى عليهم أهل نجد، قال أبو براء: أنا لهم جار. فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة المعنق ليموت في سبعين رجلاً من أصحابه
389
من خيار المسلمين، فما نزلوا بئر معونه بعثوا حرام بن ملحان بكتاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى عامر بن الطفيل فلم ينظر في كتابه وعدا عليه فقتله، ثم استصرخ عليهم بني عامر فأبوا وقالوا: لن نخفر أبا براء، فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم: عصية ورعلاً وذكوان فقتلوهم فلم يفلت منهم إلا ثلاثة نفر عمرو بن أمية الضمري أحدهم، فعظم ذلك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودعا على قتلتهم شهراً؛ قال البغوي: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن أهل الطائف أمدوهم - يعني قريشاً - بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهذا الذي أحكمه تعالى من نبذ العهد نظر للدين، لأنه نظر لجميع أهله الذين لا يوجد إلا بهم.
ولما بين ما أوجب بعدهم منهم ومعاداتهم لهم، بين ما يصيرون به أهلاً فقال
﴿فإن تابوا﴾ أي بالإيمان بسبب ما أبديتم لهم من الغلظة
﴿وأقاموا﴾ أي أيدوا ذلك بأن أقاموا
﴿الصلاة﴾ أي بجميع حدودها
﴿وآتوا الزكاة﴾ أي كما حده رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿فإخوانكم﴾ أي هم، وبين أنها ليست أخوة النسب فقال:
﴿في الدين﴾ لهم ما لكم وعليهم ما عليكم، فلا تعرضوا لهم بما يكرهونه.
ولما كان كأنه قيل بعثاً وتحريضاً على تأمل ما فصل: قد فصلنا لكم
390
أمرهم في هذه الآيات تفصيلاً، عطف عليه قوله:
﴿ونفصل﴾ أي في كل أمر يحتاجون جميع
﴿الآيات﴾ وعظم هذه الآيات وحثم على تدبرها بقوله:
﴿لقوم يعلمون*﴾ أي صار العلم لهم صفة فلهم ملكة يتصرفون بها في أصوله وفروعه، لا يغترون بمجرد كلام من شأنه الرداءة والمخالفة بين القول والعمل، والاعتراض بهذا بين هذه الجمل المتلاحمة إشارة إلى عظم الأمر الذي نبه عليه وتحريض على إنعام النظر فيه ليعلم أن مدخوله جليل الأمر عظيم القدر لئلا يظن أنه تكرار.
ولما بين السبب الموجب لمجازاتهم بجنس عملهم، وهو البراءة منهم وما يتبع ذلك إلى أن ختم بتقدير توبتهم، رجع إلى قسيم قوله
﴿فما استقاموا لكم﴾ فقال:
﴿وإن نكثوا أيمانهم﴾ أي التي حلفوها لكم؛ ولما كان النقض ضاراً وإن قصر زمنه، أتى بالجار فقال:
﴿من بعد عهدهم﴾ أي الذي عقدوه
﴿وطعنوا﴾ أي أوقعوا الطعن
﴿في دينكم﴾ أي بقول أو فعل.
ولما كان هذا الفعل لا يستقل به في الأغلب إلا الرؤساء، أشار إلى ذلك بقوله:
﴿فقاتلوا﴾ ووضع موضع ضميرهم تحريضاً على قتالهم وإشارة إلى أنهم ما نكثوا وأقدموا على هجنة الكذب ولم يستهجنوا الخروج عن عادات الكرام إلا وقد رسخوا في الكفر فقال:
﴿أئمة الكفر﴾ ثم أشار - بقوله معللاً لجواز المقاتله:
﴿إنهم لا أيمان لهم﴾ إلى أن
391
ذلك ولو فعله الأتباع ولم يكفهم الرؤساء فهو عن تمال منهم فابدؤوا بالرؤوس فاقطعوها تنقطع الأذناب، وقراءة ابن عامر بالكسر معناها: لا أمان لهم لأنهم قد نقضوا العهد الموجب له بما وقع منهم، ومن طعن من أهل الذمة في الإسلام طعناً ظاهراً جاز قتله، فإن العهد مأخوذ عليه أن لا يطعن، ثم علل المقاتله بقوله:
﴿لعلهم ينتهون*﴾ أي اجعلوا قصدكم لقتالهم أن يكون حالهم حال من ينتهي عن غيه بما يرى منكم من صادق الجد بماضي الحد، روى البخاري في التفسير عن حذيفة رضي الله عنه قال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة ولا من المنافقين إلا أربعة احدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده.
ولما نفى أيمانهم بنفي إيمانهم، شرع يقيم الدليل على ذلك بأمور ارتكبوها، كل منها بسبب باعث على الإقدام عليهم، ويحث على قتالهم في صورة تعجيب ممن يتواني فيه فقال:
﴿ألا﴾ وهو حرف عرض، ومعناه هنا الحض لدخول همزة الإنكار على النافي فنفته فصار مدخولها مثبتاً على سبيل الحث عليه فهو ابلغ مما لو أثبت بغير هذا الأسلوب
﴿تقاتلون قوماً﴾ أي وإن كانوا ذوي منعة عظيمة
﴿نكثوا أيمانهم﴾ أي في قصة عاصم وأصحابه والمنذر وأصحابه والإعانة على خزاعة وغير ذلك،
392
فكان النكث لهم عادة وخلقاً، وهذا يدل على أن قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم ليكون ذلك زاجراً عن النقض، وكانت قصة خزاعة أنه كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة قتل في الجاهلية، وكانت خزاعة قد دخلت في عهد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحديبية لما كان لهم فيه من المحبة من مسلمهم وكافرهم لما بينهم من الحلف - كما تقدم آخر الأنفال، ودخلت بنو بكر في عهد قريش فمرت على ذلك مدة، ثم إن أنس بن زنيم الديلي هجا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعه غلام من خزاعة فوقع به فشجه فخرج إلى قومه فأراهم شجته فثار الشر مع ما كان بينهم، وما تطلب بنو بكر من خزاعة من دمائها، فكلمت بنو نفاثة من بني بكر أشراف قريش فوجدوا القوم إلى ذلك سراعاً فأعانوهم بالسلاح والكراع والرجال، فخرج نوفل بن معاوية الديلي وهو يومئذ قائدهم؛ قال ابن إسحاق: وليس كل بني بكر بايعه - وقال الواقدي: واعتزلت بنو مدلج فلم ينقضوا العهد - حتى بيت خزاعة وهم على الوتير ماء لهم، فأصابوا منهم رجلاً وتجاوزوا واقتتلوا وقاتل معهم
393
من قريش من قاتل بالليل مستخفياً متنكرين منتقبين: صفوان بن أمية ومكرز بن حفص بن الأخيف وحويطب بن عبد العزى وعكرمة بن أبي جهل وأجلبوا معهم أرقاءهم، وكانت خزاعة آمنة لمكان العهد والموادعة.
ولما ذكرهم بمطلق نكثهم في حقهم عامة، وذكرهم بما خصوا به سيدهم بل سيد الخلق كلهم فقال:
﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ أي من مكة في عمرة القضاء، بل أمروه بالخروج عند انقضاء الثلاثة الأيام وألحو في ذلك وهو وإن كان قاضاهم على ذلك، لكن قد نقل ابن إسحاق وغيره في قصة النداء بسورة براءة أنه كان في القضية والعهد الذي كان بينه وبينهم أن لا يمنع من البيت أحد جاءه زائراً، ولعلهم هموا بإخراجه قبل الثلاثة الأيام لما داخلهم من الحسد عند ما عاينوا من نشاط أصحابه وكثرتهم وحسن حالهم، وذلك غير بعيد من أفعالهم، وإظهارهم التبرؤ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى اجترؤوا - وهو أعلى الخلق مقداراً، وأظهرهم هيئة وأنواراً وأطهرهم رسوماً وآثاراً - على الإلحاح عليه في الخروج من بلد آبائه وأجداده الذين هم أحقهم بها ومسقط رأسه وموضع مرباه، ولكن لم أراه مصرحاً به، وهوعندي على ما فيه أولى مما ذكروه من الهم بإخراجه عند الهجرة على ما لا يخفى، أو يكون
394
المراد ما همّ به ابن أبي المنافق ومن تابعه من أصحابه من إخراج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المدينة حيث قال في غزوة المريسيع: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الذل بعد إعطائهم العهود على الإيواء والنصرة والإسلام، وذلك لتذكير المؤمنين بمسارعتهم إلى النقض بعد أن أثبت أنهم في الالتحام في كيد الإسلام كالجسد الواحد، فكأنه يقول: إذا ترك هؤلاء إيمانهم فاولئك أحرى أن ينقضوا أيمانهم، وهو بعث للمؤمنين على التبرؤ من الكافرين منافقين كانوا أو مجاهرين مقاربين أو مباعدين.
ولما ذكرهم بالخيانة عامة وخاصة، أتبعها ما حققها بالقتال فقال:
﴿وهم بدءوكم﴾ أي بتطابق من ضمائرهم وظواهرهم
﴿أول مرة﴾ أي بالقتال والصد في الحديبية بعد إخباركم إياهم بأنكم لم تجيئوا للقتال وأنكم ما جئتم إلا زواراً للبيت الحرام الذي الناس فيه سواء وأنتم أحق به منهم، وذلك أول بالنسبة إلى هذا الثاني مثل قوله
﴿إنكم رضيتم بالقعود أول مرة﴾ وقال بعض المفسرين: المراد بأول مرة قتالهم خزاعة، وهو واضح لأنه بعد عقد الصلح، وقيل: في بدر بعد ما سلمت عيرهم وقالوا: لا نرجع حتى نستأصل محمداً وأصحابه، وقيل: المراد به مطلق القتال لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءهم بالكتاب المنير ودعاهم بغاية اللين، وتحداهم به عند التكذيب، فعدلوا عن ذلك إلى القتال فهم
395
البادئون البادىء أظلم.
ولما أمرهم بالقتال وكان مكرهاً إلى النفوس على كل حال. شرع يبين الأسباب الحاملة على التواني عن قتالهم، وحصرها في في الخشية والعاطفة، وقسم العاطفة إلى ما سببه القرب في محاسن الأفعال وإلى ما سببه القرب في النسب والصهر، ونقض الكل وبين أنه لا شيء منها يصلح للسببية، فقال بادئاً بالخشية لأنها السبب الأعظم في ترك المصادمة منكراً عليهم موبخاً لهم ليكون أبلغ في الحث على قتالهم منبهاً على أن التواني عنهم مصحح للوصف بالجبن ورقة الدين:
﴿أتخشونهم﴾ أي أتخافون أن يظفرون بكم في القتال بأن يكونوا على باطلهم أشد منكم على حقكم
﴿فالله﴾ أي الذي له مجامع العظمة
﴿أحق﴾ أي منهم
﴿أن تخشوة﴾ أي بأن يكون مخشياً لكم لما تعلمون من قدرته في أخذه لمن خالفه ولو بعد طول الأناة
﴿إن كنتم مؤمنين*﴾ أي فإن من صدق بانه الواحد الذي تفرد بصفات العظمة لم ينظر إلى غير هيبته.
ولما بكت في التواني عنهم، وعدهم بما يزيل خشيتهم منهم، بل يوجب إقدامهم عليهم ورغبتهم فيهم، فقال مصرحاً فيهم، فقال مصرحاً بما تضمنه الاستفهام الإنكاري في
﴿ألا تقاتلون﴾ من الأمر:
﴿قاتلوهم﴾ أي لله لا لغرض غيره
﴿يعذبهم الله﴾ أي الذي أنتم مؤمنون بأنه المتفرد بصفات الجلال
396
والجمال
﴿بأيديكم﴾ أي بأن تقتلوهم وتأسروهم وتهزموهم
﴿ويخزهم﴾ أي بالذل في الدنيا والفضيحة والعذاب في الأخرى.
ولما كان ذلك قولاً لا يقتضي النصر الذي هو علو العاقبة قال:
﴿وينصركم عليهم﴾ أي فترضوا ربكم بذلك لإذلالة من يعاديه بكم؛ ولما كان نكالهم بما ذكر يثمر لبعض المؤمنين سروراً لهم فيه حظ، بين تعالى أنه لا يؤثر في العمل بعد ثباته على أساس الإخلاص فقال:
﴿ويشف﴾ أي بذلك
﴿صدور قوم مؤمنين*﴾ أي راسخين في الإيمان، أسلفوا إليهم مساوىء أوجبت ضغائن وإحناً كخزاعة وغيرهم ممن أعانوا عليه أو أساؤوا إليه.
397
ولما كان الشفاء قد لا يراد به الكمال، أتبعه تحقيقاً لكماله قوله:
﴿ويذهب غيظ قلوبهم﴾ أي يثبت بها من اللذة ضد ما لقوة منهم من المكروه، وينفي عنها من الألم بفعل من يريد سبحانه من أعدائهم وذل الباقين ما كان قد برح بها، ولقد وفى سبحانه بما وعد به، فكانت الآية ظواهر الدلائل.
ولما كان التقدير: قاتلوهم فإنكم إن قاتلتموهم كان كذا، عطف سبحانه على أصل هذه الجملة قوله:
﴿ويتوب الله﴾ أي الملك الذي له صفات الكمال
﴿على من يشاء﴾ أي منهم فيصيروا إخواناً لكم أولياء، والمعنى قاتلوهم يكن القتال سبباً لهذه الخمسة الأشياء، وأما التوبة فتارة
397
تسبب عنه وتارة عن غيره، ولأجل احتمال تسببها عنه قرىء شاذاً بالنصب على أن الواو للصرف؛ ولما كان ما تضمنه هذا الوعد الصادق يدور على القدرة والعلم، وكان - العلم يستلزم القدرة، فكان التقدير: فالله على كل شيء قدير، عطف عليه قوله
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة
﴿عليم﴾ أي بكل شيء وبمن يصلح للتوبة ومن لا يصلح وما في قلوبكم من الإقدام والإحجام لو برز إلى الخارج كيف كان يكون
﴿حكيم*﴾ أي أحكم جميع أموره، ولم يعلق الأحكام الشرعية من أفعالكم الكسبية إلا بما تعلق العلم به في حال ظهوره.
ولما كان التقدير - لما أرشد إليه تقاعدهم عن القتال وإدخال
«أم» المرشد إلى أن مدخوله وسط الكلام فإن الابتداء له الألف وحدها: وهل حسبتم أنه تعالى لا يعلم ذلك أو لا يقدر على نصركم؟ بنى عليه قوله موبخاً لمن تثاقل عن ذلك بنوع تثاقل:
﴿أم حسبتم﴾ أي لنقص في العقل انه يبني الأمر فيه على غير الحكمة، وذلك هو المراد بقوله:
﴿أن تتركوا﴾ أي قارين على ما أنتم عليه من غير أن تبتلوا بما يظهر به المؤمن من المنافق
﴿ولما﴾ عبر بها لدلالتها - مع استغراق الزمان الماضي - على أن يتبين ما بعدها متوقع كائن
﴿يعلم الله﴾ أي المحيط بجميع صفات الكمال
﴿الذين جاهدوا منكم﴾ أي علماً ظاهراً تقوم به الحجة عليكم في
398
مجاري عاداتكم على مقتضى عقولكم بأن يقع الجهاد في الواقع بالفعل.
ولما كان المعنى: جاهدوا مخلصين، ترجمه وبسطه بقوله
﴿ولم﴾ أي ولما يعلم الذين لم
﴿يتخذوا﴾ ويجوز أن يكون حالاً، ودل على تراخي الرتب عن مكانته سبحانه بقوله:
﴿من دون الله﴾ أي الذي لا يعدل عنه ويرغب في غيره من له أدنى بصيرة - كما دل عليه الافتعال - لأنه المنفرد بالكمال، وأكد النفي بتكرير
﴿لا﴾ فقال:
﴿ولا رسوله﴾ أي الذي هو خلاصة خلقه
﴿ولا المؤمنين﴾ أي الذين اصطفاهم من عباده
﴿وليجة﴾ أي بطانة تباطنونها وتسكنون إليها فتلج أسراركم إليها وأسرارها إليكم، فإن الوليجة كل شيء أدخلته في شيء ليس منه، والرجل يكون في قوم وليس منهم وليجة، فوليجة الرجل من يختصه بدخيلة أمره دون الناس، يقال: هو وليجتي وهم وليجتي - للواحد والجمع - نقل ذلك البغوي عن أبي عبيدة، قال ابن هشام وليجة: دخيلاً وجمعها ولائج، يقول: لم يتخذوا دخيلاً من دونه يسرون إليه غير ما يظهرون نحو ما يصنع المنافقون، يظهرون الإيمان للذين
399
آمنوا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم.
والحاصل أنه لا يكون الترك بدون علم الأمرين حاصلين، والمراد بنفي العلم نفي المعلوم، فالمعنى: ولما يكن مجاهدون مخلصون.
ولما كان ظاهر ذلك مظنه أن يتمسك به من لم يرسخ قدمه في المعارف، ختم بقوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿خبير بما تعملون*﴾ أي سواء برز إلى الخارج أو لا.
ولما حذرهم من اتخاذ وليجة من دونه، شرع يبين أن الوليجة التي يتخذها بعضهم لا تصلح للعاطفة بما اتصفت به من محاسن الأعمال مالم توضع تلك المحاسن على الأساس الذي هو الإيمان المبين بدلائلة، فقال سائقاً له مساق جواب قائل قال: إن فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته فيهم من أفعال الخير ما يدعو إلى الكف عنهم من عمارة المسجد الحرام وخدمته وتعظيمه!
﴿ما كان للمشركين﴾ عبر بالوصف دون الفعل لأن جماعة ممن أشرك أسلم بعد ذلك فصار أهلاً لما نفى عنهم
﴿أن يعمروا مساجد الله﴾ أي وهو المنزه بإحاطته بصفات الكمال؛ قال البغوي: قال الحسن: ما كان للمشركين أن يتركوا فيكونوا أهل المسجد الحرام، ثم قال في توجيه قراءة الجمع: قال الحسن: إنما قال: مساجد الله، لأنه قبلة المساجد كلها - يعني فعامره عامر جميع المساجد، ويجوز أن يراد الجنس، وإذا
400
لم يصلحوا لعمارة الجنس دخل المسجد الحرام لأنه صدر الجنس، وذلك آكد لأنه بطريق الكناية - قال الفراء: وربما ذهب العرب بالواحد إلى الجمع وبالجمع إلى الواحد، ألا ترى أن الرجل يركب البرذون فيقول: أخذت في ركوب البراذين، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار - انتهى.
فتحرر أن المعنى: منعهم من إقامة شعائره بطواف أو زيارة أو غير ذلك لأنهم نجس - كما يأتي
﴿شاهدين على أنفسهم﴾ أي التي هي معدن الأرجاس والأهوية
﴿بالكفر﴾ أي بإقرارهم، لأنه بيت الله وهم يعبدون غير الله وقد نصبوا فيه الأصنام بغير إذنه وادعوا أنها شركاؤه، فإذن عمارتهم تخريب لتنافي عقدهم وفعلهم، قال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: شهادتهم سجودهم للأصنام، وذلك أنهم كانوا نصبوا أصنامهم خارج البيت الحرام عند القواعد وكانوا يطوفون بالبيت عراة، كلما طافوا شوطاً سجدوا لأصنامهم.
ولما نفي قبيحُ ما يفعلون حسن ما يعتقدون، أشار إلى بعدهم عن الخير بقوله:
﴿أولئك حبطت أعمالهم﴾ أي من العمارة والحجابة والسقاية وغير ذلك، فسدت ببطلان معانيها لبنائها على غير أساس
﴿وفي النار هم﴾ أي خاصة ومن فعل كفعلهم فهو منهم
﴿خالدون*﴾
401
أي بجعلهم الكفر مكان الإيمان.
ولما نفى عنهم أهلية العمارة، بين من يصلح لها فقال
﴿إنما يعمر مساجد الله﴾ أي إنما يؤهل لذلك القرب ممن له الأسماء الحسنى والصفات العلى حساً بإصلاح الذات ومعنى بالتعظيم بالقربات من قمها وتنظيفها ورمّ ما تهدم وتنويرها بالمصابيح الحسية وبالمعنوية من الذكر والقراءة - ودرس العلم أجلّ ذلك - وصيانتها مما لم تبن له من أحاديث الدنيا
﴿من آمن بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله
﴿واليوم الآخر﴾ أي فكان من أهل المعرفة الذين تصح عبادتهم وتفيدهم، فإنها إنما تفيد في ذلك اليوم، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن هذه البراءة عن لسانه أخذت، فالإيمان بها إيمان به لا محالة، فعدم ذكره أقعد في إيجاب الإيمان به
﴿وأقام الصلاة وآتى الزكاة﴾ أي وأيد دعواه الإيمان بهذين الشاهدين، وذلك أن عمارة المساجد ليست مقصودة لذاتها، بل الدلالة على رسوخ الإيمان، والصلاة أعظم عمارتها، والزكاة هي المعين لعمدتها على عمارتها.
ولما كان ربما فهم من قوله:
﴿آمن﴾ أنه يكفي في الإيمان مجرد الإقرار باللسان، أعلم أنه لابد في ذلك من إيجاد التصديق حقيقة المثمر لخشية الله فلذلك قال:
﴿ولم يخش﴾ أي في الأعمال الدينية
﴿إلا الله﴾
402
أي ولم يعمل بمقتضى خشية غير الملك الأعظم من كف عما يرضي الله بما فيه سخطه، بل تقدم على ما انحصر رضى الله فيه ولو أن فيه تلفه، وحاصله أنه يقدم خشيته من الله على خشيته من غيره، فهو يرجع إلى قوله
﴿فالله أحق أن تخشوه﴾ ولكن هذا أبلغ لكونه نفى نفس الخشية وإن كان المراد نفي لازمها عادة، وفيه تعرض لهم بأنهم لا يصلحون لخدمته لأنهم يخافون الأصنام ويفعلون معها بعبادتها فعل من يخافها؛ ولما سبب عما مضى نفياً وإثباتاً أن المتصف بهذه الأصاف يكون جديراً بالهداية وحقيقاً بها، قال تعالى:
﴿فعسى أولئك﴾ أي العالو الهمم
﴿أن يكونوا﴾ أي جبلة ورسوخاً
﴿من المهتدين*﴾ فأقامهم - مع ما قدم لهم من الكمال بالمعارف والأفعال - بين الرجاء والخوف مع الإشارة بإفراد الخشية إلى ترجيح الخوف على الرجاء إيذاناً بعلو أمره وعظيم كبره إشارة إلى أنه لا حق لأحد عليه وأنه إن شاء أثاب، وإن أراد حكم - وهو الحكم العدل - بالعقاب، لا يسأل عما يفعل، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وعزة المرام، ومادة عسى بجميع تصاريفها تدور على الحركة، وهذه بخصوصها للأطماع، والحاصل أن من اتصف بالأوصاف الأربعة كان صالحاً وخليقاً وجديراً وحقيقاً بان يتحرك طمعه ويمتد أمله إلى أن يكون من جملة أهل الهدى، فكيف توجبون أنتم لمن لم يتصف بواحد منها ما يختص به المهتدون من الموالاة،
403
هكذا كان ظهر لي أولاً في مدار المادة، ثم ظهر لي أن ذلك في أكثر تقاليبها، مع إمكان أن يكون غيره للإزالة، وأن الشامل لها - يائية وواوية بتقاليبها العشر: عسى، عيس، سعى يسع، عسو، عوس، سعو، سوع، وسع، وعس - أنها لما يمكن أن يكون، وهو جدير وخليق بأن يكون، من قولهم: أعس به - أي أخلق.
وبالعسى أن يفعل - أي بالحري، وإنه لمعساة بكذا - أي مخلقه، وبهذا فسرها سيبويه: قال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح لأبي علي: وقال سيبويه: إن عسى بمنزلة اخلولق، والمعساء كمكسال: الجارية المراهقة لأنها جديرة بقبول النكاح، ومن ثمَّ اتت للطمع والإشفاق، وقد يزيد الرجاء فيطلق على القرب فيكون مثل كاد، وقد يشتد فيصل إلى اليقين فنستعمله حينئذ في معنى كان، ومنه: عسى الغوير ابؤساً لكن قال الرضى: وأنا لا أعرف عسى في غير كلامه تعالى لليقين. وقد يضعف الرجاء فيصير شكاً، ومنه المعسية كمحسنة للناقة، قد شك أبها لبن أم لا، وعسى النبات - كفرح ودعا:
404
غلظ ويبس، أي صار خليقاً لأن يرعى وأن يقطع، واليد من العمل مثله، أي فصارت جديرة بالصبر على المشاق، والعاسي، والنخل: لأنه جدير بكمال ما يطلب منه من المنافع، وعسي الشيخ كرضي عساء وعسا كدعا يعسو: كبر، أي صار خليقاً بالموت وبأن لا يتعلم ما لم يكن في غريزته، وكذا عسى وعسا الإنسان عن الأدب، أي كبر عنه، والعود يبس وصلب واشتد أي فصار خليقاً لما يراد منه، والليل: اشتدت ظلمته، فصار جديراً بمطابقة اسمه لمسماه وبتغطية الأمور، والعسو: الشمع، كأنه لإزالته ظلمة الليل بنوره إذا أحرق، وعسي بالشيء كفرح: لزمه، أي فصار جديراً بإضافته إليه؛ والعيس - بالفتح: ضراب الفحل ويقال: ماؤه لأنه جدير بالإنتاج، والعيس - بالكسر؛ الإبل البيض يخالط بياضها شقرة، وجمل وظبي أعيس وناقة عيساء، لأنها خليقة بكل محمدة لحسن لونها، وتعيست الإبل صارت بياضاً في سواد كذلك أيضاً وعيساء: امرأة والأنثى من الجراد، لشبهها بلون العيس، وأعيس الزرع إذا لم يكن فيه رطب، لأنه صار حقيقاً بالحصاد، والعوس - بالفتح - والعوسان: الطوفان بالليل، لأنه جدير ببلوغ المقاصد،
405
وبالضم: ضرب من الغنم وهو كبش عوسي، إلحاقاً لها بالعيس لكنها لصغرها اختير لها الضم جبراً لها وتقوية وتفاؤلاً بالكبر، واختير للإبل الكسر تفاؤلاً بسهولة القياد، وبالتحريك: دخول الشدقين عند الضحك وغيره: تشبيهاً بالغنم، فكأنه جدير بأن يترك ما يحدث منه ذلك من الضحك وغيره، والنعت أعوس وعوساء، وعاس على عياله: كد عليهم وكدح، وعياله: قاتهم، وماله عوساً وعياسة: أحسن القيام عليه فعمل بما هو الأليق به في كل ذلك والعواسة - بالضم: الشربة من اللبن وغيره، لأنها جديرة بالري، والأعوس: الصقيل والوصّاف للشيء، لأنه جدير بإظهار الخبء، والعوساء كبراكاء: الحامل من الخنافس، لأنها في تلك الحالة أجدر بما تفهمه مادتها من الكراهة فإنه يقال: خنفس عن القوم: كرههم وعدل عنهم، والخنافس - بالضم: الأسد، لأنه جدير بأن يكره ويعدل عنه؛ والسعي: عدو دون الشد وكل عمل سعي؛ قال في القاموس: سعى كرعى: قصد وعلم ومشى وعدا ونمّ وكسب، وكل ذلك يكون جديراً بدرك حاجته، والسعاية: مباشرة عمل الصدقات التي بها يدرك الإمام أخذ الحقوق، فيكون خليقاً بإغناء الفقراء، وسعت الأمة: بغت، فكانت خليقة بعمل الإماء عند العرب، وساعاها: طلبها للبغاء، وأسعاه: جعله يسعى، والمسعاة: المكرمة
406
والمعلاة في أنواع المجد، لأنها جديرة بأن يسعى لها، واستسعى العبد: كلفه من العمل ما يؤدي به عن نفسه إذا عتق بعضه ليعتق به ما بقي لأنه جدير بذلك، والسعاية - بالكسر: ما كلف من ذلك؛ والسيع: الماء الجاري على وجه الأرض، وقد انساع - إذا جرى، لأن الماء خليق بالجري والحركة، وساع الماء والشراب: اضطرب على وجه الأرض، وسيعاء من الليل وكسيراء: قطع منه، كأنه ينظر إلى الساعة وهي جزء، هو لنفاسته خليق بأن يحفظ ولا يضيع وأن يتدارك إن ضيع، والسياع - بالفتح: ما يطين به، والشحم تطلى به المزادة، كأنه يمنع ما هو خليق بالجري، وقد سيعت الجب - إذا طينته بطين أو جص؛ وكذلك الزق والسفن إذا طليت بالقار، والمسيعة: خشبة مملسة يطين بها تكون مع حذاق الطيانين، والتسييع، التطيين بها تكون مع حذاق التدهين، وقال القزاز: والسياع: تطيينك بالجص أو الطين أو القير، تسيع به السفن، والسياع: شجر العضاه له ثمر كهيئة الفستق وشجر اللبان، وكل منها خليق بالرغبة فيه، والمسياع؛ الناقة تذهب في المرعى، كأنها شبهت بالماء الجاري، وهي أيضاً خليقة بالسمن، والتي تحمل الضيعة، وسوء القيام عليها، والتي يسافر عليها ويعاد، لأنها خليقة بأن يرغب فيها فيها وأساعة: أهمله، أي أزال ما هو خليق به من الحفظ فصار خليقاً
407
بالهلاك، والسعوة - بالكسر: الساعة كالسعواء بالكسر والضم - وقد تقدم تخريجها - والمرأة البذية الخالعة، كأنها جديرة بسرعة الفراق كالساعة، والساعي: الوالي على أي أمر وقوم كان، ولليهود والنصارى: رئيسهم، لأنه خليق بأن يسعى عليهم ويذب عنهم، والسعاة: التصرف، لأن الإنسان جدير به، وسعيه علم للعنز، لأنها خليقة بالسعي، والسعاوي - بالضم: الصبور على السهر والسفر، نسبة إلى السعي على وجه بليغ وهو خليق بأن يرغب فبه، وأسعوا به، أي طلبوه بقطع همزتها، والساعة: جزء من أجزاء الجديدين والوقت الحاضر والقيامة، لأن كل ذلك جدير وحقيق بالاحتفاظ من إضاعته، والهالكون كالجاعة للجياع، كأنهم أضاعوا ساعتهم فكانوا جديرين بما حصل لهم، وساعة سوعاء: شديدة، وساعت الإبل تسوع: بقيت بلا راع، فصارت جديرة بالهلاك والضياع، وأساعه: أهمله وضيعه، فصار كذلك، ومنه ناقة مسياع: تدع ولدها حتى يأكله السباع، وبعد سوع من الليل وسواع، أي هدوئه، وأسوع: انتقل من ساعة إلى ساعة فصار جديراً بأن يتحفظ فيتدارك في الثانية ما فاته في الأولى، وأسوع الحمار: أرسل غرموله، فصار جديراً بالنزوان، وسواع: اسم صنم عبد في عهد نوح عليه السلام، غرقه الطوفان فاستثاره
408
إبليس حتى عبد أيضاً، لأنه كان خليقاً - عندهم وفي زعمهم - بما أهّلوه له - تعالى الله عن ذلك! والوسع مثلثة: الجدة والطاقة كالسعة، ومعناها الخلاقة بالاحتمال، وسعه الشيء - بالكسر - يسعه كيضعه سعة كدعة وزنة: كان جديراً باحتماله، واللهم سع علينا، أي وسع، وليسعك بيتك، أمراً بالقرار فيه، وهذا الإناء يسع عشرين كيلاً، أي يتسع لها، والواسع: ضد الضيق - كالوسيع، وفي الأسماء الحسنى: الكثير العطاء الذي يسع لما يسأل، أو المحيط بكل شيء أو الذي وسع رزقه جميع خلقه ورحمته كل شيء، والوساع كسحاب: الندب، وهو الخفيف في الحاجة الظريف النجيب، لأنه جدير بما يندب له، ومن الخيل: الجواد أو الواسع الخطو والدرع - كالوسيع، وقد وسع ككرم وساعة وسعة وأوسع: صار ذا سعة، والله عليه: أغناه، وتوسعوا في المجلس: تفسحوا، فصاروا جديرين باحتمال الداخل بينهم، ووسعه توسيعاً ضد ضيقه، ورحمة والله وسعت كل شيء، اي أحاطت به، ووسع كل شيء علماً، أي أحاط به وأحصاه؛ والوعس كالوعد: شجر تعمل منه البرابط والعيدان، لأنه أحق الأشجار بذلك، والرمل السهل يصعب فيه المشي، لأنه يرى لسهولته خليقاً بأن يمشى فيه، وإذا حقق النظر كان خليقاً بصعوبة المشي لكونه رملاً،
409
وأوعس ركبه، والوعساء: رابية من رمل لينة تنبت أحرار البقول، لأنها للينها حقيقة من بين روابي الرمل بالنبت، ومكان أوعس وأمكنه وعس، والميعاس: ما تنكب عن الغلظ، فهو جدير بالمشي فيه، والأرض؛ لم توطأ، فهي جديرة بالكف عن سلوكها، والطريق، لأنه جدير بأن يسلك، قال في القاموس: كأنه ضد، والمواعسة: ضرب من سير الإبل، كأنه وسط فهو جدير بالخير والمباراة في السير، أو لا تكون إلا ليلاً؛ وقال القزاز: توعست في وجهه حمرة أو صفرة، أي كانت خليقة بالظهور، قال: وإذا ذكروا الرملة قالوا: وعساء، وإذا ذكروا الرمل قالوا: أوعس - هذا ما في تنزيل الجزيئات من اللغة على مدار هذه المادة، وأما كلام أهل العربية في قواعد
«عسى» الكلية فقال أبو عبد الله القزاز: هو فعل لا ينصرف فلا تقول؛ يعسى، ولا هو عاسٍ، وقال عبد الحق الإشبيلي: ولا يأتي منه مستقبل ولا فاعل ولا مفعول ولا مصدر قال القزاز: ويصحبه
«أن» ويجوز حذفها، و
«أن» وما بعدها بمعنى المصدر وهي في موضع نصب، ولا يقع بعدها المصدر ولا اسم الفاعل، وإنما جاء هذا في مثل العرب: عسى الغوير أبؤساً، وأبؤس جمع بأس، وهذا يدل على أن خبر عسى في موضع نصب، وقال في القاموس: والأبؤس: الداهية، ومنه عسى الغوير أبؤساً، أي داهية، قال أبو عبيد في الغريب: كأنه أراد: عسى الغوير أن يحدث أبؤساً وأن يأتي
410
بأبؤس، فهذا طريق النصب، ومما يبينه قول الكميت:
قالوا أساء بنو كرز فقلت لهم | عسى الغوير بإبآس وإغوار |
وقال شارح الجزولية أبو محمد بن الموفق: لما كانت للرجاء دخلها معنى الإنشاء فلم تتصرف، لأن تصرفها ينافي الإنشاء لأنها إذا تصرفت دلت على الخبر فيما مضى والحال والاستقبال، وذلك ينافي معنى الإنشاء الذي لا يصلح لماض ولا مستقبل، وقال بعض المتأخرين: عسى موضوعة لفعل يتوهم كونه في الاستقبال وهو على لفظ الماضي فاحتيج إلى
«أن» بعده إذ لا مستقبل له، وذهب بعضهم إلىأن عسى حرف لعدم تصرفها ولا معناها في غيرها، والصحيح أنها فعل لفظاً ومعنى، أما لفظاً فظاهر، أي للحاق الضمائر وتاء التأنيث الساكنة، وأما معنى فلأنه إخبار عن طمع وقع للمتكلم، وجعل لفظها بلفظ الماضي لأن الطمع قد وقع، وإنما المطموع هو الذي يتوقع وينتظر، وأدخل
«أن» على المطموع فيه لأنه لم يقع بعد، وجردت أخواتها عن
«أن» لأن خبرها محقق في الحال إذ قد شرع فيه إلا
«كاد» فإنها للمقاربة في الجملة؛ وقال ابن هشام المصري في توضيحه: ويجب كون
411
خبرها جملة، وشذ كونه مفرداً نحو عسى الغوير أبؤساً، ويكون الاسم مرفوعاً بعسى وأن، والفعل في موضع نصب على الخبر، وقال الرضى: إنما لم يتصرف في عسى لتضمنها معنى الحرف، أي إنشاء الطمع والرجاء، وقوله: أبؤساً وصائماً، لتضمن عسى معنى كان فأجري مجراه ومذهب المتأخرين أن عسى ترفع الاسم وتنصب الخبر ككان، وقال أبو طالب العبدي في شرح الإيضاح للفارسي: الأفعال موضوعة للتصرف من حيث كانت مقسمة بأقسام الزمان، ولولا ذلك لأغنيت المصادر عنها، ولهذا قال سيبوبة فأما الأفعال فأمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء فبنيت لما مضى ولما يكون ولما هو كائن لم ينقطع، ولما خالفت هذه الأفعال - يعني عسى ونعم وبئس وفعل التعجب - سائر الأفعال في الدلالة ترك تصرفها أبداً بما أريدت له من المبالغة فيما جعلت دالة عليه، فمعنى عسى الطمع والإشقاق - كذا قال سيبوية، ولما اختصت بهذا المعنى ترك تصرفها، قال الرماني: منعت ذلك حملاً على
«لعل» كما حملت
«ما» على
«ليس» والأول أولى لأنه ليس ينبغي أن يحمل باب الأفعال على الحروف، ولأن الأفعال في بابها بمنزلة الحروف في بابها في لزوم البناء، وإنما الأسماء تحمل عليها كما تقول في قطام وحزام: إنه بني لوقوعه موقع الفعل، وأن أسماء الاستفهام بنيت لوقوعها موقع الحرف ولا تقول
412
في الأفعال إنها بنيت حملاً على الحروف ولا الحروف بنيت حملاً على الأفعال، بل كل منهما أصل فكذلك التصرف، ليس امتناعه لحمله على الحرف وجريه مجراه، وعسى من أخوات
«كان» وإنما لم تذكر معها للمخالفة بترك التصرف وبلزوم
«أن» الخبر وبكون فعلاً، ويدل على أنها من أخوات
«كان» عسى الغوير أبؤساً، فقد انكشف الأصل كما انكشف أصل أقام وأطال ونحوه بقوله:
صددت وأطولت الصدود وقلما | وصل على طول الصدود يدوم |
ولزوم الفعل بخبرها لجعله عوضاً من التصرف الذي كان ينبغي أن يكون لها، وأما لزوم
«أن» فلما أريد من صرف الكلام إلى تأويل الاستقبال لأن
«أن» تخلص إليه، والبيت الممثل به فيه شيء طريف، وهو مصدر مجموع واقع موقع مصدر واقع موقع فعل، والمصادر في أصلها لا تجمع ولكنه ضرورة ومثل، فالأصل أن
«بأس» ثم أبؤساً - انتهى كلام العبدي، وعندي أنه عند ما يقوى المعنى الذي سقيت له من طمع أو إشفاق يجعل خبرها اسماً تنبيهاً على أنها الآن بمنزلة كان لما اشتد من شبهها لها بذلك؛ قال أبو طالب: وإذا وليها
«أن» والفعل كان في موضع رفع، وسد طول الكلام مسد الخبر، ومعناها الذي هو الإشفاق والطمع قريب من المقاربة في كاد، فلذلك حذف
«أن» من خبرها حملاً لها على كاد كما جوزوا دخول
«أن» في خبر كاد
413
حملاً لها على عسى؛ وقال شارح الجزولية: وحذف
«أن» من خبر عسى أكثر من إلحاق
«أن» في خبر
«كاد» لمقاربة كاد ذات الفعل، و
«أن» تنافي ذلك، قال: ومن الفرق بينهما أن عسى لا يضمر فيها ضمير الشأن والقصة لشبهها بالحرف لعدم تصرفها، وتضمر في كاد لتصرفها، ثم رجح أنه يضمر فيها وإن لن تتصرف كما أضمر في نعم وبئس وقال ابن هشام الخضراوي في شرح الإيضاح أيضاً: إن سيبويه قدر عسى بقارب، أي فترفع وتنصب لأن قارب متعد، وقدرها بقرب، أي فلا تنصب لعدم تعديه، قال: ولا تدخل عسى على الماضي؛ قال أبو علي: لأنها للاستقبال المحض ولذلك وقع بعدها
«أن» فلا تصلح للماضي بوجه؛ وقال شارح الجزولية: عسى لها مع الظاهر مذهبان: أحدهما أن تكون ناقصة بمعنى كان الناقصة، تحتاج إلى اسم وخبر إلا أنه يشترط في خبرها أن يكون فعلاً، وأصله أن يكون اسماً مثل خبر كان إلا أنه عدل عنه إلى الفعل تنبيهاً على الدلالة على ما هو المقصود من الرجاء وتقوية لما يفيده الرجاء من الاستقبال، وشبهت في هذا الوجه ب
«قارب زيد الخروج» تحقيقاً لبيان الإعراب، لا في المعنى، لأن
«قارب زيد الخروج» ليس فيه إنشاء رجاء ولا غيره، وإنما هو تمثيل لتقدير الإعراب اللفظي لأنه أصلها أن تكون كذلك، وإنما طرأ عليها إنشاء الرجاء كما كان ذلك في التعجب ونعم وبئس وغيرهما؛ والمذهب الثاني أن تأتي تامة فتستعمل استعمال
«قرب» فتدخل على
«أن» مع الفعل
414
فتقول: عسى أن يقوم زيد، واستغنى فيها - بأن والفعل - عن الخبرين كما استغنى في
«ظننت أن يقوم زيد» عن المفعولين، وذلك لاشتماله على مسند ومسند إليه، وهو المقصود بهذه الأفعال، فإذا قلت: زيد عسى أن يقوم، احتمل أن تكون الناقصة فيكون فيها ضمير يعود على زيد هو اسمها و
«أن» مع الفعل خبرها، ويحتمل أن تكون التامة فلا يكون فيها ضمير وكون
«أن» مع الفعل فاعلها؛ وقال ابن الخباز الموصلي في كتابه النهاية في شرح كفاية الكفاية: عسى للطمع للمبالغة في الطمع، فلا يكون خبرها ماضياً لأن معناها الرجاء والطمع، والماضي لا يطمع فيه ولا يرجى لحصوله، واستدل على أنها لا تستعمل إلا في المستقبل بقول بعض شعراء الحماسة:
عسى طيىء من طيىء بعد هذه | ستطفىء غلات الكلى والجوانح |
فأتى بالسين لأنه لم يمكنه الإتيان ب
«أن» في الشعر؛ وقال شارح الجزولية ما معناه: إنه التزم في خبرها الفعل للدلالة على الاستقبال وألزم
«أن» تقوية لذلك، ولهذا لم يكن خبرها اسماً وإن كان أصله أن يكون اسماً إذ لا دلالة للاسم على الزمان، ولم يوضع مكانها السين وسوف لأنهما يدلان على تنفيس في الزمان والغرض هنا تقريبه، وقد يجيء في الشعر قليلاً - وأنشد البيت المذكور؛ وقال ابن الخباز:
415
ودخول الاستفهام عليها يؤذن بأنها ليست للطمع لأن الاستفهام لا يدخل على الطمع ولا على ما ليس بخبر، فدخول هل عليها مما يؤذن بأنها خبر - انتهى. فتفسيرها بما ذكرته - من أنها لما يمكن أن يكون وهو خليق بأن يكون - أول، ويكون الطمع لازماً لمضمون الكلام لا أنه مدلولها بالمطابقة - والله الموفق.
416
ولما بين سبحانه الصالح لذلك من غيره، أنكر على من لم يفرق بين الصنفين فقال:
﴿أجعلتم سقاية الحاج﴾ أي مجردة عن الإيمان
﴿وعمارة المسجد الحرام﴾ أي كذلك كالإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد، وأهل السقاية والعمارة من غير إيمان في موالاتهم والكف عن معاداتهم
﴿كمن آمن بالله﴾ أي الحامل اعتقاد كماله على كل كمال
﴿واليوم الآخر﴾ أي الحاث خوفه على كل خير
﴿وجاهد في سبيل الله﴾ أي الملك الأعلى المحيط بكل شيء، فالآية على قراءة الجماعة من الاحتباك: حذف أولاً المشبه به لدلالة المشبه عليه وثانياً المشبه لدلالة المشبه به عليه، وأما على رواية نسي بن وردان عن أبي جعفر شاذاً: سقاة وعمرة - بالجمع فلا يحتاج إلى تقدير.
ولما كان كأنه قيل: كنا نظن ذلك فما حالهم؟ قال:
﴿لا يستوون عند الله﴾ أي الذي له الكمال كله لأن المشركين ظلموا بترك الإيمان
﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه
﴿لا يهدي القوم الظالمين*﴾
416
أي الذين وضعوا الأشياء في غير مواضعها، والكفر أعظم الظلم، فلا توجبوا لهم الهداية ولا المساواة بالمهتدين وإن باشروا جميع أفعال المهتدين ما عدا الإيمان، ومن فعل ذلك منكم كان ظالماً وخيف عليه سلب موجب الهداية.
ولما نفى عنهم المساواة من غير تصريح بأهل الترجيح ليشتد التشوف إلى التصريح فيكون اثبت في النفس وأوقر في القلب، كان كأنه قيل: فمن الراجح؟ فقال:
﴿الذين آمنوا﴾ أي أوقعوا هذا الفعل، وهو إيمان المخاطب من أن يكذبوه بشيء مما يخبر به عن الله، وقصر الفعل وهو في الأصل متعد ليفيد أنه لا إيمان غير هذا، وإن وجد غيره فهو عدم بالنسبة إليه، وكذا كل فعل قصر فهو على هذا المنوال ليشار به إلى أنه لعظيم نفعه لا فعل من جنسه غيره
﴿وهاجروا وجاهدوا﴾.
ولما كان المحدث عنه فيما قبل المجاهد في سبيل الله، اقتضى المقام تقديمه على الآلة بخلاف ما في آخر الأنفال فإن المقام اقتضى هناك تقديم المال والنفس لما تقدم من موجبه في غير آية - كما سلف بيانه، وأيضاً ففي هذا الوقت كان المال قد كثر، ومواضع الجهاد قد بعدت، فناسب الاهتمام بالسبيل فلذا قدم
﴿في سبيل الله﴾ أي مخلصين له لأنه الملك الذي لا كفؤ له، ثم أتبعه قوله:
﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ فصرح بالنفس ترغيباً في المباشرة بها
﴿أعظم درجة﴾ أي من جهة ارتفاع الدرجة، وهي الفضيلة المقربة إلى الله.
417
ولما لم يكن العبرة إلا بما عنده سبحانه، لا بما عند الناس، قال تعالى:
﴿عند الله﴾ أي الملك الأعظم من أهل السقاية وما معها من غير إيمان مدلول عليه بشواهده، وإنما لم يذكر المفضل عليه ليفيد أن فضيلتهم على الإطلاق، فيكون المفضل عليه من جملة المدلول عليه، وكرر الاسم الأعظم لمزيد الترغيب لخطر المقام وصعوبة المرام؛ وأفهم هذا أن تلك الأفعال شريفة في نفسها، فمن باشرها كان على درجة عظيمة بالنسبة إلى من لم يباشرها، ومن بناها على الأساس كان أعظم؛ ثم بين ما يخص أهل حزبه فقال:
﴿وأولئك﴾ أي العالو التربة
﴿هم﴾ أي خاصة لا أنتم أيها المفاخرون مع الشرك
﴿الفائزون*﴾ أي بالخير الباقي في الدارين دون من عداهم وإن فعل من الخيرات ما فعل، لأنهم ترقوا من العبدية إلى العندية.
ولما بين أن جزاء أولئك الخلود في النار، بين ما لهؤلاء، فقال مفسراً لفوزهم:
﴿يبشرهم ربهم﴾ أي المحسن إليم بهدايتهم واجتبائهم. وناهيك بهذه البشارة الدالة على علو مقامهم لأنها بلا واسطة، وكون البشارة على قدر المبشر دال أن هذه البشارة بشارة عظيمة لا نهاية لها ولا يحاط بمعرفة مقدارها
﴿برحمة﴾ أي عظيمة، وزادها عظماً
418
بقوله:
﴿منه﴾ وذلك إشارة إلى أنه لا نجاة بدون العفو؛ ثم أخبر بأن الرحمة كما أثمرت العفو الذي هو أدنى المنازل أسعدت بأعلاها فقال:
﴿ورضوان﴾ أي بأن يكون راضياً عن الله للرضى بقضاء الله وذلك يكون إذا قصر نظره على الله فإنه لا يتغير أبداً بقضاء من أقضيته كما أن الله - الذي هو راحمه - لا يتغير، ومن كان نظره لطلب حظ له كان أبداً في تغير من الفرح إلى الحزن ومن السرور إلى الغم ومن الراحة إلى الجراحة ومن اللذة إلى الألم، فثبت أن الرحمة التامة لا تحصل إلا للراضي بقضاء الله ويكون الله راضياً عنه فتكون نفسه راضية مرضية، ولهذا لم يقيده ب
«منه» وهذان في الدنيا والآخرة.
ولما ذكر هذه الجنة الروحانية المنعم بها في الدنيا، أتبعه بيان الجنة الروحانية البدنية الخاصة بالدار التي فيها القرار فقال:
﴿وجنّات﴾ أي بساتين كثيرة الأشجار والثمار
﴿لهم فيها نعيم﴾ أي عظيم جداً خالص عن كدر ما، ودل على الخلود بقوله:
﴿مقيم*﴾ ثم صرح بخلودهم فيها بلفظ الخلود ليكون أقر للنفس فقال:
﴿خالدين فيها﴾ وحقق أمره بقوله:
﴿أبداً﴾ ثم استأنف المدح لذلك مؤذناً بالمزيد بقوله:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق والقدرة الكاملة
﴿عنده أجر عظيم*﴾ وناهيك بما يصفه العظيم دالاًّ بالعظم، وخص هؤلاء المؤمنين بهذا الثواب المعبر عن دوامه بهذه العبارات الثلاث المقرونه بالتعظيم والاسم الأعظم، فكان أعظم الثواب، لأن
419
إيمانهم أعظم الإيمان.
ولما فرغ من العاطفة بمحاسن الأعمال، شرع في العاطفة بالأنساب والأموال، وقدم الأول إشارة إلى أن المجانسة في الأفعال مقدمة على جميع الأحوال، ولما كان محط الموالاة المناصرة، وكانت النصرة بالآباء والإخوان أعظم من النصرة بغيرهم، لأن مرجعها إلى كثرة الأعوان والأخدان، اقتصر عليها فقال:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بألسنتهم بالإيمان بربهم معرضين عما سواه من الأنداد الظاهرة! صدقوا ادعاءكم ذلك بأن
﴿لا تتخذوا﴾ أي تتعمدوا وتتكلفوا أن تأخذوا
﴿آباءكم وإخوانكم أولياء﴾ أي على ما يدعو إليه الطباع وتقوية الأطماع فتلقوا إليهم أسراركم وتؤثروا رضاهم والمقام عندهم
﴿إن استحبوا﴾ أي طلبوا وأوجدوا أن أحبوا
﴿الكفر﴾ وهو تغطية الحق والتكذيب
﴿على الإيمان﴾ نبه بصيغة الاستفعال على أن الإيمان لكثرة محاسنه وظهور دلائله معشوق بالطبع، فلا يتركه أحد إلا بنوع معالجة ومكابرة لعقله ومجاهدة.
ولما كان أعز الأشياء الدين، وكان لا ينال إلا بالهداية، وكان قد تقدم سلبها عن الظالم، ورهبهم من انتزاعه بقوله:
﴿ومن يتولهم﴾ أي يتكلف أن يفعل في أمرهم ما يفعل القريب مع قريبه
﴿منكم﴾ أي بعد ما أعلمكم الله في أمرهم مما أعلم
﴿فأولئك﴾ أي المبعدون عن الحضرات الربانية
﴿هم الظالمون*﴾ أي لوضعهم الموالاة في غير موضعها
420
بعد أن تقدم إليهم سبحانه بمثل هذه الزواجر، وهذا رجوع بالاحتراس إلى
﴿وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض﴾ [الأنفال: ٧٥]- الآية الوالية لبيان المؤمنين حقاً وإشارة إلى أنه يضلهم ولا يهديهم لما تقدم من الخبر بأنه لا يهدي الظالمين.
ولما كانت الأنفس مختلفة الهمم متباينة السجايا والشيم، كان هذا غير كافٍ في التهديد لكلها، فأتبعه تهديداً أشد منه بالنسبة إلى تلك النفوس فقال منتقلاً من أسلوب الإقبال إلى مقام الإعراض المؤذن بزواجر الغضب:
﴿قل﴾ أي يا أعظم الخلق شفقة ورفقاً ونصيحة لمن لم يُزعمه ما تقدم من الزواجر أنه يجب تحمل جميع هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سالماً ولا ينثلم
﴿إن كان آباؤكم﴾ أي الذين أنتم أشد شيء توقيراً لهم
﴿وأبناؤكم﴾ أي الذين هم أعز الناس لديكم وأحبهم إليكم
﴿وإخوانكم﴾ أي الذين هم من أصولكم فهم كأنفسكم
﴿وأزواجكم﴾ أي اللاتي هن سكن لكم
﴿وعشيرتكم﴾ أي التي بها تمام الراحة وقيام العز والمنعة وهم أهل الإنسان الأدنون الذين يعاشرونه.
ولما قدم سبحانه ما هو مقدم على المال عند أولي الهمم العوال قال:
﴿وأموال اقترفتموها﴾ أي اكتسبتموها بالمعالجة من الأسفار
421
وغيرها لمعاشكم
﴿وتجارة تخشون كسادها﴾ أي لفوات أوقات نفاقها بسبب اشتغالكم بما ندب الله سبحانه إليه فيفوت - على ما تتوهمون - ما به قوامكم
﴿ومساكن ترضونها﴾ أي لأنها مجمع لذلك كله، ولقد رتبها سبحانه أحسن ترتيب، فإن الأب أحب المذكورين لما هنا من شائبة النصرة، وبعده الابن ثم الأخ ثم الزوج ثم العشير الجامع للذكور والإناث ثم المال الموجود في اليد ثم المتوقع ربحه بالمتجر، وختم بالمسكن لأنه الغاية التي كل ما تقدم أسباب للاسترواح فيه والتجمل به
﴿أحب إليكم من الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال الذي أنعم عليكم بجميع ما ذكر، ومتى شاء سلبكموه
﴿ورسوله﴾ أي الذي أتاكم بما به حفظ هذه النعم في الدارين
﴿وجهاد في سبيله﴾ أي الرد الشارد من عباده إليه وجمعهم عليه، وفي قوله -:
﴿فتربصوا﴾ أي انتظروا متربصين - تهديد بليغ
﴿حتى يأتي الله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء
﴿بأمره﴾ أي الذي لا تبلغه أوصافكم ولا تحتمله قواكم.
ولما كان من آثر حب شيء من ذلك على حبه تعالى، كان مارقاً من دينه راجعاً إلى دين من آثره، وكان التقدير: فيصيبكم بقارعة لا تطيقونها ولا تهتدون إلى دفعها بنوع حلية، لأنكم اخترتم لأنفسكم منابذة الهداية ومعلوم أن من كان كذلك فهو مطبوع في الفسق، عطف عليه قوله:
﴿والله﴾ أي الجامع لصفات الكمال
﴿لا يهدي القوم﴾ أي لا يخلق الهداية في قلوب
422
﴿الفاسقين*﴾ أي الذين استعملوا ما عندهم من قوة القيام فيما يريدون من الفساد حتى صار الفسق - وهو الخروج مما حقه المكث فيه والتقيد به وهو هنا الطاعة - خلقاً من أخلاقهم ولازماً من لوازمهم، بل يكلهم إلى نفوسهم فيخسروا الدنيا والآخرة.
423
ولما كان في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال: ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه؟ فقيل: الذل والهوان والافتقار والانكسار، فكأنه قيل: وكيف يكون ذلك؟ فقيل: بأن يسلط القدير عليكم - وإن كنتم كثيراً - أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم - وقد كنتم كذلك - حتى صرتم إلى ما صرتم إليه:
﴿لقد نصركم الله﴾ أي الملك الأعلى مع شدة ضعفكم
﴿في مواطن﴾ أي مقامات ومواقف وأماكن توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم
﴿كثيرة﴾ أي من الغزوات التي تقدمت لكم كبدر وقريظة والنضير وقينقاع والحديبية وخيبر وغيرها من مخاصمات الكفار، وكنتم من الذلة والقلة والانكسار بحال لا يتخيل معها نصركم وظهوركم على جميع الكفار وأنتم فيهم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود، وما وكلكم
423
إلى مناصرة من تقدم أمره لكم بمقاطعتهم، فدل ذلك على أن من أطاع الله ورجع الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه وإن عاداه الناس أجمعون، ودل بما بعدها من قصة حنين على أن من اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا إلا أن يتداركه الله برحمته منه فيرجع به. فقال تعالى:
﴿ويوم﴾ أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده، لا كثرتكم وقوتكم يوم
﴿حنين﴾ وهو واد بين مكة والطائف إلى جانب ذي المجاز، وهو إلى مكة أقرب، وراء عرفات إلى الشمال.
ولما كان سلمة بن سلامة بن وقش الأنصاري رضي الله عنه قد قال حين التقى الجمعان وأعجبته كثرة الناس: لن نغلب اليوم من قلة! فساء النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلامه وأن يعتمد إلا على الله، وكان الإعجاب سمّاً قاتلاً للأسباب، أدبنا الله سبحانه في هذه الغزوة بذكر سوء أثره لنحذره، ثم عاد سبحانه بالإنعام لكون الذي قاله شخصاً واحداً كره غيره مقاتله. فقال:
﴿إذ﴾ أي حين
﴿أعجبتكم كثرتكم﴾ أي فقطعتم لذلك أنه لا يغلبها غالب، وأسند سبحانه الفعل للجمع إشارة إلى أنهم لعلو مقامهم ينبغي أن لا يكون منهم من يقول مثل ذلك
﴿فلم تغن عنكم شيئاً﴾ أي من الإغناء
﴿وضاقت عليكم الأرض﴾ أي الواسعة
﴿بما رحبت﴾ أي مع اتساعها فصرتم لا ترون أن فيها مكاناً يحصنكم مما أنتم فيه لفرط الرعب، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان
424
من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال، ولعل عطفه - لتوليهم بأداة التراخي في قوله:
﴿ثم وليتم﴾ أي تولية كثيرة ظهوركم الكفار، وحقق ذلك بقوله:
﴿مدبرين*﴾ أي انهزاماً مع أن الفرار كان حين اللقاء لم يتأخر - إشارة إلى ما كان عندهم من استعباده اعتماداً على القوة والكثرة
﴿ثم أنزل الله﴾ أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال
﴿سكينته﴾ أي رحمته، وهي الأمر الذي يسكن القلوب عن أن تتأثر يدهمها من البلاء من الوثوق به سبحانه ومشاهدة جنابة الأقدس والغناء عن غيره.
ولما كان المقام للرسالة، وكان تأييد مدعيها من أمارات صدقه في دعوى أنه رسول، وأن مرسله قادر على ما يريد لا سيما إن كان تأييده على وجه خارق للعادة، عبر به دون وصف النبوة فقال:
﴿على رسوله﴾ أي زيادة على ما كان به من السكينة التي لم يحز مثلها أحد، ثبت بها الثلاثين ألفاً أو عشرين ألفاً أو أربعة آلاف على اختلاف الروايات في عشرة أنفس أو مائة أو ثلاثمائة - على الاختلاف أيضاً، لم يكن ثباتهم إلا به، ثم لم يزده ذلك إلا تقدماً حتى أن كان العباس عمه وأبو سفيان بن الحارث ابن عمه رضي الله عنهما ليكفان بغلته عن بعض التقدم، ولعل العطف ب
«ثم» إشارة إلى علو رتبة ذلك الثبات واستبعاد أن يقع مثله في مجاري العادات
﴿وعلى المؤمنين﴾ أي أما من كان منهم ثابتاً فزيادة على ما كان له من ذلك، وأما غيره فأعطي ما
425
لم يكن في ذلك الوقت له، وذلك أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لعمه العباس رضي الله بعدما فر الناس: ناد فيهم يا عباس! فنادى وكان صيتاً: ياعباد الله! يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب سورة البقرة! فكروا عنقاً واحداً يقولون: لبيك لبيك! ويحتمل أن يكون ذكر الرسول عليه السلام لمجرد التبرك كما في ذكر الله في قوله:
﴿فإن لله خمسه﴾ [الأنفال: ٤١] وزيادة في تعظيم الامتنان به لأن النفوس إلى ما أعطى منه الرسول أميل والقلوب له أقبل لاعتقاد جلاله وعظمته وكماله
﴿وأنزل﴾ أي من السماء
﴿جنوداً لم تروها﴾ أي من الملائكة عليهم السلام
﴿وعذب﴾ أي بالقتل والأسر والهزيمة والسبي والنهب
﴿الذين كفروا﴾ عبر بالفعل لأن فيهم من آمن بعد ذلك.
ولما كان ما عذب به من أوجد مطلق هذا الوصف عظيماً، أتبعه بيان جزاء العريق في ذلك ترهيباً لمن آثر حب شيء مما مضى على حب الله فقال:
﴿وذلك﴾ أي العذاب الذي منه ما عذب به هؤلاء وغيره
﴿جزاء الكافرين*﴾ أي الراسخين في وصف الكفر الذين آثروا حب من تقدم من الآباء وغيرهم على الله فثبتوا على تقليد الآباء في الباطل بعدما رأوا من الدلائل ما بهر الشمس ولم يدع شيئاً من لبس، وأما الذين لم يكن كفرهم راسخاً فكان ذلك صلاحاً لهم لأنه قادهم إلى الإسلام، فقد تبين أن المنصور من نصره الله قليلاً كان أو كثيراً، وأن القلة
426
والكثرة والقوة والضعف بالنسبة إلى قدرته سواء، فلا تغتروا بما ألزمكم من النعم فإنه قادر على نزعها، لا يستحق أحد عليه شيئاً، ولا يقدر أحد على رد قضائه، وفي ذلك إعلام بأنه لا يرتد بعد إيمانه إلا من كان عريقاً في الكفر، وفيه أبلغ تهديد لأنه إذا عذب من أوجد الكفر وقتاً ما فكيف بمن رسخ فيه!
ولما بين أن العذاب جزاء الكافرين، بين أنه يتوب على من يريد منهم، وهم كل من علم منه قابلية للإيمان وإن كان شديداً وصف الكفران، فقال عاطفاً على
﴿وعذب﴾ :
﴿ثم يتوب الله﴾ أي الذي له الإحاطة علماً وقدرة، ولما لم يكن احد تستغرق توبته زمان البعد أدخل الجار فقال:
﴿من بعد ذلك﴾ أي العذاب العظيم
﴿على من يشاء﴾ أي فيهديه إلى الإسلام ويغفر له جميع ما سلف من الآثام
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿غفور رحيم *﴾ أي محاء للخطايا عظيم الإكرام لمن تاب، وفي ذلك إشارة إلى أنه جعل هذه الوقعة.
لحكمته التي اقتضت ربط المسببات بأسبابها - سبباً لإسلام من حضرها من كفار قريش وغيرهم من المؤلفة بما قسم فيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غنائم هوزان وبما رأوا من عز الإسلام وعلوه، فكان في ذلك ترغيب لهم بالمال، وترهيب بسطوات القتال، ولإسلام وفد هوزان بما حصل لهم من القهر وما شاهدوا للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عظيم النصر، ولإسلام
427
غيرهم من العرب بسبب علم كل منهم بهذه الوقعة أنهم أضعف ناصراً وأقل عدداً، كل ذلك رحمة منه سبحانه لهم ورفقاً لهم، وقد كان جميع ذلك كما أشار إليه سبحانه، فأسلم الطلقاء وحسن إسلامهم، وقدم وفد هوزان وسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبرهم برد ما أخذ لهم فقال لهم: إني استأنيت بكم، فلما أبطأتم قسمت بين الناس فيئهم، فاختاروا المال أو السبي! فاختاروا السبي فشفع لهم عند الناس فأجابوه فرد إليهم أبناءهم ونساءهم رحمة منه لهم، وذل العرب لذلك فدخلوا في الدين أفواجاً. وختم هذه الآية بالمغفرة والرحمة على ما هو الأنسب لسياق التوبة بذلك على انه ما عدل إلى ختم الأولى ب
«عليم حكيم» إلا لما قررته من جعل أم في
﴿أم حسبتم﴾ معادلة للهمزة. والله أعلم.
428
ولما تقدم في الأمر والنواهي وبيان الحكم المرغبة والمرهبة ما لم يبق لمن عنده أدنى تمسك بالدين شيئاً من الالتفات إلى المفسدين، بين أن العلة في مدافعتهم وشديد مقاطعتهم أنهم نجس وأن المواضع - التي ظهرت فيها أنوار عظمته وجلالته وأشرقت عليها شموس نبوته ورسالته، ولمعت فيها بروق كبره وجالت صوارم نهية وأمره - مواضع القدس ومواطن الأنس، من دنا إليها من غير أهلها احترق
428
بنارها، وبهرت بصره أشعة أنوارها، فقال مستخلصاً مما تقدم ومستنتجاً:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بألسنتهم بالإيمان وهم ممن يستقبح الكذب
﴿إنما المشركون﴾ أي العريقون في الشرك بدليل استمرارهم عليه.
ولما كانوا متصفين به، وكانوا لا يغتسلون - ولا يغسلون - ثيابهم من النجاسة، بولغ في وصفهم بها بأن جعلوا عينها فقال:
﴿نجس﴾ أي وأنتم تدعون أنكم أبعد الناس عن النجس حساً ومعنى، فيجب أن يقذروا وأن يبعدوا ويحذروا كما يفعل بالشيء النجس لما اشتملوا عليه من خلال الشر واتصفوا به من خصال السوء، وأما أبدانهم فاتفق الفقهاء على طهارتها لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرب من أوانيهم ولم ينه عن مؤاكلتهم ولا أمر بالغسل منها ولو كانت نجسة ما طهرها الإسلام. ولما تسبب عن ذلك إبعادهم، قال:
﴿فلا يقربوا﴾ أي المشركون، وهذا نهي للمسلمين عن تمكينهم من ذلك، عبر عنه بنهيهم مبالغة فيه
﴿المسجد الحرام﴾ أي الذي أخرجوكم منه وأنتم أطهر الناس، واستغرق الزمان فأسقط الجار ونبههم على حسن الزمان واتساع الخير فيه بالتعبير بالعام فقال:
﴿بعد عامهم﴾ وحقق الأمر وأزال اللبس بقوله:
﴿هذا﴾ وهو آخر سنة تسع سنة الوفود مرجعه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غزوة تبوك، فعبر بقربانه لا بإتيانه بعد التقديم إليهم بأن لا يقبل من مشرك إلا الإسلام أو القتل إشارة إلى إخراج المشركين من جزيرة العرب وانها لا يجتمع بها دينان لأنها كلها محل النبوة العربية
429
وموطن الأسرار الإلهية، فمن كان فيها - ولو في أقصاها - فقد قارب جميع ما فيها، وتكون حينئذ بالنسبة إلى الحرم كأفنية الدور ورحاب المساجد؛ وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميراً على الحج بعد رجوعه من تبوك ثم أردفه بعلي رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة، قال أبو هريرة: فأذن معنا عليّ يوم النحر في أهل منى ببراءة وأن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان. وهذه سنة قديمة فقد أمر الله تعالى بني إسرائيل في غير موضع من التوارة بأن لا يبقوا في جميع بلاد بيت المقدس أحداً من المشركين بخلاف غيرها من البلاد التي يفتحها الله عليهم، منها ما قال المترجم في أواخر السفر الخامس: وإذا تقدمتم إلى قرية أو مدينة لتقاتلوا أهلها ادعوهم إلى الصلح، فإن قبلوه وفتحوا لكم من كان فيها من الرجال يكونوا عبيداً لكم يؤدوا إليكم الخراج، وإن لم يقبلوا الصلح وحاربوكم فحاربوهم وضيقوا عليهم فإن الله ربكم يدفعها إليكم وتظفرون بمن فيها، فإذا ظفرتم بمن فيها فاقتلوا الذكور كلهم بالسيف، كذلك اصنعوا بجميع القرى البعيدة النائية التي ليست من قرى هذه الشعوب فأما قرى هذه الشعوب التي يعطيكم الله ميراثاً فلا تبقوا من أهلها احداً ولكن اقتلوهم قتلاً كالذي أمركم الله ربكم لئلا يعلموكم النجاسة
430
التي يعلمونها لآلهتهم، ومثل ذلك كثير فيها، وقد مضى بعده فيما ذكرته عن التوارة.
والله الموفق، وجملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: أحدها الحرم، فلا يجوز للكافر أن يدخله بحال لظاهر هذه الآية، الثاني الحجاز وما في حكمه وهو جزيرة العرب، فيدخله الكافر بالإذن ولا يقيم أكثر من مقام السفر ثلاثة أيام لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وهي من أقصى عدن أبين، وهي في الجنوب إلى أطراف الشام وهي في الشمال طولاً، ومن جدة وهي أقصى الجزيرة غرباً على شاطئ بحر الهند إلى ريف العراق وهو في المشرق عرضاً، والثالث سائر بلاد الإسلام يجوز للكافر الإقامة فيها بذمة وأمان ما شاء، ولكن لا يدخل المساجد إلا بإذن مسلم. ذكر ذلك البغوي، قال ابن الفرات في تاريخه عند غزو بخت نصر لبني إسرائيل ولأرض العرب: إنما سميت بلاع العرب جزيرة لإحاطة البحار والأنهار بها، فصارت مثل الجزيرة من جزائر البحر، وذلك أن الفرات أقبل من بلاد الروم وظهر من ناحية قنسرين ثم انحط على الجزيرة وسواد العراق حتى وقع في البحر من ناحية البصرة والأبلة وامتد البحر من ذلك الموضع مطيفاً ببلاد العرب، فأتى منه عنق على كاظمة وتعدى
431
إلى القطيف وهجر وعمان والشجر، ومال منه عنق إلى حضرموت وناحية أبهر وعدن، واستطال ذلك العنق فطعن في تهامة اليمن ومضى إلى ساحل جدة، وأقبل النيل في غربي هذا العنق من أعلى بلاد السودان مستطيلاً معارضاً للبحر معه حتى وقع في بحر مصر والشام، ثم أقبل ذلك البحر من مصر حتى بلغ بلاد فلسطين فمر بعسقلان وسواحلها، واتى على بيروت ونفذ إلى سواحل حمص وقنسرين حتى خالط الناحية التي أقبل منها الفرات منحطاًعلى أطراف قنسرين والجزيرة إلى سواد العراق، وأقبل جبل السراة من قعرة اليمن حتى بلغ أطراف الشام فمسته العرب حجازاً لأنه حجز بين الغور ونجد فصار ما خلف ذلك الجبل في غربيه الغور وهو تهامة، وما دونه في شرقيه نجداً.
انتهى.
ولما كان ما والاها من أرض الشام ونحوها كله انهاراً أو جداول، جعل كأنه بحر لأنه في حكم شاطئه، ولما كان قوامهم بالمتاجر، وكان قوام المتاجر باجتماعهم في أسواقهم، وكان نفيهم من تلك الأراضي مظنة لخوف انقطاع المتاجر وانعدام الأرباح المفضي إلى الحاجة وكان قد أمر بنفيهم رعاية لأمر الدين، وكان سبحانه عالماً بأن
432
ذلك يشق على النفوس لما ذكر من العلة ولا سيما وقد قال بعضهم لما قرأ علي رضي الله عنه آيات البراءة على اهل الموسم: يا أهل مكة! ستعلمون ما تلقونه من الشدة بانقطاع السبيل وبُعد الحمولات، وعد سبحانه - وهو الواسع العليم - بما يغني عن ذلك، لأن من ترك الدنيا لأجل الدين أوصله سبحانه إلى مطلوبه من الدنيا مع ما سعد به من أمر الدين
«من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه» فقال:
﴿وإن خفتم﴾ أي بسبب منعهم من قربان المواطن الإلهية
﴿عيلة﴾ أي فقراً وحاجة
﴿فسوف يغنيكم الله﴾ أي هو ذو الجلال والإكرام
﴿من فضله﴾ وهو ذو الفضل والطول والقوة والحول.
ولما كان سبحانه الملك الغني القادر القوي الذي لا يجب لأحد عليه شيء وتجب طاعته على كل شيء، نبه على ذلك بقوله:
﴿إن شاء﴾ ولما كان ذلك عندهم مستبعداً، علل تقريباً بقوله:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿عليم﴾ أي بوجوه المصالح
﴿حكيم*﴾ أي في تدبير استجلابها وتقدير إدرارها ولقد صدق سبحانه ومن أصدق منه قيلاً فإنه أغناهم - بالمغانم التي انتثلها بأيديهم بعد نحو ثلاث سنين من إنزالها من كنوز كسرى وقيصر - غنى لم يطرق أوهامهم قط، ثم جعل ذلك سبباً لاختلاط بعض الطوائف من جميع الناس ببعض لصيرورتهم إخواناً في الدين الذي كان سبباً لأن يجتمع
433
في سوق منى وغيره في أيام الحج كل عام من المتاجر مع الغرب والعجم ما لا يكون مثله في بقعة من الأرض، والعيلة: الفاقة والافتقار، ومادتها بهذا الترتيب تدور على الحاجة وانسداد وجوه الحلية وقد تقدم أول النساء انها - لا بقيد ترتيب - تدور تقاليبها الثمانية على الارتفاع ويلزمه الزيادة والميل، ومنه تأتي الحاجة، وبرهن على ذلك في جميع الجزئيات.
ولما كان ذلك موضع تعجب يكون سبباً لأن يقال: من أين يكون ذلك الغنى؟ أجاب بقوله:
﴿قاتلوا﴾ أي أهل الأموال والغنى
﴿الذين لا يؤمنون بالله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال إيماناً هو على ما أخبرت به عنه رسله، ولو آمنوا هذا الإيمان ما كذبوا رسولاً من الرسل، وأيضاً فالنصارى مثلثة وبعض اليهود مثنية
﴿ولا باليوم الآخر﴾ أي كذلك، وأقل ذلك أنهم لا يقولون بحشر الأجساد
﴿ولا يحرمون ما حرم الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله
﴿ورسوله﴾ أي من الشرك وأكل الأموال بالباطل وغير ذلك وتبديل التوراة والإنجيل
﴿ولا يدينون﴾ أي يفعلون ويقيمون، اشتق من الدين فعلاً ثم أضافه إلى صفته إغراقاً في اتخاذه بذلك الوصف فقال:
﴿دين الحق﴾ أي الذي أخذت عليهم رسلهم العهود والمواثيق باتباعه، ثم بين الموصول مع صلته فقال:
﴿من الذين﴾ ودل على استهانته سبحانه بهم وبراءته
434
منهم بأن بني للمفعول قوله:
﴿أوتوا الكتاب﴾ أي من اليهود والنصاري ومن ألحق بهم
﴿حتى يعطوا الجزية﴾ أي وهي ما قرر عليهم في نظر سكناهم في بلاد الإسلام آمنين، فعله من جزى يجزي.
إذا قضى ما عليه
﴿عن يد﴾ أي قاهرة إن كانت يد الآخذ او مقهورة إن كانت يد المعطي، من قولهم: فلان أعطى بيده
﴿وهم صاغرون*﴾ ففي ذلك غنى لا يشبه ما كنتم فيه من قتال بعضكم لبعض لتغنم ما في يده من ذلك المال الحقير ولا ما كنتم تعدونه غنى من المتاجر التي لا يبلغ أكبرها واصغرها ما أرشدناكم إليه مع ما في ذلك العز الممكن من الإصلاح والطاعة وسترون، وعبر باليد عن السطوة التي ينشأ عنها الذل والقهر لأنها الآلة الباطشة، فالمعنى عن يد قاهرة لهم، أي عن قهر منكم لهم وسطوة بأفعالهم التي أصغرتهم عظمتها وأذلتهم شدتها، قال أبو عبيدة: يقال لكل من أعطى شيئاً كرهاً عن غير طيب نفس، أعطاه عن يد. انتهى. وعبر ب
«عن» التي هي للمجاوزة لأن الإعطاء لا يكون إلا بعد البطش المذل، هذا إذا أريد باليد يد الآخد، ويمكن أن يراد بها يد المعطي، وتكون كناية عن النفس لأن مقصود الجزية المال، واليد أعظم أسبابه، فالمعنى حتى يعطي كل واحد منهم الجزية عن نفسه.
435
ولما كان المراد التعميمم أتى بها نكرة لتفيد ذلك، ويؤيد هذا ما نقل العلماء عن الرواة لفتوح البلاد منهم الحافظ أبو الربيع بن سالم الكلاعي، قال في كتابه الاكتفاء في وقعة جلولاء من بلاد فارس:
435
قالوا: قال بعضهم: فكان الفلاحون للطرق والجسور والأسواق والحرث والدلالة مع الجزي عن أيديهم على قدر طاقتهم، وكانت الدهاقين للجزية عن أيديهم والعمارة، وإنما أخذوا الجزية من المجوس لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذها من مجوس هجر وأخذها منهم لأنهم أهل كتاب في الأصل، قال الشافعي في باب المجمل والمفسر من كتاب اختلاف الحديث: والمجوس أهل كتاب غير التوراة والإنجيل وقد نسوا كتابهم وبدلوه، فأذن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أخذ الجزية منهم؛ أخبرنا سفيان عن أبي سعد سعيد بن مرزبان عن نصر بن عاصم قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس وليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بلببه فقال: ياعدو الله! تطعن على أبي بكر وعلى عمر وعلي أمير المؤمنين - يعني علياً - وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي رضي الله عنه عليهما فقال: البدا! البدا! فجلسا في ظل القصر فقال علي: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع عليهم فدعا أهل مملكته فقال: تعلمون ديناً
436
خيراً من دين آدم وقد كان آدم ينكح بنيه من بناته، فأنا على دين آدم، فبايعوه وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم، وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما منهم الجزية. ولما أمر بقتالهم ووصفهم بما هو السبب الباعث على ذلك، عطف عليه بعض أقوالهم المبيحة لقتالهم الموجبة لنكالهم فقال:
﴿وقالت﴾ أي قاتلوا أهل الكتاب لأنهم كفروا بما وصفناهم به وقالت
﴿اليهود﴾ منهم كذباً وبهتاناً
﴿عزير﴾ تنوينُ عاصم والكسائي له موضحٌ لكونه مبتدأ، والباقون منعوه نظراً إلى عجمته مع العلمية وليس فيه تصغير، والخبر في القراءة قولهم:
﴿ابن الله﴾ أي الذي له العلو المطلق فليس كمثله شيء، وعزير هذا هو المسمى عندهم في سفر الأنبياء ملاخيا، ويسمى أيضاً العازر وهو الأصل والعزير تعريبه، وأما الذي جمع لهم هذه التوراة التي بين أيديهم فقال السمؤال بن يحيى المغربي الذي كان يهودياً فأسلم: إنه شخص آخر اسمه عزرا، وإنه ليس بنبي. ذكر ذلك في كتابه غاية المقصود في الرد على النصارى واليهود، وهو كتاب حسن جداً، وكان السموأل هذا مع تمكنه من المعرفة بشريعة اليهود وأخبارهم متمكناً من علوم الهندسة وغيرها، وكان فصيحاً بليغاً
437
وكان حسن الإسلام يضرب المثل بعقله، ورأيت اليهود في غاية النكاية منه، وأراني بعضهم رسالة إليه لبعض أحبارهم يسفه فيها رأيه في إسلامه ويشبه عليه بأشياء خطابيه وشعرية، فأجابه بجواب بديع افتتحه بقوله تعالى:
﴿سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها﴾ [البقرة: ١٤٢] ثم رد كلامه أحسن رد ثم قال له ما حاصله: دع عنك مثل هذه الخرافات، وأجب عن الأمور التي ألزمتكم بها في كتاب غاية المقصود، فما أحار جواباً، ثم القائل لهذا القول منهم روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم أربعة، وقيل: قائله واحد وأسند إلى الكل كما يقال: فلان يركب الخيول وقد لا يكون له إلا فرس واحد، وهو كقوله تعالى
﴿الذين قال لهم الناس﴾ [آل عمران: ١٧٣] وقيل: كان فاشياً فيهم فلما عابهم الله به تركوه وهم الآن ينكرونه، والله تعالى أصدق حديثاً
﴿وقالت النصارى﴾ أي منهم إفكاً وعدواناً
﴿المسيح﴾ وأخبروا عنه بقولهم:
﴿ابن الله﴾ أي مع أن له الغنى المطلق والكمال الأعظم، والمسيح هذا هو ابن الله مريم بنت عمران؛ ثم استأنف قوله مترجماً قولي فريقيهم:
﴿ذلك﴾ أي القول البعيد من العقول المكذب للنقول
﴿قولهم بأفواههم﴾ أي حقيقة لم يحتشموا من قوله مع
438
سخافته، وهو مع ذلك قول لا تجاوز حقيقته الأفواه إلى العقول لأنه لا يتصوره عاقل، بل هو قول مهمل كأصوات الحيوانات العجم لا يتحقق له المعنى؛ قال: ومعناه الحال أن قائله لا عقل له، ليس له معنى وراء ذلك، ولبعده عن أن يكون مقصوداً لعاقل عبر فيه بالأفواه التي هي أبعد من الألسنة إلى القلوب.
ولما كان كأنه قيل: فما لهم إذا كان هذا حالهم قالوه؟ قال ما حاصلة: إنهم قوم مطبوعون على التشبه بمن يفعل المفاسد كما أنهم تشبهوا بعبدة الأوثان، فعبدوها غير مرة والأنبياء بين أظهرهم يدعونهم إلى الله وكتابهم ينادي بمثل ذلك وينذرهم أشد الإنذار
﴿يضاهئون﴾ أي حال كونهم يشابهون بقولهم هذا
﴿قول الذين كفروا﴾ أي بمثله وهو العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله، كما أنهم لما رأوا الذين يعكفون على أصنام لهم قالوا:
﴿يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة﴾.
ولما كان لا يمتنع أن يكون الذين شابهوهم إنما كانوا بعدهم أو في زمانهم من قبل أن يبين فساد قولهم، نفى ذلك بقوله مشيراً بحرف الجر إلى أن كفرهم لم يستغرق زمن القبل:
﴿من قبل﴾ أي من قبل أن يحدث منهم هذا القول، وهذا دليل على أن العرب غيروا دين إسماعيل عليه السلام، اجترؤوا على مثل هذا القول قبل إيقاع بخت نصر باليهود
439
أو في حدوده، وليس ذلك ببعيد مع طول الزمان وإغواء الشيطان، فقد كان بين زمان إبراهيم وعزير عليهما السلام نحو ألف وخمسمائة سنة - هذا على ما ذكره بعض علماء أهل الكتاب عن كتبهم وأيده ما ذكره المسعودي من مروج الذهب في تاريخ ملوك بابل من نمرود إلى بخت نصر: وذكر بعض المؤرخين أن بين الزمنين زيادة على ألفي سنة على أنهم قد نقلوا ما هو صريح في كفر العرب في ذلك الزمان فرووا عن هشام بن الكلبي أنه قال: كان بدء نزول العرب إلى أرض العراق أن الله عز وجل اوحى إلى برخيا من ولد يهودا أن ائت بخت نصر فمره أن يغزو العرب الذين لا أغلاق لبيوتهم ويطأ بلادهم بالجنود فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم وأعلمه بكفرهم بي واتخاذهم الآلهة دوني وتكذيبهم أنبيائي ورسلي، وعن غير ابن الكلبي أنه نظم ما بين أبلة والايلة خيلاً ورجالاً ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح قدروا عليه، وأوصى الله برخيا وإرميا بمعد بن عدنان الذي من ولده محمد المختوم به النبوة، وكان ذكر مشابهتهم لأهل الشرك تحقيراً لشأنهم تجرئة على الإقدام عليهم إذ جعلهم مشابهين لمن دربوا قتالهم وضربوا عليهم فأذلوهم بعد أن كانوا في عزة لا يخشون زوالها، وعزائم شديدة لا يخافون
440
انحلالها، كل ذلك بطاعة الله في قتالهم وطلب مرضاته بنزالهم لأنه عليهم، ومن كان عليه لم يفلح، وإلى مثل ذلك إشارة بقوله في حق هؤلاء:
﴿قاتلهم الله﴾ أي أهلكهم الملك الأعظم، لأن من قاتله لم ينج منه، وقيل: لعنهم؛ روي عن ابن عباس قال: وكل شيء في القرآن مثله فهو لعن
﴿أنى يؤفكون*﴾ أي كيف ومن أين يصرفون عن الحق مع قيام الأدلة القاطعة عليه، ثم زادهم جرأة عليهم بالإشارة إلى ضعف مستندهم حيث كان مخلوقاً مثلهم بقوله:
﴿اتخذوا﴾ أي كلفوا أنفسهم العدول عن الله القادر على كل شيء وأخذوا
﴿أحبارهم﴾ أي من علماء اليهود، والحبر في الأصل العالم من أيّ طائفة كان
﴿ورهبانهم﴾ أي من زهاد النصارى، والراهب في الأصل من تمكنت الرهبة في قلبه فظهرت آثارها على وجهه ولباسه، فاختص في العرف بعلماء النصارى أصحاب الصوامع
﴿أرباباً﴾ أي آلهة لكونهم يفعلون ما يختص به الرب من تحريم ما حرموا وتحليل ما حللوا؛ وأشار إلى سفول أمرهم بقوله:
﴿من دون الله﴾ أي الحائز لجميع صفات الجلال، فكانوا يعولون عليهم ويسندون أمرهم إليهم حتى أن كانوا ليتبعونهم في الحلال والحرام و
﴿المسيح﴾ أي المبارك الذي هو أهل لأن المسيح بدهن القدس وأن يمسح غيره
﴿ابن مريم﴾ أي
441
اتخذوه كذلك لكونهم جعلوه ابناً فأهلوه للعبادة بذلك مع كونه ابن امرأة، فهو لا يصلح للإلهية بوجه لمشاركته للآدميين في الحمل والولادة والتربية والأكل والشرب وغير ذلك من أحوال البشر الموجبة للحاجة المنافية للإلهية، ومع تصريحه لهم بأنه عبد الله ورسوله، فتطابق العقل والنقل على أنه ليس بإله.
ولما قبح عليهم ما اختاروه لأنفسهم، قبحه عليهم من جهة مخالفته لأمره تعالى فقال:
﴿وما﴾ أي فعلوا ذلك والحال أنهم ما
﴿أمروا﴾ أي من كل من له الأمر من أدلة العقل والنقل
﴿إلا ليعبدوا﴾ أي ليطيعوا على وجه التعبد
﴿إلهاً واحداً﴾ أي لا يقبل القسمة بوجه لا بالذات ولا بالمماثلة، وذلك معنى وصفه بأنه
﴿لا إله إلا هو﴾ أي لا يصلح أن يكون معه إله آخر، فلما تعين ذلك في الله وكانت رتبته زائدة أبعد عما أشركوا به، نزهه بقوله:
﴿سبحانه﴾ أي بعدت رتبته وعلت
﴿عما يشركون*﴾ في كونه معبوداً أو مشروعاً؛ ذكر أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي القاضي في تفسيره وغيره عن عدي ابن حاتم رضي الله عنه قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفي عنقي صليب من ذهب فقال: اقطعه، فقطعته ثم أتيته وهو يقرأ سورة براءة
﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون﴾ قلت: يا رسول!
442
إنا لم نكن نعبدهم! قال: أجل. أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله فتستحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟ قلت: بلى، قال: تلك عبادتهم.
ولما وهى سبحانه أمرهم من جهة استنادهم، زاد توهية من جهة مرادهم بالإعلام بأنهم بقتالهم لأهل الطاعة إنما يقاتلون الله وأنه لا ينفذ غرضهم بل يريد غير ما يريدون، ومن المقرر أنه لا يكون إلا ما يريد، فقال مستأنفاً أو معللاً لما مضى من أقوالهم وأفعالهم:
﴿يريدون أن يطفئوا﴾ أي بما مضى ذكره من أحوالهم
﴿نور الله﴾ أي دين الملك الأعلى الذي له الإحاطة العظمى، وشرعه الذي شرعه لعباده على ألسنة الأنبياء والرسل، كل ذلك ليتمكنوا من العمل بالأغراض والأهوية، فإن اتباع الرسل حاسم للشهوات، وهم أبعد الناس عن ذلك.
ولما حقر شأنهم، هدمه بالكلية بقوله:
﴿بأفواههم﴾ أي بقول خال عن شيء يثبته أو يمضيه وينفذه، وفي تسمية دينه نوراً ومعاندتهم إطفاء بالأفواه تمثيل لحالهم بحال من يريد إطفاء نور الشمس بنفخه
﴿ويأبى﴾ أي والحال أنه يفعل فعل الأبيّ وهو أنه لا يرضي
﴿الله﴾ أي الذي له جميع العظمة والعز ونفوذ الكلمة
﴿إلا أن يتم نوره﴾ أي لا يقتصر على مجرد إشراقه، بل وعد - وقوله الحق - بأنه لا بد من إكماله
443
وإطفائه لكل ما عداه وإحراقه. ولما في
«يأبى» من معنى الجحد دخل عليه الاستثناء، أي إنه يأبى كل حالة إلا حالة إتمامه نوره على التجدد والاستمرار
﴿ولو كره الكافرون*﴾ أي العريقون في الكفر فكيف بغيرهم.
ولما أخبر أنه معل لقوله ومكمل، ومبطل لقولهم مسفل، علل ذلك بما حاصله أنه شأن الملوك، وهو أنهم إذا برز لهم أمر شيء لم يرضوا أن يرده أحد فإن ذلك روح الملك الذي لا يجازي الطاعن فيه إلا بالهلك فقال:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿الذي أرسل رسوله﴾ أي محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿بالهدى﴾ أي لبيان الشافي بالمعجزات القولية والفعلية
﴿ودين الحق﴾ أي الكامل في بيانه وثباته كمالاً ظاهراً لكل عاقل؛ ثم زادهم جرأة على العدو بقوله معللاً لإرساله:
﴿ليظهره﴾ أي الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدين - أدام الله ظهوره
﴿على الدين كله﴾ وساق ذلك كله مساق الجواب لمن كأنه قال: كيف نقاتلهم وهم في الكثرة والقوة على ما لا يخفي؟ فقال: لم لا تقاتلونهم وأنتم لا تعتمدون على أحد غير من كل شيء تحت قهره، وهم إنما يعتمدون على مخاليق مثلكم، كيف لا تجسرون عليهم وهم في قتالكم إنما يقاتلون
444
ربهم الذي أنتم في طاعته؟ أم كيف لا تصادمونهم وهو الذي أمركم بقتالهم لينصركم ويظهر آياته؟ ولعل الختم بقوله:
﴿ولو كره المشركون*﴾ أبلغ لأن الكفر قد لا يكون فيه عناد، والشرك مبناه على العناد باتخاذ الأنداد، أي لا بد من نصركم خالف من خالف مجرد مخالفة أو ضم إلى ذلك العناد بالاستعانة بمن أراد.
445
ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفاً متلطفاً منادياً باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون، منبهاً على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجراً وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى، ولم يعتقده رسولاً واتخذ مربوباً مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربواً، وذلك مقتض لتحقيرهم لا لمطلق تعظيمهم فضلاً عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه
﴿إن كثيراً من الأحبار﴾
445
أي من علماء اليهود
﴿والرهبان﴾ أي من زهاد النصارى
﴿ليأكلون﴾ أي يتناولون، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه
﴿أموال الناس بالباطل﴾ أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فيكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عباده إليهم.
ولما أخبر عن إقبالهم على الدنيا، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال:
﴿ويصدون﴾ أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم
﴿عن سبيل الله﴾ أي دين الملك الذي له الأمر كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفاً على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق.
ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال، شرع سبحانه على مطلق الكنز، ففهم من باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال:
﴿والذين﴾ أي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين
﴿يكنزون﴾ أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم: مكتنز
﴿الذهب والفضة﴾ أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية.
ولما كان من المعلوم أنهما أجل ما الناس، وكان الكنز دالاً
446
على المكاثرة فيهما، أعاد الضمير عليهما بما يدل على الأنواع الكثيرة فقال:
﴿ولا ينفقونها﴾ أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر
«من» - وهي مرادة - لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها، والحاجة إليها لكثرتها أقل، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب؛ وقال الحرالي في آل عمران: فأوقع الإنفاق عليهما ولم يخصه من حيث لم يكن، ولا ينفقون منها كما قال في المواشي [خذ من أموالهم] لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة، فكان كسرهما بإذهابهما -انتهى.
﴿في سبيل الله﴾ أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه
﴿فبشرهم﴾ أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكماً بهم: بشرهم
﴿بعذاب أليم*﴾ عوضاً عما أرادوا من السرور بإنجاح المقاصد.
ولما كان السياق دالاًّ دلالة واضحة على أن هذا العذاب يحصل لهم ويقع بهم، فنصب بذلك قوله:
﴿يوم يحمى﴾ أي يحصل الإحماء وهو الإيقاد الشديد
﴿عليها﴾ أي الأموال التي جمعوها
﴿في نار جهنم﴾
447
أي التي لا يقاربها ناركم، وتلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى بذلك الفقراء وغيرهم من أهل الله لا سيما من منعه ما يجب له من النفقة
﴿فتكوى بها﴾ أي بهذه الأموال
﴿جباههم﴾ التي هي أشرف أعضائهم لأنها مجمع الوجوه والرؤوس وموضع الجاه الذي يجمع المال لأجله لتعبيسهم بها في وجوه الفقراء
﴿وجنوبهم﴾ التي يحوونه لملئها بالمآكل المشتهاة والمشارب المستلذة ولازورارهم بها عن الفقراء
﴿وظهورهم﴾ التي يحوونه لتقويتها وتحميلها بالملابس وتجليتها ولتوليتهم إياها إذا اجتمعوا مع الفقراء في مكان. ثم يقال لهم:
﴿هذا ما كنزتم﴾ وأشار إلى الحامل على الجمع المنافي للعقل بقوله:
﴿لأنفسكم﴾ أي لتنافسوا به وتلتذوا فلم تنفقوه فيما أمر الله
﴿فذوقوا ما﴾ أي وبال وعذاب ما
﴿كنتم تكنزون*﴾ أي تجددون جمعه على سبيل الاستمرار حريصين عليه، وأشار بفعل الكون إلى أنهم مجبولون على ذلك؛ روى البخاري في التفسير عن زيد بن وهب قال: مررت على أبي ذر رضي الله عنه بالربذة قلت: ما أنزلك بهذه الأرض قال: كنا بالشام فقرأت
﴿والذين يكنزون الذهب والفضة﴾ - الآية، قال
448
معاوية: ماهذه فينا، ما هذه إلا في أهل الكتاب! قلت: إنها لفينا وفيهم؛ وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهراً للأموال، يعني فما أعطى صاحبه ما وجب عليه فيه فليس بكنز.
ولما تقدم كثير مما ينبني على التاريخ: الحج في غير موضع والأشهر وإتمام عهد من له مدة إلى مدته والزكاة والجزية، وختم ذلك بالكنز الذي لا يطلق شرعاً إلا على ما لم تؤد زكاته، وكان مشركو العرب - الذين تقدم الأمر بالبراءة منهم والتأذين بهذه الآيات يوم الحج الأكبر فيهم - قد أحدثوا في الأشهر - بالنسيء الذي أمروا أن ينادوا في الحج بإبطاله - ما غير السنين عن موضوعها الذي وضعها الله عليه، فضاهوا به فعل أهل الكتاب بالتدين بتحليل أكابرهم وتحريمهم كما ضاهى أولئك قول أهل الشرك في النبوة والأبوة، قال تعالى:
﴿إن عدة الشهور﴾ أي منتهى عدد شهور السنة
﴿عند الله﴾ أي في حكم وعلم الذي خلق الزمان وحده وهو الإله وحده فلا أمر لأحد معه
﴿اثنا عشر شهراً﴾ أي لا زيادة عليها ولا تغيير لها كما تفعلونه في النسيء
﴿في كتاب الله﴾ أي كلام الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، وحكمه الذي هو مجمع الهدى، فهو الحقيق بأن يكتب،
449
وليست الشهور ثلاثة عشر ولا أكثر كما كان يفعل من أمرتكم بالبراءة منهم كائنين منة كانوا في النسيء
﴿يوم﴾ أي كان ذلك وثبت يوم
﴿خلق السماوات والأرض﴾ أي اللذين نشأ عنهما الزمان.
والمعنى أن الحكم بذلك كان قبل أن يخلق الزمان
﴿منها﴾ أي الشهور
﴿أربعة حرم﴾ أي بأعيانها لا بمجرد العدد
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم والحكم العالي الرتبة في الإتقان خاصة
﴿الدين القيم*﴾ أي الذي لا عوج فيه ولا مدخل للعباد، وإنما هو بتقدير الله تعالى للقمر؛ روى البخاري عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال - يعني في حجة الوادع:
«إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم: ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان» ولما بين الأمر سبب عنه قوله:
﴿فلا تظلموا فيهن﴾ أي الأشهر الحرم
﴿أنفسكم﴾ أي بسبب إنساء بعضها وتحريم غيره مكانة لتوافقوا العدد - لا العين - اللازم عنه إخلال كل منها بإيقاع الظلم فيه وتحريم كل من غيرها، قال قتادة: العمل الصالح والفاسد فيها أعظم منه في غيرها وإن كان ذلك في نفسه عظيماً فإن الله تعالى لعظم من أمره ما شاء؛ وقال أبو حيان ما حاصله: إن العرب تعيد الضمير على جمع الكثرة كالواحدة المؤنثة فلذا قال: «منها
450
أربعة» أي من الشهور، وعلى جمع القلة لما لا يعقل بنون جمع المؤنث فلذا قال
﴿فلا تظلموا فيهن﴾ أي في الأربعة.
ولما كان إنساؤهم هو لتحل لهم المقاتلة على زعمهم قال:
﴿وقاتلوا المشركين كافة﴾ أي كلكم في ذلك سواء، في الائتلاف واجتماع الكلمة
﴿كما يقاتلونكم كافة﴾ أي كلهم في ذلك سواء وذلك الحكم في جميع السنة، لا أنهاكم عن قتالهم في شهر منها، فأنتم لا تحتاجون إلى تغيير حكمي فيها لقتال ولا غيره إن اتقيتم الله، فلا تخافوهم وإن زادت جموعهم وتضاعفت قواهم لأن الله يكون معكم
﴿واعلموا أن الله﴾ أي الذي له جميع العظمة معكم، هكذا كان الأصل ولكنه أظهر الوصف تعليقاً للحكم به وتعميماً فقال:
﴿مع المتقين*﴾ جميعهم، وهم الذين يثبتون تقواهم على ما شرعه لهم، لا على النسيء ونحوه، ومن كان الله معه نصر لا محالة.
451
ولما فهم من هذا إبطال النسيء لأنه فعل أهل الجاهلية فلا تقوى فيه، كان كأنه قيل: أفما في النسيء تقوى فإن سببه إنما هو الخوف من انتهاك حرمة الله بالقتال في الشهر الذي حرمه؟ وذلك أنهم كانوا أصحاب غارات وحروب، وكانوا يحترمون الأشهر الحرم عن القتال حتى لو رأى الإنسان قاتل أبيه لا مانع منه لم يعرض له، فكان إذا جاء الشهر الحرام وهم محاربون شق عليهم تركه، وكان يشق عليهم ترك
451
ذلك ثلاثة أشهر متوالية، فجعلوا النسيء لذلك، فقيل تصريحاً بما أفهمه ما مضى: ليس فيه شيء من ذلك:
﴿إنما النسيء﴾ أي تأخير الشهر إلى شهر آخر على أنه مصدر نسأ نسيئاً - إذا أخره، أو هو اسم مفعول، أي الشهر الذي تؤخر العرب حرمته من الأشهر الحرم عن وقتها
﴿زيادة في الكفر﴾ أي لأنه على خلاف ما شرعه الله، ستر تحريم ما أظهر الله تحريمه.
ولما بين ما في النسيء من القباحة، تحرر أنهم وقعوا على ضد مرادهم فإنهم كانوا لو قاتلوا في الشهر الحرام قاتلوا وهم معتقدون الحرمة خائفون عاقبتها فكانوا غير خارجين عن دائرة التقوى بالكلية، فإذا هم بتحليله قد صاروا خارجين عن دائرتها بمراحل لارتكابهم فيه كل عظيمة مع الأمن لاعتقاد الحل بتحليل ذلك الذي اعتقدوه رباُ، فكان يقول: إني لا أجاب ولا أعاب، وإنه لا مراد لقضائي، وإني حللت المحرم وحرمت صفراً - إلى غير ذلك من الكلام الذي لايليق إلا بالإله؛ وذلك الذي معنى قوله تعالى بياناً لما قبله:
﴿يضل به﴾ أي بهذا التأخير الذي هو النسيء
﴿الذين كفروا﴾ أي يحصل لهم بذلك ضلال عما شرعه الله -
452
هذا على قراءة الجماعة والمعنى على قراءة حمزة والكسائي وحفص - بالبناء للمفعول: يضلهم مضل من قبل الله، وعلى قراءة يعقوب - بالضم: يضلهم الله؛ ثم بين ضلالهم بقوله:
﴿يحلونه﴾ أي ذلك الشهر، وعبر عن الحول بلفظ يدور على معنى السعة إشارة إلى أنهم يفعلونه ولو لم يضطرهم إلى ذلك جدب سنة ولا عض زمان، بل بمجرد التشهي فقال:
﴿عاماً ويحرمونه عاماً﴾ هكذا دائماً كلما أرادوا. وليس المراد أنهم كل سنة يفعلون ذلك من غير إجلال لسنة من السنين، وهذا الفعل نسخ منهم مع أنهم يجعلون النسخ من معايب الدين
﴿ليواطئوا﴾ أي يوافقوا
﴿عدة ما حرم الله﴾ أي المحيط بالجلال والإكرام في كون الأشهر الحرم أربعة
﴿فيحلوا﴾ أي فيتسبب عن هذا الفعل أن يحلوا
﴿ما حرم الله﴾ أي الملك الأعظم منها كلها، فلا يدع لهم هذا الفعل شهراً إلا انتهكوا حرمته فأرادوا بذلك عدم انتهاك الحرمة فإذا هم لم يدعوا حرمة إلا انتهكوها، فما أبعده من ضلال!
ولما انهتكت بهذا البيان قباحة فعلهم، كان كأنه قيل: إن هذا لعجب! ما حملهم على ذلك؟ فقيل:
﴿زين﴾ أي زين مزين، وقرىء شاذاً بإسناد الفعل إلى الله
﴿لهم سوء أعمالهم﴾ أي حتى رأوا حسناً ما ليس بالحسن فضلوا ولم يهتدوا، فعل الله بهم ذلك لما علم من طبعهم على الكفر فلم يهدهم
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿لا يهدي﴾ أي يخلق الهداية في القلوب
﴿القوم الكافرين*﴾ أي
453
الذي طبعهم على الكفر فهم عريقون فيه لا ينفكون عنه؛ والنسيء - قال في القاموس -: الاسم من نسأ الشيء بمعنى زجره وساقه وأخره، قال: وشهر كانت تؤخره العرب في الجاهلية فنهى الله عز وجل عنه؛ وقال ابن الأثير في النهاية؛ والنسيء فعول بمعنى مفعول، وقال ابن فارس في المجمل: والنسيء في كتاب الله التأخير، وكانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول: أنا الذي لا يرد لي قضاء! فيقولون: أنسئنا شهراً، اي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر - انتهى.
ومادة نسأ تدور على التغريب، وسبب فعلهم هذا أنهم كانوا ربما أرادوا قتالاً في شهر حرام فيحلونه، ويحرمون مكانه شهراً من أشهر الحل ويؤخرون ذلك الشهر؛ قال ابن فارس: وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها، لأن معاشهم في الغارة فيحل لهم الكناني المحرم - انتهى. وكان النسأة من بني فقيم من كنانة، وكان أول من فعل ذلك منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد ابن فقيم، وآخرهم الذي قام عليه الإسلام أبو ثمامة جنادة بن عوف بن أمية بن قلع بن عباد بن حذيفة بن عبد بن فقيم بن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ابن خزيمة. نسأ أربعين سنة، كانت
454
العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه، فحرم الأشهر الحرم الأربعة، فإذا أرادوا أن يحل منها شيئاً أحل المحرم فأحلوه، وحرم مكانه صفراً فحرموه، ليواطئوا عدة الأربعة الأشهر الحرم، فإذا أرادوا الصدر قام فيهم فقال: اللهم إني قد أحللت لهم أحد الصفرين الصفر الأول، ونسأت الآخر للعام المقبل - ذكر ذلك أهل السير، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن أول من نسأ عمرو بن لحي.
وتحقيق معنى ما كانت العرب تفعله واختلاف أسماء الشهور به حتى يوجب دوران السنين فلا تصادف أسماء الشهور مسمياتها إلا الحين بعد الحين عسر قل من اتى فيه بما يتضح به قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجة الوداع كما مضى
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وها أنا أذكر فيه ما لا يبقى بعده لبس إن شاء الله تعالى، فمعنى قوله: ونسأت الآخر للعام المقبل، أنه إذا أحل المحرم وسماه صفراً ابتدأ السنة بعده بالمحرم ثم صفر إلى آخرها، فيصير بين صفر وذي الحجة الذي وقع النسيء فيه شهران، وقد كان ينبغي ان يكون بينهما شهر واحد، فأخر هذا الذي ينبغي إلى العام المقبل، فالمعنى: وأخرت الصفر الآخر عن محله إلى العام المقبل فإذا جاء العام المقبل انتهى تأخره، وإذا انتهى رجع إلى محله، ويمكن أن يتنزل على هذا قول أبي عبيد
455
في غريب الحديث، قال بعد النصف من الجزء الثالث منه في شرح الاستدارة: إن بدء ذلك - والله أعلم - أن العرب كانت تحرم الشهور الأربعة، وكان هذا مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام، فربما احتاجوا إلى تحليل المحرم للحرب تكون بينهم، فيكرهون أن يستحلوه ويكرهون تأخير حربهم فيؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه ويستحلون المحرم، وهذا هو النسيء الذي قال الله
﴿إنما النسيء﴾ [براءة: ٣٧] الآية، وكان ذلك في كنانة هم الذين كانوا ينسؤون الشهور على العرب، والنسيء هو التأخير، فكانوا يمكثون بذلك زماناً يحرمون صفراً وهم يريدون بذلك المحرم ويقولون: هو أحد الصفرين، وقد تأول بعض الناس قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لا صفر» على هذا، ثم يحتاجون أيضاً إلى تأخير صفر إلى الشهر الذي بعده كحاجتهم إلى تأخير المحرم فيؤخرون تحريمه إلى ربيع، ثم يمكثون بذلك ما شاء الله ثم يحتاجون إلى مثله ثم كذلك، فكذلك يتدافع شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها، فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله به، وذلك بعد دهر طويل، فذلك قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» يقول: رجعت الأشهر الحرم إلى موضعها وبطل النسيء، وقد زعم بعض الناس أنهم كانوا
456
يستحلون المحرم عاماً، فإذا كان من قابل ردوه إلى تحريمه، قال أبو عبيد: الأول أحب إليّ لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إن الزمان قد استدار» وليس في التفسير الأخير استدارة، وعلى هذا التفسير الذي فسرناه قد يكون قوله
﴿يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً﴾ مصدقاً له لأنهم إذا حرموا العام المحرم وفي قابل صفراً ثم احتاجوا بعد ذلك إلى تحليل صفر أيضاً أحلوه وحرموا الذي بعده، فهذا تأويل قوله في التفسير، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً. وقال أبو حيان في النهر ما حاصله: كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات، فيشق عليهم توالي الأشهر الحرم، وكان بنو فقيم أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم، فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم خلفه ابنه قلع ثم خلفه ابنه أمية ثم خلفه ابنه عوف ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، كانوا إذا فرغوا من حجهم جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهراً، فيحل المحرم، ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة ويسمون ذلك الصفر المحرم ويسمون ربيعاً الأول صفراً وربيعاً الآخر ربيعاً الأول - وهكذا سائر الشهور، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهراً أولها المحرم الذي هو في الحقيقة صفر؛ وقال البغوي: قال مجاهد: كانوا يحجون في كل شهر عامين،
457
فحجوا في ذي الحجة عامين وحجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذلك في الشهور، فوافقت حجة أبي بكر السنة الثانية من ذي القعدة، ثم حج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العام المقبل حجة الوادع، فوافق حجه أشهر الحج المشروع وهو ذو الحجة، وقال عبد الرزاق في تفسيره: أخبرنا معمر عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله
﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، فكان المشركون يسمون الأشهر: ذا الحجة والمحرم وصفر وربيع وربيع وجمادى وجمادى ورجب وشعبان ورمضان وشوال وذا القعدة وذا الحجة، ثم يحجون فيه مرة أخرى، ثم يسكتون عن المحرم ولا يذكرونه، فيسمونه - أحسبه قال - المحرم صفر، ثم يسمون رجب بجمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان رمضان، ورمضان شوالاً.
ثم يسمون ذا القعدة شوالاً. ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة، ثم عادوا كمثل هذه الصفة فكانوا يحجون عامين في كل شهر حتى وافق حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة، ثم حج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجته التي حج، فوافق
458
ذلك ذا الحجة، فلذلك يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في خطبته
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» وقال ابن إسحاق في السيرة؛ سألت ابن أبي نجيح عن قول رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال؛ كانت قريش يدخلون في كل سنة شهراً، وإنما كانوا يوافقون ذا الحجة كل اثنتي عشرة سنة مرة، فوفق الله عز وجل لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجته التي حج ذا الحجة، فحج فيها فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض»، فقلت لابن أبي نجيح: فكيف بحجة أبي بكر وعتاب بن أسيد؟ فقال: على ما كان الناس يحجون عليه، ثم قال ابن أبي نجيح: كانوا يحجون في الحجة ثم العام المقبل في المحرم ثم صفر حتى يبلغوا اثنى عشر شهراً - انتهى.
وقوله هذا يوهم أن في حج أبي بكر وعتاب رضي الله عنهما اختلالاً، وتقدم عن المهدوي وغيره التصريح بأنه كان في ذي القعدة - وفيه نظر، لأن السنة التي حج فيها أبو بكر رضي الله عنه نودي فيها بتحريم النسيء وغيره من أمور الجاهلية، فلا شك أنه لم يكن في ذلك العام إنساء، ولما مضى من الشهر الذي حج فيه عشرة أشهر، وكان الحادي عشر وهو ذو القعدة سار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أواخره إلى الحج موافياً لهلال
459
ذي الحجة، فلما وقف بعرفة أخبر أن الزمان قد استدار، فعلم قطعاً أن استدارته كانت في حجة أبي بكر، وكذا في سنة ثمان وهي السنة التي حج فيها عتاب بالمسلمين، وذلك لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم لم يكونوا يعتبرون حساب أهل الجاهلية لا نسأتهم ولا غير نسأتهم، لأنه يلزم من القول بأنهم اعتبروا أمر النسأة أنهم اعتبروا ما هو زيادة من الكفر، وهذا ما لا يقوله ذو مسكة، وقد تقدم النقل أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسل أبا بكر رضي الله عنه إلى الحج في أواخر ذي القعدة أو بعد انقضائه من سنة تسع، ووافاه العرب في ذي الحجة: الكفار وغيرهم، فوقع إعلامهم ببراءة في أيام الحج وأماكنه، فلو كان حصل في سنة عتاب اختلال في ذي القعدة بنسيء لكان ذو الحجة بحساب الكفار وهو المحرم بحساب الإسلام، فكان يتأخر مجيء الكفار للحج عن مجيء المسلمين، فثبت بهذا أيضاً أن حجه رضي الله عنه كان في ذي الحجة، فحفظ الله أهل الإسلام من أن يقع في حجهم اختلال في سنة من السنين، وما هي بأول نعمة عليهم - والله الموفق؛ وقال الإمام أبو العباس أحمد بن أبي احمد المشهور بابن القاص من أكابر متقدمي أصحاب الشافعي رحمه الله في كتابه دلائل القبلة في باب معرفة عدد أيام السنة: فالسنة اثنا عشر شهراً بالأهلة، وربما كان الشهر ثلاثين وربما كان تسعاً وعشرين، فمبلغ السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوماً وثماني
460
ساعات وأربعة أخماس ساعة، وقالت الهند: السنة ثلاثمائة وخمسة وستون يوماً وست ساعات وخمس ساعة وجزء من أربعمائة جزء من ساعة، وذلك من دخول الشمس برأس الحمل إلى أن تدخل فيه من قابل، ففضل ما بين السنة الهلالية والسنة الشمسية عشرة أيام وإحدى وعشرون ساعة وخمسا ساعة، فإذا زيدت عليها هذه الساعات والأيام استقام حسابه مع دوران الشمس، وكانت العرب تزيده في الجاهليه، وكان الذي أبدع لهم ذلك رجل من كنانة يقال له القلمس، وذلك أنه يجمع هذه الزيادة فإذا تمت شهراً زاده في السنة وجعل تلك السنة ثلاثة عشر شهراً، وسماه نسيئاً، ويحج بهم تلك السنة في المحرم، فأنزل الله تعالى
﴿إنما النسيء زيادة في الكفر﴾ فلما كانت السنة التي حج فيها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حجة الوداع وافق الحج في تلك السنة ذا الحجة لما أراد الله تعالى بإثبات الحج في تلك السنة، فخطب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:
«أيها الناس! ألا إن السنة قد استدارت كهيئتها يوم خلق الله السماوات والأرض ﴿منها أربعة حرم ذلك الدين القيم﴾ » يعنى به الحساب القيم، فالحرم رجب جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، فسمي ذلك الحج الأقوم، وقال الشاعر:
وأبطل ذو العرش النسي وقلمسا | وفاز رسول الله بالحج الأقوم - انتهى |
والقلمس بفتح اللام وتشديد الميم، فالنسيء في البيت متروك الهمز
461
ليصح الوزن، والأقوم منقول حركة الهمزة، وقوله: إن علة النسيء التطبيق بين السنة الشمسية والقمرية - فيه نظر، والظاهر أن علته ما ذكر في السير من اضطرارهم إلى القتال، وأمر الاستدارة في كل من هذه الأقوال واضح الاستنارة، وليس المراد بها مصادفة كل فصل من فصول السنة لموضعه من الحر والبر، ومصادفة اسم كل شهر لمسماه بحسب اشتقاقه حتى يكون رمضان في شدة الحر مثلاً وكذلك غيره وإن كان الواقع أن الأمر كان في هذه الحجة كذلك، لما تقدم من أن غزوة تبوك كان ابتداؤها في شهر رجب، وكان ذلك كما تقدم في شدة الحر وحين طابت الثمار، وإنما المراد الأعظم بالاستدارة مصادفة اسم كل شهر لمسماه لا لمسمى شهر آخر لأجل الدوران بالنسيء بدليل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما ذكر إلا لأجله، فقال في بعض طرق حديث جابر الطويل رضي الله عنه:
«إن النسيء زيادة في الكفر، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً» فانظر إلى تعقيبه بحصر الأشهر في الاثنى عشر نفياً لجعلهم إياها سنة النسيء ثلاثة عشر شهراً، وقال: منها أربعة حرم، وعينها وقال: أيّ شهر هذا؟ فلما سكتوا قال: ذو الحجة شهر حرام، كل هذا لبيان أن المراد بالاستدارة رجوع كل شهر عما غيره أهل الجاهلية إلى موضعه الذي وضعه الله به موافقاً اسمه لمسماه، وجعلت أشهرنا هلالية مع المنع من النسيء لتحصل الاستدارة فيحصل بسببها كل عبادة تعبدنا بها
462
من صوم وعيد وحج وغيره في كل فصل من فصول السنة بخلاف من شهوره بالحساب، فإن عباداتهم خاصة بوقت من السنة لا تتعداه - والله الموافق له، وقال القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره، حثنا ابن أبي عمر ثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس قال؛ الشهر الذي انتزعه الله من الشيطان المحرم.
والحاصل أنه لا شك في أن النسيء لم يكن قط إلا للمحرم لما تقدم، وان الحج لم يكن قط في جاهلية ولا إسلام إلا في شهر يسمى ذا الحجة لما قاله نقلة اللغة والحديث والأخبار، قال ابن الأثير في النهاية ونشوان اليمني في شمس العلوم والقزاز في ديوانه وابن مكتوم في ترتيب العباب والمحكم: ذو الحجة بالكسر: شهر الحج، زاد المحكم: سمي بذلك للحج، وقال القزاز؛ إن الفتح فيه أشهر، وفي النهاية: يوم التروية هو الثامن من ذي الحجة، سمى به لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء لما بعده، أي يستقون ويسقون؛ وقال المجد في القاموس: يوم عرفة التاسع
463
من ذي الحجة، وفي كتاب أسواق العرب لأبي المنذر هشام بن محمد الكلبي رواية أبي سعيد السكري أن عكاظ كانت من أعظم أسواق العرب. فإذا أهل أهلها هلال ذي الحجة ساروا بأجمعهم إلى ذي المجاز وهي قريب من عكاظ، وعكاظ في أعلى نجد، فأقاموا بها حتى التروية، ووافاهم بمكة حجاج العرب ورؤوسهم ممن أراد الحج بمن لم يكن شهد تلك الأسواق. قال الأزرقي في تاريخ مكة: فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا بها ثماني ليال أسواقهم قائمة، ثم يخرجون يوم التروية في ذي المجاز إلى عرفة فيتروون ذلك اليوم من الماء بذي المجاز، وإنما سمي يوم التروية لترويهم الماء بذي المجاز، ينادي بعضهم بعضاً: ترووا من الماء، إنه لا ماء بعرفة ولا بالمزدلفة يومئذ، ثم ذكر أنه لا يحضر ذلك إلا التجار، قال: ومن لم يكن له تجارة فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية. وروى البيهقي في دلائل النبوة بسندة عن عروة وموسى بن عقبة - فرقهما - قالا: وأهل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعمرة من الجعرانة في ذي القعدة، ثم أسند عن ابن إسحاق انه قال: فلما فرغ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عمرته انصرف
464
راجعاً إلى المدينة، واستخلف عتاب بن أسيد على مكة وخلف معه معاذ بن جبل يفقه الناس في الدين ويعلمهم، فكانت عمرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي القعدة أو في الحجة، وحج الناس تلك السنة على ما كانت العرب يحج عليه، وحج تلك السنة عتاب بن أسيد سنة ثمان، وحديث اعتماره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذي العقدة رواه الشيخان ومضى على ما كانت العرب من الطواف عراة ونحوه؛ وذكره الواقدي عن مشايخ قالوا: وانتهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الجعرانة ليلة الخميس لخمس ليال خلون من ذي القعدة، فأقام بالجعرانة ثلاث عشرة ليلة، فلما أراد الانصراف إلى المدينة خرج من الجعرانة ليلة الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة ليلاً فأحرم - فذكرعمرته ثم قال: واستعمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عتاب بن أسيد على مكة، وخلف معاذ بن جبل وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما يعلمان الناس القرآن والفقه في الدين، وأقام للناس الحج عتاب بن أسيد رضي الله عنه عن تلك السنة وهي سنة ثمان، وحج ناس من المسلمين والمشركين على مدتهم، وقدم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة يوم الجمعه لثلاث بقين من ذي القعدة، قال الواقدي: فأقام بقية ذي القعدة وذا الحجة، فلما رأى هلال المحرم بعث المصدقين - انتهى.
إذا تقرر هذا علم أن الحج لم يكن قط إلا في شهر يسمونه ذا الحجة، وهو مما لا يدور
465
في خَلَد ولا يقع في وهم فيه تردد، ولا يحتاج إلى تطويل بذكره ولا إطناب في أمره، وتارة يوافق اسمه مسماه وتارة لا يوافقه لأجل النسيء، وعلم أيضاً أن حج عتاب بن أسيد كان في ذي الحجة بعد رجوع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الجعرانة إلى المدينة الشريفة، أنه ما تأخر عن ذي الحجة إلا لنقل، وأن حج أبي بكر رضي الله عنه سنة تسع كان ذي الحجة لذلك ولما تقدم من أن سفره له من المدينة الشريفة كان آخر ذي القعدة أو أول ذي الحجة ولقولهم: إن الأربعة الأشهر التي ضربت للمشركين من يوم النحر ولقولهم: إن الأربعة الأشهر كان آخرها عاشر ربيع الآخر، وعلم أن ذا الحجة تلك السنة لو كان وافق مسمى ذي القعدة لم يقع ذو الحجة سنة عشر التي حج فيها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضعه الذي وضعه الله به إلا بأن تكون تلك السنة ثلاثة عشر شهراً بنسيء أو غيره، وكل من الأمرين باطل، أما الأول فلأن الله تعالى أبطل النسيء في تلك السنة فيما أبطله من أمور الجاهلية في هذه السورة، وأرسل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمناداة بها كما مر، وأما الثاني فهو أمر خارق للعادة لم يكن مثله من حين خلق الله السماوات والأرض، والخارق مما تتوفر الدواعي [على] نقله، ولا ناقل لهذا أصلاً فبطل، وإذا بطل ثبت أن سنة عشر كانت اثني عشر
466
شهراً ولا سيما بعد إنزال الله تعالى في ذلك ما أنزل في هذه السورة، وإذا كان الأمر كذلك كان الشهر الذي وقف فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في موضع الشهر الذي وقف فيه الصديق رضي الله عنه سواء بسواء، وقد ثبت أن الزمان كان فيه قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، فثبت من غير مرية أن شهر الصديق رضي الله عنه كذلك كان، وثبت أيضاً أن سنة عتاب ابن أسيد رضي الله عنه كذلك كانت بما قدمتُ من أنه لم يكن فيها نسيء لتوافق حج المسلمين والمشركين في سنة تسع.
فدل ذلك على أنها كانت اثنى عشر شهراً، فكان ذو الحجة فيها في موضعه الذي وضعه الله به كما كانت سنة تسع، بل ظاهر قوله أبي عبيد: فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه - كما مضى - أن الله حفظ زمن الإسلام كله عن نسيء، وهو الذي اعتقده، وقد لاح بذلك أن السبب في قول من قال: إن حج الصديق رضي الله عنه وافق ذا القعدة، أنه فهم من قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إن الزمان قد استدار» أن الاستدارة لم تكن إلا في تلك السنة وليس ذلك مدلول هذا التركيب ما لا يخفي والله الوفق: ثم وجدت النقل الصريح في زوائد معجمي الطبراني: الأوسط والأصغر للحافظ نور الدين الهيثمي بمثل ما فهمته، قال في تفسير براءة: حدثنا إبراهيم - يعني ابن هشام - البغوي ثنا الصلت بن مسعود الجحدري ثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ثنا دواد بن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعني
467
عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: كانت العرب يحلون عاماً شهراً وعاماً شهرين ولا يصيبون الحج إلا في كل ست وعشرين سنة مرة، وهو النسيء الذي ذكره الله عز وجل في كتابه، فلما كان عام حج أبو بكر رضي الله عنه بالناس وافق ذلك العام الحج فسماه الله الحج الأكبر، ثم حج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض» لم يروه عن عمرو إلا داود تفرد به الصلت - انتهى. وهو حديث حسن إن شاء الله تعالى، ثم رأيت الهيثمي في مجمع الزوائد قال: رجاله ثقات، فأكد ذلك الجزم بما فهمت من أنه حسن، وإنما أطلت هذا بما قد لا يحتاج في إيضاحه إليه لكثرة جدال المجادلين المعاندين ومحال المماحلين الجامدين.
468
ولما أوعز سبحانه في أمر الجهاد، وأزاح جميع عللهم وبين أن حسنه لا يختص به شهر دون شهر وأن بعضهم كان يحل لهم ويحرم فيتبعونه بما يؤدي إلى تحريم الشهر الحلال وتحليل الشهر الحرام بالقتال فيه، عاتبهم الله سبحانه على تخلفهم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآمر لهم بالنفر في غزوة تبوك عن أمره سبحانه، وكان ابتداؤها في شهر رجب سنة تسع، فقال تعالى على سبيل الاستعطاف والتذكير بنعمة الإيمان
468
بعد ختم التي قبلها بأنه لا يهدي الكافرين - الذي يعم الحرب وغيره الموجب للجرأة عليهم [لأن لا هداية له أعمى، والأعمى لا يخشى] :
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك
﴿ما لكم﴾ أي ما الذي يحصل لكم في أنكم
﴿إذا قيل لكم﴾ أي من أيّ قائل كان
﴿انفروا﴾ أي اخرجوا مسرعين بجد ونشاط جماعات ووحداناً إمداداً لحزب الله ونصراً لدينه تصديقاً لدعواكم الإيمان، والنفر: مفارقة مكان إلى مكان لأمر هاج على ذلك
﴿في سبيل الله﴾ أي بسبب تسهيل الطريق إلى الملك الذي له جميع صفات الكمال، وقال ابو حيان: بني
«قيل» للمفعول والقائل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يذكر إغلاظاً ومخاشنة لهم وصوناً لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره - انتهى.
﴿اثاقلتم﴾ أي تثاقلتم تثاقلاً عظيماً، وفيه ما لم يذكروا له سبباً ظاهراً بما أشار إليه الإدغام إخلاداً وميلاً
﴿إلى الأرض﴾ أي لبرد ظلالها وطيب هوائها ونضج ثمارها، فكنتم أرضيين في سفول الهمم، لا سمائيين بطهارة الشيم.
ولما لم يكن - في الأسباب التي تقدم أنها كانت تحمل على التباطؤ عن الجهاد - ما يحتمل القيام بهم في هذه الغزوة إلا الخوف من القتل والميل إلى الأموال الحاضرة وثوقاً بها والإعراض عن الغنى الموعود به
469
الذي ربما يلزم من الإعراض عنه التكذيب، فيؤدي إلى خسارة الآخر، هذا مع ما يلزم على ذلك - ولا بد - من الزهد في الأجر المثمر لسعادة العقبى بهذا الشيء الخسيس؛ قال مبيناً خسة ما أخلدوا إليه تزهيداً فيه وشرف ما أعرضوا عنه ترغيباً منبهاً على أن ترك الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر عظيم منكراً على من تثاقل موبخاً لهم:
﴿أرضيتم بالحياة الدنيا﴾ أي بالخفض والدعة في الدار الدنية الغارة
﴿من الآخرة﴾ أي الفاخرة الباقية؛ قال أبو حيان: و
«من» تظافرت أقوال المفسرين أنها بمعنى بدل، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل - انتهى. والذي يظهر لي أنهم لم يريدوا أنها موضوعة للبدل، بل إنه يطلق عليها لما قد يلزمها في مثل هذه العبارة من ترك ما بعدها لما قبلها فإنها لابتداء الغاية، فإذا قلت: رضيت بكذا من زيد، كان المعنى أنك أخذت ذلك أخذاً مبتدئاً منه غير ملتفت إلى ما عداه، فكأنك جعلت ذلك بدل كل شيء يقدر أنه ينالك منه من غير ذلك المأخوذ.
ولما كانوا قد أعطوا الآخرة على الأتباع فاستبدلوا به الامتناع، كان إقبالهم على الدنيا كأنه مبتدىء مما كانوا قد توطنوه من الآخرة مع الإعراض عنها، فكأنه قيل: أرضيتم بالميل إلى الدنيا من الآخرة؟ ويؤيد ما فهمته أن العلامة علم الدين أبا محمد القاسم بن الموفق الأندلسي ذكر في شرح الجزولية
470
انهم عدوا ل
﴿من﴾ خمسة معان كلها ترجع إلى ابتداء الغاية عند المحققين، وبين كيفية ذلك حتى البيانية، فمعنى
﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ [الحج: ٣٠] الذي ابتداؤه من الأوثان، لأن الرجس جامع للأوثان وغيرها.
ولما كان الاستفهام إنكارياً كان معناه النهي، فكان تقدير: لا ترضوا بها فإن ذلك أسفه رأي وأفسده! فقال تعالى معللاً لهذا النهي:
﴿فما﴾ أي بسبب أنه ما
﴿متاع الحياة الدنيا في﴾ أي مغموراً في جنب
﴿الآخرة إلا قليل*﴾ والذي يندب هم المتجر ويدعي البصر به ويحاذر الخلل فيه يعد فاعل ذلك سفيهاً.
ولما كان طول الاستعطاف ربما كان مدعاة للخلاف وترك الإنصاف، توعدهم بقوله:
﴿إلا تنفروا﴾ أي في سبيله
﴿يعذبكم﴾ أي على ذلك
﴿عذاباً أليماً*﴾ أي في الدارين
﴿ويستبدل﴾ أي يوجد بدلاً منكم
﴿قوماً غيركم﴾ أي ذوي بأس ونجدة مخالفين لكم في الخلال التي كانت سبباً للاستبدال لولايته ونصر دينه.
ولما هددهم بما يضرهم، أخبرهم أنهم لا يضرون بفتورهم غير أنفسهم فقال:
﴿ولا تضروه﴾ أي الله ورسوله
﴿شيئاً﴾ لأنه متم أمره ومنجر وعده ومظهر دينه؛ ولما أثبت بذلك قدرته على ضره لهم وقصورهم عن الوصول إلى ضره، كان التقدير: لأنه قادر على نصر دينه
471
ونبيه بغيركم، فعطف عليه تعميماً لقدرته ترهيباً من عظيم سطوته قوله:
﴿والله﴾ أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة
﴿على كل شيء قدير*﴾.
ولما وصف سبحانه نفسه الأقدس بما هو له أهل من شمول القدرة وعظيم البأس والقوة، أتبع ذلك بدليل يتضمن أن المستنفر لهم - وهو نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير محتاج إليه ومتوقف نصره عليهم كما لم يحتج إليهم - بحياطة القادر له - فيما مضى من الهجر التي ذكرها، وأن نفع ذلك إنما هو لهم باستجلاب ما عدوه واستدفاع ما أوعدوه في الدارين المشار إلى ذلك كله بقوله
﴿فما متاع الحياة الدنيا﴾ الآية وقوله
﴿إلا تنفروا﴾ - الآية، فقال:
﴿إلا تنصروه﴾ أي أنتم طاعة لأمر الله، والضمير للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إما على طريق الاستخدام من سبيل الله لأنه الموضح له الداعي إليه، أو لتقدم اسمه الشريف إضماراً في قوله
﴿إذا قيل لكم﴾ أي من رسول الله صلى عليه وسلم استنصاراً منه لكم، وإظهاراً في قوله تعالى
﴿هو الذي أرسل رسوله﴾ [التوبة: ٣٤] الاية وقوة ما في كل جملة من المناسبة المقتضية لأن تعانق التي بعدها ولا تنفك عنها قصر الفصل بين الظاهر وضميره، وذكر الغاز والصاحب أوضح الأمر. وذلك أنه سبحانه لما عابهم باتخاذ الرؤساء أرباباً اشتدت
472
الحاجة إلى بيان أنهم في البعد عن ذلك على غاية لا تخفى على متأمل، فوصفهم بالأكل المستلزم للجسمية المستلزمة للحاجة، وبأن مأكولهم أموال غيرهم باطلاً، وبأنهم يغشونهم لصدهم إياهم عن السبيل التي لا يخفى حسنها على من له أدنى نظر؛ ولما كان ذلك شديد الإثارة لتشوف النفوس إلى السؤال عن العرب: هل فعلوا فعلهم واتبعوا سنتهم؟ أجاب بأن عملهم في تحليل النسأة لهم بعض الأشهر الحرم وتحريم بعض أشهر الحل والزيادة في عدة أشهر السنة كعملهم سواء.
ولما أمر بقتال المشركين كافة وحثهم على التقوى، وكان بعضهم قد توانى في ذلك، اشتد اقتضاء الحال لمعاتبة على التثاقل عن النفر، فلما تم ذلك في هذا الأسلوب البديع والطراز الرفيع حث على نصر الرسول الذي أرسله ليظهره على الدين كله فقال جواباً للشرط:
﴿فقد﴾ أي إن لم يتجدد منكم له نصر فإن الله قادر على نصره وسينصره ويغنيه عنكم ولا تضرون إلا أنفسكم فقد
﴿نصره الله﴾ أي الملك الأعظم وحده والأمر في غاية الشدة، ولا شك عند عاقل أن المستقبل عنده كالماضي
﴿إذ﴾ أي حين
﴿أخرجه الذين﴾ وعبر بالماضي لأن فيهم من أسلم بعد ذلك فقال:
﴿كفروا﴾ أي من مكة وهم في غاية التمالؤ عليه حين شاوروا في قتله أو إخراجه او إثباته، فكان ذلك سبباً لإذن الله له في الخروج من بينهم حال كونه
﴿ثاني اثنين﴾ أي أحدهما أبو بكر رضي الله عنه ولا ثالث لهما ينصرهما إلا الله
﴿إذ هما في الغار﴾
473
أي غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لمّا كمنا به ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب، وذلك قبل أن يصلا إليكم أو يعولا في النصر عليكم
﴿إذ يقول﴾ أي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿لصاحبه﴾ أي أبي بكر الصديق رضي الله عنه وثوقاً بربه غير منزعج من شيء
﴿لا تحزن﴾ والحزن: هم غليظ بتوجع يرق له القلب، حزنه وأحزنه بمعنى؛ وقال في القاموس: أو أحزنه: جعله حزيناً، وحزّنه: جعل فيه حزناً؛ ثم علل نهيه لصاحبه بقوله معبراً بالاسم الأعظم مستحضراً لجميع ما جمعه من الأسماء الحسنى والصفات العلى التي تخضع دونها صلاب الرقاب وتندك بعظمتها شوامخ الجبال الصلاب
﴿إن الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿معنا﴾ أي بالعون والنصرة، وهو كاف لكل مهم، قوي على دفع ملم، فالذي تولى نصره بالحراسة في ذلك الزمان كان قادراً على أن يأمر الجنود التي أيده بها أن تهلك الكفار في كل موطن من غير أن يكون لكم في ذلك أمر أو يحصل لكم به أخر، وكما أنه كان موجوداً في ذلك الزمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى هو على ذلك في هذا الزمان وكل زمان، فتبين كالشمس أن النفع في ذلك إنما هو خاص بكم، وأنه سبحانه ما رتب هذا كله على هذا المنوال إلا لفوزكم، وفي هذه الآية من التنويه بمقدار الصديق وتقدمه وسابقته في الإسلام وعلو
474
منصبه وفخامة أمره ما لا يعلمه إلا الذي أعطاه إياه؛ قال أبو حيان وغيره: قال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر رضي الله عنه كفر لإنكاره كلام الله، وليس ذلك لسائر الصحابة.
ولما
كان
رضي
الله
عنه
نافذ البصيرة في المعارف الإلهية، راسخ القدم في ذلك المقام لذلك لم يتلعثم من أول الأمر في عناد جميع العباد بخاع الأنداد، ثم تدرب فيه مترقياً لثلاث عشرة سنة، وكان الذي به من القلق إنما هو الخوف من أن يحصل للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذى فيدركه من الحزن لذلك ما يهلكه قبل سروره بظهور الدين وقمع المعتدين، ولم يكن جنباً ولا سوء ظن، لما كان ذلك كذلك كان رضي الله عنه حقيقاً لحصول السكينة له عند سماع اسم الشريف الأعظم الدال على ذلك المقام المذكر بتلك العظمة التي يتلاشى عندها كل عظيم، ويتصاغر في جنبها كل كبير، ولذلك ذكر هذا الاسم الأعظم وقدم، وأشرك الصديق في المعية وبدأ بالنهي عن الحزن لأنه المقصود بالذات ومابعده علة له. وأما بنو إسرائيل فلم يكن عندهم من المعرفة إلا ما شاهدوا من إحسانه تعالى إلى موسى عليه السلام بإظهار تلك الآيات على يده حتى استنقذهم بها مما كانوا فيه، ومنع
475
موسى عليه السلام مع وحدته من سطوات فرعون على عظمته وما كان يواجهه به من المكروه، فلما رأوا جموعه مقبلة كان حالهم مقتضياً للسؤال عن ذلك المحسن بإظهار تلك الآيات: هل هو مع موسى عليه السلام على ما كان عليه فيمنعهم ام لا؟ فلذلك قد إنكار الإدراك ثم إثبات المعية على سيبل الخصوص به، وعبر عن الإله باسم الرب الدال على ذلك الإحسان المذكر به فقال
﴿كلا إن معي ربي﴾ [الشعراء: ٦٢] فكأن قيل: ماذا يفعل والبحر أمامنا والعدو وراءنا؟ فقال
«سيهدين» أي إلى ما أفعل، يعرف ذلك من كان متضلعاً بالسير وقصص بني إسرائيل على ما ذكرتها في الأعراف عن التوارة، مستحضراً لأن الصديق رضي الله عنه كان في صعودهما إلى الغار يذكر الرصد فيتقدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليفتديه بنفسه ثم يذكر الطلب فيتأخر ثم يذكر ما عن اليمين والشمال فينتقل إليهما، ويقول للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن قتلت أنا فأنا رجل واحد، وإن قتلت أنت هلكت الأمة، وأنه كان عارفاً بأن الله تعالى تكفل بإظفار الدين على يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المتضمن لحراسة نفسه الشريفة قبل ذلك، ولذلك كان به في هذا اليوم من القلق ما ذكر، وكان عند وفاة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أثبت الناس، ولذلك أتى بالفاء المعقبة في قوله:
﴿فأنزل الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿سكينته﴾
476
أي السكون المبالغ فيه المؤثر للنسك
﴿عليه﴾ أي الصديق - كما قاله ابن عباس رضي الله عنهما - لأن السكينة لم تفارق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم عطف على نصره الله قوله:
﴿وأيده﴾ أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واختلاف الضمائر هنا لا يضر لأنه غير مشتبه
﴿بجنود لم تروها﴾ أي من الملائكة الكرام
﴿وجعل كلمة﴾ أي دعوة
﴿الذين كفروا﴾ أي أوقعوا الكفر من آمن منهم بعد ذلك وغيره
﴿السفلى﴾ فخيّب سعيهم ورد كيدهم، ثم ابتدأ الإخبار بما له سبحانه على الدوام من غير انقطاع أصلاً في وقت من الأوقات فقال:
﴿وكلمة الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء، ونصبها يعقوب عطفاً على ما سبق
﴿هي العليا﴾ أي وحدها، لايكون إلا ما يشاءه دائماً أبداً، فالله قادر على ذلك
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿عزيز﴾ أي مطلقاً يغلب كل شيء من ذلك وغيره
﴿حكيم*﴾ لا يمكن أن ينقض شيء من مراده لما ينصب من الأسباب التي لا مطمع لأحد في مقاومتها فلا محيص عن نفوذها.
ولما بلغت هذه الماعظ من القلوب الواعية مبالغاً هيأها به للقبول، أقبل عليها سبحانه بالأمر فقال:
﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ والمراد بالخفة كل ما يكون سبباً لسهولة الجهاد والنشاط إليه، وبالثقل كل ما يحمل على الإبطاء عنه؛ وقال أبو حيان: والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى
477
ونحوه فخارج عن هذا - انتهى. قال البغوي: قال الزهري: خرج سعيد بن المسيب رحمه الله الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنك عليل صاحب ضرر فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع؛ وروى أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند صحيح عن أنس أن أبا طلحة رضي الله عنهما قرأ سورة براءة فأتى على هذه الآية فقال: لا أرى ربي يستنفرني شاباً وشيخاً! جهزوني، فمات فلم يجدوا له جزيرة يدفنونه فيها إلا بعد سبعة أيام فما تغير،
﴿وجاهدوا﴾ أي أوقعوا جهدكم ليقع جهد الكفار.
ولما كانت هذه الآية في سياق المعاتبة لمن تثاقل إلى الأرض عن الجهاد عند الاستنفار في غزوة تبوك، وكان سبب التثاقل ما كان في ذلك ما كان في ذلك الوقت من العسرة في المال والشدة بالحر وما كان من طيب الظلال في أراضي الجنان وقت الأخذ في استواء الثمار - كما هو مشهور في السير؛ اقتضى المقام هنا تقديم المال والنفس بخلاف ما مضى فإن الكلام كان في المفاضلة بين الجهاد في سبيل الله وخدمة البيت ومن يحجه في هذه السورة التي صادف وقت نزولها بعد مواطن الجهاد وطول المفارقة للأموال، والأولاد وقدم المال لأن النظر إليه من وجهين:
478
قلته، ومحبة الإقامة في الحدائق أيثاراً للتمتع بها وخوفاً من ضياعها مع أن بها قوام الأنفس، فصار النظر إليها هو الحامل على الشح بالأنفس فقال تعالى:
﴿بأموالكم وأنفسكم﴾ أي بهما معاً على ما أمكنكم أو بأحدهما
﴿في سبيل الله﴾ أي الملك الأعلى أي حتى لا يبقى منه مانع
﴿ذلكم﴾ أي الأمر العظيم
﴿خير﴾ أي في نفسه حاصل
﴿لكم﴾ أي خاص بكم، ويجوز أن يكون أفعل تفضيل بمعنى أن عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كائناً ما كان، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن سأله: هل يمكن بلوغ درجة المجاهد؟ فقال: هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر؟ وختم الآية بقوله:
﴿إن كنتم تعلمون*﴾ إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان عاماً فإنما ينتفع به ذوو الأذهان الصافية والمعالم الوافية، فإن العلم - ولا يعد علماً إلا النافع - يحث على العمل وعلى إحسانه باخلاص النية وتصحيح المقاصد وتقوية العزم وغير ذلك وضده يورث ضده.
479
ولما كان هذا العتاب مؤذناً بأن فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالاً بنحو الأموال والأولاد، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جدير: بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة ان هناك من
479
غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن الغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم المخرج لهم ما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال:
﴿لو كان﴾ أي ما تدعوا إليه
﴿عرضاً﴾ أي متاعاً دنيوياً
﴿قريباً﴾ أي سهل التناول
﴿وسفراً قاصداً﴾ أي وسطاً عدلاً مقارباً
﴿لا تبعوك﴾ أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة ومنوطة بالحاضر
﴿ولكن﴾ أي لم يتبعوك تثاقلاً إلى الأرض ورضى بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها
﴿بعدت عليهم الشقة﴾ أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض، فاستأذنوك، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم كما قال الشاعر:
إذا همَّ ألقى بين عينيه عزمه | وأعرض عن ذكر العواقب جانبا |
فلله در أولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم! ولما ذمهم بالشح بالدنيا، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقال مخبراً عما سيكون منهم علماً من أعلام النبوة:
﴿وسيحلفون﴾ أي المتخلفون باخبار محقق لا خلف فيه
﴿بالله﴾ أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعاً إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف عنك لانتهاك حرمة الله
480
بالكذب قائلين: والله
﴿لو استطعنا﴾ أي الخروج إلى ما دعوتمونا إليه
﴿لخرجنا معكم﴾ يحلفون حال كونهم
﴿يهلكون أنفسهم﴾ أي بهذا الحلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله
﴿والله﴾ أي والحال أن الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة سبحانه
﴿يعلم إنهم لكاذبون*﴾ فقد جمعوا بين إهلاك أنفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في انهم غير مستطيعين، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤيد الموجب للعذاب الدائم المخلد.
ولما بكتهم على وجه الإعراض لأجل التخلف والحلف عليه كاذباً، أقبل إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعتاب فبي لذيذ الخطاب على الاسترسال في اللين لهم والائتلاف وأخذ العفو وترك الخلاف إلى هذا الحد، فقال مؤذناً بأنهم ما تخلفوا إلا بإذنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأعذار ادعوها كاذبين فيها كما كذبوا في هذا الحلف، مقدماً للدعاء على العتاب لشدة الاعتناء بشأنه واللطف به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿عفا الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام
﴿عنك﴾ وهذا كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير، والملك - ونحو ذلك.
ولما كان من المعلوم أنه لا يأذن إلا لما يرى أنه يرضي الله من تألفهم ونحوه، بين أنه سبحانه يرضى منه ترك الإذن فقال كناية عن ذلك:
﴿لم أذنت لهم﴾ أي في التخلف عنك تمسكاً بما تقدم من الأمر باللين لهم والصفح عنهم موافقاً لما جبلت عليه من محبة الرفق، وهذا إنما
481
كان في أول الأمر لخوف التنازع والفتنة، وأما الآن فقد علا الدين وتمكن أمر المؤمنين فالمأمور به الإغلاط على المنافقين فهلا تركت الإذن لهم
﴿حتى يتبين لك﴾ أي غاية البيان
﴿الذين صدقوا﴾ أي في التزام الأوامر بما أقروا به من كلمة التوحيد
﴿وتعلم الكاذبين*﴾ أي فيما أظهروا من الإيمان باللسان، فإنك إن لم تأذن لهم لقعدوا بلا إذن غير مراعين ميثاقهم الذي واثقوك عليه بالطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره؛ قال أبو حيان: و
﴿حتى﴾ غاية الاستفهام - انتهى. وذلك لأنه وإن كان داخلاً على فعل مثبت فمعناه النفي، أي ما لك لم تحملهم على الغزو معك ليتحقق بذلك الحمل من يطيع ومن يعصي، فالحاصل أن الذي فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حسن موافق لما أمره الله به فإنه لا ينطبق عن الهوى بل عن أمر الله إما بإيحاء واصل جديد، أو استناد إلى وحي سابق حاصل عتيد، والذي أشار إليه سبحانه أحسن مثل
﴿ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك﴾ [الفتح: ٢] من باب
«حسنات الأبرار سيئات المقربين» ومن باب الترقية من مقام عال إلى مقام اعلى تسييراً فيهم بالعدل لما انكشف أنهم ليسوا بأهل الفضل؛ قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في آخر كتاب العروة في تفاوت وجه الخطاب فيما بين
482
ما أنزل على وفق الوصية أو أنزل على حكم الكتاب: اعلم أن الله سبحانه بعث محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرحمة لجميع العالمين وخلقه بالعفو والمعروف، كما ورد في الكتب السابقة من قوله تعالى:
«وأجعل العفو والمعروف خلقه» وبذلك وصاه كما ورد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال:
«أوصاني ربي من غير ترجمان ولا واسطة بسبع خصال: بخشية الله في السر والعلانية، وأن أصل من قطعني، وأصفح عمن ظلمني، وأعطي من حرمني، وأن يكون نطقي ذكراً، وصمتي فكراً، ونظري عبرة».
فكان فيما أوصاه به ربه تبارك وتعالى من غير ترجمان ولا واسطة أن يصل من قطعة ويصفح عمن ظلمه، ولا أقطع له ممن كفر به وصد عنه، فكان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحكم ما بعث به وجبل عليه ووصى به - ملتزماً للعفو عمن ظلمه والوصل لمن قطعه إلا أن يعلن عليه بالإكراه على ترك ذلك والرجوع إلى حق العدل والاقتصاص والانتصاف المخالف لسعة وصيته الموافق لما نقل من أحكام سنن الأولين في مؤاخذتهم بالحق والعدل إلى جامع شرعته ليوجد فيها نحو مما تقدم من الحق والعدل وإن قل، ولتفضل شرعته بما اختص هو به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من البعثة بسعة الرحمة والفضل
﴿إن الله يأمر بالعدل والإحسان﴾ [النحل: ٩]،
﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ [الأنفال: ٣٣] فمن القرآن
483
ما أنزل على الوجه الذي بعث له وجبل عليه ووصى به نحو قوله تعالى:
﴿ادفع بالتي هي أحسن السيئة﴾ [المؤمنون: ٩٦] وقوله تعالى:
﴿خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين﴾ [الأعراف: ١٩٩] وقوله تعالى:
﴿ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر﴾ [آل عمران: ١٥٩] وقوله تعالى:
﴿فاصفح الصفح الجميل﴾ [الحجر: ٨٥] وقوله تعالى
﴿فاصفح عنهم وقل سلام﴾ [الزخرف: ٨٩] وأصل معناه في مضمون قوله تعالى:
﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم﴾ [التوبة: ١٢٨] فما كان من المنزل على هذا الوجه تعاضدت فيه الوصية والكتاب وقبله هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جبلة وحالاً وعملاً ولم تكن له عنه وقفة لتظافر الأمرين وتوافق الخطابين: خطاب الوصية، وخطاب الكتاب؛ وهذا الوجه من المنزل خاص بالقرآن العظيم الذي هو خاص به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لم يؤته أحد قبله
﴿ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم﴾ [الحجر: ٨٧] ومن القرآن ما أنزل على حكم العدل والحق المتقدم فضله في سنن الأولين وكتب المتقدمين وإمضاء عدل الله سبحانه في المؤاخذين والاكتفاء بوصل الواصل وإبعاد المستغني والإقبال على القاصد والانتقام من الشارد، وذلك خلاف ما جبل الله عليه نبيه وما وصى به حبيبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أنزل عليه - أي من الكتاب - على مقتضى الحق وإمضاء
484
العدل ترقب تخفيفه وترجى تيسيره حتى يعلن عليه بالإكراه في أخذه والتزام حكمه فحينئذ يقوم لله به ويظهر عذره في إمضائه فيكون له في خطاب التشديدعليه في أخذه أعظم مدح وأبلغ ثناء من الله ضد ما يتوهمه الجاهلون، فمما أنزل إنباء عن مدحه بتوقفه على إمضاء حكم العدل والحق رجاء تدارك الخلق واستعطاف الحق ما هو نحو قوله تعالى:
﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً﴾ [الكهف: ٦] ونحو قوله تعالى:
﴿لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين﴾ [الشعراء: ٣] نحو قوله تعالى:
﴿ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون﴾ [الحجر: ٩٧] ومما أنزل على وجه الإعلان عليه بما هو عليه من الرحمة وتوقفه على الأخذ بسنن الأولين حتى يكره عليه ليقوم عذره ليقوم عذره في الاقتصار على حكم الوصية وحال الجبلة ما هو نحو قوله تعالى:
﴿ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك﴾ [هود: ١٧] ونحو قوله تعالى:
﴿ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين﴾ [يونس: ٩٩] ونحو قوله تعالى:
﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين﴾ [يونس: ٩٤] أي لا تتوقف لطلب الرحمة لهم كما - يتوقف الممتري في الشيء أو الشاك فيه لما قد علم أنه لا بد لأمته
485
من حظ من مضاء كلمة العدل فيهم وحق كلمة العذاب عليهم وإجراء بعضهم دون كلهم على سنة من تقدمهم من أهل الكتب الماضية في المؤاخذة بذنوبهم وإنفاذ حكم السطوة فيهم فأخذهم الله بذنوبهم
﴿فكلاً أخذنا بذنبه﴾ [العنكبوت: ٤٠] ولم ينفعهم الرجوع عند مشاهدة الآيات
﴿الآن وقد عصيت قبل﴾ [يونس: ٩١]
﴿لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم﴾ [الأنبياء: ١٣] وذلك أن كل مطالع بالعذاب راجع - ولا بد - عن باطله حين لا ينفعه
﴿وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون﴾ [الأنبياء: ٩٥]
﴿إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا﴾ [يونس: ٩٨] لما أبطن تعالى في قلب نبيهم عليه السلام عزماً على هلاكهم، أظهر تعالى رحمة عليهم، ولما ملأ نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رحمة لأمته: كافرهم ومؤمنهم ومنافقهم، أشار بآي من إظهار مؤاخذتهم وأعلم بكف نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن تألفهم وأحسبه بمؤمنهم دون كافرهم ومنافقهم
﴿يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين﴾ [الأنفال: ٦٤] وكل ذلك معلوم عنده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل وقوعه بمضمون قوله تعالى: {سنة من قد أرسلنا قبلك من
486
رسلنا}
﴿سنة الله التي قد خلت من قبل﴾ [الفتح: ٢٣]،
﴿فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل﴾ [يونس: ٩٤]،
﴿كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به وقد خلت سنة الأولين﴾ [الحجر: ١٢-١٣]
«ولذلك قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين أنزل عليه ﴿فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك﴾ [يونس: ٩٤] :» أما أنا فلا أشك ولا أسأل
«»، لأنه قد علم جملة أمر الله أن منهم من يتداركه الرحمة ومن يحق عليه كلمة العذاب، ولكنه لا يزال ملتزماً لتألفهم واستجلابهم حتى يكره على ترك ذلك بعلن خطاب نحو قوله تعالى:
﴿عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى كلاّ إنها تذكرة فمن شاء ذكره﴾ [عبس: ١-١٢] ونحو قوله تعالى:
﴿ما كان لنبي أن يكون له أسرى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا الله إن الله غفور رحيم﴾ [الأنفال: ٦٧- ٦٩] فهذه الآي ونحوها يسمعها العالم بموقعها على إكراه لنبي الرحمة حتى يرجع إلى عدل نبي الملحمة من جملة أمداح القرآن له والشهادة بوفائه بعهد ووصية حتى تحقق له تسميته بنبي الرحمة ثابتاً على الوصية ونبي الملحمة إمضاء في وقت
487
لحكم الحق وإظهار العدل، فهو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكل القرآن ممدوح وموصوف بالخلق العظيم جامع لما تضمنته كتب الماضين وما اختصه الله به من سعة القرآن العظيم، فهذا وجه تفاوت ما بين الوصية والكتاب في محكم الخطاب؛ والله سميع عليم - انتهى.
488
ولما فاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معرفتهم بهذا الطريق، شرع العالم بما في الضمائر يصفهم له بما يعوض عن ذلك، فقال على طريق الجواب للسؤال:
﴿لا يستئذنك﴾ أي يطلب إذنك بغاية الرغبة فيه
﴿الذين يؤمنون بالله﴾ أي يجددون الإيمان كل وقت حقاً من أنفسهم بالملك الذي له صفات الكمال
﴿واليوم الآخر﴾ أي الذي يكون فيه الجزاء بالثواب والعقاب
﴿أن﴾ أي في أن
﴿يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم﴾ بل يبادرون إلى الجهاد عند إشارتك إليه وبعثك عموماً عليه فضلاً عن أن يستأذنوك في التخلف عنه، فإن الخلص من المهاجرين والأنصار كانوا يقولون: لا نستأذنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبداً في الجهاد فإن ربنا ندبنا إليه مرة بعد مرة فأيّ فائدة في الاستئذان! ولنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا، وكانوا بحيث لو أمرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعقود شق عليهم كما وقع لعلي رضي الله عنه في غزوة تبوك حتى قال له رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» ! ولما كان التقدير: فمن اتصف بذلك فاعلم أنه متق بأخبار الله، عطف عليه
488
قوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿عليم بالمتقين*﴾ أي الذين يخافون الله كلهم.
ولما أخبر بالمتقين، عرف بغيرهم على وجه الحصر تأكيداً لتحقيق صفة العلم بما أخبر به سبحانه، فصار الاستئذان منفياً عن المؤمنين مرتين، فثبت للمنافقين على أبلغ وجه
﴿إنما يستئذنك﴾ أي في مثل ذلك فكيف بالاستئذان في التخلف!
﴿الذين لا يؤمنون﴾ أي يتجدد لهم إيمان
﴿بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي له نهاية العظمة إيماناً مستجمعاً للشرائط
﴿واليوم الآخر﴾ لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون عقاباً وإن ادعوا ولما كانت [هذه] صفة المصارحين بالكفر، بين أن المراد المنافقون بقوله:
﴿وارتابت قلوبهم﴾ أي تابعت الوساوس وتعمدت المشي معها حتى تخلقت بالشك؛ ولما كان الشاك لا يزال يتجاذبه حسن الفطرة وسوء الوسوسة، قال:
﴿فهم﴾ أي فتسبب عن ذلك أنهم
﴿في ريبهم يترددون*﴾ أي بين النفي والإثبات دأب المتحير لا يجزمون بشيء منهما وإن صدقوا أن الله موجود فإن المشركين يصدقون بذلك ولكنه لا ينفعهم للإخلال بشرطه، وليس استئذانهم في أن يجاهدوا لإرادة الجهاد بل توطئة لأن يقولوا إذا أمرتهم به: إنه لا عدة لنا في هذا الوقت فائذن لنا في التخلف حتى نستعد! وقد كذبوا، ما ذلك بهم،
489
إنما بهم أنهم لا يريدون الخروج معك
﴿ولو أرادوا الخروج لأعدوا له﴾ أي قبل حلوله
﴿عدة﴾ أي قوة واهبة من المتاع والسلاح والكراع بحيث يكونون متصفين بما قدمت إليهم من التحريض على نحو ما وقع الأمر به في الأنفال فيكونون كالحاضرين في صلب الحرب الواقفين في الصف قد استعدوا لها بجميع عدتها
﴿ولكن﴾ لم يريدوا ذلك قط فلم يعدوا له عدة، فملا أمرت به شرعوا يعتلون بعدم العدة وما ذاك بهم، إنما مانعم كراهتهم للخروج وذلك بسبب أن
﴿كره الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام بأن فعل فعل الكاره فلم يرد
﴿انبعاثهم﴾ أي سيرهم معك مطاوعة لأمرهم بذلك لما علم من عدم صلاحيتهم له
﴿فثبطهم﴾ أي حبسهم عنه حبساً عظيماً بما شغلهم بما بما حبب إليهم من الشهوات وكره إليهم من ارتكاب المشقات بسبب أنهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون غير السيف عقاباً، قصروا هممهم الدنية على الصفات البهيمية، فلما استولت عليهم الشهوات وملكتهم الأنفس الدنيات نودوا من قبلها: إلى أين تخرجون؟
﴿وقيل﴾ أي لهم لما أسرعوا الإقبال إليها
﴿اقعدوا﴾ أي عن جندي لا تصحبوهم، وفي قوله -:
﴿مع القاعدين*﴾ أي الذين شانهم ذلك كالمرضى والزمنى والصبيان والنساء - من التبكيت
490
ما لا يعلم مقداره إلا أولو الهمم العلية والأنفس الأبية، وعبر بالمجهول إشارة إلى أنهم يطيعون الأمر بالقعود حقيقة ومجازاً كائناً من كان كما انهم يعصون الأمر بالنفر كائناً من كان لأن أنفسهم قابلة للدنايا غير صالحة للمزايا بوجه.
ولما كان كأنه قيل: ما له ثبطهم وقد كنا قاصدين سفراً بعيداً وعدواً كثيراً شديداً فنحن محتاجون إلى الإسعاد ولو بتكثير السواد! قيل: و
﴿لو﴾ أي فعل ذلك بهم لأنهم لو
﴿خرجوا فيكم﴾ أي وإن كانوا قليلاً معمورين بجماعاتكم
﴿ما زادوكم﴾ أي بخروجهم شيئاً من الأشياء
﴿إلا خبالاً﴾ أي ما أتوكم بشيء زائد على ما عندكم من الأشياء غير الخبال، والاستثناء مفرغ والمستثنى منه - المقدر الثابت لهم الاتصاف به - هو الشيء، وذلك لا يقتضي اتصاف أحد منهم بالخبال قبل خروج المنافقين، والخبال: الفساد، وهو ينظر على الخداع والأخد على غرة
﴿ولأوضعوا﴾ أي أوقعوا الإيضاع، حذف المفعول إشارة إلى أن مرادهم الإيضاع نفسه لا بقيد دابة، وعبر بالإيضاع لأنه للراكب وهو أسرع من الماشي
﴿خلالكم﴾ أي لأسرعوا في السير ذهاباً وإياباً بينكم في تتبع عوراتكم وانتظار زلاتكم ليجدوا منها مدخلاً إلى الفساد بالنميمة وغيرها إن لم يجدوها، والإيضاع في السير يكون برفق ويكون بإسراع، والمراد به هنا الإسراع، ومادة وضع بجميع تراكيبها تدور على الحركة، وتارة تكون إلى علو وتارة إلى سفول، ويلزم ذلك السكونُ والمحلُ القابل لذلك، وعلى ذلك يتمشى العضو والعوض، وعَوض الذي هو بمعنى
491
الدهر، وضوع الريح والتصويت بالبكاء، والضعة لشجرة في البادية، والوضع للطرح في مكان والسير اللين والسريع؛ والخلال جمع الخلل وهو الفرجة
﴿يبغونكم﴾ أي حال كونهم يريدون لكم
﴿الفتنة﴾ أي بتشتيت الشمل وتفريق الأصحاب وتقدم عند
﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة﴾ [الأنفال: ٣٩] أنها الخلطة المميلة المحلية، أي يريدون لكم الشيء الذي يصيبكم فغير حالتكم إلى ما يسوءكم فيسرهم
﴿وفيكم﴾ أي والحال أنه فيكم
﴿سماعون لهم﴾ أي في غاية القبول لكلامهم لضعف معارفهم وآرائهم.
وربما كان سماعهم منهم مؤدياً إلى مطلوبهم
﴿والله﴾ أي الذي أخبركم بهذا من حالهم وله الإحاطة بكل شيء
﴿عليم﴾ بهم، فثقوا بأخبارهم. هكذا كان الأصل وإنما قال:
﴿بالظالمين*﴾ إشارة إلى الوصف الذي أوجب لهم الشقاء بمنعهم عن موطن الخير، وتعميماً للحكم بالعلم بهم وبمن سمع لهم ظالم، والحاصل أنه شبه سعيهم فيهم بالفساد بمن يوضع بعيره في أرض فيها أجرام شاخصة متقاربة، فهو في غاية الالتفات إلى معرفة ما فيها من الفرج والتأمل لذلك حذراً من أن يصيبه شيء من تلك الأجرام فيسقيه كأس الحمام، فلا شغل لهم إلا بغية فسادكم بعدم وصولكم إلى شيء من مرادكم.
492
ولما أخبر سبحانه بذلك، وحث على قبول أخبارهم بما وصف
492
به ذاته الأقدس من إحاطة العلم، شرع يقيم الدليل على ما قال بتذكيرهم بأشياء تقدمت مشاهدتها منهم، فقال معللاً لما أخبر به:
﴿لقد ابتغوا﴾ أي طلبوا طلباً عظيماً كلهم لكم
﴿الفتنة﴾ أي لتشتيتكم
﴿من قبل﴾ أي قبل هذه الغزوة في يوم أحد بكسر قلوب العسكر بالرجوع عنه حتى كاد بعضهم أن يفشل وفي المريسيع بما قال ابن أبيّ
﴿ليخرجن الأعز منها الأذل﴾ [المنافقون: ٨] وفي غزوة الخندق بما وقع منهم من التكذيب في أخذ كنوز كسرى وقيصر والإرجاف بكم في نقض بني قريظة وغير ذلك كما صنعوا قبله في غزوة قينقاع والنضير في قصدهم تقوية كل منهم عليكم وفي غير ذلك من أيام الله التي عكس فيها قصودهم وأنعس جدودهم
﴿وقلبوا﴾ أي تقليباً كثيراً
﴿لك الأمور﴾ أي التي لك فيها أذى ظهراً لبطن بإحالة الآراء وتدبير المكايد والحيل لعلهم يجدون فرصة في نقض أمرك ينتهزونها أو ثغرة في حالة يوسعونها، وامتد بهم الحال في هذا المحال
﴿حتى جاء الحق﴾ أي الثابت الذي لا مراء في مزاولته مما تقدم به وعده سبحانه من إظهار الدين وقمع المفسدين
﴿وظهر أمر الله﴾ أي المتصف بجميع صفات الكمال من الجلال والجمال حتى لا مطمع لهم في ستره
﴿وهم كارهون*﴾ أي لجميع
493
ذلك فلم يبق لهم مطمع في محاولة بمواجهة ولا مخاتلة فصار همهم الآن الاعتزال والمبالغة في إخفاء الأحوال وستر الأفعال والأقوال.
ولما أجملهم في هذا الحكم، وكان قد أشار إلى أن منهم من كان قد استأذن في الخروج توطئة للاعتذار عنه، شرع يفصلهم، وبدأ المفصلين بمن صرح بالاستئذان في القعود فقال عاطفاً على
«لقد ابتغوا» :
﴿ومنهم من يقول﴾ أي في جبلته تجديد هذا القول من غير احتشام
﴿ائذن لي﴾ أي في التخلف عنك
﴿ولا تفتني﴾ أي تكن سبباً في فتنتى بالحزم بالأمر بالنفر فأفتتن إما بأن أتخلف فأكون مصارحاً بالمعصية أو أسافر فأميل إلى نساء بني الأصفر فأرتد عن الدين فأنه لا صبر لي عن النساء، وقائل ذلك هو الجد ابن قيس، كان من الأنصار منافقاً.
ولما أظهروا أنهم قصدوا البعد من شيء فإذا هم قد ارتكبوا فيه، انتهزت فرصة الإخبار بذلك على أبلغ وجه بإدخال ناف على ناف لتحصيل الثبوت الأكيد بإقرار المسؤول فقيل:
﴿ألا في الفتنة سقطوا﴾ أي بما قالوا وفعلوا، فصارت ظرفاً لهم فوضعوا أنفسهم بذلك في جهنم، وفي التعبير بالسقوط دلالة على انتشابهم في أشراك الفتنة انتشاباً سريعاً بقوة فصار يعسر خلاصهم معه
﴿وإن جهنم لمحيطة﴾ أي بسبب إحاطة الفتنة - التي أسقطوا أنفسهم فيها - بهم، وإنما قال:
﴿بالكافرين*﴾
494
تعميماً وتنبيهاً على الوصف الذي حملهم على ذلك.
ولما كان كأنه قيل: ما الفتنة التي سقطوا فيها فأحاطت بهم جهنم بسببها؟ قيل:
﴿إن﴾ أي هي كونهم أن، ويجوز أن يكون علة لإحاطة جهنم بهم، وكأنهم - لأجل أنهم من الأوس والخزرج فالأنصار أقاربهم - خصوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالعدواة وشديد الحنق، وكذا ايضاً كان لا يسوءهم ويسرهم من الحسنة والسيئة إلا ما له وقع - بما أذن به التعبير بالإصابة دون المس - لا ما دونه، حفظاً لقلوب أقاربهم ورعياً لأسرار نسائهم، فقال إشارة إلى ذلك:
﴿تصبك﴾ أي بتقدير الله ذلك
﴿حسنة﴾ أي بنصر أو غيره
﴿تسؤهم﴾ أي لما في قلوبهم من الضغن والمرض
﴿وإن تصبك مصيبة﴾ أي نكبة وإن صغرت كما وقع يوم أحد
﴿يقولوا﴾ أي سروراً وتبجحاً بحسن آرائهم
﴿قد أخذنا أمرنا﴾ أي عصينا الذي أمرنا ولم نسلم قيادنا لأحد فنكون كالأعمه، لأن الأمر الحادثة وضد النهي، ومنه الأمير، رجل إمرّ وإمرة - بتشديد الميم المفتوحة مع كسر الهمزة وتفتح: ضعف الرأي، يوافق كل أحد على ما يريد من أمره كله، وهو الأعمه
495
وزناً ومعنى
﴿من قبل﴾ أي قبل أن تكون هذه المصيبة، فلم نكن مؤتمرين بأمر فيصيبنا فلم يكن ما أصاب من تبعه، فكان أمرهم - لو كانوا مطيعين - كان شيئاً متحققاً بيد الآمر، فلما عصوه كانوا كأنهم قد أخذوه منه.
ولما كان قولهم هذه بعيداً عن الاستقامة، فكان جديراً بأن لا يقال، وإن قيل كان حقيقاً بأن يستقال بالمباراة إلى الرجوع عنه والاستغفار منه، أشار تعالى إلى تماديهم فيه فقال:
﴿ويتولوا﴾ أي عن مقامهم هذا الذي قالوا فيه ذلك وإن طال إلى أهاليهم
﴿وهم فرحون*﴾ أي لمصيبتكم لكفرهم ولخلاصهم منها.
ولما كان قولهم هذا متضمناً لتوهم القدرة على الاحتراس من القدر، قال تعالى معلماً بجوابهم مخاطباً للرأس لعلو المقام:
﴿قل﴾ أي إنا نحن لا نقول مقالتكم لمعرفتنا بأنا لا نملك ضراً ولا نفعاً، بل نقول:
﴿لن يصيبنا﴾ أي من الخير والشر
﴿إلا ما كتب﴾ أي قدر
﴿الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً، ولما كان قضاء الله كله خيراً للمؤمن إن أصابته سراء شكر وإن أصابته ضراء صبر، عبر باللام فقال:
﴿لنا﴾ أي لا يقدر على رده عنا إلا هو سبحانه
﴿هو﴾ أي وحده
﴿مولانا﴾ أي القريب منا الذي يلي جميع أمورنا، لا قريب منا سواه، فلو أراد لدفع عنا كل مصيبة لأنه أقرب إلينا منها، لا تصل إلينا بدون علمه وهو قادر، فنحن نعلم أن له في ذلك لطيف سريرة تتضاءل دونها ثواقب الأفكار وتخسأ عن الإحاطة بتحقيقها نوافذ الأبصار فنحن لا نتهمه في قضائه لأنا قد توكلنا عليه وفوضنا أمورنا إليه، والموكل
496
لا يتهم الوكيل
﴿وعلى الله﴾ أي الملك الأعلى لا غيره
﴿فليتوكل المؤمنون*﴾ أي كلهم توكلاً عظيماً جازماً لا معدل عنه، فالفيصل بين المؤمن والكافر هو إسلام النفس إليه وحده بلا اعتراض عليه يقلبها كيف يشاء ويحكم فيها بما يريد.
497
ولما تضمن ذلك أن سراءهم وضراءهم لهم خير من حيث إن الرضى بمر القضاء موجب لإقبال القاضي على المقضي عليه بالرأفة والرحمة، صرح بذلك في قوله:
﴿قل هل تربصون﴾ أي تنتظرون انتظاراً عظيماً
﴿بنا إلا إحدى الحسنيين﴾ أي وهي أن نصيب أعداءنا فنظفر ونغنم ونؤجر أو يصيبونا بقتل أو غيره فنؤجر، وكلا الأمرين حسن: أما السراء التي توافقوننا على حسنها فأمرها واضح، وأما الضراء فموجبة لرضى الله عنا ومثوبته لنا بالصبر عليها ورضانا بها إجلالاً له وتسليماً لأمره فهي حسنى كما نعلم لا سوأى كما تتوهمون
﴿ونحن نتربص بكم﴾ أي ننتظر إحدى السوأيين وهي
﴿أن يصيبكم الله﴾ أي الذي له جميع القدرة ونحن من حزبه
﴿بعذاب من عنده﴾ أي لا تسبب لنا فيه كما أهلك القرون الأولى بصائر للناس
﴿أو بأيدينا﴾ أي بسببنا من قتل أو نهب وأسر وضرب وغير ذلك لأن حذركم لا يمنعكم من الله، وكل ذلك مكروه عندكم.
ولما تسبب عن هذا البيان ان السوء خاصة بحزب الشيطان، حسن
497
أن يؤمروا تهكماً بهم بما أداهم إلى ذلك تخسيساً لشأنهم فقال:
﴿فتربصوا﴾ أي أنتم
﴿إنا﴾ أي نحن
﴿معكم متربصون*﴾ أي بكم، نفعل كما تفعلون، والقصد مختلف، والآية من الاحتباك: حذف أولاً الإصابة للدلالة عليها بما أثبت ثانياً، وثانياً إحدى السوأيين للدلالة عليها بإثبات الحسنيين أولاً.
ولما كان جملة ما يصيبهم منهم من العذاب الإنفاق بتزكية ما طهر من أموالهم بالإعانة في سبيل الله خوفاً من اتهامهم بالنفاق في أقوالهم ليفتدوا أنفسهم به من السفر، قال:
﴿قل أنفقوا﴾ أي أوجدوا الإنفاق لكل ما يسمى إنفاقاً
﴿طوعاً أو كرهاً﴾ أي مظهرين الطواعية أو مظهرين الكراهية؛ ولما كان الإعراض عنهم إنما سببه كفرهم لا إنفاقهم، لم يربط الجواب بالفاء بل قال:
﴿لن يتقبل منكم﴾ أي يقع تقبل لشيء يأتي من قبلكم أصلاً من أحد له أن يتقبل كائناً من كان، ولذلك بناه للمفعول، لأن قلوبكم كارهة ليست لها نية صالحة في الإنفاق ولا في غيره، فانقسام إنفاقكم إلى طوع وكره إنما هو باعتبار الظاهر، وكأنه عبر بالتفعل إشارة إلى قبوله منهم ظاهراً؛ ولما كان غير مقبول باطناً على حال من الأحوال علل بقوله:
﴿إنكم كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿قوماً فاسقين*﴾ أي عريقين في الفسق بالغين أنهى غاياته.
498
ولما علل بالعراقة في الخروج عن الطاعة، بينه في قوله:
﴿وما منعهم أن تقبل﴾ أي باطناً، ولذا عبر بالمجرد، ولذا بناه للمفعول لأن النافع القبول في نفس الأمر لا كونه من معين
﴿منهم نفقاتهم﴾ أي وإن جلت
﴿إلا أنهم كفروا بالله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال من الجلال والجمال لفساد جبلاتهم وسوء غرائزهم.
ولما كان قبول النفقات مهيئاً للطهارة التي تؤثرها الصلاة، كان السياق لعدم قبولها - ليتسبب عنه النهي عن الصلاة عليهم - أبلغ لأنه أدل على الخبث، فأكد كفرهم بزيادة الجار إشعاراً بأن الكفر بكل منهما على حياله مانع فقال:
﴿وبرسوله﴾ أي فسقهم بأنهم غير مؤمنين وهو السبب المانع بمفرده من القبول: ثم قدح في شاهدي ما يظهرون من الإيمان وهما الصلاة والزكاة وغيرهما من الإنفاق في الخيرات بما هو لازم للكفر ودال عليه فقال:
﴿ولا يأتون الصلاة﴾ أي المفروضة وغيرها
﴿إلا وهم كسالى﴾ أي في حال كسلهم، لا يأتونها قط بنشاط
﴿ولا ينفقون﴾ أي نفقة من واجب أو غيره
﴿إلا وهم كارهون*﴾ أي في حال الكراهة وإن ظهر لكم خلاف ذلك، وذلك كله لعدم النية الصالحة واعتقاد الآخرة، وهذا لا ينافي طوعاً لأن ذلك بحسب الفرض أو الظاهر وهذا بحسب الواقع.
499
ولما انتفى عن أموالهم النفع الأخروي الذي هو النفع، تسبب عن ذلك الزهد فيها الموجب لعدم الالتفات إليها وعدم اعتقاد أن فيها بركة ودلالة على خير، فقال - مبيناً ما فيها من الفساد الذي يظن أنه صلاح:
﴿فلا﴾ - بفاء السبب، فالسياق ابلغ من سياق الآتية بعد النهي عن الصلاة عليهم
﴿تعجبك أموالهم﴾ أي وإن أنفقوها في سبيلي وجهزوا بها الغزاة. فإن ذلك عن غير إخلاص منهم ولا حسن نية ولا جميل طوية، وإنما هو لما أذلهم من عزة الإسلام وأخافهم من سطوة الانتقام فهو من جملة العذاب، وعطف عليها الأولاد لمشاركتها لها في الملاذ والقوة والاستعمال في الجهاد، فقال مؤكداً للنفي بإعادة النافي:
﴿ولا أولادهم﴾ فكأنه قيل: فماذا يراد بإعطائهم ذلك؟ ولو منعوها وأعطيها المخلصون لكان قوة للدين، فقال:
﴿إنما يريد الله﴾ أي يوقع الإرادة لهم بها الملك الذي له الإحاطة بجميع الحكمة كما أن له الإحاطة بتمام القدرة، وأبلغ في الحصر بإدخال اللام في قوله:
﴿ليعذبهم﴾ أي لأجل أن يعذبهم
﴿بها في الحياة﴾ أي وإن كان يتراءى أنها لذيذة، لأن ذلك من شأن الحياة فإنما هي لهم موت في الحقيقة
﴿الدنيا﴾ أي تارة بجمعها وتربيتها وتارة ببذلها كرهاً في سبيل الله أو في تزكيتها وتارة بغيرذلك
﴿وتزهق﴾ أي وإنما يريد بتمكينهم منا لأجل أن يخرج وقت الموت بغاية الصعوبة
﴿أنفسهم﴾
500
أي بسببها
﴿وهم﴾ أي والحال أنهم
﴿كافرون*﴾ أي عريقون في الكفر، وهكذا كل من أراد استدراجه سبحانه فإنه في الغالب يكثر أموالهم وأولادهم لنحو هذا لأنهم إذ رأوا زيادتهم بها على بعض المخلصين ظنوا أن ذلك إنما هو لكرامتهم وحسن حالتهم فيستمرون عليها حتى يموتوا فهو سبحانه لم يرد بها منحتهم بل فتنتهم ومحنتهم، وأما الدين فإن القادر يقويه بغير ذلك فيكون أظهر لدليله وأوضح لسبيله؛ فالحاصل أنه ظهر لهم أنهم أكرموا بها وخفي عنهم أنها سبب لعذابهم في الحياة باتكالهم عليها، وفي الممات بصعوبته عليهم المشار إليه بالزهوق، وفي الآخرة بسبب موتهم على حال الكفر باستدراجهم بها، وأما المؤمن فلا يموت حتى يرى من الثواب ما يسليه عن كل شيء فيشتاق إلى لقاء الله وتخرج نفسه وهو في غاية المحبة لخروجها لأن البدن عائق له عما يرى.
ولما وضح بهذه الأمور منابذتهم للمؤمنين وخروجهم من ربقة الدين المصحح لوصفهم بالفسق، أوضح لبساً آخر من أحوالهم يقيمونه بالأيمان الكاذبه فقال:
﴿ويحلفون﴾ أي طلبوا لكم الفتنة والحال انهم يجددون الأيمان
﴿بالله﴾ أي على ما له من تمام العظمة
﴿إنهم﴾ أي المنافقين
﴿لمنكم﴾ أي أيها المؤمنون على اعتقادكم باطناً كما هم ظاهراً
﴿وما﴾
501
أي والحال أنهم ما
﴿هم﴾ صادقين في حلفهم أنهم
﴿منكم ولكنهم قوم﴾ أي مع أن لهم قوة وقياماً فيما يحاولونه
﴿يفرقون*﴾ أي يخافون منكم على دمائهم خوفاً عظمياً يفرق همومهم فهو الملجىء لهم إلى الحلف كذباً على التظاهر بالإسلام، فكأنه قيل: فما لهم يقيمون بيننا والمبغض لا يعاشر من يبغضه؟ فقيل: لأنهم لا يجدون ما يحميهم منكم
﴿لو يجدون ملجئاً﴾ أي شيئاً يلجؤون إليه من حصن أو جبل أو قوم يمنعونهم منكم
﴿أو مغارات﴾ في الجبال تسعهم، جمع مغارة - مفعلة من غار في الشيء - إذا دخل فيه، والغور: ما انخفض من الأرض.
ولما كانت الغيران - وهي النقوب في الجبال - واسعة والوصول إليها سهلاً، قال:
﴿أو مدخلاً﴾ أي مكاناً يدخلونه يغاية العسر والصعوبة لضيقه أو لمانع في طريقه أو قوماً يداخلونهم وإن كانوا يكرهونهم - بما أرشد إليه التشديد:
﴿لولوا إليه﴾ أي لاشتدوا في التوجه إليه متولين مرتدين عنكم على أعقابهم
﴿وهم يجمحون*﴾ أي حالهم حال الدابة التي كانت مسرعة في طواعية راكبها فإذا هي قد نكصت على عقبها ثم أخذت في غير قصده بغاية الإسراع ونهاية الرغبة والداعية لا يردها بئر تقع فيه ولا مهلكة ولا شيء.
ولما قرر حال من يتخلف عن الجهاد، وربما بذل ماله فيه افتداء لسفره، شرع في ذكر من يشاركه في الإنفاق والنفاق ويخالفه
502
فقال:
﴿ومنهم من يلمزك﴾ أي يعيبك عند مشاكليه على طريق الملازمة في ستر وخفاء أو تظاهر وقلة حياء
﴿في الصدقات﴾ أي اللاتي تؤتيها لأتباعك، ولما أخبر عن اللمز، أخبر أنه لحظ نفسه لا للدين فقال:
﴿فإن أعطوا منها رضوا﴾ أي عنك
﴿وإن لم يعطوا منها﴾ فاجؤوا السخط الذي يتجدد في كل لحظة ولم يتخلفوا عنه أصلاً، وعبر عن ذلك بقوله:
﴿إذا هم يسخطون*﴾ فوافقوا الأولين في جعل الدنيا همهم، وخالفوهم في أن أولئك أنفقوا ليتمتعوا بالتخلف وهؤلاء طلبوا ليتنعموا بنفس المال الذي يأخذونه؛ قيل: إنها نزلت في ذي الخويصرة لما قال للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقسم غنائم حنين: اعدل يامحمد! فإني لم أرك تعدل، فقال له النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ويلك! ومن يعدل إذا لم أعدل؟» وسيأتي حديثة.
ولما أخبر تعالى عن حالهم السيىء الدنيء الذي لا يجديهم في الدنيا ويهلكهم في الأخرى، نبههم على ما هو الأصلح لهم من الحال الشريف السني فقال:
﴿ولو أنهم﴾ أي المنافقين
﴿رضوا ما آتاهم الله﴾ أي المنعم بجميع النعم لأن له جميع الكمال
﴿ورسوله﴾ الذي عظمته من عظمته قل ذلك المؤتي أو كثر طال زمنه أو قصر
﴿وقالوا﴾ أي مع الرضى
﴿حسبنا الله﴾ أي كافينا لأن له جميع العظمة فهو الغني المطلق.
503
ولما كانت الكفاية تارة تكون بالتنجيز العاجل وتارة بالوثوق بالوعد الآجل، بين أن الثاني هو المراد لأنه أدل على الإيمان فقال:
﴿سيؤتينا الله﴾ أي الملك الأعظم بوعد لا خلف فيه واعتقدوا أن لا حق لأحد فقالوا:
﴿من فضله ورسوله﴾ أي الذي لا يخالف أمره، على ما قدر لنا في الأزل؛ ثم عللوا ذلك بقولهم:
﴿إنا إلى الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال وحده
﴿راغبون*﴾ أي عريقون في الرغبة، فلذلك نكتفي بما يأتي من قبله كائناً ما كان، أي لكان ذلك خيراً لهم لأنه لا ينالهم إلا ما قسم سبحانه لهم شاؤوا أو أبوا.
504
ولما أخبر عن لمزهم في الصدقات وقرر ما هو خير لهم إرشاداً إلى النجاة، علل فعل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها وبين أنه لا يفعل غيره لأنه الحق الذي لا يجوز في شرعه الأكمل غيره لمزوا أو تركوا زهدوا أو رغبوا فقال معبراً بأداة القصر على ما ذكر:
﴿إنما الصدقات﴾ أي هذا الجنس بجميع ما صدق من أفراده، والظاهر أنه قدم الأهم فالأهم، فلذا قال الشافعي: إن الفقير أشدهم حاجة لكونه ابتدأ به، فقال:
﴿للفقراء﴾ أي الذين لا شيء لهم أو لهم شيء يقع موقعاً من كفايتهم
﴿والمساكين﴾ أي الذين لا كفاية لهم بدليل
﴿أما السفينة﴾ [الكهف: ٧٩] وأما {مسكيناً
504
ذا متربة} [البلد: ١٦] فتقييده دل على أن المطلق بخلافه
﴿والعاملين عليها﴾ أي المؤتمنين في السعاية والولاية على جمعها
﴿والمؤلفة قلوبهم﴾ أي ليسلموا أو يسلم بسببهم غيرهم أو يثبتوا على إسلامهم؛ روى البخاري في التفسير وغيره عن أبي سعيد رضي الله عنه قال:
«بعث إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء فقسمه بين أربعة وقال: أتألفهم، فقال رجل: ما عدلت! فقال: يخرج من ضئضىء هذا قوم يمرقون من الدين. وفي رواية: فاستأذنه رجل في ضرب عنقه فقال: لا، دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم - الحديث. ولئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد» ولا يقال: إن العلة مقتضية لقتلهم لا للكف عنهم فإن عمله بالمقام الخضري - كما تقدم - أنه ما من كرامة لنبي إلا وله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلها أو أعلى منها بنفسه أو بأحد من أمته.
ولما فرغ من هذه الأصناف الأربعة الذين يعطون الصدقة في أيديهم يتصرفون فيها كيف شاؤوا، كما دل عليه التعبير باللام، ذكر الذين يعطون الصدقة لقضاء ما بهم كما دل عليه التعبير ب
«في»
505
فقال:
﴿وفي الرقاب﴾ أي والمكاتبين بسبب فك رقابهم من الرق
﴿والغارمين﴾ أي الذين استدانوا في غير معصية، يصرف ما يعطونه إلى قضاء ديونهم فقط
﴿وفي﴾ أي والمجاهدين في
﴿سبيل الله﴾ أي الذي له الأمر كله بالنفقة والحمل والإعانة بالسلاح وغير ذلك، ونقل القفال عن بعض الفقهاء أنه عمم السبيل فأجاز صرفه إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وعمارة المساجد ونحوها
﴿وابن السبيل﴾ وهو المسافر المنقطع عن بلده، يعطى ما يوصله إليه، ففيه إشارة إلى أن رسولنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يفعل ما أدى إلى لمزهم له بسببه إلا بأمر حقاً، فإنا قد عينّا له أهل الصدقات فهو لا يعدل عنهم لشيء من الأشياء لأنه واقف عند ما يرضينا، فإن كانوا منهم أعطاهم وإلا منعهم رضي من رضي وسخط من سخط، وقد فرض ذلك، أو ثابتة للفقراء حال كونها
﴿فريضة﴾ كائنة
﴿من الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً لعلمه بأن في ذلك أعظم صلاح، وهذا كالزجر عن مخالفة الظاهر
﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿عليم﴾ أي بالغ العلم بما يصلح الدين والدنيا ويؤلف بين قلوب المؤمنين
﴿حكيم*﴾ أي فهو
506
يجعل أفعاله من الإحكام بحيث لا يقدر غيره على نقضها؛ قال أبو حيان:
«إنما» إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وإن كانت لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشيء يقتضي الاقتصار عليه.
وحكمة الزكاة من جهة المالك أن المال محبوب لأنه يحصل المحبوب والتمادي في حبه يوجب الإعراض عن الله المعطي له، فكان من الحكمة تذكير المالك له بالمالك الحقيقي في أنه أوجب عليه إخراج طائفة منه ليكف منه انصباب النفس بالكلية إليه ويطهر النفس عن محبتها له ويطهره عن محض الإنفاق في الشهوات، ومن جهة الآخذ أنه لما اجتمعت حاجته إليه وحاجة - المالك - ولو احتمالاً- كان هناك سببان للتسلط على المال: أحدهما اكتساب المالك له، والثاني احتياج الآخذ إليه، فروعي السببان بقدر الإمكان، ورجح المالك بإبقاء الكثير، وصرف إلى الآخذ اليسير. وأجرى الشافعي الآية على ظاهرها فقال: إن أخرجها ذو المال سقط سهم العامل مع سهم المؤلفة وصرف إلى الستة الأصناف، وإن قسم الإمام فعلى سبعة، ويجب أن يعطى من كل صنف ثلاثة أنفس، ومن لم يوجد من الأصناف رد نصيبه على الباقين ويستوي بين الأصناف لا بين آحاد الصنف. وقال أبو حنيفة: يجوز صرف الكل لواحد من الأصناف لأن الآية أوجبت أن لا تخرج
507
الصدقة عنهم، لا أن تكون في جميع الأصناف - وهو قول عمر بن الخطاب وحذيفة وابن عباس رضي الله عنهم وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية وميمون بن مهران.
ولما بين الصنفين السالفين، وختم أمرهما بصفتي العلم والحكمة، أتبعهما بصنف آخر يؤذي بما يجعله نقصاً في صفات الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فليزم الطعن في علم مرسله وحكمته فقال:
﴿ومنهم الذين يؤذون النبي﴾ أي الذي أعلى الله مقداره، فهو ينبئه بما يريد سبحانه من خفايا الأسرار؛ ولما أخبر بمطلق الأذى الشامل للقول والفعل، عطف عليه قوله:
﴿ويقولون هو﴾ أي من فرط سماعه لما يقال له
﴿أذن﴾ ومرادهم أنه يصدق كل ما يسمع ويقبل قول كل أحد - كما سمي الجاسوس عيناً؛ قال أبو حيان: كان خذام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا، فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا فإن محمداً أذن سامعة، ثم نأتيه فيصدقنا، فنزلت، وقيل غير ذلك.
رجل أذن - إذا كان يسمع مقال كل أحد، يستوي فيه الواحد والجمع - انتهى. ومرادهم أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يعرف مكر من يمكر به وخداع من يخادعه وكذبوا، هو أعرف الناس بذلك، ولكنه
508
يعرض عند المصالح، لا يليق بمحاسن الدين غيرها، بينها تعالى بقوله:
﴿قل أذن خير﴾ ثم بين أن نفع ذلك عائد إليهم بقوله:
﴿لكم﴾ ثم فسر ذلك بقوله:
﴿يؤمن﴾ أي يوقع الإيمان للملائكة الذين يأتونه عن الله من التكذيب بأن يصدقهم معترفاً
﴿بالله﴾ أي بسبب ما يخبرونه عنه به حق الإيمان لما له من كمال العلم بما له سبحانه من صفات الجلال والإكرام؛ وحاصله أن فعل الإيمان ضمن فعل التصديق ثم حذف وانتزعت منه حال أقيمت مقامه ثم حذفت وأتى بصلة تدل عليها كما قالوا في قوله تعالى
﴿ولتكبروا الله على ما هداكم﴾ [البقرة: ١٨٥] أن التقدير: حامدين على ما هداكم، فالتقدير هنا: يؤمن مصدقاً بالله، فهدذا حقيقته وهو يثمر محبة المؤمنين وولايتهم، ولذا أتبعه قوله:
﴿ويؤمن للمؤمنين﴾ أي الراسخين، يوقع الإيمان لهم من التكذيب بأن يصدقهم في كل ما يخبرونه به مما يحتمل التصديق، وذلك لأجل مصالحهم والتأليف بينهم مع ما ثبت من صدقهم، فإنه لو حملهم على عقله ومبلغ علمه يحبه الكاذب وعاقب الخائن بمجرد علمه وتفرسه، لقصرت عن ذلك غالب الأفهام وتاهت بسببه أكثر الأوهام، فنفرت القلوب ووقع من الأغلب الاتهام. ولما كان التصديق بوجود الإله على ما له من صفات الكمال المقتضي للأمر والنهي عدي بالباء، وهنا كان التصديق إنما هو للإخبار بأيّ شيء كان عدي باللام وأشير - بقصر الفعل وهو متعد - إلى مبالغة في التصديق بحيث كأنه لا تصديق غيره.
509
ولما بين سبحانه أن تصديقه ظاهراً وباطناً إنما هو للراسخين في الإيمان، بين أن تصديقه لغيرهم إنما هو الظاهر فقال:
﴿ورحمة﴾ أي وهو رحمة
﴿للذين آمنوا﴾ أي أظهروا الإيمان بألسنتهم
﴿منكم﴾ فهو - والله أعلم - إشارة إلى المنافقين ومن في حكمهم ممن جزم لسانه وقلبه مزلزل، أي أن إظهار تصديقهم قبولاً لما ظهر منهم وستر قبائح أسرارهم سبب للكف عن دمائهم، وإظهار المؤمنين لمقتهم ربما كان ذلك سبباً لصدق إيمانهم بما يرون من محاسن الإيمان بتمادي الزمان، ولا يستبعد كون التعبير بالماضي إشارة إلى المنافقين لا سيما بعد التعبير باسم الفاعل، فقد قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه المفتاح ما نصه: الباب الرابع في رتب البيان عن تطور الإنسان بترقيه في درج الإيمان وترديه في درك الكفران: اعلم أن الله محيط بكل شيء خلقاً وأمراً أولاً وآخراً ظاهراً وباطناً وهو حمده، وله علو في ظهور أمره وكبير خلقه، واحتجاب في مقابل ذلك من خلقه وأمره بما أبداه من حكمته وأسباب هداه وفتنته، وذلك العلو هو إلهيته، والاحتجاب هو ملكه، وبينهما إقامة كل خلق لما خلق له وتأييد كل أمر من الأمرين لما أقيم له، وذلك هو ربانيته ولكل فتق من خلفه وأمره رتق سابق.
ولكل تفاوت سواء، وذلك هو رحمانيته، ولكل أقرب في مدد الحجاب اختصاص وذلك هو رحيميته، ولكل أبعد في مدد
510
الحجاب بطش منه شديد في رده إلى القرب وتلك هي نقمته، ولكل من تنزلاته العلية ظاهراً وباطناً أمر خاص، ولكل أمر خلق، يرد بيان القرآن لكل خلق بحسب كنه ذاته واختصاص رتبة قربه ومحل بعده، وأن الله سبحانه جعل آدم وذرأه خليفة له في جميع أمره وتفصيله، وأنزل القرآن بناء على جملة ذلك، فأردأ الأحوال لهذا المستخلف المحل الذي سمي فيه بالإنسان، وهو حيث أنس بنفسه وغيره ونسي عهد ربه، فيرد لذلك بناؤه بالذم في القرآن
﴿قتل الإنسان ما أكفره﴾ [عبس: ١٧]
﴿إن الإنسان لربه لكنود﴾ [العاديات: ٦] ثم المحل الذي تداركه فيه تنبه لسماع الزجر من ربه، وهو له بمنزلة سن الميّز لابن سبع، ولا يقع إلا عن اجتماع وتراء، وذلك هو السن المسمون فيه بالناس لنوسهم، أي ترددهم بين سماع الزجر من ربهم وغلبة أهوائهم عليهم، فيرد لذلك بناؤهم بذم أكثرهم في القرآن
﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ [الأعراف: ١٨٧]-
﴿ولا يشكرون﴾ ثم المحل الذي يتحقق لهم قبول وسماع وإيمان لغائب الأمر والخلق، لكنهم يتزلزلون عنه كثيراً عند كل عارضة نيل خادعة رفعة، وهو لهم بمنزلة سن المحتلم الذي قد ذاق طعم بدو النطفة من باطنه الناجم العقل للنظر في حقائق المحسوسات، وذلك هو السن الذي يسعون فيه
﴿الذين آمنوا﴾ وهو أول سن التلقي، فلذلك جميع آداب القرآن
511
وتعليمه إنما مورده أهل هذا السن، كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إذا سمعت الله عز وجل يقول
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ فأعرها سمعك فإنه خير يأمر به أو شر ينهي عنه، وكما أن ما يخص البالغ العاقل من الخطاب لا يدخل فيه الصبي المميز، وما يخص المميز لا يدخل فيه البالغ، كذلك خطاب
﴿الذين آمنوا﴾ لم يصل إليه الناس بعد، وخطاب الناس قد جاوزه
﴿الذين آمنوا﴾ لأنهم قد انزجروا بما قبلت قلوبهم عما ينزجر عنه الناس، وقد ائتمروا بما يأتمر به الناس؛ وهذه الأسنان الخالية عند أولي البصائر، وخاص خطابها أشد ظهوراً من أسنان الأبدان عند أصحاب الأبصار، وعدم التبصرة بهذه المراتب في الأحوال والبيان هي أقفال القلوب المانعة من تدبر القرآن، وكذلك ما فوق سن
«الذين آمنوا» من سن
﴿الذين يؤمنون﴾ وهم في أول حد القرب منزلة بلوغ الأشد، وسن
﴿الذين آمنوا﴾ و
﴿الناس﴾ في مدد حد البعد ولذلك يخاطبون بحرف
«يا» المرسلة إلى حد البعد:
﴿يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله﴾ [الصف: ١٠] وفوق ذلك سن المؤمنين وأدنى قرباً، ولذلك لم يرد في القرآن في خطابهم
﴿يا﴾ البعد، وهذا السن بمنزلة الاكتهال وسن الشيب، وتمام سنهم
﴿المؤمنون حقاً﴾ وكذلك إلى سن
﴿المحسنين﴾ إلى غيب سن
﴿الموقنين﴾ إلى ما وراء ذلك، فإن أسنان الجسم أرابيع،
512
وأسنان القلب أسابيع، يعرفها من تطور فيها، ويجهلها من نبت سن قلبه على الجهل وتطور سن جسمه إلى الهرم
«يهرم ابن آدم ويشيب منه اثنتان: الحرص والأمل» فالحرص فقره ولو ملك الدنيا، والأمل همه وتعبه، فمن لم يتحقق أسنان القلب وتفاوت خطابها لم ينفتح له الباب إلى فهم القرآن، ومن لم يتضح له تنزلات الخطاب لم يبن له خطاب الله من خطاب الرحمن من خطاب الملك الديان - انتهى.
ولما بين ما لمن صدقه باطناً أو ظاهراً من الرحمة، بين ما على من كذبه فآذاه من النقمة فقال:
﴿والذين يؤذون﴾ أي هؤلاء ومن غيرهم
﴿رسول الله﴾ أي الذي أظهر - وهو الملك الأعلى - شرفه وعظمته بالجمع بين الوصفين وأعلاه بإضافته إليه، وزاد في رفعته بالتبير باسمه الأعظم الجامع، وهو واسطة بين الحق والخلق في إصلاح أحوالهم فإنما يستحق منهم الشكر والإكرام لا الأذى والإيلام.
ولما كان أذاهم مؤلماً جعل جزاءهم من جنسه فقال:
﴿لهم عذاب أليم *﴾ ثم علل ذلك باستهانتهم بالله ورسوله، وأخبر أنهم يخشون على دمائهم فيصلحون ظواهرهم حفظاً لها بالأيمان الكاذبة فقال:
﴿يحلفون بالله﴾ أي الذي له تمام العظمة
﴿لكم﴾ أي أنهم ما آذوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصوصاً ولا أولادكم بالمخالفة عموماً؛ وبين غاية مرادهم بقوله:
﴿ليرضوكم﴾.
ولما كان الرسول عليه الصلاة والسلام ليس بأذن بالمعنى الذي
513
أرادوه، بين أنه لم يكن راضياً بإيمانهم لعدم وقوع صدقتهم في قلبه ولكنه أظهر تصديقهم لما تقدم من الإصلاح فقال:
﴿والله﴾ أي الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه
﴿ورسوله﴾ أي الذي هو أعلى خلقه، وبلغ النهاية في تعظيمه بتوحيد الضمير الدال على وحدة الراضي لأن كل ما يرضي أحدهما يرضي الآخر فقال:
﴿أحق أن﴾ أي بأن
﴿يرضوه﴾ ولما كان مناط الإرضاء الطاعة ومدار الطاعة الإيمان، قال معبراً بالوصف لأنه مجزأه:
﴿إن كانوا مؤمنين*﴾ أي فهم يعلمون أنه أحق بالإرضاء فيجتهدون فيه، وذلك إشارة إلى أنهم إن جددوا إرضاءه كل وقت كان دليلاً على إيمانهم، وإن خالفوه كان قاطعاً على كفرانهم.
514
ولما بين أن حلفهم هذا إنما هو لكراهة الخزي عند المؤمنين وبين من هو الأحق بأن يرضوه، أقام الدليل على ذلك في استفهام إنكار وتوبيخ مبيناً أنهم فرّوا من خزي منقض فسقطوا في خزي دائم، والخزي: استحياء في هوان، فقال:
﴿ألم يعلموا﴾ أي لدلالتهم على الأحق بالإرضاء. ولما كان ذكر الشيء مبهماً ثم مفسراً أضخم، أضمر للشأن فقال:
﴿أنه﴾ أي الشأن العظيم
﴿من يحادد الله﴾ وهو الملك الأعظم، ويظهر المحاددة - بما أشار إليه الفك
﴿ورسوله﴾ أي الذي عظمته من عظمته، بأن يفعل معهما فعل من يخاصم في
514
حد أرض فيريد أن يغلب على حد خصمه، ويلزمه أن يكون في حد غير حده
﴿فأن له نار جهنم﴾ أي فكونها له جزاء له على ذلك حق لا ريب فيه
﴿خالداً فيها﴾ أي دائماً من غير انقضاء كما كانت نيته المحادة أبداً؛ ثم نبه على عظمة هذا الجزاء بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر البعيد الوصف العظيم الشأن
﴿الخزي العظيم*﴾.
ولما علل فعل المستهينين، أتبعه تعليل أمر صنف آخر أخف منهم نفاقاً بما عندهم مما يقارب التصديق فقال:
﴿يحذر المنافقون﴾ وعبر بالوصف الدال على الرسوخ تحذيراً لهم من أدنى النفاق فإنه يجر إلى أعلاه
﴿أن تنزل﴾ ولما كانت السورة الفاضحة لهم داهية ونائبة من نوائب الدهر وشدائده، عدى الفعل بعلى فقال:
﴿عليهم سورة﴾ أي قطعة من القرآن شديدة الانتظام
﴿تنبئهم﴾ أي تخبرهم إخبار عظيماً مستقصي
﴿بما في قلوبهم﴾ لم يظهروا عليه أحداً من غيرهم او أحداً مطلقاً، لعل هذا الصنف كانوا يسلفون الأيمان لعلها تشكك بعض الناس أو تخفف عنهم إذا نزل ما يهتكهم، روي أنهم كانوا يقولون ما يؤدي ويدل على النفاق ويقولون: عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا، وقال بعضهم بعد كلام قالوه: والله إني لأرانا شر خلق الله ولوددت أني قدمت فجلدت مائة جلدة وأنه لا ينزل فينا شيء يفضحنا.
515
ولما كان حذرهم مع العمل ينافيه من كلام النفاق فعل المستهزىء، قال مهدداً:
﴿قل استهزءوا﴾ أي افعلوا فعل المستهزىء بغاية الرغبة
﴿إن الله﴾ أي المحيط بكمال العلم وتمام القدرة
﴿مخرج﴾ أي كانت له وصف إخراجه
﴿ما تحذرون*﴾ أي إخراجه من قبائحكم؛ وعن الحسن: كان المسلمون يسمون هذه السورة الحفارة، حفرت ما في قلوب المنافقين وأظهرته.
ولما وصفهم بالنفاق، حققه بعدم مبادرتهم إلى التوبة التي هي فعل المؤمنين، وباجترائهم على الإنكار مع كون السائل لهم مَنْ بلغ الغاية في الجلال والوقار والكمال فقال:
﴿ولئن سألتهم﴾ أي وأنت من يجب أن يصدقه مسؤوله عما أخرجت السورة مما أظهروا بينهم من الكفر، وذلك حين قال بعضهم: انظروا إلى هذا الرجل يظن أنه يفتح قصور الشام وحصونها! هيهات هيهات! فأعلمه الله فقال: احبسوا عليّ الركب.
فسألهم
﴿ليقولن إنما﴾ أي ما قلنا شيئاً من ذلك، إنما
﴿كنا نخوض﴾ أي نتحدث على غير نظام
﴿ونلعب﴾ أي بما لا خرج علينا فيه ويحمل عنا ثقل الطريق، فكأنه قيل: فماذا يقال لهم إذا حلفوا على ذلك على العادة؟ فقال:
﴿قل﴾ أي لهم تقريراً على استهزائهم متوعداً لهم معرضاً عما اعتذروا إعلاماً بأنه غير أهل لأن يسمع جاعلاً لهم كأنهم معترفون بالاستهزاء حيث جعل المستهزأ به يلي حرف التقرير، وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته تكذيباً لهم
516
في قولهم: إنك إذن، بالمعنى الذي أرادوه، وبياناً لما في إظهارك لتصديقهم من الرفق بهم
﴿أبالله﴾ أي هو المحيط بصفات بصفات الكمال
﴿وآياته﴾ أي التي لا يمكن تبديلها ولا تخفى على ذي بصر ولا بصيرة
﴿ورسوله﴾ أي الذي عظمته من عظمته وهو مجتهد في إصلاحكم وتشريفكم وإعلائكم
﴿كنتم﴾ أي دائماً
﴿تستهزءون*﴾.
ولما حقق استهزاءهم، أنتج قوله:
﴿لا تعتذروا﴾ أي لا تبالغوا في إثبات العذر، وهو ما ينفي الملام، فإن ذلك لا يغنيكم وإن اجتهدتم لأن القطع حاصل بأنكم
﴿قد كفرتم﴾ أي بقولكم هذا، ودل - على أن كفرهم أحبط ما كان لهم من عمل - بنزع الخافض تشديداً على من نكث منهم تخويفاً له وتحقيقاً بحال من أصر فقال:
﴿بعد إيمانكم﴾ أي الذي ادعيتموه بألسنتكم صدقاً من بعضكم ونفاقاً من غيره.
ولما كان الحال مقتضياً لبيان ما صاروا إليه بعد إكفارهم من توبتهم أو إصرارهم، بين أنهم قسمان: أحدهما مطبوع على قلبه ومقضي توبته وحبه، وهذا الأشرف هو المراد بقوله بانياً للمفعول إعلاماً بأن المقصود الأعظم هو الفعل، لا بالنظر إلى فاعل معين:
﴿إن نعف﴾ لأن كلام الملك وإن جري في مضمار الشرط فهو مرشد إلى تحققه
517
ليحصل الفرق بين كلام الأعلى والأدنى
﴿عن طائفة منكم﴾ أي لصلاحيتها للتوبة
﴿نعذب طائفة﴾ أي قوم ذوو عدد فيهم أهلية الاستدارة، وقرأ عاصم ببناء الفعلين للفاعل على العظمة
﴿بأنهم﴾ أي بسبب أنهم
﴿كانوا مجرمين*﴾ أي كسبهم للذنوب القاطعة عن الخير صفة لهم ثابتة لا تنفك، فهم غير متأهلين للعفو، وشرح هذه القصة أنه كان يسير بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك ثلاثة نفر من المنافقين: اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك، قيل: كانوا يقولون: إن محمداً يزعم أنه يغلب الروم ويفتح مدائنهم، ما أبعده من ذلك! وقيل: كانوا يقولون: إن محمداً يزعم أنه نزل في أصحابنا المقيمين في المدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطلع الله نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك فقال: احسبوا الركب عليّ، فدعاهم وقال لهم: قلتم كذا وكذا؟ فقالوا:
﴿إنما كنا نخوض ونلعب﴾ أي كنا نتحدث ونخوض في الكلام كما يفعل الركب لقطع الطريق بالحديث واللعب، قال ابن اسحاق: والذي عفى عنه رجل واحد وهو مخشي بن حمير الأشجعي، يقال: هو الذي كان يضحك، ولا يخوض وكان يمشي مجانباً لهم وينكر بعض مايسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب.
قال: اللهم! لا أزال أسمع آية تقرأ، تقشعر منها
518
الجلود، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك! لا يقول أحد: أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عرف مصرعه غيره رضي الله عنه. ولعل إطلاقاً الطائفة عليه تعظيماً له وستراً عليه وتبشيراً بتوبة غيره، ولعل مخشياً كان مؤمناً ولكن كان إيمانه مزلزلاً فلذا عبر هنا بقوله
﴿أكفرتم بعد إيمانكم﴾ والتعبير بذلك أشنع في الذم ولا سيما عند العرب لأنهم يتمادحون بالثبات على أيّ أمر اختاروه ويتذامون بالطيش، ولعل الجلاس المعنيّ بالقصة الآتية وحده أو مع غيره لم يكن آمن كغيره ممن عني بها، وما آمن إلا حين تاب، فلذا عبر هناك بقوله:
﴿وكفروا بعد إسلامهم﴾ ؛ قال أبو حيان: قال ابن عمر:
«رأيت وديعة بن ثابت متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول ﴿إنما كنا نخوض ونلعب﴾ والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:» أبالله وآياته «- الآية.
ولما بين سبحانه أفعالاً وأقوالاً لطوائف من المنافقين - منهم من كان معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في العسكر - هي في غاية الفساد، كان ذلك ربما اقتضى أن يسأل عن المتخلفين لو خرجوا ما كان يكون حالهم؟ فقال جواباًُ عن ذلك واستدلالاً على أن إجرام الذين لم يعف عنهم منهم خلق لازم:
﴿المنافقون والمنافقات﴾ أي الذين أظهروا الإيمان
519
وأبطنوا الكفران
﴿بعضهم﴾ ولما كان مرجعهم الجمود على الهوى والطبع والعادة والتقليد من التابع منهم للمتبوع، قال:
﴿من بعض﴾ أي في صفة النفاق هم فيها كالجسد الواحد، أمورهم متشابهة في أقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم، والقصد أن حالهم يضاد حال أهل الإيمان ولذلك بينه بقوله:
﴿يأمرون بالمنكر﴾ أي مما تقدم من الخبال والإيضاع في الخلال وغير ذلك من سيء الخصال
﴿وينهون عن المعروف﴾ أي من كل ما يكون فيه تعظيم الإسلام وأهله، يبغون بذلك الفتنة
﴿ويقبضون أيديهم﴾ أي يشحون فلا ينفقون إلا وهم كارهون.
ولما كان كأن قيل: أما خافوا بذلك من معاجلة العقاب؟ أجاب بقوله:
﴿نسوا الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه، ويصلح أن يكون علة لما تقدم عليه؛ ولما اقدموا على ذلك، سبب عنه قوله:
﴿فنسيهم﴾ أي فعل بهم فعل الناسي لما استهان به بأن تركهم من رحمته، فكان ذلك الترك سبباً لحلول نقمته؛ ولما تطبعوا بهذه النقائص كلها، اختصوا بكمال الفسق فشرح ذلك في أسلوب التعجيب من حالهم فقال مظهراً موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف:
﴿إن المنافقين هم﴾ أي خاصة
﴿الفاسقون *﴾ أي الخارجون عن دائرة ما ينفعهم من الطاعة الراسخون في ذلك، فقد علم أنهم لو غزوا فعلوا فعل هؤلاء سواء لأن الكل من طينة واحدة.
520
ولما بين كثيراً من أحوالهم فاشتد التشوف إلى مآلهم وكان مقصودها بإظهار الإيمان والاعتذار عن النقائض بتأكيد الأيمان إنما هو التقرب إلى المؤمنين والتحبب طمعاً في العيش في أكنافهم وفرقاً من المعاجلة بما يستحقون من إتلافهم، بين أن لهم على هذا الخداع العذاب الدائم والطرد اللازم، وجمع معهم المصارحين بالكفر إعلاماً بأنهم إن لم يكونوا أعظم عناداً منهم فهم سواء، فقال:
﴿وعد الله﴾ وساقه بصيغة البشارة تهكماً بهم وإبلاغاً في مساءتهم
﴿المنافقين والمنافقات﴾ أي المساترين باعتقادهم
﴿والكفار﴾ أي المجاهرين في عنادهم.
ولما كانوا مجبولين على تجهم المؤمنين والانقباض عنهم، وإن أظهروا خلاف ذلك فهو تصنع، قال:
﴿نار جهنم﴾ أي النار التي من شأنها تجهم أهلها ولقاؤهم بالعبوسة الزائدة
﴿خالدين فيها﴾ أي لا براح لهم عنها
﴿هي حسبهم﴾ أي كافيتهم في العذاب، لكن لما كان الخلود قد يتجوز به عن الزمن الطويل فيكون بعده فرج، قال:
﴿ولعنهم الله﴾ أي طردهم وأبعدهم من رحمته وهو الملك العليم الحكيم الذي لا أمر لأحد معه فأفهم أنه لا فرج لهم، ثم نفي كل احتمال بقوله:
﴿ولهم﴾ أي بالأمرين
﴿عذاب مقيم*﴾ أي لا وصف له غير الإقامة في الدنيا بما هم مقهورون به من سطوة الإسلام وجنوده الكرام الأعلام، وفي الآخرة بما لا يعلمه حق علمه إلا الله
521
الملك العلام.
ولما كان حالهم في الإقبال على العاجلة لكونها حاصلة والإعراض عن العاقبة لأنها غائبة متشابهاً لحال من كان قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية، بين لهم ذلك وختم ببيان سوء أحوالهم وقبح مآلهم بتلاشي أعمالهم فقال ملتفتاً إلى أسلوب الخطاب لأنه أوقع في باب العتاب وأقعد في استجلاب المصالح للمتاب:
﴿كالذين﴾ أي حاصل ما مضى من أمركم أيها المنافقون أنكم مثل الذين؛ ولما كان فاعل ما يذكر إنما هو بعض من مضى أثبت الجارّ فقال:
﴿من قبلكم﴾ أي من الأمم الخالية، ثم شرع في شرح حالهم وذكر وجه الشبه فقال:
﴿كانوا أشد منكم قوة﴾ لأن الزمان كان إذ ذاك أقرب إلى سن الشباب
﴿وأكثر أموالاً وأولاداً﴾ وهذا ناظر إلى قوله: «فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم
﴿فاستمتعوا﴾ أي طلبوا المتاع والانتفاع في الدنيا بغاية الرغبة معرضين عن العقبى
﴿بخلاقهم﴾ أي نصيبهم الذي قدره الله وخلقه لهم، وكان الأليق بهم أن يتبلغوا به في السفر الذي لا بد منه إلى الآخره
﴿فاستمتعتم بخلاقكم﴾ أي كالمقتفين لآثارهم والقاصدين لنارهم
﴿كما استمتع﴾ وفي الإتيان بقوله:
﴿الذين﴾ ولما كانوا لم يستغرقوا الزمن الماضي، أثبت الجارّ فقال:
﴿من قبلكم بخلاقهم﴾ ظاهراً غير مضمر تنبيه على ذمهم بقلة النظر لنفسهم المستلزم لقلة عقولهم حيث كانوا دونهم في القوة أبداناً وأموالاً وأولاداً لم يكفوا عن الاستمتاع
522
والخوض خوفاً مما محق أولئك الأحزاب على قوتهم من العذاب من غير أن ينفعهم سبب من الأسباب
﴿وخضتم﴾ أي ذهبتم في أقوالكم وأفعالكم خبطاً على غير سنن قويم
﴿كالذي﴾ أي كخوضهم الذي
﴿خاضوا﴾ وهو ناظر إلى قولهم
﴿إنما كنا نخوض ونلعب﴾ قال أبو حيان: وهو مستعار من الخوض في الماء ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة».
ولما آذن هذا النظم لهم بالخسارة، حصل التشوف إلى عاقبة أمرهم فأخبر عن ذلك بقوله:
﴿أولئك﴾ أي البعداء من الخير، والظاهر أنه إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد
﴿حبطت﴾ أي فسدت فبطلت
﴿أعمالهم في الدنيا﴾ أي بزوالها عنهم ونسان لذاتها
﴿والآخرة﴾ أي وفي الدار الباقية لأنهم لم يسعوا لها سعيها؛ وزاد في التنبيه على بعدهم مما قصدوا لأنفسهم من النفع فقال:
﴿وأولئك هم﴾ أي خاصة
﴿الخاسرون*﴾ أي لا خاسر في الحقيقة غيرهم لأنهم خسروا خلاقهم في الدارين فخسروا أنفسهم فلا أخسر ممن تشبه بهم، ولعل في الالتفات إلى مقام الخطاب أيضاً إشارة إلى تحذير كل سامع من مثل هذه الحال لصحة أن يكون مراداً بهذا المقال،
523
فإن من أسرار القرآن في إعجازه أن تكون عبارته متوجهة إلى شيء وإشارته شاملة لغيره من حيث اتصافه بعلة ذلك الحال أو غير ذلك من الخلال؛ قال الإمام أبو الحسن الحرالي في آخر عروة المفتاح في بيان تناول كلية القرآن لكلية الآية ولكل قارىء يقرؤه من أهل الفهم والإيقان: اعلم أن الله سبحانه وتعالى أنزل القرآن نبأ عن جميع الأكوان، وأن جميع ما أنبأ عنه من أمر آدم إلى زمان محمد عليهما السلام من أمر النبوات والرسالات والخلافات وأصناف الملوك والفراعنة والطغاة وأصناف الجناة وجميع ما أصابهم من المثوبات والمثلات في يوم آدم عليه السلام إلى زمان محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو ستة آلاف سنة ونحوها كل ذلك يتكرر بجملته في يوم محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي هو ألف سنة أو نحوها أعداداً بأعداد وأحوالاً بأحوال في خير أو شرف، لكل من الماضين مثل يتكرر في هذه الأمة الخاتمة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«» لكل نبي قبلي في أمتي نظير
«ثم ذكر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظراء» مثل إبراهيم كأبي بكر، ومثل موسى كعمر، ومثل هارون كعثمان، ومثل نوح كعلي، ومثل عيسى كأبي ذر
«وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» إني لأعرف النظراء من أمتي بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم كافرهم ومؤمنهم ممن كان وممن هو كائن وممن سيكون بعد، ولو شئت أن أسميهم لفعلت
«»
فما صد أكثر هذه الأمة عن فهم القرآن ظنهم أن الذي فيه من قصص الأولين وأخبار المثابين والمعاقبين من أهل
524
الأديان أجمعين أن ذلك إنما مقصوده الأخبار والقصص فقط، كلاً وليس كذلك! إنما مقصوده الاعتبار والتنبيه لمشاهدة متكررة في هذه الأمة من نظائر جميع أولئك الأعداد وتلك الأحوال والآثار حتى يسمع السامع جميع القرآن من أوله إلى خاتمته منطبقاً على هذه الأمة وأئمتها هداتها وضلالها، فحينئذ ينفتح له باب الفهم ويضيء له نور العلم ويتجه له حال الخشية ويرى في أصناف هذه الأمة ما سمع من أحوال القرون الماضية وإنه كما قيل في مثل السائر:
إياك أعني واسمعي ياجارة... ثم إذا شهد انطباق القرآن على كلية الأمة فكان بذلك عالماً ينفتح له باب ترق، فيترقى سمعه إلى أن يجد جميع كلية القرآن المنطبق على كلية الأمة منطبقاً على ذاته في أحوال نفسه وتقلباته وتصرفات أفعاله وازدحام خواطره حتى يسمع القرآن منطبقاً عليه فينتفع بسماع جميعه ويعتبر بأي آية سمعها منه فيطلب موقعها في نفسه فيجدها بوجه ما رغبة كانت أو رهبة تقريباً كانت أو تبعيداً إلى أرفع الغايات أو إلى أنزل الدركات، فيكون بذلك عارفاً، هذا مقصود التنبيه في هذا الفصل جملة، ولنتخذ لذلك مثالاً يرشد لتفهم ذلك الانطباق على كلية الأمة علماً وعلى خصوص ذات القارىء السامع
525
عرفاناً، فاعلم أن أصول الأديان المزدوجه التي لم تترق إلى ثبات حقائق المؤمنين فمن فوقهم من المحسنين والموقنين التي جملتها تحت حياطة الملك والجزاء والمداينة، الذين تروعهم رائعة الموت أولاً ثم رائعة القيامة ثانياً إلى ما يشتمل عليه يوم الدين من أهوال المواقف الخمسين التي كل موقف منها ألف من السنين في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، فعدد هذه الأديان سبعة، ما من دين منها إلا ويوجد في صنف من أصناف هذه الأمة، وتجده المعتبر في نفسه في وقت ما بقلة أو كثرة بدوام أو خطرة بضعف أو شدة على إثر دين غالب أو عن لمح عين زائل، وهذه الأديان السبعة هي دين
﴿الذين آمنوا﴾ من هذه الأمة ولم يتحققوا لحقيقة الإيمان فيكونوا من المؤمنين الذين صار الإيمان وصفاً ثابتاً في قلوبهم، الموحدين المتبرئين من الحول والقوة، المتحققين لمعناه، إقداراً لله عليهم بما شاء لا بما يشاؤون
﴿الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون - أولئك هم المؤمنون حقاً﴾ [الأنفال: ٢-٤]، وأما الذين آمنوا فهم الذين لا يثبتون على حال إيمانهم ولكن تارة وتارة، ولذلك هم المنادون والمنهيون والمأمورون في جميع القرآن الذين يتكرر عليهم النداء في السورة الواحدة مرات عديدة من نحو ما بين قوله تعالى
﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين﴾ [التوبة: ١١٩] إلى قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم
526
عن دينه} [المائدة: ٥٤] إلى ما بين ذلك من نحو قوله تعالى
﴿إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا﴾ [النساء: ١٣٧] فهؤلاء هم أهل دين ثابت ينتظمون به مع من ليس له ثبات من ماضي الأيان المنتظمين مع من له أصل في الصحة من الأديان الثلاثة في نحو قوله تعالى
﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر﴾ [البقرة: ٦٢] المنتظمين أيضاً مع المغيرين لأديانهم والمفترين لدين لم ينزل الله به من سلطان في نحو قوله تعالى:
﴿إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا﴾ [الحج: ١٧] فهذا هو الدين الأول؛ وأما الدين الثاني فهو دين الذين هادوا والذين منهم الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها والذين ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه والذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون: هذا من عند الله، والذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، والذين يأكلون الربا وقد نهوا عنه، والذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وأما الدين الثالث فدين الذين قالوا: إنا نصارى، الذين منهم الذين ضلوا عن سواء السبيل الذين غلوا في دينهم وقالوا على الله غير الحق واتخذوا رهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، وأما الدين الرابع فدين الصابئة الذين منهم متألهو النجوم عباد الشمس والقمر والكواكب ومغيروهم، هم بالترتيب أول من عبد محسوساً
527
سماوياً؛ وأما الدين الخامس فدين المجوس الثنوية الذين جعلوا إلهين اثنين: نوراً وظلمة، وعبدوا محسوساً آفاقياً، وأما الدين السادس فدين الذين أشركوا وهم الذين عبدوا محسوساً أرضياً غير مصور، وهم الوثنية أو مصوراً وهم الصنمية - فهذه الأديان الستة الموفية لعد الست لما جاء فيه؛ وأما الدين السابع فاعلم أن الله سبحانه حعل السابع أبداً جامعاً لستة خيراً كانت أو شراً، فالدين السابع هو دين المنافقين الذين ظاهرهم مع الذين آمنوا وباطنهم مع أحد سائر الأديان الخمسة المذكورة إلى أدنى دين مشركها الذين إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا واذا خلوا إلى شياطينهم قالوا: إنا معكم - فهذه الأديان السبعة متكررة بكليتها في هذه الأمة بنحو مما وقع قبل في الأمم الماضية، وهو مضمون الحديث الجامع لذكر ذلك في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لتأخذنَّ كما أخذت الأمم من قبلكم ذراعاً بذراع وشبراً بشبر وباعاً بباع حتى لو أن أحداً من أولئك دخل في حجر ضب لدخلتموه، قالوا: يارسول الله! كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم» وما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديث هو من مضمون قوله تعالى
﴿كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم فاستمعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا﴾، وأهل هذه الأديان السبعة - أو منهم - عمرة دركات جهنم السبع على ترتيبهم، والناجون
528
بالكلية الفائزون هم المؤمنون فمن فوقهم من المحسنين والموقنين، ومزيد تفضيل في ذلك وتثنية قول بما ينبه عليه بحول الله تعالى من جهات تتبع طوائف من هذه الأمة سنن من تقدمهم في ذلك، أما وجه تكرار دين الذين أشركوا في هذه الأمة فباتخاذهم أصناماً وآلهة يعبدونها من دون الله محسوسة جمادية كما اتخذ المشركون الأصنام والأوثان من الحجارة والخشب واتخذت هذه الأمة بوجه ألطف وأخفى أصناماً وأوثاناً فإنها اتخذت الدينار والدرهم أصناماً والسبائك والنقر أوثاناً من حيث إن الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«صنم أمتي الدينار والدرهم» وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«لكل أمة عجل وعجل أمتي الدينار والدرهم» فلا فرق بين ظن المشرك أن الصنم الذي صنعه بيده ينفعه وظن المفتونين من هذه الأمة أن ما اكتسبوا من الدينار والدرهم ينفعهم حتى يشير مثلهم: ما ينفعك إلا درهمك
﴿يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم﴾ [التوبة: ٧٤] فما من آية نزلت في المشركين في ذكر أحوالهم وتبيين ضلالهم وتفاصيل سرهم وإعلانهم إلا وهي منطبقة على كل مفتون بديناره ودرهمه، فموقع قول المشركين في أصنامهم
﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] مثله موقع نظيره من قول المفتون: ما أحب المال إلا لأعمل
529
الخير وأستعين به على وجوه البر، ولو أراد البر لكان ترك التكسب والتمول له أبر: قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«إنما أهلك من كان قبلكم الدينار والدرهم وهما مهلكاكم» فكل من أحبهما وأعجب بجمعهما فهو مشرك هذه الأمة وهما لاته وعزاه اللتان تبطلان عليه قول لا إله إلا الله لأنه تأله ماله؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لا إله إلا الله نجاة لعباد الله من عذاب الله ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على دينهم» فمن وجد من هذا مسة فليسمع جميع ما أنزل في المشركين من القرآن منطبقاً عليه ومنزلاً إليه وحافاً به حتى يخلصه الله من شركه كما خلص من أخرجه من الظلمات إلى النور من الأولين، فتخلص هذا المشرك بما له من ظلمته التي غشيت ضعيف إيمانه إلى صفاء نور الإيمان في مضمون قوله تعالى
﴿ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور﴾ [الطلاق: ١١] فهذا وجه تفضيل يبين نحواً من تكرر دين الشرك في هذه الأمة، وأما وجه وقوع المجوسية، ونظيرها في هذه الأمة فإطباق الناس على رؤية الأفعال من أنفسهم خيرها وشرها وإسنادهم أفعال الله إلى خلقه حيث استحكمت عقائدهم على أن فلاناً فاعل وفلاناً فاعل شر وفلاناً يعطي وفلاناً يمنع وفلاناً خير مني وفلاناً أعطاني، حتى ملؤوا الدواوين من الأشعار والخطب والرسائل أمداحاً لخلق الله على ما لم يفعلوا وذماً لهم
530
على ما لم يمنعوا يحمدون الخلق على رزق الله ويذمونهم على ما لم يؤته الله ويلحدون في أسمائه حتى يكتب بعضهم لبعض
«سيدي وسندي وأسنى عُددي عبدك ومملوكك» يبطلون بذلك أخوة الإيمان ويكفرون تسوية خلق الرحمن ويدعون لأنفسهم أفعال الله فيقولون: فعلنا وصنعنا وأحسنا وعاقبنا - كلمة نمرودية، آتاهم ما لم يشعروا باختصاص الله فيه بأمر كالذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك حين قال: أنا أحيي وأميت، وهذه هي المجوسية الصرف والقدرية المحضة التي لا يصح دين الإسلام معها، لأن المسلم من أسلم الخلق والأمر لربه
﴿أسلمت وجهي لله ومن اتبعن﴾ [آل عمران: ٢٠]،
﴿ألا له الخلق والأمر﴾ [الأعراف: ٥٤] وما سوى ذلك قدرية وهي مجوسية هذه الأمة حيث جعلوا للعبد شركة في فعل الرب وجعلوا له معه تعالى قدرة وقوة ومشيئة واختياراً وتدبيراً ولم يعلموا أن التقدير منع التدبير، وأنه تعالى هو يدبر الأمر من السماء إلى الأرض؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«القدرية مجوس هذه الأمة» فكل ما أنزل الله عز وجل في القرآن الجامع لذكر جميع الملل والأديان مما عزاه لمن وزع الأفعال بين الحق والخلق من كلام ذي فرعنة أو نمرودية أو ذي سلطان فللمعتقد المدح والذم حظ منه على حسب توغلهم واستغراقهم في الذين زعموا أنهم فيهم شركاء فخافوهم ورجوهم، فكل خائف من الخلق أو راج منهم من عداد الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة
531
فهم من مجوس هذه الأمة، فليسمع السامع ما يقرؤه من ذلك حجة عليه ليسأل الله تعالى التخلص منها وليعلم أن ذلك لم يزل حجة عليه وإن كان لم يشعر به قبل. فهذا وجه من وقوع المجوسية في هذه الأمة، وأما وجه وقوع الصابئة ونظيرها في هذه الأمة - فما غلب على أكثرهم وخصوصاً ملوكها وسلاطينها وذوو الرئاسة منها من النظر في النجوم والعمل بحسب ما تظهره هيئتها عندهم من سعد ونحس والاستمطار بالنجوم والاعتماد على الأنواء وإقبال القلب على الآثار الفلكية قضاء بها وحكماً بحسب ما جرى عليه الخليون الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون - من العناية بها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أربعة من أمتي هن بهم كفر وليسوا بتاركيهن» - فذكر منها الاستمطار بالنجوم فالمتعلق خوفهم ورجاؤهم بالآثار الفلكية هم صابئة هذه الأمة كما أن المتعلق خوفهم ورجاؤهم بأنفسهم وغيرهم من الخلق هم مجوس هذه الأمة، وكما أن المتعلق تشوفهم ورجاؤهم بدرهمهم ودينارهم هم مشركو هذه الأمة وما انطوى عليه سر كل طائفة منهم مما تعلق به خوفهم ورجاؤهم فهو ربهم ومعبودهم الذي إليه تصرف جميع أعمالهم، واسم كل امرىء مكتوب على وجه ما اطمأن به قلبه فكل ما أنزل في القرآن من تزييف أراء الصابئة فهو حجة عليه
532
حيث يقرؤه أو يسمعه من حيث لا يشعر حتى يقرأ قوم القرآن وهو نذير لهم بين يدي عذاب شديد وهم لا يشعرون ويحسبون أنهم يرحمون به وهم الأخسرون
﴿ولا يزيد الظالمين إلا خساراً﴾ [الإسراء: ٨٢] فمما يختص بهذه الطائفة المتصبئة ما هو نحو قوله تعالى
﴿وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين﴾ [الأنعام: ٧٥]- الآيات في ذكر الكوكب والقمر والشمس إلى آيات ذكر التسخير لهن نحو قوله تعالى
﴿وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره وسخر لكم الشمس والقمر دائبين﴾ [إبراهيم: ٣٣]
﴿هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نوراً وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق﴾ [يونس: ٥]
﴿وإنه هو رب الشعرى﴾ [النجم: ٤٩] كل ذلك ليصرف تعالى خوف الخلق ورجاءهم عن الأفلاك والنجوم المسخرة إلى المسخر القاهر فوق عبادة الذي استوى على جميعها، فهذا وجه من وقوع الصائبة في الذين آمنوا والذين أسلموا في هذه الأمة، وأما وجه وقوع ما غلب على هذه الأمة وكثر فيها وفشا في أعمالها وأحوالها من تمادي طوائف منهم على نظير ما كان عليه اليهود والنصارى في اختلافهم وغلبة أحوالهم - ملوكهم وسلاطينهم - على أحوال أنبيائهم وعلمائهم وأوليائهم فهو الذي حذرته هذه الأمة وأشعر أولو الفهم
533
بوقوعه فيهم بنحو ما في مضمون قوله تعالى:
﴿ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات﴾ [آل عمران: ١٠٥] وما أنبأ به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لاتبعتموهم» وفي بعض طرقه
«حتى لو كان فيهم من أتى أمه جهاراً لكان فيكم ذلك، قلنا: يارسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟» وإنما قوي وكثر في هذه الأمة حال هاتين الملتين لما آتاهما الله من الكتاب والعلم والحكمة فاختلفوا فيها بالأغراض والأهواء وإيثار عرض الدنيا، وسامحوا الملوك والولاة وحللوا لهم ما حرم الله وحرموا لهم ما حلل الله، وتوصلوا بهم إلى أغراضهم في الاعتداء على من حسدوه من أهل الصدق والتقوم، وكثر البغي بينهم فاستقر حالهم على مثل حالهم، وسلطت عليهم عقوبات مثل عقوباتهم، وتمادى ذلك فيهم منذ تبدلت الخلافة ملكاً إلى أن تضع الحرب أوزارها وتصير الملل كلها ملة واحدة ويرجع الافتراق إلى ألفة التوحيد، فكل من اقتطع واقتصر من هذه الشريعة المحمدية الجامعة للظاهر والباطن حظاً مختصاً من ظاهر أو باطن ولم يجمع بينهما في علمه وحاله وعرفانه فهو بما لزم الظاهر الشرعي دون حقيقة باطنه من يهود هذه الأمة كالمقيمين لظواهر الأحوال الظاهر التي بها تستمر الدنيا على حسب ما يرضى ملوك الوقت وسلاطينهم، المضيعين لأعمال السرائر، المنكرين لأحوال أهل الحقائق الشاهد عليهم تعلق خوفهم ورجائهم بأهل الدنيا، المؤثرين لعرض هذا الأدنى، فبهذا ظهرت أحوال اليهود في هذه الأمة، مر
534
الأعراب مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسدرة خضراء نضرة، وكان لأهل الجاهلية سدره يعظمونها ويجتمعون عندها وينيطون بها أسلحتهم ويسمونها ذات أنواط فقالوا: يا رسول الله! اجعل لنا هذه السدرة ذات أنواط كما لهم ذات أنواط! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قلتموها ورب الكعبة كما قالت بنو إسرائيل: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة! إنها السنن» فحيث ظهرت أحداث اليهود من البغي والحسد وتعظيم ما ظهر تعظيمه من حيث الدنيا واستحقار ضعفاء المؤمنين فهنالك أعلام اليهودية ظاهرة، وكذلك ايضاً من اقتصر من هذه الشريعة الجامعة المحمدية على باطن من إصلاح حال أو قلب مع تضييع ظاهر الأمر ومجامع الخير وتعاضد الإسلام واكتفى بما استبطن وتهاون بما استظهر فهو من نصارى هذه الأمة، ليس بصاحب فرقان فكيف أن يكون صاحب قرآن، وذلك أن هذا الدين الجامع إنما يقوم بمعالم إسلام ظاهرة وشعار إيمان في القلوب وأحوال نفس باطنة وحقائق إحسان شهودية، لا يشهد المحسن مع الله سواه ولا يؤمن المؤمن مع الله بغيره، ولا يخضع المسلم إلى شيء دونه، فبذلك يتم، وقد التزم بمعالم الإسلام طوائف يسمون المتفقهة، والتزم بشعائر الإيمان طوائف يسمون الأصوليين والمتكلمين، وترامى إلى الإحسان طوائف يسمون المتصوفه، فمتى كان المتفقه منكراً لصدق
535
أحوال الصوفية لما لعله يراه من خلل في أحوال المتصوفة فقد تسنن بسنن اليهودية، ومتى كان المتصوف غير مجل للفقهاء لما لعله يراه من خلل في أحوال المتفقه فقد تسنن بسنن النصارى، وكذلك حال المتكلم بين الفرقتين لأيهما مال، وإنما أئمة الدين الذين جمع الله لهم إقامة معالم الإسلام وإيمان أهل الإيمان وشهود أهل الإحسان، تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله فتأتم بهم الصوفية، وتظهر أنوار قلوبهم على ظلم المتشابهات فيأتم بهم أهل الإيمان، وتبدو في أعمالهم معالم الإسلام تامة فيأتم بهم أهل الإسلام
﴿عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً﴾ [الفرقان: ٦٣]
«أفضل الناس مؤمن في خلق حسن وشر الناس كافر في خلق سيىء» فأولو الفرقان جامعون ومستبصرون فمن اقتصر على ظاهر وأنكر باطناً لزمته مذام اليهود فيما أنزل من القرآن فيهم بحسب توغله واقتصاره، ومن اقتصر على باطن دون ظاهر لزمته مذام النصارى فيما أنزل من القرآن فيهم؛ يذكر أن رجلاً من صلحاء المسلمين دخل كنيسة فقال لراهب فيها: دلني على موضع طاهر أصلي فيه، فقال الراهب: طهر قلبك مما سواه وقم حيث شئت، قال ذلك الصالح المسلم: فخجلت منه، فاعلم أن كل واحد من هذين الحالين ليس حال صاحب فرقان ولا حال صاحب قرآن لأن صاحب القرآن لا يخجل لهذا القول لأنه حاله، وقلبه مطهر مما سوى الله،
536
ومع ذلك لابد أن ينظف ظاهره، لأن الله سبحانه كما أنه الباطن فيحب صفاء البواطن فإنه الظاهر يحب صلاح الظواهر، فصاحب القرآن إذا دعي إلى صفاء باطن أجاب ولم يتعلثم وإذا دعي إلى صلاح ظاهر أجاب ولم يتلكأ لقيامه بالفرقان وحق القرآن، يذكر أن ملكاً رحمه الله دخل المسجد بعد العصر وهو ممن لا يرى الركوع بعد العصر فجلس ولم يركع فقال له صبي: يا شيخ! قم فاركع، فقام وركع ولم يحاجه بما يراه مذهباً، فقيل له في ذلك فقال: خشيت أن أكون من
﴿الذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون﴾ [المرسلات: ٤٨] ووقف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على سقاية زمزم وقد صنع العباس رضي الله عنه أحواضاً من شراب فضيخ التمر والمسلمون يردون عليه وقد خاضوا فيه بأيديهم، فأهوى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشرب من شرابهم، فقال له العباس رضي الله عنه: يا رسول الله! ألا نسقيك من شراب لنا في أسقية؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«أشرب من هذه ألتمس بركة أيدي المسلمين»، فشرب منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فصاحب القرآن يعبد الله تبارك وتعالى بقلبه وجسمه لا يقتصر على ظاهر دون باطن، ولا على باطن دون ظاهر، ولا على أول دون آخر ولا على آخر دون أول؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«أمتي كالمطر لا يدري أوله خير أم آخره» فمن حق القارىء أن يعتبر القرآن نفسه ويلحظ مواضع مذامه للفرق ويزن به أحوال نفسه من هذه الأديان
537
الستة في هذه الأمة، وأما وجه وقوع النفاق وأحوال المنافقين فهي داهية القراء وآفة الخليفة؛ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«أكثر منافقي أمتى قراؤها» وقال بعض كبار التابعين: أدركت سبعين ممن رأى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلهم يخاف النفاق على نفسه. وأصل مداخله على الخلق من إيثار حرمة الخلق على حرمة الحق جهلاً بالله عز وجل واغتراراً بالناس، فليزم لذلك محاسنة أولى البر والصدق ظاهراً وتكرههم بقلبه باطناً، ويتبع ذلك من الذبذبة بين الحالين ما وصف الله تعالى من أحوالهم وما بينه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من علاماتهم حتى قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما» وكما قال تبارك وتعالى
﴿لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون﴾ ينظر المنافق إلى ما يستسقط به فضائل أهل الفضل ويتعامى عن محاسنهم، كما روي أن الله يبغض التارك لحسنة المؤمن الآخذ لسيئته، والمؤمن الصادق يتغافل عن مساوىء أهل المساوىء فكيف بمعايب أهل المحاسن! ومن أظهر علامات المنافق تبرمه بأعمال الصادق كما ذكر، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلا وإلى جنبه منافق يكره عمله، وعن ذلك المنافق غماز لماز بخيل جبان مرتاع، مستثقل في مجامع الخير أجنبي منها، مستخف في مواطن الشر متقدم فيها، طلق اللسان بالغيبة والبهتان، ثقيل اللسان عن مداومة ذكر الله تبارك وتعالى، عم عن ذكر
538
الله عز وجل في كل حال، ناظر إلى الناس بكل وجه، وهو مع ذلك يصانعهم ولا يصادقهم، يأخذ من الدين ما ينفعه في الدنيا ولا يأخذ ما ينفع في العقبى، ويجتنب في الدين ما يضر في الدنيا ولا يجتنب ما يضر في في العقبى مما لا يضر في الدنيا، فهذا وجه من وقوع شياع النفاق في هذه الأمة، فلذلك من حق القارىء أن يستشعر مواقع آي القرآن من نفسه في ذات قلبه وفي أحوال نفسه وأعمال بدنه وفي سره مع ربه وفي علانيته مع خلقه، فإنه بذلك يجد القرآن كله منطبقاً عليه خاصاً به حتى كأن جميعه لم ينزل إلا إليه حتى إذا رغب في أمر رغب هو فيه من وجه ولا يقول: هذا إنما أنزل في كذا، وإذا رهب القرآن من أمر رهبه من وجه ما، وإذا أعلى فكذلك وإذا أسفل فكذلك، ولا يقول: هذا إنما أنزل في كذا حتى يجد لكل القرآن موقعاً في عمله أيّ عمل كان ومحلاً في نفسه أيّ حال كان ومشعراً لقلبه أيّ ملحظ كان، فيستمع القرآن بلاغاً من الله سبحانه وتعالى إليه بلا واسطة بينه وبينه، فعند ذلك يوشك أن يكون ممن يقشعر له جلده ابتداء ثم تلين له جلده وقلبه انتهاء، وربما يجد من الله سبحانه وتعالى نفح رحمة يفتح له باباً إلى التخلق بالقرآن أسوة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سئلت عائشة رضي الله عنها عن خُلق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت، كان خُلقه القرآن وبذلك هو ذو الخلق العظيم - والله واسع عليم-انتهى.
539
ولما قرر سبحانه بهذه الآية تشابههم في التمتع بالعاجل، وختمها بهذا الختام المؤذن بالانتقام، اتبع ذلك بتخويفهم من متشابهتهم فيما حل بطوائف منهم ملتفتاً إلى مقام الغيبة لأنه أوقع في الهيبة، فقال مقرراً لخسارتهم:
﴿ألم يأتهم﴾ أي هؤلاء الأخابث من أهل النفاق
﴿نبأ الذين من قبلهم﴾ أي خبرهم العظيم الذي هو جدير بالبحث عنه ليعمل بما يقتضيه حين عصوا رسلنا؛ ثم أبدل من ذلك قوله:
﴿قوم نوح﴾ أي في طول أعمارهم وامتداد آثارهم وطيب قرارهم بحسن التمتع في أرضهم وديارهم، أهلكهم بالطوفان، لم يبق عن عصاتهم إنسان، وعطف على قوم القبيلة فقال؛
﴿وعاد﴾ أي في قوة أبدانهم وعظيم شأنهم ومصانعهم وبنيانهم وتجبرهم في عظيم سلطانهم، أهلكهم بالريح الصرصر، لم يبق ممن كفر منهم بشر
﴿وثمود*﴾ أي في تمكنهم من بلاد الحجر عرضها وطولها، جبالها وسهولها، أهلكوا بالرجفة لم يبق من الكفار منهم ديار
﴿وقوم إبراهيم﴾ أي في ملك جميع الأرض بطولها والعرض، سلب الله منهم الملك بعد شديد الهلك
﴿وأصحاب مدين﴾ أي في جمع الأموال ومد الآمال إلى أخذها من حرام وحلال ونقص الميزان والمكيال فعمهم الله بالنكال
﴿والمؤتفكات﴾ أي في إعراضهم عن صيانة أعراضهم في اتباع لذائذ أغراضهم، فأثمر لهم فعلهم بعد الخسف عموم انقراضهم.
540
ولما كان كأنه قيل: ما نبأهم؟ قال:
﴿أتتهم رسلهم﴾ أي أتى كل أمة منهم رسولها
﴿بالبينات﴾ أي بالمعجزات الواضحات جداً بسبب أنهم ارتكبوا من القبائح ما أوجب دمارهم
﴿فما﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه
﴿ما﴾ ﴿كان الله﴾ أي مع ما له من صفات الكمال مريداً
﴿ليظلمهم﴾ أي لأن يفعل بهم في الإهلاك قبل الإنذار وإنارة البينات فعل من تعدونه فيما بينكم ظالماً، ولكنه أرسل إليهم الرسل فكذبوا ما أتوهم به من البينات، فصار العالم بحالهم إذا سمع بهلاكهم وبزوالهم يقول: ما ظلمهم الله
﴿ولكن كانوا﴾ أي دائماً في طول أعمارهم
﴿أنفسهم﴾ أي لاغيرها
﴿يظلمون*﴾ أي بفعل ما يسبب هلاكها، فإن لم ترجعوا أنتم فنحن نحذركم مثل عذابهم، ولعله خص هؤلاء بالذكر من بين بقية الأمم لما عند العرب من أخبارهم وقرب ديارهم من ديارهم مع أنهم كانوا أكثر الأمم عدداً، وأنبياؤهم أعظم الأنبياء - نبه على ذلك أبو حيان. ولعله قدم أصحاب مدين على قوم لوط وهم بعدهم في الزمان لأن هذا في شأن من وصفوا بأنهم لم يجدوا ما يحميهم مما هم فيه من العذاب بمشاهدة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ملجأ أو مغارات أومدخل كما أن من قبل المؤتفكات جمعهم هذا الوصف، فقوم نوح عليه السلام لم يمنعهم لما أتاهم الماء معقل منيع ولا جبل رفيع مع أنه يقال؛ إنهم هم الذين بنوا الأهرامات، منها ما هو بالحجارة ليمنعهم من الحادث الذي
541
هددوا به إن كان ماء، ومنها ما هو بالطوب التي لتحميهم منه إن كان ناراً، وعاد لما أتتهم الريح بادروا إلى البيوت فقلعت الأبواب وصرعتهم في أجواف بيوتهم، ولم يغنهم ما كانوا يبنون من المصانع المتقنة والقصور المشيدة والحصون الممنعة، وحال ثمود معروف في توسعهم في البيوت جبالاً وسهولاً فما منعتهم من الصيحة التي أعقبت الرجفة، وقوم إبراهيم عليه السلام بنوا الصرح، ارتفاعه خمسة آلاف ذراع أو فرسخان ليتوصل به نمرود كما زعم - إلى السماء فأتى الله بنيانهم من القواعد، ألقت الريح رأسه في البحر وخر عليهم الباقي وهم تحته، وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، وأصحاب مدين لما أتاهم العذاب فأخذتهم الرجفة الرجفة لما تغن عنهم مدينتهم، وإن كانوا هم أصحاب الأيكة فإنهم لما اشتد عليهم الحر يوم الظلة قصدوا المغارات فوجدوها أحر من وجه الأرض فخرجوا منها هاربين، فجمعتهم الظلة بنسيم بارد خيلته إليهم ولبست به عليهم، فلما اجتمعوا تحتها أحرقتهم نارها وبقي عليهم عارها، وأما قوم لوط فأتاهم الأمر بغتة، لم يشعروا حتى قلبت مدائنهم بعد أن رفعت إلى عنان السماء، واتبعت حجارة الكبريت تضطرم ناراً، ولعله خص قوم لوط بالذكر من بين من ليس له هذا الوصف لأن العرب كانوا يمرون على مواضع مدائنهم ويشاهدونها، وعبر عنهم بالمؤتفكات لأن القصص للمنافقين الذين مبنى أمرهم على الكذب وصرف الأمور
542
عن ظواهرها وتقليبها عن وجوهها، فالمعنى أن أولئك لما قلبوا فعل النكاح عن وجهه عوقبوا بقلب مدائنهم، فهؤلاء جديرون بمثل هذه العقوبة لقلب القول عن وجهه، ومادة
«إفك» بكل ترتيب تدور على القلب، فإذا كافأت الرجل فكأنك قلبت فعله فرددته إليه وصرفته عنك، وأكاف الدابة شبه بالإناء المقلوب، والكذب صرف الكلام عن وجهه فهو إفك لذلك - والله أعلم.
ولما بين سبحانه أن المنافقين بعضهم من بعض وما توعدهم به وما استتبعه من تهديدهم بإهلاك من شابهوه، وختم بما سبب هلاكهم من إصرارهم وعدم اعتبارهم، عطف ببيان حال المؤمنين ترغيباً في التوبة طعماً في مثل حالهم فقال:
﴿والمؤمنون﴾ ﴿والمؤمنات﴾ أي بما جاءهم عن ربهم
﴿بعضهم أولياء﴾ ولم يقل: من، كما قال في المنافقين: من
﴿بعض﴾ دلالة على أن أحداً منهم لم يقلد أحداً في أصل الإيمان ولا وافقه بحكم الهوى، بل كلهم مصوبون بالذات وبالقصد الأول إلى اتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالدليل القطعي على حسب فهم كل أحد منهم، فذلك دليل على صحة إيمانهم ورسوخهم في تسليمهم وإذعانهم؛ ثم بين ولا يتهم بأنهم يد واحدة على من سواهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر فقال:
﴿يأمرون﴾ أي كلهم على وجه التعاضد والتناصر
﴿بالمعروف﴾ وهو كل ما عرفه الشرع وأجازه
﴿وينهون﴾
543
أي كذلك
﴿عن المنكر﴾ لا يحابون أحداً.
ولما ذكر الدليل القطعي على صحة الإيمان، أتبعه أفضل العبادات فقال:
﴿ويقيمون الصلاة﴾ أي يوجدونها على صفة تقتضي قيامها بجميع أركانها وشروطها وحدودها مراقبة لربهم واستعانة بذلك على جميع ما ينوبهم
﴿ويؤتون الزكاة﴾ أي مواساة منهم لفقرائهم صلة للخلائق بعد خدمة الخالق، وذلك مواز لقوله في المنافقين
﴿ويقبضون أيديهم﴾ ولما خص أمهات الدين، عم بياناً لأنهم لا ينسون الله طرفة عين بل يذكرونه في كل حال بقوله:
﴿ويطيعون الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا ملك سواه
﴿ورسوله﴾ إشارة إلى حسن سيرتهم وجميل عشرتهم.
ولما ذكر مكارم أفعالهم، أتبعه حسن مآلهم فقال:
﴿أولئك﴾ أي العظماء الشأن
﴿سيرحمهم الله﴾ أي المستجمع لصفات الكمال بوعد لا خلف فيه، وهذا مع الجملة قبله مواز لقوله في المنافقين
﴿نسوا الله فنسيهم﴾ وهو إشارة إلى أن الطريق وعر والأمر شديد عسر، فالسائر مضطر إلى الرحمة، وهي المعاملة بعد الغفران بالإكرام، لا قدرة له على قطع مفاوز الطريق إلا بها، ولا وصول له أصلاً من غير سببها.
ولما بين أن حال المؤمنين مبني على الموالاة وكانت الموالاة فقيرة إلى الإعانة قال:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
544
﴿عزيز﴾ أي غالب غير مغلوب بوجه، فهو قادر على نصر من يوالي حزبه وأن ينيله من ثمرات الرحمة ما يريد من غير أن يقدر أحد على أن يحول بينه وبين شيء من ذلك
﴿حكيم*﴾ أي فلا يقدر أحد على نقض ما يحكمه وحل يبرمه، وفي ذلك إشارة إلى أن المؤمنين لا يزالون منصورين على كل مفسد ما داموا على هذه الخلال من الموالاة وما معها من حميد الخصال.
545
ولما ختم الآية بوصف العزة والحكمة المناسب لافتتاحها بالموالاة وتعقيبها بآية الجهاد، وذلك بعد الوعد بالرحمة إجمالاً، أتبعها بما هو أشد التئاماً بها بياناً للرحمة وتفصيلاً لها ترغيباً للمؤمنين بالإنعام عليهم بكل ما رامه المنافقون بنفاقهم في الحياة الدنيا، وزادهم بأنه دائم، وأخبر بأن ذلك هو الفوز لا غيره فقال:
﴿وعد الله﴾ أي الصادق الوعد الذي له الكمال كله
﴿المؤمنين والمؤمنات﴾ أي الراسخين في التصديق بكل ما أتاهم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ أي فهى لا تزال خضرة ذات بهجة نضرة؛ ولما كان النعيم لا يكمل إلا بالدوام، قال:
﴿خالدين فيها﴾ كانت الجنان لا تروق إلا بالمنازل والدور الفسيحة والمعازل قال:
﴿ومساكن طيبة﴾ ولما كان بعض الجنان أعلى من بعض، وكان أعلاها ما شرف بوصف العندية المؤذن بالقرب من بنائه مما يؤكد معنى الدوام، قال:
﴿في جنات عدن﴾ أي إقامة دائمة وهناء وصحة جسم وطيب مقر وموطن ومنبت،
545
وذلك كما قال في حق أضدادهم
﴿عذاب مقيم﴾ وما أنسب ذكر هذه الجنة في سياق التعبير بالوصف المؤذن بالرسوخ فإنه ورد في الحديث أنها خاصة بالنبيين والصديقين والشهداء. ولما كان ذلك لا يصفو عن الكدر مع تجويز نوع من الغضب قال مبتدئاً إشارة إلى أنهى التعظيم -:
﴿ورضوان﴾ أي رضى لا يبلغه وصف واصف بما تشير إليه صيغة المبالغة ولو كان على أدنى الوجوه بما أفاده التنوين -
﴿من الله﴾ أي الذي لا أعظم منه عندهم
﴿أكبر﴾ أي مطلقاً، فهو أكبر من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز، ولا يقع السرور الذي هو أعظم النعيم إلا برضى السيد، وإذا كان القليل منه أكبر فما ظنك بالكثير.
ولما تم ذلك على أحسن مقابلة بما وصف به أضدادهم، قال يصفه زيادة في الترغيب فيه:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي الرتبة
﴿هو﴾ أي خاصة لا غيره
﴿الفوز العظيم*﴾ أي الذي يستصغر دونه كل شيء من أمور الدنيا والآخرة، وفي كون ذلك وعداً لمن اتصف لأجل ما اتصف به ترغيب في الجهاد المأمور به بعدها لكونه من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والداعي الأعظم إلى الموالاة.
ولما ثبتت موالاة المؤمنين ومقاطعتهم للمنافقين والكافرين، وكان ما مضى من الترغيب والترهيب كافياً في الإنانة، وكان من لم يرجع
546
بذلك عظيم الطغيان غريقاً في الكفران، أتبع ذلك الأمر بجهادهم بما يليق بعنادهم فقال آمراً لأعظم المتصفين بالأوصاف المذكروة مفخماً لمقداره بأجل أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
﴿يا أيها النبي﴾ أي العالي المقدار بما لا يزال يتجدد له منا من الأنباء وفينا من المعارف؛ ولما كان الجهاد أعرف في المصارحين، وكانوا أولى به لشدة شكائمهم وقوة نفوسهم وعزائمهم بدأ بهم فقال؛
﴿جاهد الكفار﴾ أي المجاهرين
﴿والمنافقين﴾ أي المسائرين كلاًّ بما يليق به من السيف واللسان.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مطبوعاً على الرفق موصى به، قال تعالى:
﴿واغلظ عليهم﴾ أي في الجهادين ولا تعاملهم بمثل ملا عاملتهم به من اللين عند استئذانهم في العقود، وهذا بخلاف ما مضى في وعيد المنافقين حيث قدمهم فقال
﴿المنافقين والمنافقات والكفار﴾ فقدم في كل سياق الأليق به؛ ولما كان المعنى: فإنك ظاهر عليهم وقاهر لهم وهم طعام السيف وطوع العصا، عطف عليه قوله:
﴿ومأواهم﴾ أي في الآخرة
﴿جهنم وبئس المصير*﴾.
ولما أتى بالدليل العام على إجرمهم، أتبعه الدليل الخاص عليه وهو أيضاً دليل على دليل فقال:
﴿يحلفون بالله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا شيء أعظم منه قدراً
﴿ما قالوا﴾ أي ما وقع منهم قول، فقصر الفعل تعميماً للمفعول إعلاماً بأنهم مهما عنفوا على قول كائناً ما كان بادروا إلى الحلف على نفيه كذباً لأنهم مردوا على النفاق فتطبعوا بأعلى الكذب
547
ومرنوا على سيىء الأخلاق، فصار حاصل هذا أنهم أطعموا في العفو وحذروا من عذاب الباقين بسبب إجرامهم لأنهم يأمرون بالمنكر وما يلائمه مقتفين آثار من قبلهم في الانهماك في الشهوات غير مقلعين خوفاً من الله أن يصيبهم بمثل ما أصابهم ولا رجاء له أن ينيلهم مما أعد للمؤمنين مجترئين على الأيمان الباطلة بأعظم الحلف على أيّ شيء فرض سواء كان يستحق اليمين أو لا غير خائفين من الله أن يهتكهم كما هتك غيرهم ممن فعل مثل أفعالهم؛ ثم دل على عظيم إجرامهم وما تضمنه قوله
﴿المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض﴾ - الآية، من كبائر آثامهم، ويجوز أن تكون هذه الاية واقعة موقع التعليل للآية التي قبلها بأنهم يقدمون على ما يستحقون به الجهاد والغلظة والنار من الحلف كذباً على نفي كل ما ينقل عنهم استخفافاً بالله وبأسمائه
﴿اتخذوا أيمانهم جنة﴾ [المجادلة: ٦] فتكون جواباً لمن كأنه قال: أما جهاد الكفار فالأمر فيه واضح، وأما المنافقون فكيف يجاهدون وهم يتكلون بلفظ الإيمان ويظهرون أفعال أهل الإسلام فقال: لأنهم يحلفون
﴿ولقد﴾ أي والحال أنهم كاذبون لقد
﴿قالوا كلمة الكفر﴾ أي الذي لا أكبر في الكفر منه، وهي تكذيب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان هذا السيافق لصنف يجددون الاستخفاف بالله تعالى -
548
بما دل عليه المضارع كل وقت، دل على أن إقرارهم بالإيمان كذب وأفعالهم صور لا حقائق لها، فعبر بالإسلام فقال:
﴿وكفروا﴾ أي اظهروا الكفر
﴿بعد إسلامهم﴾ أي بما ظهر من أفعالهم وأقوالهم، وذلك غاية الفجور؛ ولما كان أعلى شغف الإنسان بشيء ان تحدثه نفسه فيه بما لا يصل إليه، فيكون ذلك ضرباً من الهوس قال:
﴿وهموا بما لم ينالوا﴾ أي من قتل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إخراجه من المدينة، فجمعوا بين أنواع الكفر القول والفعل والاعتقاد، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في
﴿مأواهم﴾ والتقدير على هذا: يدخلون جهنم حالفين بالله: ما قالوا كلمة الكفر، ولقد قالوها، فيكون كقوله
﴿ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين﴾ [الأنعام: ٢٣].
ولما بين من أحوالهم التي لا يحمل على فعلها إلا أمر عظيم، قال:
﴿وما﴾ أي قالوا وفعلوا والحال انهم ما
﴿نقموا﴾ أي كرهوا شيئاً من الأشياء التي أتتهم من الله
﴿إلا أن أغناهم الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال وهو غني عن العالمين
﴿ورسوله﴾ أي الذي هو أحق الخلق بأن يجوز عظمة الإضافة إليه سبحانه، وكان أذاهم هذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهمهم بقتله مع إعطائه لهم ما أغناهم بخلاف الآية السابقة، فكان الأقعد في ذمهم تأخير قوله:
﴿من فضله﴾ فهو
549
من باب: ولا عيب فيهم.
ولما نبه على أن هذه المساوىء قابلوا بها المحسن إليهم، رغبهم بأنه قابل المتاب عليهم، ورهبهم بأنه لا مرد لما يريد من العذاب بقوله:
﴿فإن يتوبوا﴾ ولما كان المقام جديراً بأن يشتد تشوف السامع إلى معرفة حالهم فيه، حذف نون الكون اختصاراً تنبيهاً على ذلك فقال
﴿يك﴾ أي ذلك
﴿خيراً لهم﴾ من إصرارهم.
ولما كان للنفوس من أصل الفطرة الأولى داعية شديدة إلى المتاب، وكان القرآن في وعظه زاجراً مقبول العتاب عظيم الأخذ بالقلوب والعطف للألباب، أشار إلى ذلك بصيغة التفعيل فقال:
﴿وإن يتولوا﴾ أي يكلفوا أنفسهم الإعراض عن المتاب
﴿يعذبهم الله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً بحوله وقوته
﴿عذاباً أليماً﴾ أي لا صبر لهم عليه
﴿في الدنيا﴾ أي بما هم فيه من الخوف والخزي والكلف وغيرها
﴿والآخرة﴾ أي بالعذاب الأكبر الذي لا خلاص لهم منه
﴿وما لهم في الأرض﴾ أي التي لا يعرفون غيرها لسفول هممهم
﴿من وليّ﴾ أي يتولى أمورهم فيصلح ما أفسد العذاب منهم أو يشفع لهم
﴿ولا نصير*﴾ أي ينقذهم؛ وأما السماء فهم أقل من أن
550
يطمعوا منها بشيء ناصر أو غيره وأغلظ أكباداً من أن يرتقي فكرهم إلى ما لها من العجائب وما بها من الجنود؛ وسبب نزول الآية على ما قال ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان جالساً في ظل شجرة فقال: سيأتيكم إنسان ينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه، فلم يلبثوا أن طلع رجل أرزق فدعاه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله. ما قالوا، فأنزل الله الآية؛ وقال الكلبي: نزلت في الجلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطب ذات يوم بتبوك فذكر المنافقين فسماهم رجساً وعابهم فقال الجلاس: لئن كان محمداً صادقاً لنحن شر من الحمير، فسمعه عامر بن قيس فقال: أجل، إن محمداً لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قاله الجلاس، فقال الجلاس: كذب عليّ يا رسول الله! فأمرهما رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحلفا عند المنبر فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله ولقد كذب علي عامر، وقام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع عامر
551
رضي الله عنه يديه إلى السماء فقال: اللهم! أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنون: آمين! فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية حتى بلغ
﴿فإن يتوبوا يك﴾ أي التوب
﴿خيراً لهم﴾ فقام الجلاس فقال: يا رسول الله! أسمع الله قد عرض عليّ التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته، وانا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك منه ثم تاب وحسنت توبته.
ولا مانع من أن يكون كل ذلك سبباً لها كما تقدم ويأتي، والأوفق لها في السببية الخبر الأول للتعبير في الكفر ب
«أل» المؤذنة بالكمال، ومن شتم نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ارتكب كل كفر، وفي الاية دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للايمان - كما قال أبو حيان وقال: وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: لا تقبل، فإن جاء تائباً من قبل نفسه من قبل أن يعثر عليه قبلت توبته.
552
ولما أقام سبحانه الدليل على ما ذكر بهذه الآية التي ختمها بأنه أغناهم من فضله، أتبها بإقامة الدليل عليها وعلى أنهم يقبضون أيديهم وعلى اجترائهم على اقبح الكذب فقال:
﴿ومنهم من عاهد الله﴾ أي الذي لا أعظم منه
﴿لئن آتانا﴾ أي من خير ما عنده، واعتراف بأنه
552
لا حق لأحد عليه بقوله:
﴿من فضله﴾ أي بأي طريق كان من تجارة أو غنيمة أو زراعة أو غيرها، وأكد لأنه كاذب يظن أن الناس يكذبونه، وهكذا كل كاذب فقال:
﴿لنصدقن﴾ أي مما آتانا من غير رياء - بما يشير إليه الإدغام
﴿ولنكونن﴾ أي كوناً هو الدال على أنا مجبولون على الخير
﴿من الصالحين*﴾ أي لكل خير نندب إليه
﴿فلما آتاهم﴾ وكرر قوله:
﴿من فضله﴾ تقريراً لما قاله المعاهد تأكيداً للإعلام بأنه لا حق عليه لأحد ولا صنع فيما ينعم به ولا قدرة عليه بوجه
﴿بخلوا به﴾ أي كذبوا فيما عاهدوا عليه وأكدوه غاية التأكيد، فلم يتصدقوا بل منعوا الحق الواجب إظهاره فضلاً عن صدقة السر
﴿وتولوا﴾ أي كلفوا أنفسهم الإعراض عن الطاعة لمن تفضل عليهم مع معرفتهم بقبح نقض العهد؛ ولما كان التولي قد يحمل على ما بالجسد فقط قال:
﴿وهم معرضون*﴾ أي بقلوبهم، والإعراض وصف لهم لازم لم يتجدد لهم، بل كان غريزة فيهم ونحن عالمون بها من حين أوقعوا العهد؛ قال أبو حيان: قال الضحاك: هم نبتل ابن الحارث وجد بن قيس ومعتب بن قشير وثعلبة بن حاطب وفيهم نزلت الآية - انتهى. وحسن تعقيبها بها أيضاً أن في الأولى كفران نعمة الغني من غير عهد، وفي هذه كفرانها مع العهد فهو ترق من الأدنى إلى الأعلى، ودل
553
عظيم شأن العهد بتعظيم الجزاء على خيانته بقوله:
﴿فأعقبهم﴾ أي الله أو التمادي على البخل جزاء على ذلك
﴿نفاقاً﴾ متمكناً
﴿في قلوبهم﴾ أي بأن لا يزالوا يقولون ما لا يفعلون
﴿إلى يوم يلقونه﴾ أي بالموت عند فوت الفوت
﴿بما أخلفوا الله﴾ أي وهو الملك الأعظم
﴿ما وعدوه﴾ لأن الجزاء من جنس العمل؛ ولما كان إخلاف الوعد شديد القباحة، وكان مرتكبه غير متحاش من مطلق الكذب، قال:
﴿وبما كانوا يكذبون*﴾ أي يجددون الكذب دائماً مع الوعدد ومنفكاً عنه، فقد استكملوا النفاق: عاهدوا فغدروا ووعدوا فأخلفوا وحدثوا فكذبوا.
ولما كانت المعاهدة سبباً للإغناء في الظاهر، وكان ذلك ربما كان مظنة لأن يتوهم من لا علم له أن ذلك لخفاء أمر البواطن عليه سبحانه، وكان الحكم هنا وارداً على القلب بالنفاق الذي هو أقبح الأخلاق مع عدم القدرة لصاحبه على التخلص منه، كان ذلك أدل دليل على أنه تعالى أعلم بما في كل قلب من صاحب ذلك القلب، فعقب ذلك بالإنكار على من لا يعلم ذلك والتوبيخ له والتقريع فقال:
﴿ألم يعلموا أن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿يعلم سرهم﴾ وهو ما أخفته صدورهم
﴿ونجواهم﴾ أي ما فاوض فيه بعضهم بعضاً، لا يخفى عليه شيء منه
﴿وأن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿علام الغيوب*﴾
554
أي كلها، أي ألم يعلموا أنه تعالى لا يخادع لعلمه بالعواقب فيخشوا عاقبته فيوفوا بعهده، وفائدة الإعطاء مع علمه بالخيانة إقامة الحجة؛ قال أبو حيان: وقرأ علي وأبو عبد الرحمن والحسن
﴿ألم تعلموا﴾ بالتاء، وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير - انتهى.
وفائدة الالتفات الإشارة إلى أن هذا العلم إنما ينفع من هيىء للإيمان.
ولما أخبر تعالى أنه لم يكفهم كفران نعمة الغنى من غير معاهدة حتى ارتكبوا الكفران بمنع الواجب مع المعاهدة، أخبر أنه لم يكفهم أيضاً ذلك حتى تعدوه إلى عيب الكرماء الباذلين بصفة حبهم لربهم ما لم يوجبه عليهم، فقال تعالى معبراً بصيغة تصليح لجميع ما مضى من أقسامهم إفهاماً لأنهم كلهم كانوا متخلقين بذلك وإن لم يقله إلا بعضهم:
﴿الذين يلمزون﴾ أي يعيبون في خفاء
﴿المطوعين﴾ أي الذين ليس عليهم واجب في أموالهم فهم يتصدقون ويحبون إخفاء صدقاتهم - بما يشير إليه الإدغام
﴿من المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان
﴿في الصدقات﴾ ولما كان ما مضى شاملاً للموسر والمعسر، نص على المعسر لزيادة فضله وإشارة إلى أن الحث على قليل الخير كالحث على كثيره فقال عاطفاً على
﴿المطوعين﴾ :
﴿والذين لا يجدون﴾ أي من المال
﴿إلا جهدهم﴾ أي طاقتهم التي أجهدوا أنفسهم فيها حتى بلغوها.
555
ولما كان اللمز هو العيب، وهو ينظر إلى الخفاء كالغمز، ومادته بكل ترتيب تدور على اللزوم، والمعنى: يلزمون المطوعين عيباً ولا يظهرون ذلك لكل أحد وإنما يتخافتون به فيما بينهم، وهو يرجع إلى الهزء والسخرية، سبب عنه قوله:
﴿فيسخرون منهم﴾ ولما كان لا شيء أعظم للشخص من أن يتولى العظيم الانتقام له من ظالمه، قال:
﴿سخر الله﴾ أي وهو الذي له الأمر كله ولا أمر لغيره
﴿منهم﴾ أي جازاهم على فعلهم بأهل حزبه، وزادهم قوله:
﴿ولهم عذاب أليم*﴾ أي بما كانوا يؤلمون القلوب من ذلك وإذا حوققوا عليه دفعوا عن أنفسهم ما يردعهم عنه بالأيمان الكاذبة، روى البخاري في التفسير عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نتحامل، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله لغني عن صدقة هذا، وما فعل هذا الآخر إلا رياء، فنزلت
﴿الذين يلمزون﴾ - الآية.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معروفاً بكثرة الاحتمال وشدة اللين المشير إليه
﴿عفا الله عنك لم أذنت لهم﴾ للمبالغة في استجلابهم والحرص على نجاة جميع الخلق فكان معروفاً بالاستغفار لهم تارة على وجه الخصوص بسؤالهم عند اعتذارهم وحلفهم وتارة على وجه العموم عند استغفاره لجميع المسلمين، أخبره تعالى من عاقبة أمره بما يزهده
556
فيهم ليعرض عنهم أصلاً ورأساً، لأنهم تجاوزوا حق الله في ترك الجهاد ومنع الصدقة وحقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في لمزه في الصدقات ووصفه بما يجل عنه إلى حقوق المجاهدين الذين هو سبحانه خليفتهم في أنفسهم وأهليهم وأموالهم مع ما سبق في علمه للمنافقين من أنه لا يغفر لهم فقال:
﴿استغفر﴾ أي اطلب الغفران
﴿لهم أو لا تستغفر لهم﴾ أي استوى في أمرهم استغفارك لهم وتركه
﴿إن تستغفر﴾ أي تسأل الغفران
﴿لهم سبعين مرة﴾ أي على سبيل الحقيقة أو المبالغة؛ ولما كان الإخبار باستواء الأمرين: الاستغفار وتركه ربما كان مسبباً عن الغفران وربما كان مسبباً عن الخسران، عينه في هذا الثاني فقال:
﴿فلن يغفر الله﴾ أي الذي قضى بشقائهم وهو الذي لا يرد أمره
﴿لهم﴾ وهو يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وجواب الشرط محذوف لدلالته عليه، والمراد بالسبعين على ما ظهر في المآل المبالغة في أنه لا يغفر لهم لشيء من الأشياء ولو غفر لهم لشيء لكان لقبول شفاعة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والعرب تبالغ بما فيه لفظ السبعة لأنها غاية مستقصاة جامعه لأكثر أقسام العدد، وهي تتمة عدد الخلق كالسماوات والأرض والبحار والأقاليم والأعضاء.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الحرص على رشدهم ونفعهم،
557
وكان حقيقة نظم الآية التخيير في الاستغفار وتركه ونفي المغفرة بالاستغفار بالعدد المحصور في سبعين، جعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآية مقيدة لما في سورة المنافقين فاستغفر لابن أبيّ وصلى عليه وقام على قبره وصرح بأنه لو يعلم انه لو زاد على السبعين قبل لزاد، واستعظم عمر رضي الله عنه ذلك منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشرع يمسكه بثوبه ويقول: أتصلي عليه وقد نهاك الله عن ذلك! لأنه لم يفهم من الآية غير المجاز لما عنده من بغض المنافقين، وأما النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرأى التمسك بالحقيقة لما في الرفق بالخليفة من جميل الطريقة بتحصيل الائتلاف الواقع للخلاف وغيره من الفوائد وجليل العوائد، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يقول لما نزل النهي الصريح: فعجبت بعد من جراءتي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أي تفطنت بعد هذا الصريح أن ذلك الأول كان محتملاً وإلا لأنكر الله الصلاة عليه، وفي موافقة الله تعالى لعمر رضي الله عنه منقبة شريفة له، وقد وافقه الله تعالى مع هذا في أشياء كثيرة، روى البخاري في التفسير وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفى عبد الله بن أبيّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله رضي الله عنه - إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأله ان يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه؛ وفي رواية في اللباس، فأعطاه قميصه وقال: إذا فرغت فآذنا، فلما فرغ آذنه فجاء، وفي رواية: فقام رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
558
ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: يا رسول الله! تصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه! فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما خيرني الله فقال:
﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾ وسأزيده على السبعين؛ وفي رواية؛ لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: إنه منافق، فصلى عليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: فأنزل الله عز وجل
﴿ولا تصلِّ على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره﴾ إلى
﴿وهم فاسقون﴾ فترك الصلاة عليهم، قال: فعجيب بعد من جراءتي على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله ورسوله أعلم: وله في أواخر الجهاد عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لما كان يوم بدر أتي بالأسارى وأتي بالعباس ولم يكن عليه ثوب فنظر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قميصاً فوجدوا قميص عبد الله بن أبي يقدر عليه فكساه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه، فلذلك نزع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قميصه الذي ألبسه، قال ابن عيينة: كانت له عند النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يد فأحب أن يكافئه، وفي رواية عنه في اللباس أنه قال: أتى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابن أبيّ بعد ما أدخل قبره فأمر به فأخرج ووضع على ركبتيه ونفث عليه من ريقه وألبسه قميصه - انتهى.
فكأن
ابنه
رضي
الله
عنه
استحى من أن يؤذن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به لما كان يعلم من نفاقه، أو آذنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ به فصادف منه شغلاً فدفنه فجاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
559
بعد إدخاله القبر وقبل تمام الدفن فأخرجه تطييباً لخاطر ابنه الرجل الصالح ودفعاً لما قد يتوهمه من إحنة عليه وتأليفاً لغيره، فقد روي أنه قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني أؤمل من الله أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب، فأسلم ألف من الخزرج لما رأوه طلب الاستشفاء بثوب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ففي بعض الروايات أنه هو الذي طلب من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفنه في قميصه، وتعطفه عليه، أدعى إلى تراحم المسلمين وتعاطف بعضهم على بعض، وقوله: وألبسه قميصه - بالواو لا ينافي الرواية الأولى، وتحمل الرواية الأولى على أنه وعده إعطاء القميص لمانع كان من التنجيز وقت السؤال، فحمل الجزم بالإعطاء على الوعد الصادق ثم أنجزه بعد إخراجه من القبر - والله أعلم؛ ووردت هذه الآية على طريق الجواب لمن كأنه قال: ما تقدم من أحوال المنافقين كان انتهاكاً لحرمة الله أو لحق الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يرد فيه أنه يهينهم بالإماتة على النفاق، فكان يكفي فيه استغفار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهم، وأما هذان القسمان فأحدهما أخبر بأنه يميتهم منافقين، والثاني انتهك حرمة المخلصين من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فهل ينفعهم الاستغفار لهم؟ فكأنه قيل: استوى الاستغفار وعدمه في أنه لا ينفعهم، وختمها بعلة عدم المغفرة في قوله:
560
﴿ذلك﴾ أي الأمر الذي يبعد فعله من الحكيم الكريم
﴿بأنهم كفروا بالله﴾ أي وهو الملك الأعظم
﴿ورسوله﴾ أي فهم لا يستأهلون الغفران لأنهم لم يهتدوا لإصرارهم على الفسق وهو معنى قائم بهم في الزيادة على السبعين كما هو قائم بهم في الاقتصار على السبعين
﴿والله﴾ أي المحيط علماً وقدرة
﴿لا يهدي القوم الفاسقين﴾ أي أنه لا يهديهم لأنه جبلهم على الفسق، وكل من لا يهديه لأنه جلبه على الفسق لا يغفر له، فهو لا يغفر لهم لما علم منهم مما لا يعلمه غيره، فهو تمهيد لعذر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في استغفاره قبل العلم بالطبع الذي لا يمكن معه رجوع.
561
ولما علل سبحانه عدم المغفرة بفسقهم، وأتى بالظاهر موضع المضمر إشارة إلى اتصافهم به وتعليقاً للحكم بالوصف، علل رسوخهم في الفسق بعد أن قدم أن المنافقين بعضهم من بعض فهم كالجسد الواحد بقوله:
﴿فرح المخلفون﴾ أي الذين وقع تخليفهم بإذنك لهم وكراهة الله لانبعاثهم
﴿بمقعدهم﴾ أي قعودهم عن غزوة تبوك، ولعله عبر بهذا المصدر لصلاحيته لموضع القعود ليكون بدلالته على الفرح أعظم دلالة على الفرح بالموضوع، وهو مروي عن ابن عباس رضى الله عنهما، وأظهر الوصف بالتخلف موضع الضمير زيادة في تهجين ما رضوا به لأنفسهم، وزاده تهجيناً أيضاً بقوله:
﴿خلاف﴾ أي بعد وخلف أو لأجل خلاف
﴿رسول الله﴾ أي الملك الأعظم الذي من
561
تخلف عن حزبه هلك
﴿وكرهوا أن يجاهدوا﴾.
ولما كان هذا في سياق الأموال تارة بالرضى بنيلها والسخط بحرمانها، وتارة بقبض اليد عن بذلها، وتارة بالاستمتاع بالخلاف الذي هو النصيب أعم من أن يكون بالمال أو النفس، وتارة بعيب الباذلين وغير ذلك من شأنها قدم قوله:
﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ على قوله:
﴿في سبيل الله﴾ أي طريق الملك الذي له صفات الكمال، لأنه ليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإيقان الذي بعث المؤمنين، ودل ذلك على عراقتهم في الفسق بأن الإنسان قد يفعل المعصية ويحزن على فعلها وهؤلاء سروا بها مع ما فيها من الدناءة، وقد يسر الإنسان بالمعصية ولا يكره أن يكون بدلها أو معها طاعة وهؤلاء ضموا إلى سرورهم بها كراهية الطاعة، وقد يكره ولا ينهى غيره وهؤلاء جمعوا إلى ذلك كله نهي غيرهم، ففعلوا ذلك كله
﴿وقالوا﴾ أي لغيرهم
﴿لا تنفروا في الحر﴾ بعداً من الإسلام وعمّى عن سيد الأحكام، لأن غزوة تبوك كانت في شدة الحر.
ولما كان هذا قول من لم تخطر الآخرة على باله، أمره تعالى أن يحذر من يصغي إليهم أو يقبل عليهم بقوله:
﴿قل﴾ أي يا أعلم بخلقنا استجهالاً لهم
﴿نار جهنم﴾ أي التي أعدها الله لمن خالف أمره
﴿أشد حرّاً﴾ ولفت الكلام إلى الغيبة يدل على أن
562
أعظم المراد بهذا الوعظ ضغفاء المؤمنين لئلا يتشبهوا بهم طعماً في الحلم فقال تعالى:
﴿لو كانوا﴾ أي المنافقون
﴿يفقهون*﴾ أي لو كان بهم فهم يعلمون به صدق الرسول وقدرة مرسله على ما توعد به لعلموا ذلك فما كانوا يفرون من الحر إلى أشد حراً منه، لأن من فر من حر ساعة إلى حر الأبد كان أجهل الجهال، وقال أبو حيان: لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين ذكر حال المنافقين الذين لم يخرجوا معه، يعني في قوله
﴿فرح المخلفون﴾ - انتهى.
فتكون الآية حيئنذ جواباً لمن كأنه قال: هذه أحوال من خرج فما حال من قعد؟ وقد خرج بما في هذه الآية من الأوصاف كعب بن مالك ورفيقاه رضي الله عنهم ونحوهم ممن لم يفرح بالقعود ولا اتصف بما ذكر معه من أوصافهم.
ولما كان غاية السرور الضحك، وكان اللازم لهم في الآخرة البكاء في دار الشقاء الذي هو غاية الحزن لهم، فيها زفير وشهيق وهم يصطرخون فيها، قال تعالى مهدداً لهم مسبباً عن قبيح ما ذكر من فعلهم مخبراً في صورة الأمر إيذاناً بأنه أمر لا بد من وقوعه:
﴿فليضحكوا قليلاً﴾ أي فليتمتعوا في هذه الدار بفرحتهم بمقعدهم التمتع الذي غاية السرور به الضحك - يسيراً، فإنها دار قلعة وزوال وانزعاج وارتحال
﴿وليبكوا كثيراً﴾ أي في نار جهنم التي أغفلوا ذكر حرورها وأهملوا الاتقاء من شديد سعيرها
563
بدل ذلك الضحك القليل كما استبدلوا حرها العظيم بحر الشمس الحقير
﴿جزاء بما كانوا يكسبون*﴾ أي من الفرح بالمعاصي والسرور بالشهوات والانهماك في اللذات.
ولما كان المسرور بشيء الكاره لضده الناهي عنه لا يفعل الضد إلا تكلفاً ولا قلب له، إليه وكان هذا الدين مبنياً على العزة والغنى، أتبع ذلك بقوله مسبباً عن فرحهم بالتخلف:
﴿فإن رجعك الله﴾ أي الملك الذي له العظمة كلها فله الغنى المطلق عن سفرك هذا
﴿إلى طائفة منهم﴾ أي وهم الذين يمد الله في أعمارهم إلى أن ترجع إليهم، وهذا يدل على أنه أهلك سبحانه في غيبته بعضهم، فأردت الخروج إلى سفر آخر
﴿فاستأذنوك﴾ أي طلبوا أن تأذن لهم
﴿للخروج﴾ أي معك في سفرك ذلك
﴿فقل﴾ عقوبة لهم وغنى عنهم وعزة عليهم ناهياً لهم بصيغة الخبر ليكون صدقك فيه علماً من أعلام النبوة وبرهاناً من براهين الرسالة
﴿لن تخرجوا معي أبداً﴾ أي في سفر من الأسفار لأن الله قد أغناني عنكم وأحوجكم إليّ
﴿ولن تقاتلوا معي عدواً﴾ لأنكم جعلتم أنفسكم في عداد ربات الحجال ولا تصلحون لقتال؛ والتقييد بالمعية كما يؤذن باستثقالهم يخرج ما كان بعده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع أصحابه رضي الله عهنم من سفرهم وقتالهم.
564
ولما أخزاهم سبحانه بما أخزوا به أنفسهم، علله بقوله:
﴿إنكم رضيتم بالقعود﴾ أي عن التشرف بمصاحبتي، ولما كانت الأوليات أدل على تمكن الغرائز من الإيمان والكفران وغيرها قال:
﴿أول مرة﴾ أي في غزوة تبوك، ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته؛ قال أبو حيان: فعلل بالمسبب وهو الرضى الناشىء عن السبب وهو النفاق - انتهى.
ولما أنهى الحكم والعلة، سبب عنه قوله:
﴿فاقعدوا مع الخالفين*﴾ أي الذين رضوا لأنفسهم بهذا الوصف الذي من جملة معانيه: الفاسد فهم لا يصلحون لجهاد ولا يلفون أبداً في مواطن الامجاد، وقال بعضهم: المراد بهم الذين تخلفوا بغير عذر في غزوة تبوك، أو النساء والصبيان أو أدنياء الناس أو المخالفون أو المرضى والزمنى أو أهل الفساد، والأولى الحمل على جميع، أي لأن المراد تبكيتهم وتوبيخهم، ولما أتم سبحانه الكلام في الاستغفار وتعليله إلى أن ختم بإهانة المتخلفين، وكان القتل المسبب عن الجهاد سبباً لترك الصلاة على الشهيد تشريفاً له، جعل الموت الواقع في القعود المرضي به عن الجهاد سبباً لترك الصلاة إهانة لذلك القاعد، فقال عاطفاً على ما أفهمت جملة:
﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم﴾ الآية، من نحو: فلا تستغفر لهم أصلاً:
﴿ولا تصلِّ﴾ أي الصلاة التي شرعت لتشريف المصلى عليه والشفاعه فيه
﴿على أحد منهم﴾ ثم وصف
565
الأحد بقوله:
﴿مات﴾ وقوله
﴿أبداً﴾ متعلق بالنهي لا بالموت
﴿ولا تقم على قبره﴾ أي لأن قيامك رحمة وهم غير أهل لها، ثم علل ذلك بقوله:
﴿إنهم كفروا بالله﴾ أي الذي له العظمة كلها ولما كان الموت على الكفر مانعاً من الصلاة على الميت بجميع معانيها لم يحتج إلى التأكيد باعادة الجار فقيل -:
﴿ورسوله﴾ أي الذي هو أعظم الناس نعمة عليهم بما له من نصائحهم بالرسالة، والمعنى أنهم لعظم ما ارتكبوا من ذلك لم يهدهم الله فاستمروا على الضلالة حتى ماتوا على صفة من وقع النهي على الاستغفار لهم المشار إليها بقوله
﴿والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ وذلك المراد من قوله معبراً بالماضي والمعنى على المضارع تحقيقاً للخبر وأنه واقع لا محالة:
﴿وماتوا وهم﴾ أي والحال أنهم بضمائرهم وظواهرهم
﴿فاسقون*﴾ أي غريقون في الفسق.
ولما كان ابن ابيّ سبب النهي عن الاستغفار لهم، وكان ابنه عبد الله بن عبد الله من خيار المؤمنين وخلص المحسنين وكان لبعض المنافقين أبناء مثله، وكان من طبع البشر أن يذكر في كثير من مقاله غلطاً ما يندم عليه، وكان شديد الوقوف لما حف به من العلائق البدنية وشمله من العوائق بالأوهام النفسانية مع أوهامه وعوائقه قاصراً على قيوده وعلائقه، فكان لإعادة الكلام وتكريره وترديده ومزيد تقريره تأكيد في النفوس وتعزية وتثبيت في القلوب، كرر آية الإعجاب
566
لهذه الأسباب لأن يكون حكمها على بال من المخاطب لا ينساه لاعتقاد أن العمل به مهم جداً يفتقر إلى فضل عناية، وأن ذلك شبيه بما أوهم صاحبه فهو يتكلم فيه ثم ينتقل إلى غيره لغرض صحيح ثم يرجع إليه في أثناء حديثة لشدة اهتمامه به تنبيهاً على ذلك، ولا يرجع إليه إلا على غاية ما يكون من حسن الربط وبراعة التناسب، وعطفها بالواو دون الفاء لأن ذلك ليس مسبباً عما قبله كما سبق في الآية الأولى، أي لا تستغفر لهم ولا تصل عليهم ولا تعجبك قولهم: مستعطفين لك في طلب محبتك وإن زخرفوه وأكدوه بالأيمان التي اتخذوها جنة
﴿ولا تعجبك أموالهم﴾ وأسند النهي إليها إبلاغاً فيه.
ولما لم يكن هنا ما اقتضى تأكيد النفي مما مضى في الآية الأولى، لم يعد النافي ولا أثبت اللام ولا الحياة فقال:
﴿وأولادهم﴾ أي وإن أظهروا أنهم يجاهدون بها معك ويتقربون بها إلى الله فإن الله لا يريد بهم ذلك فلا ييسره لهم لما علم من مباعدتهم للخير وعدم قابليتهم له فلا يحملك الإعجاب بشيء من ذلك على فعل شيء مما تقدم النهي عنه تأليفاً لأمثالهم للمساعدة بأولادهم وأموالهم
567
وتطييباً لقلوب المؤمنين من أولادهم، فإنهم إن كانوا مؤمنين لم يضرهم ترك ذلك وإلا فبعداً لهم وسحقاً
﴿إنما يريد الله﴾ أي بعزه وعظمته وعلمه وإحاطته
﴿أن يعذبهم﴾ أي تعذيبهم
﴿بها﴾ فالفعل واقع بخلافة في الآية السابقة
﴿في الدنيا﴾ أي بجمعها ومحبة الإخلاد إليها وإلى الأولاد إن كانوا مثلهم في الاعتقاد وإلا كانوا زيادة عذاب لهم في الدارين
﴿وتزهق﴾ أي تخرج بغاية العسر
﴿أنفسهم وهم﴾ لاغترارهم بها
﴿كافرون*﴾ ولا شك أن خطاب الرأس بغاية العسر
﴿أنفسهم وهم﴾ لاغترارهم بها
﴿كافرون*﴾ ولا شك أن خطاب الرأس بشيء أوقع في قلوب أصحابه فلذلك وقع الخطاب للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد غيره من أتباعه وجماعته وأشياعه ممن قد يجنح إلى الأسباب ويقف عنده كما هو طبع النفوس في تأمل ما شهد ونسيان ما غاب وعهد تدريباً لهم على الحب في الله والبغض فيه لأنه من أدق أبواب الدين فهماً وأجلها قدراً، وعليه تبتنى غالب أبوابه، ومنه تجتنى أكثر ثمراته وآدابه، وذلك أنه ربما ظن الناظر فيمن بسطت عليه الدنيا أنه من الناجين فيوادّه لحسن قوله غافلاً عن سوء فعله، أو يظن أن أهل الدين فقراء إلى مساعدته لهم في جهاد أو غيره بما له وذويه روية فيداريه، فأعلمهم تعالى أن ما هذا سبيله مقطوع البركة نهياً عن النظر إلى الصور وتنبيهاً على قصر الأنظار على المعاني
﴿قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث﴾ [المائدة: ١٠٠]- الآية {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا
568
تسمع لقولهم} [المنافقون: ٤١].
569
ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادرون إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر أقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم، ولمحنتهم لا لمنحتهم، أتبع ذلك بدليله من أنهم لا يتوصلون بها إلى جهاد، ولا يتوسلون إلى دار المعاد، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو أن يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون أجراً، أو بانياً حالاً من الكاف في
«تعجبك» :
﴿وإذا أنزلت سورة﴾ أي وقع إنزال قطعة من القرآن.
ولما كان الإنزال يدل على المنزل حتماً، فسره بقوله:
﴿أن آمنوا بالله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿وجاهدوا﴾ أي أوقعوا الجهاد
﴿مع رسوله استأذنك﴾ أي في التخلف من لا عذر له وهم
﴿أولوا الطول﴾ أي أهل الفضل
569
من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال
﴿منهم﴾ وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر
﴿أن﴾ في قوله
﴿ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله﴾ هذا مع ما تضمن استئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهمم المحكي بقوله:
﴿وقالوا ذرنا﴾ أي اتركنا ولو على حالة سيئة
﴿نكن﴾ أي بما يوافق جبلاتنا
﴿مع القاعدين*﴾ أي بالعذر المتضمن - لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون
«دعنا» - لما استأنف به أو بين من قوله:
﴿رضوا بأن يكونوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم
﴿مع الخوالف﴾ أي النساء
﴿وطبع﴾ أي وقع الطبع المانع
﴿على قلوبهم﴾ أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى.
ولما أبهم فاعل الطبع، نفى دقيق العلم فقال:
﴿فهم﴾ أي بسبب هذا الطبع
﴿لا يفقهون*﴾ أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها.
ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم
570
بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاً:
﴿لكن الرسول﴾ أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد
﴿والذين آمنوا﴾ أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين
﴿معه﴾ أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما أرسلناه إليهم به
﴿جاهدوا بأموالهم وأنفسهم﴾ أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتحققوا بشرط الإيمان و
«لكن» واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا.
ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال، ولسلب النفع من أموالهم وأولادهم، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال:
﴿أولئك﴾ دالاً على أنه معطوف على ما تقديره: فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون، وقوله:
﴿لهم﴾ أي لا لغيرهم
﴿الخيرات﴾ تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته ب
«ال» على استغراقه لجميع منافع الدارين، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى، وكذا التعريض بهم بقوله:
﴿وأولئك هم﴾ أي خاصة
﴿المفلحون*﴾ أي الفائزون بجميع مرادهم، لا غيرهم؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله:
﴿أعد الله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿لهم﴾ أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار
﴿جنات تجري﴾ أي دائماً
﴿من تحتها﴾ أي مع قربها
﴿الأنهار﴾ ثم عرض بهذه الدنيا السريعة الزوال فقال:
﴿خالدين فيها﴾ ثم رغب فيها بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي الرتبة
﴿الفوز العظيم*﴾ أي لا غيره.
571
ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك، تلاهم بهم فقال:
﴿وجاء المعذرون﴾ أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد - بما أشار إليه الإدغام، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له، والعذر: إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير
﴿من الأعراب﴾ قيل: هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر، وقيل: اسد وغطفان، قيل: رهط من غفار
﴿ليؤذن﴾ أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو
﴿لهم﴾ أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك، هكذا كان الأصل فوضع موضعة:
﴿وقعد الذين كذبوا الله﴾ أي وهو المحيط علماً وقدرة
﴿ورسوله﴾ تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم.
ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال:
﴿سيصيب﴾ أي بوعد لا خلف فيه
﴿الذين كفروا﴾ أي حتم بكفرهم
﴿منهم عذاب أليم*﴾ أي في الدارين.
ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال:
572
﴿ليس على الضعفاء﴾ أي بنحو الهرم
﴿ولا على المرضى﴾ أي بنحو الحمى والرمد
﴿ولا على الذين لا يجدون﴾ ولو بدين يؤدونه في المستقبل
﴿ما ينفقون﴾ أي لحاجتهم وفقرهم
﴿حرج﴾ أي إثم يميل بهم عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم.
ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله:
﴿إذا نصحوا﴾ أي في تخلفهم وجميع أحوالهم
﴿لله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام
﴿ورسوله﴾ أي سراً وعلانية، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا، وقوله:
﴿ما على المحسنين﴾ في موضع
«ما عليهم» لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم
﴿من سبيل﴾ أي طريق إلى ذمهم أو لومهم، والجملة كلها بيان ل
﴿نصحوا لله ورسوله﴾ وقوله:
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿غفور﴾ أي محاء للذنوب
﴿رحيم*﴾ أي محسن مجمل إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد، لا يسعه إلا العفو؛ ثم عطف على ذلك قوله:
﴿ولا على الذين إذا﴾ وأكد المعنى بقوله:
﴿ما أتوك﴾ أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك
﴿لتحملهم﴾ وهم لا يجدون محملاً
﴿قلت﴾ أي أتوك قائلاً أو حال قولك،
«وقد» مضمرة كما قالوا في
﴿حصرت صدورهم﴾ [النساء: ٩٠]
﴿لا أجد ما﴾ أي شيئاً
﴿أحملكم عليه﴾
573
وأجاب
﴿إذا﴾ بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و
«قلت» هو الجواب
﴿تولوا﴾ أي عن سماع هذا القول منك
﴿وأعينهم تفيض﴾ أي تمتلىء فتسيل، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً: ثم بين الفائض بقوله:
﴿من الدمع﴾ أي دمعاً والأصل: يفيض دمعها، ثم علل فيضها بقوله؛
﴿حزناً﴾ ثم علل حزنهم بقوله:
﴿ألا يجدوا﴾ أي لعدم وجدانهم
﴿ما ينفقون﴾ فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في
﴿الذين لا يجدون﴾ إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح - وإن اجتهد - لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم - مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم - ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له.
ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى:
﴿إنما السبيل﴾ أي باللوم وغيره
﴿على الذين يستأذنونك﴾ أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه
﴿وهم أغنياء﴾ أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً:
﴿رضوا بأن يكونوا﴾ أي كوناً كأنه جبلة لهم
﴿مع الخوالف﴾ انتفاء
574
الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى: ولما ذكره، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على
«رضوا» :
﴿وطبع الله﴾ أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط
﴿على قلوبهم﴾ ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله:
﴿فهم لا يعلمون*﴾ أي لا علم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم.
575
ثم شرع يخبر عن أشياء تقع منهم عند الرجوع دلالة على أن هذا كلامه وأنه عالم بالمغيبات كليها وجزئيها، يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فقال مبيناً لعدم علمهم:
﴿يعتذرون﴾ أي يثبتون الأعذار لأنفسهم: وأشار إلى بعدهم بالقلوب بقوله:
﴿إليكم﴾ أي عن التخلف
﴿إذا رجعتم إليهم﴾ أي من هذه الغزوة، كأنه قيل: فماذا يقال في جوابهم؟ فقال للرأس الذي لا تأخذه في الله لومة لائم:
﴿قل لا تعتذروا﴾ أي فإن أعذاركم كاذبة، ولذلك علل النهي بقوله:
﴿لن نؤمن لكم﴾ أي نصدقكم في شيء منها، ثم علل عدم تصديقهم بما أوجب لهم القطع بذلك فقال:
﴿من نبأنا الله﴾ أي أعلمنا الملك الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء إعلاماً جليلاً
﴿من أخباركم﴾ أي التي ظننتم جهلاً بالله أنها تخفى فقد علمناها؛ ثم هددهم بقوله:
﴿وسيرى الله﴾ أي لأنه عالم بكل شيء وإن دق قادر على كل شيء
﴿عملكم﴾ أي بعد ذلك أتتبينون أم تثبتون على حالكم هذا الخبيث كما رأى الذي قبل
﴿ورسوله﴾ أي بما يعلمه به سبحانه
1
وحياً أو تفرساً، ولما كان الكلام في المنافقين، فكانت الرؤية لنفاقهم الذي يجتهدون في إخفائه، وكان المؤمنون لا اطلاع لجميعهم عليهم، لم يذكرهم بخلاف من يأتي بعد فإنهم مؤمنون.
ولما كان هذا ربما أوهمهم أنه لا يعلم إلا ما أوقعوه بالفعل، نفى ذلك بإظهار وصفه في موضع الإضمار مهدداً بقوله مشيراً بأداة التراخي إلى استبعادهم لقيامهم إلى معادهم:
﴿ثم تردون﴾ أي براد قاهر لا تقدرون على دفاعه بعد استيفاء آجالكم بالموت وإن طالت ثم البعث
﴿إلى عالم الغيب﴾ وهو ما غاب عن الخلق
﴿والشهادة﴾ وهو ما اطلع عليه أحد منهم. فصار بحيث يطلعون عليه وهذا ترجمة عن الذي يعلم الشيء قبل كونه ما يعلم بعد كونه
﴿فينبئكم﴾ أي يخبركم إخباراً عظيماً جليلاً مستوعباً
﴿بما كنتم﴾ أي بجبلاتكم
﴿تعملون*﴾ أي مما أبرزتموه إلى الخارج ومما كان في جبلاتكم، ولو تأخرتم لبرز، وهو تهديد عظيم، ووقع ترتيبهم للاعتذار على الأسهل فالأسهل على ثلاث مراتب: الأولى مطلق الاعتذار وقد مضى ما فيها؛ الثانية تأكيد ذلك بالحلف للإعراض عنهم فقال سبحانه:
﴿سيحلفون بالله﴾ أي الذي لا أعظم منه
﴿لكم إذا انقلبتم إليهم﴾ أي جهد إيمانهم أنهم كانوا معذورين في التخلف
2
كذباً منهم إرادة أن يقلبوا قلوبكم عما اعتقدتم فيهم
﴿لتعرضوا عنهم﴾ أي إعراض الصفح عن معاتبتهم
﴿فأعرضوا عنهم﴾ إعراض المقت؛ روي أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
«لا تجالسوهم ولا تكلموهم» ثم علل وجوب الإعراض بقوله
﴿إنهم رجس﴾ أي لا يطهرهم العتاب فهو عبث.
ولما كان من المقرر أنه لا بد لهم من جزاء، وأن النفس تتشوف إلى معرفته، قال:
﴿ومأواهم﴾ أي في الآخرة
﴿جهنم جزاء﴾ أي لأجل جزائهم
﴿بما كانوا يكسبون*﴾ أي فلا تتكلفوا لهم جزاء غير ذلك بتوبيخ ولا غيره؛ المرتبة؛ الثالثة الحلف للرضى عنهم فقال:
﴿يحلفون لكم﴾ أي مجتهدين في الحلف بمن تقدم أنهم يحلفون به وهو الله
﴿لترضوا عنهم﴾ خوفاً من غائلة غضبكم
﴿فإن ترضوا عنهم﴾ أي لمجرد أيمانهم المبني على عدم إيمانهم
﴿فإن الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق
﴿لا يرضى﴾ عنهم، هكذا كان الأصل ولكنه قال:
﴿عن القوم الفاسقين*﴾ إشارة إلى تعليق الحكم بالوصف وتعميماً لكل من اتصف بذلك، والمعنى أنه لا ينفعهم رضاكم وتكونون به مخالفين الله، فهو في الحقيقة نهي للمؤمنين عن الرضى عنهم، أبرز في هذا الأسلوب العجيب المرقص، وفي ذلك رد على من يتوهم أن رضى المؤمنين لو رضوا عنهم يقتضي رضى الله، فإن ذلك رد نزعة مما يفعل الأحبار والرهبان في رضاهم وغضبهم وتحليلهم وتحريمهم الذي يعتقد أتباعهم أنه عن الله تعالى.
3
ولما ترتب سبحانه الاستئذان في العقود والرضى بما فيه من الدناءة على عدم الفقه تارة والعلم أخرى وختم بصنف الأعراب، بين أن الأعراب أولى بذلك لكونهم أعرق في هذا الوصف وأجرأ على الفسق لبعدهم عن معدن العلم وصرفهم أفكارهم في غير ذلك من أنواع المخازي لتحصيل المال الذي كلما داروا عليه طار عنهم فأبعد. فهم لا يزالون في همه قد شغلهم ذلك عن كل هم وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً فقال تعالى:
﴿الأعراب﴾ أي أهل البدو
﴿أشد﴾ أي من أهل المدر
﴿كفراً ونفاقاً﴾ لبعدهم عن دار الهجرة ومعدن العلم وجفائهم بأن مرائي قلوبهم لم تصقل بأنوار الكتاب والسنة
﴿وأجدر أن﴾ أي وأحق بأن
﴿لا يعلموا﴾ ولما كان الإحجام أصعب من الإقدام، وأطراف الأشياء المختلطة في غاية الإلباس، قال:
﴿حدود ما أنزل الله﴾ أي المحيط علماً وحكمة بكل شيء
﴿على رسوله﴾ أي الذي أعلم الخلق من القرآن والشرائع والأحكام لعدم إقبالهم عليه شغلاً بغيره فإن الله يعلم ذلك منهم
﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال
﴿عليم﴾ أي بالغ العلم بكل شيء
﴿حكيم*﴾ أي بالغ الحكمة فهو يضع الأشياء في أتم محالها.
ولما أثبت هذا الوصف لهذا الصنف بين أن أفراده انقسموا إلى من
4
ثبت على ما هو الأليق بحالهم، وقسم نزع إلى ما هو الأليق بأهل المدر، كما انقسم أهل المدر إلى مثل ذلك، وبدأ بالخبيث لأنه الأصل فيهم فقال:
﴿ومن الأعراب﴾ أي المذكورين
﴿من يتخذ﴾ أي يتكلف غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من الأريحية والهمم العلية بأن يعد
﴿ما ينفق مغرماً﴾ أي فلا يبذله إلا كرهاً ولا يرى له فائدة أخروية بل يراه مثل الصنائع بالنهب ونحوه
﴿ويتربص﴾ أي يكلف نفسه الربص، وهو أن يسكن ويصبر وينتظر
﴿بكم الدوائر﴾ أي الدواهي التي تدور بصاحبها فلا يتخلص منها، وذلك ليستريح من الإنفاق وغيره مما ألزمه به الدين.
ولما تربصوا هذا التربص، دعا عليهم بمثل ما تربصوا فقال:
﴿عليهم دائرة السوء﴾ أي دائماً لا تنفك إما بإذلال الإسلام وإما بعذاب الاصطلام، فهم فيما أرادوه بكم على الدوام، وقراءة ابن كثير وأبي عمرو بضم السين على أن معناه الشر والضر، وقراءة الباقين بالفتح على أنه مصدر، فهو ذم للدائرة.
ولما كان الانتقام من الأعداء وإيقاع البأس بهم لا يتوقف من القادر غالباً إلا على سماع أخبارهم والعلم بها، جرت سنته تعالى في ختم مثل بقوله:
﴿والله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة الكاملة
﴿سميع﴾ يسمع ما يقولون
﴿عليم*﴾ أي فهو يعلم ما يضمرون عطفاً على نحو أن يقال: فالله على كل شيء قدير، ونحوه قوله {إنني
5
ولما افتتح الآية الثانية بقوله:
﴿ومن الأعراب من يؤمن﴾ أي لا يزال يجدد إيمانه آثار الدين
﴿بالله واليوم الآخر﴾ علم أن القسم الأول غير مؤمن بذلك، وإنما وقع منهم الإقرار باللسان من غير إذعان، والإيمان هو الأصل الذي يترتب عليه الإنفاق عن طيب نفس لما يرجى من ثوابه في اليوم الآخر الذي لولا هو انتفت الحكمة من هذا الخلق على هذا الترتيب: ثم عطف عليه ما يثمره الإيمان فقال:
﴿ويتخذ﴾ أي يحث نفسه ويجاهدها إن عرضت له الوساوس الشيطانية على أن يعد
﴿ما ينفق﴾ أي فيما أمر الله به
﴿قربات﴾ جمع قربة لما تقرب إليه سبحانه
﴿عند الله﴾ أي الذي لا أشرف من القرب منه لأنه الملك الأعظم
﴿وصلوات﴾ أي دعوات
﴿الرسول﴾ أي الذي وظيفته التبليغ فهو لا يقول لهم شيئاً إلا عن الله، وأطلق القربة والصلاة على سببها.
ولما أخبر عن أفعالهم، أخبر عن عاقبتهم ومآلهم؛ قال مستأنفاً محققاً لرجائهم ترغيباً في الصدقة بأبلغ تأكيد لما لأعدائهم من التكذيب:
﴿ألا إنها﴾ أي نفقاتهم
﴿قربة لهم﴾ أي كما أرادوا؛ ثم بين ثمرة كونها قربة بقوله:
﴿سيدخلهم الله﴾ أي الذي له صفات الكمال بوعد لا خلف فيه
﴿في رحمته﴾ أي إكرامه فتكون محيطة بهم ثم علل ذلك بقوله
6
معبراً بالاسم الأعظم تنبيهاً على أنه لا يسع الإنسان إلا العفو وإن أعظم الاجتهاد:
﴿إن الله﴾ أي الذي الذي لا يقدر أحد على أن يقدره حق قدره
﴿غفور﴾ أي بليغ الستر لقبائح من تاب
﴿رحيم*﴾ أي بليغ الإكرام، ذلك وصف له ثابت، يجلله كل من يستأهله.
ولما ذكر القسم الصالح منهم وكانوا متفاوتين فمنهم السابق وأكثرهم التابع اللاحق، أتبعه السابقين على وجه شامل حاصر لصنفي البادي والحاضر إشارة إلى أنه - وإن أجره - أصله فقد قدمه وصفه بحيث ساوى أهل الكمال في مطلق الانخراط في ملكهم والفوز بدرجتهم لإحسانه في اتباعهم ترغيباً لأهل القدرة والرحمة في اتباع أهل الرضوان والنعمة فقال:
﴿والسابقون﴾ ولما دل على سبقهم بالعلو في مراتبه دل على قديم دخولهم فيه فقال:
﴿الأولون﴾ أي إلى هذا الدين القيم
﴿من المهاجرين﴾ أي لدار الكفر فضلاً عن أهلها
﴿والأنصار﴾ أي الذين آووا ونصروا
﴿والذين اتبعوهم﴾ أي الفريقين
﴿بإحسان﴾ أي في اتباعهم فلم يحولوا عن شيء من طريقهم
﴿رضي الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿عنهم﴾ أي بأفعالهم هذه التي هي وفق ما أمر به
﴿ورضوا عنه﴾ أي بما أتاهم عنه من البشرى وقذف في قلوبهم من النور بلطيف الوعظ والذكرى
﴿وأعد لهم﴾ أي جزاء على فعلهم
﴿جنات تجري﴾ ونبه على عموم ريّها وكثرة مائها بنزع الجار على قراءة
7
الجماعة فقال:
﴿تحتها الأنهار﴾ أي هي كثيرة المياه. فكل موضع أردته نبع منه ماء فجرى منه نهر؛ ولما كان المقصود من الماء إنما هو السهولة في إنباطه بقربه ويسر جريه وانبساطه أثبته ابن كثير دلالة على ذلك كسائر المواضع، ولعل تخصيص هذا الموضع بالخلاف لأنه يخص هذه الأمة، فلعلها تخص بجنة هي أعظم الجنان رياً وحسناً وزياً.
ولما كان أعظم العيوب الانقطاع، نفاه بقوله:
﴿خالدين فيها﴾ وأكد المراد من الخلود بقوله:
﴿أبداً﴾ ثم استأنف مدح هذا الذي أعده لهم بقوله:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي المكانة خاصة
﴿الفوز العظيم*﴾.
8
ولما استوفى الأقسام الأربعة: قسمي الحضر وقسمي البدو ثم خلط بين قسمين منهم تشريفاً للسابق وترغيباً للاحق، خلط بين الجميع على وجه آخر ثم ذكر منهم فرقاً منهم من نجز الحكم بجزائه بإصرار أو متاب. ومنهم من أخر أمره إلى يوم الحساب، وابتدأ الأقسام بالمستور عن غير علمه ليعلم أهل ذلك القسم أنه سبحانه عالم بالخفايا فلا يزالوا أذلاء خوفاً مما هددهم به فقال مصرحاً بما لم يتقدم التصريح به من نفاقهم:
﴿وممن حولكم﴾ أي حول بلدكم المدينة
﴿من الأعراب﴾ أي الذين قدمنا أنهم أشد كفراً لما لهم من الجفاء
﴿منافقون﴾ أي راسخون في النفاق، وكأنه قدمهم لجلافتهم وعتوهم، وأتبعهم من هو أصنع منهم
8
في النفاق فقال:
﴿ومن أهل المدينة﴾ أي منافقون أيضاً؛ ثم بين أنهم لا يتوبون بوصفهم بقوله:
﴿مردوا﴾ أي صُلبوا وداموا وعتوا وعسوا وعصوا وصار لهم به دربة عظيمة وضراوة حتى ذلت لهم فيه جميع أعضائهم الظاهرة والباطنة وصار لهم خلقاً
﴿على النفاق﴾ أي استعلوا على هذا الوصف بحيث صاروا في غاية المكنة منه؛ ثم بين مهارتهم فيه بقوله:
﴿لا تعلمهم﴾ أي بأعيانهم مع ما لك من عظيم الفطنة وصدق الفراسة لفرط توقيهم وتحامي ما يشكل من أمره؛ ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله:
﴿نحن﴾ أي خاصة
﴿نعلمهم﴾ ثم استأنف جزاءهم بقوله:
﴿سنعذبهم﴾ أي بوعد لا خلف فيه
﴿مرتين﴾ أي إحداهما برجوعك سالماً وشفوف أمرك وعلو شأنه وضخامة أركانه وعز سلطانه وظهور برهانه، فإنهم قطعوا لغباوتهم وجلافتهم وقساوتهم كما أشرت إليه بقولي
﴿ويتربص بكم الدوائر﴾ - أنك لا ترجع هذه المرة من هذه السفرة لما يعرفونه من ثباتك للأقران، وإقدامك على الليوث الشجعان، واقتحامك للأهوال، إذا ضاق المجال، ونكص الضراغمة الأبطال، ومن عظمة الروم وقوتهم وتمكنهم وكثرتهم، وغاب عن الأغبياء وخفي عن الأشقياء الأغنياء أن الله الذي خلقهم أعظم منهم وأكبر، وجنوده أقوى من جنودهم وأكثر؛ والثانية بعد وفاتك بقهر أهل لردة ومحقهم ورجوع ما أصلته بخليفتك الصديق رضي الله عنه إلى
9
ما كان عليه في أيامك من الظهور وانتشار الضياء والنور والحكم على من خالفه بالويل والثبور، وسيأتي أنه يمكن أن تكون المرة الثانية إخراب مسجد الضرار والإخبار بما أضمروا في شأنه من خفي الأسرار
﴿ثم يردون﴾ أي بعد الموت
﴿إلى عذاب عظيم*﴾ أي لا يعلم عظمة حق علمه إلا الله تعالى، وهو العذاب الأكبر الدائم الذي لا ينفك أصلاً.
ولما ذكر هذا القسم المارد الجافي، ثنى بمقابلة اللين الصافي، وهي الفرقة التي نجز المتاب عليها والنظر بعين الرحمة إليها فقال:
﴿وآخرون﴾ أي ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة آخرون
﴿اعترفوا بذنوبهم﴾ أي كلفوا أنفسهم ذكرها توبة منهم ندماً وإقلاعاً وعزماً ولم يفزعوا إلى المعاذير الكاذبة وهو المقتصدون.
ولما كان الخلط جمعاً في امتزاج، كان بمجرد ذكره يفهم أن المخلوط امتزج بغيره، فالإتيان بالواو في
﴿آخر﴾ يفهم أن المعنى:
﴿خلطوا عملاً صالحاً﴾ بسيىء
﴿وآخر سيئاً﴾ بصالح، فهو من ألطف شاهد لنوع الاحتباك، ولعل التعبير بما أفهم ذلك إشارة إلى تساوي العملين وأنه ليس أحدهما بأولى أحدهما بأولى من الآخر أن يكون أصلاً، وقد فسرها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك في أناس رآهم في المنام شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح كما رواه البخاري في التفسير عن سمرة رضي الله عنه ثم أوجب تحقيق توبتهم الملزومة للاعتراف بقبولها بقوله:
﴿عسى الله﴾ أي بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال
10
﴿أن يتوب عليهم﴾ فإن
﴿عسى﴾ منه سبحانه وتعالى واجبه لأن هذا دأب الملوك ولعل التعبير بها يفيد - مع الإيذان بأنه لا يجب عليه لأحد شيء وأن كل إحسان يفعله فإنما هو على سبيل الفضل إشارة إلى أنهم صاروا كغيرهم من خلص المؤمنين غير المعصومين في مواقعة التقصير وتوقع الرحمة من الله بالرجوع بهم إلى المراقبة، فكما أن أولئك معدودون في حزب الله مع هذا التقصير المرجو له العفو فكذلك هؤلاء؛ ثم علل فعله بهم مرجياً للمزيد بقولع:
﴿إن الله﴾ أي ذا الجلال والإكرام
﴿غفور رحيم*﴾ أي لم يزل موصوفاً بقبول المعرض إذا أقبل وإبدال سئيه بحسن فضلاً منه وإكراماً؛ روى البخاري في صحيحه في التفسير عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لنا:
«أتاني الللية آتيان فابتعثاني فانتهيا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ولبن فضة فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء وشطر كأقبح ما أنت راء، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة، قالا لي: هذه جنة عدن، وهذاك منزلك، قالا: أما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عفا الله عنهم».
11
ولما كان من شأن الرضوان قبول القربان، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطهيراً لهم وتطييباً لقلوبهم بقوله:
﴿خذ﴾ ورحمهم بالتبعيض فقال:
﴿من أموالهم صدقة﴾ أي تطيب أنفسهم بإخراجها
﴿تطهرهم﴾ أي هي من ذنوبهم وتجري بهم مجرى الكفارة
﴿وتزكيهم﴾ أي أنت تزيدهم وتنميهم
﴿بها﴾ بتكثير حسناتهم
﴿وصل﴾ أي اعطف
﴿عليهم﴾ وأظهر شرفهم بدعائك لهم؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿إن صلواتك﴾ أي دعواتك التي تصلهم بها فتكون موصلة لهم إلى الله
﴿سكن لهم﴾ أي تطمئن بها قلوبهم بعد قلق الخوف من عاقبة الذنب لما يعلمون من أن القبول لا يكون إلا ممن حصل له الرضى عنهم ومن أن الله سمع قولك إجابة لك ويعلم صدقك في صلاحهم
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء
﴿سميع عليم*﴾ أي لكل ما يمكن أن يسمع وما يمكن أن يعلم منك ومنهم ومن غيركم، فهو جدير بالإجابة والإثابة، وذلك أن هذا الصنف لما اشتد ندمهم على التخلف أوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فسأل عنهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم فقيل: ندموا على التخلف عنك فحلفوا: لا يطلقهم إلا أنت، فقال: وأنا أطلقهم حتى أومر بذلك، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآيات فقالوا: يارسول الله! هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها! فقال: ما أمرت بذلك، فلما أنزل الله هذه الآية أخذ الثلث فتصدق به.
12
ولما ساق توبتهم سبحانه في حيز
﴿عسى﴾، وكان الأصل فيها الترجية في المحبوب والإشفاق في المكروه، وأمر سبحانه بالأخذ من أموالهم لذلك، وكان إخراج المال شديداً على النفوس لا سيما في ذلك الزمان، كان ربما استوقف الشيطان من لم يرسخ قدمه في الإيمان عن التوبة وما يترتب عليها من الصدقة لعدم الجزم بأنها تقبل، فأتبع ذلك سبحانه بقوله:
﴿ألم يعلموا﴾ أي المعترفون بالذنوب حتى تسمح أنفسهم بالصدقة أو غيرهم حتى يرغبوا في التوبة والصدقة
﴿أن الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿هو﴾ أي وحده
﴿يقبل﴾ أي من شأنه أن يقبل
﴿التوبة﴾ تجاوزاً
﴿عن عباده﴾ أي التائبين المخلصين
﴿ويأخذ﴾ أي يقبل قبول الآخذ لنفسه
﴿الصدقات﴾ أي ممن يتقرب بها إليه بنية خالصة
﴿وأن الله﴾ أي المحيط بصفتي الجلال والإكرام
﴿هو﴾ أي وحده
﴿التواب الرحيم*﴾ أي لم يزل التجاوز والإكرام من شأنه وصفته، وفي ذلك إنكار على غيرهم من المختلفين في كونهم لم يفعلوا مثل فعلهم من الندم الحامل على أن يعذبوا أنفسهم بالإيثاق في السواري ويقربوا بعض أموالهم كما فعل هؤلاء أو نحو ذلك مما يدل على الاعتراف والندم.
13
ولما أمره من تطهيرهم بما يعيدهم إلى ما كانوا عليه قبل الذنب، عطف على قوله
﴿خذ﴾ قوله تحذيراً لهم من مثل ما وقعوا فيه:
﴿وقل اعملوا﴾ أي بعد طهارتكم
﴿فسيرى الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿عملكم﴾ أي بما له من إحاطة العلم والقدرة فاعملوا عمل من
13
يعلم أنه بعين الله
﴿ورسوله﴾ أي بإعلام الله له. ولما كان هذا القسم من المؤمنين فكانت أعمالهم لاخفاء فيها، قال
﴿والمؤمنون﴾ فزينوا أعمالكم جهدكم وأخلصوا، وفي الأحاديث
«لو أن رجلاً عمل في صخرة لا باب لها لأظهر الله علمه للناس كائناً ما كان».
ولما كان هذا السياق للمؤمنين حذف منه
«ثم» لكنه لما كان للمذنبين، أكد بالسين فقال:
﴿وستردون﴾ أي بوعد لا خلف فيه
﴿إلى عالم الغيب والشهادة﴾ أي بعد الموت والبعث
﴿فينبئكم﴾ أي بعلمه بكل شيء
﴿بما كنتم تعملون*﴾ أي ما أظهرتم عمله وما كان في غرائزكم، فلو تأخرتم تظهرتم، يجاريكم على حسنة ويزيد من فضله، وعلى سيئة عدلاً إن شاء ولا يظلم مثقال ذرة.
ولما ذكر القسمين المنجز عذابهم ومثابهم، ذكر المؤخر أمرهم وهو القسم الظالم لنفسه في الذي بدأ به في سورة فاطر سورة الحشر الآخر، ولا يبعد أن تكون هذه سورة الحشر الأول لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساق الناس إلى أرض المحشر فقال:
﴿وآخرون﴾ أي ومنهم آخرون
﴿مرجون﴾ أي مؤخرون بين الرجاء والخوف
﴿لأمر الله﴾ أي لما يأمر به فيهم الملك الأعظم الذي له الأمر كله لا يدرون أيعذبون أم يرحمون؛ وقدم قوله -:
﴿إما يعذبهم﴾ إن أصروا - تخويفاً لهم حملاً على المبادرة إلى التوبة وتصفيتها والإخلاص فيها وحثاً على أن يكون الخوف ما دام الإنسان صحيحاً
14
أغلب وثنى بقوله:
﴿وإما يتوب عليهم﴾ أي إن تابوا ترجية لهم وترقيقاً لقلوبهم بالتذكير بمنزل الأُنس الذي أخرجوا أنفسهم منه ومنعوها من حلوله وطيب مستقره ومقيله وحليّ أوقاته وعليّ مقاماته وشهيّ أقواته.
ولما كان ربما قال قائل: ما فائدة التأخير وما المانع من التنجيز؟ قال:
﴿والله﴾ أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً
﴿عليم حكيم*﴾ ترهيباً وترغيباً وتبعيداً وتقريباً واحتراساً مما قد يوهمه الترديد من الشك وتدريباً، وقراءة غفور رحيم للزيادة في الترجية.
ولما ذكر الذين أقامهم في مقام الخطر أتبعه تعيين طائفة من القسم الأول المستور الموصوف بالمرود، فألحق بهم الضرر فقال:
﴿والذين﴾ وهو معطوف في قراءة من أثبت الواو على قوله
﴿وآخرون﴾ وخبره على ما يليق بالقصة: منافقون ماردون، وأما على قراءة المدنيين وابن عامر بحذفها فيكون على تقدير سؤال سائل، وذلك أنه لما قال تعالى
﴿لا تعلمهم نحن نعلمهم﴾ تشوفت النفس إلى الإعلام بهم، فلما قال
﴿وآخرون اعترفوا بذنوبهم﴾ اشتغل السامع بتفهمه، وربما ظن أنه يأتي في آخر الكلام من تسميتهم ما يغنيه عن السؤال، فلما إنتقل بقوله
﴿وآخرون مرجون﴾ إلى قسم آخر، وختم الآية بصفتي العلم والحكمة ليعلم أن الترديد للتقسيم وأنه إن كان شك فهو بالنسبة إلى العباد وأما الله تعالى فمنزه عنه فذكر السامع بالصفتين ما كان دار
15
في خلده ومال إليه قلبه من الإعلام بالماردين على النفاق، فاشتد تشوفه إليه فكان كأنه قال: منْ منَ الماردين منهم؟ فقال تعالى الذين
﴿اتخذوا مسجداً﴾ أي من الماردين وهم من أعظمهم مهارة في النفاق وإخفاء الكيد والشقاق لأنهم توصلوا إلى ذلك بأن كلفوا أنفسهم الأخذ لأعظم عرى الدين مع المنازعة للفطرة الأولى والحذر من أن يفضحوا، فكان ختام هذه الآية من بديع الختام فإن احتراس عما يتوهم فيما قلبه ودليل على ما بعده، ولذلك ختم قصتهم أيضاً بصفتي العلم والحكمة، ولاح من هذا أن قوله
﴿سنعذبهم مرتين﴾ يمكن أن يراد به: مرة برجوعك، ومرة بإخرابك مسجدهم وتفريقك لشملهم بعد هتك سرائرهم بكشف ضمائرهم، وبَيَّنَ سبحانه علة اتخاذهم بقوله:
﴿ضراراً﴾ أي لأهل مسجد قباء أو لحزب الله عامة
﴿وكفراً﴾ أي بالله لاتخاذ دينه هزؤاً
﴿وتفريقاً﴾ أي مما يبيتونه من المكايد باستجلابهم لبعض من يخدعونه من المؤمنين ويطمعون فيه ليأتي مسجدهم ويترك المسجد المؤسس على التقوى
﴿بين المؤمنين﴾ أي الراسخين في الإيمان بما جاء من عند الله، لأنهم كانوا يجتمعون في مسجد قباء فيغتص بهم
﴿وإرصاداً﴾ أي إعداداً وانتظاراً
﴿لمن حارب الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿ورسوله﴾ ولما لم تكن محاربتهم مستغرقة للزمن الماضي، أدخل الجار فقال:
﴿من قبل﴾
16
أي قبل اتخاذهم لهذا المسجد بزمن قريب وهو أبو عامر الفاسق ليأتي إليهم فيزيدهم قوة على نفاقهم بأن يصير كهفاً يأوون إليه ورأساً لهم يتجمعون عليه
«وذلك أنه كان من بني غنم بن عوف، وهو والد حنظلة الغسيل الذي كان من خيار الصحابة، وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، فلما قدم النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة قال له: ما هذا الدين الذي جئت به؟ قال: الحنيفية دين إبراهيم، قال: أبو عامر: أنا عليها، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لست عليها، قال: بلى ولكنك أدخلت فيها ما ليس منها، قال: ما فعلت، ولكني جئت بها بيضاء نقية، قال أبو عامر: أمات الله الكاذب منا طريداً شريداً وحيداً غريباً! فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آمين! وسماه الفاسق، ثم تحيز إلى قريش وقاتل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهم يوم أحد وقال: لا أجد قوماً يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلما قاتل يوم حنين مع هوازن وانهزموا أيس وهرب إلى الشام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدوا فإني ذاهب إلى قيصر فآت بجنود ومخرج محمداً! وكانوا قد حسدوا إخوانهم بني عمرو بن عوف على مسجد قباء لما بنوه، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأتيه ويصلي فيه، فبنوا مسجد الضرار
17
وأرسلوا إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليأتيهم فيصلي فيه، وكان يتجهز لتبوك فقال: أنا على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا فيه إن شاء الله! فلما قدم فكان قريباً من المدينة نزلت الآية، فدعا مالك بن الدخشم وجماعة وقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه، ففعلوا، وأمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتخذ مكانه كناسه يلقي فيها الجيف والقمامه؛ ومات أبو عامر بالشام وحيداً غريباً طريداً»
وقيل: كل مسجد بني مباهاة أو لغرض ليس به إخلاص أو بمال مشتبه فهو لاحق بمسجد الضرار.
ولما أخبر عن سرائرهم، أخبر عن نفاقهم في ظواهرهم بقوله:
﴿وليحلفن﴾ أي جهد أيمانهم
﴿إن﴾ أي ما
﴿أردنا﴾ أي باتخاذ له
﴿إلا الحسنى﴾ أي من الخصال؛ ثم كذبهم بقوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿يشهد﴾ أي يخبر إخبار الشاهد
﴿إنهم لكاذبون*﴾ وقد بان بهذا كله أن سبب فضيحتهم ما تضمنه فعلهم من عظيم الضرر للإسلام وأهله؛ ثم قال ناهياً عن إجابتهم إلى ما أرادوا به من التلبيس إنتاجاًعن هذا الكلام الذي هو أمضى من السهام:
﴿لا تقم فيه﴾ أي مسجد الضرار
﴿أبداً﴾ أي سواء تابوا أو لا، وأراد بعض المخلصين أن يأخذه أولاً، اي لا بد من إخرابه ومحو أثره عن وجه الأرض.
ولما ذمه وذم أهله، مدح مسجد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إما الذي
18
بالمدينة الشريفة وإما الذي ببني عمرو بن عوف بقباء على الخلاف في ذلك. وهو الذي اتخذ في أول الإسلام مسجداً إحساناً وإيماناً وجمعاً بين المؤمنين وإعداداً لمن صادق الله ورسوله، ومدح أهله إرشاداً لكل من كان مال إليه من المؤمنين لقرب أو غيره إلى العوض عنه، ولعله أبهم تعيينه وذكر وصفه ليكون صالحاً لكل من المسجدين.
لما اتصف بهذا الوصف من غيرهما فقال مؤكداً تعريفاً بما له من الحق ولما للمنافقين من التكذيب:
﴿لمسجد أُسس﴾ أي وقع تأسيسه
﴿على التقوى﴾ أي فأحاطت التقوى به لأنها إذا أحاطت بأوله أحاطت بآخره؛ ولما كان التأسيس قد تطول مدة أيامه فيكون أوله مخالفاً لآخره، قال:
﴿من أول يوم﴾ أي من أيام تأسيسه، وفيه إشارة إلى ما تقدم من احتمال أن يريد أحد من أهل الإخلاص أن يتخذه مصلى، فبين أنه لايصلح لذلك لأن تأسيسه كان لما هو مباعد له
﴿أحق أن تقوم فيه﴾ أي بالصلاة والوعظ وغيره من مسجد لم يقصد به التقوى على التقدير فرض محال إلا في ثاني الحال.
ولما مدحه مدح أهله بقوله:
﴿فيه رجال﴾ أي لهم كمال الرجولية
﴿يحبون أن يتطهروا﴾ أي في أبدانهم وقلوبهم كمال الطهارة - بما أشار إليه الإظهار، فهم دائماً في جهاد أنفسهم في ذلك فأحبهم الله
19
﴿والله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿يحب﴾ أي يفعل ما يفعل المحب من الإكرام بالفضل والإحسان، ولإثبات ما أفهم الاجتهاد حصل الغنى عن إظهار تاء التفعل أو للندب إلى الطهارة ولو على أدنى الوجوه المجزئة فقال:
﴿المطهرين*﴾ أي قاطبة منهم ومن غيرهم.
20
ولما علم من هذا بطريق الإشارة والتلويح أن التأسيس مثل ابتداء خلق الحيوان، فمن جبل من أول مرة جبلة شر لا يصلح للخير أبداً ولا يقبله كما قال تعالى
﴿ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون﴾ [الأنفال: ٢٣] ذكره على سبيل التصريح فسبب عما مضى قوله ممثلاً الباطل ببناء على حرف واد واه جداً على شفير جهنم:
﴿أفمن أسس بنيانه﴾ أي كما أشرت إليه في المسجد المحثوث بالإقبال عليه
﴿على تقوى من الله﴾ أي الملك الأعلى
﴿ورضوان﴾ فكان كمن بنى بنيانه على جبل لا تهدمه الأمطار ولا تؤثر فيه السيول
﴿خير أم من أسس بنيانه﴾ على فسق وفجور وعدم اكتراث بالأمور فكان كمن بنى بنيانه
﴿على شفا﴾ أي حرف، ومنه الشفه
﴿جرف﴾ أي مكان جفرة السيل وجرفه فصار مشرفاً على السقوط، ولذلك قال:
﴿هار﴾ أي هائر، من هار الجرف - إذا أشرف لتخريق السيول على السقوط
﴿فانهار﴾ أي فكان بناؤه لذلك سبباً لأنه سقط سقوطاً لا تماسك معه
﴿به﴾ أي وهو فيه آمناً من سقوطه بقلة عقله وسفاهة رأيه
﴿في نار جهنم﴾
20
فالجواب: لا شك الأول خير بل، لا خير في الثاني أصلاً، والعجب كل العجب من كونه بنى هذا البناء هكذا، فأجيب بأنه لا عجب لأن الأمر بيد الله، لا مفر من قضائه، وهو قد هدى الأول إلى ما فيه صلاحه، ولم يهد الثاني لما علم فيه من عدم قابلية الخير
﴿والله﴾ الذي له صفات الكمال
﴿لا يهدي القوم﴾ أي الذين لهم قوة المحاولة لما يريدون
﴿الظالمين*﴾ أي المطبوعين على ظلام البصائر، فهم لا يكفرون في شيء إلا جاء في غير موضعه وعلى غير نظام كخطوات الماشي في الظلام، وقد علم أن الآية من قبيل الاحتباك: أثبت أولاً التقوى لأن أهل الإسلام أحق بها، فدلت على حذف ضدها ثانياً، وأثبت ثانياً ضعف البناء حساً لأن مسجد الضرار أولى به، فدل على حذف ضده أولاً، فذكر النهاية المعقولة لأهلها والبداية المحسوسة للناظرين لها؛ وروي عن جابر رضي الله عنه قال: رأيت الدخان من مسجد الضرار؛ وحكي عن خلف بن يسار أنه رأى فيه حجراً يخرج منه الدخان في أول دولة بني العباس.
ولما كان ما تقدم غير قاطع في إخرابه لما ثبت للمساجد من الحرمة، استأنف الإخبار عن أنه لا يعد في عداد المساجد بوجه، وإنما هو في عداد بيوت الأصنام فهو واجب الإعدام فقال:
﴿لا يزال بنيانهم﴾
21
أي نفس المبنى وهو المسجد
﴿الذي بنوا ريبة﴾ أي شكاً ونفاقاً
﴿في قلوبهم﴾ كما أن بيوت الأصنام كذلك لأهلها، فكان ذلك حثاً على إخرابه ومحوه وقطع أثره. والمعنى أنه جامع لهم على الريبة في كل زمان يمكن أن يكون
﴿إلا أن﴾ ولما كان القطع محصلاً للمقصود من غير نظر إلى قاطع معين، قال بانياً للمفعول:
﴿تقطع قلوبهم﴾ أي إلا زمان يوجد فيه القطع البليغ الكثير لقلوبهم وعزائمهم ويباعد بينهم ويفرق شملهم بإخراجه، وقراءة يعقوب ب
«إلى» الجارة واضحة في المراد، أو يكون المراد أنه لايزال حاملاً لهم على التصميم على النفاق إلى أن يموتوا، فهو كناية عن عدم توبتهم.
ولما كان التقدير: فالله عليم بما أخبركم به فلا تشكوا فيه، عطف عليه تعميماً للحكم وتعظيماً للأمر قوله:
﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بكل شيء
﴿عليم﴾ أي بالغ العلم بكل معلوم
﴿حكيم*﴾ فهو يتقن ما يأمر به.
ولما تقدم الإنكار على المتثاقلين عن النفر في سبيل الله في قوله تعالى
﴿ما لكم إذا قيل لكم انفروا﴾ [التوبة: ٣٨] ثم الجزم بالأمر بالجهاد بالنفس والمال في قوله
﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ [التوبة: ٤١] وكان أمره تعالى كافياً للمؤمن الذي صدق إيمانه بالإسلام في امتثاله لذلك في منشطه ومكرهه، وكان كثير منهم قد فعلوا بتثاقلهم ما يقدح في
22
إيمانهم طعماً في ستره بمعاذيرهم وإيمانهم، اقتضى المقام تبكيت المتثاقلين وتأنيب المنافقين على وجه مهتك لأستارهم مكشف لأسرارهم، فلما استوفى تعالى في ذلك أقسامهم، ونكس ألويتهم وأعلامهم، وختمهم بهذه الطائفة التي ظهر فيها امتثاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقوله تعالى
﴿جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم﴾ بأن هدّ مسجدهم وحرقة بالنار وأزال بنيانه وفرقة، وقدّ أديمه عن جديد الأرض ومزقه، أتبع ذلك سبحانه بتذكير المؤمنين ما أمرهم به في قوله تعالى
﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر﴾ وقوله
﴿انفروا خفافاً وثقالاًً﴾ ليفعلوا فيه ما فعله رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما أمر به، فساق مساق الجواب لسؤال من كأنه قال: لقد طال المدى وعظم الخطب في هذه السورة في إبانة الفضائح وهتك السرائر وإظهار القبائح، فلم فعل ذلك وقد جرت عادته بالأمر بالستر وأخذ العفو؟ قوله:
﴿إن الله﴾ أي الملك الذي لا ملك في الحقيقة غيره ولا يخشى إلا عذابه ولا يرجى إلا خيره
﴿اشترى﴾ أي بعهود أكيدة ومواثيق غليظة شديدة، ولذلك عبر بما يدل على اللجاج فيها فقال:
﴿من المؤمنين﴾ أي بالله وما جاء من عنده، وقدم النفس إشارة إلى المبايعة سابقة على اكتساب المال فقال مقدماً للأعز:
﴿أنفسهم﴾ أي التي تفرد بخلقها
﴿وأموالهم﴾ أي التي تفرد برزقها وهو يملكها دونهم.
23
ولما ذكر المبيع أتبعه الثمن فقال:
﴿بأن لهم الجنة﴾ أي خاصة بهم مقصورة عليهم، لا يكون لغير مؤمن، فميزهم حتى يقابل كل بما يستحقه، فكأنه قيل: اشترى منهم ذلك بماذا؟ فقيل:
﴿يقاتلون في سبيل الله﴾ أي الملك الأعلى بسبب دينه الذي لا يرضي غيره، قتالاً يكون الدين محيطاً به وظرفاً، فلا يكون فيه شائبة لغيره؛ ثم سبب عن ذلك ما هو حقيق به، فقال:
﴿فيقتلون ويقتلون﴾ أعم من يكون ذلك بالقوة أو بالفعل، فيخصهم بالجنة كما وعدهم، وقراءة حمزة والكسائي بتقديم المبني للمفعول أمدح، لأن من طلب الموت - لا يقف له خصمه فيكون المعنى: فطلبوا أن يكونوا مقتولين فقتلوا أقرانهم، ويجوز أن يكون النظر إلى المجموع فيكون المعنى أنهم يقاتلون بعد رؤية مصارع أصحابهم من غير أن يوهنهم ذلك، وعن بعض الأعراب أنه لما سمع هذه الاية قال: بيع والله مربح! لا نقيل ولا نستقيل، فخرج إلى الغزو فاستشهد.
ولما كان القتل لكونه سبباً للجنة بشارة ووعداً، أكد ذلك بقوله:
﴿وعداً﴾ وزاده بحرف الإيجاب فقال:
﴿عليه﴾ وأتم التأكيد بقوله:
﴿حقاً﴾ ولما أكد هذه المبايعة الكريمة هذه التأكيدات العظيمة، زاد ذلك بذكره في جميع الكتب القديمة فقال:
﴿في التوراة﴾
24
كتاب موسى عليه السلام
﴿والإنجيل﴾ كتاب عيسى عليه السلام
﴿والقرآن﴾ أي الكتاب الجامع لكل ما قبله ولكل خير، وهؤلاء المذكورون في هذه السورة كلهم ممن ادعى الإيمان وارتدى به حلل الأمان، ثم إنهم فعلوا بتخلفهم عن الإقباض وتوقفهم عن الإسراع والإيقاض وغير ذلك من أقوالهم ومساوىء أفعالهم فعل الكاذب في دعواه أو الشاك أعم من أن يكون كذب بالآخرة المشتملة على الجنة أو يكون شك في وعد الله بإيراثهم إياها أو بتخصيصهم بها، وجوز أن يدخلها غيرهم وطمع أن يكون هو ممن يدخلها مع التكذيب، والله تعالى منزه عن جميع ذلك وهو وفي بعهده
﴿ومن﴾ أي وعد بذلك والحال أنه أوفى المعاهدين فهو مقول فيه على طريق الاستفهام الإنكاري: من
﴿أوفى بعهده من الله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال لأن الإخلاف لا يقدم عليه الكرام من الناس فكيف بخالقهم الذي له الغنى المطلق.
ولما كان ذلك سبباً للتبشير، لأنه لا ترغيب في الجهاد أحسن منه، قال مهنئاً لهم:
﴿فاستبشروا﴾ أي فأوجدوا في نفوسكم غاية البشر يا معاشر المجاهدين ولما ذكره في ابتداء العقد يدل على التأكيد، ذكره في آخر بلفظ يدل على السعة إشارة إلى سعة الجزاء فقال:
﴿ببيعكم الذي بايعتم﴾
25
أي أوقعتم المبايعة لله
﴿به﴾ فإنه موفيكم لا محالة فذلك هو الأجر الكريم
﴿وذلك﴾ أي إيراثكم الجنة وتخصيصكم بها
﴿هو﴾ أي خاصة لا غيره
﴿الفوز العظيم*﴾ فالحاصل أن هذه الآية واقعة موقع التعليل للأمر بالنفر بالنفس والمال.
26
ولما ثبتت المعاقدة وأحكامها، وصف المعاقدين على طريق المدح للحث على أوصافهم فقال:
﴿التآئبون﴾ مبتدئاً أوصافهم بالتوبة التي هي أساس العمل الصالح، ثم ابتدأ المؤسس بمطلق العبادة الشاملة لجميع أنواع الدين من العلم وغيره فقال:
﴿العابدون﴾ أي الذين أقبلوا على العبادة فأخلصوها لله؛ ولما كان التزام الدين لا يعرف إلا بالإقرار باللسان، أتبع ذلك الحمد الذي تدور مادته على بلوغ الغاية الذي من جملته الثناء اللساني بالجميل الشامل للتوحيد وغيره فقال:
﴿الحامدون﴾ أي المثنون عليه سبحانه ثناء عظيماً، تطابقت عليه ألسنتهم وقلوبهم فتبعته آثاره؛ ولما كان الإقرار باللسان لا يقبل إلا عند مطابقة القلب، تلاه بالسياحة التي تدور بكل ترتيب على الاتساع الذي منه إصلاح القلب ليتسع للتجرد عن ضيق المألوفات إلى فضاء الحضرات الإلهيات فقال:
﴿السائحون﴾ ولما كانت الصلاة نتيجة ذلك لكونها جامعة لعمل القلب واللسان وغيرهما من الأركان، وهي أعظم موصل إلى بساط الأنس في حضرات القدس وأعلى مجرد عن الوقوف مع المألوف. وكان أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود، وكان جميع
26
أشكال الصلاة موافقاً للعادة إلا الركوع والسجود، أشار إليها بقوله مخصصاً لها بالذكر تنبيهاً على أن المراد من الصلاة نهاية الخضوع:
﴿الراكعون﴾ فبين أن تمام هذه البشرى لهذه الأمة أن صلاة غيرهم لا ركوع فيها، وأتمها بقوله:
﴿الساجدون﴾ ولما كان الناصح لنفسه بتهذيب لسانه وقلبه وجميع جوارحه لا يقبل إلا إذا بذل الجهد في نصيحة غيره كما صرح به مثال السفر في السفينة ليحصل المقصود من الدين وهو جمع الكل على الله المقتضي للتعاضد والتناصر الموجب لدوام العبادة والنصرة وبذلك يتحقق التجرد عن كل مألوف مجانس وغير مجانس، أتبع ذلك قوله:
﴿الآمرون بالمعروف﴾ أي السنة.
ولما كان الدين متيناً فلن يشاده أحد إلا غلبه، كان المراد من المأمورات مسماها دون تمامها ومنتهاها
«إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» والمراد من المنهيات تركها كلها، ومن الحدود الوقوف عندها من غير مجاوزة
«وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» رواه البخاري في الاعتصام من صحيحه ومسلم ايضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، وكانت العرب - كما تقدم في البقرة عند قوله تعالى
﴿والصلاة الوسطى﴾ [البقرة: ٢٣٨] وفي آل عمران عند قوله
﴿الصابرين والصادقين﴾ [آل عمران: ١٧] عن الأستاذ أبي الحسن الحرالي - إذا أتبعت بعض الصفات بعضاً من غير عطف علم أنها غير تامة، فإذا عطفتها أردت التمكن فيها والعراقة والتمام، فأعلم سبحانه أن المراد
27
فيما تقدم من الأوصاف الإتيان بما أمكن منها، فأتى بها اتباعاً دون عطف لذلك، وأشار إلى أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوقوف عند الحدود لا يقنع منه إلا بالتمام لأن المقصر في شيء من ذلك إما راض بهدم الدين وإما هادم بنفسه، فيجب التجرد التام فيه لأن النهي أصعب أقسام العبادة لأنه متعلق بالغير وهو مثير للغضب موجب للحمية وظهور الخصومة، فربما كان عنه ضرب وقتل، فلذلك عطفها ولم يتبعها فقال:
﴿والناهون﴾ أي بغاية الجد
﴿عن المنكر﴾ أي البدعة.
ولما كان فاعل الخير لا ينفعه فعله إلا باستمراره عليه إلى الموت أتبعه قوله:
﴿والحافظون﴾ أي بغاية العزم والقوة
﴿لحدود الله﴾ أي الملك الأعظم التي حدها في هذا الشرع القيم فلم يتجاوزوا شيئاً منها، فختم بما به بدأ مع قيد الدوام بالرعي والقوة، والحاصل أن الوصف الأول للتجرد عن ربقة مألوف خاص وهو شرك المعصية بشركه أو غيره، والثاني للتجرد عن قيود العادات إلى قضاء العبادات، والثالث لبلوغ الغاية في تهذيب الظاهر. والرابع للتوسع إلى التجرد عن قيود الباطن، والخامس والسادس للجمع بين كمال الباطن والظاهر، والسابع للسير إلى إفاضة ذلك على الغير، والثامن للدوام على تلك الحدود بترك جميع القيود. فمقصود الآية العروج من الحضيض الجسماني إلى الشرف الروحاني؛ ثم أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبشير المتخلق بهذه الأوصاف عاطفاً لأمره به
28
على محذوف تقديره - والله أعلم: فأنذر من تخلى منها بكل ما يسوءه بعد سجنه في دار الشقاوة فإنه كافر وبشرهم، أي هؤلاء الموصوفين، هكذا كان الأصل الإضمار، ولكنه أظهر ختاماً بما به بدأ وتعليقاً يالوصف وتعميماً فقال:
﴿وبشر المؤمنين*﴾ أي المتخلقين بها بكل ما يسرهم بعد تخصيصهم بدار السعادة، وفي ختم الآيتين بالبشارة تارة من الخالق وتارة من أكمل الخلائق أعظم مزية للمؤمنين، وفي جعل الأولى من الله أعظم ترغيب في الجهاد وأعلى حث على خوض غمرات الجلاد، وفي ابتداء الأيتين بالوصف المعشر بالرسوخ في الإيمان الذي هو الوصف المتمم للعشر وختمهما بمثله إشارة إلى أن هذه مائدة لا يخلس عليها طفيلي، وأن من عدا الراسخين في درجة الإهمال لا كلام معهم ولا التفات بوجه إليهم.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر بالبراءة من أحياء المشركين وجاء الأمر أيضاً بالبراءة من أموات المنافقين بالنهي عن الدعاء لهم، جاءت هذه الآية مشيرة إلى البراءة من كل مشرك فوقع التصريح بعدها بما أشارت إليه، وذلك أنه لما ثبت بهذه الآية في تقديم الجار أن المبايعة وقعت على تخصيص الجنة بالمؤمنين وأنه تعالى أوفى من عاهد، ثبت أنه لا يجوز أن يدخل غيرهم الجنة وأن غيرهم أصحاب النار، لأنه قد علم أن الآخرة داران: جنة ونار، ولما ثبت هذا كله علم قطعاً علم النتيجة من المقدمات الصحيحة أنه
﴿ما كان﴾ أي في نفس الأمر
29
﴿للنبي﴾ أي الذي لا ينطق إلا بما عنده فيه بيان من الله
﴿والذين آمنوا﴾ أي أقروا بأنهم صدقوا بدعوته فلا يفعلون إلا ما عندهم منه علم
﴿أن يستغفروا﴾ أي يطلبوا المغفرة ويدعوا بها
﴿للمشركين﴾ أي الراسخين في الإشراك في عبادة ربهم
﴿ولو كانوا﴾ أي المشركين
﴿أولي قربى﴾ أي للذين آمنوا
﴿من بعد ما تبين لهم﴾ أي بموتهم على الشرك وإنزال هذه الآية للختم بالتخصيص بالجنة
﴿أنهم أصحاب الجحيم*﴾ أي لا أهلية لهم للجنة.
فإن الاستغفار معناه محو الذنوب حتى ينجو صاحبها من النار ويدخل الجنة وما ينبغي لهم أن يكون لهم إليهم التفات فإن ذلك ربما جر إلى ملاينة تفتر عن القتال الواقع عليه المبايعة، فما ينبغي إلا محض المقاطعة والمخاشنة والمنازعة. وتقييد النهي بالتبيين يدل على جواز الدعاء للحي فإن القصد بالاستغفار الإقبال به إلى الإيمان الموجب للغفران. ولما أنكر أن يكون لهم ذلك. وكان الخليل عليه السلام المأمور بالاقتداء به واللزوم بملته قد استغفر لأبيه، بين أنه كان أيضاً قبل العلم بما في نفس الأمر من استحقاقه للتأبيد في النار، فقال دالاً بواو العطف على أن التقدير: فما استغفر لهم بعد العلم أحد من المؤمنين:
﴿وما كان استغفار إبراهيم﴾ أي خليل الله
﴿لأبيه﴾ أي بعد أن خالفه في الدين
﴿إلا عن موعدة﴾ أي وهي قوله
﴿لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء﴾ [الممتحنة: ٤] وأكد صدور
30
الوعد بقوله:
﴿وَعَدَها إياه﴾ أي الخليل لأبيه قبل أن يعلم أنه أبدى الشقاوة، وقيل: الضمير لأبيه، كان وعده أنه يسلم فاستغفر له ظناً منه أنه صدق في وعده فأسلم، والذي يدل على أنه كان قبل علمه بذلك قوله:
﴿فلما تبين له﴾ أي بياناً شافياً قاطعاً
﴿أنه عدو لله﴾ أي الملك الأعلى مؤبد العداوة له بموته على الكفر أو بالوحي بأنه يموت عليه
﴿تبرأ﴾ أي أكره نفسه على البراءة
﴿منه﴾ ثم علل ما أفهمته صيغة التفعل من المعالجة بقوله:
﴿إن إبراهيم لأواه﴾ أي شديد الرقة الموجبة للتأوه من خوف الله ومن الشفقة على العباد؛ قال الزجاج: والتأوه أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء
﴿حليم*﴾ أي شديد التحمل والإغضاء عن المؤذى له، هكذا خلقه في حد ذاته فكيف في حق أبيه ولو قال له
﴿لأرجمنك واهجرني﴾ [مريم: ٤٦] وأضعاف ذلك؛ قال الإمام أبو محمد إسحاق بن إبراهيم بن إسماعيل البستي القاضي في تفسيره: حدثنا حرملة حدثنا ابن وهب أخبرني ابن جريح عن أيوب بن هانىء عن مسروق بن الأجدع عن عبد الله مسعود رضي الله عنه «أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يوماً وخرجنا معه حتى انتهى إلى المقابر فأمرنا فجلسنا ثم تخطى القبور حتى انتهى إلى قبر منها فجلس إليه فناجاه طويلاً ثم ارتفع نحيب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باكياً فبكينا لبكاء رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أن
31
النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل إلينا فتلقاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ما الذي أبكاك يا نبي الله فقد فقد أبكانا وأفزعنا، فأخذ بيد عمر رضي الله عنه ثم أقبل إلينا فأتيناه فقال: أفزعكم بكائي؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: إن القبر الذي رأيتموني أناجي قبر آمنة بنت وهب وإني استأذنت ربي في الاستغفار لها فلم ياذن لي ونزل عليّ
﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى﴾ حتى ختم الآية
﴿وما كان استغفار إبراهيم لأبية إلا عن موعدة وعدها إياه﴾ فأخذني ما يأخذ الولد من الرقة فذلك الذي أبكاني»
وهذا سند حسن، ولمسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه في الجنائز عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: زار النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبر أمه فبكى وأبكى من حوله وقال:
«استأذنت ربي في أن أستغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت» وللبخاري في التفسير وغيره ابن المسيب عن أبيه رضي الله عنه قال: «لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أي عم! قل: لا إله إلا الله، أُحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب!
32
أترغب عن ملة عبد المطلب؟ - وفي رواية: فكان آخر ما كلمهم أن قال: هو على ملة عبد المطلب - فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأستغفرن لك ما لم أنه عنك، فنزلت
﴿ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين﴾ وأنزل الله في أبي طالب
﴿إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء﴾ [القصص: ٥٦] » ولعله استمر يستغفر له ما بين موته وغزوة تبوك حتى نزلت، ورُوي في سبب نزولها غير هذا أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تتعدد الأسباب.
33
ولما كان الاستغفار للمشركين أمراً عظيماً، وكان فيه نوع ولاية لهم، أظهر سبحانه للمؤمنين ما منّ عليهم به من عدم المؤاخذة بالإقدام عليه تهويلاً لذلك وقطعاً لما بين أوج الإيمان وحضيض الكفران بكل اعتبار فقال تعالى:
﴿وما كان الله﴾ أي الذي له صفات الكمال؛ ولما كان الضلال سبب الهلاك، وكان من شرع شريعة ثم عاقب ملتزمها من غير بيان كمن دل على طريق غير موصل فهلك صاحبه فكان الدال بذلك مضلاً، قال:
﴿ليضل قوماً﴾ أي يفعل بهم ما يفعل بالضالين من العقوبة لأجل ارتكابهم لما ينهي عنه بناسخ نسخه
﴿بعد إذ هداهم﴾ أي بشريعة نصبها لهم
﴿حتى يبين لهم﴾ أي بياناً شافياً لداء العي
﴿ما يتقون﴾ أي مما هو جدير بأن يحذروه ويتجنبوه خوفاً من غائلته بناسخ ينسخ حال الإباحة التي كانوا عليها.
33
ولما كان الذي يأمر بسلوك طريق ثم يترك فيها ما يحتاج إلى البيان إنما يؤتى عليه من الجهل أو النسيان. نفي ذلك سبحانه عن نفسه فقال معللاً لعدم الإضلال:
﴿إن الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال
﴿بكل شيء عليم*﴾ أي بالغ العلم فلا يتطرق إليه خفاء بوجه من الوجوه في حين من الأحيان فهو يبين لكم جميع ما تأتون وتذرون وما يتوقف عليه الهدى، وما تركه فهو إنما يتركه رحمة لكم
﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾ [طه: ٥٢] فلا تبحثوا عنه؛ ثم علل علمه بكل شيء بأن قدرته شاملة فهو قادر على نصرة من يريد والانتقام ممن يريد، فلا ينبغي لأحد أن يحب إلا فيه ولا يبغض إلا فيه ولا يهتم بعداوة أحد ممن عاداه فقال:
﴿إن الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿له﴾ أي بكل اعتبار تعدونه من اعتبارات الكمال
﴿ملك السماوات والأرض﴾ فلا يخفى عليه شيء فهو خبير بكل ما ينفعكم ويضركم وهو وليكم، يبينه لكم، ومن كان له جميع الملك كان بحيث لا يستعصي على أمره شيء: علم ولا غيره، لأن العلم من أعظم القوى والقدر، ولا يكون الملك إلا عالماً قادراً؛ ثم علل قدرته وعلمه بما يشاهد متكرراً من فعله في الحيوان والنبات وغير ذلك فقال:
﴿يحيي ويميت﴾ أي بكل معنى فهو الذي أحياكم وغيركم الحياة الجسمانية وخصم أنتم بالحياة الإيمانية، وكما جعل غيركم بعضهم أولياء بعض وجمعهم كلهم على ولاية عدوهم الشيطان جعلكم
34
أنتم أولياء ربكم الرحمن فهو وليكم وناصركم
﴿وما﴾ أي والحال أنه ما
﴿لكم﴾ ولما كان ليس لأحد أن يجوز كل ما دون رتبته سبحانه، أثبت الجار فقال.
﴿من دون الله﴾ أي الملك الذي له الأمر كله، وأغرق في النفي بقوله:
﴿من ولي﴾ أي قريب يفعل معكم من الحياطة والنصح ما يفعل القريب من النصرة وغيره.
ولما كان الإنسان قد ينصره غير قريبه قال.
﴿ولا نصير*﴾ أي فلا توالوا إلا من كان من حزبه وأهل حبه وقربه، وفيه تهديد لمن أقدم على ما ينبغي أن يتقي لا سيما الملاينة لأعداء الله من المساترين والمصارحين، فإن غاية ذلك موالاتهم وهي لا تغني من الله شيئاً.
ولما أشار إلى أنه هو وليهم أحياهم بروح منه مبين لهم ما يصلحهم وأنه لا ولي لهم غيره، أقام الدليل على ذلك بقوله:
﴿لقد تاب الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام
﴿على النبي﴾ أي الذي لا يزال عنده من الله خبر عظيم يرشده إلى ما يؤذن بتقوية حياته برفع درجاته، فما من مقام يرقيه إليه إلا رأى أنه لمزيد علوه وتقربه للمقام الذي كان دونه، فهو في كل لمحة في ارتقاء من كامل إلى أكمل إلى ما لا نهاية له.
ولما أخبر تعالى بعلو رتبة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بترقيته في رتب الكمالات والأكمليات إلى ما لا نهاية له على وجه هو في غاية البعث لكل
35
مؤمن على المبادرة إلى التوبة، أكد ذلك بقوله:
﴿والمهاجرين والأنصار﴾ بمحو هفواتهم ورفع درجاتهم
﴿الذين اتبعوه﴾ أي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿في ساعة العسرة﴾ أي أزمنة عزوة تبوك، كانوا في عسرة من الزمان بالجدب والضيقة الشديدة والحر الشديد، وعسرة من الظهر
«يعتقب العشرة» على بعير واحد. وعسرة من الزاد
«تزودوا التمر المدوّد والشعير المسوّس والإهالة الزنخة» وبلغت بهم الشدة أن اقتسم التمر اثنان، وربما مصها الجماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها؛ وسماها ساعة تهويناً لأوقات الكروب وتشجيعاً على مواقعة المكاره فإن أمدها يسير وأجرها عظيم خطير، فكانت حالهم باتباعه في هذه الغزوة أكمل من حالهم قبلها، وأشار سبحانه إلى تفاوتهم في الثبات على مقامات عالية، ترقوا بالتوبة إلى أعلى منها، وفي قبول وساوس أبعدتهم التوبة عن قبولها بقوله:
﴿من بعد ما كاد﴾ أي قرب قرباً عظيماً
﴿يزيغ﴾ أي تزول عن أماكنها الموجبة لصلاحها، وأشار ب
«من» إلى تقارب ما بين كيدودة الزيغ والتدارك بالتوبة. ولما كان المقام للزلازل،
36
ناسب التعبير بما منه الانقلاب والفرقة فقال:
﴿قلوب فريق﴾ أي هم بحيث تحصل منهم الفرقة لما هناك من الزلازل المميلة
﴿منهم﴾ أي من عظيم ما نالهم من الشدائد فتميل لذلك عن الحق كأبي خيثمة ومن أحب الراحة وهاب السفر في ذلك الحر الشديد إلى بني الأصفر الملوك الصيد الأبطال الصناديد، وهم ملء الأرض كثرة وقدر الحصى عدة ومثل الجبال شدة، ثم عزم الله له فلحق برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فرجع سبحانه بالجميع إلى ما كانوا عليه قبيل مقاربة الزيغ من مباعدته، ولما صاروا كمن لم يقارب الزيغ.
أعلاهم إلى مقام آخر عبرعن عظمته بأداة التراخي فقال:
﴿ثم تاب عليهم﴾ أي كلهم تكريراً للرفعة، أو على من كاد يزيغ بالثبات على مباعدة الزلات وبالترقي في أعالي الدرجات إلى الممات؛ ونقل أبو حيان عن الحسن أن زيغها همها بالانصراف لما لقيت من المشقة، قال وقيل: ساء ظنها بما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود -انتهى. ويجوز أن يكون عبر ب
﴿ثم﴾ لوصولهم إلى حالة يبعد معها الثبات فضلاً عن مباعدة مواقع الزلات فثبتها حتى عادت كالحديد من غير سبب ظاهر من
«جيش أو غيره» فثبت بذلك أنه مالك الملك متمكن
37
من فعل كل ما يريده وأنه لا ولي لهم سواه: ثم علل لطفه بهم بقوله:
﴿إنه بهم رؤوف رحيم*﴾ والرأفة: شدة الرحمة، فقدم الأبلغ فيقال فيه ما قيل في
﴿الرحمن الرحيم﴾ فالمعنى أنه يرحمهم أعلى الرحمة بإسباغ جلائل النعم ودفع جلائل النقم، ويرحمهم أيضاً بإسباغ دقائق النعم ودفع دقائق النقم، وقيل: الرأفة: إزالة الضر، والرحمة: إيصال النفع، ومادة رأف تدور مع السعة على ما أُشير إليه في سورة سبحان على شدة الوصلة. فالرأفة - كما قال الحرالي في البقرة - عطف العاطف على من يجد عنده منه وصلة، فهي رحمة ذي الصلة بالراحم، والرحمة تعم من لا صلة له بالراحم - انتهى. فتكون الرأفة حينئذ للثابتين والرحمة لمن قارب الزيغ. فيصير الثابت مرحوماً مرتين لأنه منظور إليه بالصفتين، وتقدم عند الحزبين من البقرة ما ينفع هنا.
38
ولما صرح بالتوبة على من قارب الزيغ وخلط معهم أهل الثبات إشارة إلى أن كل أحد فقير إلى الغني الكبير وليكون اقترانهم بأهل المعالي، وجعلهم في حيزهم تشريفاً لهم وتأنيساً لئلا يشتد إنكارهم، أتبعه التوبة على من وقع منه الزيغ فقال غير مصرح بالزيغ تعليماً للأدب وجبراً للخواطر المنكسرة:
﴿وعلى﴾ أي ولقد
38
تاب الله على
﴿الثلاثة الذين﴾.
ولما كان الخلع للقلوب مطلق التخليف، بني للمفعول قوله:
﴿خلفوا﴾ أي خلفهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالهجران ونهى الناس عن كلامهم، وأخر الحكم فيهم ليأتي أمر الله في بيان أمرهم واستمر تخليفهم
﴿حتى إذا ضاقت﴾ أشار إلى عظيم الأمر بأداة الاستعلاء فقال:
﴿عليهم الأرض﴾ أي كلها
﴿بما رحبت﴾ أي مع شدة اتساعها، أي ضاق عليهم فسيحها ووسعها.
ولما كان هذا قد يراد به الحقيقة، وكان ضيق المحل قد لا يستلزم ضيق الصدر، أتبعه الدلالة على أن المراد المجاز فقال:
﴿وضاقت عليهم﴾ بالهم المزعج والغم المقلق
﴿أنفسهم﴾ أي من شدة ما لاقوا من الهجران حتى بالكلام حتى برد السلام؛ ولما كان ذلك لا يقتضي التوبة إلا بالمراقبة، أتبعه ذلك للتخلف بها قوله:
﴿وظنوا﴾ أي أيقنوا، ولعله عبر بالظن إيذان بأنهم لشدة الحيرة كانت قلوبهم لا تستقر على حال، فكان يقينهم لشدة الخواطر كأنه ظن، أو يقال - وهو حسن -: إن التعبير به عن يقين المخلصين إشارة إلى أن أعلى اليقين في التوحيد لا يبلغ الحقيقة على ما هي عليه أن لا يقدر أحد أن يُقدر لله حق قدره - كما قال صدق الخلق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا من النفائس فاستعمله في أمثاله
﴿أن لا ملجأ﴾ أي مهرب ومفزع
﴿من الله﴾
39
أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿إلا إليه﴾ أي بما يرضيه، وهو مثل لتحيرهم في أمرهم، وجواب
﴿إذا﴾ محذوف دل عليه صدر الكلام تقديره: تداركهم بالتوبة فردهم إلى ما كانوا عليه قبل مواقعة الذنب.
ولما كان ما عملوه من التخلف عن أمر الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عظيماً بمجرد المخالفة ثم يترك المواساة ثم بالرغبة عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بأمور عظيمة شديدة القبح وخيمة فكان يبعد معه الزيادة عن رتبة التوبة، أعلم سبحانه أنه رقاهم في رتب الكمال بأن جعل ذلك سبباً لتطهيرهم من جميع الأدناس وتنقيتهم من سائر الأردان المقتضي لمزيد القرب بالعروج في مصاعد المعارف - كما أشار إليه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكعب رضي الله عنه
«أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك»، أتبع ذلك سبحانه الإعلام به بقوله - مشيراً إلى ما بعده لولا فضل الله - بأداة الاستبعاد:
﴿ثم تاب عليهم﴾ أي رجع بهم بعد التوبة إلى مقام من مقامات سلامة الفطرة الذي هو أحسن تقويم يعلو لعلوه بالنسبة إلى ما دونه، توبة
﴿ليتوبوا﴾ أي ليرجعوا إلى ما تقتضيه الفطرة الأولى من الثبات على ما كانوا عليه من الإحسان في الدين والتخلق بإخلاق السابقين، ولعله عبر بالظن موضع العلم إشارة إلى أنه يكفي في الخوف من جلاله للانقطاع إليه مجرد الظن بأنه لا سبب إليه إلا منه لأنه محيط بكل شيء لا يعجزه شيء، ويمكن أن يكون التعبير -
﴿ثم﴾ إشارة إلى عظيم ما قاسوا من الأهوال وما ترقوا إليه من مراتب الخوف، وامتنان عليهم بالتوبة
40
من عظيم ما ارتكبوا، وإنما خصوا عن رفقائهم بأن أرجئوا لأمر الله لعلو مقامهم بما لهم من السابقة ورسوخ القدم في الإسلام، فالمخالفة اليسيرة منهم أعظم من الكثير من غيرهم لأنهم أئمة الهدى ومصابيح الظلم، ومن هذا البارق - حسنات الأبرار سيئات المقربين - ثم علل التوبة بأمر يعم غيرهم ترغيباً فقال معبراً بما يشير مع أعلى مقامهم إلى نزوله عن مقام من قبلهم:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿هو﴾ أي وحده
﴿التواب﴾ أي البليغ التوبة على من تاب وإن عظم جرمه وتكررت توبته لتكرر ذنوبه
﴿الرحيم*﴾ أي المكرم لمن أراد من عباده بأن يحفظه على ما يرتضيه فلا يزيغ، ويبالغ في الإنعام عليه.
ولما كان الذي نالوا به الإقبال من مولاهم عليهم - مما وصفهم به من الضيق وما معه - هو التقوى والصدق في الإيمان كما كان ما يجده الإنسان في نفسه مما الموت عنده والقذف في النار أحب إليه من التلفظ به صريح الإيمان بشهادة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رغب سبحانه في الصدق فقال:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادعوا ذلك
﴿اتقوا الله﴾ أي خافوا سطوة من له العظمة الكاملة تصديقاً لدعواكم فلا تفعلوا إلا ما يرضيه
﴿وكونوا﴾ أي كوناً صادقاً بجميع الطبع والجبلة
﴿مع الصادقين*﴾ أي في كل أمر يطلب منهم، ولعله أخرج الأمر مخرج العموم ليشمل
41
كل مؤمن، فمن كان مقصراً كانت آمره له باللحاق، ومن كان مسابقاً كانت حاثة له على حفظ مقام الاستباق، ولعله عبر ب
﴿مع﴾ ليشمل أدنى الدرجات، وهو الكون بالجثت، وقد روى البخاري توبة كعب أحد هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم في مواضع من صحيحه منها التفسير، وكذا رواه غيره عن كعب نفسه رضي الله عنه «أنه لم يتخلف عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة غزاها قط غير غزوتين: غزوة العسرة - يعني هذه - وغزوة بدر، وأن تخلفه ببدر إنما كان لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يندب الناس إليها ولا حثهم عليها لأنه ما خرج أولاً إلا لأجل العير، قال: فأجمعت صدق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كان قل ما يقدم من سفر سافره إلا ضحى، وكان يبدأ بالمسجد فيركع ركعتين ونهى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن كلامي وكلام صاحبي - يعني مرارة بن الربيع العمري وهلال بن أمية الواقفي - ولم ينه عن كلام أحد من المتخلفين غيرنا، فاجتنب الناس كلامنا فلبثت كذلك حتى طال عليَّ الأمر، وما من شيء أهم إلي من أن أموت فلا يصلي عليّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو يموت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأكون من الناس بتلك المنزلة فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ، فأنزل الله عز وجل توبتنا على نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين بقي الثلث الآخر من الليل ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند أم سلمة رضي الله عنها، وكانت أم سلمة
42
محسنة في شأني معنية في أمري فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ياأم سلمة! تيب على كعب، قالت: أفلا أرسل إليه فأشره؟ قال: إذن يحطمكم الناس فيمنعوكم النوم سائر الللية حتى إذا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا، وكان إذا استبشر استنار وجهه حتى كأنه قطعة من القمر، وكنا - أيها الثلاثة الذين خلفوا - خلفنا عن الأمر الذي قبل من هؤلاء الذين اعتذروا حين أنزل الله لنا التوبة، فلما ذكر الذين كذبوا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المتخلفين واعتذروا بالباطل ذكروا بشر ما ذكر به أحد، قال الله عز وجل
﴿يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم﴾ ».
ولما كان ما نالهم من الأهوال إنما نالهم بتخلفهم عن أشرف الخلق، والذي التفت بهم إلى مرابع الإقبال إنما هو الصدق، قال تعالى ناهياً بصيغة الخبر ليكون أبلغ، جامعاً إليهم من كان على مثل حالهم في مطلق التخلف:
﴿ما كان﴾ أي ما صح وما انبغى بوجه من الوجوه
﴿لأهل المدينة﴾ أي التي هي سكن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي دار الهجرة ومعدن النصرة
﴿ومن حولهم﴾ أي في جميع نواحي المدينة الشريفة
﴿من الأعراب﴾ أي من سكان البوادي الذين أقسموا بالإسلام
﴿أن يتخلفوا﴾ أي في أمر من الأمور
﴿عن رسول الله﴾
43
أي الملك الأعلى، ومن شأن المرسل إليه أن لا يبرح عن جنان الرسول لا سيما وهو رأس الصادقين الذين وقع الأمر بالكون معهم
﴿ولا يرغبوا﴾ أي وما كان لهم أن يرغبوا، ولعله قللهم بصيغة القلة بالنسبة إلى من أيده به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جنوده فقال تعالى:
﴿بأنفسهم عن نفسه﴾ أي التي هي أشرف النفوس مطلقاً بأن يصونوا نفوسهم عما باشره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بل يلقونها في المتالف دونه وصيانة لنفسه الشريفة عن أدنى الأذى، فهى كالتعليل للأمر بالتقوى أي خافوا الله وأصدقوه كما صدق هؤلاء ليتوب عليكم كما تاب عليهم فإنه لم يكن لكم التخلف فهو نهي بليغ مع تقبيح وتوبيخ وإلهاب وتهييج.
ولما علل الأمر بالتقوى، علل النهي عن التخلف بما يدل على صدق الإيمان فيصير نقيضه دالاً على نقيضه فقال:
﴿ذلك﴾ أي النهي العظيم عن التخلف في هذا الأسلوب النافي للكون
﴿بأنهم لا يصيبهم ظمأ﴾ أي عطش شديد
﴿ولا نصب﴾ أي تعب بالغ
﴿ولا مخمصة﴾ أي شدة مجاعة
﴿في سبيل الله﴾ أي طرق دين الملك الأعظم المتوصلة به إلى جهاد أعدائه، ورتبت هذه الأشياء ترتيبها في الوجود فإن مطلق الحركة يهيج الحرارة فينشأ العطش وتماديها يورث التعب، والأغلب
44
أن يكون قبل الجوع.
ولما كان المقصود من إجهاد النفس بما ذكر إرغام الكفار باقتحام أرضهم المتوصل به إلى إيمانهم بالنيل منهم، أتبع ذلك قوله:
﴿ولا يطؤون موطئاً﴾ أي وطأً أو مكاناً وطؤه
﴿يغيظ الكفار﴾ أي وطؤهم له بأرجلهم أو دوابهم
﴿ولا ينالون من عدو نيلاً﴾ أي كائناً ما كان صغيراً او كبيراً
﴿إلا كتب لهم به﴾ أي في صحائف الأعمال، بني للمفعول لأن القصد إثباته لا من معين
﴿عمل صالح﴾ أي ترتب لهم عليه أجر جزيل.
ولما كان فاعل هذه الأشياء مقدماً على المعاطب في نفسه ومحصلاً لعرض الجهاد، أشير على وجه التأكيد في جملة اسمية إلى أنه محسن، أما في حق نفسه فبإقامة الدليل بطاعته على صدق إيمانه. وأما في غيره من المؤمنين فبحمايتهم عن طمع الكافرين. وأما في حق الكفار فبحملهم على الإيمان بغاية الإمكان، فقال تعالى معللاً للمجازاة:
﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الكمال
﴿لا يضيع﴾ أي لا يترك تركه ما من شأنه الإهمال
﴿أجر المحسنين*﴾ وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً بالوصف.
45
ولما كانت المشقة بالإنفاق العائد ضرره إلى المال، ووطئ مطلق الأرض
45
الذي قد لا يلزم منه وصول إلى ما يغيظ العدو دون المشقة الحاصلة في النفس بالظمأ وما معه من فعل ما يغيظ العدو وينقصه، قدم ذلك على قوله:
﴿ولا ينفقون﴾ ولما كان القليل قد يحتقر، ابتدأ به ترغيباً في قوله:
﴿نفقة صغيرة﴾ ولما كان ربما تعنت متعنت فجعل ذكرها قيداً، قال:
﴿ولا كبيرة﴾ إعلاماً بأنه معتد به لئلا يترك، وفيه إشارة إلى آية اللمز للمطوعين في الصدقات
﴿ولا يقطعون وادياً﴾ أي من الأدوية بالسير في الجهاد، والوادي: كل منفرج بين جبال وآكام ينفذ فيه السيل، وهو في الأصل فاعل من ودى - إذا سال
﴿إلا كتب لهم﴾ أي ذلك الإنفاق والقطع، بناه للمفعول لأن القصد الحفظ بالكتابة مطلقاً
﴿ليجزيهم الله﴾ أي ذو الجلال والإكرام، أي بذلك من فضله
﴿أحسن ما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يعملون*﴾ مضاعفاً على قدر الثبات، وأكدت فاصلة الأولى دون هذه لزيادة تلك في المشقة والنفع، ولذا صرح فيها الأجر والعمل الصالح - نبه على ذلك الإمام أبو حيان. ومن هنا بل من عند
﴿إن الله اشترى﴾ شرع في عطف الآخر على الأول الذي مضمونه البراءة من المشركين والاجتهاد في قتالهم بعد انقضاء مدتهم حيث وجدوا - إلى أن قال
﴿قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله﴾ - إلى أن قال
﴿ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ ثم قال
46
﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ ثم أتبع ذلك قصص المنافقين كما أنه فعل هنا كذلك أن ختم بقوله
﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ الآية ثم أتبعها ذكر المنافقين.
ولما تواترت النواهي للمتخلفين وتواصلت الزواجر وتعاظم التبكيت والتهديد، طارت القلوب وأشفقت النفوس، فكان ذلك مظنة أن لا يتخلف بعدها أحد عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمن يقوم مقامه فيتمكن حينئذ الأعداء من الأموال والذراري والعيال، فأتبع ذلك قوله تعالى:
﴿وما كان المؤمنون﴾ أي الذين حثهم على النَّفر الرسوخ في الإيمان
﴿لينفروا كآفة﴾ أي جميعاً فإن ذلك بخل بكثير من الأغراض الصالحة، وهو تعليم لما هو الأنسب بالدين والدنيا من انقسام الناس قسمين: قسماً للجهاد، وقسماً للنفقة وحفظ الأموال والأولاد، كل ذلك بأمره عليه الصلاة والسلام والعمل بما يرضاه، ولا يخفى ذلك على المخلص، ولعل التعبير بالفعل الماضي في قوله مسبباً عما قبله:
﴿فلولا نفر﴾ ليفهم تبكيت من قصد تبكيته من المتخلفين في جميع هذه السورة بأنه كان عليهم أن ينفر مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
﴿من كل فرقة﴾ أي ناس كثير يسهل افتراقهم، قالوا: وهو اسم يقع على ثلاثة
﴿منهم طائفة﴾ أي ناس لا ينفكون حافين بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يلزمونه، قيل: والطائفة واحد واثنان، فالآية حجة على قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وكأنه عبر به للإشارة
47
إلى الحث على كثرة النافرين كما هو أصل مدلولها الأغلب فيه
﴿ليتفقهوا﴾ أي ليكلف النافرون أنفسهم الفهم منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئاً فشيئاً
﴿في الدين﴾ أي بما يسمعونه من أقواله ويرونه من جميل أفعاله ويصل إلى قلوبهم من مستنير أحواله، وهذا غاية الشرف للعلم حيث جعل غاية الملازمة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للجهاد، هذا إن كان هو صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النافر في تلك الغزاة، وإن كان غيره كان ضمير
﴿يتفقهوا﴾ للباقين معه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما كان من العلم بشارة ومنه نذارة، وكان الإنسان - لما فيه من النقصان - أحوج شيء إلى النذارة، خصها بالذكر فقال عطفاً على نحو: ليخافوا في أنفسهم فيعملوا في خلاصها:
﴿ولينذروا قومهم﴾ أي يحذروهم ما أمامهم من المخاوف إن فرطوا في جانب التقوى
﴿إذا رجعوا إليهم﴾ أي ما أنذرهموه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويبشروهم بما بشرهم به؛ ثم بين غاية العلم مشيراً إلى أن من جعل له غاية غيرها من ترفع أو افتخار فقد ضل ضلالاً كبيراً، فقال موجباً لقبول خبر من بلغهم:
﴿لعلهم﴾ أي كلهم
﴿يحذرون*﴾ أي ليكون حالهم حال أهل الخوف من الله بما حصلوا من الفقه لأنه أصل كل خير، به تنجلي القلوب فَتقبل على الخير وتعرض عن الشر، فإن الحذر تجنب الشيء لما فيه من الضرر، والمراد بالفقه هنا حفظ الكتاب والسنة وفهم معانيهما
48
من الأصول والفروع والآداب والفضائل، وقال الرماني: الفقه فهم موجبات المعاني المضمنة بها من غير تصريح بالدلالة عليها.
49
ولما علمت المقاصد وتهيأت القلوب لقبول الفوائد، وأمر بالإنذار بالفقه، وكان من الناس من لا يرجع إلا بشديد البأس، أقبل على الكل مخاطباً لهم بأدنى أسنان القلوب ليتوجه إلى الأدنى ويتناول الأعلى منه من باب الأولى فقال:
﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي ادَّعوا بألسنتهم الإيمان
﴿قاتلوا﴾ أي تصديقاً لدعواكم ذلك
﴿الذين يلونكم﴾ أي يقربون منكم
﴿من الكفار﴾ فالذين يلونهم إن لم تروا غيره أصلح لمعنى يعرض لما في ذلك من حسن الترتيب ومقتضى الحكمة ولأن الجهاد معروف وإحسان، والأقربون أولى بالمعروف، ولتبعدوا العدو عن بلادكم فيكثر صلاحهم ويقل فسادكم وتكونوا قد جمعتم بالتفقه والقتال بين الجهادين: جهاد الحجة وجهاد السيف مع الاحتراس بهذا الترتيب من أن يبقى وراءكم إذا قاتلتم من تخشون كيده.
ولما كانت الملاينة أولى بالمسالمة، والمخاشنة أولى بالمصارمة، قال:
﴿وليجدوا﴾ من الوجدان
﴿فيكم غلظة﴾ أي شدة وحمية لأن ذلك أهيب في صدورهم.
49
وأكف عن فجورهم، وحقيقة الغلطة في الأجسام، استعيرت هنا للشدة في الحرب، وهي تجمع الجراءة والصبر على القتال وشدة العدواة، فإذا فعلوا ذلك كانوا جامعين بين جهاد الحجة والسيف كما قيل:
من لا يعدله القرآن كان له | من الصغار وبيض الهند تعديل |
نبه على ذلك أبو حيان.
ولما كان التقدير: وليكن كل ذلك مع التقوى لا بسبب مال ولا جاه فإنها ملاك الأمر كله، قال منبهاً على ذلك بقوله:
﴿واعلموا أن الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿مع المتقين*﴾ فلا تخافوا أن يؤدي شيء من مصاحبتها إلى وهن فإن العبرة بمن كان الله معه.
ولما ذكر هذه السورة أي الطائفة الحاضة بصيغة
«لولا» على النفر مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الآمرة بجهاد الكفار والغلظة عليهم، وكان لا يحمل على ذلك إلا ما أشار إليه ختم الآية السالفة من التقوى بتجديد الإيمان كلما نزل شيء من القرآن، وكان قد ذكر سبحانه المخالفين لأمر الجهاد بالتخلف دون أمر الإيمان حين قال
﴿وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين﴾ التفت إلى ذلك ليذكر القسم الآخر وهو القاعد عن الإيمان فقال:
﴿وإذا﴾ وأكد بزيادة النافي تنبيهاً على فضل الإيمان
50
فقال:
﴿ما﴾.
ولما كان المنكي لهم مطلق النزول، بني للمفعول قوله:
﴿أنزلت سورة﴾ أي قطعة من القرآن، أي في معنى من المعاني
﴿فمنهم﴾ أي من المنزل إليهم
﴿من يقول﴾ أي إنكاراً واستهزاء، وهم المنافقون
﴿أيكم﴾ أي أيها العصابة المنافقة
﴿زادته هذه إيماناً﴾ إيهاماً لأنهم متصفون بأصل الإيمان، لأن الزيادة ضم الشيء إلى غيره مما يشاركه في صفته، هذا ما يظهرون تستراً، وأما حقيقة حالهم عند أمثالهم فالاستهزاء استبعاداً لكونها تزيد أحداً في حاله شيئاً، وسبب شكهم واستفهامهم أن سامعيها انقسموا إلى قسمين: مؤمنين ومنافقين، ولذلك أجاب تعالى بقوله مسبباً عن إنزالها:
﴿فأما الذين آمنوا﴾ أي أوقعوا الإيمان حقيقة لصحة أمزجة قلوبهم
﴿فزادتهم﴾ أي تلك السورة
﴿إيماناً﴾ أي بإيمانهم بها إلى ما كان لهم من الإيمان بغيرها وبتدبرها ورقة القلوب بها وفهم ما فيها من المعارف الموجبة لطمأنينة القلوب وثلج الصدور.
ولما كان المراد بالإيمان الحقيقة وكانت الزيادة مفهمة لمزيد عليه، استغنى عن أن يقول: إلى إيمانهم، لذلك ولدلالة
﴿الذين آمنوا﴾ عليه
﴿وهم يستبشرون*﴾ أي يحصل لهم البشر بما زادتهم من الخير الباقي الذي لا يعدله شيء
﴿وأما الذين﴾ وبين أن أشرف ما فيهم مسكن الآفة فقال:
﴿في قلوبهم مرض﴾ فمنعهم الإيمان وأثبت لهم الكفران فلم يؤمنوا.
51
ولما كان المراد بالمرض الفساد المعنوي المؤدي إلى خبث العقيدة، عبر عنه بالرجس فقال:
﴿فزادتهم رجساً﴾ أي اضطراباً موجباً للشك، وزاد الأمر بياناً بأن المراد المجاز بقوله:
﴿إلى رجسهم﴾ أي شكهم الذي كان في غيرها
﴿وماتوا﴾ أي واستمر بهم ذلك لتمكنه عندهم إلى أن ماتوا
﴿وهم كافرون*﴾ أي عريقون في الكفر، وسمي الشك في الدين مرضاً لأنه فساد في الروح يحتاج إلى علاج كفساد البدن في الاحتياج، ومرض القلب أعضل، وعلاجه أعسر وأشكل، ودواءه أعز وأطباؤه أقل. ولما زاد الكفار بالسورة رجساً من أجل كفرهم بها، كانت كأنها هي التي زادتهم، وحسن وصفها بذلك كما حسن: كفى بالسلامة داء، وكما قال الشاعر:
أرى بصري قد رابني بعد نصحه | وحسبك داء أن تصح وتسلما |
قاله الرماني، فالمؤمنون يخبرون عن زيادة إيمانهم وهؤلاء يخبرون عن عدمه في وجدانهم، فهذا موجب شكهم وتماديهم في غيهم وإفكهم، ولو أنهم رجعوا إلى حاكم العقل لأزال شكهم وعرفهم صدق المؤمنين بالفرق بين حالتيهم، فإن ظهور الثمرات مزيل للشبهات، والآية من الاحتباك: إثبات الإيمان أولاً دليل على حذف ضده ثانياً، وإثبات المرض ثانياً دليل على حذف الصحة أولاً.
52
ولما كان التقدير تسبيباً عما جزم به من الحكم بعراقتهم في الرجس
52
وازديادهم منه: أفلا يرون إلى تماديهم في النفاق وثباتهم عليه؟ عطف عليه تقريرهم بعذاب الدنيا والإنكار عليهم في قوله:
﴿أولا يرون﴾ أي المنافقون، قال الرماني: والرؤية هنا قلبية لأن رؤية العين لا تدخل على الجملة لأن الشيء لا يرى من وجوه مختلفة
﴿أنهم﴾ أي المنافقين؛ ولما كان مطلق وقوع الفتنة من العذاب، بنى للمفعول قوله:
﴿يفتنون﴾ أي يخالطون من حوادث الزمان ونوازل الحدثان بما يضطرهم إلى بيان أخلاقهم بإظهار سرائرهم في نفاقهم
﴿في كل عام﴾ أي وإن كان الناس أخصب ما يكونون وأرفعه عيشاً
﴿مرة أو مرتين﴾ فيفضحون بذلك، وذلك موجب للتوبة للعلم بأن من علم سرائرهم - التي هم مجتهدون في إخفائها - عالم بكل شيء قادر على كل مقدور، فهو جدير بأن تمتثل أوامره وتخشى زواجره.
ولما كان عدم توبتهم مع فتنتهم على هذا الوجه مستبعداً، أشار إليه بأداة التراخي فقال:
﴿ثم لا يتوبون﴾ أي لا يجددون توبة
﴿ولا هم﴾ أي بضمائرهم
﴿يذكرون*﴾ أي أدنى تذكر بما أشار إليه الإدغام، فلولا أنه حصلت لهم زيادة في الرجس لأوشك تكرار الفتنة أن يوهي رجسهم إلى أن يزيله ولكن كلما أوهى شيئاً خلقه مثله أو أكثر بسبب الزيادات المترتبة على وجود نجوم القرآن، والتذكر طلب الذكر للمعنى بالكفر فيه، فالآية ذامة لهم على عدم التوبة بإصابة المصائب لعدم تذكر
53
أنه سبحانه ما أصابهم بها إلا بذنوبهم
﴿ويعفو عن كثير﴾ [الشورى: ٣٤] كما أن أحدهم لا يعاقب فتاة إلا بذنب وما لم يتب فهو يوالي عقابه.
ولما ذكر ما يحدث منهم من القول استهزاء، أتبعه تأكيداً لزيادة كفرهم وتوضيحاً لتصويره ما يحدث من فعلهم استهزاء من الإيمان والتغامز بالعيون فقال
﴿وإذا﴾ وأكد بالنافي فقال:
﴿ما﴾ ولما كان الغرض نفس الإنزال لا تعيين المنزل، بني للمفعول قوله
﴿أُنزلت سورة﴾ أي طائفة من القران
﴿نظر بعضهم﴾ أي المنافقين
﴿إلى بعض﴾ أي متغامزين سخرية واستهزاء قائلين:
﴿هل يراكم﴾ وأكدوا العموم فقالوا:
﴿من أحد﴾ أي من المؤمنين إن انصرفتم، فإن يشق علينا سماع مثل هذا، ويشق علينا أن يطلع المؤمنون على هذا السر منا.
ولما كان انصرافهم عن مثل هذا المقام مستهجناً، أشار إلى شدة قبحه بأداة التراخي فقال:
﴿ثم انصرفوا﴾ أي إن لم يكن أحد يراهم، وإن رآهم أحد من المؤمنين تجشموا المشقة وثبتوا؛ ولما كانوا مستحقين لكل سوء، أخبر عنهم في أسلوب الدعاء بقوله:
﴿صرف الله﴾ أي الذي له الغنى المطلق والكمال كله
﴿قلوبهم﴾ أي عن الإيمان؛ ثم علل ذلك بقوله:
﴿بأنهم قوم﴾ وإن كانوا ذوي قوة على ما يحاولونه فإنهم
﴿لا يفقهون*﴾ أي قلوبهم مجبولة على عدم الفهم لما بها من الغلظة،
54
وهذا دليل على ختام الآية قبلها، وهاتان الآيتان المختتمتان - ب
﴿لا يفقهون﴾ التاليتان للأمر بالجهاد في قوله
﴿قاتلوا الذين يلونكم من الكفار﴾ الموازي -
﴿انفروا خفافاً وثقالاً﴾ الآية - قد احتوتا مع وجازتهما على حاصل أوصاف المنافقين التالية لآية
﴿انفروا﴾ المختتم ما هو العام منها في أهل الحاضرة في قوله
﴿استأذنك أولوا الطول منهم﴾ ب
﴿يفقهون﴾ ثم عند إعادة ذكرهم ب
﴿لا يعلمون﴾ وتصويب هاتين الآيتين إلى أهل الحاضرة ظاهر لكونهم ممن يحضر نزول الذكر كثيراً مع احتمالهما للعموم، والختم هنا ب
﴿لا يفقهون﴾ أنسب لأن المقام - وهو النظر في زيادة الإيمان بالنسبة إليهم - يقتضي فكراً وتأملاً وإن كان بالنظر إلى المؤمنين في غاية الوضوح.
ولما أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز
55
والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال:
﴿لقد جاءكم رسول﴾.
ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف، شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال:
﴿من أنفسكم﴾ أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة
﴿عزيز﴾ أي شديد جداً
﴿عليه ما عنتم﴾ والعزة: امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت: لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه
﴿حريص﴾ أي بليغ الحرص
﴿عليكم﴾ أي على نفعكم، والحرص: شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال:
﴿بالمؤمنين﴾ أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال:
﴿رءوف﴾ أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً.
ولما كان المؤمن يطلق مجازاً على من يمكن منه الإيمان فوصلته الآن ليست بالفعل بل الإمكان، قال تعميماً لرحمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه:
﴿رحيم*﴾ ولأجل مثل هذه الأغراض النفسية رتب سبحانه هذين الوصفين هكذا، ولكن
56
المعاني المراده تارة يظهرها الله تعالى لعبده منحة له وإكراماً، وتارة يخفيها إظهاراً لعجزه ونقصانه ثم يظهرها له في وقت آخر إن صدق في التضرع وإظهار الافتقار والتذلل وأدام الطلب، أو لغيره ممن هو أقل منه علماً وأضعف نظراً وفهماً، وإذا تأملت كتابي هذا ظهر لك أن كثيراً من الآيات فسرها على غير المراد منها قطعاً أكابر العلماء، فعلى الأنسان - إذا خفي عليه أمر - أن يقول: لا أعلم، ولا يظن أنه رتب شيء من هذا الكتاب العزيز لأجل الفواصل، فلذلك أمر لا يليق بكلام الله تعالى، وقد عاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السجع، لأن الساجع يكونُ محطَ نظره الألفاظ، فيدير المعاني عليها ويتبعها إياها، فربما عجز اللفظ عن توفية المعنى؛ روى البخاري في الطب وغيره من صحيحه ومسلم في الديات وأبو داود والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه
«أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في الجنين يقتل في بطن أمه بغرة عبد أو وليدة، فقال الذي قضى عليه: كيف أغرم من لاشرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، فمثل ذلك بطل؛ فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما هذا من إخوان الكهان» من أجل سجعه الذي سجع، وفي رواية: فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«سجع كسجع الأعراب» وذلك - والله أعلم - أنه لو كان نظره إلى المعنى وتصحيحه لأغنى عن هذا السجع أن يقال: كيف أغرم من لاحياة له، ولوقصد السجع وتهذيب المعنى لأتى مما يدل على نفي الحياة التي جعلها محط أمره فإن
57
ما أتى به لا يستلزم نفيها، ولو تقيد بالصحة لاغتنى بنفي النطق عن نفي الاستهلال، فصح بهذا أنه دائر مع تحسين اللفظ صح المعنى أم لا، وينطبع في عقل عاقل أن يكون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يذم السجع وهو يأتي به ويقصده في القرآن أو في السنة، ولو كان ذلك لأسرعوا الرد عليه، وذكر أصحاب فتوح البلاد في فتح مكران من بلاد فارس أن الحكم بن عمرو لما فتحها أرسل بالأخماس مع صحار العبدي، فلما قدم على عمر رضي الله عنه سأله عن مكران وكان لا يأتيه أحد إلا سأله عن الوجه الذي يجيء منه فقال: يا أمير المؤمنين! أرض سهلها جبل، وماءها وشل وثمرها دقل، وعدوها بطل، وخيرها قليل، وشرها طويل، والكثير بها قليل، والقليل بها ضائع، وما وراءها شر منها؛ فقال، أسجاع أنت أم مخبر؟ فقال: لا بل مخبر، قال: لاوالله! لا يغزوها جيش لي ما أطعت.
فقد جعل الفاروق السجع قسيماً للخير فدل على أن التقيد به عيب لإخلاله بالفائدة أو بتمام الفائدة، ولعله إنما جوز أن يكون مخبراً لنه انفك عن السجع في آخر كلامه وكرر لفظ
«قليل» فكان ما ظنه، لأنه لو أراد السجع لأمكنه أن يقول والكثير بها ذليل،
58
والقليل بها ضائع كليل، وما وراءها شر منها بأقوم قيل؛ وقد نفى سبحانه عن هذا القرآن المجيد تصويب النظر إلى السجع كما نفى عنه الشعر فإنه تعالى قال
﴿وما هو بقول شاعر قليلاً ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون﴾ [الحاقة: ٤١، ٤٢] فكما أن قول الشاعر إتيانه بالكلام موزوناً، فكذلك قول الكاهن إتيانه بالكلام مسجوعاً والقرآن ليس من هذا ولا من هذا. وإن وقع فيه كل من الأمرين فغير مقصود إليه ولا معول عليه، بل لكون المعنى انتظم به على اتم الوجوه فيؤتي به لذلك، ثم تبين أنه غير مقصود بالانفكاك عنه في كثير من الأماكن بقرينة ليس لها مجانس في اللفظ لتمام المعاني المرادة عندها فيعلم قطعاً أن ذلك غير مقصود أصلاً لأن مثل ذلك لا يرضى به أقل الساجعين، بل يراه عجزاً وضيقاً عن تكميل المشاكلة ونقصاً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ومما يوجب لك القطع بأن ترتيب هذين الاسمين الشريفين هكذا لغير مراعاة الفواصل قوله تعالى في سورة الحديد
﴿وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة﴾ [الحديد: ٢٧] وسيأتي إن شاء الله في سورة طه عن الفخر الرازي والقاضي أبي بكر الباقلاني مَنَع النظر إلى السجع في الكتاب العزيز نقلاً عن جميع الأشاعرة، وإذا تأملت الفواصل في الإتيان بها تارة بكثرة وتارة بقلة، وتارة تترك
59
بالكلية ويؤتى في كل آية بفاصلة لا توافق الأخرى، علمت أن هذا المذهب هو الصواب ولا سيما آخر سورة
﴿اقرأ﴾ وإذا تأملت كتب أهل العدد أتقنت علم هذا المستند، وإذا تأملت ما قلته في هذا النحو من كتابي مصاعد النظر للاشراف على مقاصد السور لم يبق عندك شك في شيء من هذا، فإياك ان تجنح لهذا القول فتكون قد وقعت في أمر عظيم وأنت لا تشعر، وأورد سبحانه هذه الآية إيراد المخاطب المتلطف المزيل لما عندهم من الريب بالقسم، فكأنه قال: ما لكم تنصرفون عن حضرته الشماء وشمائله العلى! والله لقد جاءكم - إلى آخره، ثم أقبل عليه مسلياً له مقابلاً لإعراضهم إن أعراضوا بالإعراض عنهم والبراءة منهم ملتفتاً إلى السورة الآمر بالبراءة من كل مخالف، قائلاً مسبباً عن النصيحة بهذه الآية التي لا شك عاقل في مضمونها:
﴿فإن تولوا﴾ أي اجتهدوا في تكليف فطرهم الأولى أو ولوا مدبرين عنك بالانصراف المذكور أو غيره بعد النصيحة لهم بهذه الآية
﴿فقل﴾ اي استعانة بالله تفويضاً إليه
﴿حسبي﴾ أي كافي؛ قال الرماني: وهو من الحساب لأنه جل ثناه يعطى بحسب الكفاية التي تعني عن غيره، ويزيد من نعمته مالا يبلغ إلى حد ونهاية إذ نعمه دائمة ومننه متظاهر
﴿الله﴾ أي الملك الأعلى الذي لا كفؤ له، وإنما كان كافياً لأنه
﴿لا إله إلا هو﴾ فلا مكافىء له فلا راد لأمره ولا معقب لحكمه.
ولما قام الدليل على أنه لا كفؤ له، وجب قصر الرغائب عليه
60
فقال:
﴿عليه﴾ أي وحده
﴿توكلت﴾ لأن أمره نافذ في كل شيء
﴿وهو رب﴾ اي مالك ومخترع ومدبر؛ ولما كان في سياق القهر والكبرياء بالبراءة من الكفار والكفاية للأبرار، كان المقام بالعظمة أنسب كآية النمل فقال:
﴿العرش العظيم*﴾ أي المحيط بجميع الأجسام الحاوي لسائر الأجرام الذي ثبت بآية الكرسي وغيرها أن ربه أعظم منه لأن عظمته على الأطلاق فلا شيء إلا هو في قبضته وداخل في دائرة مملكته، وإذا كان كافي فأنا بريء ممن تولى عني وبعد مني كائناً من كان في كل زمان ومكان فقد عانق آخر السورة أولها وصافح منتهاها مبتدأها وتأكد ما فهمته من سر الالتفات في
﴿فسيحوا﴾ وفي
﴿فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله﴾ والله تعالى أعلم.
سورة يونس
وهي أولى المئين إن جعلها براءة مع الأنفال من الطول، وإلا فبراءة أولاهن، مقصودها وصف الكتاب بأنه من عند الله من عند الله لما اشتمل عليه من الحكمة وأنه ليس إلا من عنده سبحانه لأن غيره لا يقدر على شيء منه، وذلك دال ريب على أنه واحد في ملكه لا شريك له في شيء من أمره، وتمام الدليل على هذا قصة قوم يونس عليه السلام بأنهم لما آمنوا
61
عند المخايل كشف عنهم، فدل قطعاً على ان الآتي به هو الله الذي آمنوا به غذ لو كان غيره لكان إيمانهم به موجباً للإيقاع بهم، ولو عذبوا كغيرهم ليقل: هذه عادة الدهر، كما قالوا: قد مس آباءنا الضراء والسراء ودل ذلك على أن عذاب غيرهم من الأمم إنما هو من عند الله لكفرهم لما اتسق من ذلك طرداً بأحوال سائر الأمم من أنه كلما وجد الإصرار على التكذيب وجد العذاب، وعكساً منه كلما انتفى في وقت يقبل قبول التوبة انتفى - والله الموفق) بسم الله (اي الذي لا أمر لأحد سواه فلا كلام يشبه كلامه فلا كفوء له) الرحمن (الذي عم بكلامه جميع خلقه فأوضح البيان) الرحيم (الذي أتم لمطيعهم نعمة الامتنان)
62