اعلم أن الإمام إذا استشعر من أهل العهد جناية، أو توقع منهم غائلة، كان له نبذ عهدهم إليهم، دفعاً لغائلتهم، حتى لا يؤتى من حيث لا يشعر، إلا أنه إنما يجوز ذلك بأن يجاهر بنبذ العهد إليهم، حتى لا يكتسبهم مغافصة١ فيشبه الغدر، ويجوز أيضاً أن يعاهد المشركين إلى أن يرى فيه رأيه، كما عاهد أهل خيبر، وقال في العهد : أقركم ما أقركم الله ثم أجلاهم عمر، وكل ذلك جائز.
وإذا ثبت ذلك فقوله :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلىَ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشرِكِينَ ﴾ : يدل على أن عهداً قد تقدم بينهم، وأنه قد نقض.
فيقال : لا يبعد جواز الإمهال لما فيه من المصلحة في تدبر من أمهل في عاقبة أمره ومآل حاله، وأن ذلك يكون داعياً إلى الإسلام، وإنما لا يحسن الإمهال لمن يتوقع الغوث، فأما من لا يخشى الغوث، فلا يقبح منه الإمهال، ودل عليه قوله :﴿ واعلَمُوا أَنّكُم غَيْرُ مُعجِزِي اللهِ٢ ﴾، ومعناه : غير معجزيه، بتمكين نبيه منهم، ونصرته عليهم، أو نفاذ مراد الله تعالى فيهم بما شاء، وهو معنى قوله تعالى :﴿ وأَنَّ اللهَ مُخزِي الكَافِرينَ ﴾، فكان المقصود من التسمح بهذه المدة، التوصل إلى هذه البغية، وهو رجاء الإسلام.
وإذا بان السبب الذي لأجله يجوز نبذ عهود الكفار إليهم، فقد قال ابن عباس : إن المشركين أخذوا في نقض عهودهم التي بينهم وبينه صلى الله عليه وسلم، فأمر الله تعالى نبيه فيمن كان عهده أربعة أشهر، أن يقره إلى مضي هذه المدة، وذلك من يوم النحر إلى عشر من شهر ربيع الآخر، ومن كان له من العهد أكثر، أمر أن يحط إلى ذلك، ومن كان أقل، أمر أن يرجع به إلى هذا القدر، ومن لم يكن له عهد، أمر أن يجعل له خمسين ليلة من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، إلا حي من بني كنانة، كان قد بقي من عهدهم تسعة أشهر، فأمر الله تعالى أن يتم عهدهم إلى مدتهم، وهو معنى قوله :﴿ إلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشركينَ ﴾.
٢ - تابع لنفس الآية..
وذكر التبري وقطع العصمة وبعث علياً بذلك، لينادي فيهم مع قوله تعالى :﴿ إلاّ الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشرِكِينَ ثُم لَمْ يَنقُضُوكُم شَيئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيكُم أَحَداً فأتِموا إليهم عَهدَهم إلى مُدتِهِم ﴾.
واعلم أن الذين تقدم ذكرهم، وقعت منهم مظاهرة أو مخابرة وخداع، يقتضي نقض العهد والإخلال به، ولذلك قال :﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلمُشرِكِينَ عَهدٌ عِندَ اللهِ وعِندَ رَسُولِهِ إلا الّذِينَ عَاهَدْتُم عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا استَقَامُوا لَكُم فاستَقِيمُوا لَهُم ﴾، الآية :[ ٧ ]، فلو كان ممن تقدم ذكرهم الاستقامة في العهد، لم يجز منه تعالى أن يتبرأ منهم وينقض عهدهم، فكل ذلك يدل على أنه قد كان تقدم منهم نقض العهد، إما ظاهراً وإما سراً.
وقال ابن عباس في سورة التوبة : إنها هي الفاضحة، فهذا القول منه يدل على أنهم نكثوا وأسروا به، فأظهر الله تعالى لنبيه ما أسروه بالبراءة منهم، ونبذ العهد إليهم.
وذكر في النقض وجه آخر، من حيث استبعد هؤلاء النقض من جميع المشركين سراً، فقال : سبب نقض العهد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يحج لقابل، وأن الله تعالى أعلمه ذلك، وأنه لا يتفرغ إلى الحج إلا بعد العام القابل، لقرب أجله، وكان المشركون يطوفون بالبيت عراة في الطواف، والتعري بحضرته شرك وكفر، فاقتضى ذلك نقض العهد.
وهذا باطل، فإنه لا يجوز من رسول الله صلى الله عليه وسلم النقض لهذه العلة، فإن من الممكن أن يخلى له البيت ساعة، ولا يمكن المشركين من الطواف في تلك الحالة، كما طاف في عمرة القضاء وأخلى له المشركون البيت.
والذي يتعلق بالأحكام من الآية أنه : لا يجوز نبذ عهد الكفار إلى الكفار إلا بنقض ظاهر منهم، أو توقع نقض، أو إبهام في مدة العهد، مثل أن يقول : نقركم ما أقركم الله، ثم الأمان فسد أو صح، لا يجوز نقضه بالاغتيال، بل بإظهار نبذ العهد إليهم.
فهذا ما يتعلق بالفقه من الآية، وما ذكر في الآية :﴿ إلا الّذِينَ عَاهَدْتُم مِنَ المُشرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُم شَيئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيكُم أَحَداً ﴾، الآية :[ ٤ ]،
والمتعلق بالأحكام منه وراء ما ذكرناه، أن من كان بين المسلمين وبينهم عهد، فإذا ظاهروا علينا قوماً من الأعداء فهو نقض العهد، سواء ظاهروا سراً أو جهراً.
وفيه سؤال : وهو أن النداء إنما كان يوم الحج الأكبر، والأشهر الحرم : ذو القعْدَة، وذو الحجة، والمحرم، وهذه الثلاثة سرد ورجب فرد، فإذا ثبت ذلك، فكيف يقول :﴿ فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ ﴾، وما بقي إلا أيام قلائل ؟
وأجيب عن ذلك من وجوه : منها : أنه لما كان آخر الأشهر الحرم المحرم، وكان بانقضائه تنقضي الأربعة أشهر، جاز أن يعلق قتال الكفار به. والوجه الثاني : أن المراد بالأشهر الحرم : الأربعة التي حرم الله تعالى فيها قتالهم وأمنهم فيها، وهي : من يوم النحر إلى العاشر من ربيع الآخر.
فقوله تعالى :﴿ الأَشهُرُ الحُرُمُ ﴾ : هي التي حرم الله تعالى فيها القتل فقط، ولم يعن بالحرم الثلاثة السرد والواحد الفرد، وإنما أراد الأربعة المتوالية من وقت العهد إلى العاشر من ربيع الآخر، وهو قول الحسن. وفيه شيء، وهو أن اسم الأشهر الحرم لا يتعارف منه غير المعهود ولا يصير بسبب العهد الأشهر مسماة بالحرم، فلا جرم اختار كثير من العلماء القول الأول.
وقال الأصم : أريد بالآية من لا عهد له من المشركين، فأوجب أن يمسك عن قتالهم حتى ينسلخ المحرم، وهو مدة خمسين يوماً على ما ذكره ابن عباس.
قوله تعالى :﴿ فاقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم وَخُذُوهُم واحصُرُوهُم واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد١ ﴾ : يدل على جواز الأسر بدل القتل والتخيير بينهما، ويدل على جواز قتلهم، أو أسرهم، على وجه المكيدة، لقوله تعالى :﴿ واقعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد ﴾.
وقال ابن عباس في قوله :﴿ لَستَ عَلَيهِم بِمُصَيطِر ﴾٢ و ﴿ مَا أَنتَ عَلَيهِم بِجَبّار ﴾٣ وقوله :﴿ فاعْفُ عَنهُمْ واصْفَحْ٤ ﴾، وقوله :﴿ قُلْ للّذِينَ آمَنُوا يَغفِرُوا لِلّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيّامَ اللهِ٥ ﴾، قال : نسخ هذا كله بآية السيف وهو قوله تعالى :﴿ اقتُلُوا المُشرِكِينَ حَيثُ وَجَدْتُمُوهُم ﴾، الآية، وقوله :﴿ قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بِاليَومِ الآخِرِ٦ ﴾، الآية.
وقال موسى بن غفلة : كان النبي عليه الصلاة والسلام قبل ذلك يكف عمن لا يقاتله، لقوله تعالى :﴿ وأَلقَوْا إلَيْكُمُ السّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيهِم سَبِيلاً٧ ﴾، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى :﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ ورَسُولِهِ ﴾ - إلى قوله - ﴿ فإذَا انسَلَخَ الأَشهُرُ الحُرُمُ فاقتُلُوا المُشرِكِينَ ﴾، الآية.
وعموم ذلك يوجب قتل كافة المشركين من أهل الكتاب وغيرهم، فإنه جعل المرد ﴿ فإنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَةَ ﴾، إلا أن الأخبار وردت في أخذ الجزية. ويجوز أن يكون لفظ المشركين لا يتناول أهل الكتابين، ويقتضي ذلك منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان وغيرهم.
واعلم أن مطلق قوله :﴿ اقتُلُوا المُشرِكِينَ ﴾، يقتضي جواز قتلهم بأي وجه كان، إلا أن الأخبار وردت في النهي عن المثلة، ومع هذا يجوز أن يكون الصديق رضي الله عنه، لما قتل أهل الردة بالإحراق بالنار، والحجارة، والرمي من رؤوس الجبال، والتنكيس في الآبار، تعلق في ذلك بعموم الآية.
وكذلك إحراق علي رضي الله عنه قوماً من أهل الردة، بالإحراق بالنار، يجوز أن يكون ميلاً إلى هذا المذهب واعتماداً على عموم اللفظ.
قوله تعالى :﴿ فإنْ تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُم٨ ﴾ :
هذه الآية فيها تأمل، فإن الله تعالى علق القتل على الشرك، ثم قال :﴿ فإنْ تَابُوا ﴾، والأصل، أن القتل متى كان الشرك يزول بزواله، وذلك يقتضي زوال القتل بمجرد التوبة، من غير اعتبار إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولذلك سقط القتل بمجرد التوبة قبل وقت الصلاة وإيتاء الزكاة، فهذا بين.
غير أن الله تعالى ذكر التوبة وذكر معها شرطين آخرين، فلا سبيل إلى إلغائهما، وصح أن الصدّيق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، لا من جحد وجوب الزكاة فقط، بل مَن قال لا أؤديها إليك، فقال أبو بكر :" لا والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم٩ "،
وإنما فعل ذلك، فهم العلماء منه قتال مانعي الزكاة، لأن الله تعالى شرط أموراً ثلاثة في ترك القتال، فلا بد من وجودها جميعاً، ودل قوله تعالى في موضع :﴿ فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلوا سَبِيلَهُم ﴾، وقال في موضع آخر :﴿ فإنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فإخوَانُكُم في الدِّينِ١٠ ﴾.
على أن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مُدخلاً في تخلية سبيلهم، كما أن للتوبة مُدخلاً في ذلك، وبذلك احتج أبو بكر رضي الله عنه في أن التوبة لا تكفى في تخلية سبيلهم والكف عن قتلهم، حتى ينضاف إليها فعل الصلاة وإيتاء الزكاة، وقال إنه صلى الله عليه وسلم قال :" فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها١١ "، فلم تثبت العصمة بمجرد الإسلام، وذكر أن الزكاة من حقها، وتعلق علي بذلك في قتال الفئة الباغية، وذهب إلى أن المشركين إذا أسلموا، ولم يقيموا الصلاة، ولم يؤتوا الزكاة، حل قتالهم وقتلهم.
وقال بعضهم : إنما أراد بذلك الاعتراف بالصلاة والزكاة لا فعلهما، فمن جحد أحدهما فقتله مباح، وهذا يستأصل وجه التخصيص.
فإن قيل : فإذا تاب قبل وقت الصلاة والزكاة فلا قتل عليه، ولم يقم الصلاة ولا الزكاة جميعاً. الجواب : أن التوبة إن كفت على هذا الرأي، فذكر الصلاة والزكاة لغو، وهو بمثابة من يقول : فإن تابوا ودخلوا الدار ولبسوا الثوب. . نعم، فهمنا من جعلهما شرطاً خروج ما قبل حالة الوجوب، لأنه لا يجوز أن يجعلهما شرطاً، ولما وجبا ولزما.
فالظاهر ما قاله الصدِّيق، وهو جواز محاربتهم١٢ إذا امتنعوا من القيام بهما، وقد كان كثير من الناس يعترفون بوجوب الزكاة، لكنهم كانوا يمتنعون من دفعها إليه، وأمر مع ذلك بمحاربتهم وقال : لو منعوني عقالاً مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، فتبين بذلك أن الزكاة للإمام فيها حق الأخذ، فمتى امتنعوا وانحازوا إلى فئة حل قتالهم وقتلهم، ما داموا مصرين على الامتناع، وكذلك إذا امتنعوا من الصلاة، وفعلها على وجه يظهر.
فإن قيل : فقد خص الله تعالى هذا بالمشركين وقتالهم، فمن أين أن هذا جائز في حق المؤمنين ؟ والجواب : أنه إذا ثبت أن التوبة تسقط القتل، و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة تسقط القتل، فمقتضاه : أن المشرك إذا تاب ولم يصل ولم يزك وجب عليه القتل، وهذا ما نقوله.
يبقى أن يقال : إن الآية أوجبت التسوية بين منع الصلاة ومنع الزكاة، والشافعي يخصص بالصلاة. والجواب : أن عند الشافعي لا فرق بين البابين، إلا أن في الزكاة أخذها ممكن قهراً، وفي الصيام يمكن أن يحبس في موضع فيجعل ممسكاً، والركن الأعظم في الصوم الإمساك، فأما الصلاة، فاستيفاؤها منه غير ممكن، فكان قتل تارك الصلاة من حيث تعذَّرَ استيفاؤها منه، بمثابة قتل تارك الزكاة إذا انحاز إلى فئة.
٢ - سورة الغاشية، آية ٢٢..
٣ - سورة ق، آية ٤٥..
٤ - سورة المائدة، آية ١٣..
٥ - سورة الجاثية، آية ١٤..
٦ - سورة التوبة، آية ٢٩..
٧ - سورة النساء، آية ٩٠..
٨ - سورة التوبة، آية ٥..
٩ - رواه البخاري عن أبي هريرة..
١٠ - سورة التوبة، آية ١١..
١١ - أخرج البخاري ومسلم وأبو يعلى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"..
١٢ - وهو قوله في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه:
"والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال.. الخ"..
اعلم أن هذا لا دلالة فيه على أمان مشرك، ووجوب بذل الأمان فيمن يطلب الأمان، وذلك أن الله تعالى إنما ذكر ذلك وشرع الأمان لفائدة، وهي سماع الأدلة من كتاب الله تعالى، والكفار متى طلبوا تعرف التوحيد، والعدل وبطلان ما هم عليه وجب ذلك، وإذا وجب على الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب على سائر الأمة، بل على سائر المجاهدين.
ولا يحل للمجاهد قتل الكافر مع طلبه التعرف للدين، والوقوف على الأدلة، لأنه لو حل قتله، لم يجز أن يجار وأن يؤمن، فلذلك لا يجوز أن يخلو المجاهدون من العلماء، لأنه لا يأمن أن يكون في الكفار من يلتمس ذلك، فإذا لم يجد من يحل شبهته، ويثبت له طريقة الحق، لم تجز مقاتلته.
فلو قالوا : إنا نريد الوقوف على طريق الحق وتمييزه عن الباطل، فأمهلونا ودعوا مقاتلتنا، لوجب ذلك، وكما يجب أن يكون في عسكر الإسلام من يستعد لقوة الدين بالسلاح والعدة، فكذلك يجب أن يكون فيهم من يستقل بقوة المناظرة وتعريف الأدلة.
فقوله تعالى :﴿ فأَجِرْهُ ﴾ : أمر دال على الوجوب، ولا وجوب إلا عند هذا الغرض، وليس هذا الغرض من الأمان المعروف في الشرع في شيء، فإن الأمان هو الذي يحصل بسبب من المسلم موقوفاً على خيرته : إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، وفي الاستجارة لغرض الاستماع لكلام الله عز وجل، يجب الأمان، وتنكف السيوف عن رقبته، ويتحرس١ دمه متى طلب ذلك، سواء كان جرى منا الأمان أو لم يجر.
ثم قال تعالى :﴿ حتّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾، الآية :[ ٦ ] :
أي بعد السماع، لأنه لا فائدة في مقامه عندنا، والأمان الذي تعارفه الفقهاء، أن يؤمن كافراً لا يبغي به سماع كلام الله عز وجل، حتى إذا استمع أبلغه مأمنه، بل ينبغي به أمانه حتى يتجر ويتسوق ويقيم عندنا مدة لغرض لهذا المسلم، وذلك ليس ما نحن فيه بسبيل٢.
٢ - انظر التفسير الكبير للرازي..
يدل على أن من نفى أن يكون له عهد، إنما نفاه من حيث لم يستتم، بل غدر سراً أو جهراً، أو خيف منه الغدر، وذكر الشرك ذكر الباعث على الغدر ثم قال :﴿ إلاَّ الّذيِن عَاهَدتُم عِندَ الْمَسجِدِ الحَرَامِ٢ ﴾، فإنه لم يظهر منهم غدر، ﴿ فَمَا استَقَامُوا لَكُمْ فاستَقِيمُوا لَهُمْ٣ ﴾.
وهذا يدل على أن من نقض عهده فإنما نقضه لمكان الغدر وتوقع الجناية، وإلا فلو استوى المستثنى والمستثنى منه في الاستقامة والوفاء لاستويا في وجوب الوفاء.
٢ - سورة التوبة، آية ٧..
٣ - سورة التوبة، آية ٧..
فبين الله تعالى أن المعلوم من حالهم الغدر عند التمكن، وأنهم ينتهزون فرصة الاغتيال والمجاهرة بسر المكاشفة. وبين أنهم في إظهار التمسك بالعهد منافقون لقوله :﴿ يَرْضُونَكُمْ بِأَفَواهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُم ﴾٢ وقوله :﴿ إلاًّ ﴾، يحتمل القرابة والعهد والجوار، ويحتمل أن يكون من أسماء الله تعالى يحلف به، فأبان أنهم لا يثبتون على العهد واليمين.
٢ - سورة التوبة، آية ٨..
هذا فيه تأمل، فإنا إن جعلنا لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة على مذهب الشافعي أثراً في تخلية سبيلهم، فليس لهما اختصاص أصلاً بكون مقيمهما أخاً لنا في الدين، فإن مجرد الإسلام كافٍ في هذا المعنى، ولا وجه له، إلا أن ذكرهما يدل على ما عداهما.
فإن الصلاة هي الوظيفة الكبرى المختصة بديننا وشرعنا، والزكاة هي الوظيفة الشاقة على المكلفين ؛ وما كانت لهم عادة بهما. فأبان أن الدخول فيهما دخول فيما سواهما، وأبان أنه وإن تمسك بالكفر دهراً طويلاً فإذا تاب صار في الحال بمثابة من كان معنا دهراً طويلاً على الإسلام، حتى يجب علينا نصرته وموالاته.
وهذا يقوي مذهب الشافعي، فإن المعاهد إذا جاهر بسب الرسول وطعن في الدين فإنه يحل قتله وقتاله. . وأبو حنيفة رأى أن مجرد الطعن في الدين لا ينقض به العهد، ولا شك أن دلالة الآية قوية فيما قاله الشافعي.
فإن قيل : فلم قال : فقاتلوا أئمة الكفر ؟ ولم خصصهم بذلك مع وجود القتال من جميعهم ؟ الجواب : أن من المحتمل أن يكون المراد به أن المقدم على الطعن في الدين ونكث العهد صار أصلاً ورأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل، أو عنى به المقدمين والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال أتباعهم، وأبان أنهم لا يحترمون ولا يهابون.
وقد قيل : عنى به صناديد قريش، كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية ابن خلف. وهذا بعيد : فإن الآية في سورة براءة، وحين نزلت وقرئت على الناس استؤصل شأفة١ قريش فلم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم.
قوله تعالى :﴿ إنّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ٢ ﴾ : أي لا أيمان لهم يفون بها، ويثبتون عليها.
قوله تعالى :﴿ لَعَلّهُم يَنْتَهُون٣ ﴾ : أبان به أن الغرض من قتال الكفار يجب أن يكون طلب إسلامهم، فمن رجا منهم الإسلام وتطلب تعريف الحق يجب السعي في بيان ذلك، لأن قوله :﴿ لعلّهُم يَنْتَهُون ﴾، أي كي ينتهوا عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم، إما دفع ضررهم فينتهون عن قتالنا، وإما الانتهاء عن كفرهم بإظهار الإسلام.
وقد قيل : قوله ﴿ أَئِمةَ الكُفْرِ ﴾ : نزل في اليهود الذين غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان، على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين، وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنهم بدءوا بالنكث والنقض، وقال بعده :﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُم من بعد عهدهم وَهَمُّوا ﴾٤ وكل ذلك محتمل.
٢ - الآية ١٣ من سورة التوبة. وأيمان بفتح الهمزة جمع يمين أي عهد وبكسر الهمزة تعني الإسلام والتصديق..
٣ - الآية ١٣ من سورة التوبة. وأيمان بفتح الهمزة جمع يمين أي عهد وبكسر الهمزة تعني الإسلام والتصديق..
٤ - سورة التوبة، آية ١٣..
وهذا يقوي مذهب الشافعي، فإن المعاهد إذا جاهر بسب الرسول وطعن في الدين فإنه يحل قتله وقتاله.. وأبو حنيفة رأى أن مجرد الطعن في الدين لا ينقض به العهد، ولا شك أن دلالة الآية قوية فيما قاله الشافعي.
فإن قيل : فلم قال : فقاتلوا أئمة الكفر ؟ ولم خصصهم بذلك مع وجود القتال من جميعهم ؟ الجواب : أن من المحتمل أن يكون المراد به أن المقدم على الطعن في الدين ونكث العهد صار أصلاً ورأساً في الكفر، فهو من أئمة الكفر على هذا التأويل، أو عنى به المقدمين والرؤساء منهم، وأن قتالهم قتال أتباعهم، وأبان أنهم لا يحترمون ولا يهابون.
وقد قيل : عنى به صناديد قريش، كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية ابن خلف. وهذا بعيد : فإن الآية في سورة براءة، وحين نزلت وقرئت على الناس استؤصل شأفة١ قريش فلم يبق منهم إلا مسلم أو مسالم.
قوله تعالى :﴿ إنّهُم لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ٢ ﴾ : أي لا أيمان لهم يفون بها، ويثبتون عليها.
قوله تعالى :﴿ لَعَلّهُم يَنْتَهُون٣ ﴾ : أبان به أن الغرض من قتال الكفار يجب أن يكون طلب إسلامهم، فمن رجا منهم الإسلام وتطلب تعريف الحق يجب السعي في بيان ذلك، لأن قوله :﴿ لعلّهُم يَنْتَهُون ﴾، أي كي ينتهوا عن كفرهم وباطلهم وأذيتهم للمسلمين، وذلك يقتضي أن يكون الغرض من قتالهم، إما دفع ضررهم فينتهون عن قتالنا، وإما الانتهاء عن كفرهم بإظهار الإسلام.
وقد قيل : قوله ﴿ أَئِمةَ الكُفْرِ ﴾ : نزل في اليهود الذين غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونكثوا ما كانوا أعطوا من العهود والأيمان، على أن لا يعينوا عليه أعداءه من المشركين، وهموا بمعاونة المنافقين والكفار على إخراج النبي عليه الصلاة والسلام، فأخبر أنهم بدءوا بالنكث والنقض، وقال بعده :﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُم من بعد عهدهم وَهَمُّوا ﴾٤ وكل ذلك محتمل.
٢ - الآية ١٣ من سورة التوبة. وأيمان بفتح الهمزة جمع يمين أي عهد وبكسر الهمزة تعني الإسلام والتصديق..
٣ - الآية ١٣ من سورة التوبة. وأيمان بفتح الهمزة جمع يمين أي عهد وبكسر الهمزة تعني الإسلام والتصديق..
٤ - سورة التوبة، آية ١٣..
يقتضي لزوم اتباع المؤمنين، وترك العدول عنهم، كما يلزم اتباع النبي عليه الصلاة والسلام.
يدل على أن عمارة١ المسجد بالزيارة، والزيادة في بنائه، ودخوله محرم على الكفار، فكأنه قال : إن بناء المسجد إنما يليق بالمسلم الذي يتوصل به إلى رضاء الله، فأما الكافر فإن عمله في ذلك محبط، ولم يؤمر بعمل محبط، وإنما أمر بعمل مقبول عند الله تعالى.
"يعمر" إما من العمارة التي هي حفظ البناء، أو من العمرة التي هي الزيارة، أو من قولهم: عمرت بمكان كذا، أي أقمت فيه..
يدل على أن حكم الله تعالى يغلب حكم القرب والنسب، ويدل على أن تولي الكافر تعظيم، فلذلك أطلق تعالى فيمن يفعل ذلك أنه ظالم.
صار بعض الناس إلى الحكم بنجاستهم حقيقة حتى نجسوا بملاقاتهم.
وقال آخرون : لم يرد تعالى نجاستهم حقيقة، وإنما أراد به جعله فاتحة لمنع قربهم من المسجد، كما تمنع من ذلك النجاسات، فمعناه : إنما المشركون كالشيء النجس، وتعليق منعهم أن يقربوا المسجد الحرام بكونهم أنجاساً، يقتضي أن يكون المراد به التشبيه لا التحقيق، والنجاسة من حقها صحة إزالتها بالماء وذلك لا يتأتى في الشرك.
وقال الشافعي : يدخل كل مسجد إلا المسجد الحرام خاصة، ويجوز للذمي دخول سائر المساجد عند أبي حنيفة من غير حاجة، والشافعي يعتبر الحاجة، ومع الحاجة لا يجوز دخول المسجد الحرام.
فأما الآية فظاهرها ألا يقربوا المسجد الحرام، إلا أن قوله تعالى :﴿ فَلاَ يَقربُوا المَسجِدَ الحَرَامَ بَعدَ عَامِهِمْ هَذَا١ ﴾، يدل على أن المراد به الحج، والتقييد بالعام يدل على أن المراد به الحج الذي لا يتأتى إلا في العام،
ويدل عليه أيضاَ قوله تعالى :﴿ وإنْ خِفتُم عَيلَةً فَسَوَفَ يُغنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إنْ شَاءَ٢ ﴾.
٢ - تابع الآية ٣٨ من سورة التوبة..
اعلم أن مطلق قوله :﴿ اقتُلُوا المُشرِكِينَ١ ﴾، وقوله عليه الصلاة والسلام :
" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "، وقوله تعالى :﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتنةٌ ويَكُونَ الدّينُ كَلُّهُ للهِ٢ ﴾، يدل كل ذلك على جواز قتل الكفار بأسرهم، ولو لم يكن إلا قوله تعالى :﴿ اقتلوا المشركين ﴾، لكان اللفظ عاماً في حق أهل الكتاب وغيرهم.
وقد قال قائلون : إن عموم لفظ المشركين مقصور على عبدة الأوثان، فإن قوله تعالى فرق في اللفظ بين المشركين، وأهل الكتاب، والمجوس، بقوله :﴿ إن الّذِينَ آمَنُوا والّذِينَ هَادُوا والصَّابِئِينَ والنّصَارَى والمَجُوسَ والّذِينَ أَشرَكُوا٣ ﴾، فعطف المشركين على هذه الأصناف. وقال آخرون : لما كان معنى الشرك موجود في مقالات هؤلاء الفرق من النصارى المشركين بعبادة الله تعالى عبادة المسيح عليه السلام.
والمجوس أشركت من حيث جعلت لله تعالى نداً مغالباً، والصابئون هم عبدة الكواكب، فهم مشركون حقيقة، وقد انتظم اللفظ، فعلى هذا دل قوله " المشركون " على نفي أخذ الجزية من هؤلاء كلهم، العرب والعجم على ما يقوله الشافعي. ولأجل ذلك توقف عُمرُ في أخذ الجزية من المجوس، وليسوا أهل الكتاب تحقيقاً، فإنه سلب الكتاب منهم كما نُقل عن عليّ، وإن صح هذا النقل عن علي، فليسوا أهل الكتاب في الحال، وكون آبائهم من أهل الكتاب لا يقتضي أمراً في حقهم، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما نقله الرواة عنه " سنوا بهم سنة أهل الكتاب٤ "، يدل على أنهم ليسوا أهل كتاب.
إذا تبين ذلك، فأخذ الجزية من أهل الكتاب بحكم تخصيص الشرع إياهم من بين المشركين، لا يدل على مثله في المجوس، إذ لا يتناولهم لفظ مطلق لفظ الكتاب٥، لقوله تعالى :﴿ إنّمَا أُنْزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبلِنَا٦ ﴾.
فإن قيل : فقوله تعالى :﴿ مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ٧ ﴾، يقتضي جواز أخذ الجزية منهم، ولا دلالة للفظ في حق غيرهم، وقوله :﴿ اقتُلُوا المُشرِكِينَ ﴾، إنما ورد في مشركي العرب فإنه مرتب على قوله تعالى :﴿ فإذَا انسَلَخَ الأشهُرُ الحُرُمُ فَاقتُلُوا المُشرِكِينَ ﴾، وكذلك قوله :﴿ وَقَاتِلُوا المُشرِكِينَ كَافَةً كَمَا يُقاتِلُونَكُم كَافَةً٨ ﴾، وليس فيه دلالة على منع أخذ الجزية من عبدة الأوثان من العجم، والظاهر لا يقتضي في ذلك مشركي العجم منعاً ولا إثباتاً.
نعم، الظاهر يقتضي جواز أخذ الجزية من كافة أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، وهذا هو الحق عندنا، وليس يظهر عن هذا السؤال جواب ؟
نعم يمكن أن يقال : إن الأصل ألا تقبل الجزية من الكفار إلا فيما خُصَّ٩، وذلك خروج عن موجب الظاهر ويتعلق بنوع آخر.
واعلم أن قوله تعالى :﴿ قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنونَ باللهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ ﴾ - إلى قوله في سياق الآية – ﴿ مِنَ الّذِينَ أوتُوا الكِتَابَ١٠ ﴾، توهم قوم أنه منصرف إلى جميع الكفار وهم أصناف : فمنهم الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وليس ذلك صفة أهل الكتاب، فإنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر.
وقوله :﴿ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ١١ ﴾ : صفة غير أهل الكتاب وكثير من الأحكام.
وقوله :﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ﴾١٢ هو وصف أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد.
وذكروا أن ظاهر هذا يقتضي أخذ الجزية من أصناف بالكفار، إلا ما قام دليل الإجماع في حق مشركي العرب، وهذا باطل، فإن الله تعالى قال :﴿ قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنونَ باللهِ ﴾، فوصف الذين يقاتلون بأوصاف، فلتكن الأوصاف راجعة إلى الضمير المذكور أوّلاً، وقوله :﴿ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ﴾، وصف لهم، ﴿ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ ﴾ يرجع إليهم أيضا، وقوله :﴿ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ ﴾، ينبغي أن يكون نَعتاً للذين، فإذا لم يقولوا ذلك فقد نعت قوماً بنعت، وذكر بعده نعتاً لا لمنعوت متقدم، وذلك يستحيل قطعاً.
فلا جرم رجع كل من يرجع إلى فهم، ونحصل إلى أن الآية نزلت في حق أهل الكتاب.
يبقى أن يقال : كيف وصفهم بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ؟
قيل، يحتمل أن يقال : إنهم بمنزلة الذين لا يؤمنون في باب الذم، ومثله في مَنْ يوالي الكفار من المؤمنين، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي.
ومعناه أنهم لو كانوا ينتفعون بالإيمان بالله، ما اتخذوهم أولياء.
وقد قيل : معناه أنهم لم يؤمنوا عن يقين ومعرفة، وقد قيل : لا يؤمنون بذلك على ما يؤمن به المؤمنون، وقد قيل : لم تكمل معرفتهم بالله تعالى.
قوله تعالى :﴿ حَتّى يُعطُوا الجِزْيَةَ ﴾ : فالجزية عطية مخصوصة، قيل سميت جزية لأنها جزاء على الكفر، وقيل اشتقاقها من الأجزاء بمعنى الكفاية، أي أنها تكفي من يوضع ذلك فيه من المسلمين، وتجزى عن الكافر في عصمته.
قوله تعالى :﴿ وهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ : الصغار هو النكال، وصف بذلك لأنه يصغر صاحبه، بأن يدفعوها عن قيام، والآخذ لها قاعد، ويعطيها بيده مشياً إلى الوالي الطالب.
وفائدة هذين الشرطين الفرق بين ما يوجد منهم مع كفرهم، وبين ما يوجد من المسلمين من الزكاة، فكما يقترن بالزكاة المدح والإعظام والدعاء له، فيقترن بالجزية الذل والذم، ومتى أخذت على هذا الوجه، كان أقرب إلى ألا يثبتوا على الكفر لما يتداخلهم من الأنفة والعار، وما كان أقرب إلى الإقلاع عن الكفر فهو أصلح في الحكمة، وأولى بوضع الشرع.
وعلى هذا، إذا قال القائل : كيف يجوز العدول عن استئصال الكفار وتطهير الأرض منهم إلى تعزيزهم في ديارنا ونصرتهم بأنفسنا وأموالنا مع عظيم كفرهم، ومع قوله تعالى :﴿ تَكَادُ السّمَواتُ يَتَفَطّرْنَ مِنْهُ١٣ ﴾، ثم يعصم ماله بقدر يسير، وهل هذا إلاّ كالرضا بكفرهم، وتمهيد أسبابه لهم.
فيقال في إبطال ذلك : إن قتل الكافر مؤيس من التوبة، وإذا ترك بشريطة الجزية فيلحقه من الذل ما يضجره ويحمله على الإسلام، هذا مع نفع يعود إلى١٤ المسلمين، ومع مخالطة الكافر للمسلمين الداعية له إلى تدبر أدلة الإسلام، وهذا المعنى لا فرق فيه بين طائفة وطائفة، إلا أنه يمكن أن يقال : إن قتل من لا كتاب له أقرب إلى تعظيم أمر الدين، ولأن أهل الكتاب أقرب إلى تدبر معاني الكتاب لتقارب ما بين الأديان وتشاهدها على صدق نبينا صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يكون الإصحاب بالجزية أقرب إلى إيمان أهل الكتاب منه إلى غير أهل الكتاب.
وقوله تعالى :﴿ تَكَادُ السّمواتُ يَتَفَطّرْنَ مِنهُ ﴾ : تعظيم فيما يتعلق بالآخرة، ورجوع وبال كفره عليه في الميعاد، ومع هذا فيمهل الشرع أسباباً هي داعية إلى صلاح حاله في ماله.
وليس لقائل أن يقول : وإذا كان ذلك كذلك فلم يرزقون ويحسن إليهم،
لأن نعمة الله تعالى لا تنافي استعظامه للكفر، فكذلك إقرارهم على المقام في بلادنا بأخذ الجزية لا تنافي استعظام كفره.
وإذا تقرر ذلك أمكن أن يقال : الجزية عقوبة ليحصل بها زجره عن كفره، والعقوبة منقسمة إلى ما يكون زجراً لمصلحة المعاقب، وإلى ما يكون جزاء.
فأما الجزاء فلم يشرع لمصلحة المعاقب، فعلى هذا لا نقول : يجب على الكفار الجزية متى اقتضت عصمة، فكأنها دفع القتل عنه ليتدبر قبح القبح فيسلم، فجرى مجرى العبادات، وما يجب فعله لا يعد من العقوبات.
فإن قيل : إنما يجب عليهم ما يحسن لا ما يقبح ويحرم، فكيف يحسن منه دفع الجزية، ومن الإمام أخذها، وإذا أخذناها منه على طريق عصمة دمه، فقد رضينا بمقامه على كفره، وهم متى أرادوا دفع الجزية فقد أرادوا مقامهم على الكفر، وذلك يوجب قبح الدفع والأخذ، ولو كانوا بالجزية حاقنين دماءهم كما بالإسلام، كانوا مخيرين بينهما، فلا يمكن أن يقال : إن الجزية واجبة تحقيقاً، ولكن يقال إن الجزية إضجار ومعاقبة ليرجع عن كفره ؟
ويجاب عن هذا بأن يقال : بأن الذي في الكافر من كفره، يقتضي إباحة دمه، لكن حرمة الكتاب تقتضي استبقاءه لما في استبقائه من توقع إسلامه، ولولا ذلك لكان القتل أولى به، وإذا كان كذلك فقد دفع الكافر إلى القتل، أو دفع الجزية، وفي دفعها إزالة القتل، فواجب عليه أن يفعل ذلك لإزالة الضرر العظيم.
فإن قيل : إن القتل امتنع ببذل الجزية لما في أخذ الجزية من توقع إسلامه، والمقصود ذلك، فيلزم على مساقه أن يكون ذلك محتوماً، ويجب علينا أخذ الجزية منه، ويمتنع قتله. والجواب : أن الكافر إذا لم يعرف حُسنَ الإسلام، فقد دفعه الشرع إلى أحد أمرين : إما القتل، وإما الجزية، وهو يعلم أن الجزية أهون عليه من القتل، وفي الجزية حقن الدم، فيحسن بقضية العقل والشرائع كلها دفع الجزية، تحقيقاً لمقصود دفع شر القتل، ووجب بحكم شرعنا الجزية عليه، لما فيه من حسن توقع إسلامه، ودفع قتل يعجله إلى النار، ففي ذلك مصلحة للكافر بحكم دينه الذي هو عليه عند جهله بحسن الإسلام، وبحكم ديننا الذي به عرفنا حسن الإسلام، وتوقعه منه ببذل الجزية، إلا أنه إذا امتنع فلا يمكن تقريره في ديارنا على كره منه، لما فيه من غائلة هربه وترصده لأذية المسلمين، فوجب قتله لدفع الضرر، أما إذا توطن وتأهل وطلب منا الذمة اندفعت غائلته، فحسن بذل الجزية لهذا المعنى.
ومعلوم أن من أكره على دفع ماله بالقتل، وجب عليه دفع ماله لدفع شر القتل عن نفسه، فعلى هذا يجب على الذمي بذل الجزية لدفع شر القتل عن نفسه، ويحسن من المسلمين أخذها منهم، لما يتوقع في ذلك من إسلامه.
وقد قيل : يحسن أخذ الجزية في مقابلة مساكنتهم لنا وذبنا١٥ عنهم، فالكافر ليس يبذل على هذا القصد، ولكن يبذلها لدفع القتل، ووجه الوجوب عليه هذا : فأما المسلم، فإنما يأخذها لحق المساكنة، ولأجل ذبنا عنهم، فقيل لهم : فإذا وجبت الجزية عليهم لهذا المعنى، فلا بد أن يكون الحقن مقصوداً، وإنما يكون الحقن مقصوداً، وتقريرهم في ديارنا مقصوداً معنياً، إذا كان البقاء على الكفر مراداً، فإن من ضرورة تقرير الكافر في ديارنا والتزام الذب عنه، الرضا بفعله، وإرادة الكفر منه، فلا بد أن تكون الجزية عقوبة وزجراً عن الكفر، حتى تكون إرادة الزاجر كراهة المزجور عنه. فأما إذا كانت الجزية عرضاً عن المساكنة أو عن الذب، كان الذب مقصوداً، ووجوب تعظيمه وصيانته والذب عنه، يقتضي إرادة الكفر لا محالة. وإن جعلت الجزية لدفع القتل، فدفع القتل واجب، كما أن الإسلام وجب لدفع العقاب، ودفع العقاب واجب، فإذا يجب أن يكون مخيراً بين الإسلام الذي يدفع به العقاب، وبين الجزية التي يدفع بها القتل، فعلى هذا يمكن أن يكون اختيار من اختار، كون الجزية في مقابلة الذب والساكنة ضعيفاً، وإنما المعتمد كون الجزية دافعة للقتل في حق الكافر، ونحن نأخذها لمنفعة المسلمين، وغر
٢ - سورة الأنفال، آية ٣٩..
٣ - سورة الحج، آية ١٧..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود في سننه..
٥ - كذا بالأصل، ولعلها: إذ لا يتناولهم لفظ مطلق أهل الكتاب..
٦ - سورة الأنعام، آية ١٥٦..
٧ - سورة التوبة، آية ٢٩..
٨ - سورة التوبة، آية ٣٦..
٩ - وردت "اختص" في نسخة أخرى..
١٠ - سورة التوبة، آية ٢٩..
١١ - سورة التوبة، آية ٢٩..
١٢ - سورة التوبة، آية ٢٩..
١٣ - سورة مريم، آية ٩٠.
١٤ - وردت ـ على ـ في إحدى النسخ..
١٥ - ذنبنا عنهم: دفاعنا عنهم..
ذكر الأصم : أنه راجع إلى أهل الكتاب، لأنه مذكور بعد قوله :﴿ إنَّ كَثِيراً مِنَ الأحبَارِ والرُّهبَان لَيَأْكُلُونَ أَموَالَ النّاسِ بِالبَاطِلِ ﴾، وغيره حمل ذلك على كل كافر، وذلك مدلول اللفظ، ومعطوف على المتقدم باللفظ العام، لأنه وصف لما تقدم، ولأنه مستقل، وإن لم يتعلق بما تقدم.
وقد روي عن أبي ذر رضي الله عنه أن قائلاً قال له وهو بالربذة : ما أنزلك هذا المنزل ؟ فقال : كنا بالشام فقرأت هذه الآية، فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب لا فينا، فقلت : لا، بل فينا وفيهم.
وكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا ويقول كذا، فكتب إليّ عثمان بالإقبال إليه، فأقبلت، فلما قدمت المدينة، كثُرَ علي الناس حتى كأنهم لم يروني فآذوني، فشكوت إلى عثمان فقال : تنح قريباً، فتنحيت إلى منزلي هذا.
وأكثر العلماء على أن الوعيد على الكنز على من يمنع حق الله تعالى فيه، فما لم يؤد حق الله تعالى منه، فهو كنز كان على وجه الأرض أو تحته.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال :" ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء يوم القيامة فيحمى ويكوى به جنبه وجبينه١ "، وقال :" من له مال فأدى زكاته فقد سلم ".
ولا خلاف في جواز دفن المال المزكى أو غير المزكى إذا أدى زكاته من موضع آخر.
وقد روي عن بعض السلف، أن المراد بالآية العدول عن الإكثار وجمع المال، وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يجيء كنز أحدكم شجاع أقرع فإذا رأى صاحبه هرب منه فيطلبه فيقول : أنا كنزك٢ ".
وعلى الجملة، المعقول من الآية تعليق الوعيد على من كنز ولم ينفق في سبيل الله، ولم يتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل الله، فلا بد أن يكون كذلك، فلا أثر لصفة الكنز، وليس في الآية بيان الواجب من غيره، ولكن من المعقول أن صورة الكنز كما لا تعتبر، فالامتناع من أداء ما ليس بواجب لا يعتبر أيضاً، وإذا لم يعتبر هذا ولا ذاك جملة، فليس إلا أن المراد منع الواجب من الزكاة وغيره، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفاً، فلذلك خص الوعيد به.
وإذا كان المقصود من ذكر الكنز أن صاحبه يمسكه ولا ينفق منه في سبيل الله تعالى، فظن قوم أن من صاغ الدراهم حلياً ولا يزكي منه فهو كانز.
وهذا استدلال بطريق المعنى، وإلا فاللفظ من حيث الظاهر لا يدل عليه أصلاً. ويحتمل أيضاً من وجه آخر، وهو أن هذه الآية إنما نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين، وقصور يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون والحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال زائد على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت، وإلا فقد ثبت بالنقل المستفيض عن النبي عليه الصلاة والسلام إيجابه في مائتي درهم، خمسة دراهم، وفي عشرين دينار، نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان في الصحابة ذوو ثروة ونعمة وأموال جمة، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف. أو يحتمل أن قوله :﴿ ولا ينفقونها ﴾ أي لا ينفقون منها تحذف من، وبينه في مواضع أخر من قوله تعالى :﴿ خُذْ أَمَوالِهِم صَدَقَةً٣ ﴾.
وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية :﴿ والّذِينَ يَكنِزُونَ الذهَبَ والفضَّةَ ﴾، فكبر ذلك على المسلمين، فقال عمر : أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال : يا نبي الله إنه كبر على أصحابك هذه الآية، فقال عليه الصلاة والسلام :" إن الله تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي٤ من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم "، فكبر عمر. فأبان بهذا الحديث أن المراد به إنفاق بعض المال لا جميعه، وأن قوله ﴿ الّذِينَ يَكنِزُونَ ﴾ المراد به منع الزكاة٥.
وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلاّ جيء به يوم القيامة وبكنزه فيكوى به جنبه وجبينه حتى يحكم الله تعالى بين عباده ". فأخبر في هذا الحديث، أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيرهما، إلى قوله تعالى :﴿ فَتُكوَى بِهَا جِبَاهُهُم وَجُنُوبُهُم وَظُهُورُهُم هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُم٦ ﴾، يعني أنه لم يؤدوا زكاته.
وروى ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الذي لا يؤدي زكاته يمثل له ماله يوم القيامة شجاع أقرع له زبيبتان تلزمه أو يطوقه، فيقول أنا كنزك أنا كنزك "، فأخبر أن المال الذي لا يزكى هو الكنز، فبان به أن الكنز اسم لما لا يؤدى زكاته في عرف الشرع، والوعيد انصرف إليه، فاعلمه.
٢ - أخرجه الإمام أبو جعفر بن جرير، عن بشر عن يزيد، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، ورواه أيضا ابن حبان في صحيحه..
٣ - سورة التوبة، آية ١٠٣..
٤ - أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في المستدرك..
٥ - انظر محاسن التأويل لجمال الدين القاسمي ج ٨، ص ٣١٣٢ حتى ص ٣١٤٢..
٦ - سورة التوبة، آية ٣٥..
وظاهر ذلك يدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور والسنين، من عبادات وغيرها، بالأشهر العربية دون الشهور التي يعتبرها العجم والروم، وإن شهور الروم وإن لم تزد على اثني عشر، ولكنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص. وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، والذي ينقص لا يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب سير القمر في البروج، ثم قال تعالى :﴿ مِنهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾، ولا خلاف أن هذه الأربعة الحرم لها ضرب من الاختصاص، وأنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وإذا خصها الله تعالى بأنها حرم، فلا بد أن يكون لهذا الاختصاص معنى، وليس يظهر ذلك المعنى في حكم سوى المقابلة، وقد نسخ ذلك، أو تحريم القتل، حتى إن الدية تتغلظ بالأشهر الحرم، فهذا وجه التخصيص.
قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُم ﴾، على قول ابن عباس هو راجع إلى الجميع، على قول بعضهم هو راجع إلى الأشهر الحرم خاصة، ومن يخصص بالأربعة يقول لأنها إليها أقرب ولها مزية تعظيم الظلم.
قوله تعالى :﴿ يَوْمَ خَلَقَ السّمَواتِ والأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ﴾ : فيه دليل على أن الله تعالى وضع هذه الشهور وسماها بأسمائها، على ما رتبها عليه يوم خلق السموات والأرض، وأنزل الله ذلك على أنبيائه في الكتب المنزلة، وهو معنى قوله تعالى :﴿ إنَّ عدَّةَ الشهُورِ١ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَّ شَهْراً ﴾، وحكمها باق على ما كانت عليه، ثم نزلها عن مرتبتها تغير المشركين لأسمائها وتقديم المؤخر، وتأخير المقدم، في الاسم فيها، والمقصود من ذلك اتباع أمر الله تعالى فيها، ورفض ما كانت عليه الجاهلية من تأخير أسماء الشهور وتقديمها، وتعليق الأحكام على الأسماء التي رتبوها عليها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع في خطبته بالعقبة :" أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض٢ ".
وإن الذي تجعله الجاهلية، من جعل المحرم صفراً وصفر محرماً، ليس يغير ما وضعه الله تعالى، والذين صاروا إلى جعل بعض السنين ثلاثة عشر شهراً، ليس على ما توهموه، لأن الله تعالى لم يضع غير اثني عشر شهراً، فهذا وجه.
ويحتمل أن يكون قوله في كتاب الله، أن الله تعالى قسم الزمان في الأصل اثني عشر قسماً، فجعل نزول الشمس في كل برج من البروج الاثني عشر، قسماً منها، فيكون قطعها للفلك في ثلث مائة وخمس وستين يوماً وربع يوم، فيجيء نصيب كل قسم منها بالأيام الثلاثين يوماً وكسر، وقسم الأزمنة أيضاً على سير القمر، فصار القمر يقطع الفلك كل تسعة، وعشرين يوماً ونصف، وجعل السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوماً وربع يوم، واختلفت سنة الشمس والقمر، مع اتفاق أعداد شهورها، وكان تفاوت ما بينها أحد عشر يوماً بالتقريب، وكانت شهور القمر ثلاثين وتسعة وعشرين، فيما يتعلق بها من أحكام الشرع، ولم يكن للنصف الذي هو زيادة على تسعة وعشرين يوماً حكم، وكان ذلك هو القسمة التي قسم الله تعالى عليها السنة في ابتداء وضع الخلق، ثم جاءت الأمم فغيرت هذا الوضع، وكان قصدهم بذلك أن لا تتغير الشهور عن أوقاتها التي هي عليها شتاء وصيفاً وخريفاً وربيعاً، فاقتضاهم ذلك أوضاعاً مختلفة، فوضعت الروم اثني عشر شهراً، بعضها ثمانية وعشرون، وبعضها ثمانية وعشرون ونصف، وبعضها أحد وثلاثون، وكانت شهور الفرس ثلاثين إلا شهراً واحداً، وهو أبا زماه، فإنه خمسة وثلاثون، ثم كانت تكبس في كل مائة وعشرين سنة شهراً كاملاً، فتصير السنة ثلاثة عشر شهراً، فأما أشهر العرب، فإنها تسعة وعشرون أو ثلاثون، وأبطل الله تعالى كبسه الفرس، وجعلها ثلاثة عشر شهراً في بعض السنة، وأبطل ما كان المشركون عليه من تغيير النظام، وصارت الشهور التي لها أسامي لا تؤدي الأسماء معانيها، لأنها تارة تكون في الصيف، وتارة تكون في الشتاء، وأراد الله تعالى أن يجعل شهر رمضان تارة في الصيف وتارة في الشتاء، استيغالهم مصالح الدين والدنيا في التخفيف تارة، وفي التغليظ أخرى، ولم يكن صومنا كصوم النصارى في الربيع لا يختلف.
٢ - أخرجه ابن جرير عن معمر بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله..
هو متعلق بما تقدم، وهو أن العرب كانت تجعل المحرم صفر وصفر المحرم في بعض السنين، على ما كانت تقضيه الكبسة التي كانت لهم، وأول من وضع ذلك من العرب ملك لهم يقال له القَلَمّس١، واسمه حذيفة، وهو أول من أنسأ النسيء، أنسأ المحرم، فكان يحله عاماً ويحرمه عاماً، فكان إذا حرمه كان ثلاثاً حرماً متواليات، وهي التي يقال ثلاثة سرد، وهي العدة التي حرم الله تعالى في عهد إبراهيم، فإذا أحله دخل مكانه صفر في المحرم لتواطيء العدة، يقول قد أكملت الأربعة كما كانت، لأني لم أحل شهراً إلا وقد حرمت مكانه شهراً، لكنه ليس مسروراً، فحج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد عاد المحرم إلى ما كان في الأصل، فأنزل الله تعالى :﴿ إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ ﴾، فأخبر الله تعالى أن النسيء الذي كانوا يفعلونه كفر، وأن الأشهر الحرم الثلاثة لا بد أن تكون متوالية، وأن صفر لا يقام مقامها، فهذا معنى هذه الآية.
وقال قائلون في معنى هذه الآية إن روماً من بني كنانة وغيرها، كانوا يؤخرون الحج عن وقته في كل سنة شهراً، فيوقعونه في المحرم بعد ذي الحجة، وفي السنة الثانية في صفر، فبين الله تعالى أن هذا الصنيع كفر.
يستدل به على إضافة الفعل إلى غير فاعله، إذا كان منه تسبب، فإنه تعالى قال :﴿ إذْ أَخْرَجَهُ الذِينَ كَفَرُوا ﴾، وما أخرجوه حقيقة بل أخافوه حتى اضطر إلى أن يخرج، وكان الصديق معه، فتارة كان يمشي بين يديه، وتارة يمشي خلفه، وقال يا رسول الله : إذا ذكرت الرصد مشيت بين يديك، وإذا ذكرت الطلب مشيت خلفك.
وظن جهال الإمامية أن قول الرسول عليه الصلاة والسلام لأبي بكر :" لا تحزن "، يدل على جهل منه ونقيصة، وذلك يوجب مثله في قوله تعالى لموسى :﴿ فَأَوْجَسَ في نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لاَ تَخَفْ١ ﴾، وقوله في قصة إبراهيم :﴿ فَلَمّا رَأَى أَيْدِيَهُم لاَ تَصِل إلَيْهِ نَكِرَهُم وَأَوْجَسَ مِنْهُم خِيفَةً قَالُوا لاَ تَخَفْ٢ ﴾.
فإذا لم يكن ذلك طعناً عليهم ووصفاً لهم بالنقص، فكذلك في أبي بكر، وليس حزنه من جهة الشدة والحيرة، بل لتجويزه وصول الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإليه، وما كان الخبر أتاه بأن الرسول كان معصوماً من القوم محروساً منهم، حتى قال له الرسول لا تحزن، فسكن إلى ذلك.
وقوله تعالى :﴿ واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ٣ ﴾ : نزل بعد الهجرة بسنين، فلا يوجب كون أبي بكر عالماً بعصمته، ولو علم أنه يسلم منهم بنفسه لم يأمن مضرةً بجراحة أو غيرها، وفي ذلك جواز الحزن والخوف عليه.
٢ - سورة هود، آية ٧٠..
٣ - سورة المائدة، آية ٦٧..
اختلفوا في عمومه، فمنهم من قال : إنه أراد به كل المؤمنين، وعند أبي علي الجبائي الآية مخصوصة.
واختلف العلماء في وجوب هذا التغير : فمنهم من قال : المراد به وجوب النفور إلى الرسول إذا دعا إلى الجهاد وأمر به، وهو الأصح. ومنهم من قال : إن المراد به عند الحاجة وظهور الكفرة واشتداد شوكتهم.
وظاهر الآية يدل على أن ذلك على وجه الاستدعاء، فعلى هذا لا يتجه الحمل على وقت ظهور المشركين، فإن وجوب ذلك لا يختص بالاستدعاء، وإذا ثبت ذلك فالاستدعاء والاستبقاء يبعد أن يكون موجباً شيئاً لم يجب من قبل، إلا أن الإمام إذا عين قوماً وندبهم إلى الجهاد، لم يكن لهم أن يتثاقلوا عنه، وله ولاية التعيين، ويصير بعينه فرضاً على من عينه لا لمكان الجهاد، ولكن طاعة الإمام واجبة، وإذا لم يكن كذلك وكان من أهل الثغور كفاية، فالذي قاله أصحابنا أنه يجب على الإمام أن يفرق في الجهات الأربعة قوماً في كل سنة، يظهر لهم النكاية في العدو، ويمنعهم ذلك من انتهاز فرصة الاحتشاد والاستعداد، وإذا حصلت الكفاية لقوم، سقط عن الباقين، فليس الجهاد على هذا الرأي فرضاً على كل واحد، وإنما هو فرض كفاية، فإذا قام به البعض سقط عن الباقين.
ظاهر الآية أن المسكين غير الفقير، وقال قوم : هما واحد، إلا أنه ذكرهما باسمين لتأكيد الأمر فيه، وليس ذلك بصحيح.
وإذا ثبت ذلك، فللشافعي وأبي حنيفة اختلاف في اللفظ في أيهما أعظم حاجة وأشد خصاصة، وليس يتعلق به كبير فائدة شرعية، وليس ببين أن يجعل المسكين صنفاً والفقير صنفاً، فيقال : يعطي الصنفان وهما فقيران إلا أن أحد الصنفين أشد فقراً من الآخر، فمن هذا الوجه يقرب قول من جعلهما واحداً.
ومطلق لفظ الفقر لا يقتضي الاختصاص بالمسلمين دون أهل الذمة، ولكن تظاهرت الأخبار في أن الصدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين، وترد في فقرائهم.
والذي يمكن أن يفهم من الآية، ومن السنة، أن الله تعالى أطلق الصدقات، وبين الرسول عليه الصلاة والسلام أصناف الصدقات، وما تجب فيه الزكاة، وما لا تجب، والذي لا تجب قد تجب فيه إذا اتجر.
وقد حكي عن زين العابدين أنه قال : إنه تعالى علم قدر ما يرتفع من الزكاة، وأنه بما تقع به الكفاية لهذه الأصناف فأوجبه لهم، وجعله حقاً لجميعهم، فمن منعهم ذلك فهو الظالم لهم رزقهم.
ولذلك قال قوم من العلماء : إن الزكاة تصير شركة للفقراء، وهو قول الشافعي، وظاهر الآية يقتضي ذلك، لأن قوله : إنما الصدقات للفقراء كالتمليك وإنما لم يجعل تمليكاً حقيقة من حيث جعل لوصف لا لعين، وكل حق جعل لموصوف، فإنه لا يملكه إلا بالتسليم، إلا أن ذلك لا يمنع استحقاق الأصناف لأنواع الصدقات، حتى لا يحرم صنف منهم.
واختلف العلماء في استيعاب هذه الأصناف : فمنهم من قال الفرض به بيان المصارف حتى لا يخرج عنهم، ثم الاختيار إلى من يقسم، وهو قول عمر وابن عباس وحذيفة وخلق من التابعين، كالحسن وإبراهيم وغيرهما، حتى ادعى مالك الإجماع في ذلك.
وقال الشافعي وبعض أهل الظاهر : يتعين استيعاب الجميع إلا إذا عدم بعضهم، فيصرف نصيبه إلى الباقين١. فمن هذا الوجه، فارق إضافة الأموال إلى مستحقيها، وفارق الوصية إلى أقوام، فإنه إذا تعذر الوصول إلى بعض من أوصى له لا يصرف نصيبه إلى الباقين.
ورأى الشافعي أن استيعاب جهات الحاجات، يجوز أن يكون أعظم في القربة، ولا يجوز رفع المزية بلا دليل مع موافقة الظاهر له، وإذا تعذر البعض، فالأقرب إلى القربة الصرف إلى الباقين.
فعلى هذا لا نقول : إن الصرف على الأصناف على نحو صرف الوصاية إلى الأصناف والأشخاص، وأن الإضافة إليهم بلام التمليك، ولكنا ندعي أن استيعاب جهات الحاجات في القربة أو في الصرف إلى واحد.
وإذا ثبت زيادة القربة في المنصوص عليه لم يجز إلغاؤه، وهذا بين.
وقد شنع علي بن موسى القمي على الشافعي بأن قال : إذا كان قدر الواجب نصف دينار، وكان هو القاسم لذلك، ووجد السهمان كيف يفرق ذلك فيهم، ولا يسد مسداً، فإنه ينقسم نصف دينار على ثمانية أصناف، ويصرف من كل صنف إلى ثلاثة، فيحتاج أن يقسمه على أربعة وعشرين سهماً، وأحد السهام المكاتبون، والمقصود إزالة الرق، وأي أثر لهذا القدر في إزالة الرق.
والذي ذكره جهالة تلزم عليه، إذا أوصى الموصي بها للأصناف، ولأنه ليس الأمر مقصوراً عليه وحده، بل إذا كان بينه وبين غيره حصل الاستيعاب، حصل مقصود الأصناف منه ومن غيره، فلا معنى لهذا التشنيع.
ولا خلاف أن لا يجوز صرف الجميع إلى العاملين عليها، فإنه إنما يأخذ أجرته، فلو وضع فيه تناقض، فإنه يسعى للفقير، فكيف يأخذ الكل إلى نفسه، فهذا آخر فصول هذه الآية.
الفصل الآخر في الفقراء والمساكين، وقد ذكرهما الله تعالى باسمين، فقال بعضهم : ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في هذه الصدقات بأشد من تأكيد غيرهم. ومنهم من قال : ذكرهما باسمين لكونهما صنفين، وهذا ما قدمناه.
ثم اختلفوا في معنى الفقير : فمنهم من قال إنه المتعفف الساتر فقره عن الناس، وقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله :﴿ لِلفُقَراءِ الّّذِينَ أُحْصِرُوا في سَبِيلِ اللهِ ﴾. . . إلى قوله :﴿ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التّعَففِ٢ ﴾،
والمسكين الذي يسأل إذا احتاج، ويمسك إذا استغنى، ويتخاضع للمسألة، وذلك هو اختيار الأصم. ومنهم من قال : الفقير هو الضعيف الذي لا يسأل، والمسكين الذي يسأل، ورووه عن ابن عباس، وهو قريب مما قدمناه. وقد قيل : الفقير هو الزمِن الذي لا يقدر على التكسب، والمسكين الصحيح. وقد قيل : الفقير أشد حاجة، فإنه مأخوذ من كسر فقار الظهر، والمسكين دونه في الحاجة. وقد وصف الله تعالى ملاك السفينة، بأنهم مساكين يعملون في البحر وأنه مأخوذ من السكون.
وبالجملة : الفقر في ظاهره أدل على الحاجة من المسكنة، لأن المسكين إنما يدل على حاله على الحاجة من حيث المعنى، وهو التخاضع الذي هو دليل الحاجة لا من حيث اللفظ، والفقر عبارة عن الحاجة.
ومن جعلهما صنفاً واحداً، قال لا فقير إلا ويحسن أن يسمى مسكيناً.
وللفقراء مراتب لا تنحصر في مرتين أو ثلاثة أو أربعة، والذي يعددها ينظر إلى العطف ومعناه، وذلك يقتضي الفرق بينهما، فيقال : الفقير هو الشديد الحاجة مع التعفف، والمسكين هو المظهر لحاجته بالمسألة.
ولعل من جعل الفقير هو الزمِن، فلأن الزمانة تقعد عن الطلب، ومن جعل المسكين الصحيح فلتمكينه من الطلب.
واعلم أن مطلق الفقير ليس فيه شرط وتقييد، بل فيه دلالة جواز الصرف إلى ذوي القربى من بني هاشم وغيرهم، ولكن السنة وردت باعتبار شروط، منها أن يكون من بني هاشم، وروي عن أبي يوسف٣ جواز صرف صدقة الهاشمي إلى الهاشمي، ومن شرائطه ألا يكون كسوباً مقدار كفايته، فإنه عليه الصلاة والسلام قال :" لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرة سوي٤ ". والظاهر يقتضي جواز ذلك، لأنه فقير مع قوته وصحة بدنه، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه.
ومن شرائطه : أن يكون ممن لا تلزم المتصدق نفقته، ولكن هذا الوجه يحرم الزكاة للفقر لا للغرم أو غيره من الصفات.
واختلفوا فيما به يخرج عن كونه فقيراً، فقال قوم : بألا يملك نصاباً،
وقال قوم : إنه لا يتحدد ذلك، ويختلف باختلاف أحوال الناس، فمنهم من يكثر وجوه حرجه، فيعد فقيراً مع ملك نصب كثيرة، وربما احتاج في يوم إلى نصاب، فهذا يعد فقيراً، وهو أقرب إلى الظاهر، وهو مذهب الشافعي رحمه الله تعالى.
واختلفوا في أنه هل يدفع له مقدار أم لا ؟ فقال بعضهم : لا يجوز أن يدفع إليه أكثر مما يصير به غنياً. وقال آخرون : يجوز، وهو الأليق بالظاهر، فإنه تعالى جوز وضع الصدقة في الفقير ولم يفصل.
واختلفوا في هل استحقاق الصدقات كلها بالفقير والحاجة فقط، أو بذلك مع غيره : فمنهم من قال بالوجه الأول، وزعم أن الله تعالى إنما ذكر الأصناف لاختلاف معنى الحاجة فيهم، فأكد ذلك وبينه، وإلا فالوجه الذي لأجله يجوز وضع الصدقة فيهم واحد، على ما قاله عليه الصلاة والسلام، وردها في فقرائهم، فبين أن الاستحقاق بهذا الوجه الواحد، وأما العاملون، فإنهم يأخذون من جهة الفقراء لا من جهة رب المال، إلا أنه لا يدفع إليهم إلا أُجرة سعيهم، فهم كالوكلاء للفقراء، ومنهم يأخذون هذا السهم. وكذلك الجواب عن المؤلفة، حيث كانت، لأنهم مع الغنى كانوا يأخذون لإعزاز الدين.
ومن قال بالقول الثاني قال : إن الغارم قد يأخذ مع الغنى، وكذلك ابن السبيل، وكذلك الغازي.
والأقرب إلى الظاهر هذا القول، فإن الله تعالى ذكر هذه الأصناف، فإن أراد المريد بالحاجة أنه لا بُد منها في جميعهم على بعض الوجوه فصحيح، فإن العامل وإن كان غنياً، ففي صرف أجرته إليه تقوية لأمر الصدقات، فالحاجة إليهم ماسة، وفي الصرف إلى المؤلفة قلوبهم تقوية الإسلام، فالحاجة واقعة، وكذلك الغارم بالديات، تمس الحاجة إليه لتسكين الفايرة٥، وتطفية الفتنة.
وقد استدل قوم في نصرة قول الشافعي ومذهب أبي حنيفة، على أن ذكر العامل يدل على وجوب دفع الزكاة إليهم، وأنه لا يجوز أن يفرق بنفسه، وهذا فيه نظر، لأن ذكرهم يتضمّنُ أنهم إذا كانوا أعطوا نصيبهم، فأما إذا لم يكونوا فلا، وليس في الظاهر أنه لا بد منهم، كما أنه ليس في الظاهر أنه لا بد من رقاب وغارم ومؤلفة.
فأما المؤلفة، فقد قيل كان ذلك وزال، وقد قيل : للإمام أن يتألف قوماً إذا رأى في تأليفهم صلاحاً للمسلمين، لما فيه من دفع ضررهم أو الضرر بمكانهم، فله أن يدفع إليهم سهم المؤلفة قلوبهم، فإن الله تعالى لم يخص وقتاً دون وقت.
وأما الرقاب، فقد اختلف فيه، فقال قائلون أراد به العتق، وهو قول ابن عباس٦، وكان لا يرى بأساً أن يعطي الرجل من زكاته في عتق رقبة، وهو قول الحسن. وقال الأكثرون : المراد به المكاتبون، وهو قول إبراهيم وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم، وعلل سعيد بن جبير وقال : لا يعتق من الزكاة مخافة جر الولاء٧. وذكر علي بن موسى القمي أنهم أجمعوا على أن المكاتب مراد، واختلفوا في عتق الرقاب، وذكر هو وجوهاً بينة في منع ذلك، منها : أن العتق إبطال ملك وليس بتمليك، وما يدفعه إلى المكاتب تمليك، ومن حق الصدقة ألا تجري إلا إذا جرى فيها التمليك، وقوى ذلك بأنه لو دفع الزكاة عن الغارم في دينه من غير إذنه، لم يجزه من حيث إنه لم يملك، فلأن لا يجزى ذلك في العتق أولى.
وذكر أن في العتق جرّ الولاء إلى نفسه، وذلك لا يحصل في دفعه إلى المكاتب، وذكر أن ثمن العبد إذا دفعه إلى العبد لم يملك، وإن دفعه إلى السيد فقد ملكه الغنى، وإن دفعه بعد الشراء والعتق، فهو قاضٍ ديناً، وذلك لا يجوز في الزكاة.
وأما حق الغارمين، فقد قيل هو المستدين من غير سرف ولا وفاء في ماله بدينه، وروى قريب من ذلك عن ابن عمر وعائشة، وروى علي بن موسى القمي بإسناده عن الحسن بن علي أنه قال : أن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : لذي فقر مدقع، ولذي غرم مفظع، ولذي دم٨ موجع، وعلى هذا إذا تحمل مما له فيها مصلحة للمسلمين، وروي عنه صلى الله عليه وسلم في حديث قبيصة بن مخارق أنه قال : تحملت حمالة فأتيته صلى الله عليه وسلم فسألته فقال :" يُؤديها عنك إذا جاءت نعم الصدقة "، ثم قال :" أما علمت أن المسألة لا تحل إلا لثلاثة : رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش أو سداداً من عيش، ورجل أصابته فاقه وحاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجر من قومه، فخلت له المسألة، حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش ثم يمسك "، فدل قوله من تحمل حمالة، أن المسألة تحل له حتى يؤدي ثم يمسك، على أنه غني، لأنه لو كان فقيراً لم يلزمه أن يمسك، بل كان يحل له أن يسأل لفقره.
وظاهر الغارم يتناول الغارمين كلهم.
وقوله : وفي سبيل الله : قد قيل، إن المراد به الغازي وإن كان غنياً٩،
وقيل : هذا يختص بالفقير، ومنهم من يقول : إن كان مستغنياً بالفيء ولم يعط، وإلا أعطى.
والظاهر أنه الغازي، وأنه لا فرق بين أن يكون محتاجاً أو معه من الفيء ما يحرم أخذ الصدقة، لأنه يحتاج لعدة جهاده وتقوية قلب
٢ - سورة البقرة، آية ٢٧٣..
٣ - وأبو يوسف هو صاحب الإمام الأعظم أبو حنيفة رضي الله عنهما، وهو القاضي الفقيه أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم صاحب كتاب لخراج المشهور..
٤ - أخرجه الإمام أحمد في مسنده والزيلمي في نصب الراية..
٥ - وفي نسخة أخرى: لتكسين النازلة..
٦ - انظر تفسير الطبري، وتفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور السيوطي، وتفسير ابن كثير..
٧ - انظر المصادر السابقة من كتب التفسير..
٨ - وهذا أخرجه أبو داود في سننه والطبراني في معجمه الكبير، وابن حميد في مسنده..
٩ - ذكر ذلك الطبري في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور..
فيه دلالة على أن اللاعب والخائض سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه لأن المنافقين ذكروا أنهم قالوا ما قالوه لعباً، فأخبر الله تعالى عن كفرهم باللعب بذلك، ودل أن الاستهزاء بآيات الله تعالى كفر.
روى ابن مسعود أنه قال :" جاهدهم بيدك، فإن لم تستطع فبلسانك، فإن لم تستطع فاكفهر في وجوههم "، وقال ابن عباس : جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان.
والذي قالوه من كلمة الكفر قول الخلامس بن سويد بن الصامت : إن كان ما جاء به محمد حقاً لنحن شر من الحمير.
وقول عبد الله بن أبي في قوله تعالى :﴿ لَئِنْ رَجَعْنَا إلىَ المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْها الأَذَلَ١ ﴾، وفيما قص الله تعالى علينا من نبأ المنافقين مع استيعابهم، دليل على أن توبة الزنديق مقبولة إذا لم يظهر الكفر.
ذكر ابن عباس في سبب نزول هذه الآية، أن حاطب بن أبي بلتعة أبطأ عنه ماله بالشام، فحلف في مجالس الأنصار، إن سلم ذلك لأتصدق منه، ولأصلن منه، فلما سلم بخل بذلك، وهذا نذر التبرر المتفق عليه. وقيل نزل ذلك في شأن المنافقين الذين عاهدوا ثم أخلفوا.
واستدل به قوم على أن من حلف إن فعل كذا، فعلي كذا لله تعالى، أنه يلزمه. وظاهر الآية لا يدل عليه، لأنه ليس بنذر، ولا قصد فعله، ولا إنه مما يقال فيه : لئن أتانا من فضله. وقد استدل به على أن من قال إن آتاني الله مالاً تصدقت به وفعلت وصنعت.
يحتمل أن يكون ذلك من الله تعالى، ويحتمل أن يكون بعض المعاصي داعياً إلى البعض، فكأن البخل أعقب النفاق. وأبان به أن بعض الأفعال قد تكون لطفاً في بعض، وبعضها فساداً في بعض.
وقد يدل ذلك على أن الذي عاهد لم يكن منافقاً من قبل، فأعقبهم نفاقاً ثبتوا عليه إلى الممات، وهو معنى قوله :﴿ إلى يوم يلقونه٢ ﴾.
٢ - انظر ما ذكره السيوطي في لباب النقول، والبيهقي في الدلائل..
كلمة " أو " ها هنا ليست للتخيير، لأن التخيير، لا يصح مع قوله :﴿ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ ﴾.
وذكر السبعين كالمبالغة، مثل قول القائل : لو سألتني مائة مرة ما أجبتك، ولا يكون المراد به التحديد، وذلك معلوم من الفحوى. ويدل عليه، أنه علل بأنهم كفروا بالله، والعلة قائمة بعد السبعين، فظهر أن ذلك ليس بتخيير، بل هو منع من الاستغفار.
وروي في بعض الأخبار أنه عليه الصلاة والسلام قال في هذه الآية : خيرني ربي، والصحيح الأول.
وكان قد صلى على عبد الله بن أبي، بناء على الظاهر من لفظ إسلامه، وأما لأنه لم يعرف نفاقهم، ثم لم يكن يفعل ذلك لما نهي عنه.
يدل على تفضل السابق إلى الخير على التالي، لأنه داع إليه بسبقه، والتالي تابع له، فهو إمام له وله أجر مثله، كما قال صلى الله عليه وسلم :
" من سن سنةً حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سُنة سيئةً "، الحديث١.
الأكثرون من المفسرين، على أن المراد بالآية الصدقات الواجبة في الأموال، وليس في الآية بيان مقدار المأخوذ ولا المأخوذ منه، وليس في الآية بيان شروط معتبرة في المأخوذ منه، ولا معتبرة في المأخوذ، ولا شروط في المؤدي، ولا شروط في الآخذ.
قوله تعالى :﴿ تُطَهرهُم وتُزَكيهِم بِهَا ﴾ : يدل على أن الله تعالى جعل الزكاة تطهيراً، ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم طمأنينة لقلوبهم، وعلماً على أن الله تعالى غفر لهم، فإنه لا يصلي على قوم إلا أن يؤذن له في ذلك، ولا يؤذن له في ذلك إلا أن يكون مغفوراً له.
يدل على أن الأفعال تختلف بالقصود والإرادات، ولذلك قال :﴿ وَلَيَحْلِفُنَّ إنْ أَرَدْنَا إلاَّ الحُسْنَى ﴾، وإن الذي اتخذ لقصد التفريق بين المؤمنين لا تحل به حرمة، ولذلك قال :﴿ لاَ تَقُم فِيهِ أَبَداً ﴾، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهدمه.
هو من المجاز المستحسن، وذم اتخاذ المسجد للطعن على الإسلام والتفريق بينهم، وبين أن هذا الصنيع يوجب انهيارهم في نار جهنم، فعبر عن ذلك بقوله :﴿ أَمّنْ أسّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانْهَارَ بِهِ في نّارِ جَهَنّم ﴾. ثم أبان عن موتهم على الإصرار بقوله :﴿ لاَ يَزَالُ بنْيَانُهُم الّذِي بَنَوْا رِيبةً في قُلُوبِهِم إلاّ أَنْ تَقَطّعَ قُلُوبُهُم١ ﴾.
فجعل بذل أنفسهم في الجهاد وإنفاقهم في ذلك طلباً للثواب بيعاً، وجعل ما طلبوه ثمناً.
ولما كان تعالى هو المرغب في ذلك والداعي إليه، وصف نفسه بأنه اشترى أنفسهم، كما وصفوا بأنهم باعوا وابتاعوا، وفي ذلك دلالة على عظم محل الجهاد ومنزلته.
ودل أن هذا التعبد كما ورد به القرآن، فكذلك التوراة والإنجيل. ودل به على أن الله تعالى لا يخلف الوعد، ولذلك قال :﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ ﴾ ؟ ويدخل في الوعد الوعيد. ثم أبان تعالى ما يتعلق به تمام البشارة في معاهدة الله عز وجل فقال :﴿ التّائِبُونَ العَابِدُونَ ﴾، فبين الله تعالى أنه لا بد في المؤمن المجاهد أن يكون على هذه الصفات، وعند ذلك يكون مبشراً على ما قال في آخره :﴿ وَبَشِّرِ المُؤمِنِينَ ﴾.
وانطوت الآية على سائر العبادات من توبة وعبادة، وقيام بشكر، وأمر بمعروف، ونهي عن منكر.
ثم أجمل ما يأتي على كل مكلف به، وهو الحفظ لحدود الله تعالى، فيدخل تحت ذلك اجتناب الكبائر كلها، والقيام بالطاعات كلها١.
فأبان أنه لا يغفر لهم، وحرم ذلك، لأنه طلب مغفرة ميئوس منها سمعاً.
وأبان أن استغفار إبراهيم لأبيه، كان على توقع الإيمان منه إذا آمن، فلما علم أنه لا يؤمن امتنع من الاستغفار.
فيه دلالة على التأمل في الأقوال، وأن لا نتبع منها إلا ما دلت الدلالة عليه، وبان صدقه، فأما أن نأخذ تقليداً دون أن نعلم صدقه فلا وليس فيه دلالة على أخبار الآحاد والظنون، فإنها لا تقبل عندنا إلا إذا دل الدليل القاطع على وجوب اتباعها والعمل بها عند ذلك الدليل، الذي يوجب العلم به، معلوم صدقه حقيقة، فيكون الإتباع للصادق تحقيقاً.
وقال تعالى في سورة البقرة :﴿ لَيْسَ البِر أَنْ تُوَلوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشْرِقِ وَالمغْرِبِِ، وَلَكِنِ البِر مَنْ آمَنَ بِاللهِ واليَومِ الآخِرِ - إلى قوله - أُولَئِكَ الّذِينَ صَدَقُوا١ ﴾، وهذه صفة أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، المهاجرين والأنصار منهم، ثم قال في هذه الآية :﴿ كُونُوا مَعَ الصَّادِقينَ٢ ﴾، فدل على وجوب إتباعهم والإقتداء بهم، لإخباره أن من فعل ما ذكر في الآية فهم الذين صدقوا، ولا يدل ذلك على وجوب اتباع إجماعهم، إلا إذا بان بالدليل صدقهم فيه.
٢ - سورة التوبة، آية ١١٩..
بيّن في هذه الآية وجوب الخروج على أهل المدينة مع رسول الله في غزواته، إلا المعذورين ومن أرخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود.
وقال الله عز وجل :﴿ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِم عَنْ نَفْسِهِ ﴾، الآية :[ ١٢٠ ] :
أي لا يطلبون المنفعة بتوقية أنفسهم دون نفسه، بل كان الواجب عليهم أن يوقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنفسهم، وقد كان من المهاجرين والأنصار من يفدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ويبذل نفسه للقتل، ليبقى بذلك رسول الله.
وقال تعالى :﴿ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفّارَ وَلا يَنَالُون مِنْ عَدُوٍ نَيْلاً كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾، الآية :[ ١٢٠ ] : استدل به قوم على أن وطء ديارهم إذا جعل بمنزلة النيل من الكفار، وأخذ أموالهم، وإخراجهم من ديارهم - وهو الذي يغيظهم ويدخل الذل عليهم - فهو بمنزلة نيل الغنيمة، ولذلك قال علي : ما وطىء قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا.
روي عن ابن عباس أنه نسخ بقوله تعالى :﴿ انْفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً ﴾، فقال تعالى : ما لهم أن يتفرقوا في السرايا ويتركوا النبي عليه السلام في المدينة وحده ولكن تبقى بقية لتنفعه، ثم ينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
وقال الحسن : لتتفقه الطائفة النافرة، ثم تنذر إذا رجعت إلى قومها،
وهذا التأويل أشبه بظاهر الآية.
قال الله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقّهُوا في الدِّينِ ﴾، الآية :[ ١٢٢ ] : فظاهر الكلام يقتضي أن تكون الطائفة النافرة هي التي تتفقه وتنذر قومها.
وفي الآية دلالة على وجوب طلب العلم، وأنه من فروض الكفاية في بعض المعلومات، وفرض عين في بعض. وفيه دلالة على لزوم قبول خبر الواحد في أمور الديانات التي لا يجب على الكل معرفتها، ولا تعم الحاجة إليها.
وأوجب قتال جميع الكفار في وقت واحد، وإن الممكن فيه قتال طائفة، وكان من قرب منهم أولى وأقرب إلى الجرم، وليس ذلك نافياً لقوله :﴿ قَاتِلُوا المُشْرِكِينَ ﴾ فإنه إذا قال :﴿ الّذِينَ يَلُونَكُم ﴾، فإذا فرغ منهم وصارت الديار للإسلام فالذي يليهم بمثابته، حتى يستوعب الكفار.