وقال في رواية أخرى : حبسهم، قال مقاتل : وأوحى إلى قلوبهم اقعدوا مع القاعدين، وقد بين سبحانه حكمته في هذا التثبيط والخذلان قبل وبعد، فقال :﴿ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون * ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين ﴾ [ التوبة : ٤٥. ٤٦ ] فلما تركوا الإيمان به بلقائه، وارتابوا بما لا ريب فيه، ولم يريدوا الخروج في طاعة الله، ولم يستعدوا له، ولا أخذوا أهبة ذلك كره سبحانه انبعاث من هذا شأنه، فإن من لم يرفع به وبرسوله وكتابه رأسا ولم يقبل هديته التي أهداها إليه على يد أحب خلقه إليه وأكرمهم عليه، ولم يعرف قدر هذه النعمة ولا شكرها، بل بدلها كفرا، فإن طاعة هذا وخروجه مع رسوله يكرهه الله سبحانه فثبطه لئلا يقع ما يكره من خروجه، وأوحى إلى قلبه قدرا وكونا أن يقعد مع القاعدين.
والخبال : الفساد والاضطراب فلو خرجوا مع المؤمنين لأفسدوا عليهم أمرهم، فأوقعوا بينهم الاضطراب والاختلاف، قال ابن عباس :﴿ ما زادوكم إلا خبالا ﴾، عجزا و جبنا. يعني يجبنوهم عن لقاء العدو بتهويل أمرهم، وتعظيمهم في صدورهم، ثم قال ﴿ ولأوضعوا خلالكم ﴾ أي : أسرعوا في الدخول بينكم للتفريق والإفساد.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : يريد أضعفوا شجاعتكم، يعني بالتفريق بينهم، لتفريق الكلمة فيجبنوا عن لقاء العدو، وقال الحسن : لأوضعوا خلالكم بالنميمة لإفساد ذات البين، وقال الكلبي : ساروا بينكم يبغونكم العيب، قال لبيد :
أرانا موضعين لختم عيب | وسحر بالطعام وبالشراب |
يتألهن بالعرفان لما عرفتني | وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا |
قال قتادة : وفيكم من يسمع كلامهم ويطيعهم، وقال ابن إسحاق : وفيكم قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم، ومعناه على هذا القول : وفيكم أهل سمع وطاعة لهم لو صحبهم هؤلاء المنافقون أفسدوهم عليكم.
قلت : تتضمن ﴿ سماعون ﴾ معنى مستجيبين. وقال مجاهد وابن زيد والكلبي : المعنى وفيكم عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم، أي جواسيس والقول هو الأول. كما قال تعالى :﴿ سماعون للكذب ﴾ [ المائدة : ٤١ ] أي قابلون له، ولم يكن في المؤمنين جواسيس للمنافقين، فان النافقين كانوا مختلطين بالمؤمنين، ينزلون معهم ويرحلون ويصلون معهم، ويجالسونهم، ولم يكونوا متحيزين عنهم قد أرسلوا فيهم العيون ينقلون إليهم أخبارهم. فإن هذا إنما يفعله من انحاز عن طائفة ولم يخالطها. وأرصد بينهم عيونا له، فالقول قول قتادة وابن إسحاق والله أعلم.
فإن قيل : انبعاثهم إلى طاعته له، فكيف يكرهها ؟ وإذا كان سبحانه يكرهها فهو يحب ضدها لا محالة، إذ كراهة أحد الضدين تستلزم محبة الضد الآخر فيكون قعودهم محبوبا له، فكيف يعاقبهم عليه ؟
قيل : هذا سؤال له شأن، وهو من أكبر الأسئلة في هذا الباب، وأجوبة الطوائف على حسب أصولهم.
فالجبرية : تجيب عنه بأن أفعاله لا تعلل بالحكم والمصالح، وكل ممكن فهو جائز عليه، ويجوز أن يعذبهم على فعل ما يحبه ويرضاه وترك ما يبغضه ويسخطه والجميع بالنسبة إليه سواء.
وهذه الفرقة قد سدت على نفسها باب الحكمة والتعليل.
والقدرية : تجيب عنه على أصولها بأنه سبحانه لم يثبطهم حقيقة ولم يمنعهم، بل هم منعوا أنفسهم، وثبطوها عن الخروج، وفعلوا ما لا يريد. ولما كان في خروجهم المفسدة التي ذكرها الله سبحانه ألقى في نفوسهم كراهة الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم.
قالوا : وجعل سبحانه إلقاء كراهة الانبعاث في قلوبهم كراهة مشيئة، من غيره أن يكره هو سبحانه انبعاثهم، فإنه أمرهم به.
قالوا : وكيف يأمرهم بما يكرهه، ولا يخفى على من نور الله بصيرته فساد هذين الجوابين وبعدهما من دلالة القرآن.
فالجواب الصحيح : أنه سبحانه أمرهم بالخروج طاعة له ولأمره واتباعا لرسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة له وللمؤمنين، وأحب لك منهم ورضيه لهم دينا، وعلم سبحانه أن خروجهم لو خرجوا لم يقع على هذا الوجه، بل يكون خروجهم خروج خذلان لرسوله وللمؤمنين فكان خروجا يتضمن خلاف ما يحبه ويرضاه، ويستلزم وقوع ما يكرهه ويبغضه، فكان مكروها له من هذا الوجه، ومحبوبا له من الوجه الذي خرج عليه أو يساءه، وهو يعلم أنه لا يقع منهم إلا على الوجه المكروه له، فكرهه وعاقبهم على ترك الخروج الذي يحبه ويرضاه، لا على ترك الخروج الذي يبغضه ويسخطه.
وعلى هذا فليس الخروج الذي كرهه منهم طاعة، حتى لو فعلوه لم يثبهم عليه ولم يرضه منهم، وهذا الخروج المكروه له ضدان :
أحدهما : الخروج المرضي المحبوب وهذا الضد هو الذي يحبه.
والثاني : التخلف عن رسوله صلى الله عليه وسلم والقعود عن الغزو معه، وهذا الضد يبغضه ويكرهه أيضا. وكراهته للخروج على الوجه الذي كانوا يخرجون عليه لا ينافي كراهته لهذا الضد.
فنقول للسائل : قعودهم مبغوض له، ولكن هاهنا أمران مكروهان له سبحانه.
وأحدهما : أكره له من الآخر ؛ لأنه أعظم مفسدة. فإن قعودهم مكروه له، وخروجهم على الوجه الذي ذكره أكره إليه، ولم يكن لهم بد من أحد المكروهين إليه سبحانه فدفع المكروه الأعلى بالمكروه الأدنى فإن مفسدة قعودهم عنه أصغر من مفسدة خروجهم معه، فإن مفسدة قعودهم تختص بهم، ومفسدة خروجهم تعود على المؤمنين فتأمل هذا الموضع.
فإن قلت : فهلا وفقهم للخروج الذي يحبه ويرضاه، وهو الذي خرج عليه المؤمنون ؟
قلت : قد تقدم جواب مثل هذا السؤال مرارا، وأن حكمته سبحانه، تأبى أن يضع التوفيق في غير محله، وعند غير أهله، فالله أعلم حيث يجعل هداه وتوفيقه وفضله، وليس كل محل يصلح لذلك، ووضع الشيء في غير محله لا يليق بحكمته.
فإن قلت : وعلى ذلك فهلا جعل المحال كلها صالحة.
قلت : يأباه كمال ربوبيته وملكه، وظهور آثار أسمائه وصفاته في الخلق والأمر، وهو سبحانه لو فعل ذلك لكان محبوبا له، فإنه يحب أن يذكر ويشكر ويطاع ويوحد ويعبد، ولكن كان ذلك يستلزم فوات ما هو أحب إليه من استواء أقدام الخلائق في الطاعة والإيمان، وهو محبته لجهاد أعدائه والانتقام منهم وإظهار قدر أوليائه وشرفهم وتخصيصهم بفضله، وبذل نفوسهم له في معاداة من عاداه، وظهور عزته وقدرته وسطوته وشدة أخذه وأليم عقابه، وأضعاف أضعاف هذه الحكم التي لا سبيل للخلق، ولو تناهوا في العلم والمعرفة، إلى الإحاطة بها، ونسبة ما عقلوه منها إلى ما خفي عليهم كنقرة عصفور في بحر.
فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده، كما أن العبادة والتقوى والسجود لله وحده والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى.
ونظير هذا : قوله تعالى :﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] فالحسب : هو الكافي، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده. فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية ؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد أكثر من أن تذكر ها هنا.
أحدهما : الدعاء والتبريك.
والثاني : العبادة.
فمن القول الأول :﴿ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] وقوله تعالى في حق المنافقين :﴿ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ﴾ [ التوبة : ٨٤ ] وقول النبي صلى الله عليه وسلم :«إذا دعي أحدكم إلى الطعام فليجب فإن كان صائما فليصل » فسر بهما.
قيل : فليدع لهم بالبركة، وقيل : يصلي عندهم بدل أكله.
وقيل : إن الصلاة في اللغة معناها الدعاء، والدعاء نوعان : دعاء عبادة، ودعاء مسألة، والعابد داع، كما أن السائل داع، وبهما فسر قوله تعالى :﴿ ادعوني أستجب لكم ﴾ [ غافر : ٦٠ ] قيل : أطيعوني أثبكم.
وقيل : سلوني أعطكم، وفسر بهما قوله تعالى :﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾ [ البقرة : ١٨٦ ].
والصواب أن الدعاء يعم النوعين، وهذا لفظ متواطئ لا اشتراك فيه.
فمن استعماله في دعاء العبادة قوله تعالى :﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ﴾ [ سبأ : ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ﴾ [ النحل : ٢٠ ] وقوله تعالى :﴿ قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم ﴾ [ الفرقان : ٧٧ ] والصحيح من القولين : لولا أنكم تدعونه وتعبدونه، أي شيء يعبؤه بكم لولا عبادتكم إياه، فيكون المصدر مضافا إلى الفاعل، وقال تعالى :﴿ ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا ﴾ [ الأعراف : ٥٥. ٥٦ ] وقال تعالى إخبارا عن أنبيائه ورسله ﴿ إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ].
وهذه الطريقة أحسن من الطريقة الأولى، ودعوى الخلاف في مسمى الدعاء وبهذا تزول الإشكالات الواردة على اسم الصلاة الشرعية، هل هو منقول عن موضعه في اللغة. فيكون حقيقة شرعية، أو مجازا شرعيا ؟ فعلى هذا تكون الصلاة باقية على مسماها في اللغة، وهو الدعاء، والدعاء عبادة ودعاء مسألة، والمصلي من حين تكبيره إلى سلامه بين دعاء العبادة ودعاء المسألة، فهو في صلاة حقيقة لا مجازا، ولا منقولة، لكن خص اسم الصلاة بهذه العبادة المخصوصة كسائر الألفاظ التي يخصها أهل اللغة والعرف ببعض مسماها كالدابة والرأس ونحوهما. فهذا غاية تخصيص اللفظ وقصره على بعض موضوعه ولهذا لا يوجب نقلا ولا خروجا عن موضوعه الأصلي والله أعلم.
فصل [ في معنى صلاة الله على عباده ]
هذه الصلاة من الآدمي.
وأما صلاة الله سبحانه على عبده فنوعان :( عامة، وخاصة ).
أما العامة : فهي صلاته على عباده المؤمنين، قال تعالى :﴿ هو الذي يصلي عليكم وملائكته ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ] ومنه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة على آحاد المؤمنين كقوله :«اللهم صل على آل أبي أوفى » وفي حديث آخر :«أن امرأة قالت له : صل علي وعلى زوجي، قال : صلى الله عليك وعلى زوجك ».
النوع الثاني صلاته الخاصة : على أنبيائه ورسله خصوصا على خاتمهم وخيرهم محمد صلى الله عليه وسلم.
فاختلف الناس في معنى الصلاة منه سبحانه على أقوال :
أحدها : أنها رحمته، قال إسماعيل : حدثنا نصر بن علي حدثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك قال :«صلاة الله : رحمته، وصلاة الملائكة الدعاء ».
وقال المبرد : أصل الصلاة «الرحمة » فهي من الله رحمة، ومن الملائكة رحمة واستدعاء الرحمة من الله.
وهذا القول هو المعروف عند كثير من المتأخرين.
والقول الثاني : أن صلاة الله مغفرته، قال إسماعيل : حدثنا محمد بن أبي بكر. قال حدثنا محمد بن سواء عن جويبر عن الضحاك :﴿ هو الذي يصلي عليكموملائكته ﴾ قال صلاة الله مغفرته، وصلاة الملائكة الدعاء.
وهذا القول من جنس الذي قبله، وهما ضعيفان لوجوه :
أحدها : أن الله سبحانه فرق بين صلاته على عباده ورحمته، فقال :﴿ وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون ﴾ [ البقرة : ١٥٥. ١٥٧ ] فعطف الرحمة على الصلاة : فاقتضى ذلك تغايرهما، هذا أصل العطف.
وأما قولهم :«وألفى قولها كذبا ومينا ».
فهو شاذ نادر، لا يحمل عليه أفصح الكلام، مع أن المين أخص من الكذب.
الوجه الثاني : أن صلاة الله سبحانه خاصة بأنبيائه ورسله وعباده المؤمنين. وأما رحمته فوسعت كل شيء، فليست الصلاة مرادفة للرحمة، لكن الرحمة من لوازم الصلاة وموجباتها وثمراتها، فمن فسرها بالرحمة فقد فسرها ببعض ثمراتها ومقصودها، وهذا كثيرا ما يأتي في تفسير ألفاظ القرآن.
والرسول صلى الله عليه وسلم يفسر اللفظة بلوازمها وجزء معناها كتفسير الريب بالشك، والشك جزء من «الريب » وتفسير المغفرة بالستر، وهو جزء مسمى «المغفرة » وتفسير «الرحمة » بإرادة الإحسان. وهو لازم الرحمة. ونظائر ذلك كثيرة قد ذكرناها في أصول التفسير.
الوجه الثالث : أنه لا خلاف في جواز الرحمة على المؤمنين، واختلف السلف والخلف في جواز الصلاة على الأنبياء على ثلاثة أقوال، سنذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى. فعلم أنهما ليسا بمترادفين.
الوجه الرابع : أنه لو كانت الصلاة بمعنى الرحمة لقامت مقامها في امتثال الأمر وأسقطت الوجوب عند من أوجبها، إذا قال : اللهم ارحم محمدا وآل محمد، وليس الأمر كذلك.
الوجه الخامس : أنه لا يقال لمن رحم غيره ورق عليه فأطعمه أو سقاه أو كساه إنه صلى عليه، ويقال : إنه قد رحمه.
الوجه السادس : أن الإنسان قد يرحم من يبغضه ويعاديه، فيجد في قلبه له رحمة، ولا يصلي عليه.
الوجه السابع : أن الصلاة لا بد فيها من كلام. فهي ثناء من المصلي على من يصلي عليه، وتنويه به وإشارة لمحاسنه وما فيه، وذكره ذكر البخاري في «صحيحه » عن أبي العالية قال :«صلاة الله على رسوله ثناؤه عليه عند الملائكة »، وقال إسماعيل في كتابه : حدثنا نصر بن علي قال حدثنا خالد بن يزيد عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية «أن الله وملائكته يصلون على النبي قال : صلاة الله - عز وجل - ثناؤه عليه، وصلاة الملائكة عليه : الدعاء ».
الوجه الثامن : أن الله سبحانه فرق بين صلاته وصلاة ملائكته وجمعهما في فعل واحد. وقال :﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ [ الأحزاب : ٥٦ ] وهذه الصلاة لا يجوز أن تكون هي الرحمة، وإنما هي ثناؤه سبحانه وثناء ملائكته عليه.
ولا يقال : الصلاة لفظ مشترك، ويجوز أن يستعمل في معنييه معا ؛ لأن في ذلك، محاذير متعددة :
أحدها : أن الاشتراك خلاف الأصل، بل لا يعلم انه وقع في اللغة من واضع واحد، كما نص على ذلك أئمة اللغة : منهم المبرد وغيره. وإنما يقع وقوعا عارضا اتفاقيا، بسبب تعدد الواضعين، ثم تختلط اللغة فيقع الاشتراك.
الثاني : أن الأكثرين لا يجووزون استعمال اللفظ المشترك في معنييه، لا بطريق الحقيقة، ولا بطريق المجاز وما حكي عن الشافعي - رحمه الله - من تجويزه ذلك فليس بصحيح عنه، وإنما أخذ من قوله : إذا أوصى لمواليه، وله موال من فوق ومن أسفل تناول جميعهم. فظن من ظن أن لفظ المولى مشترك بينهما، وأنه عند التجرد يحمل عليهما. وهذا ليس بصحيح، فإن لفظ المولى من الألفاظ المتواطئة فالشافعي في ظاهر مذهبه يقولان بدخول نوعي الموالي في هذا اللفظ، وهو عنده عام متواطئ لا مشترك.
وأما ما حكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال في مفاوضة جرت له في قوله :﴿ أو لامستم النساء ﴾ [ المائدة : ٦ ] قد قيل له : قد يراد بالملامسة المجامعة، فقال : هي محمولة على الجس باليد حقيقة وعلى الوقاع مجازا فهذا لا يصح عن الشافعي، ولا هو من جنس المألوف من كلامه، وإنما هذا من كلام بعض الفقهاء المتأخرين، وقد ذكرنا على إبطال استعمال اللفظ المشترك في معنييه معا بضعة عشر دليلا في مسألة القرء في - كتاب «التعليق على الأحكام ».
فإذا كان معنى الصلاة هو الثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم والعناية به، وإظهار شرفه وفضله وحرمته، كما هو المعروف من هذه اللفظة، لم يكن لفظ الصلاة في الآية مشتركا محمولا على معنييه، بل قد يكون مستعملا في معنى واحد، وهذا هو الأصل وسنعود إلى هذه المسألة إن شاء الله تعالى في الكلام على قوله تعالى :﴿ إن الله وملائكته يصلون على النبي ﴾ [ الأحزاب : ٥٦ ].
فالأول : مانع من الفهم.
والثاني : مانع من الانقياد والإذعان، فإفهام سيئة وقصودهم رديئة وهذه سمة الضلال وعلم الشقاء، كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح، وقصد صالح. والله المستعان.
وتأمل قوله سبحانه :﴿ ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم ﴾ كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة - عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول. فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم ؛ لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول، فلم ينلهم الإقبال والإذعان، فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن. فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول، كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول، كما قال :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ [ الصف : ٥ ] وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه، فلا يمكنه من الإقبال عليه، ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع، فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبة بأن جعله داعيا إلى كل معصية. فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها، صغيرها وكبيرها، وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق، فمن عقاب السيئة السيئة بعدها، كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها.
فإن قيل : فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى :﴿ فأنى يصرفون ﴾ و﴿ أنى يؤفكون ﴾ وقال :﴿ فما لهم عن التذكرة معرضين ﴾ فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين، فكيف ينعى ذلك عليهم ؟
قيل : هم دائرون بين عدله وحجته عليهم، فمكنهم وفتح لهم الباب، ونهج لهم الطريق، وهيأ لهم الأسباب، فأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، ودعاهم على ألسنة رسله، وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر، والنافع والضار، وأسباب الردي وأسباب الفلاح، وجعل لهم أسماعا وأبصارا، فآثروا الهوى على التقوى، واستحبوا العمى على الهدى، وقالوا : معصيتك آثر عندنا من طاعتك، والشرك أحب إلينا من توحيدك، وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك، فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم، وانصرفت عن طاعته ومحبته، فهذا عدله فيهم، وتلك حجته عليهم، فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا، فسده عليهم اضطرارا، فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم، وولاهم ما تركوه ومكنهم فيما ارتضوه، وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه، وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه، وهم معرضون : فلا أقبح من فعلهم، ولا أحسن من فعله. ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة، ولأنشأهم على غير هذه النشأة، ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل، والنور والظلمة، والنافع والضار، والطيب والخبيث والملائكة والشياطين، والنساء والذباب، ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له، فبعضها بطباعها، وبعضها بإرادتها ومشيئتها، وكل ذلك جار على وفق حكمته، وهو موجب حمده، ومقتضى كماله المقدس، وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما، إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.