تفسير سورة الكهف

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

فإذا أراد العبد أن يقتدي برجل فلينظر : هل هو من أهل الذكر أو من الغافلين ؟ وهل الحاكم عليه الهوى أو الوحي ؟ فإن كان الحاكم عليه هو الهوى وهو من أهل الغفلة، كان أمره فرطا.
ومعنى «الفرط » قد فسر بالتضييع، أي : أمره الذي يجب أن يلزمه ويقوم به، وبه رشده وفلاحه، ضائع، قد فرط فيه.
وفسر بالإسراف، أي : قد أفرط. وفسر بالإهلاك، وفسر بالخلاف للحق. وكلها أقوال متقاربة.
والمقصود : أن الله سبحانه وتعالى نهى عن طاعة من جمع هذه الصفات. فينبغي للرجل أن ينظر في شيخه وقدوته ومتبوعه، فإن وجده كذلك فليبعد منه، وإن وجده ممن غلب عليه ذكر الله تعالى - عز وجل – واتباع السنة، وأمره غير مفروط عليه، بل هو حازم في أمره فليستمسك بغرزه.
وقد سأل أبو العباس ثعلب عن قوله تعالى :﴿ أغفلنا قلبه عن ذكرنا ﴾ فقال : جعلناه غافلا. قال : ويكون في الكلام : أغفلته، سميته غافلا : ووجدته غافلا.
قلت :«الغفل » الشيء الفارغ، والأرض الغفل : التي لا علامة بها، و«الكتاب الغفل » : الذي لا شكل عليه. فأغفلناه : تركناه غافلا عن الذكر فارغا منه. فهو إبقاء له على العدم الأصلي ؛ لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر، فبقي غافلا، فالغفلة وصفه. و«الإغفال » فعل الله فيه بمشيئته، وعدم مشيئته لتذكره، فكل منهما مقتض لغفلته، فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر، وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر.
فإن قيل : فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها، أم إلى مشيئته لوقوعها ؟
قيل : القرآن قد نطق بهذا وبهذا، قال تعالى :﴿ أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ﴾ [ المائدة : ٤١ ] وقال :﴿ ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا ﴾ [ المائدة : ٤١ ] وقال :﴿ فمن يرد أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ].
فإن قيل : فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر ؟
قيل : الأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي، وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه، فيبقى على العدم الأصلي. فإذا أضيف إليه، كان من باب إضافة الشيء إلى دليله، فعدم السبب دليل على عدم المسبب، وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك، وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا. وهذا الإغفال ترتب عليه اتباع هواه، وتفريطه في أمره.
قال مجاهد : كان أمره فرطا : أي ضياعا.
وقال قتادة : ضاع أكبر الضيعة.
وقال السدى : هلاكا.
وقال أبو الحسن بن الهيثم : أمر فرط : متهاون به مضيع. والتفريط : تقديم العجز.
وقال أبو إسحاق : من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه.
وقال الليث : الفرط الأمر الذي يفرط فيه. يقال : كل أمر فلان فرط.
وقال الفراء : فرطا متروكا، فرط فيما لا ينبغي التفريط فيه. واتبع ما لا ينبغي اتباعه، وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه.
وهي جمع «كنان » كعنان بمعنى واحد، بل بينهما فرق. فأكنه : إذا ستره وأخفاه كقوله تعالى :﴿ أو أكننتم في أنفسكم ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] وكنه : إذا صانه وحفظه، كقوله :﴿ كأنهن بيض مكنون ﴾ [ الصافات : ٤٩ ] ويشتركان في الستر، والكنان : ما أكن الشيء وستره. وهو كالغلاف.
وقد أقروا على أنفسهم بذلك فقالوا :﴿ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ﴾ [ فصلت : ٥ ] فذكروا غطاء القلب : وهي الأكنة، وغطاء الأذن، وهو الوقر، وغطاء العين وهو الحجاب.
والمعنى : لا نفقه كلامك، ولا نسمعه، ولا نراك.
والمعنى : إنا في ترك القبول منك بمنزلة من لا يفقه ما تقول : ولا يراك، قال ابن عباس رضي الله عنه :﴿ قلوبنا في أكنة ﴾ : مثل الكنانة التي فيها السهام. وقال مجاهد : كجعبة النبل. وقال مقاتل : عليها غطاء فلا نفقه ما تقول.
وهذا يتضمن معنيين :
أحدهما : أن أعينهم في غطاء عما تضمنه الذكر من آيات الله، وأدلة توحيده، وعجائب قدرته.
والثاني : أن أعين قلوبهم في غطاء، عن فهم القرآن وتدبره، والاهتداء به. وهذا الغطاء للقلب أولا، ثم يسري منه إلى العين.
Icon