في السورة حملة شديدة على الكفار، ووصف لشدة عنادهم وجحودهم وما كان يحدثه هذا من حزن للنبي صلى الله عليه وسلم. وإشارات إلى ما كان من استخفاف الكفار بشأن فقراء المسلمين واعتدادهم بثرواتهم وقوتهم ووصف لهول يوم القيامة ومصير الكفار والمؤمنين فيه. وأمثال ومواعظ في صدد الدعوة النبوية وتسفيه الاغترار بالدنيا والانشغال بها عن الخير والصلاح. وقصص أصحاب الكهف وموسى مع العبد الصالح وذي القرنين تضمنت المواعظ والتذكير.
وآيات السورة متوازنة، وليس بين فصولها تغاير أسلوبي بالرغم من تنوعها وهذا وذاك معا مما يبرر القول إنها نزلت متتابعة حتى تمت.
ويروى أن الآيات [ ٢٨ و ٨٣- ١٠١ ] مدنيات، والسياق والأسلوب والمضمون يسوّغ الشك والتوقف في ذلك.
ولقد روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال ) ١. وفي رواية ( من حفظ من خواتيم سورة الكهف عصم من الدجال ). وروى الحاكم والبيهقي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين وفي رواية أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق )٢. وهناك نصوص أخرى مقاربة أوردها ابن كثير في مطلع تفسيره للسورة مروية عن الإمام أحمد بالإضافة إلى هذه النصوص.
وينطوي في الأحاديث تنويه نبوي بفضل هذه السورة لا بد من أن يكون له حكمة قد يكون منها ما احتوته من أمثال ومواعظ. وبالإضافة إلى هذا ففي الأحاديث قرينة على أن هذه السورة أو السور القرآنية كانت تامة الترتيب معروفة الأسماء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم.
٢ المصدر نفسه..
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( ١ ) قيما ١ لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( ٢ ) ماكثين فيه أبدا ( ٣ ) و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( ٤ ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( ٥ ) فلعلك باخع نفسك ٢على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( ٦ ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( ٧ ) و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا٣ ( ٨ ) ﴾ [ ١-٨ ].بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مر منه بعض الأمثلة.
واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.
والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمّل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.
والقسمان متصلان ببعضهما، من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.
وفحوى الآية [ ٤ ] ثم الآية [ ٥ ] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.
والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم، وأنهم راجعون إليه، وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.
وينطوي في جملة ﴿ لِنبلوهم أيهم أحسن عملا ٧ ﴾ تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب، وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى. منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول : إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( ١ ) قيما ١ لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( ٢ ) ماكثين فيه أبدا ( ٣ ) و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( ٤ ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( ٥ ) فلعلك باخع نفسك ٢على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( ٦ ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( ٧ ) و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا٣ ( ٨ ) ﴾ [ ١-٨ ].بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مر منه بعض الأمثلة.
واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.
والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمّل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.
والقسمان متصلان ببعضهما، من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.
وفحوى الآية [ ٤ ] ثم الآية [ ٥ ] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.
والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم، وأنهم راجعون إليه، وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.
وينطوي في جملة ﴿ لِنبلوهم أيهم أحسن عملا ٧ ﴾ تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب، وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى. منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول : إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( ١ ) قيما ١ لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( ٢ ) ماكثين فيه أبدا ( ٣ ) و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( ٤ ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( ٥ ) فلعلك باخع نفسك ٢على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( ٦ ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( ٧ ) و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا٣ ( ٨ ) ﴾ [ ١-٨ ].بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مر منه بعض الأمثلة.
واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.
والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمّل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.
والقسمان متصلان ببعضهما، من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.
وفحوى الآية [ ٤ ] ثم الآية [ ٥ ] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.
والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم، وأنهم راجعون إليه، وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.
وينطوي في جملة ﴿ لِنبلوهم أيهم أحسن عملا ٧ ﴾ تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب، وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى. منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول : إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ( ١ ) قيما ١ لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ( ٢ ) ماكثين فيه أبدا ( ٣ ) و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ( ٤ ) ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا ( ٥ ) فلعلك باخع نفسك ٢على أثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ( ٦ ) إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ( ٧ ) و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا٣ ( ٨ ) ﴾ [ ١-٨ ].بدأت السورة بحمد الله، وهذا أسلوب من أساليب النظم القرآني في مطالع السور وقد مر منه بعض الأمثلة.
واحتوت الآيات الخمس الأولى : تقريرا بكون الله تعالى الذي له الحمد وحده قد نزل القرآن على عبده أي النبي محمد مستقيما لا عوج فيه لينذر الناس جميعا ببأسه وقوته. ويبشر المؤمنين الصالحين بالأجر الحسن الذي يتمتعون به تمتعا دائما خالدا، وينذر الذين يعزون إليه اتخاذ الولد دون ما علم ولا بينة عندهم ولا عند آبائهم، وإنها لكذبة كبرى تصدر عنهم بمنتهى الوقاحة والفظاعة.
والتفتت الآيات الثلاث التالية إلى النبي صلى الله عليه وسلم تنبهه إلى ما يحمّل نفسه من هم وحزن يكادان يهلكانها بسبب انصراف الناس عن الاستجابة لدعوته والإيمان بكلام الله دونما ضرورة ولا موجب. وتبين له أن الله إنما يزين الأرض بما عليها من وسائل الحياة والاستمتاع لاختبار أعمال الناس فيها، وإنه لسوف يجعلها قاحلة يابسة لا زينة فيها ولا حياة ولا وسائل ولا نبات ولا شجر.
والقسمان متصلان ببعضهما، من حيث كون الأول في بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني في تطمينه وتسليته. والمتبادر أن التنديد بالذين ينسبون إلى الله الولد موجه إلى مشركي العرب الذين كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله مما احتوت الإشارة إليه والحملة عليهم بسببه آيات قرآنية كثيرة مرّ كثير منها.
وفحوى الآية [ ٤ ] ثم الآية [ ٥ ] هو الذي جعلنا نرجح أن التنديد والإنذار موجهان لمشركي العرب دون النصارى، وهؤلاء هم موضوع إنذار وتنديد آخرين في السورة وهذا مما يقوي ذلك.
والآيتان الأخيرتان بخاصة تدعيم لتطمين النبي صلى الله عليه وسلم، فليس هو إلا نذير، والدنيا للناس هي دار اختبار ولسوف تزول ويرجع الناس إلى الله بعدها.
ويلحظ أن السورة السابقة انتهت بتقرير كون النبي صلى الله عليه وسلم غير مسؤول عن كفر الكفار وليس مكلفا بإجبارهم، وأنهم راجعون إليه، وأن هذه السورة ابتدأت بتدعيم هذه المعاني، مما يمكن أن يكون فيه قرينة على صحة ترتيب النزول.
وينطوي في جملة ﴿ لِنبلوهم أيهم أحسن عملا ٧ ﴾ تقرير كون الله عز وجل قد أودع في الناس قابلية الاختيار والكسب، وبيّن لهم طريق الخير والعمل الحسن وعكسها، وحمّلهم مسؤولية اختيارهم وأعمالهم. وهو ما قررته آيات كثيرة أخرى. منها ما جاء بعبارة مماثلة لهذه العبارة، ومنها ما جاء بعبارة مغايرة، وقد مرّ من ذلك أمثلة عديدة بحيث يصح القول : إن هذا من الأصول القرآنية المحكمة. وقد علقنا على عبارة مماثلة لها وردت في سورة هود فليرجع إليه القارئ ثانية ليستوعب مدى الآية.
٢ الرقيم : قيل إنه اسم لجبل أو لواد، وقيل إنه بمعنى المكتوب من الرقم وإنه لوح وجد في مقبرة أصحاب الكهف مكتوب فيه أسماؤهم وقصتهم وهو الأوجه.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
مرفقا : بمعنى فرج أو نجاة.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
تقرضهم : تعدل عنهم.
في فجوة منه : في ساحة من ساحاته أو متسع منه.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
١٥ بالوصيد : بالباب
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
ورقكم : عملتكم الفضية.
أزكى طعاما : أطيب طعاما.
وليتلطف : ليتحفظ وليحذر من إشعار الناس بهم.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
الذين غلبوا على أمرهم : كناية عن أصحاب السلطة والحكم.
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
يحتوي هذا الفصل قصة أصحاب الكهف والرقيم، وتعليقا عليها.
وقد احتوت الآيات عن القصة ما مفاده : أن أصحاب الكهف والرقيم فتية استنارت بصائرهم فاهتدوا وآمنوا بالله وحده، في حين كان قومهم منحرفين مشركين يدعون مع الله آلهة أخرى. وقد تجهموا لهم وأرادوا ردهم إلى دينهم، فدعا الفتية الله أن يشملهم برحمته ويجعل لهم مخرجا من مأزقهم. ثم قرروا فيما بينهم أن يعتزلوا قومهم ويلجأوا إلى أحد الكهوف. فلما فعلوا سلّط الله عليهم نوما طويلا جدا، وكانوا في ساحة من ساحات الكهف لا تصيبهم الشمس بأذاها حينما تطلع وحينما تغرب، حيث تميل عنهم في الطلوع وتعدل عنهم في الغروب. وكانوا يتقلبون بإذن الله يمينا وشمالا، لئلا تتهرأ جنوبهم من طول الرقاد على ما هو المتبادر من العبارة، حتى ليحسبهم الناظر إليهم أنهم أيقاظ. وكان لهم كلب قد أقعى وبسط ذراعيه في باب الكهف، وصار منظرهم رهيبا يبعث الرعب في القلوب. ثم شاء الله أن يستيقظوا، فأخذوا يتساءلون عن المدة التي قضوها نائمين، وظن أحدهم أنها يوم أو بعض يوم، ثم أرسلوا أحدهم بعملة فضية إلى المدينة ليأتيهم بطعام طيب، ووصوه بالتحفظ والحذر ؛ لئلا يكتشف قومهم مخبأهم فيرغموهم على الرجوع إلى دينهم القديم، أو يزهقوا أرواحهم رجما. غير أن الله شاء أن يعثر قومهم على أمرهم، فهرعوا إلى الكهف ليروا آية الله تعالى فيهم، ويتيقنوا من الحق في وعد الله بالساعة، ثم تشاوروا فيما يفعلونه بهم فقرر أصحاب الأمر والسلطان أن يبنوا عليهم مسجدا ؛ حيث يتبادر من ذلك أنهم لم يلبثوا أن توفاهم الله عقب انكشاف أمرهم.
أما التعليق فهو :
١- حكاية ما سوف يقوله السامعون عن عددهم ؛ حيث يقول فريق إنهم ثلاثة رابعهم كلبهم، وفريق إنهم خمسة وسادسهم كلبهم، وفريق إنهم سبعة وثامنهم كلبهم.
٢- وأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتفويض أمر العلم بهم إلى الله تعالى، وبالقول إنه لا يعلمهم إلا قليل من الناس و بألا يجادل أو يشك في أمرهم أو يهتم بأمرهم اهتماما كبيرا، و بألا يسأل عنهم أحدا من السامعين، وبأن لا يقول إني فاعل هذا الشيء غدا إلا مع القول إلا أن يشاء الله مع واجب ذكر ربه إذا نسي أمرا ودعاء الله بأن يهديه إلى ما هو الأقرب إلى الرشد والحق.
٣- وإخبار بأنهم قد لبثوا في كهفهم ثلاثمائة وتسع سنين.
٤- وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول : إن الله هو أعلم بما لبثوا وهو العالم بما خفي من أمور السماوات والأرض وهو الشديد السمع والبصر لا شريك له في حكمه وليس لأحد ولي حقيقي دونه.
تعليقات على آيات قصة
أصحاب الكهف والرقيم
ولقد تعددت روايات المفسرين ١ عن القصة واحتوت هذه الروايات بيانات كثيرة عن أصحابها لا تخلو من اختلاف وتغاير ومبالغة وتداخل. وهي مروية عن رواة الأخبار وبعض التابعين مثل محمد بن إسحاق وابن حميد والحكم بن بشير.
والمختصر المفيد الذي يمكن استخلاصه وبإيجاز من الروايات والذي قد يكون فيه بعض الحقائق هو أن الفتية من مدينة أفسوس أو طرسوس، وأنهم ثمانية أشخاص، وأن أسماءهم هي مكسلمينا ومحسيميلينا ويمليخا ومرطوس وكشوطوش وبيرونس ودينموس ويطونس قالوس ٢ وأن أحد حواريي عيسى جاء إلى مدينتهم وبشر برسالة المسيح فآمنوا مع جماعة من مدينتهم، وكان ملكهم أو ملك الروم الذي كانت البلاد تحت حكمه وثنيا ظالما اسمه دقينوس أو دقيانوس كان يضطهد المؤمنين ويعذبهم أشد العذاب فقدم إلى هذه المدينة وجعل يفعل في مؤمنيها كذلك، وأزهق أرواح كثير منهم، وأنذر الفتية ومنّاهم وأمهلهم فأبوا أن يرتدوا إلى الوثنية وخافوا من العذاب والإكراه فلجأوا إلى كهف في أحد جبال المدينة وتبعهم راع مع كلبه. وكانوا يرسلون أحدهم للتموّن والاستطلاع. وعاد الملك فتفقدهم وأخذ يبحث عنهم حتى وجدهم في الكهف، وكان الله قد ضرب عليهم النوم الطويل فظن الملك أنهم قد ماتوا فردم عليهم الكهف. وشاء الله بعد النوم الطويل أن يستيقظوا فلما استيقظوا ظن بعضهم أنهم لم يلبثوا في نومهم إلا يوما أو بعض يوم ولم يروا على أنفسهم تغيرا ثم أرسلوا أحدهم –يمليخا- إلى المدينة فصار ينكر ما يرى من وجوه ومناظر وسمع الناس يذكرون المسيح بالتقديس ويظهرون شعائر النصرانية بحرية فازداد عجبه وأنكر الباعة ما قدمه لهم من العملة الفضية التي مر عليها مئات السنين، وظنوا أنه من كنز دفين وجده فأخذوه إلى رؤساء المدينة، وكانوا كذلك من النصارى، فاطمأن وقص عليهم قصته وقصة رفاقه فعجبوا واعتبروا ذلك آية من آيات الله، وازدادوا إيمانا بالبعث، وأرسلوا إلى ملكهم الذي كان هو الآخر يدين بالنصرانية واسمه يندوسيس فجاء ليرى آية الله بدوره وكان الناس قد استدلوا على الكهف فهرع مع أهل المدينة ولما شعر الفتية بمجيئهم أخذوا يحمدون الله ويسبحونه، ثم لم يلبثوا أن توفاهم الله فدخل الملك مع الناس الكهف فوجدوهم قد ماتوا فتشاوروا، ثم قرر الملك أن يبني عليهم مسجدا. أما الرقيم الذي كتبت عليه قصتهم فالروايات تذكر أن رجلين مؤمنين من آل دقليانوس أو عهده وأمته مرا بالكهف بعد أن ضرب الله عليهم النوم فعرفاهم وعرفا قصتهم فكتبا أسماءهم وقصتهم على لوحين من رصاص ووضعاهما في تابوت عند رؤوسهم ليعرفهم الناس في الأجيال القادمة.
هذا كما قلنا موجز ملخص من الروايات مع التنبيه على أن هناك تضاربا في الأسماء والأحداث لم نر طائلا من التعلق به عدا مسألتين : أولاهما : معنى الرقيم، وثانيهما : مكان الكهف حيث جاء في بعض الروايات المعزوة إلى ابن عباس وغيره أن الرقيم هو اسم للقرية التي منها أصحاب الكهف أو اسم الجبل أو الوادي الذي فيه الكهف، وأنه قريب من الأيْلَة دون فلسطين ؛ حيث يكون الحادث حسب هذه الرواية في أرض شرق الأردن التي كانت هي الأخرى منذ القرن الثاني بعد الميلاد تحت سلطان الروم وكانت مجالا للحركة النصرانية تبشيرا ومناوأة.
ومهما يكن من أمر فإن فحوى الآيات يلهم أن في قصة أهل الكهف شيئا خارقا للعادة جرى بأمر الله وحكمته، وعلى المسلم واجب الإيمان به لأن ذلك مما أخبر به القرآن، وهو في نطاق قدرة الله تعالى هذا أولا، وثانيا إن فحوى الآيات وروحها معا يلهمان أن القصة لم تكن مجهولة في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم من جهة، وأنها كانت موضوع حديث وعجب وتساؤل من جهة ثانية. وإن البيانات المسهبة التي رواها رواة الأخبار والتابعين من الدلائل على ذلك، وأنها من قصص التاريخ النصراني في بلاد الشام في دور حكم الرومان وفي الدور الذي كان الرومان وثنيين أي قبل القرن الرابع بعد الميلاد. وأنها عرفت في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريق النصارى الذين كانوا في مكة أو الذين كان العرب يتصلون بهم في أسفارهم. والتاريخ يذكر أنه كان بين أباطرة الرومان الوثنيين امبراطور اسمه دقليانوس حكم بين سنتي ٢٨٤-٣٠٥ ب. م وكان شديد الوطأة على النصرانية ومتبعيها الذين كان أكثرهم في بلاد الشام ومصر فقاسوا على يديه بلاء عظيما أشد من غيره، ثم صارت النصرانية في أوائل القرن الرابع بعد الميلاد دين الدولة الرومانية واستمرت كذلك وطوردت الوثنية حتى كادت تنقرض، وتمتعت النصرانية وأتباعها بالطمأنينة والأمن إجمالا٣.
ولقد أوردنا في سياق آية الإسراء [ ٨٥ ] الروايات التي تذكر أن هذه القصة إحدى ثلاث مسائل سألها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أو سألها المشركون في مكة للنبي بإيعاز من اليهود وفندناها. والذي نرجحه أن هذا الفصل في القصة قد نزل بناء على سؤال طرح على النبي صلى الله عليه وسلم في مكة مما يمكن أن يلمح ضمنا من مجموع الآيات وبخاصة من الآية الأولى، منها التي تضمنت بأسلوب السؤال الإنكاري تقرير كون قدرة الله عز وجل لا يعجزها شيء، فلا ينبغي أن تكون قصة أصحاب الكهف والرقيم وحدها المثيرة لعجب الناس حينما تبلغهم فتجعلهم يتساءلون عنها تساؤل المتعجب المندهش. ونميل إلى ترجيح كون بعض المسلمين هم الذين سألوا بقصد الاستفسار والتأكد بعد أن سمعوا القصة من بعض النصارى في مكة الذين كانوا على صلة حسنة إجمالا مع الإسلام والمسلمين دون المشركين الذين كان التوتر واللجاج مشتدين بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين.
وقد يرد سؤال عما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القصة أو سمعها من النصارى ولا نستبعد ذلك. ولسنا نرى هذا متعارضا مع ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه من صورها. فهذا ملموح في كثير من أحداث بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره ومشاهدها التي ذكرت في القرآن والتي لا بد من أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم ملمّا بها قبل نزول الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل ذكرها.
ومن الجدير بالتنبيه على كل حال أن آيات القصة والتعليق عليها قد جاءت بالأسلوب الذي امتاز به القصص القرآني وتوخى فيها الموعظة والتذكير وتدعيم الدعوة النبوية مما هو من مميزات هذا الأسلوب، و
[ ٢٧ ].
في الآية :
أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتلاوة ما يوحى إليه من ربه على الناس.
وتوكيد بأن كل ما فيه حق وصدق لا يأتيه تبديل ولا تناقض.
وتقرير بأن النبي لن يجد من دونه من هو جدير باللجوء إليه قدير على حمايته.
وقد ابتدأت الآية بحرف العطف مما يمكن أن يكون قرينة على أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة وداعمة لما فيها من مواضع العظة والعبرة كما يمكن أن يكون قرينة على أن الآيات السابقة إنما أوردت لتدعم الرسالة النبوية.
٢ تريد زينة الحياة الدنيا : تفضل عليهم أصحاب المال والجاه.
٣ فرطا : باطلا أو ضلالا وخسرانا وسرفا.
﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم١ تريد زينة الحياة الدنيا ٢ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا٣ ٢٨ ﴾ [ ٢٨ ].
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بوجوب التضامن التام مع الذين آمنوا برسالته ودأبوا على الاتجاه إلى الله وعبادته في جميع أوقاتهم لا يبتغون إلا رضاه. وجعل كل اهتمامه لهم وعدم تحويل نظره واهتمامه إلى غيرهم رغبة في زينة الحياة الدنيا ومظاهرها الخلاقة المتمثلة في أصحاب المال والجاه، وعدم إطاعة من غفل عن ذكر الله تعالى واتبع هواه وكان ضالا خاسرا أو الإصغاء إليه.
تعليق على الآية
﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي... إلخ ﴾
وما فيها من تلقين رائع
ولقد روى المفسرون روايات عديدة متفقة في مداها كسبب لنزول الآية. منها أن بعض القوم قالوا للنبي إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا فجانبهم يا محمد وجالس أشراف قومك. ومنها أن عيينة الفزاري قال للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده جماعة من الفقراء فيهم سليمان وعليه شملة قد عرق فيها وبيده خوصة يشقها ثم ينسجها :" أما يؤذيك ريح هؤلاء ؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا أسلم الناس، ولا يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء فنحّهم حتى نتبعك أو اجعل لنا مجلسا ولهم مجلسا " فأنزل الله الآية. ومنها أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله عز وجل :﴿ ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي ﴾ [ الأنعام :[ ٥٢ ] وكان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما قالوا له ذلك ابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان آخران.
ولقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدنية، وهذه الرواية تتوافق مع الرواية التي ذكر فيها كلام عيينة الفزاري الذي كان من أهل العهد المدني. والرواية الأولى يرويها الطبري عن مشركي مكة، والرواية الثالثة يرويها ابن كثير عن مشركي مكة كذلك ويعزوها إلى مسلم كحديث صحيح. وإيراد آية مدنية في سياق مكي متصل بكفار مكة لا حكمة ظاهرة له. والآية إلى ذلك معطوفة على ما قبلها متساوقة معه في النظم حيث يسوّغ كل هذا الشك في رواية مدنية الآية ورواية عيينة الفزاري وترجيح مكية الآية وكونها في صدد موقف الزعماء المشركين من فقراء المسلمين وموقف النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك.
ولقد ورد آيات فيها شيء مما ورد في هذه الآية في سورة الأنعام التي مر تفسيرها وهي الآيات [ ٥١-٤٥ ] وروي في صددها بعض ما روي هنا على ما ذكرناه في سياق تفسيرها حيث ينطوي في هذا أيضا تأييد لمكية السورة. ولقد علقنا على ما انطوى في آيات سورة الأنعام من صور وتلقين وهو وارد بطبيعة الحال بالنسبة لهذه الآية فلا محل لإعادته. ويظهر من تكرر الإشارة إلى هذا الموقف أنه كان يتكرر فكانت حكمة التنزيل تقتضي تكرار التعليم تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم الذي كان شديد الحرص على جلب الزعماء إليه، والذي كان حرصه يجعله يفكر على ما تلهمه الآيات، ورواية ابن كثير التي يرويها عن مسلم بحديث صحيح في مسايرة الزعماء في بعض ما يقترحونه. ثم تنويها بالمؤمنين وتقريرا لرفعة شأنهم عند الله ولكون فضيلة الإيمان والعمل الصالح هي أعظم الفضائل وأن الذين يتحلون بها هم عند الله أفضل وأولى بالرعاية، ويجب أن يكونوا كذلك عند النبي صلى الله عليه وسلم وفي المجتمع الإسلامي. ولقد اجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في موقفه اجتهادا يمت إلى هذا الأمر خلافا للأولى قبل أن ينزل وحي به فعوقب على ذلك على ما شرحناه في سورة عبس ؛ حيث يبدو في كل هذا تلقين جليل مستمر المدى ومبدأ من مبادئ القرآن المحكمة يلمح فيهما في الوقت نفسه عدم إقرار الفروق الاجتماعية كظاهرة واجبة الرعاية في المجتمع الإسلامي. وإذا لحظنا أنه كان لهذه الظاهرة اعتبار عظيم في حياة الأمم وتقاليدها على اختلافها في عصر النبي صلى الله عليه وسلم بدت روعة الهدف القرآني والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه، وبدا في هذا دليل لمن يعوزه الدليل على أن القرآن وحي من الله ينزل بما فيه الحق والحكمة ليصحح موقفا من المحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجنح إليه خلافا للأولى بدافع حرصه المذكور آنفا. وتبدو هذه الروعة أيضا في حكمة تكرار التنزيل القرآني ؛ حيث كانت هذه هي المرة الثالثة التي يوحي فيها بآيات تقرر وتؤكد ذلك الهدى والمبدأ المحكم والتلقين الجليل اللذين ينطويان فيه.
٢ وإن يستغيثوا : وأن يطلبوا الغيث والماء.
٣ المهل : مر تفسيره في سورة الدخان.
الآيات معطوفة على سابقاتها، واستمرار لها وتعقيب عليها كما هو المتبادر وعبارتها واضحة، وكأنما جاءت لتؤكد على النبي صلى الله عليه وسلم بحصر رعايته واهتمامه للذين آمنوا به مهما كان مركزهم الاجتماعي وحالتهم المادية، ولتكون جوابا على الزعماء الذين روي موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وفقراء المؤمنين في سياق الآيات السابقة ؛ لتقول لهم : إن ما طلبوه لن يكون، ولتهتف بهم بعد ذلك بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله ربه وربهم فمن شاء فليؤمن فينفع نفسه ومن شاء فليكفر فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله قد أعد لكل من الفريقين ما يتناسب مع اختياره من شديد العذاب وهائله ومن عظيم النعيم ووسائله. وليس الأمر أمر مساومة ومسايرة ولا يتحملهما. ومثل هذا الجواب والهتاف قد تكرر في مواقف مماثلة حكتها آيات عديدة مر بعضها ؛ حيث كانت المواقف تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل تكرار الجواب والهتاف.
وقد تضمنت الآيات تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا وبشرى للمؤمنين وإنذارا رهيبا للكفار. وأكدت المبدأ المحكم الذي احتوته آيات كثيرة بأن الناس يؤمنون ويكفرون وفق اختيارهم فيستحقون ما يستحقون من ثواب وعقاب حقا وعدلا.
ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لِسُرادقِ النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ) ١. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديث كما هو المتبادر.
الآيات معطوفة على سابقاتها، واستمرار لها وتعقيب عليها كما هو المتبادر وعبارتها واضحة، وكأنما جاءت لتؤكد على النبي صلى الله عليه وسلم بحصر رعايته واهتمامه للذين آمنوا به مهما كان مركزهم الاجتماعي وحالتهم المادية، ولتكون جوابا على الزعماء الذين روي موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وفقراء المؤمنين في سياق الآيات السابقة ؛ لتقول لهم : إن ما طلبوه لن يكون، ولتهتف بهم بعد ذلك بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله ربه وربهم فمن شاء فليؤمن فينفع نفسه ومن شاء فليكفر فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله قد أعد لكل من الفريقين ما يتناسب مع اختياره من شديد العذاب وهائله ومن عظيم النعيم ووسائله. وليس الأمر أمر مساومة ومسايرة ولا يتحملهما. ومثل هذا الجواب والهتاف قد تكرر في مواقف مماثلة حكتها آيات عديدة مر بعضها ؛ حيث كانت المواقف تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل تكرار الجواب والهتاف.
وقد تضمنت الآيات تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا وبشرى للمؤمنين وإنذارا رهيبا للكفار. وأكدت المبدأ المحكم الذي احتوته آيات كثيرة بأن الناس يؤمنون ويكفرون وفق اختيارهم فيستحقون ما يستحقون من ثواب وعقاب حقا وعدلا.
ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لِسُرادقِ النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ) ١. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديث كما هو المتبادر.
٥ يحلون : من الحلية.
٦ سندس وإستبرق : نوعان من نسيج الحرير واللفظان معربان.
٧ الأرائك : جمع أريكة وهي السرير.
الآيات معطوفة على سابقاتها، واستمرار لها وتعقيب عليها كما هو المتبادر وعبارتها واضحة، وكأنما جاءت لتؤكد على النبي صلى الله عليه وسلم بحصر رعايته واهتمامه للذين آمنوا به مهما كان مركزهم الاجتماعي وحالتهم المادية، ولتكون جوابا على الزعماء الذين روي موقفهم من النبي صلى الله عليه وسلم وفقراء المؤمنين في سياق الآيات السابقة ؛ لتقول لهم : إن ما طلبوه لن يكون، ولتهتف بهم بعد ذلك بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو الحق من الله ربه وربهم فمن شاء فليؤمن فينفع نفسه ومن شاء فليكفر فلا يضر إلا نفسه ؛ لأن الله قد أعد لكل من الفريقين ما يتناسب مع اختياره من شديد العذاب وهائله ومن عظيم النعيم ووسائله. وليس الأمر أمر مساومة ومسايرة ولا يتحملهما. ومثل هذا الجواب والهتاف قد تكرر في مواقف مماثلة حكتها آيات عديدة مر بعضها ؛ حيث كانت المواقف تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل تكرار الجواب والهتاف.
وقد تضمنت الآيات تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم وتطمينا وبشرى للمؤمنين وإنذارا رهيبا للكفار. وأكدت المبدأ المحكم الذي احتوته آيات كثيرة بأن الناس يؤمنون ويكفرون وفق اختيارهم فيستحقون ما يستحقون من ثواب وعقاب حقا وعدلا.
ولقد روى الترمذي عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( لِسُرادقِ النار أربعة جدر كثف كل جدار مثل مسيرة أربعين سنة ) ١. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديث كما هو المتبادر.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
٤ أعز نفرا : أقوى جماعة أو أنصارا أو أولادا.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
صعيدا زلقا : أرضا يابسة تنزلق عنها القدم كناية عن شدة اليبوسة والجفاف.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
١١ خير عقبا : خير عاقبة.
عبارة الآيات واضحة، وقد تضمنت أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب للكفار مثلا برجلين : أحدهما كافر، وثانيهما مؤمن. وكان للأول بستانان على أحسن حال من الزرع والغرس والماء والنمو. وكان له بسبب ذلك المال الوافر والقوة والأولاد والأنصار. فداخله الزهو وأخذ يتبجح أمام صاحبه المؤمن ويقول له : إن ما هو فيه لن يزول وأنكر قيام الساعة ونيل ما هو خير مما عنده من الله. فرد عليه صاحبه مؤنبا على زهوه وخيلائه وكفره بالله وإنكاره قدرته مع أن الأولى به أن يحمده على نعمته عليه حتى يضمن دوامها وأعلنه تمسكه بإيمانه واعتماده على الله في تبديل حالته إلى خير من ثروته وجناته، وأنذره بما يستطيع الله أن يفعله به من تسليط البلاء على جنته وتغوير مائها وجعلها أرضا يابسة. ثم لم يلبث أن حل بلاء الله في الجنة، ورأى الكافر مصداق إنذار المؤمن فأظهر الحسرة على ماله الذي ذهب هباء والندم على ما بدا منه في جانب الله وإشراكه معه الشركاء. ولكن ذلك لم يغنه فلم يستطع أحد أن ينصره في موقفه من الله تعالى حيث يكون الحكم والسلطان والنصر لله تعالى وحده.
وجاءت الآية الأخيرة لتنبه على أن في مثل هذه المواقف يظهر البرهان الساطع على أن النصر الحقّ هو نصر الله، وأن ما عنده هو الأفضل ثوابا وعاقبة.
تعليق على مثل الرجلين
اللذين كان لأحدهما جنتان
ولقد روي ١ أن هذا المثل قصة أخوين من قريش من بني مخزوم أحدهما مؤمن فقير وهو أبو سلمه عبد الله، وثانيهما كافر غني وهو الأسود. كما روي أنه قصة الأخوين من بني إسرائيل أحدهما مؤمن اسمه يهوذا، وثانيهما كافر غني اسمه قطروس أو يمليخا. وقال بعض المفسرين باحتمال أن يكون هذا المثل تصويريا وتقديريا لمؤمن وكافر.
والذي نستلهمه من روح الآيات ومضمونها أن المثل في صدد حادث واقع أولا وأنه وقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ثانيا. وعلى الأخص أنه ليس قصة إسرائيلية قديمة ولا تصويرية تقديرية وحسب ؛ لأن الصورة التي تضمنها المثل صورة حجازية عربية سواء في الجنة ونخلها وأعنابها أم فيها ورد من حوار حولها أم في أشخاصها.
والصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة، والراجح أن ضمير ﴿ واضرب لهم ﴾ راجع إلى الكفار موضوع الكلام السابق وهو قول جمهور المفسرين أيضا. ولقد نددت الآيات السابقة بطبقة الزعماء والوجهاء التي كانت تتبجح بمركزها ومالها وقوتها وتحتقر فقراء المسلمين فجاءت هذه الآيات تسرد حادثا واقعا معروفا لهم لتدعم به ما جاء في الآيات السابقة من تقرير كون الفضل وأحسن العاقبة للإيمان والعمل الصالح، وأن اعتداد الكفار بمالهم وقوتهم لن يغني عنهم من الله شيئا ثم تبثّ الطمأنينة والأمل في قلوب فقراء المؤمنين. وواضح أن المثل وتلقينه وما فيه من معالجة روحية مستمر المدى بالنسبة لكل موقف مماثل بين كافر ومؤمن.
٢ فأصبح : ثم أصبح.
٣ هشيما : جافا مكسرا ملقى على الأرض تحركه الرياح.
في الآية الأولى : أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب مثلا آخر عن الحياة الدنيا فهي كالزرع الذي ينميه مطر السماء، ثم لا يلبث أن يجف بعد قليل ويتكسر وتدفعه الرياح وتذروه، وبأن ينذرهم بأن الله مقتدر على كل شيء.
وفي الآية الثانية : تقرير بأن المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا التي مثلت في المثل والتي لن تلبث أن تزول، وأن الأعمال الصالحة هي وحدها الباقية التي تحوز رضاء الله وتكون مناط الأمل وحسن الثواب عنده.
وقد جاءت الآية الثانية تعقيبية على الأولى وكنتيجة لها، والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك وموجهتان للكفار ومستهدفتان نفس هدف المثل الأول وتلقينهما مستمر المدى مثله.
تعليق على آية
﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء الخ... ﴾
وننبه على أنه ليس في هذه الآيات ولا في التي قبلها قصد تنفير المؤمنين من الحياة وزينتها وطيباتها ولا قصد ازدراء شأنها إطلاقا. فقد جاءت في صدد التنديد بزهو الكفار وتبجحهم وازدرائهم بفقراء المؤمنين وتقرير أفضلية الإيمان والعمل الصالح والحث عليهما. وإذا كانت قد تضمنت التذكير بأن الحياة الدنيا والمال والثروة والقوة أعراض زائلة وقصيرة الأمد فإن هذا بسبيل ذلك التنديد والحث والتقرير. وهو إلى هذا تقرير لواقع المر حقا بالنسبة للحياة الدنيا وعمر الإنسان فيها. والضابط المحكم في هذا الأمر آية سورة الأعراف :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعملون ٣٢ ﴾ وإذا كان من استدراك فهو ما تلهمه الآية التي قبل هذه الآية بخاصة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي نبهنا عليها في مناسبات عديدة سابقة بعامة وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والاعتدال وعدم الإسراف وعدم الاستغراق.
والجملة الثانية من الآية الثانية قد ورد ما يماثلها في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
في الآية الأولى : أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يضرب مثلا آخر عن الحياة الدنيا فهي كالزرع الذي ينميه مطر السماء، ثم لا يلبث أن يجف بعد قليل ويتكسر وتدفعه الرياح وتذروه، وبأن ينذرهم بأن الله مقتدر على كل شيء.
وفي الآية الثانية : تقرير بأن المال والبنين هما زينة الحياة الدنيا التي مثلت في المثل والتي لن تلبث أن تزول، وأن الأعمال الصالحة هي وحدها الباقية التي تحوز رضاء الله وتكون مناط الأمل وحسن الثواب عنده.
وقد جاءت الآية الثانية تعقيبية على الأولى وكنتيجة لها، والآيتان متصلتان بما سبقهما كذلك وموجهتان للكفار ومستهدفتان نفس هدف المثل الأول وتلقينهما مستمر المدى مثله.
تعليق على آية
﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كما أنزلناه من السماء الخ... ﴾
وننبه على أنه ليس في هذه الآيات ولا في التي قبلها قصد تنفير المؤمنين من الحياة وزينتها وطيباتها ولا قصد ازدراء شأنها إطلاقا. فقد جاءت في صدد التنديد بزهو الكفار وتبجحهم وازدرائهم بفقراء المؤمنين وتقرير أفضلية الإيمان والعمل الصالح والحث عليهما. وإذا كانت قد تضمنت التذكير بأن الحياة الدنيا والمال والثروة والقوة أعراض زائلة وقصيرة الأمد فإن هذا بسبيل ذلك التنديد والحث والتقرير. وهو إلى هذا تقرير لواقع المر حقا بالنسبة للحياة الدنيا وعمر الإنسان فيها. والضابط المحكم في هذا الأمر آية سورة الأعراف :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعملون ٣٢ ﴾ وإذا كان من استدراك فهو ما تلهمه الآية التي قبل هذه الآية بخاصة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي نبهنا عليها في مناسبات عديدة سابقة بعامة وهو الإيمان بالله والعمل الصالح والاعتدال وعدم الإسراف وعدم الاستغراق.
والجملة الثانية من الآية الثانية قد ورد ما يماثلها في سورة مريم وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار.
٢ فلم نغادر منهم أحدا : لم نترك أحدا لم نحشره أو نهمله.
في الآيات : وصف ليوم القيامة وفزع الكفار فيه لما تحقق به وعد الله الذي كانوا يشكون فيه. وعبارتها واضحة، والوصف مخيف مفزع حقا، وقد استهدف به كما هو المتبادر فيما استهدف إنذار السامعين وبخاصة الكافرين المجرمين وإثارة الرعب والفزع فيهم وحملهم على الارعواء.
والمتبادر أنها جاءت تعقيبية على ما قبلها ؛ حيث قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع، وأن المال والبنين ليسوا إلا زينة لمدة قصيرة، ثم تزول فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهولها، وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به وكيف يعرضون على النار ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملة ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾ حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ ﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين٢٠٤ ﴾ وأول من يكنى يوم القيامة إبراهيم وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي، فيقول : إنهم لما يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم ) ١. وحديثا آخر عن عائشة قالت :( قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة ؟ قال : عراة حفاة. قالت : قلت والنساء ؟ قال : والنساء. قالت : قلت يا رسول الله أنستحي ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من ذلك أن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض ) ٢.
والإيمان بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية واجب مع الإيمان. فإنه لا بد أن لذلك من حكمة. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديثين مما فيه تساوق مع الهدف لذلك من حكمة. وقد يكون الإنذار والترهيب المنطويان في الحديثين من هذه الحكمة، وفي ذلك تساوق مع الهدف القرآني أيضا. وقد يصح أن يقال إلى هذا استلهاما من روح الآيات ومقامها وسياقها أنه قد يكون انطوى فيها قصد تقرير كون الناس يحشرون مجردين من كل ما كانوا يعتزون به في الدنيا من مال وبنين وأنصار ليتحملوا بأنفسهم مسؤولية أعمالهم الإجرامية. بل ولعل هذا هو المقصود الجوهري من العبارة القرآنية في مقامها وسياقها، وليس بين هذا وبين الحديثين تعارض كما هو واضح.
وكتب أعمال الناس ذكرت مرارا في السور السابقة وشرحنا موضوعها وعلقنا عليه في سياق سورة ( ق ) بخاصة بما يغني عن التكرار، والعبارة هنا بسبيل تصوير ما سوف يكون من قرع الكفار حينما يجدون كل ما عملوه محصى عليهم لا فرق بين صغيرة وكبيرة.
ولقد روى البغوي بطرقه عن سهل بن سعد في سياق جملة :﴿ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب لموبقات ). والحديث لم يرد بنصه في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أورد ابن كثير حديثا في معناه في نفس السياق عن سهل بن سعد من إخراج الطبري وصحته محتملة. وفيه إن صح وصحته محتملة تحذير من التهاون من الذنوب الصغيرة.
ولقد احتوت آية سورة النجم [ ٣٢ ] ما يفيد أن الله تعالى يغفر الهفوات الصغيرة إذا اجتنب المسلم كبائر الإثم والفواحش، ولسنا نرى في الحديث نقضا فإن المتبادر أن المقصود منه هو الاستمرار على الصغائر وليس الهفوات الصغيرة غير المقصودة وغير المستمر عليها.
والإشارة إلى تسيير الجبال يقصد به على ما تلهمه روح الآيات تصوير هول الآخرة ومشاهدها بالإضافة إلى ما في الخبر القرآني من حقيقة غيبية يجب الإيمان بها. ولقد تنوع ذكر مصير الجبال في الآخرة مما يمكن أن يكون قرينة على هذا القصد. والجبال تشغل من أذهان السامعين حيزا بسبب ضخامتها وعلوها مما يفسر حكمة التنزيل في تكرار ذكر مصائرها في الآخرة وهوانها على الله وقدرته.
في الآيات : وصف ليوم القيامة وفزع الكفار فيه لما تحقق به وعد الله الذي كانوا يشكون فيه. وعبارتها واضحة، والوصف مخيف مفزع حقا، وقد استهدف به كما هو المتبادر فيما استهدف إنذار السامعين وبخاصة الكافرين المجرمين وإثارة الرعب والفزع فيهم وحملهم على الارعواء.
والمتبادر أنها جاءت تعقيبية على ما قبلها ؛ حيث قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع، وأن المال والبنين ليسوا إلا زينة لمدة قصيرة، ثم تزول فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهولها، وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به وكيف يعرضون على النار ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملة ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾ حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ ﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين٢٠٤ ﴾ وأول من يكنى يوم القيامة إبراهيم وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي، فيقول : إنهم لما يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم ) ١. وحديثا آخر عن عائشة قالت :( قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة ؟ قال : عراة حفاة. قالت : قلت والنساء ؟ قال : والنساء. قالت : قلت يا رسول الله أنستحي ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من ذلك أن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض ) ٢.
والإيمان بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية واجب مع الإيمان. فإنه لا بد أن لذلك من حكمة. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديثين مما فيه تساوق مع الهدف لذلك من حكمة. وقد يكون الإنذار والترهيب المنطويان في الحديثين من هذه الحكمة، وفي ذلك تساوق مع الهدف القرآني أيضا. وقد يصح أن يقال إلى هذا استلهاما من روح الآيات ومقامها وسياقها أنه قد يكون انطوى فيها قصد تقرير كون الناس يحشرون مجردين من كل ما كانوا يعتزون به في الدنيا من مال وبنين وأنصار ليتحملوا بأنفسهم مسؤولية أعمالهم الإجرامية. بل ولعل هذا هو المقصود الجوهري من العبارة القرآنية في مقامها وسياقها، وليس بين هذا وبين الحديثين تعارض كما هو واضح.
وكتب أعمال الناس ذكرت مرارا في السور السابقة وشرحنا موضوعها وعلقنا عليه في سياق سورة ( ق ) بخاصة بما يغني عن التكرار، والعبارة هنا بسبيل تصوير ما سوف يكون من قرع الكفار حينما يجدون كل ما عملوه محصى عليهم لا فرق بين صغيرة وكبيرة.
ولقد روى البغوي بطرقه عن سهل بن سعد في سياق جملة :﴿ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب لموبقات ). والحديث لم يرد بنصه في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أورد ابن كثير حديثا في معناه في نفس السياق عن سهل بن سعد من إخراج الطبري وصحته محتملة. وفيه إن صح وصحته محتملة تحذير من التهاون من الذنوب الصغيرة.
ولقد احتوت آية سورة النجم [ ٣٢ ] ما يفيد أن الله تعالى يغفر الهفوات الصغيرة إذا اجتنب المسلم كبائر الإثم والفواحش، ولسنا نرى في الحديث نقضا فإن المتبادر أن المقصود منه هو الاستمرار على الصغائر وليس الهفوات الصغيرة غير المقصودة وغير المستمر عليها.
والإشارة إلى تسيير الجبال يقصد به على ما تلهمه روح الآيات تصوير هول الآخرة ومشاهدها بالإضافة إلى ما في الخبر القرآني من حقيقة غيبية يجب الإيمان بها. ولقد تنوع ذكر مصير الجبال في الآخرة مما يمكن أن يكون قرينة على هذا القصد. والجبال تشغل من أذهان السامعين حيزا بسبب ضخامتها وعلوها مما يفسر حكمة التنزيل في تكرار ذكر مصائرها في الآخرة وهوانها على الله وقدرته.
٤ ولا يظلم ربك أحدا : أحصى أعمالهم تماما بدون زيادة ولا نقص وعاملهم في ذلك بمنتهى العدل والحق.
في الآيات : وصف ليوم القيامة وفزع الكفار فيه لما تحقق به وعد الله الذي كانوا يشكون فيه. وعبارتها واضحة، والوصف مخيف مفزع حقا، وقد استهدف به كما هو المتبادر فيما استهدف إنذار السامعين وبخاصة الكافرين المجرمين وإثارة الرعب والفزع فيهم وحملهم على الارعواء.
والمتبادر أنها جاءت تعقيبية على ما قبلها ؛ حيث قررت الآيات السابقة أن العمل الصالح هو الباقي النافع، وأن المال والبنين ليسوا إلا زينة لمدة قصيرة، ثم تزول فجاءت هذه الآيات منذرة بالقيامة وهولها، وكيف يجاء بهم مجردين مما كانوا يتفاخرون به وكيف يعرضون على النار ويواجهون بكتب أعمالهم التي أحصت كل شيء عليهم.
ولقد روى البغوي بطرقه في سياق جملة ﴿ كما خلقناكم أول مرة ﴾ حديثا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنكم محشورون حفاة عراة غرلا ثم قرأ ﴿ كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين٢٠٤ ﴾ وأول من يكنى يوم القيامة إبراهيم وإن ناسا من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي، فيقول : إنهم لما يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم فأقول كما قال العبد الصالح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم إلى قوله العزيز الحكيم ) ١. وحديثا آخر عن عائشة قالت :( قلت يا رسول الله كيف يحشر الناس يوم القيامة ؟ قال : عراة حفاة. قالت : قلت والنساء ؟ قال : والنساء. قالت : قلت يا رسول الله أنستحي ؟ قال : يا عائشة الأمر أشد من ذلك أن يهمّهم أن ينظر بعضهم إلى بعض ) ٢.
والإيمان بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشاهد الأخروية واجب مع الإيمان. فإنه لا بد أن لذلك من حكمة. والترهيب والإنذار من الحكمة الملموحة في الحديثين مما فيه تساوق مع الهدف لذلك من حكمة. وقد يكون الإنذار والترهيب المنطويان في الحديثين من هذه الحكمة، وفي ذلك تساوق مع الهدف القرآني أيضا. وقد يصح أن يقال إلى هذا استلهاما من روح الآيات ومقامها وسياقها أنه قد يكون انطوى فيها قصد تقرير كون الناس يحشرون مجردين من كل ما كانوا يعتزون به في الدنيا من مال وبنين وأنصار ليتحملوا بأنفسهم مسؤولية أعمالهم الإجرامية. بل ولعل هذا هو المقصود الجوهري من العبارة القرآنية في مقامها وسياقها، وليس بين هذا وبين الحديثين تعارض كما هو واضح.
وكتب أعمال الناس ذكرت مرارا في السور السابقة وشرحنا موضوعها وعلقنا عليه في سياق سورة ( ق ) بخاصة بما يغني عن التكرار، والعبارة هنا بسبيل تصوير ما سوف يكون من قرع الكفار حينما يجدون كل ما عملوه محصى عليهم لا فرق بين صغيرة وكبيرة.
ولقد روى البغوي بطرقه عن سهل بن سعد في سياق جملة :﴿ لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ﴾ حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيه :( إياكم ومحقرات الذنوب فإنما مثل محقرات الذنوب مثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء هذا بعود وجاء هذا بعود وجاء هذا بعود فأنضجوا خبزتهم، وإن محقرات الذنوب لموبقات ). والحديث لم يرد بنصه في كتب الأحاديث الصحيحة. وقد أورد ابن كثير حديثا في معناه في نفس السياق عن سهل بن سعد من إخراج الطبري وصحته محتملة. وفيه إن صح وصحته محتملة تحذير من التهاون من الذنوب الصغيرة.
ولقد احتوت آية سورة النجم [ ٣٢ ] ما يفيد أن الله تعالى يغفر الهفوات الصغيرة إذا اجتنب المسلم كبائر الإثم والفواحش، ولسنا نرى في الحديث نقضا فإن المتبادر أن المقصود منه هو الاستمرار على الصغائر وليس الهفوات الصغيرة غير المقصودة وغير المستمر عليها.
والإشارة إلى تسيير الجبال يقصد به على ما تلهمه روح الآيات تصوير هول الآخرة ومشاهدها بالإضافة إلى ما في الخبر القرآني من حقيقة غيبية يجب الإيمان بها. ولقد تنوع ذكر مصير الجبال في الآخرة مما يمكن أن يكون قرينة على هذا القصد. والجبال تشغل من أذهان السامعين حيزا بسبب ضخامتها وعلوها مما يفسر حكمة التنزيل في تكرار ذكر مصائرها في الآخرة وهوانها على الله وقدرته.
﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق ١ عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ( ٥٠ ) ﴾ [ ٥٠ ].
في الآية إشارة خاطفة إلى قصة إبليس وعصيانه لأمر الله بالسجود لآدم، وسؤال استنكاري وتنديدي موجه للكفار لاتخاذهم إياه وذريته أولياء من دون الله وهم أعداؤهم الألداء.
وانتهت الآية بفقرة تنديدية قارعة، فلبئس ما فعل الظالمون باستبدالهم ولاية إبليس وذريته بولاية الله تعالى.
والآية متصلة بالسياق اتصالا وثيقا من حيث كون سابقاتها خوفت الكفار وأنذرتهم فجاءت هذه لتقرعهم وتنبههم إلى أنهم في كفرهم إنما يتولون ويطيعون عدوهم إبليس.
والإشارة هي أقصر إشارة إلى قصة إبليس في القرآن، والمتبادر أن الآية هي في صدد ما احتواه الشق الثاني من التقريع أكثر منها في صدد القصة، والحجة فيها قوية ملزمة والتقريع لاذع محكم.
والمتبادر أن تعبير ( اتخاذ إبليس وذريته أولياء من دون الله ) قد قصد به إطاعتهم فيما يزينون من انحرافات وآثام على اعتبار أن ما يرتكس الناس فيه من ذلك إنما هو من وساوس إبليس وتزييناته. وهو ما فتئت الآيات تكرره وتقرره وهذا المفهوم لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة ( ص ).
تعليق على وصف إبليس أنه من الجن
وما أورده المفسرون في صدده
ويلحظ أن الآية هنا تقرر بصراحة أن إبليس من الجن في حين أن آيات قصة إبليس وآدم الأخرى احتوت فقط حكاية قول إبليس إنه خلق من نار وإنه أفضل من آدم خُلق من طين وتراب.
ولقد أورد المفسرون ١ في سياق الآية روايات وأقوالا متنوعة ليس شيء منها واردا في كتب الصحاح. منها أن الجن جيل من الملائكة، ومنها أن كلمة الجن يصح إطلاقها لغة على الملائكة لأنها من الاجتنان وهو الاستتار والخفاء. والذين قالوا هذا تفادوا به مما وهموا أنه تناقض في مفهوم القرآن ؛ لأن مقتضى جميع القصة في السور الأخرى أن يكون إبليس من الملائكة ؛ لأنه استثني منهم ؛ حيث جاءت الجملة :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس ﴾ [ ٥٠ ] ولا نرى طائلا ولا ضرورة إلى ذلك.
فالآية صريحة بأن إبليس شيء والملائكة شيء آخر. والذين قالوا : إن الجن جيل من الملائكة، وإن كلمة الجن يصح أن تطلق على الملائكة، وإن إبليس من الملائكة قد غفلوا فيما يتبادر لنا عن تقريرات القرآن الصريحة الأخرى بأن الجان قد خلقوا من نار. وعن حكاية قول إبليس أنه خلق من نار مما فيه حسم في قصد تقرير كون إبليس من الجن الناري. وكذلك غفلوا عن جمع الجن والملائكة في سياق واحد وهو آيات سورة سبأ هذه :﴿ ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون ٤٠ قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ٤١ ﴾، مما فيه حسم بأن كلا منهم غير الآخر. ولقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم ) والنبي صلى الله عليه وسلم وحده هو المعتمد فيما فيه توضيح لما أجمله القرآن أو أطلقه أو سكت عنه، وهذا الحديث من الأحاديث الصحيحة وقد انطوى على حسم آخر ٢.
ولقد قال الزمخشري : إن الفاء في كلمة ﴿ ففسق ﴾ سببية لتقرير كون إبليس إنما فسق لأنه من الجن وليس من الملائكة.
ولقد أورد المفسرون ٣ في سياق هذه الآية بيانات كثيرة عن إبليس وذريته وتزاوجه وتناسله وأسماء أبنائه وحفدته وطرائق تصرفاتهم وتقسيمات وظائفهم الخ دون ما سند، وليس فيها ما هو وارد عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحده المعتمد في مثل هذه البيانات. وليس في إيرادها طائل ولا ضرورة، وأكثرها أدخل في نطاق الخيال والخرافة، والواجب في هذا الأمر هو الوقوف عند ما وقف عنده القرآن دون تزيد ولا تخمين ؛ لأنه من الحقائق الإيمانية المغيبة، مع ملاحظة الهدف القرآني الذي نبهنا عليه في المناسبات السابقة وبخاصة في سياق تفسير سورة ( ص ).
٢ انظر التاج ج ٥ ص ٢٦٣..
٣ انظر كتب التفسير السابقة الذكر..
في الآيات :
١ - تقرير تنديدي بأن الله لم يستشر ولم يستعن بإبليس وذريته الذين يتخذهم الكافرون أولياء من دونه لا في خلق السماوات والأرض ولا في خلق أنفسهم كما أنه لا يصح في العقل أن يتخذ الله المضلين الذين يزينون للناس الضلال والشرك أعضادا حتى يكون حينئذ مبرر للكافرين باتخاذهم أولياء وشركاء.
٢- وحكاية لما سوف يخاطب الله المشركين به يوم القيامة حيث يتحداهم بدعوة شركائهم لنصرهم فيدعونهم فلم يلب دعوتهم أحد ؛ حيث يكون الله قد جعل بينهم برزخا حاجزا.
٣ - وإشارة إلى ما يكون من أمرهم حينئذ حيث يعرضون على النار فيتيقنون بأنهم ورادوها وليس مناص ولا مصرف عنها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق في صدد تقريع الكفار وتسفيههم، وقد أرجعنا ضمير الجمع الغائب في ﴿ أشهدتهم ﴾ إلى إبليس وذريته وأوّلنا الآية الأولى بما أولناها به استلهاما من روح الآيات والسياق، وهو ما فعله المفسرون أيضا ١.
ومع أن الطبري أوّل كلمة ﴿ مَّوْبِقًا ﴾ بمعنى هلاكا ومهلكا، وأن هذا المعنى ورد في آية في سورة الشورى بمعنى الإهلاك أيضا وهي :﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾ [ ٣٤ ] فقد أورد الطبري في سياقها أقوالا معزوة إلى مجاهد وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وقتادة : أن الموبق هو واد في نار يوم القيامة، أو واد عميق يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، أو واد في جهنم من قيح ودم. والتوقف في هذه الأقوال هو الأولى ما دامت لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المصدر الوحيد الوثيق لمثل هذه المشاهد الغيبية الأخروية.
في الآيات :
١ - تقرير تنديدي بأن الله لم يستشر ولم يستعن بإبليس وذريته الذين يتخذهم الكافرون أولياء من دونه لا في خلق السماوات والأرض ولا في خلق أنفسهم كما أنه لا يصح في العقل أن يتخذ الله المضلين الذين يزينون للناس الضلال والشرك أعضادا حتى يكون حينئذ مبرر للكافرين باتخاذهم أولياء وشركاء.
٢- وحكاية لما سوف يخاطب الله المشركين به يوم القيامة حيث يتحداهم بدعوة شركائهم لنصرهم فيدعونهم فلم يلب دعوتهم أحد ؛ حيث يكون الله قد جعل بينهم برزخا حاجزا.
٣ - وإشارة إلى ما يكون من أمرهم حينئذ حيث يعرضون على النار فيتيقنون بأنهم ورادوها وليس مناص ولا مصرف عنها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق في صدد تقريع الكفار وتسفيههم، وقد أرجعنا ضمير الجمع الغائب في ﴿ أشهدتهم ﴾ إلى إبليس وذريته وأوّلنا الآية الأولى بما أولناها به استلهاما من روح الآيات والسياق، وهو ما فعله المفسرون أيضا ١.
ومع أن الطبري أوّل كلمة ﴿ مَّوْبِقًا ﴾ بمعنى هلاكا ومهلكا، وأن هذا المعنى ورد في آية في سورة الشورى بمعنى الإهلاك أيضا وهي :﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾ [ ٣٤ ] فقد أورد الطبري في سياقها أقوالا معزوة إلى مجاهد وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وقتادة : أن الموبق هو واد في نار يوم القيامة، أو واد عميق يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، أو واد في جهنم من قيح ودم. والتوقف في هذه الأقوال هو الأولى ما دامت لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المصدر الوحيد الوثيق لمثل هذه المشاهد الغيبية الأخروية.
مصرفا : مخرجا أو معدلا إلى غيرها.
في الآيات :
١ - تقرير تنديدي بأن الله لم يستشر ولم يستعن بإبليس وذريته الذين يتخذهم الكافرون أولياء من دونه لا في خلق السماوات والأرض ولا في خلق أنفسهم كما أنه لا يصح في العقل أن يتخذ الله المضلين الذين يزينون للناس الضلال والشرك أعضادا حتى يكون حينئذ مبرر للكافرين باتخاذهم أولياء وشركاء.
٢- وحكاية لما سوف يخاطب الله المشركين به يوم القيامة حيث يتحداهم بدعوة شركائهم لنصرهم فيدعونهم فلم يلب دعوتهم أحد ؛ حيث يكون الله قد جعل بينهم برزخا حاجزا.
٣ - وإشارة إلى ما يكون من أمرهم حينئذ حيث يعرضون على النار فيتيقنون بأنهم ورادوها وليس مناص ولا مصرف عنها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق في صدد تقريع الكفار وتسفيههم، وقد أرجعنا ضمير الجمع الغائب في ﴿ أشهدتهم ﴾ إلى إبليس وذريته وأوّلنا الآية الأولى بما أولناها به استلهاما من روح الآيات والسياق، وهو ما فعله المفسرون أيضا ١.
ومع أن الطبري أوّل كلمة ﴿ مَّوْبِقًا ﴾ بمعنى هلاكا ومهلكا، وأن هذا المعنى ورد في آية في سورة الشورى بمعنى الإهلاك أيضا وهي :﴿ أو يوبقهن بما كسبوا ﴾ [ ٣٤ ] فقد أورد الطبري في سياقها أقوالا معزوة إلى مجاهد وعبد الله بن عمرو وأنس بن مالك وقتادة : أن الموبق هو واد في نار يوم القيامة، أو واد عميق يفرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلالة، أو واد في جهنم من قيح ودم. والتوقف في هذه الأقوال هو الأولى ما دامت لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو المصدر الوحيد الوثيق لمثل هذه المشاهد الغيبية الأخروية.
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا ؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت :
١-تنديدا بالكفار : فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار : فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف : فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم : فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة : فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها، كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ٥٥ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ ٥٨ ] من سورة الزخرف ؛ لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ) ١. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ) ٢. وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ) ٣.
٢ التاج ج ٥ ص ٣٧..
٣ المصدر نفسه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( ٥٤ ) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قُبلا ١( ٥٥ ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ( ٥٦ ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( ٥٧ ) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ٢ ( ٥٨ ) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( ٥٩ ) ﴾ [ ٤٥-٥٩ ].
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا ؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت :
١-تنديدا بالكفار : فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار : فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف : فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم : فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة : فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها، كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ٥٥ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ ٥٨ ] من سورة الزخرف ؛ لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ) ١. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ) ٢. وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ) ٣.
٢ التاج ج ٥ ص ٣٧..
٣ المصدر نفسه.
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا ؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت :
١-تنديدا بالكفار : فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار : فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف : فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم : فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة : فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها، كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ٥٥ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ ٥٨ ] من سورة الزخرف ؛ لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ) ١. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ) ٢. وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ) ٣.
٢ التاج ج ٥ ص ٣٧..
٣ المصدر نفسه.
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا ؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت :
١-تنديدا بالكفار : فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار : فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف : فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم : فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة : فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها، كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ٥٥ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ ٥٨ ] من سورة الزخرف ؛ لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ) ١. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ) ٢. وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ) ٣.
٢ التاج ج ٥ ص ٣٧..
٣ المصدر نفسه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٤:﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ( ٥٤ ) وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قُبلا ١( ٥٥ ) وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما أنذروا هزوا ( ٥٦ ) ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا ( ٥٧ ) وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ٢ ( ٥٨ ) وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ( ٥٩ ) ﴾ [ ٤٥-٥٩ ].
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا ؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت :
١-تنديدا بالكفار : فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار : فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف : فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم : فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة : فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها، كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ٥٥ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ ٥٨ ] من سورة الزخرف ؛ لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ) ١. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ) ٢. وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ) ٣.
٢ التاج ج ٥ ص ٣٧..
٣ المصدر نفسه.
في الآية الأولى تقرير تنديدي بطبيعة الإنسان الجدلية والمِرائية. فإن الله قد ضمن القرآن أنواع الأمثال وقلب فيه وجوه الكلام لتذكير الناس وإنذارهم، ولكن طبيعة الجدل الغالبة في البشر تتحكم فيهم فتحول دون ارعوائهم وتذكرهم.
وفي هذه الآية يمكن أن تكون تعقيبية على الآيات السابقة، كما يمكن أن تكون مقدمة للآيات التي بعدها، ونحن نرجح هذا ؛ لأن الآيات التي جاءت بعدها ذكرت مجادلة الكفار بالباطل لدحض الحق تعنتا ومكابرة ولذلك جعلناها معها.
أما بقية الآيات فقد احتوت :
١-تنديدا بالكفار : فقد جاءهم الهدى فكان الأحرى بهم أن يهتدوا ويؤمنوا ويتوبوا إلى الله ويستغفروه عما فرط منهم. ولكنهم امتنعوا كأنهم ينتظرون ليؤمنوا أن يأتيهم عذاب الله عيانا أو تأتيهم سنة الله في الأمم السابقة من البلاء الصاعق. وفي موقفهم هذا ما فيه من الحمق والتفريط.
٢-وإشارة تقريعية إلى موقف الكفار : فإنهم بدلا من أن يهتدوا وينتفعوا بالهدى يلجأون إلى الجدل الباطل ليبطلوا به الحق ويغطوا عليه، ويتخذوا آيات الله ونذره هزؤا وسخرية.
٣- وتساؤلا تنديديا عما إذا كان يوجد من هو أشد ظلما وحمقا وانحرافا ممن يذكر بآيات الله ويدعى إلى الحق فيعرض ويتصامم ولا يبالي سوء العاقبة وما يقترفه من آثام.
٤- وتعليلا لهذا الموقف : فإن الذين يقفون مثل هذا الموقف يكونون قد قست قلوبهم فلا تفقه دعوة الحق، وصمّت آذانهم فلا تسمع كلمة الحق. فإذا دعوا إلى الهدى فلا يهتدون البتة بطبيعة الحال.
٥- وتقريرا لحكمة الله في إمهالهم : فالله متصف بالغفران والرحمة من جهة فيتجاوز عن مثل هذا الطيش والتصامم رجاء أن يثوب أصحابها في النهاية إلى الحق ويرعووا عن موقفهم الباطل. واقتضت حكمته من جهة أخرى إمهالهم إلى موعد معين في علمه لن يجد الذين يصرون على ذلك الموقف من عذاب الله فيه موئلا ومهربا. ولولا صفات الله تلك وحكمته هذه لعجل لهم العذاب.
٦- وتدليلا على ذلك بما كان من شأن الأمم السابقة : فقد ظلمت وانحرفت فأهلكها الله في الموعد الذي عينه لها.
وواضح أن الآيات استمرار للسياق أيضا، وقد وجهت إلى العقول والقلوب معا بأسلوب قوي نافذ. وتعبير ﴿ إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ﴾ هو تعبير أسلوبي سبق أمثاله في سورة ( يس ) وغيرها بقصد بيان شدة تعامي الكفار وتصاممهم عن الحق، وأوّلناه بما أوّلناه لأن ذلك مما تلهمه الآيات سواء في تنديديها وتقريعها أم في إنذارها، كما أنه هو المتسق مع التقريرات القرآنية العامة على ما نبهنا عليه في المناسبات المماثلة السابقة عدا أنه فيما هو المتبادر تسجيل لواقع أمرهم حين نزول الآية بدليل أن قلوب معظمهم تفتحت فيما بعد فاهتدوا وآمنوا. وهذا يقال أيضا بالنسبة للآية :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذاب قبلا ٥٥ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ﴾ هي بسبيل التنديد بخلق المجادلة والمماراة الذي يكون في كثير من الناس وبخاصة الذي لا يكون من أجل الحق وإنما من أجل الباطل. وهو ما ذكر في آية أخرى من الآيات نفسها. وينطوي في ذلك تلقين مستمر المدى بتقبيح ذلك كما هو المتبادر.
ولقد أثرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متساوقة مع هذا التلقين أوردنا بعضها في سياق تفسير الآية [ ٥٨ ] من سورة الزخرف ؛ لأنها متناسبة معها. وهذه بعض أحاديث أخرى مطلقة المدى تتناسب مع الجملة التي نحن في صددها، من ذلك حديث رواه الشيخان والنسائي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أبغض الرجال إلى الله الألد الخصِمُ ) ١. وحديث رواه الترمذي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من ترك الكذب وهو باطل بني له في ربض الجنة، ومن ترك المِراء وهو محق بني له في وسطها، ومن حسّن خلقه بني له في أعلاها ) ٢. وحديث رواه الترمذي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( كفى بك إثما ألا تزال مخاصما ) ٣.
٢ التاج ج ٥ ص ٣٧..
٣ المصدر نفسه.
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
فارتدا على آثارهما قصصا : فرجعا يسيران على آثار أقدامهما حتى يبلغ المحل بدون ضلال.
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
نكرا : منكرا.
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
أقرب رحما : أكثر منه رعاية لصلة الرحم أو أكثر منه رحمة أو برا بوالديه.
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
هذا الفصل يحتوي قصة لقاء ومحاورة بين موسى وعبد من عباد الله الصالحين اختصه بعلم خاص منه، وعبارة آياته واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر.
تعليقات على قصة
موسى والعبد الصالح
ولقد تعددت الأحاديث والروايات التي أوردها المفسرون في صدد القصة. والمستفاد منها بدون خلاف أن موسى هو نبي بني إسرائيل المشهور وأن العبد الصالح هو الخضر وأن فتى موسى هو يوشع بن نون.
وفي كتاب التفسير في صحيحي البخاري ومسلم وسنن الترمذي حديث طويل جاء فيه١ :( أن سعيد بن جبير قال لابن عباس : إن نوفا البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل فقال : كذب عدو الله ٢ حدثني أبيّ بن كعب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن موسى قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل : أيّ الناس أعلم ؟ قال : أنا. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه فأوحى الله إليه : إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى : يا رب فكيف لي به ؟ قال تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ. فأخذ حوتا في مكتل ثم انطلق ومعه فتاه يوشع بن نون، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما. واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، وفي رواية في أصل الصخرة عين يقال لها : الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من مائها فتحرك وانسلّ من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ موسى نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليليتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. قال : ولم يجد النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا. قال : فكان للحوت سربا ولموسى ولفتاه عجبا. قال موسى : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا قال رجعا يقصان آثارهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجّى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر : وأنّى بأرضك السلام، قال : أنا موسى، قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم، أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال : إنك لن تستطيع معي صبرا يا موسى إني على من علم الله علّمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علّمك الله لا أعلمه. فقال له موسى : ستجدني إن شاء الله صابر و لا أعصي لك أمرا، فقال له الخضر : فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقَدُومِ، فقال له موسى : قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها، لقد جئت شيئا إمرا قال : ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا، قال : لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا. قال : وقال رسول الله وكانت الأولى من موسى نسيانا. قال : وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر من البحر نقرة، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه فقتله، فقال له موسى : أقتلت نفسا زاكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا، قال : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا. قال : وهذه أشد من الأولى. قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا. فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه الخضر بيده، فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيّفونا، لو شئت لاتخذت عليه أجرا، قال : هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما. قال سعيد بن جبير ٣ : وكان ابن عباس يقرأ ﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ٧٩ ﴾ وكان يقرأ :﴿ وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين ﴾ [ ٨٠ ] وقد روى الترمذي٤ في سياق هذا الحديث حديثا عن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا ) وروى هذا ٥ أبو داود وزاد عليه :( لو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا ) وروى الترمذي في نفس السياق٦ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فاهتزت تحته خضراء ). والمتبادر أن القراءة المنسوبة إلى ابن عباس، وفيها زيادة على النص القرآني المتواتر بدون انقطاع كانت بسبيل التفسير والتوضيح.
وهناك رواية تذكر أن اليهودي نوفا قال : إن صاحب الخضر هو موسى بن ميشا أو ابن يشا وليس موسى النبي.
وإلى جانب هذا الحديث الصحيح فإن المفسرين يروون روايتين أخريين عن سبب لقاء موسى بالخضر ٧ جاء في إحداهما عن ابن عباس : أن موسى سأل ربه فيما سأل أي عباده أعلم ؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عساه يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى، قال : رب فهل في الأرض أحد ؟ قال : نعم، قال : فمن هو ؟ قال : الخضر. ثم تستمر الرواية في القصة في نطاق ما جاء في الآيات وفي الحديث الجامع مع شيء من الزيادة والنقص. وجاء في ثانيتهما عن قتادة أن موسى هو الذي حدثته نفسه بأنه ليس على وجه الأرض من هو أعلم منه فكره الله له ذلك، وأراد أن يعرفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، وأنه لم يكن له أن يحتم على ما لا علم له به، ولكن كان ينبغي له أن يكل ذلك إلى عالمه.
وننبه على أن القصة لم تذكر في أسفار العهد القديم، ولكن هذا لا يمنع أن تكون واردة في أسفارنا إسرائيلية لم تصل إلينا ما دام أن موسى هو النبي المشهور، شأن كثير من القصص الإسرائيلية التي وردت إشارة ما إليها في القرآن ولم ترد في الأسفار المتداولة اليوم، على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. والروايات العديدة في صددها ٨ التي فيها زيادات أو بيانات أكثر مما جاء في الآيات قد تدل على أن القصة مما كان معروفا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم والمصدر المرجح لذلك هم اليهود وأسفارهم.
ونحن في صدد القصص القرآنية عامة على اعتقاد أنها أوردت لتدعيم الدعوة النبوية ومن أجل ما احتوته من مواضع العبرة والموعظة والتمثيل والتذكير، ونعتقد أن هذا يشمل هذه القصة أيضا وإن كانت تبدو أنها جاءت مستقلة عن السياق السابق أولا، وجاءت كقصة لذاتها ثانيا.
فمما قاله الطبري : إن هذه القصص التي أخبر الله عز وجل نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه تأديب منه له وتقدم إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذبوا واستهزؤوا به وبكتابه وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف حقيقة الصحة في الظاهر عند موسى إذا لم يكن عالما بعواقبها وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآيلة إلى الصواب في العاقبة. وينبئ عن صحة ذلك قوله ﴿ وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا ﴾، ولقد أورد المفسر القاسمي طائفة من مواضع العبرة والعظة والتلقينات في القصة نقلا عن مصادر عديدة منها استحباب الرحلة في طلب العلم وتجشم المشاق في ذلك. واستزادة العالم من العلم. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. والتحذير من عجب المرء بعلمه. وجواز إتلاف مال الغير أو تعييبه لوقاية باقية. وارتكاب مفسدة خفيفة توقيا من مفسدة شديدة. وعدم جواز ترك بناء أو متاع يفسد ويخرب دون بذل الجهد لتلافي ذلك. وعدم استحسان مبادرة المرء إلى إنكار ما لم يستحسنه أو يعرف أسبابه ووجوب الوفاء بالشروط والاعتذار من النسيان والخطأ والتأميل في رحمة الله وعنايته بالذرية التي يتركها الآباء والصالحون.
ويحسن أن يضاف إلى هذا استلهاما من الحديث الجامع أن الإنسان مهما أوتي من العلم والحظوة فيجب أن يكون متواضعا لله، وأن يلحظ دائما أن من المحتمل أن يكون غيره أفضل منه وأعلم منه وأحظى منه عند الله.
ولقد يلهم الحديث الجامع بالإضافة إلى ما تقدم أن بين هذه القصة وبين الآيتين [ ٢٣-٢٤ ] اللتين وردتا في ثنايا آيات قصة أصحاب الكهف شيء من المناسبة. فالآيتان احتوتا أمرا للنبي صلى الله عليه وسلم بألا يقول لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله مما قد يكون فيه عتاب لوعده بشيء دون إناطة ذلك بمشيئة الله على ما رواه الرواة، ولعل هذا أدى إلى قيل وقال واستغراب وسؤال، فأوحى الله بآيات القصة التي لم تكن مجهولة لبيان كون بعض الأنبياء السابقين أيضا قد وقعوا في شيء من الخطأ العفوي الذي قد يكون مرده الطبيعة البشرية، وإذا صح هذا فيكون بين هذا الفصل وبين فصول السورة السابقة صلة ما على ما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون أقوالا متنوعة أخرى غير واردة في الحديث الصحيح معزوة إلى ابن عباس وقتادة والضحاك والحسن وغيرهم في صدد بعض نقاط القصة. من ذلك أن مجمع البحري
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك، . وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
لم نجعل لهم من دونها سترا : إما أنها بمعنى أنهم ليسوا على شيء من الحضارة ووسائلها، أو بمعنى أنه ليس في أرضهم جبال ولا شجر ولا بناء يقيهم الشمس حين طلوعها.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
بين الصدفين : بين الطرفين المتقابلين، وقيل بين الجبلين.
قال انفخوا : كناية عن طلب إحماء الحديد في النار.
قطرا : النحاس الذائب أو القطران أو الزفت الذائب وهذا هو الأرجح.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
ومعنى الجملة تركناهم يضطربون فيما بينهم بالحركات والاختلاط.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٣:﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا٨٣ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ٨٤ فأتبع ١ سببا٨٥ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ٢ ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا ٨٦ قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا ٨٧ وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا ٨٨ ثم أتبع سببا ٨٩ حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا٣ ٩٠ كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا٤ ٩١ ثم أتبع سببا ٩٢ حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا ٩٣ قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا ٥ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ٩٤ قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما ٩٥ آتوني زبر الحديد٦ حتى إذا ساوى بين الصدفين٧ قال انفخوا٨ حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا٩ ٩٦ فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا ٩٧ قال هذا رحمة من ربي فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقا ٩٨ وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ١٠ ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا ٩٩ وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضا ١٠٠ الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري وكانوا لا يستطيعون سمعا١٠١ ﴾ [ ٨٣-١٠١ ].
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
تعليقات على قصة ذي القرنين
ويأجوج ومأجوج وتليقناتها
هذا فصل في قصة ذي القرنين، والآية الأولى منه تدل على أنه أوحى به جوابا على سؤال أو ردّ على النبي صلى الله عليه وسلم. وقد تضمنت الآية التنبيه على أن ما جاء في القصة هو بعض أخبار ذي القرنين، وفعلا فإن الفصل لم يتضمن إلا بعض إشارات مقتضبة، غير أن هذه الإشارات احتوت صورة ضخمة عن سعة وعظمة ما بلغ إليه سلطان ذي القرنين وفتوحاته.
وعبارة الآيات واضحة لا تحتاج إلى أداء آخر، وقد انتهت بالإشارة إلى يوم القيامة وبإنذار الكفار والتنديد بهم بسبب موقف العناد والمكابرة الذي وقفوه حتى كأنهم لا يسمعون ولا يرون.
والآيات تلهم أن ذا القرنين وأخباره وفتوحاته مما كان يتحدث به في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره وأن شخصيته كانت معروفة وأنه كان يقوم جدال حولها أو لعلها كانت موضوع غلوّ ومبالغات تبعث على التعجب والتساؤل فكان هذا من أسباب السؤال.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآيات مدنية، ولقد أوردنا في سياق تفسير الآية [ ٨٥ ] من سورة الإسراء أن السؤال عن ذي القرنين هو أحد أسئلة ثلاثة سألها يهود المدينة من النبي صلى الله عليه وسلم. وقد فندنا هذه الرواية وفندنا رواية مدنية هذه الآية التي أوردت في صددها. وما قلناه هناك نقوله هنا فلا ضرورة للإعادة. وقد أعيدت هنا أيضا رواية رويت وأوردت في سياق آية الإسراء المذكورة تذكر أن الأسئلة الثلاثة أوردت في مكة من قبل المشركين بإيعاز من اليهود. وقد فندنا كون هذه الأسئلة أوردت على النبي صلى الله عليه وسلم في ظرف واحد هناك فلا ضرورة للإعادة.
ولقد روى الطبري في سياق تفسير هذه الآيات بطرقه حديثا عن عقبة بن عامر جاء فيه :( كنت يوما أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت من عنده فلقيني قوم من أهل الكتاب فقالوا : نريد أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستأذن لنا عليه فدخلت عليه فأخبرته فقال : مالي ومالهم مالي علم إلا ما علمني الله ثم قال : اسكب لي ماء فتوضأ ثم صلى فما فرغ حتى عرفت السرور في وجهه ثم قال : أدخلهم عليّ ومن رأيت من أصحابي. فدخلوا فقاموا بين يديه فقال : إن شئتم سألتم فأخبرتكم عما تجدونه في كتابكم مكتوبا وإن شئتم أخبرتكم قالوا : بلى أخبرنا. قال :( جئتم تسألوني عن ذي القرنين وما تجدونه في كتابكم. كان شابا من الروم فجاء فبنى مدينة مصر الإسكندرية، فلما فرغ جاءه ملك فعلا به في السماء فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي ومدائن، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ فقال : أرى مدينتي، ثم علا به فقال : ما ترى ؟ قال : أرى الأرض، قال : فهذا اليوم محيط بالدنيا، إن الله بعثني إليك تعلم الجاهل وتثبت العالم، فأتى به السد وهو جبلان لينان يزلق عنهما كل شيء، ثم مضى به حتى جاوز يأجوج ومأجوج. ثم مضى به إلى أخرى وجوههم وجوه الكلاب يقاتلون يأجوج ومأجوج، ثم مضى به حتى قطع به أمة أخرى يقاتلون هؤلاء الذين وجوههم وجوه الكلاب ثم مضى حتى قطع به هؤلاء إلى أمة أخرى قد سماهم )... والحديث غير وارد في كتاب الأحاديث الصحيحة وراويه من العهد المدني ويفيد على أن السؤال من يهود المدينة. وليس فيه ما يفيد مع ذلك أن الآيات نزلت بناء على هذا السؤال. وقد تضمن جوابا على السؤال بحيث لم يبق محل ليقال ذلك أيضا. ويكون إيراده في سياق الآيات في غير محله أيضا فضلا عن أن نصه وعدم وروده في الكتب الصحيحة يسوغان التوقف فيه. ولقد أورده ابن كثير، وقال : إنه لا يصح وفيه نكارة، وأكثر ما فيه من أخبار بني إسرائيل أي ما عرف بالإسرائيليات.
وإلى هذا، فإن الطبري روى أيضا أن السؤال أورد على النبي من المشركين في مكة. وإيراده في مكة هو ما نكاد نجزم به وإيراده من المشركين محتمل. وإن كنا نرجح هنا كما رجحنا في صدد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أنه أورد من بعض المسلمين. وصيغة السؤال قد يسوغ هذا الترجيح فضلا عن ما ذكرناه من حالة التوتر واللجاج القائمة بين المشركين من ناحية والنبي من ناحية التي تجعل سؤالهم بعيد الاحتمال. وقد يصح أن يضاف إلى هذا احتمال كون ورود السؤال عن ذي القرنين كان في ظرف مقارب لورد السؤال عن أصحاب الكهف والرقيم أو معه. ويقوي هذا الاحتمال ورود القصتين في سورة واحدة.
ولقد احتوت كتب التفسير ١ بيانات كثيرة ومسهبة منها المعزو إلى بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل علي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد وعبد الله بن مسعود وبعض علماء التابعين مثل عطاء وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد وابن جريح ومحمد بن إسحاق الذي يعزو كلامه إلى بعض من يسوق الأحاديث من الأعاجم من أهل الكتاب ممن قد أسلم مما توارثوا من علم ذي القرنين، ووهب بن منبه اليماني الذي يوصف بأنه من أهل العلم بأحاديث الأولين سواء أكان في صدد شخصية ذي القرنين أم في ماهية يأجوج ومأجوج أم في البلاد التي طوّف فيها ذو القرنين. وفي بعضه تعدد واختلاف وتناقض، وكثير منه بل أكثره أدخل في الخيال منه في الحقيقة. وإن كان يدل في مجمله على أن أخبار ذي القرنين وشهرته مما لم يكن مجهولا في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وعصره، وهو مما تلهم الآيات أيضا كما قلنا قبل.
ولقد رووا فيما رووه عن شخصية ذي القرنين أنه نبي أو أنه عبد صالح أحب الله وأحبه الله أو أنه ملك عادل، أو أنه رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرذبة من ولد يونان بن يافث بن نوح. أو أنه الاسكندر بن فيلقوس بن ياملوس الرومي، أو أنه الاسكندر المشهور الذي بنى الإسكندرية، وفتح بلاد الشام ومصر وبيت المقدس. أو أنه ابن عجوز من عجائز الروم اسمه الاسكندر، أو أنه كان في زمن إبراهيم عليه السلام وطاف معه الكعبة وقرّب قربانا فيها أو أنه من الملائكة، أو أنه ملك حميري اسمه أبو كرب وهو الذي افتخر به الشاعر الحميري بقوله في القصيدة المشهورة :
قد كان ذو القرنين جدي مسلما | ملكا علا في الأرض غير مفند |
بلغ المشارق والمغارب يبتغي | أسباب ملك من كريم مرشد |
فرأى مآب الشمس عند غروبها | في عين ذي خلب وثأطة حرمد |
ورووا فيما رووه عن سبب تسميته بذي القرنين أنه كان عبدا ناصح الله فناصحه فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله فدعا قومه ثانية فضربوه على قرنه الثاني فمات فسمي بهذا الاسم، أو لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها، أو لأنه ملك الروم والفرس، أو لأنه دخل النور والظلمة، أو لأنه رأى في المنام أنه أخذ بقرني الشمس، أو لأنه كانت له ذؤابتان أو قرنان، أو لأن صفحتي وجهه كانتا من نحاس !.
ولقد ذكروا فيما ذكروه عن يأجوج ومأجوج أن الكلمتين اشتقاقان عربيان من تأجيج النار، أو معرّبتان، وأن القومين من أولاد يافث بن نوح وأنهم جيل من الترك أو أن الترك سرية منهم خرجت قبل أن يضرب ذو القرنين السد فتركت خارجه فسميت تركا. وأنهم ٢٢ قبيلة وأنهم تسعة أعشار بني آدم. وأنهم أمتان كل أمة أربعة آلاف أمة أو أربعمائة ألف أمة. ولا يموت الرجل منهم حتى يخرج من صلبه ألف ولد ولا تموت الأنثى منهم حتى يخرج من رحمها ألف ولد. وهم ثلاثة أصناف صنف منهم أمثال أرز الشام طوله ( ١٢٠ ) ذراعا في السماء. وصنف عرضه وطوله سواء ( ١٢٠ ) ذراعا وهؤلاء لا يقوم لهم جبل ولا حديد. وفي رواية أخرى أن الواحد منهم في نصف قامة الإنسان العادي. ولهم مخالب وأنياب وعليهم شعر يقيهم الحرّ والبرد ولكل منهم أذنان عظيمة يلتحف بواحدة ويفترش الأخرى. ويتداعون تداعي الحمام ويعوون عواء الكلاب ويتسافدون تسافد البهائم. ولا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير ولا كلب إلا أكلوه ومن مات منهم أكلوه. وإن آدم احتلم ذات ليلة فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من ذلك يأجوج ومأجوج فهم متصلون ببني آدم من جهة الأب، وكانوا يخرجون من بلادهم في الربيع فلا يدعون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا حملوه. وقد كانوا في المشرق حيث وجد الاسكندر حينما بلغ إليه أمة صالحة من الإنس قالوا له : إن بين هذين الجبلين خلقا فيهم كثير من مشابه الإنس وهم أشباه البهائم وهم يفسدون في الأرض كلما خرجوا إليها. وقد أمهم الاسكندر وكلمهم فلم يفقهوا شيئا من قوله وتحقق عنده خطرهم فأنشأ السد بين الجبلين وجعله في عرض خمسين فرسخا وطول مائة فرسخ وحشاه بالصخور وجعله طينة من النحاس المذاب، ثم جعل منه زبر الحديد وصبّ عليه القطران حتى صار كأنه برد محبر من صفرة النحاس وحمرته وسواد الحديد. ولقد سردوا في سياق طويل عجيب خصب بالخيال قصة تطواف ذي القرنين في الأرض شرقا وغربا معزوة إلى وهب بن منبه خلاصتها أن ذا القرنين الذي هو في رواية وهب كان ابن عجوز من الروم اسمه الاسكندر وصفحتا وجهه من النحاس لما بلغ وكان عبدا صالحا ناداه الله وقال : يا ذا القرنين، إني باعثك إلى أمم مختلفة ألسنتهم، منهم أمتان بينهما طول الأرض إحداهما عند مغرب الشمس يقال لها : ناسك، والأخرى عند مطلعها يقال لها : منسك وأمتان بينهما عرض الأرض إحداهما في القطر الأيمن يقال لها : هاويل والأخرى في الأيسر يقال لها تاويل.
وأمم في وسط الأرض منهم الجن والإنس ويأجوج ومأجوج. فقال : يا رب بأي قوة أكاثرهم وبأي لسان أناطقهم ؟ فقال له : إني سأقويك وأبسط لسانك لتفهم لغة كل قوم وتنطق بها وأشد عضدك فلا يهولنك شيء وألبسك الهيبة فلا يرعونك شيء وأسخر لك النور والظلمة وأجعلهما من جنودك يهديك النور من أمامك وتحوطك الظلمة من ورائك،. وأن الله سخر له السحاب فحمله عليه وبسط له النور فكان الليل والنهار له سواء، وسهل عليه السير في الأرض وذلل له طرقها حتى بسط سلطانه على أممها وعامل المؤمنين منهم بالحسنى وال
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٢:﴿ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا١٠٢قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذين ضل سعيهم١ في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ١٠٤ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ١٠٥ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ١٠٦ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس ٢ نزلا ١٠٧ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا٣ ١٠٨ ﴾ [ ١٠٢-١٠٨ ].
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٢:﴿ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا١٠٢قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذين ضل سعيهم١ في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ١٠٤ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ١٠٥ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ١٠٦ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس ٢ نزلا ١٠٧ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا٣ ١٠٨ ﴾ [ ١٠٢-١٠٨ ].
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٢:﴿ أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء إنا اعتدنا جهنم للكافرين نزلا١٠٢قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذين ضل سعيهم١ في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ١٠٤ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ١٠٥ ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا ١٠٦ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس ٢ نزلا ١٠٧ خالدين فيها لا يبغون عنها حولا٣ ١٠٨ ﴾ [ ١٠٢-١٠٨ ].
عبارة الآيات واضحة، وهي كما هو المتبادر تتمة أو استمرار للحملة التي بدئت من آخر الفصل السابق وجعلت قصة ذي القرنين وسيلة لها.
وفيها تنديد وتسفيه وإنذار للكافرين المشركين وبيان لمصيرهم الأخروي واستطراد إلى بيان مصير المؤمنين الذين يعملون الصالحات مقابلة لمصير الكافرين جريا على الأسلوب القرآني.
وفيها بنوع خاص تقرير لأثر الإيمان والكفر في أعمال الناس مما تكرر تقريره في المناسبات السابقة وفيه توضيح أكثر. فالكافر المشرك المكذب بالآخرة لا يصدر في أعماله الحسنة عن وازع إيماني ووجداني، وهي بالإضافة إلى حبوطها عند الله بسبب كفر صاحبها وشركه معرضة للتقلب والانقباض والتبدل عند أي طارئ وهاجس وسبب دنيوي، بعكس المؤمن بالله واليوم الآخر فإنه يضل ثابتا مستمرا عليها ؛ لأنه يرجوا بها رضوان الله ووجهه والتقرب إليه وثوابه الأخروي. وفي هذا ما فيه من تدعيم للدعوة النبوية وتلقين مستمر المدى.
ويلفت النظر إلى قوة الأسلوب الذي عبر به عن هذا المعنى في الآيات [ ١٠٣ ] وما بعدها. فهم يظنون أنهم يحسنون صنعا بما يعملون مع أنهم الأخسرون أعمالا ؛ لأنهم كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وقوة التدعيم للدعوى النبوية في هذا الأسلوب بالنسبة لظرف الدعوة أيضا ظاهرة.
ولقد روى الطبري عن ابن جريح أن المقصود بكلمة ﴿ عبادي ﴾ في الآية الأولى هم الملائكة وعيسى عليه السلام. وروى البغوي عن ابن عباس أنهم الشياطين. وعن مقاتل أنهم الأصنام. والكلمة تشمل كل ما خلقه الله فتكون العبارة كما هو المتبادر عامة المدى شاملة لكل ما اتخذه المشركون شركاء من دون الله إطلاقا.
ولقد روى الطبري عن علي بن أبي طالب قولين في المقصود من الآية :﴿ هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ ﴾ أحدهما أنهم أهل الصوامع، وثانيهما الخوارج الذين عرفوا بالحرورية الذين قاتلهم في حروراء حينما خرجوا عليه بعد حرب صفين ؛ لأنه رضي بالتحكيم وقالوا : لا حكم إلا الله واعتبروه ومن رضي بالتحكيم مرتدين.
وروى عن مصعب بن سعد قال :( سألت أبي عن هذه الآية :﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ١٠٣ الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا ﴾ أهم الحرورية ؟ قال : لا، هم أهل الكتاب اليهود والنصارى. أما اليهود فكذبوا محمدا، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب. ولكن الحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون وكان سعد يسميهم الفاسقين ) ١. وروى الطبري إلى هذا أنهم القسيسون والرهبان.
وحديث مصعب رواه البخاري والحاكم أيضا، ولقد توقف ابن كثير في هذه الأقوال وقال : إن الآية عامة الشمول وهو حق. ومن العجيب أن تقال في الآية [ ١٠٥ ] التي تأتي بعدها تفسير صريح عن المقصودين وهم الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه واتخذوا آياته ورسله هزوا. وهذا تعبير شامل ليس فيه أي محل لجعله وصفا لطائفة معينة.
ولقد روى الطبري بطرقه أحاديث عديدة فيها تنويه ووصف للفردوس منها حديث عن سمرة بن جندب قال :( أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفردوس هي أعلى الجنة وأحسنها وأرفعها ). وحديث عن معاذ بن جبل قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن للجنة مئة درجة كل درجة منها كما بين السماء والأرض، أعلى درجة منها الفردوس ). وحديث عن أبي بكر بن عبد الله بن عيسى عن أبيه قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما ) وحديث عن أبي سعيد الخدري أو أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنها أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقها عرش الرحمن تبارك وتعالى ومنه تفجير أنهار الجنة ). وقد روى الطبري بعض هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث بطرق عديدة وصيغ متقاربة فلم نر ضرورة إلى إيرادها متكررة. وشيء من هذه الأحاديث ورد في كتب الأحاديث الصحيحة ؛ حيث روى البخاري والترمذي عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( في الجنة مئة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة ومنها تفجر أنهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فسلوه الفردوس )٢.
والفردوس في أصلها معربة عن الرومية وفي معنى البستان أو البستان ذي الزهر والثمر أو ذي الأعناب على ما ذكره المفسرون. والأحاديث في صدد وصف مشهد من مشاهد الجنة التي يجب الإيمان بما يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما هو الشأن بالنسبة لما هو وارد منها في القرآن. مع الإيمان بأنه لا بد لذكر ذلك من حكمة. ويلمح من الأحاديث أن قصد التشويق والترغيب من هذه الحكمة، وهو ما يلمح في الأحاديث القرآنية.
ولقد روى الطبري في سياق جملة ﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يؤتى بالأكول الشروب الطويل فيوزن فلا يزن جناح بعوضة، ثم قرأ :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ). وروى البغوي عن أبي سعيد الخدري قال :( يأتي أناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا فذلك قوله تعالى :{ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ). وروى ابن كثير حديثا رواه البزار عن عبد الله بن بريدة قال :( كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له، فلما قام قال النبي صلى الله عليه وسلم : يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله له يوم القيامة وزنا ). والحديث الأول من هذه الأحاديث رواه الشيخان بصيغة مقاربة في فصل التفسير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم :( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة وقال اقرأوا :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا ﴾ ٣.
والإيمان بالمشهد الأخروي الذي يثبت خبره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب مع الإيمان بأن لذكر ذلك حكمة. وقصد بيان كون الأعمال الصالحة التي تصدر من المؤمن بالله واليوم الآخر هي النافعة لصاحبها يوم القيامة دون سواها وبخاصة دون المظاهر الخادعة، وقصد الحث على ذلك من الحكمة الملموحة في الأحاديث وهو الملموح في الآيات أيضا.
٢ التاج ج٥ ص ٣٦٦..
٣ التاج ج ٤ ص ١٥٣..
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بأن يقرر للناس أن آيات الله ومشاهد عظمته أوسع وأكثر من أن تحصى حتى لو أريد كتابتها وكان البحر مملوءا بالحبر لنفد الحبر قبل أن تنفد ولنفد بحر من الحبر مثله أيضا قبل أن تنفد. وبأن يقرر لهم أيضا أنه بشر مثلهم، وكل ما في أمره يوحى إليه بأن إلههم واحد لا شريك له وأن على الذين يرجون لقاء الله وما عنده من الحسنى أن يؤمنوا به ويعملوا صالح الأعمال ولا يشركوا به أحدا.
ولقد روى البغوي في سياق الآية الأولى حديثا عن ابن عباس جاء فيه :( قالت اليهود يا محمد تزعم أنا قد أوتينا الحكمة وفي كتابك ﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ﴾ سورة البقرة :[ ٢٦٩ ] ثم تقول ﴿ وما أتيتم من العلم إلا قليلا ﴾ سورة الإسراء :[ ٨٥ ] فأنزل الله :﴿ قل لو كان البحر مدادا ﴾ الآية. روى هذا الحديث الترمذي أيضا١. ومقتضاه أن تكون الآية مدنية وأن تكون نزلت لحدتها، ولقد روى الطبري عن طاووس عن مجاهد رواية بصيغتين جاء فيها أن رجلا قال : يا رسول الله إني أحب الجهاد في سبيل الله وأحب أن يرى موطني ومكاني أو أحب أن أعمل وأتصدق وأحب أن يراه الناس فأنزل الله :﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه... ﴾ الآية [ ١١٠ ] وروى أيضا عن عمر بن قيس الكندي أنه سمع معاوية بن أبي سفيان يتلو هذه الآية ويقول : إنها آخر آية نزلت من القرآن. وهذه الروايات لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة ومقتضاها أن تكون هذه الآية أيضا مدنية وأن تكون نزلت لحدتها كذلك. ولم نطلع على رواية تذكر مدنية آية من الآيتين. وهما متساوقتان في الخطاب والوزن ومتساوقتان في الوقت نفسه مع قبلهما في الوزن. والسياق جميعه في صدد الكفار، ولذلك نتوقف في الروايات ونرجح أن الآيتين جاءتا معقبتين على الآيات السابقة وجاءتا في الوقت نفسه خاتمة قوية للسورة، واحتوتا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتسرية عنه تجاه مواقف الكفار الذين حكت الآيات السابقة اتخاذهم آيات الله ورسله هزوا وأنذرتهم من حيث انطواؤهما على تقرير كون مهمته هي إنذار الناس وترك الأمر لهم بعد ذلك. فمن أراد النجاة آمن وعمل صالحا ومن أبى فله الهلاك. وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية تدعيم للتلقين الذي احتوته الآيات السابقة. وقد يلحظ أن شيئا من الفرق أو المبالغة بين الأولى وبين آية سورة لقمان [ ٢٧ ] التي جاء فيها :﴿ ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ﴾ غير أنه لا محل لقول ذلك ؛ لأن القصد هنا وهناك هو تعظيم مقدار علم الله وكلماته وتقرير كونهما أعظم من أن يحدهما وصف أو ينفدا بالتسجيل والكتابة، بالعبارة التي اقتضتها حكمة التنزيل في كل من الموضعين.
ولقد روى الطبري في سياق الآية الثانية عن شهر بن حوشب قال :( جاء رجل إلى عبادة بن الصامت فسأله فقال : أنبئني عما أسألك عنه أرأيت رجلا يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ويصوم ويبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ؟ فقال عبادة : ليس له شيء إن الله عز وجل يقول : أنا خير شريك فمن كان له معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه ). وروى ابن كثير هذا الحديث عن طريق الإمام أحمد بزيادة مهمة فيها صورة رائعة كتناجي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده وهذا نصه :( قال شهر بن حوشب : قال ابن غنم : لما دخلنا مسجد الجابية أنا وأبو الدرداء لقينا عبادة بن الصامت، فأخذ يميني بشماله وشمال أبي الدرداء بيمينه فخرج يمشي بيننا ونحن نتناجى، فقال عبادة : إن طال بكما عمر أحدكما أو كليكما لتوشكان أن تريا الرجل من المسلمين من ثبج المسلمين يعني : من وسط قراء القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فأعاده وأبدأه وأحل حلاله وحرم حرامه ونزل عند منزله لا يحور فيكم إلا كما يحور رأس الحمار الميت. قال : فبينما نحن كذلك إذ طلع شداد بن أوس وعوف بن مالك فجلسا إلينا فقال شداد : إن أخوف ما أخاف عليكم أيها الناس لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من الشهوة الخفية والشرك. فقال عبادة وأبو الدرداء : اللهم غفرا ألم يكن رسول الله قد حدثنا أن الشيطان قد يئس أن يعبد في جزيرة العرب ؟ أما الشهوة الخفية فقد عرفناها هي شهوات الدنيا من نسائها وشهواتها فما هذا الشرك الذي تخوفنا به يا شداد ؟ فقال شداد : أرأيتكم لو رأيتم رجلا يصلي لرجل أو يصوم لرجل أو يتصدق أترون أنه قد أشرك ؟ قالوا : نعم والله إن من صلى لرجل أو صام أو تصدق له لقد أشرك. فقال شداد : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول :( من صلى يرائي فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك ). قال عوف بن مالك عند ذلك : أفلا يعمد الله إلى ما ابتغى به وجهه من ذلك العمل كله فيقبل ما خلص له ويدع ما أشرك به ؟ فقال شداد عند ذلك : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :( إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك شيئا فإن عمله قليله و كثيره لشريكه الذي أشرك به أنا غني عنه ). ولقد أورد ابن كثير نصا آخر لحديث شداد جاء فيه :( إنه بكى فقيل له : ما يبكيك ؟ قال : شيء سمعته من رسول الله فأبكاني. سمعته يقول : أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية، قلت : يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك ؟ قال : نعم، أما إنهم لا يعبدون شمسا ولا قمرا ولا حجرا ولا وثنا ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائما فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ). وأورد ابن كثير إلى هذا وفي سياق الآية أحاديث أخرى من هذا الباب منها حديث أخرجه البزار عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يقول الله يوم القيامة : أنا خير شريك من أشرك بي أحدا فهو له كله ). وحديث أخرجه الإمام أحمد عن محمود بن لبيد قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله ؟ قال : الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جرى الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء ). وحديث رواه الإمام أحمد أيضا عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري قال :( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك ) والحديث الأخير فقط ورد في كتب الأحاديث الصحيحة الشهيرة وقد رواه مسلم والترمذي٢. وقياسا على ذلك تكون صحة الأحاديث الأخرى محتملة.
وفي الأحاديث توضيح لمدى الآية الثانية التي وردت الأحاديث في صددها وتحذر من أي نوع من أنواع الشرك سواء كان في العقيدة واتخاذ شركاء لله مع الله أم في الأعمال وبيان بأن المقبول عند الله والنافع للمسلم هو ما كان خالصا لله تعالى وحده من ذلك وحث عليه. وهذا متسق مع مدى الآية ومدى التلقينات القرآنية عامة، ثم مع مدى الطابع المميز للعقيدة الإسلامية بوحدانية الله تعالى دون أي شائبة ولا تأويل ولا اختصاص ولا تعقيد. وبالاقتصار على الخضوع له والتعليق به ونبذ كل ما سواه من قوى أخرى.