ﰡ
مهام القرآن العظيم وغاياته
في مطلع سورة الكهف، في منتصف القرآن الكريم تحديد الغايات والأغراض التي من أجلها نزل القرآن، ردا على أسئلة قريش التعجيزية، وتحددت هذه الغايات: في إنذار العصاة والمخالفين المشركين بالبأس الشديد من الله تعالى إذا استمروا في عنادهم، وتبشير المؤمنين الذين يعملون صالح الأعمال بالثواب الحسن الجزيل والتأبيد في جنان الخلد، وهذا ما دوّنته الآيات الآتية من سورة الكهف المكية مبتدئة بحمد الله منزل الكتاب على عبده:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٥]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [الكهف: ١٨/ ١- ٥].
سبب هذه البداءة في هذه السورة:
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما سألته قريش عن المسائل الثلاث: الروح، والكهف، وذي القرنين- حسبما أمرتهم به يهود- قال لهم رسول الله: «غدا أخبركم بجواب سؤالكم» ولم يقل: «إن شاء الله» فعاتبه الله تعالى بأن أمسك عنه الوحي خمسة عشر يوما، فأرجف به كفار قريش، وقالوا: إن محمدا قد
(٢) مستقيما معتدلا.
(٣) عذابا.
(٤) عظمت كلمة.
فشق ذلك على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبلغ منه الجهد، فلما أن قضي الأمر الذي أراد الله تعالى عتاب- محمد صلّى الله عليه وسلّم- عليه، جاء الوحي من الله تعالى بجواب الأسئلة وغير ذلك، فافتتح الوحي بحمد الله الذي أنزل على عبده الكتاب، أي بزعمكم أنتم يا قريش، كما تقول لرجل يحب مساءتك، فلا يرى إلا نعمتك: الحمد الله الذي أنعم علي وفعل بي كذا، على جهة النعمة عليه، والتذكير بها.
والمعنى: الشكر والثناء بالجميل على الفعل الجميل الصادر بالاختيار من الله تعالى، والله سبحانه محمود على كل حال، ويحمد نفسه في فاتحة بعض السور وخواتمها، لتعليم العباد كيف يحمدونه على نعمه الجليلة التي أنعم بها عليهم، ومن أهمها نعمة الإسلام، وما أنزل على عبده ونبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم من الكتاب وهو القرآن سبب النجاة والفوز للعالم أجمع.
وليس لهذا الكتاب القرآن اعوجاج عن جادة الاستقامة، وإنما هو قويم معتدل مستقيم، فالله تعالى لم يجعل لقرآنه (كتابه) عوجا، ولكنه جعله قيما، أي مستقيما قائما على الحق والسلامة من الزيغ والانحراف، من أجل تحقيق غاياته، وهي تتلخص في تخويف الذين كفروا بالكتاب من البأس، أي العذاب الشديد في الدنيا، ومن عذاب الآخرة، ونار جهنم، وذلك الإنذار من لدن الله تعالى، أي صادرا عنه سبحانه.
وللقرآن غاية أخرى تقابل الإنذار وهي تبشير المؤمنين بالقرآن، الذين يعملون صالح الأعمال، أن لهم ثوابا جميلا عند الله تعالى، وهو الجنة دار المتقين الأبرار،
والغاية الثالثة: أن القرآن يحذر الكفار الذين زعموا أن لله ولدا وهم مشركو العرب، الذين قالوا: نحن نعبد الملائكة بنات الله، وأمثالهم من الكفرة الآخرين الذي يزعمون أن لله ابنا هو كذا أو كذا، كجعل العزير ابنا لله، أو المسيح ابنا لله تعالى.
وليس لهؤلاء الزاعمين وجود ولد لله ولا لأسلافهم دليل علمي ثابت على هذا القول المفترى، وهو اتخاذ الولد لله، وإنما قولهم صادر عن جهل مفرط، وتقليد للآباء، ومن وساوس الشيطان.
كبرت فريتهم كلمة، وعظمت تلك الكلمة التي ينطقون بها، ويخرجونها من أفواههم، متجرئين على النطق بها، وهي كلمة الكفر، فليس لها مستند سوى قولهم، ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم، فما يقولون إلا قولا مجرد كذب وزور وبهتان، ولا حقيقة له أصلا، فقوله تعالى: إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي ما يقولون إلا كذبا.
هذه حملة شديدة على كلمات الكفر والشرك والوثنية، فهي مجرد كلمات يرددها أصحابها، من دون عقل ولا وعي، ولا حجة ولا برهان، وتضمنت هذه الجملة تبيان أوصاف القرآن التصحيحية لكلمات الناس، وهي تبشير المؤمنين بالجنة وإنذار الكافرين بنار جهنم، ولا سيما الذين يزعمون أن لله ولدا، وبئست وعظمت تلك الكمة المفتراة الصادرة من الأفواه، من غير إدراك ولا وعي ولا علم صحيح، وإنما بسبب الجهل التام المسيطر على أصحاب ذلك الكلام المفترى. لذا آن الأوان لتخرس
تقوية الروح المعنوية للنبي صلّى الله عليه وسلّم
إن المخلصين في دعوتهم يتحرقون ألما على تباعد الناس عن رسالتهم، التي هي محض إسعاد ونجاة للمؤمنين بها، وفي طليعة المخلصين نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي كان يحرص أشد الحرص على هداية قومه قريش ومن جاورهم، لأنه يسعد بسعادتهم، ويتألم لآلامهم، فإذا ظهر منهم الإعراض عن دعوة القرآن والإسلام، خيّم الحزن والأسى والألم على قلبه، وتلك مشاركة وجدانية عاطفية عالية المستوى، ولكن الله تعالى الرؤوف بعبده ونبيه كان يسرّي خواطره ويؤانسه ويبين عذره، ويحمله على الرضا بما قضى الله وقدّر، وبما حدث من كفر وعناد، وذلك كما في هذه الآيات:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦ الى ٨]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
«١» «٢» »
«٤» «٥» [الكهف: ١٨/ ٦- ٨].
هذه آية تسرية وإيناس للنبي صلّى الله عليه وسلّم من إعراض قومه عن دعوته، وابتعادهم عن قداسة الإيمان وعظمته بالقرآن المجيد الذي هو دعوة إنقاذ وتحرر، وإصلاح وتقدّم، وعزة ومجد وسؤدد.
والمعنى: فلعلّك أيها النبي قاتل نفسك ومهلكها بسبب عدم إيمان قومك بهذا القرآن، أسفا وحسرة عليهم، وهذا تقرير بمعنى الإنكار على النبي، أي لا يكن ذلك
(٢) حزنا عليهم.
(٣) لنختبرهم.
(٤) أفضل عملا بطاعتنا.
(٥) ترابا أجرد لانبات فيه.
الحزن، وذلك كما ورد في آيات كثيرة مشابهة، مثل: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ [النحل: ١٦/ ١٢٧]. ومثل: لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) [الشعراء: ٢٦/ ٣]. ومن ذلك: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ. [فاطر: ٣٥/ ٨].
ثم أخبر الله تعالى عن حقيقة الدنيا، وأنها دار فناء وزوال واختبار، لا دار بقاء وقرار، فقال سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها.. الآية، وهي توغل وبسط في الإيناس والتسرية، أي لا تهتم للدنيا وأهلها، فأمرها وأمر قومك وأمثالهم أقل، لفنائه وذهابه، فإنا إنما جعلنا ما على الأرض زينة ومفاتن زائلة، كما أن أهلها زائلون، لنعاملهم معاملة المختبرين الممتحنين، ليعرف المحسن عمله من الفاسد، فنجازي المحسن بالثواب، والمسيء بالعقاب، ومحسن العمل: الزاهد في الدنيا، وتارك الاغترار بها، وجاعلها وسيلة وجسرا للآخرة، وذلك كما
جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها، فينظر كيف تعملون».
وأراد بقوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها أن كل ما على الأرض زينة، وليس شيء إلا وفيه زينة، من جهة خلقه وصنعته وإحكامه. ومعنى: لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي لنختبرهم، وفي هذا وعيد ما.
قال سفيان الثوري: أحسنهم عملا: أزهدهم فيها. والواقع أن حسن العمل:
يشمل الأخذ بحق، والإنفاق في حق مع الإيمان، وأداء الفرائض، واجتناب المحارم، والإكثار من المندوب إليه.
والمقصود من الآية إيناس النبي صلّى الله عليه وسلّم والقول له: لا تحزن، فإنا سنهلكهم ونبيدهم، وإذا كان هذا هو المصير المحتوم لعالم الدنيا وما فيها من عمائر فخمة، وألوان زاهية، ومباهج فاتنة، فلا تحزن أيها النبي، فإنا سنهلكهم وندمر وجودهم وديارهم. وهذا أقسى تهديد لمن يعقل المصير، ويستعد لتلقي العقاب الذي لا منجاة منه إلا بالإيمان بالله ورسوله وقرآنه وشرعه.
أسباب قصة أهل الكهف
تتعدد مظاهر قدرة الله تعالى في الكون والحياة والإنسان، فمنها المعتاد المألوف المحسوس من خلق الأشياء وولادة الإنسان، وإماتته، ومنها النوم المتكرر الذي هو الموتة الصغرى، ومنها حالات غير مألوفة، مثل السبات الذي يستمر عشرات أو مئات السنوات، كحالة أصحاب الكهف، لإظهار قدرة الله وسلطانه التام على الإنسان وغيره. وكانت سورة الكهف كلها تذكيرا باليوم الآخر والمعاد والحساب وبقدرة الله على البعث. وهذه هي قصة أصحاب الكهف، مطلعها في بيان أسباب القصة، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩ الى ١٥]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» [الكهف: ١٨/ ٩- ١٥].
تعجب المشركون وغيرهم من قصة أصحاب الكهف، وسألوا عنها الرسول صلّى الله عليه وسلّم على سبيل الامتحان، فذكر الله تعالى: أم حسبت، أي بل أحسبت، إضرابا عن الحديث الأول، واستفهاما عن الثاني، أطننت أنهم كانوا من آياتنا العجاب فقط، فلا تحسبن ذلك، فإن آياتنا كلها ذات عجب، فليست قصة أصحاب الكهف وإبقاء حياتهم في حال النوم مدة طويلة، أعجب من حال الدنيا، فإن من قدر على تزيين الأرض، ثم جعلها ترابا، وعلى خلق السماوات والأرض ثم إبادتها، قادر على كل شيء، ومن قدرته أن يحفظ طائفة من الناس من دون طعام وشراب زمانا معلوما.
اذكر أيها الرسول حين لجأ فتية إلى الكهف، وهم الذين فروا من قومهم بدينهم، وكانوا من الروم على دين عيسى عليه السلام، هربوا لئلا يفتنوهم عن دين التوحيد، ودخلوا في غار جبل، ليختفوا عن قومهم عبدة الأصنام، فقالوا حين ولجوا إلى الغار المتسع طالبين الرحمة واللطف: ربنا هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن
(٢) الرقيم: لوح حجري كتبت فيه أسماؤهم وأنسابهم. أو هو الوادي بين عسفان وأيلة في رأس خليج العقبة.
(٣) التجؤوا هربا.
(٤) اهتداء إلى الحق.
(٥) أيقظناهم. [.....]
(٦) مدة.
(٧) أي أنمناهم نوما عميقا ثقيلا بحيث لا يسمعون.
(٨) أي قولا ذا شطط، أي إفراطا في الكفر إن دعونا إلها غير الله على سبيل الافتراض.
فألقينا النوم الثقيل عليهم بحيث لا يسمعون أي صوت، وناموا في الكهف سنين كثيرة طويلة الأمد معدودة.
ثم بعثناهم وأيقظناهم من رقدتهم تلك، للتعرف عن أي الطائفتين المتنازعتين فيهم أو الفريقين أحصى مدة لبثهم وغاية بقائهم نياما، فيظهر لهم عجزهم، ويعرفوا ما صنع الله بهم، فيتيقنوا من كمال قدرة الله على البعث وغيره.
نحن نخبرك خبرهم على وجه الصدق، إنهم شباب صدّقوا بتوحيد الله، وزدناهم توفيقا للهداية بالإصرار على العقيدة والإقبال على الله، وإيثار العمل الصالح، فمعنى قوله تعالى: وَزِدْناهُمْ هُدىً أي يسّرناهم للعمل الصالح والانقطاع إلى الله عز وجل، ومباعدة الناس، والزهد في الدنيا.
وأعطيناهم شدة عزم، وقوة صبر وإصرار، على عقيدتهم حين قالوا: ربنا رب السماوات والأرض، وهو توحيد الألوهية الذي يقرّ به عبدة الأصنام، ولن ندعو من دون الله إلها: وهو توحيد الربوبية الذي ينفيه عبدة الأصنام، فإننا إذا دعونا غير الله، لقد قلنا شططا، أي باطلا وكذبا وبهتانا، والشطط في اللغة: مجاوزة الحد، والبعد عن الحق، فإن دعونا غير الله لقد قلنا إذن قولا شططا خارجا عن الحق والصواب، ووقعنا في الجور وتعدي الحد.
ثم ندّد هؤلاء الفتية بعبادة قومهم الأصنام، فقالوا: هؤلاء قومنا الذين كانوا في زمان (دقيانوس) الملك الكافر، كانوا يعبدون الأصنام، فهلا يأتون بسلطان بيّن، أي بحجة بيّنة على صحة ما يفعلون، من عبادة تلك الآلهة الباطلة المزعومة، وهلّا
وكان من لطف الله بهم: أن ملكهم، بعد أن هددهم وتوعدهم، أمهلهم.
لينظروا في أمرهم، لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه، فوجدوها فرصة مواتية، وهربوا فرارا بدينهم من الفتنة.
قال ابن كثير: وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس: أن يفرّ العبد منهم خوفا على دينه، كما
جاء في حديث البخاري وأبي داوود عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال، ومواقع القطر، يفرّ بدينه من الفتن».
ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع.
اعتزال أصحاب الكهف قومهم
حين يشتد الأذى بفئة التوحيد والإيمان، لا سبيل إلى النجاة إلا باعتزال القوم الكفرة المؤذين، عزلة مادية بترك الديار والبلاد، وعزلة معنوية بمخالفتهم في دينهم وترك معبوداتهم المزعومة، والاستقلال بعبادة الله وحده. وهذا كان منهج أهل الكهف، تركوا ديار قومهم، ولجؤوا إلى كهف في الجبل، فرارا بدينهم من الفتنة، وقد حمد الله تعالى فعلهم، وحفظهم، وجعلهم مثلا في التاريخ، قال الله تعالى واصفا هذه العزلة الإيمانية:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
«١» «٢»
(٢) أي تميل عنه.
كان الخطاب في بدء قصة أهل الكهف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وفي هذه الآيات اتجه الخطاب لأهل الكهف أنفسهم، والمعنى: واذكروا يا أهل الكهف حين تذاكرتم، فاعتزلتم قومكم عزلة مادية بمفارقة الأبدان والديار، وعزلة معنوية بمخالفة قومكم في مذهبهم واعتزالكم معبوداتهم غير عبادة الله تعالى. فالجئوا إلى الكهف: وهو الغار المتسع في الجبل، وأخلصوا العبادة لله تعالى، يبسط لكم ربكم من آثار رحمته الواسعة، فيستركم عن قومكم، ويسهل لكم من أموركم أمرا ترتفقون به وتنتفعون، أي إنكم قررتم أن تجعلوا الكهف مأوى وتتكلوا على الله تعالى، وحينئذ يبسط لكم ربكم رحمته، وينشرها عليكم.
ثم عاد الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: وترى أيها الرسول وكل مشاهد الشمس حين طلوعها تميل عن كهفهم جهة اليمين، بتقليص شعاعها بارتفاعها، حتى لا يبقى منه شيء عند الظهيرة في ذلك المكان، وتراها تبتعد عنهم حين الغروب وتتركهم، لا تقربهم، وتعدل عنهم جهة الشمال، وهم في متسع الكهف ووسطه، فيأتيهم الهواء باردا لطيفا، أي إن الله تعالى حجب أشعة الشمس عنهم حتى لا تؤثر في رطوبة أبدانهم، ويكونوا في برودة لطيفة، وفي ذلك صلاح لأجسامهم، بإيجاد حاجب من الشمس من جهة الجنوب، ومن جهة الغرب، وهم في متسع الكهف ووسطه، أي إن الشمس تجيء من الكهف أول النهار عن يمين، وآخره عن شمال، فيكون باب
(٢) متسع من الكهف.
(٣) أي بفناء الكهف ومساحته.
(٤) خوفا.
إن بقاء هؤلاء الفتية نياما في الكهف سنين عديدة آية من آيات الله العجيبة الكثيرة، الدالة على كمال قدرة الله وسعة علمه، وعلى أنه تعالى يصون المخلصين من عباده، وأن التوحيد دين الحق، وأن كل ما عداه من المذاهب والأديان باطل وضلال، ثم قال الله تعالى: مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ...
أي إن من يوفقه الله تعالى للاهتداء بآياته وحججه، ويدله دلالة مؤدية إلى الحق، ويوفقه إلى ما يحبه ويرضاه، كأهل الكهف، فهو المهتدي إلى طريق الحق والصواب، الفائز بالحظ الأوفر في الدارين، ومن يضلل الله، أي يحجب عنه سبل الهداية والتوفيق لآيات الله، لسوء اختياره واستعداده، وإمعانه في الانحراف، فلن تجد له أبدا حليفا أو ناصرا معينا يرشده ويهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة، والمقصود: أن الله هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية والثبات على ملة التوحيد.
وتظنهم أيها الرائي المشاهد إذا رأيتهم أنهم أيقاظ لانفتاح أعينهم، وهم في الواقع نيام، لئلا يتسارع إليها البلى، فكأنهم ينظرون إلى من يشاهدهم، ونقلّبهم تقليبا دوريا مرة في ناحية اليمين، ومرة في ناحية الشمال، حتى لا تؤثر الأرض برطوبتها في أجسادهم، ولكي تتعرض جلودهم للهواء، وتسلم من التقرحات. إن الرائي يحسبهم أنهم أحياء في اليقظة، لشدة الحفظ الذي كان عليهم، وقلة التغير.
وكان كلبهم الذي تبعهم بإلهام من الله للحراسة باسطا ذراعيه بفناء الكهف أو ببابه يحرسهم، وهو كلب حقيقة، كان لصيد أحدهم فيما روي، أو لراع مروا عليه، فصحبهم.
قال أبو الفضل بن الجوهر على منبر جامع مصر سنة (٤٦٩ هـ) بمناسبة تبعية الكلب لأهل الكهف: إن من أحب أهل الخير، نال من بركتهم، كلب أحب أهل فضل وصحبهم، فذكره الله تعالى في محكم تنزيله.
بعثة أهل الكهف من رقدتهم
يستغرب الإنسان عادة الأشياء غير المألوفة لديه، ويحكم عليها بحسب المعتاد والقدرات والإمكانات المتاحة لديه، فلا يتصور أحد أن إنسانا ينام مدة ثلاث مائة وتسع سنوات، ثم يستيقظ، ويعود إلى الحياة مرة أخرى، وهذا ما حدث فعلا لأصحاب الكهف، لإقامة الدليل الملموس على قدرة الله على بعث الأموات وإحياء الأنفس، وتلك هي العبرة من قصة أصحاب الكهف، قال الله تعالى مبينا هذا الحدث الغريب:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٩ الى ٢١]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
«١» «٢» «٣»
(٢) أحل وأجود.
(٣) أطلعنا الناس عليهم.
هذه هي العبرة من قصة أصحاب الكهف، مفادها: كما أبقيناهم أحياء من غير أكل ولا شرب مدة طويلة من الزمان، في تقلب مستمر وهم نيام، فكذلك بعثناهم، أي أحييناهم من تلك النومة التي تشبه الموت، لنعرّفهم مدى قدرتنا وعجيب فعلنا من الناس، وليتبصروا في أمرهم، وليتساءلوا بينهم، أي ليؤول الأمر أو يصير إلى هذا اللون من التساؤل، فقال قائل منهم: كم لبثتم، أي كم رقدتم في نومكم؟
فأجاب بعضهم قائلا: لبثنا في تقديرنا يوما كاملا، أو جزاء من اليوم لأن دخولهم إلى الكهف كان في أول النهار، وإيقاظهم كان في آخر النهار، فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ.
وأجاب بعض آخر من أهل الكهف: ربكم أعلم بأمركم وبمقدار لبثكم، أي فالله أعلم منكم، وأنتم لا تعلمون مدة لبثكم.
ثم لما أحسّوا بحاجتهم إلى الطعام والشراب قالوا: أرسلوا أحدكم بدراهمكم هذه إلى المدينة، وهي طرسوس كما ذكر الرازي، وهي المدينة التي خرجوا منها. فليبصر أي الأطعمة أجود وأنفع وأطيب وأيسر سعرا، فليأتكم بمقدار مناسب منه، من رزق الله الذي يرزق به الناس، وليتلطف، أي وليكن لطيفا رفيقا في الطلب، وفي الدخول والخروج من المدينة وفي الشراء، ولا يخبرن ولا يعلمن أحدا من أهل المدينة بمكانكم. لأن أصحاب الملك (دقيانوس) إن اطلعوا على مكانكم، يقتلوكم بالرجم بالحجارة، أو يكرهوكم على العودة إلى دينهم- دين الوثنية وعبادة الأصنام، وإن وافقتموهم على العود إلى ملتهم أو دينهم، فلا فلاح لكم أبدا في الدنيا والآخرة.
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما بعثناهم أعثرنا عليهم، والإعثار: إعلام الناس بخبرهم، وسمي ذلك إعثار، لأن من غفل عن شيء ثم عثر به، نظر إليه وتعرف عليه، فكان الإعثار سببا في العلم بهم وبمعرفة أحوالهم.
لقد أطلعنا عليهم أهل زمانهم حين كانوا يتنازعون مع بعضهم في أمر القيامة، فمنهم المثبت لها ومنهم المنكر، ومنهم المؤمن بها ومنهم الكافر، فجعل الله اطلاع الناس على أصحاب الكهف حجة لأهل الإيمان، وفرح الملك وشعبه بآية الله على البعث، وزال الخلاف في شأن القيامة.
ثم انقسم القوم في شأن أهل الكهف، فقالوا بعد أن أماتهم الله وحين تنازعهم:
ابنوا عليهم بنيانا يسد باب كهفهم، لئلا يدخل الناس عليهم، حفاظا عليهم واحتراما لأجسادهم، والله أعلم بشأنهم، وهذه الجملة المعترضة للرد على المتنازعين في عقيدة أهل الكهف وفي أنسابهم وأسمائهم ومدة لبثهم، ثم قالت الطائفة الغالبة على الأمر والرأي في مواجهة الذين أرادوا طمس معالم الكهف، وتلك الطائفة وهم المؤمنون والملك قالوا: لنتخذن على باب الكهف مسجدا يصلي فيه المؤمنون، ويتبركون بمكانهم.
كان حال أصحاب الكهف مثار تساؤلات عديدة، وجدال وتنازع حول عددهم ومعرفة مدة بقائهم نياما، وهذا أمر طبيعي، لأن الإنسان شغوف بالتعرف على ما حوله من أحداث ووقائع، وأحوال وأوصاف، وهذا من متممات المعارف والمعلومات التي يحرص الناس على معرفتها، كحرص الباحثين اليوم على معرفة مكان الكهف ومآله بعد زمان طويل. وقد أجاب القرآن الكريم عن عدد أهل الكهف ومدة نومهم في الآيات الآتية:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٢ الى ٢٦]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [الكهف: ١٨/ ٢٢- ٢٦].
اختلف الناس بعد حادثة أهل الكهف في عددهم وزمان نومهم، فنزلت الآية إخبارا ببيان عددهم، من خلال القول: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فإنه سبحانه وتعالى سكت عن التعقيب على هذا العدد، خلافا للأعداد السابقة حيث عقّب عليها بأن ذلك مجرد رجم بالغيب.
قال بعض الناس ممن عاشوا بعد هذه القصة: هم ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال
(٢) أي لا تجادل أهل الكتاب في شأنهم. [.....]
(٣) بمجرد تلاوة الكتاب في أمرهم.
(٤) هداية وإرشادا للناس.
وقال جماعة آخرون: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم، ولما سكت الله عن التعقيب على هذا القول الثالث، دل على أنه قول صحيح، وأنه واقع قائم فعلا.
وقل يا محمد النبي: ربي الله أعلم بعدد أهل الكهف، ما يعلمهم إلا قليل من الناس، وأكثر المتكلمين من أهل الكتاب الذين ذكروا أعدادهم: هم على ظن وتخمين. والأفضل والأسلم: تفويض الأمر ورد العلم في عددهم إلى الله تعالى، فليس المهم معرفة العدد، وإنما المهم الاعتبار أو الاتعاظ بالقصة، والإيمان بقدرة الله على البعث والإعادة. وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول: «أنا من ذلك القليل، أي الذين يعلمون بعدة أهل الكهف، وكانوا سبعة وثامنهم كلبهم».
ثم نبّه الله تعالى رسوله إلى أمر آخر، وهو: فلا تجادل أيها النبي أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف إلا جدلا ظاهرا غير متعمق فيه، وهو الاقتصار على ما حكاه القرآن، أو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك وحسب، دون زيادة، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف في الرد عليهم، ولا تسأل أحدا عن قصتهم سؤال متعنت، لأن ذلك خلاف ما وصيت به من المداراة والمجاملة، ولا سؤال مسترشد، لأن الله قد أرشدك، بأن أوحى إليك قصتهم.
ثم لفت الله تعالى نظر نبيه إلى سبب القصة وترك التفويض إلى مشيئة الله، فلا تقولن أيها الرسول لشيء عزمت على فعله في المستقبل: إني سأفعل ذلك غدا، إلا بالاقتران بمشيئة الله عز وجل، فتقول: (إن شاء الله). واذكر مشيئة ربك إذا نسيت، وقل: إن شاء الله. أي إذا نسيت تعليق الأمر بمشيئة الله، ثم تنبّهت، فتدارك ذلك بذكر الله، طال الوقت أو قصر، ولو بعد سنة ما لم تحنث في اليمين،
وأما مدة بقاء أهل الكهف نياما فهي مقدار ثلاث مائة سنة وتسع سنوات هلالية، وهذه المدة تعادل ثلاث مائة سنة شمسية، فإن التفاوت ما بين كل مائة سنة قمرية ومائة سنة شمسية هو ثلاث سنين.
وإذا سئلت عن مدة لبثهم، ولا علم لك في ذلك فقل: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي لا يعلم ذلك إلا تعالى أو من أعلمه به من خلقه، فلا تتعجل بالأخبار، ما لم يكن عندهم دليل عليها، فلله غيب السموات والأرض، وهو العالم بكل شيء، وأعلم من الذين اختلفوا في مقدار مدة لبثهم، وإن الله تعالى لبصير بأحوال الناس، سميع لهم، ما للناس من دون الله متول يلي أمورهم، وليس له وزير ولا نصير، ولله سبحانه الخلق والأمر، لا معقّب لحكمه، ولا راد لقضائه، ولا مشارك له في القضاء وليس له شريك ولا نظير ولا مشير.
القضاء على الامتيازات
لم تكن شرائع الإسلام وأحكامه ومبادئه مجرد شعارات ونظريات غير قابلة للتطبيق أو غير محترمة في واقع الناس، وإنما كل ما جاء به الإسلام كان نابعا من الواقع وقائما على الواقع ومطبقا تطبيقا فعليا في الواقع العملي، ومن أهم ما نادى به الإسلام وقرره: وجود المساواة الفعلية بين الناس، والقضاء على جميع مظاهر الامتيازات والفوارق الاجتماعية في العبادات والمعاملات والقضاء والحكم
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الكهف: ١٨/ ٢٧- ٢٨].
في سورة الكهف جملة من التوجيهات الإلهية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيها عتاب أحيانا مثل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
[الكهف: ١٨/ ٢٣- ٢٤].
وفيها أحيانا أخرى توجيه منهجي للمستقبل، وهو الأمر باتباع القرآن والتزام آدابه وأحكامه، وهو قوله سبحانه: وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ.. الآية.
أي اتبع أيها النبي في جميع أعمالك منهج الوحي الإلهي، واسرد بتلاوتك ما أوحي إليك من كتاب ربك، واعمل بكل ما جاء فيه من أمر ونهي، فإنه لا نقص في قول ربك، ولا مبدل ولا مغير لكلمات الله وأحكامه، من وعد الطائعين ووعيد العصاة، وليس لك سوى الله جانب تميل إليه وتستند، فإن لم تعمل بأمر الله، وقعت في الوعيد، ولن تجد بعدئذ ملجأ أو جانبا يمال إليه، ويستعان به في المؤازرة أو المناصرة على شؤون الحياة. فالتوجيه الأول: تلاوة القرآن والعمل بمقتضاه.
ثم أمر الله نبيه بمداومة مجالسة الفقراء والمساكين، والصبر على إرشادهم وتعليمهم وتوجيههم، وسبب نزول هذه الآية: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
(٢) اصبر: أي احبس واثبت.
(٣) لا تصرف عيناك النظر عنهم.
(٤) جعلناه غافلا ساهيا.
(٥) إسرافا في أعماله.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى هؤلاء المستضعفين، وجلس بينهم، وقال:
«الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معه». وروي أنه قال لهم:
«مرحبا بالذين عاتبني فيهم ربي».
ومعنى الآية التي صفّيت فيها الامتيازات العربية بين الزعماء والأتباع هو:
جالس أيها الرسول الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه، ويكبّرونه، ويسألونه ويدعونه في الغداة (صباحا) وفي العشي (مساء) أي دوام على مجالستهم في كل وقت، سواء أكانوا فقراء أم أغنياء، إنهم يريدون وجه الله، أي طاعته ورضاه.
ولا تجاوز بصرك ونفسك إلى غيرهم، فتطلب بدلهم أصحاب الثروة والنفوذ، وأبناء الدنيا والملابس من الكفار، والقصد: النهي عن احتقارهم لسوء حالهم وفقرهم. وإياك أن تطيع من وجدناه غافلا، وشغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا، وكان مسرفا مفرطا في أعماله غاية الإسراف والتفريط، متبعا شهواته، وهذا يشير إلى أن سبب البعد عنهم التعاظم عن اتباع أمر الله بمفاتن الدنيا وزينتها، هذا هو التوجيه الثاني.
ومفاده إعلان القرار الحاسم بأن المساواة الفعلية بين الناس، أغنيائهم وفقرائهم، وسادتهم وأتباعهم، وحكامهم ومحكوميهم، هو منهج الإسلام ومبدؤه الذي لا يقبل المساومة أو المفاوضة في التنازل عن شيء منه. فإن الأوصاف الطارئة من غنى وثراء،
إعلان منهج الحق القرآني
ركّز القرآن الكريم على تبيان الصفة البارزة الناصعة لرسالة الإسلام، وهي أنه دين الحق الثابت، وطريق الحق الذي لا محيد عنه، وجوهر الحق الذي لا خلاف فيه، فإذا اختلف الناس في توصيف الأشياء، وجدوا الصواب والسداد في آي القرآن الكريم وأحكامه، وإذا ابتغوا السلامة والنجاة والسعادة، لم يجدوها في غير التزام العمل الصالح والإيمان الكامل. والسعادة الحقة: هي المؤدية للخلود الأبدي في نعيم الجنان، والتفيؤ بظلال الرحمن، والحظوة من الله بنعمة الرضوان، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
«١» «٢» «٣» »
«٥» [الكهف:
١٨/ ٢٩- ٣١].
هذا توجيه ثالث في سورة الكهف للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومفاده: قل أيها النبي: هذا الذي
(٢) كدردي الزيت أو كالمذاب من المعادن.
(٣) متكأ أو مقرا، والمرتفق: الشيء الذي يرتفق به أي ينتفع به، وهو الشيء الذي يطلب رفقه باتكاء وغيره.
(٤) رقيق الديباج (الحرير).
(٥) غليظ أو سميك الديباج.
ونوع الوعيد المهدد به: هو ما أخبر الله عنه بقوله: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أي إنا هيأنا وأعددنا للكافرين بالله ورسوله وكتابه نار جهنم الذي أحاط بهم سورها أو جدارها من كل جانب، حتى لا يجدوا مخلصا منها.
وإن يطلب هؤلاء الظالمون المعذبون في النار إغاثة ومددا وماء، لإطفاء عطشهم، بسبب حرّ جهنم، يغاثوا بماء غليظ كثيف كعكر الزيت أو كالدم والقيح، يشوي جلود الوجوه من شدة حره، بئس هذا الشراب شرابهم، فما أقبحه، فهو لا يزيل عطشا، ولا يسكّن حرا، بل يزيد فيها، وساءت جهنم مرتفقا، أي متكأ وموضعا للانتفاع. وجاء وصف سرادق النار في آية أخرى هي: انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (٣١) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (٣٣) [المرسلات: ٧٧/ ٣٠- ٣٣].
وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ توعد وتهديد، وليس على سبيل التخيير بين متساويين، والمراد: فليختر كل امرئ لنفسه ما يجده غدا عند الله عز وجل.
وأما جزاء أهل السعادة والإيمان فهو الجنة، إن الذين آمنوا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، وبجميع المرسلين في كل ما جاؤوا به، وعملوا الأعمال الصالحة التي أمر الله بها، فلا يضيع الله أجرهم على إحسانهم العمل. والجمع بين الإيمان والعمل الصالح دليل على أنه لا يصح أحدهما دون الآخر.
الأول- أن لهم جنات إقامة دائمة، تجري فيها الأنهار من تحت غرفهم ومنازلهم.
الثاني- يلبسون في الجنان حلية فيها أساور من ذهب.
والثالث- ويلبسون أيضا ثيابا خضراء من السندس: وهو رقيق الحرير، والإستبرق: وهو غليظ الديباج، أو الحرير المنسوج بالذهب، والحرير الأخضر ترتاح العين عند إبصاره.
والرابع- وهم متكئون في الجنان على الأرائك، أي الأسرة، شأنهم شأن الملوك والعظماء، وأصحاب السعادة الحقيقية.
ومن حظي بهذه الألوان من النعيم، كان حقا محل اغتباط وسرور، لذا قال الله تعالى: نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي نعمت الجنة ثوابا على أعمالهم، وحسنت منزلا ومقرا ومقاما، كما في آية أخرى: خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) [الفرقان: ٢٥/ ٧٦].
وحكى مكي والزهراوي وغيرهما حديثا مفاده أن قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية، نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم.
سأل أعرابي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم للأعرابي: «أعلم قومك أنها نزلت في هؤلاء الأربعة» وهم حضور «١».
في القرآن الكريم أمثلة واقعية حسية ذات تأثير بالغ، وعبرة عظيمة، قصد بإيرادها تصوير المواقف، وتثبيت الإيمان أو غرسه، واستئصال الكفر وآثاره، والرد على الطائفة المتحيرة من كفار مكة الذين أرادوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يطرد فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي على الدوام، والتنويه بأهل الإيمان المقرين بالربوبية أمثال بلال وعمار وصهيب وأقرانهم. ومن هذه الأمثلة: قصة رجل جاحد كان له جنتان (أي بستانان) فافتتن بجمالهما، وأنكر البعث والآخرة، قال الله تعالى واصفا حال هذا الرجل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [الكهف: ١٨/ ٣٢- ٣٦].
ظاهر هذا المثل أنه وصف لأمر واقع موجود، روي في ذلك أنه كان هناك أخوان من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر وهو بستانان، واشترى عبيدا وتزوج وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعة الله تعالى حتى افتقر، والتقيا، ففخر الغني ووبّخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة.
والمقصود بالمثل طائفتان، إذ الرجل الكافر صاحب الجنتين هو بإزاء متجبري قريش أو بني تميم، والرجل المؤمن المقر بالربوبية هو بإزاء بلال وعمار وصهيب وأقرانهم.
(٢) أحطناهما.
(٣) ثمرها المأكول.
(٤) لم تنقص من ثمرها.
(٥) أجرينا وشققنا.
(٦) أموال كثيرة مثمرة.
(٧) أقوى أعوانا.
(٨) تهلك وتفنى.
(٩) مرجعا وعاقبة.
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها | أي أخرجت ثمارها، ولم تنقص منه شيئا في كل عام. |
وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من الثمار والأموال النقدية والعينية التجارية، فقال لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
ودخل هذا الثري بستانه المتعدد البقاع والجنبات، فقال اغترارا منه، وظلما وكفرا واستكبارا: ما أظن أن تفنى هذه الجنة (البستان) أبدا، وما أظن أن يوم القيامة آت، وكان في الحالين مخطئا ظالما لنفسه، إذ قرر عدم فناء بستانه، وأنكر وجود القيامة. وأفرد كلمة الجنة من حيث الوجود، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث.
ثم أقسم هذا المترف على أنه إذا رجع إلى ربه- على سبيل الافتراض- ليجدن في الآخرة عند ربه خيرا وأحسن من حظ الدنيا أو منقلبا، أي مرجعا وعاقبة حسنة، تمنيا على الله، وادعاء لكرامته ومكانته عنده، على الزعم المغلوط: أن من كان حسن الحال في الدنيا، فهو حسن الحال في الآخرة، كأنه من شدة العجب ببستانه وسروره به، أفرط في وصفه، ثم قاس حال الآخرة على الدنيا، وظن أنه في تقلبه بالعيش
غير أن موقف هذا المغرور الكافر موقف خاسر، وتصور ساذج، فإن موقفه وحاله آيل في الواقع إلى الدمار والإفلاس، لكفرانه بنعم الله، وعصيانه ربه، وهذا شأن كل غني مغرور، مفتون بماله، لا يحترم أحدا إلا إذا كان غنيا مثله، وتراه يتقلب في المعاصي والملاهي والمنكرات والنوادي والخدينات، ويرائي الناس ويتظاهر متفاخرا بماله وقصوره، ومفروشات منزله، ويتطاول على الآخرين، ولكنه في النهاية من الأخسرين أعمالا، ومن الهالكين.
موقف المؤمن الواعي من صاحب الجنتين
الجدال والنقاش قائم في الدنيا دائما على قدم وساق بين الكافر والمؤمن، وبين العاصي الفاجر والمستقيم الصالح، الأول يغتر بماله ونفسه ودنياه، والثاني يستمسك بإيمانه وينظر لمستقبل عمره، ويدرك فناء الدنيا مهما عظمت، ويتأمل الخير فيما عند ربه، وهكذا كان حال المؤمن في مواجهة الكافر صاحب الجنتين (البستانين) وذي الثراء الواسع، حكى القرآن الكريم هذا اللون من الجدل الهادىء الصادر عن غاية الإيمان والحكمة والعقل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٧ الى ٤٤]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
«١»
لقد أجاب الرجل المؤمن صاحبه المفتون ببساتينه وثرواته حينما كان يحاوره، واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر والاغترار، فقال: أكفرت بمن خلقك في أصل الخلقة من تراب، لأن خلق آدم أبي البشر من تراب خلق لذريته، وكذلك الغذاء من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دما، يتحول بعضه إلى نطفة، تكون وسيلة للإنجاب، ثم خلق البشر السوي التام الأعضاء.
لكني أنا لا أقول بمقالتك، بل أقر لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له.
وهلا إذا أعجبتك جنتك (بستانك) حين دخلتها، قلت: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، أي الأمر ما شاء الله، والكائن: ما قدره الله.
أتستصغرني إذ كنت أقل منك مالا وثروة، وأولادا وعشيرة، في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرا من جنتك (بستانك) في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا حسبانا من السماء، أي عذابا كالبرد الشديد والصقيع أو الطوفان أو الصاعقة المحرقة، فتصبح جنتك خالية
(٢) ترابا مزلقة.
(٣) غائرا في الأرض.
(٤) أهلكت أمواله.
(٥) كناية عن الندم. [.....]
(٦) ساقطة على سقوفها.
(٧) النصرة لله وحده.
(٨) عاقبة لأوليائه.
ثم أخبر الله تعالى بما حل من العذاب بحال هذا الجاحد الممثّل به، وصفة هذا العذاب: أنه أحاط العذاب والفساد والاستئصال بثمار البساتين ونزلت الجائحة بالأموال، فدمّرتها، فأصبح ذلك الرجل المفتون بها نادما متحسرا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، وتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدا، وصارت جنته خاوية على عروشها، أي سقطت عرائشها على الأرض.
ولم يجد أحدا يناصره ويؤازره من عشيرة أو ولد، كما كان يفتخر ويتباهى، ولم يعد منتصرا، أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه.
وفي هذه الحال من الشدة والمحق والمحنة، تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويعود كل إنسان طوعا أو كرها إلى الله وحده، وإلى موالاته والخضوع له، حينما وقع العذاب. فقوله سبحانه: هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي حينئذ يكون السلطان والملك والنصرة والحكم لله الإله الحق المبين.
والله سبحانه هو خير ثوابا وخير عقبا، أي خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، وتكون الأعمال الخالصة لله ذات ثواب عظيم، وأثر طيب أو عاقبة حميدة رشيدة، كلها خير من سابقاتها في الدنيا. وهذا دليل واضح على أن الله يجزي بالحسنة خيرا منها، ويضاعف الله كرما وفضلا ثواب الحسنة إلى ما شاء سبحانه، مما يحمل كل عاقل على الطمع في فضل الله وإحسانه، والإقبال على طاعته ومرضاته لأن ما عند الله خير وأبقى.
جرت العادة أن تكون الاستعدادات للأحوال المؤقتة بسيطة وقليلة، وأن تكون الاستعدادات للأوضاع الدائمة والخطيرة كثيرة ومتنوعة، وهكذا ينبغي النظر باستمرار لحال الدنيا والآخرة لأن الدنيا فانية منتهية، والآخرة باقية خالدة، فما على المؤمن إلا أن يتخذ الدنيا جسرا للآخرة، وأن يتزود بالأعمال الصالحة، ويقدم المزيد من الخير لمستقبله، حتى يحقق لنفسه السعادة والنجاة، لذا زهّد القرآن الكريم بالدنيا، ورغّب في نعيم الآخرة الخالد، فقال الله تعالى:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
«١» «٢» [الكهف: ١٨- ٤٥- ٤٦].
اذكر أيها النبي مثلا لأهل مكة وأمثالهم الذين افتخروا بأموالهم وأتباعهم على فقراء المسلمين، يبين ذلك المثل أو الصفة زوال الدنيا وما فيها، والمراد حياة الإنسان بما يتعلق من نعم وثروة، فإن الدنيا بعد الخضرة والبهجة تصبح عابسة لا جمال فيها ولا زهو، إنها في تحولها وتبدلها تشبه حال نبات سقي بماء السماء، واختلط النبات بعضه ببعض، بسبب الماء، وصار أخضر جميلا، ثم تحول بعد الخضرة فأصبح هشيما، أي يابسا، تذروه الرياح، أي تفرقه وتنثره ذات اليمين وذات الشمال.
والله قادر على كل شيء من الإنشاء والإحياء، ثم الدمار والإفناء، واليبس والهلاك، فلا ينبغي لعاقل أن يغتر بإقبال الدنيا أو يتفاخر بها، وعليه أن ينظر إلى مآلها ونهايتها الحتمية.
(٢) تنسفه.
ثم أخبر الله عن حقيقة المال والأولاد، فذكر أن الأموال والبنين والبنات هي من زينة الحياة الدنيا، وليست من زينة الآخرة الدائمة، فهي سريعة الفناء والانقراض، فلا ينبغي لعاقل أو متأمل الاغترار بها والتفاخر بمظاهرها، ولا يصح للناس أن يتبعوا أنفسهم زينة الدنيا وجمالها، وعليهم أن ينتفعوا بها مجرد انتفاع، دون تعلق نفس وإيثار، أو تعظيم وتفضيل، لأن كل ذلك إلى فناء.
والباقيات الصالحات خير، أي إن أعمال الخير وأفعال الطاعة، كالصلاة والصيام والصدقة والجهاد في سبيل الله، ومساعدة المحتاجين، وذكر الله: أفضل ثوابا، وأعظم قربة عند الله، وأبقى أثرا، لأن ثوابها عائد على صاحبها، وهي خير أملا، حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا.
فسر ابن عباس وغيره الباقيات الصالحات بأنها الصلوات الخمس، وفسرها جمهور المفسرين بأنها الكلمات المأثور فضلها وهي: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقال ذلك أيضا ابن عباس. ورجح الطبري والقرطبي ما قاله ابن عباس في رواية ثالثة: الباقيات الصالحات: كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة.
وقول الله سبحانه: خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا معناه: صاحبها ينتظر الثواب، وينبسط أمله على خير من حال ذي المال والبنين، ودون أن يعمل عملا صالحا.
مشاهد القيامة الحاسمة
مهما تعرض الإنسان للأحداث والمحن الدنيوية، فإنها تكون هينة صغيرة أمام أحداث القيامة الرهيبة، لأن أحداث الدنيا يعقبها دائما أو غالبا انفراج وزوال للكروب، أما أحداث الآخرة، فهي حاسمة شاملة لا أمل فيها بالتغير ولا الانفراج أو احتمال الزوال، لذا تكاد النفس أو الروح تنخلع من الجسد، ويشتد الضيق والألم، حينما يشاهد المرء ما يتعرض له الكون من تدمير وخراب، ويتسلم صحيفة عمله التي هي بمثابة الحكم القضائي المبرم الذي يتلقاه المتهم في محاكم الدنيا، ثم يزجّ به في غياهب السجون، لتنفيذ مقتضى ذلك الحكم. قال الله تعالى واصفا هذه المشاهد المفزعة والمخيفة:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
«١» «٢» «٣» «٤»
(٢) وقتا لإنجاز الوعد بالبعث.
(٣) خائفين.
(٤) يا هلاكنا.
المعنى: اذكر أيها الرسول يوم تذهب الجبال من أماكنها، ونبددها فتصير كالسحاب هباء منثورا، كما جاء في آية أخرى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) [طه: ٢٠/ ١٠٥].
وتنظر أيها الإنسان إلى الأرض، فتراها ظاهرة بادية، لا جبال فيها ولا وديان، جميع الخلق على صعيد واحد، صافون صفوفا أمام ربهم، لا تخفى على الله منهم خافية.
فهذان حدثان كبيران: تسيير الجبال، وتسوية الأرض، مما يغير حال الدنيا.
والحدث المنتظر للخلائق جميعا أن الله يجمع الأولين والآخرين للحساب في موقف واحد، من غير أن يترك الله منهم أحدا، لا صغيرا ولا كبيرا، كما قال الله تعالى في آية أخرى: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) [الواقعة:
٥٦/ ٤٩- ٥٠]. فقوله تعالى: وَحَشَرْناهُمْ أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرضة القيامة.
وفي هذا العرض يعرض البشر قاطبة أمام الله صفا واحدا، يأتون جميعا أحياء، كهيئتهم يوم خلقهم أول مرة في الدنيا، حفاة عراة، لا شيء معهم، لقد جاؤوا إلى ربهم كما خلقهم في المرة الأولى، وفي هذا تقريع وتوبيخ للكفار والمنكرين للبعث، وإثبات لقضية العرض والحساب على الله تعالى، لذا خاطب الله هؤلاء المنكرين بقوله: لْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
، أي بل ظننتم أنه لا لقاء لكم مع الله، وأنه لا ميعاد لهذا اللقاء.
ويجد الناس ما عملوا في الدنيا مثبتا في كتابهم، من خير أو شر، صغير أو كبير، قال ابن عباس: الصغيرة: الضحك.
وليس في حكم الله أي ظلم لأحد من الخلق، لأن العدل الإلهي المطلق شامل للثواب والعقاب، حتى يكافأ المحسن، ويجازى المسيء، بل إن الله تعالى قد يغفر ويرحم، وإذا حكم، فإنه يعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله، ويكون جزاء الكفرة الخلود في نار جهنم. وأمر المغفرة والعقاب متروك لمشيئة الله تعالى ويتنازع الأمرين: العدل الإلهي المطلق، والرحمة الشاملة السابغة، لكن تغلب الرحمة الغضب كما
جاء في الحديث النبوي الثابت: «سبقت رحمتي غضبي».
كل عاقل مخلص يلتمس الخلاص لنفسه بمناصرة أو موالاة المحسن إليه، والمنعم عليه بالنعم الكثيرة، وكل جاهل خائن قصير النظر يوالي أعداء الله من الشياطين، على أمل تحقيق الخير أو دفع الشر، وهو أمل خادع، ثم يترك موالاة المنعم المتفضل عليه بكل نعمة، صغيرة أو كبيرة، وهو لون من الحماقة والطيش ونسيان المعروف، وهذا اللون من التوجه يجنح إليه أصناف الجاحدين والكافرين، فقال الله تعالى واصفا حالهم:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
«١» «٢» «٣» «٤» [الكهف: ١٨/ ٥٠- ٥٣].
هذا تنبيه للناس على عداوة إبليس وذريته لهم، ولأبيهم من قبلهم، وتقريع لمن اتبع الأبالسة الأعداء، وخالف الخالق الناصر، ومفاده: واذكر أيها النبي حين أمرنا الملائكة بالإلهام بأن يسجدوا لآدم سجود تحية وإكرام، تكريما للنوع الإنساني، كما ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم.
فسجد جميع الملائكة، كلهم في وقت واحد، وكان هذا السجود في قول جماعة إيماء منهم نحو الأرض، لأن السجود في كلام العرب: عبارة عن غاية التواضع.
(٢) أي حاجزا أو مهلكا لهم.
(٣) واقعون فيها.
(٤) معدلا ومنصرفا. [.....]
وخرج الشيطان عن طاعة الله، وصار فاسقا، لذا استحق التعنيف على عصيانه، وكان أثر هذا هو التعجب البالغ ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي، وتحذير الناس من اتباع وساوس إبليس، وتوبيخ من اتبعه وأطاعه، متخذا له ولجنده أنصارا من دون الله، وبدلاء عنه.
بئس البدل للكافرين الظالمين أنفسهم، وهو اتخاذ إبليس وذريته أولياء وأنصارا من دون الله. وقوله تعالى: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ معناه: خرج عن أمر ربه إياه، أي فارقه.
ثم سلب الله تعالى بصفة نهائية الولاية والنصرة عمن دونه من الشركاء والأبالسة، فقال: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. أي ما أشهدت الذين اتخذوا الشياطين والشركاء أولياء خلق السماوات والأرض، ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، فهم عبيد كبقية عبيد الله، لا يملكون شيئا، ولم يكونوا موجودين عند خلق السماوات والأرض، ولم يتخذ الله الضالين المضلين أعوانا وأنصارا، فلا يصح لأحد اتخاذهم نصراء، وفي ذلك كله تحقير لأهل الشرك والشركاء المزعومين.
ثم أخبر الله تعالى عما يخاطب به المشركين يوم القيامة، تقريعا لهم وتوبيخا، فقال: وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ.. ، أي يقول الله للكافرين على سبيل التأنيب أمام الخلائق والوعيد: نادوا لنصرتكم من زعمتم أنهم شركائي، لينقذوكم مما أنتم فيه، فدعوهم، فلم يجيبوهم بشيء، ولم ينفعوهم في شيء، وجعلنا
وشاهد المجرمون الكفرة في القيامة نار جهنم، فظنوا أنهم مواقعوها، أي تيقّنوا وعلموا لا محالة أنهم داخلون فيها حتما، ولم يجدوا عنها مصرفا، أي معدلا.
والمراد: ليس لهم طريق ولإمكان يعدل بهم عنها، ولا بدّ لهم منها، لإحاطتها بهم من كل جانب، ولشدة ما يسمعون من تغيظها وزفيرها.
ذكر ابن جرير الطبري عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الكافر ليرى جهنم، فيظن أنها مواقعته، من مسيرة أربعين سنة».
وفي الجملة: هذه الآيات توبيخ شديد لمن يوالي أو يناصر غير الله تعالى، فإن الاستعانة بغير الله أو طلب النصرة من أحد غير الله، جنّ أو إنس ضلال وبهتان وانحدار عن مستوى العقل البشري والكرامة الإنسانية، فمن أعمل عقله بوعي، وأصغى لنداء القرآن، عرف أن الملجأ الوحيد للإعانة والمساعدة والإنقاذ والنجاة في الدنيا والآخرة إنما هو الله وحده لا شريك له.
بيان القرآن ومهام الرسل
تميز البيان القرآني بالواقعية، والجدية الحاسمة، وضرب الأمثال القريبة للذهن والحس، حتى لا يبقى عذر أو مانع لأحد من الاستجابة السريعة لنداء الحق، وانضم إلى هذا البيان قيام الرسل والأنبياء بمهام التبشير والإنذار، وإيضاح منهاج الحق الإلهي وبيان السلوك القويم للبشرية، ولم يعد بعدئذ سوى المكابرة والعناد والنقاش الساقط، والجدال بالباطل، والإعراض عن آيات الله والاستهزاء بها، من
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦)
«٢» «٣» «٤» [الكهف:
١٨/ ٥٤- ٥٦].
لم يترك الحق تعالى وسيلة للبيان والترغيب والترهيب إلا أتى بها، وهذا مصداق ذلك، فالله سبحانه يحكي ويقسم قسما مؤكدا بأنه خوّف ورجّى وبالغ في البيان، ووضّح كل ما يحتاج إليه الناس من أمور الدين والدنيا، كي يعرفوا الحق وطريق الهدى، ولا يضلوا عنه. ومن ألوان البيان الإلهي: تنويع الأمثال النافعة لأداء الغرض المقصود بها، وهو الهداية إلى أقوم السبل وأسلم مناهج الإيمان.
ومع هذا البيان الشافي والإيضاح الكافي، فإن الإنسان كثير الجدل والخصام ومعارضة الحق بالباطل، وهو أكثر جدلا من كل من يجادل من ملائكة وجنّ وغير ذلك إن فرض، إلا من هدى الله وبصّره بطريق النجاة والسداد.
وما منع المشركين أهل مكة وغيرهم من الإيمان بالله، والاستغفار من الذنوب، حين شاهدوا البينات والأدلة الواضحة على وجود الله تعالى وتوحيده، إلا طلبهم أحد أمرين:
- إما أن تأتيهم سنة أو عادة الأولين القدماء، من إحاطة العذاب بهم وإبادتهم، وهو عذاب الاستئصال.
(٢) أي أنواعا وألوانا وعيانا.
(٣) ليبطلوا.
(٤) استهزاء.
والمعنى: إن المشركين والكفرة لا يقدمون على الإيمان عادة إلا عند نزول عذاب الاستئصال، فيهلكوا، أو أن تتواصل أنواع العذاب والبلاء حال بقائهم في الحياة الدنيا. ومجيء العذاب من عند الله لا من عند الرسل قادة الإصلاح.
ومهام الرسل عليهم السلام: التبشير والإنذار، تبشير من آمن برسالاتهم بثواب الطاعة وهو الجنة وعزها، وإنذار من كذب وخالف بعقاب المعصية وذلّها، فربما يغريهم الثواب بالهداية، وربما يرهبهم العذاب، فيبادروا إلى الإيمان طوعا واختيارا.
وعلى الرغم من البيان الإلهي الكافي وإرشاد الرسل، يصدر من الكفار الجدال بالباطل، والبعد عن الحق، ليحاولوا طمس معالم الحق وإبعاد الناس عنه، فتراهم مثلا يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: إن أنتم إلا بشر مثلنا، لا مزية لكم علينا، ولا فضل يؤهلكم للمتابعة والقيادة.
ويزداد موقفهم عنادا وشططا، فهم يهزؤون بالرسل وأتباعهم المؤمنين، ويتخذون آيات الله والحجج والبراهين وخوارق العادات (أي المعجزات) التي بعث بها الرسل، وإنذارات الرسل، وتخويفهم من العذاب الشديد في الآخرة، يتخذون كل ذلك استهزاء وسخرية، وهو أشد الكذب، وكل ذلك يدل على استيلاء الجهل والقسوة، والاستبداد والغلظة، وهذا ليس من صفات أهل الرشد والحكمة، ولا هو من منهاج أحد من أهل العلم والمعرفة، أو عقلاء البشر وإن لم يكونوا علماء.
وقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً توعد. والهزو أو الهزء: السخر والاستخفاف.
إن هذه الآية تأسّف على هؤلاء المعاندين، وتنبيه على فساد حالهم، فهم يعتقدون أنهم مصيبون، لكنهم في الحقيقة مخطئون، فكان حالهم يقتضي التأسف عليهم، وهذا
صفات المجادلين بالباطل
وصف الله تعالى الكفار المجادلين بالباطل بصفات موجبة للخزي والخذلان، تقوم على الجور والإرهاب الفكري، فهم قوم ظلمة، وعلى الرغم من ذلك فإن رحمة الله اقتضت ألا يعاجلهم بالعقوبة، ليترك لهم الفرصة الكافية على العدول عما هم عليه من العصيان، وإعلان التوبة عن سوء الاعتقاد والفعال، وهذا هو منهاج التوازن والاعتدال، فليست دائما الرحمة فوق العدل، ولا العدل فوق القوة، وإنما الرحمة والعدل والقوة صفات متوازنة ومتلازمة، يستعمل الواحد منها في محله، وتلك هي الحكمة والوسطية، قال الله تعالى مبينا صفات المجادلين بالباطل:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
«١» «٢» «٣» «٤» [الكهف: ١٨/ ٥٧- ٥٩].
ليس هناك أحد أظلم ممن أعرض عن آيات الله، بعد الوقوف عليها بالتذكير، وينسى ويطرح كبائره ومعاصيه التي أسلفها، وهذا غاية الإهمال. ونسبة السيئات إلى اليدين: وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ من حيث كانت اليدان آلة التكسب في الأمور الجرمية، فجعلت كذلك في الأمور المعنوية أو المعاني، على سبيل الاستعارة.
(٢) أي ثقلا في السمع.
(٣) منجىّ وملجأ.
(٤) لهلاكهم.
وذلك كله لفقدهم الاستعداد لقبول الإيمان والرشاد، بما أصروا عليه من الكفر والعصيان.
ومهما بغى أهل الكفر وتنكبوا طريق الهداية، فإن الله تعالى غفار ستار، ذو رحمة واسعة، لو يؤاخذ الناس فورا على ما اقترفوا من الخطايا والسيئات، لعجل لهم العذاب في الدنيا، على حسب أعمالهم، كما جاء في آية أخرى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٣٥/ ٤٥]. ويختص الله المؤمنين بالمغفرة والرحمة، لأنه تعالى الغفور ذو الرحمة، والغفران والرحمة بترك معاجلة العقاب.
وإذا اقتضت الحكمة الإلهية عدم التعجيل بالعقوبة، فذلك لا يعني الإعفاء من العقاب، فإن الله تعالى جعل للعذاب موعدا حدده وهو إما يوم القيامة، وإما يوم العذاب الشديد من ألوان عذاب الدنيا كالحروب والصواعق والزلازل والبراكين والسموم القاتلة والأمراض الفتاكة وغير ذلك.
وتلك القرى أو المدن البائدة وأهلها مثل عاد وثمود ومدين وقوم لوط، أهلكهم الله لما ظلموا وكفروا وعاندوا، وجعل لهلاكهم موعدا لا محيد عنه، ومدة معلومة لا تزيد ولا تنقص، لن يجدوا عنه ملجأ أو منجى، وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا ما أصابهم، فقد كذبتم رسولكم، ولستم بأعز علينا منهم، والمهلك: الإهلاك أو
هذه الآيات الكريمة تتضمن علاقة الإنسان بربه، فهي علاقة ودّ، ومغفرة، ورحمة إن أحسنوا العمل، وآمنوا بالله ورسوله وكتبه واليوم الآخر، وكذا إن تلكؤوا عن الإيمان، فيمهلهم الله، وإن الله يمهل ولا يهمل.
والعقاب مبدؤه وغايته: الإصلاح والهداية، والناس هم الظلمة لأنفسهم إذا عطّلوا وسائل الإيمان والهداية والمعرفة، فلم تتفتح قلوبهم لنور الهداية القرآنية، وأصاخوا السمع والأذن لآيات الله الكونية والحياتية.
والدليل من التاريخ: واقع وملموس، فقد أهلك الله أهل المدن الظالمة الذين لم يستجيبوا لدعوة الرسل، واقتضت الرحمة الإلهية إمهالهم لموعد معين، حتى يؤمنوا، وذلك منتهى العدل والفضل الإلهي.
لقاء موسى عليه السلام مع الخضر العبد الصالح
في التاريخ عجائب الحوادث والقصص، ومن هذه العجائب: قصة موسى عليه السلام مع الخضر العبد الصالح، التي تعلّمنا كيف يتعلم الأكبر والأعلم من الأصغر والأقل منه رتبة، فإن موسى عليه السلام كليم الله، مع كثرة علمه وعمله، أمره الله أن يصحب العبد الصالح وهو الخضر، في رحلة استطلاعية وجولة ميدانية، تدل على أن التواضع خير من العجب والكبر. وهذه هي بداية القصة في الآيات التالية:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٧٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
«١» «٢»
(٢) الحقب: جمع حقبة، وهي زمان من الدهر غير محدود، أي أسير زمانا طويلا.
سبب هذه القصة فيما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لدى البخاري ومسلم: أن موسى عليه السلام جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل، وخطب فأبلغ، فقيل له: هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا، فأوحى الله تعالى إليه: بلى، عبدنا خضر، فقال: يا رب، دلّني على السبيل إلى لقيّه «٩»، فأوحى الله تعالى إليه أن يسير بطول سيف البحر، حتى يبلغ مجمع البحرين، فإذا فقدت الحوت، فإنه هنالك، وأمر أن يتزود ويرتقب زواله عنه، ففعل موسى ذلك، وقال لفتاه على جهة إمضاء العزيمة: لا أبرح السير (أي لا أزال).
وإنما قال هذه المقالة، وهو سائر.
ومجمع البحرين: إما في أرض فارس من وراء أذربيجان، وإما عند طنجة أو بأفريقية أو حيث يجتمع بحر ملح وبحر عذب.
هذه قصة ثالثة في سورة الكهف بعد قصة أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين والأموال، وكلها تلتقي في التزهيد بالدنيا ونبذ الافتخار والإيمان بالله واليوم الآخر.
(٢) تعبا وعناء.
(٣) أخبرني.
(٤) التجأنا. [.....]
(٥) اتخاذا يتعجب عنه.
(٦) الذي كنا نطلبه.
(٧) رجعا يتبعان آثارهما.
(٨) الخبر: العلم بالشيء، والخبير: العالم بخفايا الأمور.
(٩) أي لقائه واستقباله.
فلما وصل موسى وخادمه (فتاه) مجمع البحرين، مكان اللقاء بالعبد الصالح، نسيا حوتهما (وهو السمك) حيث عاد الحوت حيا، واندس في سرب (نفق) من الماء، فكان لموسى وفتاه عجبا، وكانت عودة الحوت حيا معجزة لموسى عليه السلام.
ولما تجاوز موسى وفتاه يوشع مجمع البحرين، حيث نسيا الحوت فيه، وسارا بقية اليوم والليلة، وفي ضحوة الغد أحس موسى بالجوع، فقال لفتاه: آتنا غداءنا، لقد لقينا تعبا من ذلك السفر.
فأجابه فتاه: أرأيت، أي أخبرني عما حدث لي، حين لجأنا إلى الصخرة في مجمع البحرين؟ فإني نسيت أن أخبرك بما حدث من قصة الحوت، فإنه اضطرب، وعاد حيا، وسقط في البحر، وما أنساني ذكر ذلك إلا الشيطان، واتخذ الحوت مسلكه في البحر عجبا.
قال موسى: هذا هو الذي نطلب لأنه علامة الفوز بما نقصد. فرجعا على طريقهما يقصان آثار مشيهما، فوجدا عند الصخرة في مجمع البحرين عبدا صالحا من عباد الله، وهو الخضر في رأي الأكثرين. وكان مسجى بثوب أبيض. فسلّم عليه موسى، وكان قد علّمه الله من لدنه علما من غير وساطة معلم بشر.
فطلب موسى من الخضر أن يصحبه ويرافقه ليتعلم منه شيئا يسترشد به في أمره،
أحداث قصة موسى مع الخضر
في مرحلة الاختبار الصعبة لموسى عليه السلام، لمعرفة مدى صبره على ما قام به العبد الصالح: الخضر، وقعت أحداث غريبة ثلاثة، لا تنسجم مع أصول المعرفة والشريعة الموسوية، مما جعل موسى عليه السلام يستنكر كل حادث منها، ناسيا العهد الذي التزمه مع الخضر بألا يعترض على شيء حتى يبين له الأسباب الخفية وما وراء الظواهر، وهذه الأحداث قصها القرآن الكريم علينا فيما يأتي:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧١ الى ٧٨]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥)
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
«١» «٢» «٣» «٤»
(٢) لا تحملنّي.
(٣) صعوبة ومشقة.
(٤) أي ينكره الشرع والعقل.
أحداث هذه القصة ثلاثة هي السفينة، والغلام، والجدار.
أما قصة السفينة: فحينما انطلق موسى والخضر يمشيان على ساحل البحر، يطلبان سفينة، فمرت بهما سفينة، فكلّما أصحابها أن يركبوا (موسى وفتاه والخضر) فيها معهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير أجر، تكرمة للخضر، فلما سارت بهم السفينة في وسط أمواج البحر، قام الخضر بخرقها بفأس، فقلع لوحا من ألواحها، ثم رقّعها. فقال موسى للخضر منكرا عليه: أخرقتها لتغرق أهلها؟ أي ليؤول أمرهم إلى الغرق، لقد جئت شيئا منكرا عظيما. فقال الخضر لموسى: ألم أقل لك سابقا:
إنك لن تتمكن من الصبر معي على ما ترى مني من أفعال. فاعتذر موسى للخضر قائلا: لا تؤاخذني بنسياني، وتركي وصيتك أول مرة، ولا تكلفني أمرا شاقا عسيرا علي.
وأما قصة الغلام: فتمت حينما خرج موسى وفتاه والخضر من السفينة، وسار موسى والخضر على الساحل، فأبصر الخضر غلاما وضيئا حسن الهيئة لم يبلغ الحلم يلعب مع الغلمان، فقتله الخضر باقتلاع رأسه أو ذبحه، فقال موسى: أتقتل نفسا زكية طاهرة من الذنوب، طيبة لم تخطئ، بغير قتل نفس، أي قصاص، لقد أتيت شيئا منكرا لا يقره الشرع، فأجابه الخضر مؤكدا إنكاره عليه وتذكيره بعهد الرفقة:
ألم أقل لك لن تتمكن من احتمال ما أفعله، ولن تسكت على ما أقوم به. فاعتذر موسى عليه السلام مرة أخرى قائلا: إن اعترضت على شيء يحدث بعد هذا الفعل أو
(٢) ينهدم.
روى ابن جرير الطبري عن أبي بن كعب قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا ذكر أحدا، فدعا له، بدأ بنفسه، فقال ذات يوم: رحمة الله علينا وعلى موسى، لو لبث مع صاحبه، لأبصر العجب، ولكنه قال: «إن سألتك عن شيء بعدها، فلا تصاحبني، قد بلغت من لدني عذرا».
وأما قصة الجدار: فهي أن موسى والخضر مشيا بعد الحدثين السابقين، حتى إذا وصلا إلى قرية هي أنطاكية، طلبا من أهلها إطعامهما وسد جوعتهما، فرفضوا الضيافة، وذلك إخلال بالمروءة، وبخل وشح. فوجد موسى والخضر في تلك القرية حائطا آيلا إلى السقوط، فرده الخضر كما كان، ونسبة إرادة السقوط للجدار: على سبيل الاستعارة، فقال موسى للخضر: ليتك تطلب أجرة على إصلاح الجدار، لأن أهل هذه القرية لم يضيفونا، فلا يستحقون العمل مجانا، فأجابه الخضر: هذا الإنكار أو الاعتراض الثالث سبب الفراق بيننا، بحسب الشرط الذي بيننا، وسأخبرك ببيان أسباب الأفعال التي أنكرتها علي، ولم تصبر عليها، وهي خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا الموقف من الخضر عتاب لموسى، ولوم له على عدم الصبر.
قال ابن عطية في تفسيره: ويشبه أن تكون هذه القصة أصلا للآجال في الأحكام التي هي ثلاثة أيام، وأيام التلوم ثلاثة، فتأمله.
والواقع أن موسى عليه السلام كان معذورا في اعتراضاته، لأنه بحسب قواعد الشريعة مطالب بإنكار المنكر، وأما الخضر فكان أيضا على حق لأنه يفعل بإلهام من الله، وتنفيذ لمراد الله تعالى.
كانت أفعال الخضر في الأحداث الثلاثة غير مقبولة في الظاهر، سواء فيما يتعلق بخرق السفينة، أو قتل الغلام، أو هدم الجدار وبنائه مجانا، ولكنها أجيزت شرعا بإلهام من الله تعالى، وارتكابا لأخف الضررين وأهون الشرين، وزال الإشكال في عقلية موسى عليه السلام، بعد أن قام الخضر ببيان أسباب ما قام به من أفعال غريبة، لم يصبر عليها موسى لأول وهلة، وهذا البيان جاء في الآيات القرآنية التالية:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
«١» «٢» «٣» «٤» [الكهف: ١٨/ ٧٩- ٨٢].
هذا تفسير الوقائع والأحداث التي قام بها الخضر عليه السلام بحضور موسى عليه السلام، ولم يستطع تقبلها والصبر عليها، لمخالفتها شريعته في الظاهر، لكن الشرائع مبنية كلها على الظواهر العامة، والله وحده من وراء السرائر.
أما حادث خرق السفينة: فكان بقصد تعييبها، من أجل حمايتها والحفاظ عليها لأنها كانت مملوكة لضعفاء أيتام، ليس لهم شيء ينتفعون به غيرها، ولا يقدرون على مقاومة من أراد ظلمهم، وكانوا يكرون تلك السفينة لركاب البحر، ويأخذون الأجرة، فقام الخضر بخرقها ونزع لوح خشبي منها ليعيبها، لأنه كان أمام الركاب
(٢) طهارة من السوء.
(٣) رحمة عليهما. [.....]
(٤) قوّتهما وشدتهما.
وأما حادث قتل الغلام: فلأنه كان كافرا، وكان أبواه مؤمنين يحبانه، فكانت هناك خشية من متابعته في الكفر والوقوع في الظلم والعصيان، حينما يكبر، لأن حب الولد غريزة، ومجاملته من أبويه قد تقع، فكان قتله حماية على عقيدة والديه، من قبيل سد الذرائع، أي منع الوسيلة المفضية إلى ممنوع شرعا.
قال الخضر: أراد الله أن يرزق هذين الوالدين ولدا آخر بدلا عنه وخيرا منه في الصلاح والعقيدة، وبر الأبوين والعطف عليهما. روي عن ابن جريج: «أنهما بدّلا غلاما مسلما».
وأما حادث بناء الجدار مجانا: فكان في بلدة أنطاكية، وكان آيلا للسقوط، وكان تحته كنز لغلامين يتيمين في تلك المدينة، وكان أبوهما وهو الجدّ السابع رجلا صالحا، فأراد الله إبقاء ذلك الكنز مدفونا محفوظا للغلامين حتى يرشدا، فأمر الله الخضر بإصلاح ذلك الحائط، إذ لو سقط لاكتشف الكنز وأخذ، فهدمه الخضر ثم أعاد بناءه ليحفظ الكنز للغلامين حين الكبر والرشد، أو بلوغ الأشد، فإذا ما كبرا استخرجا الكنز، وانتفعا به، وفي هذا مصلحة واضحة، لا يقدم عليها أحد إلا من آتاه الله علما لدنيّا، وإلهاما ربانيا صادقا.
وكان الخضر في هذه الأفعال ينسب الفعل لنفسه، إلا في حادث بلوغ الحلم الذي
وكان الكلام الأخير للخضر قرارا حاسما، يلقي الطمأنينة والسكينة في قلب موسى عليه السلام، ومضمونه: أن الخضر لم يفعل هذه الأمور الثلاثة باجتهاد ورأي شخصي، أو تجرؤ على المخالفة، وإنما فعل ذلك بأمر الله وإرشاده وإلهامه لأن الاعتداء على المال والنفس والقيام بإصلاح الجدار مجانا، إنما كان بدليل قاطع، وهو الإلهام الذي هو أشبه بالوحي، وذلك هو تفسير ما ضاق صبر موسى عنه، ولم يطق السكوت عنه، ولكن موسى عليه السلام بعد بيان سبب تلك الأفعال ومعرفة الحكمة فيها، اطمأن قلبه، وهدأ غضبه، وزال ما ثار في نفسه من ضرورة إنكار المنكر في ظاهر الأمر، والله هو الموفق إلى سواء الصراط.
قصة ذي القرنين وبلوغه المشرقين
فيما قبل الميلاد، كان هناك رجل صالح أعطاه الله ملكا واسعا فبلغ مشرق الشمس ومغربها، وهو الملقّب بذي القرنين أي صاحب الضفيرتين من الشعر، وهو كالخضر لم يكن نبيا، وقد ذكر الله تعالى قصته بعد إيراد ثلاث قصص في سورة الكهف، كانت مثار إعجاب واستغراب معا في توقعات البشر، ولكنها هينة سهلة في تقدير الله وقدرته. وتضمنت قصته إيراد ثلاثة أحداث عجيبة، أذكر هنا منها حدثين، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ٩١]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
«١»
«٤» «٥» «٦» «٧» [الكهف: ١٨/ ٨٣- ٩١].
هذه هي القصة الرابعة من قصص سورة الكهف. وهي إحدى المسائل الثلاث التي سأل عنها المشركون المكيون بتوجيه من اليهود، بقصد الإحراج والامتحان.
والمعنى: ويسألك المكيون القرشيون عن خبر ذي القرنين، سؤال اختبار وتعنّت، لا سؤال تأدّب وتعلّم، فقل لهم: سأخبركم عنه خبرا مذكورا في القرآن، بطريق الوحي الثابت المنزل عليّ من ربي.
إن الله تعالى مكّن لذي القرنين، وآتاه ملكا عظيما بلغ المشرق والمغرب، وأعطاه من كل ما يتعلق بمطلوبه طريقا (سببا) يتوصل به إلى ما يريده، ويحقق أهدافه، فاتبع طريقا من الطرق المؤدية إلى مراده. حتى إذا وصل نهاية الأرض من جهة المغرب، ولم يبق بعدها إلا البحر المحيط، وهو المحيط الأطلسي، وسار في بلاد المغرب العربي، فوجد الشمس تغرب في عين ذات حمأة أي طين أسود، ووجد في أقصى الغرب عند تلك العين الحمئة قوما كفارا وأمة عظيمة من الأمم، فقال الله له بالإلهام: أنت مخير بين أمرين: إما أن تعذب هؤلاء بالقتل إن أصروا على الكفر، وإما أن تحسن إليهم وتصبر عليهم، بدعوتهم إلى الحق والهداية الربانية، وتعليمهم الشرائع والأحكام.
(٢) سلك طريقا إلى المغرب.
(٣) عين حمئة: أي عين ذات طين أسود.
(٤) تدعوهم إلى الحق.
(٥) نكرا، أي منكرا شديدا.
(٦) ساترا من اللباس والبناء.
(٧) هو العلم الشامل.
وأما من آمن بالله ربا واحدا لا شريك له، وعمل العمل الصالح الذي يقتضيه الإيمان، فله الجزاء الحسن، وهو الجنة، وسنطلب منه أمرا ذا يسر وسهولة، ليرغب في دين الله والتزام أوامره.
ثم أتبع ذو القرنين سببا آخر، أي سلك طريقا آخر، متجها من المغرب إلى المشرق، حتى إذا وصل لمكان شروق الشمس من المعمورة، وجد الشمس تطلع على قوم حفاة عراة، لا شيء يسترهم من حر الشمس، ولم يجد عندهم بيوتا، وإنما يعيشون في مفازة أو بيداء، لا مأوى فيها، ولا شجر، يعتمدون في المعيشة على السمك وما جاء به البحر.
ومثل ذلك البلوغ للمشرق والمغرب، علّمنا ذا القرنين علوما نافعة، وأطلعناه أو أخبرناه عن إحاطته بجميع ما يحتاجه من المعارف والخبرات والأفعال، دون أن يخفى على الله منها شيء، وهذا من أجل تحقيق الطمأنينة، والرضا، والله سبحانه عالم الغيب والشهادة، لا يعرف الإنسان شيئا من تلك الغيبيات إلا بتعليم الله وإلهامه وإرشاده. وهذا تصوير لأحوال الأقوام البدائية، وبيان أن الأنبياء والصلحاء والعلماء هم الذين يتمكنون من نقلة هؤلاء البدائيين إلى أرقى مدارج العز والمدنية والحضارة.
بلوغ ذي القرنين ما بين السدّين
لم تنته رحلة الرجل الصالح ذي القرنين في سبيل الله ومرضاته، فهو لم يترك مكانا إلا زاره، حاملا أصول الحضارة والمدنية والأخلاق، ومبلّغا الناس ما يؤمن به،
وهذه الرحلة الثالثة أخبر عنها القرآن الكريم في الآيات الآتية، قال الله تعالى:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٢ الى ٩٨]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦)
فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [الكهف: ١٨/ ٩٢- ٩٨].
هذه تتمة الرحلة الشاقة لذي القرنين سلك الطرق المؤدية إلى مقصده، لأنها سبب الوصول، فكان- كما ذكر المؤرخون- يدوس الأرض بالجيوش الثقال، والسيرة الحميدة، وتقوى الله عز وجل، فما لقي أمة، ولا مرّ بمدينة إلا دانت له، ودخلت في طاعته وكل من عارضة جعله عظة وآية لغيره. ثم وصل بين السدين (الجبلين العظيمين) بين أرمينية وأذربيجان، فوجد من ورائهما قوما من الناس شرقي البحر الأسود، وهم الصقالبة (السلاف) لا يكادون يفهمون كلام غيرهم، لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم ونباهتهم.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: الجبلان اللذان بينهما السّدّ: أرمينية
(٢) قبيلتين من ذرية يافث بن نوح.
(٣) أي جعلا من المال نتبرع به، وهو الخراج.
(٤) حاجزا حصينا.
(٥) أي قطع الحديد. [.....]
(٦) أي جانبي الجبلين.
(٧) أي نحاسا مذابا.
(٨) يعلوا عليه.
(٩) خرقا.
(١٠) مدكوكا.
فهل توافق على أن نعطيك جعلا من المال، على أن تقيم بيننا وبين هؤلاء المفسدين حاجزا منيعا يمنعهم من الوصول إلينا؟
قال لهم ذو القرنين: ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم وأموالكم، ولكن أعينوني بقوة الأبدان، وبعمل الأيدي، أعطوني قطع الحديد، حتى إذا حاذى بالبنيان رؤوس الجبلين طولا وعرضا، قال للعمال المساعدين: انفخوا بالكير على هذه القطع الحديدية، حتى اشتعلت النار المتوهجة، ثم صبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى والحجارة، فصار كله كتلة متلاصقة وجبلا صلدا، وانسدت فجوات الحديد. فما قدر المفسدون من يأجوج ومأجوج أن يصعدوا فوق السد، لارتفاعه وملاسته، وما استطاعوا نقبه من الأسفل، لصلابته وشدته، وأراح الله منهم القبائل المجاورة، لفسادهم وسوئهم.
وقال ذو القرنين بعد إقامة السد المنيع الحصين لأهل تلك الديار: هذا السد نعمة، وأثر من آثار رحمة ربي بهؤلاء القوم الضعفاء، فإذا حان أجل ربي وميعاده بخروجهم من وراء السدّ، جعله ربي مدكوكا منهدما، مستويا ملصقا بالأرض، وكان وعد ربي بخرابه، وخروج يأجوج ومأجوج، وبكل ما وعد به حقا ثابتا لا يتخلف، كائنا لا محالة.
إن تطواف ذي القرنين في أنحاء الأرض ذو أثر كبير في التاريخ، فهو تطواف مؤيد بمعونة الله، من أجل مقاومة الفساد الخلقي والفوضى الاجتماعية، وغرس أصول الإيمان والحق والخير، وحمل الناس على منهاجه السديد وخطته الإصلاحية، وبها يعرف ما لذي القرنين الرجل الصالح من آثار طيبة وأعمال صالحة، تشبه أعمال الرسل والأنبياء، وتدل على حب الخير للإنسانية جمعاء.
إن ميزان العدل الإلهي في غاية الدقة والاعتدال، فأهل العصيان والكفر إنما يعاقبون في الآخرة عقابا أليما بسبب ضلال سعيهم في الحياة الدنيا وإشراكهم، وتعاميهم عن الحق، وكفرهم بآيات ربهم ولقائه يوم القيامة، واتخاذهم آيات الله هزوا وسخرية، وهذه الأسباب الأربعة مجتمعة هي التي أدت إلى العقاب الشديد في الآخرة للكافرين المعاندين، وذلك حق وعدل مطلق، قال الله تعالى مبينا السبب والجزاء للكفر وأهله:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٩ الى ١٠٦]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣)
الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الكهف: ١٨/ ٩٩- ١٠٦] من علامات الساعة خروج يأجوج ومأجوج (قوم من البشرية) ففي زمن قبل يوم القيامة: يترك الله الناس يضطرب بعضهم ويختلط مع بعض آخر، فيكثر القتل، وتفسد الزروع، وتتلف الأموال، وذلك قبل نفخ الصور، فإذا اقترب موعد القيامة نفخ في الصور: (وهو القرن الذي ينفخ فيه للقيامة).
وهي النفخة الثانية نفخة الصّعق، ويجمع الله الناس جمعا، بأن يحييهم الله بعد تلاشي أبدانهم وصيرورتها ترابا، ويحضرهم إلى المحشر والحساب جميعا. والنفخات
(٢) نفخة البعث.
(٣) غشاء كثيف.
(٤) منزلا.
(٥) تقديرا واعتبارا.
أسند الطبري، رحمه الله، إلى أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الصور: قرن عظيم، ينفخ فيه ثلاث نفخات: الأولى نفخة الفزع، والثانية- نفخة الصّعق، والثالثة- نفخة القيامة» «١».
ويعرض الله بعد الحشر جهنم ويبرزها إبرازا واضحا لكل من كفر بالله، بعد النفخة الثانية أو الثالثة في الصور، حتى يشاهدوا أهوالها، يوم جمعهم لها.
وأوصاف الكفار وأسباب عقابهم أربعة:
أولا- التعامي عن سماع الحق واتباعه، وترك نظرهم في آيات الله، وعدم تفكرهم فيها، حتى يتوصلوا إلى توحيد الله واتباع أوامره، ولأنهم كانوا لا يطيقون سماع ذكر الله الذي بيّنه لهم في كتابه، أي إنهم يعطلون وسائل المعرفة، من مشاهدة آيات الله بالأبصار، ويعرضون عن سماع الأدلة المذكورة في كتاب الله تعالى.
ثانيا- عبادة معبودات من دون الله، باتخاذهم أولياء ونصراء ومعبودات من غير الله، كالملائكة والشياطين وبعض البشر، ظنا منهم أن ذلك ينفعهم أو يدفع عنهم العذاب، ونسوا أن الله تعالى أعد لهؤلاء الكافرين العابدين غير الله جهنم منزلا ينزلون به، كما يعدّ النزل للضيف، بسبب اتخاذهم أولياء (أي معبودين) من دون الله. وهذا تهكم بهم وتخطئة لحساباتهم.
ثالثا- الجهل والغباء بظنهم أنهم أحسنوا في الدنيا أعمالهم، وهم في الواقع أخسر الناس أعمالا، وهم الذين ضل سعيهم وعملهم في الدنيا، فعملوا الأعمال الباطلة على غير شريعة مقبولة، وأتعبوا أنفسهم فيما لا نفع فيه، فضيعوا ثمار أعمالهم. وهذا توبيخ شديد لهم وتقريع لهم على سوء اختيارهم.
ونتيجة لهذه الأسباب الأربعة، كان جزاؤهم الدخول في نار جهنم، بسبب كفرهم واستهزائهم بآيات الله، وسخريتهم من رسل الله، ومن معجزاتهم، فإنهم استهزءوا بهم، وكذبوهم أشد التكذيب، والهزء: الاستخفاف والسخرية.
والخلاصة: إن جزاء الكافرين هو: بسبب إنكار البعث والحشر، والإشراك بالله والجهل، والكفر بآيات الله، والاستهزاء بالرسل والآيات الكونية والتنزيلية، والجزاء أنواع ثلاثة: إحباط أعمال الدنيا، وإهدار الكرامة والاعتبار، والعذاب في نار جهنم.
جزاء المؤمنين وأسبابه
في مقابلة بيان أسباب الكفر وجزاء الكافرين، أورد الله تعالى جزاء المؤمنين وأسبابه، وفرق واضح بين الجزاءين وأسبابهما، فجزاء الكفر كما تقدم: الخلود في نيران جهنم، وجزاء الإيمان والعمل الصالح: الخلود في جنان الخلد. وبواعث الإيمان كثيرة أهمها إدراك شيء من عظمة الله وسعة علمه. وجوهر الإيمان: توحيد الله، فمن رجا لقاء الله، عمل العمل الصالح، وعبد الله وحده، دون أن يشرك به أحدا.
قال الله تعالى موضحا هذه الأسس الخالدة:
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١١٠]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [الكهف: ١٨/ ١٠٧- ١١٠].
يتميز منهج القرآن الكريم ببيان المتقابلات وعقد الموازنة بينها، لتكون الصورة متكاملة والرؤية واضحة، ويظهر الحق من الباطل، ويتخير المرء ما يروق له، فيكون إما جالبا الخير لنفسه ومعتقها من النار، أو جالبا الشر لذاته وموبقها في النار، وهكذا هنا، بعد أن أوضح الله سبحانه ما أعد للكافرين والأخسرين أعمالا، ذكر ما أعدّ للمؤمنين، ليظهر التباين، وتقبل النفوس على الحسن، وهذه الآية الواردة في حق المؤمنين، تبيّن أن أهل السعادة هم الذين آمنوا بالله ورسوله، وصدقوا بما جاء به المرسلون، وعملوا صالح الأعمال، من إقامة الفرائض والمندوبات، ابتغاء رضوان الله، فيكون لهم جنات الفردوس (وهي أعلى الجنة وربوتها وأفضلها) منزلا معدّا لهم، مبالغة في إكرامهم.
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة».
ويبقى المؤمنون في الجنة خالدين فيها مقيمين بصفة الدوام، لا يرغبون عنها بديلا ولا يريدون عنها تحولا. ثم أخبر القرآن عن سعة علم الله، فقل لهم أيها الرسول: لو كتبت كلمات علم الله وحكمته، وكان ماء البحار حبرا، والقلم يكتب، لنفد ماء البحر قبل أن يفرغ من كتابة ذلك، ولو جيء بمثل البحر بحر آخر وآخر، فإن كلمات
(٢) أي تحولا إلى غيرها.
(٣) أي حبرا. [.....]
(٤) معلوماته.
(٥) فني.
(٦) عونا.
والشرك مرفوض بنوعيه: الشرك الظاهر كعبادة الأوثان، والشرك الخفي كفعل شيء رياء أو سمعة وشهرة، والرياء: هو الشرك الأصغر، كما
جاء في حديث الإمام أحمد عن محمود بن لبيد، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا: وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال: الرياء، يقول الله يوم القيامة إذا جزى الناس بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا، فانظروا، هل تجدون عندهم جزاء».
وسبب نزول آية: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي.. هو ما
رواه الحاكم وغيره عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه: فنزلت: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)
وقالت اليهود: أوتينا علما كثيرا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة، فقد أوتي خيرا كثيرا، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩).
وسبب نزول آية فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً الآية. هو ما
رواه ابن أبي حاتم وغيره عن طاوس قال: قال رجل: يا رسول
ضمت الآية بشارة المؤمنين الصالحين بجنان الفردوس العليا، وأخبرت عن سعة علم الله وإحاطته بكل شيء، وعن بشرية محمد والرسل، وعن توحيد الله في الألوهية والربوبية، وحضّ الناس المؤمنين بلقاء الله على العمل الصالح وتجنب الشرك الظاهر والخفي.