تفسير سورة آل عمران

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة آل عمران من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة آل عمران
صفات الله وإنزال الكتب الإلهية
افتتح الله تعالى أول سورة آل عمران المدنية النزول ببيان صفاته العليا، وقدرته الخارقة، وعلمه الدقيق الشامل، وخلقه بني آدم ورعايته لهم، وإنزاله الكتب الإلهية لترشد الناس إلى طريق الحق والخير، وتهديهم إلى الصراط المستقيم، فقال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١ الى ٦]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
«١»
«٢»
«٣»
[آل عمران: ٣/ ١- ٦].
الله الإله بحق، لا معبود بحق في الوجود إلا هو، فليس في الوجود صاحب سلطة قادرة على قهر النفوس وإخضاعها لهيمنته، وبيدها الخير ومنع الضر إلا الله وحده دون سواه، هو الحي الدائم الحياة التي لا أول لها، فلو تعرض لموت ولو ساعة، أو لقهر من غيره، لم يكن إلها، وهو القيوم أي القائم على خلقه بالتدبير والتصريف، فبقدرته قامت السماوات والأرض، ودوامها مقصور على إرادته ومشيئته وقدرته.
(١) دائم الحياة، والدائم القيام بتدبير خلقه.
(٢) أي ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين.
(٣) قوي غالب لا يغلب.
172
والله الإله بحق هو الذي أنزل القرآن على قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم إنزالا مقرونا بالحق، أي باستحقاق أن ينزّل، لما فيه من المصلحة الشاملة، ومشتملا على الحقائق الثابتة من خبر وأمر ونهي ومواعظ، وهذا القرآن مصدّق لما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله، ومؤكد ما أخبرت به وبشرت، والله هو الذي أنزل التوراة على عبده ونبيه موسى، والإنجيل على عبده ونبيه عيسى، فليس المنزّل للكتب على الأنبياء بشرا عاديا من الناس. وتتضمن هذه الكتب الإلهية هداية الناس وإرشادهم إلى الطريق السوي، وإلى الوحي الحكيم وتشريع الشرائع، وأنزل الله في هذه الكتب الفرقان الذي يفرق بين الحق والباطل بالدلائل والبراهين، ووهب الله العقل والفهم للناس ليدركوا ما هو حق ثابت، ويقاوموا ما هو شر زائل.
فكيف يكون إلها من ليس متصفا بهذه الصفات، وإن الذين كفروا بآيات الله الواضحة التي تدل على كمال وصفه وسمو نعته بكل صفات الجمال والجلال والألوهية والربوبية، لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب في الآخرة، وبما كانوا يظلمون، والله قوي لا يغلب، منتقم جبار ممن يشرك به شريكا آخر، وهو الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
ومن مظاهر قدرة الله التي لا تتوافر إطلاقا لغيره: أنه هو الذي يصوّر ويكوّن البشر في الأرحام كيف يشاء من ذكورة وأنوثة، وخصائص وطباع وطول وقصر، وألوان من سواد وبياض ونحو ذلك، وكل ذلك دليل قاطع على أن هذا الخالق المبدع هو الله الذي لا إله إلا هو العزيز (الغالب) الحكيم (ذو الحكمة أو المحكم في مخلوقاته).
أفيعقل بعد هذا أن يدعي أحد أنه هو الله، أو يوصف من أحد أنه هو الله، إن ذلك هو الافتراء المبين، والضلال الواضح، والإفك والكذب القاطع.
173
المحكم والمتشابه في القرآن
آيات القرآن نوعان: محكمات أي ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها، ومتشابهات: أي التي لم يظهر معناها ولم يتضح، بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد.
أما الآيات المحكمات: فهي جميع الآيات المتعلقة بالتكاليف الشرعية التي تخص العباد، فهذه لا غموض فيها ولا التباس، مثل فرائض الصلاة والصيام، والحج والزكاة، والإحسان إلى الوالدين وتحريم المحرمات من النساء وتحريم بعض المطعومات والمشروبات كالميتة والدم، والخمر ولحم الخنزير والمذبوح لغير الله، ومثل عبودية الرسل والأنبياء لله وكونهم بشرا في غير النبوة والوحي مثل نوح وإبراهيم وعيسى وموسى ومحمد عليهم السلام، وأما الآيات المتشابهات: فهي التي لا تتعلق بالتكاليف الشرعية، والعلم بها نوع من الترف العقلي والفلسفات التي تختص بالعلماء وأهل النظر والفكر، وهي أنواع، منها لا يمكن العلم به إطلاقا كأمر الروح، وأوقات الأشياء الغيبية التي قد أعلم الله بوقوعها واختص بمعرفتها، مثل وقت قيام الساعة، وخروج يأجوج ومأجوج، وقيام دابة من الأرض تكلم الناس، ومجيء الدجال، ونزول عيسى عليه السلام، ونحو الحروف المقطّعة في أوائل السور، ومن الآيات المتشابهة ماله أكثر من معنى في اللغة ووجوه ومناح في كلام العرب، كقوله تعالى في شأن عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: ٤/ ١٧١]. وقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: ٣/ ٥٥]. وكقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) [طه: ٢٠/ ٥]. وقوله سبحانه: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: ٤٨/ ١٠].
فهذه آيات متشابهات تحتمل عدة معان، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد، فهي مما استأثر الله بعلمها لأنها من أحوال الآخرة، أو يعلم الله تعالى بها علما تاما على الاستيفاء والشمول، وقد يعلم بعض جوانبها دون استيفاء الراسخون في
174
العلم إذا كانت ذات ظواهر علمية دنيوية، ودور العلماء فيها: إدراك بعض النواحي منها المتعلقة بالحس والعقل، وترك حقيقة المغيبات إلى الله تعالى، سبيلهم التسليم إلى الله، قائلين: آمنا بذلك، كل من عند ربنا. وهكذا فإن المحكم: ما لا يحتمل إلا تأويلا واحدا. والمتشابه: ما احتمل من التأويل أوجها.
قال الله تعالى مبينا المحكم والمتشابه وموقف الناس منهما:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧ الى ٩]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥»
[آل عمران: ٣/ ٧- ٩].
والسبب في اشتمال القرآن على بعض الآيات المتشابهات: هو تمييز الصادق الإيمان من ضعيفة، وإعطاء الفرصة لعقل المؤمن، من أجل البحث، والنظر والتأمل حتى يصل إلى حد العلم الناضج، فيكون الناس على درجات، كل يفهم بقدر عقله وإدراكه، ولكن لا يصح لأحد أن يتصيد من القرآن أو من المتشابهات ما يتفق مع هواه وزيغه، وضلاله وانحرافه، فعلى أهل العلم والعقول الصافية التزام جانب العقيدة الصحيحة المتفقة مع ظواهر القرآن وآياته المحكمة، وهم يقولون: ربنا لا تمل قلوبنا عن الحق بعد هدايتك لنا، وهب لنا من لدنك رحمة ترحمنا وتوفقنا إلى الخير والسداد، إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس يوم القيامة، يوم لا شك فيه، فاغفر لنا ووفّقنا واهدنا، إنك لا تخلف الميعاد.
(١) واضحات الدلالة من غير أي اشتباه.
(٢) أصله الذي يرد إليه.
(٣) خفيات لا تتضح إلا بنظر دقيق.
(٤) ميل وانحراف عن الحق. [.....]
(٥) لا تملها عن الحق والهدى.
عاقبة الاغترار بالمال والولد
يغتر بعض السطحيين من الناس بما لديهم من ثروات وأموال وأولاد وذرية، ويظنون أنهم أرفع من غيرهم في الدنيا، وأحسن حالا وعاقبة في الآخرة، ولم يدروا أن المال والولد عرض زائل وظل مائل، وأن الخير في اتباع سبيل الهدى والعمل الطيب، وقد انخدع أعداء المسلمين في بداية عهد الإسلام وسيطر عليهم غرور المال وكثرة الولد والاعتزاز بالقبيلة، فأبان الله سبب عنادهم وغرورهم الزائف في أموالهم وأولادهم: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (٣٥) [سبأ: ٣٤/ ٣٥].
وردّ الله عليهم في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، كما في هذه الآيات التالية:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠ الى ١٣]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
«١»
«٢»
«٣»
[آل عمران: ٣/ ١٠- ١٣].
قال ابن عباس: إن يهود أهل المدينة قالوا: لما هزم الله المشركين يوم بدر: هذا والله النبي الأمي الذي بشرنا به موسى، ونجده في كتابنا بنعته وصفته، وأنه لا ترد له راية، فأرادوا تصديقه واتّباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجّلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى. فلما كان يوم أحد ونكب أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم شكّوا، وقالوا: والله، ما هو به. وغلب عليهم الشقاء، فلم يسلموا، وكان بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد إلى مدة، فنقضوا ذلك العهد، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة
(١) كعادة وشأن.
(٢) بئس الفراش والمضجع جهنم.
(٣) لعظة ودلالة.
176
- أبي سفيان وأصحابه- فوافقوهم وأجمعوا أمرهم، وقالوا: لتكونن كلمتنا واحدة، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢).
وقال محمد بن إسحاق: لما أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا ببدر، فقدم المدينة، جمع اليهود وقال: «يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، وأسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم» فقالوا: يا محمد، لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا (جهلاء) لا علم لهم بالحرب، فأصبت فيهم فرصة!! أما والله لو قاتلناك لعرفت أنا نحن الناس، فأنزل الله تعالى: قل للذين كفروا- يعني اليهود- ستغلبون- تهزمون- وتحشرون إلى جهنم في الآخرة.
ومعنى الآيات: إن الذين كذبوا بآيات الله ورسله، لن تكون أموالهم ولا أولادهم بدلا لهم من الله ورسوله تغنيهم يوم القيامة، فإن استمروا في غيهم وضلالهم، فأولئك البعيدون في درجات العتو والفساد وهم وأصحابهم وقود النار الذي توقد به من حطب أو فحم لأن حالهم كحال آل فرعون وقبائل عاد وثمود، كانوا قد كذبوا بآيات الله، فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والله شديد قوي العقاب، سريع الحساب. قل لهم يا محمد: ستغلبون أيها اليهود في الدنيا عن قريب، كما حدث في معاركهم مع المسلمين، وستحشرون في الآخرة إلى جهنم، وبئس المهاد: الفراش الممهّد، وتالله لقد كان لكم آية عظيمة دالة على صدق القرآن فيكم في لقاء فئتين في موقعة بدر، فئة معتزة بكثرة مالها وعددها، كافرة بالله، والأخرى فئة قليلة العدد، صابرة، مؤمنة بالله، تقاتل في سبيل الله، انتصرت على الفئة الكثيرة من المشركين الذين يقاتلون في سبيل الشيطان.
177
حب الدنيا وما هو خير منها
الإسلام دين الاعتدال والاتزان والوسطية، فليس العمل في مجاله مقصورا على الدنيا، ولا مقصورا على الزهد والآخرة، وليس هو دين رهبنة وتقشف وإهمال للدنيا، ولا دين أخلاق وعبادة وعقيدة فحسب، وإنما هو دين شامل لمصالح الدنيا والآخرة، ويقترن فيه العمل والاعتقاد، والعبادة والاحتراف، والمادة والروح، قال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) [الأعراف: ٧/ ٣٢].
ليس ممنوعا على المسلم حب الدنيا ومظاهرها، ولكن الممنوع المبالغة والإسراف فيها، والاقتصار عليها، حتى تطغى على الناحية الدينية، وتهمل أمور الآخرة. ولذا وبّخ الله سبحانه وتعالى الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويقصرون هممهم عليها، فقال عز وجل:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
«١»
«٢»
«٣»
«٤»
«٥»
«٦»
[آل عمران: ٣/ ١٤].
والمعنى: قد زيّن الله حب الدنيا للناس وغرس حبها في قلوبهم حتى صار غريزة عندهم، وذلك من أجل تعمير الدنيا وتقدمها، فلو لم يحبها الناس لأهملوها وقصّروا في بناء معالمها، وشهوات الدنيا كثيرة تشتمل على حب النساء والأبناء وتكديس الأموال، وجمع الخيول المسومة أي المعلمة أو السائمة التي ترعى في المروج والمراعي، واقتناء الأنعام (المواشي) وزرع الحبوب وإعداد البساتين، وذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها أي ما يستمتع به وينتفع به لمدة معلومة محصورة، وتذم هذه الأشياء إن
(١) المشتهيات طبعا.
(٢) المضاعفة.
(٣) المعلمة.
(٤) الإبل والبقر والغنم والمعز.
(٥) المزروعات.
(٦) المرجع الحسن.
كانت سببا للشر والبعد عن الله، وعند ذلك تكون خطرا على صاحبها، أما إن كانت سببا في الخير، ولم تمنع صاحبها من القيام بواجباته الدينية والخيرية والإنسانية، فتكون خيرا له، وعند الله حسن المرجع والمآب.
ثم نبّه القرآن الكريم إلى ما هو خير من الدنيا، فقال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥ الى ١٧]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
«١»
«٢»
[آل عمران: ٣/ ١٥- ١٧]. فالذي هو خير من الدنيا وزينتها هو ما عند الله للمتقين الأبرار من الجنات التي تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار، ماكثين فيها على الدوام أبدا، لا يرغبون في بديل عنها، ولهم زوجات طاهرات من دنس الفواحش والشوائب، وهذا هو الجزاء المادي، وهناك جزاء روحي أرفع منه وهو رضوان الله على عباده الأتقياء، وهو أكبر وأعظم من كل نعمة، قال الله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٧٢) [التوبة: ٩/ ٧٢].
وهذا الجزاء المادي والروحي هو للمتقين الله حقيقة الذين يقولون: ربنا إننا آمنا بك وبرسلك وكتبك إيمانا حقيقيا صادقا يملأ قلوبنا، فاغفر لنا ذنوبنا، وقنا عذاب النار. وهؤلاء المؤمنون الأتقياء صابرون على تقوى الله وعلى قضاء الله وعلى كل مكروه، وقانتون خاشعون لله متضرعون إليه، ومنفقون أموالهم في سبيل الله ندبا ووجوبا، ومستغفرون الله بالأسحار أي قبل طلوع الفجر، وفي هذا الوقت يكون
(١) المطيعين لله الخاشعين.
(٢) الاستغفار: طلب المغفرة من الله تعالى، والأسحار أواخر الليل إلى طلوع الفجر.
الدعاء مستجابا، ورحمة الله شاملة للتائبين من العصيان.
قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ فلا يزال كذلك حتى يطلع الفجر» «١».
الشهادة بوجود الله ووحدانيته وبأحقية دينه
قامت الأدلة الكثيرة والبراهين القطعية من خلق الكون وتدبيره على وجود الله وتوحيده، وشهدت العوالم المخلوقة شهادة إقرار وعلم ويقين وإظهار وبيان أن الله تعالى واحد لا شريك له، وأنه قائم موجود بالعدل والحق في كل شيء، في الدين والشريعة والكون والطبيعة، وفي العبادات والمعاملات والآداب، أتقن الله نظام الكون وأحكمه، وعدل بين القوى الروحية والمادية، وكانت الأحكام الشرعية مبنية على أساس التوازن الدقيق بين الفرد والأمة، وبين الفرد والخالق، وبينه وبين نفسه، وبينه وبين أخيه، وبين الأغنياء والفقراء، وبين الدنيا والآخرة، والعقيدة والعمل، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
«٢»
[آل عمران: ٣/ ١٨].
قال الكلبي مبينا سبب نزول هذه الآية: لما ظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فلما أبصرا المدينة، قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان. فلما دخلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟
قال: نعم. قالا: إنا نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدّقناك.
(١) أخرجه الصحيحان وغيرهما.
(٢) بالعدل. [.....]
فقال لهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله.
فأنزل الله تعالى على نبيه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ فأسلم الرجلان، وصدّقا برسول الله صلّى الله عليه وسلم.
وبما أن الله يحب عباده، ويرغب لهم بالخير، أورد عقب الآية السابقة ما ارتضاه وأحبه لعباده منذ أن خلق الخلق وإلى يوم القيامة وهو الإسلام، أي الخضوع والانقياد لله والإيمان به والطاعة، ولا خلاف بين جميع الأنبياء والمرسلين في جوهر الدين وهو الإسلام والسلام والإخاء والمحبة، والتوحيد والعدل في كل شيء، ولم يقع الخلاف بين أهل الكتاب وأتباع الأديان إلا بسبب الحسد والبغي أو الظلم والحفاظ على المراكز القائمة والمصالح المادية، والحرص على الدنيا وما فيها، فمن يكفر بآيات الله الدالة على وجوده وتوحيده وصدق أنبيائه، فإنه ظلم نفسه، والله مجازيه وهو سريع الحساب وشديد العقاب.
وإن حدث جدال بين النبي أو أتباعه وبين أهل الأديان الأخرى، فليقل المؤمن:
قد أسلمت وجهي لله وانقدت له وأقبلت عليه بعبادتي مخلصا لله وحده، معرضا عما سواه، فإنه أسلم هؤلاء المعارضون لهدي الله وقرآنه، فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا فما على الداعية أو الرسول إلا الإبلاغ فقط، والله بصير بخلقه، عليم بحالهم، فيحاسبهم ويجازيهم، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)
«١»
«٢»
«٣»
«٤»
(١) الشرع القائم على التوحيد مع التصديق والعمل به.
(٢) حسدا.
(٣) أخلصت نفسي وعبادتي لله.
(٤) مشركي العرب.
[آل عمران:
٣/ ١٩- ٢٠].
جزاء قتل الأنبياء وحكم الإعراض عن بيان الله
لن يغتفر التاريخ جرائم قتلة أهل الحق والدفاع عن القيم الدينية وعن مصالح الأوطان وحماية البلاد، ولن ينجو قتلة الأنبياء وقتلة أهل المعروف من العقاب الشديد في الآخرة، وهؤلاء المجرمون بطلت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وما لهم في الآخرة من ناصرين ولا شفعاء، لأنهم حرموا المجتمع والأمة من الخير والاهتداء بهدي الله ودينه، وصدّوا الأنبياء عن قول الحق وتبليغ الرسالة، وآذوا بالقتل وغيره كل من آزرهم ونصرهم، ونصحهم وأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر من أهل العلم والعدل، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
«١»
«٢»
[آل عمران: ٣/ ٢١- ٢٢].
روى ابن جرير الطبري وابن أبي حاتم عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أي الناس أشد عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيا، أو قتل من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) ثم قال الرسول: «يا أبا عبيدة قتلت بنو
(١) أي بالعدل.
(٢) أي بطلت أعمالهم.
إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار، في ساعة واحدة، فقام مائة وسبعون رجلا من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فقتلوهم جميعا من آخر النهار، من ذلك اليوم، فهم الذين ذكر الله عز وجل».
ثم أبان الله تعالى في قرآنه حكم المعرضين عن بيان الله وهديه، والمعرضين عن القرآن وإرشاده، فقال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥)
«١»
«٢»
«٣»
[آل عمران: ٣/ ٢٣- ٢٥].
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دخل بيت المدارس «٤»
على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، والحارث بن زيد من يهود بني قينقاع: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنا على ملة إبراهيم، فقالا: فإن إبراهيم كان يهوديا، فقال لهما النبي عليه السلام: «فهلموا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم» فأبيا عليه، فنزلت هذه الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.
إن هؤلاء المعادين يترددون في قبول حكم الله، ثم يعرضون عن قبول كتاب الله، وشأنهم دائما الإعراض والعناد، وما شجعهم على هذا العناد والجحود إلا اعتقادهم الباطل أنهم لا تصيبهم النار إلا أياما قليلة، ثم يدخلون الجنة في زعمهم، وهذا مجرد وهم وافتراء، فلقد غرهم ما كانوا يختلقون في الدين، كقولهم: إن الأنبياء ستشفع
(١) أي اليهود.
(٢) خدعهم وأطمعهم في غير مطمع.
(٣) أي يختلقون ويكذبون على الله.
(٤) المدارس:
الموضع الذي يدرس فيه كتاب الله.
لنا، ونحن أولاد الأنبياء، وأحباء الله، وشعب الله المختار، وستتبدد كل هذه الدعاوي إذا جمعهم الله يوم القيامة الذي لا شك فيه، وتوفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر، وهم لا يظلمون.
من أدلة قدرة الله تعالى
كان المشركون ينكرون النبوة لشخص بشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وأنكر أهل الكتاب النبوة في غير بني إسرائيل، وتعجب المنافقون واليهود من بشائر النبي صلّى الله عليه وسلّم لأمته،
روى الواحدي عن ابن عباس وأنس بن مالك قالا: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة، ووعد أمته ملك فارس والروم، قال المنافقون واليهود: هيهات هيهات، من أين لمحمد ملك فارس والروم؟ هم أعز وأمنع من ذلك «١»، ألم يكف محمدا مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
«٢» «٣» [آل عمران: ٣/ ٢٦- ٢٧].
وقال قتادة: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله تعالى: قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ.. الآية.
هذه بعض الأدلة على قدرة الله تعالى وعظمته، فهو مالك الملك، وهو المعطي والمانع، يؤتي الملك والنبوة من يشاء من عباده كآل إبراهيم، قال الله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء: ٤/ ٥٤].
(١) أي هم أشد وأقوى من ذلك.
(٢) تدخل.
(٣) بلا نهاية في العطاء.
184
وقد يعطي الله ملكا فقط كسائر الملوك الدنيويين القدامى والمعاصرين، وقد ينزع الله الملك ممن يشاء من الأفراد والأمم بسبب ظلمهم وفسادهم وسوء سياستهم، كما نزع الملك من كثير من الدول والأشخاص، والله سبحانه يعز من يشاء ويذلّ من يشاء، والعزة والذلة لا تتوقف على الملك أو المال، فكل إنسان معرض للذل والعز بمقتضى إرادة الله، والله وحده بيده الخير، فكل ما كان أو يكون لا يخلو من خير ونعمة، لصاحبه نفسه أو لغيره من الناس، إن الله قدير تام القدرة على كل شيء، ولا يفعل شيئا إلا بمقتضى الحكمة والمصلحة والعدل.
ومن أدلة قدرة الله تعالى وتمام ملكه وعظمته: أن الله يدخل الليل في النهار فيزيد منهما وينقص، ويدخل النهار في الليل زيادة ونقصا، بيده الأمر، والكون في قبضته، والسماوات والأرض مطويات بيمينه. وهو سبحانه يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي حياة مادية واضحة كإخراج النبات الرطب من الحب اليابس وعلى العكس، وحياة معنوية ملحوظة كإخراج العالم من الجاهل، والجاهل من العالم، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
ومن أدلة قدرة الله أنه يرزق جميع المخلوقات في الدنيا والآخرة، يرزق من يشاء بغير حساب يطلب منه، ولا رقيب عليه، وبغير تعب ولا مشقة، فله سبحانه خزائن السماوات والأرض، التي لا تنفد ولا تغيض، ولا تفنى ولا تنقص، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو الخالق لكل شيء.
موالاة الأعداء
المسلم قاعدة صلبة وأمينة في بنية المجتمع الإسلامي، فلا يفرّط في حق من حقوق أمته، ولا يغدر ولا يخون ولا يغش أحدا، ولا يكون جاسوسا للأعداء، ولا يظهر
185
اللطف لهم والميل إليهم إلا بمقدار ما تقتضيه المصلحة العامة العليا، ولا يناصر الأعداء، أو يعمل ضد مصلحة أمته المؤمنة.
وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم في آيات كثيرة، وهدد المخالفين المتواطئين على مصلحة الأمة ومصيرها، فقال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٢٨]
لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ٢٨]. فلا تجوز موالاة الأعداء ومناصرتهم فهذا أمر ينفّر منه الشرع ولا يقره الدين في أي حال، إلا في حال الخوف منهم واتقاء أمر يجب اتقاؤه كالقتل وقطع الأعضاء والضرب بالسوط والسجن والتهديد والوعيد وسائر أنواع التعذيب،. وذلك إذا كان المرء في دار الأعداء، فإذا داراهم الإنسان أحيانا باللسان فقط وتحاشى أذاهم، فذلك أمر جائز شرعا، ويكون المؤمن في هذه الحال مكرها، والله تعالى يقول: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ. [النحل: ١٦/ ١٠٦].
وسبب نزول آية النهي عن موالاة الأعداء: هو ما قاله الكلبي: نزلت هذه الآية في المنافقين عبد الله بن أبيّ وأصحابه، كانوا يتولون اليهود والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، ويرجون أن يكون لهم الظفر على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونهى المؤمنين عن مثل فعلهم.
وهناك سبب آخر ذكره ابن عباس، فقال: نزلت الآية في عبادة بن الصامت الأنصاري، وكان بدريا نقيبا «٣»، وكان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي الله، إن معي خمس مائة رجل من اليهود، وقد رأيت
(١) تخافوا من جهتهم أمرا. [.....]
(٢) يخوفكم الله.
(٣) أي حضر موقعة بدر الكبرى، وحضر بيعة العقبة وكان أحد النقباء (العرفاء) الاثني عشر الذين اختارهم النبي عرفاء على قومهم.
أن يخرجوا معي، فأستظهر بهم على العدو، فأنزل الله تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ الآية. ثم هدد الله المخالفين المتواطئين على مصير أمتهم بقوله:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ٢٩- ٣٠].
والمعنى: إن الله تعالى يعلم كل ما يخفيه الناس في صدورهم، أو يظهرونه، والله يعلم أيضا جميع ما يحدث في السماوات والأرض، ومن ذلك الميل إلى الأعداء أو البعد عنهم، والله تام القدرة على كل شيء.
وليحذر الإنسان يوم القيامة الرهيب، ففيه يجد كل إنسان ما قدمه من عمل خير أو شر، قليل أو كثير، فإن كان العمل خيرا سرّ صاحبه، وإن كان شرا ودّ صاحبه أن يكون بينه وبين عمله بعد ما بين المشرقين. ويحذر الله الناس عقابه الصارم إن خالفوا، والله رؤف بالعباد إن أطاعوا والتزموا الأوامر واجتنبوا النواهي.
والخلاصة: حرّم الله إفشاء الأسرار للأعداء التي تضر الجماعة الإسلامية، ولا مانع من معاملة غير المسلمين معاملة حسنة إذا لم يتآمروا علينا أو يضرونا بضرر، وأما الأعداء الذين أخرجوا المسلمين من بلادهم كفلسطين وغيرها، فلا تحل موالاتهم، بل تجب معاداتهم حتى نحرر الأراضي المحتلة.
(١) مشاهدا في الصحف.
(٢) يخوفكم الله ذاته.
الطاعة والولاء أساس المحبة
يزعم بعض الناس أنهم يحبون الله ورسوله، ولكنهم لا يتبّعون شيئا من أوامر الله ورسوله، ولا يلتزمون جادة الطاعة، وتراهم في واد وأحكام الشرع في واد آخر، ومثل هذا الموقف لون من ألوان التناقض الذي لا يقره شرع ولا عقل، ونوع من أنواع الازدواجية الممقوتة التي يلبس فيها الإنسان لباسين ويتحلى بحلتين.
فمن أهم ركائز المحبة إظهار الطاعة، والانقياد للأوامر الإلهية، لذا قال الإمام الشافعي:
تعصي الإله وأنت تظهر حبه هذا لعمري في القياس بديع
لو كنت تظهر حبه لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
وتكررت أوامر القرآن الكريم بالطاعة، فقال الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) [الأنفال: ٨/ ٢٠]. ووبّخ أولئك الذين يدّعون محبة الله ورسوله، ويعصون أوامرهما، فقال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣١ الى ٣٢]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
[آل عمران: ٣/ ٣١- ٣٢].
ذكر العلماء عدة أسباب متشابهة لنزول هذه الآية، ولا مانع من تكرار الأسباب، واتحاد الجواب،
قال الحسن البصري وابن جريح، زعم أقوام على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنهم يحبون الله، فقالوا: يا محمد، إنا نحب ربنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال ابن عباس: وقف النبي صلّى الله عليه وسلّم على قريش، وهم في المسجد الحرام، وقد نصبوا أصنامهم، وعلّقوا عليها بيض النّعام، وجعلوا في آذانها الشنوف «١»، وهم يسجدون
(١) أي حلي الآذان.
188
لها، فقال: يا معشر قريش، لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم وإسماعيل، ولقد كانا على الإسلام، فقالت قريش: يا محمد، إنما نعبد هذه حبا لله، ليقربونا إلى الله زلفى.
فأنزل الله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
وتعبدون الأصنام لتقربكم إليه، فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ فأنا رسوله إليكم وحجته عليكم، وأنا أولى بالتعظيم من أصنامكم.
وقال ابن عباس أيضا: إن اليهود لما قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه، أنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت عرضها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اليهود، فأبوا أن يقبلوها.
ومضمون الآيتين: قل لهم يا محمد: إن كنتم تحبون الله حقيقة، فاتبعوني فإن ما جئت به هو من عند الله، والمحب المخلص الصادق حريص على إرضاء المحبوب، وامتثال أمره واجتناب نهيه، فإن اتبعتموني يحببكم الله ويوفقكم للخير، ويغفر لكم ذنوبكم، والله غفور رحيم.
قل لهم يا محمد: أطيعوا الله باتباع كلامه، واتبعوا الرسول باتباع منهجه وسنته، والاهتداء بهديه واقتفاء أثره، فإن تولوا وأعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا منهم بدعوى أنهم محبون لله وأنهم أبناؤه، فاعلم أن الله لا يحب الكافرين الذين لا يتأملون في آيات الله، ولا يهتدون إلى الدين الحق والشرع الحنيف، ومعنى قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أنه يعذبهم ويعاقبهم على كفرهم بالله وبرسوله، وهذا وعيد وتهديد يستحق التأمل والتعقل.
اصطفاء الأنبياء
يختار الله عز وجلّ أنبياءه ورسله، لما يجده فيهم من مقومات عظيمة ومؤهلات عالية، ولما يراه مناسبا لقومهم، ويلائم عصرهم وزمانهم. وهذا منهج يتبعه القادة والحكام، فإنهم يبعثون الرسل والسفراء إلى أمراء العالم وحكامهم، ويختارونهم
189
اختيارا موفقا يؤدون فيه مهامهم أداء حسنا. غير أنه مع الأسف الشديد يرفض بعض الجهلاء هذا المبدأ العقلي السليم، فهؤلاء المشركون وأهل الكتاب كانوا ينكرون على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم نبوته لأنه بشر مثلهم، وليس من بني إسرائيل، فيرد الله عليهم: إن الله اصطفى آدم أبا البشر ونوحا الأب الثاني، واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم، ومن آل إبراهيم آل عمران.
والمشركون الوثنيون يعترفون باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم، لأنهم من سلالته، وبنو إسرائيل يعترفون بهذا وباصطفاء آل عمران، لأنهم من سلالة (إسرائيل) يعقوب حفيد إبراهيم.
وإذا كان الله اصطفى هؤلاء على غيرهم من غير مزية سبقت، فما المانع من اصطفاء محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك على العالمين، كما اصطفى آل عمران على غيرهم.
واصطفى: أي اختار صفو الناس.
لقد أوضح القرآن الكريم سنة الله تعالى في اختيار الرسل، فقال:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
«١» [آل عمران: ٣/ ٣٣- ٣٤].
والمعنى: إن الله اختار آدم أبا البشر، فجعله نبيا إلى بنيه، واختار الله نوحا وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان، وانتقم الله بإغراقهم، ونجاته هو ومن اتبعه. واختار الله للنبوة والرسالة آل إبراهيم الخليل، ومنهم سيد البشر وخاتم النبيين محمد. واصطفى الله من ذرية إبراهيم آل عمران، وعمران هذا: هو أب مريم وجدّ عيسى عليه السلام.
(١) اختار.
اختار الله هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وخيارهم، وجعل فيهم النبوة والرسالة.
ثم ذكر الله تعالى قصة مريم، فكما أنها ولدت من أم عاقر، على خلاف المألوف أو المعهود، وقبلت في خدمة البيت أو هيكل العبادة، بالرغم من أنها أنثى، فلم يستغرب المشركون واليهود أن يرسل الله نبيا عربيا ليس من ذرية إسرائيل (يعقوب).
وأم مريم بنت عمران: هي حنة بنت قاذوذ، وقصتها في القرآن هي:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٥ الى ٣٧]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧)
«١» «٢» «٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ٣٥- ٣٧].
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام واصطفاء مريم
تعجب زكريا عليه السلام من حال مريم البتول القانتة المتفرغة للعبادة، وما يجده عندها من رزق وفير، فدعا ربه أن يرزقه ولدا صالحا من ولد يعقوب عليه السلام، فبشرته الملائكة وهو يصلي في المحراب بيحيى عليه السلام، وهذا ما قصّته علينا الآيات التالية:
(١) أي معتقا خالصا للعبادة وخدمة المسجد.
(٢) أي العابدة خادمة الرب.
(٣) أي أحصّنها وألجأ إليك لحمايتها وصونها.
(٤) المحراب: المبنى الحسن كالغرف الخاصة والعلالي ونحو ذلك، ومحراب القصر:
أشرف ما فيه، وموقف الإمام أشرف ما في المصلى.

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٣٨ الى ٤٤]

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [آل عمران: ٣/ ٣٨- ٤٤].
دعا زكريا عليه السلام أن يرزقه الله ولدا صالحا، مثل مريم، من ولد يعقوب عليه السلام، قائلا: يا رب أعطني من عندك أولادا طيبين، لأنهم فرحة العين، ومجلى القلب، إنك سميع قول كل قائل، مجيب دعوة كل دعاء صالح.
فخاطبته الملائكة شفاها، والمخاطب: هو جبريل عليه السلام، وذلك أثناء قيامه للصلاة، يدعو الله، ويصلي في المحراب، وقالت له: إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى، مصدقا بعيسى الذي ولد ونشأ بكلمة الله: (كن) لا بالطريقة المعتادة من الولادة من أب وأم. ويكون سيد قومه، وزاهدا مانع نفسه من الشهوات، ونبيا يوحى إليه.
وبشارة أخرى أن يحيى عليه السلام سيد قومه، والمحصّن والمعصوم من الذنوب،
(١) لا يأتي النّساء مع القدرة تعففا وزهدا.
(٢) كيف يكون؟
(٣) عقيم لا تلد لبلوغها ٧٨ سنة.
(٤) تعجز عن مكالمتهم بغير آفة إلا إيماء وإشارة. [.....]
(٥) صلّ من الزوال إلى الغروب.
(٦) يطرحون سهامهم للاقتراع بها.
192
والمانع نفسه من شهواتها، وهو نبي صالح يوحى إليه، وهذه بشارة أخرى بنبوة يحيى، بعد البشارة بولادته.
تعجب زكريا عليه السلام من هاتين البشارتين، فقال: كيف يكون لي غلام، وقد أصبحت كبير السن، وامرأتي عقيم لا تلد، فأجابته الملائكة: كذلك الله يفعل ما يشاء، أي مثل ذلك الخلق غير المعتاد الحاصل مع امرأة عمران، يفعل الله ما يشاء في الكون. فطلب زكريا من ربه أن يجعل له علامة تدل على الحمل ووجود الولد منه، استعجالا للسرور، أو ليشكر تلك النعمة، فجعل الله علامة ذلك ألا يقدر على كلام الناس مدة ثلاثة أيام متوالية، إلا بالإشارة والرمز بيد أو رأس أو نحوهما.
وأمره الله أن يذكر ربه ويكبره ذكرا كثيرا، ويسبّحه أو ينزهه عما لا يليق به طوال الوقت، ولا سيما عند الصباح والمساء.
واذكر أيها النبي حين قالت الملائكة لمريم: يا مريم، إن الله لكثرة عبادتك وزهدك اختارك رمزا لسمو الأخلاق والصفات، وطهرك من الأكدار والعيوب، والوساوس والدناءات، وطهرك من عادات النساء كالحيض والنفاس والولادة من غير جماع، وفضلك على نساء العالمين في زمانك.
يا مريم، الزمي الطاعة والخضوع والخشوع لله، واسجدي له مع التعظيم، وصلّي جماعة مع المصلين.
تلك القصص التي أخبرناك عنها أيها النبي، من أخبار زكريا ويحيى ومريم: هي من أخبار الغيب التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك، وإنما هي بالوحي الذي أوحينا به على يد جبريل الأمين، ولم تكن حاضرا معهم حينما جاءت امرأة عمران، وألقت مريم في بيت المقدس، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها.
193
ولم تكن حاضرا حين تنازعوا في كفالتها، وأخذوا يقترعون في شأن الكفالة، لأنك أمي، فلم يبق لك طريق للعلم إلا الوحي من الله تعالى.
قصة عيسى عليه السلام
- ولادته وبعثته ومعجزاته-
قصص القرآن العجيبة مدعاة للإيمان والاعتبار والاتعاظ، وهي غالبا قصص للأنبياء والمرسلين تتضمن المعجزات والدلائل الدالة على صدق الوحي والرسالة والنبوة، وتظل ناطقة بقدرة الله تعالى على الاستثناءات كما هي في الأحوال المعتادة، حيث يخلق الله تعالى المعجزة على يد نبي أو رسول، لتدل على صدقه في دعواه الرسالة أو النبوة، ومن هذه القصص ما مرّ سابقا من قصص زكريا ويحيى ومريم، وما يذكر هنا من قصة ولادة عيسى من غير أب، ومعجزاته، وتعليم الله له الكتاب (الكتابة) والحكمة (العلم النافع) والتوراة والإنجيل، كما في الآيات التالية:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٤٥ الى ٥١]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩»
(١) المراد بها عيسى، سمي بالكلمة لأنه وجد بكلمة (كن فيكون) من غير وسائط.
(٢) ذا جاه وشرف.
(٣) في السرير وقت الرضاع.
(٤) عهد اكتمال القوة.
(٥) أراد شيئا أو حتّمه.
(٦) الصواب في القول والعمل.
(٧) أصور وأقدر.
(٨) الذي ولد أعمى.
(٩) الذي به برص أي بياض في الجلد منفر.
194
«١» [آل عمران: ٣/ ٤٥- ٥١].
اذكر أيها النبي حين قالت الملائكة: يا مريم، إن الله يبشرك بمولود منك من غير أب هو الكلمة، أي وجد بكلمة كُنْ فَيَكُونُ من الله، من غير واسطة بشر، اسمه المسيح عيسى ابن مريم، فهو منسوب إليك، ولقب بالمسيح، لمسحه بالبركة أو بالدهن الذي يمسح به الأنبياء، وهو ذو جاه في الدنيا بالنبوة، وفي الآخرة بالشفاعة وعلو الدرجة، ومن المقربين إلى الله يوم القيامة.
ويكلم الناس وهو طفل صغير في المهد: مضجع الطفل حين الرضاع، وفي الكهولة: ما بعد الثلاثين أو الأربعين إلى الشيخوخة، أي يكلم الناس في الحالين بالوحي والرسالة، وهو من العباد الصالحين.
قالت مريم مستبعدة الأمر بحكم العادة: كيف يكون لي ولد، ولم يقربني رجل؟
فأجابها الوحي بالإلهام: مثل ذلك يخلق الله ما يشاء من العدم بمقتضى قدرته وحكمته، وإذا أراد أمرا أو شيئا ممكنا، أوجده بكلمة كُنْ فيكون كما أراد.
ويعلّم الله عيسى الكتابة والخط، والعلم النافع وفهم أسرار الأشياء، والتوراة التي أنزلها على موسى، والإنجيل: الكتاب الذي أوحي إليه من بعد ذلك.
ويرسله الله رسولا إلى بني إسرائيل: أني أنبئكم بعلامة دالة على صدق نبوتي ورسالتي، وهي أنني أصورّ لكم من الطين شيئا كهيئة الطير، فأنفخ فيه، فيصير حيا
(١) ما تتركونه مخبأ للأكل في المستقبل.
195
كهيئة سائر الطيور، بإرادة الله، فالخلق الحقيقي من الله، وأبرئ الأكمه: الذي ولد أعمى، والأبرص الذي به البرص: وهو بياض يظهر في الجلد منفّر، وخصّ هذان المرضان، لاستحالة الشفاء منهما في العادة الغالبة، وأحيي الموتى، وكل ذلك بإرادة الله تعالى، وأخبركم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم من الحبوب وغيرها، مما لا يطلع عليه الناس عادة، إن في جميع ما ذكر دليلا قاطعا، وحجة ظاهرة على صدق رسالتي، إن كنتم مصدقين بالرسالات الإلهية.
وجئتكم مصدقا لما سبقني من التوراة، عاملا بها، مخففا بعض أحكامها، أحل من الطيبات بعض ما حرم عليكم في التوراة، كلحوم كل ذي ظفر كالأوز والإبل، وشحوم الأنعام، وجئتكم بحجة شاهدة على صدقي من الله، فخافوا عذابه، وأطيعوني فيما دعوتكم إليه، وتابعوني في ديني ودعوتي لتوحيد الله. إن الله ربي وربكم، لا إله غيره ولا رب سواه، وأنا عبده، فاعبدوه وحده لا شريك له، هذا هو الطريق القويم الواضح الذي لا اعوجاج فيه.
عيسى عليه السلام مع قومه
دعا عيسى عليه السلام قومه الإسرائيليين إلى عبادة الله وحده، فآمن به بعضهم، وأعرض آخرون، وتلقى منهم الأذى والتهديد بالقتل، فأنجاه الله، وجوزي المؤمنون بمرضاة الله، وأنذر الله الكافرين بعذاب شديد، ورد على من زعم ألوهية عيسى، فليس مثله إلا مثل آدم، وجد بكلمة الله التكوينية، ودعي الخصوم إلى المباهلة (الدعاء باللعنة على الكاذبين) وذلك في الآيات التالية:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٥٢ الى ٦٣]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦)
وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
«١»
(١) أنصار عيسى وخلصاؤه.
196
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [آل عمران: ٣/ ٥٢- ٦٣].
أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن البصري قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم راهبا نجران، فقال أحدهما: من أبو عيسى؟ وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يعجل حتى يؤامر ربه، فنزل عليه: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إلى قوله: مِنَ الْمُمْتَرِينَ
وقال المفسرون: إن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مالك تشتم صاحبنا؟
قال: وما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال: أجل، إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن
(١) دبر تدبيرا محكما. [.....]
(٢) آخذك وافيا تاما بروحك وبدنك.
(٣) حاله وصفته العجيبة.
(٤) الشاكين.
(٥) أقبلوا عازمين.
(٦) ندع باللعنة.
197
كنت صادقا فأرنا مثله، فأنزل الله عز وجل هذه الآية: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ
لما شعر عيسى من قومه بني إسرائيل بالتصميم على الكفر، قال: من ينصرني ويعينني في الدعوة إلى الله، وتبليغ الرسالة إلى الناس؟ قال الحواريون (أنصاره وتلاميذه) الاثنا عشر رجلا: نحن أنصار دين الله ورسله، آمنا بالله وحده، واشهد يا عيسى بأننا مخلصون في إيماننا، منقادون لرسالتك، مطيعون لأوامرك.
ربنا إننا صدقنا بما أنزلت من الوحي على نبيك، وامتثلنا أوامر رسولك، فاجعلنا من الشاهدين يوم القيامة لك بالوحدانية، ولرسولك بالصدق.
- ومكر كفار بني إسرائيل، أي دبروا تدبيرا خفيا لقتل عيسى، وأبطل الله مكرهم ودبر تدبيرا محكما بإلقاء شبه عيسى على أحد الحواريين، ورفع عيسى إلى السماء، حيا بجسده وروحه، والله خير وأنفذ وأقوى المدبرين.
- واذكر أيها النبي حين قال الله تعالى: يا عيسى، إني مستوف أجلك في الدنيا، وقابضك، والتوفي: الإماتة العادية، ورافعك إلي بروحك وبدنك، بجعلك في منزلة رفيعة كإدريس والصالحين، ومخلّصك من خبث الكافرين ومكرهم، ومبعدك من سوء عملهم، وجاعل أتباعك الذين آمنوا برسالتك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وهي فوقية قدر، وعلو فضائل، وقوة حجة، ومن هؤلاء: المسلمون الذين آمنوا بعيسى رسولا وبما يستحقه من دون غلو، ثم يكون إلي رجوعكم جميعا، فأحكم بين المؤمنين الأتباع وبين الكفار به، فيما تختلفون فيه من شأن المسيح وصلبه وأمور الدين كلها.
- فأما الكفار فلهم عذاب شديد في الدنيا بأنواع العقاب، وفي الآخرة بنار جهنم، وليس لهم أنصار ينصرونهم ويمنعون عنهم العذاب.
198
وأما المؤمنون الذين يعملون صالح الأعمال التي أمر الله بها، فيعطيهم الله ثواب أعمالهم كاملا وافرا، والله يعاقب الظالمين أنفسهم، الذين كفروا بالله ورسله، وعصوا أوامر ربهم.
- ذلك المذكور من أخبار عيسى ومريم، نقصه عليك أيها النبي، من جملة الآيات والعلامات الدالة على صدق نبوتك، ومن القرآن المحكم الذي لا خلل فيه.
- إن شأن عيسى الغريب كشأن آدم الذي خلقه الله من التراب، ثم أوجده بقوله:
كن بشرا، فكان، بل أمر آدم أغرب، فإنه لا أب له ولا أم، لخلقه من التراب.
- هذا الذي أوحي إليك أيها النبي، هو الحق الثابت من ربك، فلا تكن من الشاكين فيه، والنهي للرسول صلّى الله عليه وسلّم لزيادة التثبيت والتأكيد، ومثله كل سامع متأمل.
- فمن جادلك في شأن عيسى بغير حق، من بعد ما جاءك من الوحي والخبر بحقيقة الأمر، فقل لهم: هلموا لنجتمع جميعا مع الأولاد والنساء، ثم ندعوا الله خاشعين، ونقول: اللهم العن الكاذب في شأن عيسى.
- إن هذا الذي ذكرت من أمر عيسى، لهو القصة الواقعية لولادة عيسى عليه السلام، ونشأته ومنهجه في دعوته، ولا يوجد إله يعبد بحق غير الله تعالى وحده، خالق كل شيء، وإن الله لهو القوي الغالب في هذا الكون، الحكيم في صنعه وتدبيره.
- فإن أعرضوا عن هذا الحق المبين واتباع عقيدة التوحيد التي دعا إليها جميع الأنبياء، فهذا الإعراض هو الفساد بعينه، لأنه شرك وكفر، والله عليم بالمفسدين، وسيعاقبهم على إفسادهم.
199
دعوة الأمم إلى توحيد الله من عهد إبراهيم
أراد الله سبحانه وتعالى أن يجمع الأمم على ملة واحدة وهي ملة التوحيد لله عز وجل، فلا يكون هناك تعدد بين الآلهة، ولا شرك ولا وثنية، ولا أبوة ولا بنوة لله تعالى، وهذا أمر سهل يسير، وله أهداف سامية عالية، من أهمها منع التنازع والخصام بين الناس، وإشاعة المودة والمحبة بين الأفراد، لذا أمر الله نبيه أن يدعو الناس إلى العدل والوسط والكلمة السواء: وهي ألا نعبد جميعا إلا الله، وألا نشرك به شيئا، وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من غير الله، فكل دين سماوي لا يختلف عن الآخر في إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى. وإذا كان الأمر على هذا المنهج المعتدل الوسط، فهيّا بنا جميعا إلى إعلانه واتباعه وإذابة الفوارق وتوحيد العقيدة، وإن اعترضنا شيء من سوء التفاهم والخلاف، وجب أن نرده إلى أصل التوحيد وكلمته، فلا نقول: إن أحد البشر هو ابن الله، فإن تولى المشركون وأهل الكتاب عن هذه الدعوة الصريحة وأعرضوا عن قبولها، فقولوا أيها المؤمنون: اشهدوا بأنا مسلمون حقا منقادون لله، نعبده وحده مخلصين له الدين، وأما أنتم فلستم هكذا.
قال الله تعالى مقررا هذا المنهج المعتدل:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٤]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
«١» [آل عمران: ٣/ ٦٤].
التزم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالكلمة السواء هذه، وكتب بها إلى هرقل عظيم الروم وإلى غيره من أمراء وملوك العالم، ودعا بها أهل الكتاب في الجزيرة العربية، وكذلك ينبغي أن يدعى بها أهل الكتاب إلى يوم القيامة.
ثم أوضح القرآن حقيقة ملة إبراهيم عليه السلام، وهي ملة التوحيد، ورد على
(١) كلمة عدل ووسط.
المحاجة في شأن إبراهيم، وأنه كان قبل نزول التوراة والإنجيل، فلم يكن إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا، ولكن كان حنيفا أي مائلا عن الشرك بالله والوثنية، وكان مسلما أي منقادا لله سبحانه وتعالى، وما كان من المشركين كمشركي العرب.
وإن أحق الناس وأجدرهم بشرف الانتماء إلى إبراهيم هو محمد رسول الله والمؤمنون بدعوته، وهؤلاء هم أتباع إبراهيم حقا، لاتفاقهم معه في الوحدانية والألوهية لله تعالى، والله ولي المؤمنين وناصرهم، قال الله تعالى مبينا القول الفصل في ملة إبراهيم وفي المحاجة التي أثيرت حوله:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٦٥ الى ٦٨]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
«١» «٢» «٣» [آل عمران: ٣/ ٦٥- ٦٨].
وسبب نزول هذه الآية:
أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: والله يا محمد، لقد علمت أنّا أولى بدين إبراهيم منك ومن غيرك، وأنه كان يهوديا، وما بك إلا الحسد، فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا..
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه سعيد بن منصور عن ابن مسعود: «لكل نبي ولاة من النبيين، وإن وليي منهم أبي، وخليل ربي عز وجل» ثم قرأ هذه الآية.
(١) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
(٢) منقادا لله مطيعا موحدا.
(٣) ناصرهم ومجازيهم بالحسنى.
التلاعب بالدين
لقد أدى بزوغ فجر الإسلام إلى حدوث تشنجات ومواقف تعصبية من أهل الكتاب، ومحاولات إضلال المسلمين، ومعارضتهم آيات الله في التوراة والإنجيل، وترك العمل بمقتضاها، وخلط الحق بالباطل، والإيمان ببعض الكتاب أو القرآن والكفر ببعضه الآخر، وخلط كلام الله بكلام البشر المخترع الباطل، وكتمان الحق الصريح الواضح، وهو البشارة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم التي هي في الكتب السابقة.
سجّل القرآن الكريم هذه المواقف لأهل الكتاب،
وروي أن معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر، دعاهم اليهود إلى دينهم، وترك دين الإسلام، فنزلت الآية التالية:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
[آل عمران: ٣/ ٦٩].
وهذا دليل على حبهم العميق فتنة المسلمين وإضلالهم.
ثم وبخهم الله تعالى على لسان نبيه صلّى الله عليه وسلّم قائلا لهم: لأي سبب تكفرون بآيات الله التي هي آيات القرآن، وأنتم تشهدون أن أمر محمد وصفته آيتان في كتابكم؟ قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
«١» أي أنكم تعلمون شأن محمد صلّى الله عليه وسلّم، وتقفون معه موقف العناد الظاهر.
ثم أخبر الله تعالى عن موقف متعصب آخر لليهود، وهو أن طائفة من أحبارهم من يهود خيبر أرادوا خديعة المسلمين، فقال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٢ الى ٧٤]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
«٢» »
(١) تخلطون.
(٢) أي أول النهار.
(٣) وهذا اعتراض بين أجزاء كلام اليهود، وهو من كلام الله وقوله لنبيه.
202
[آل عمران: ٣/ ٧٢- ٧٤].
والمعنى: قالت جماعة من أهل الكتاب لأتباعهم: آمنوا بمحمد أول النهار، واكفروا آخره، فإن سئلتم عن السبب، قولوا: آمنا، حتى إذا رجعنا إلى التوراة والإنجيل، عرفنا أنه ليس النبي المبشر به في التوراة، فلعل ذلك يكون مدعاة لرجوع من آمن بمحمد عن دينه، وقالوا لأتباعهم أيضا: ولا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين، فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم، فلا تظهروا ما عندكم للمسلمين حتى يتعلموه منكم، أو يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم، فتتغلب حجتهم عليكم في الدنيا والآخرة، فرد الله عليهم بأن الله هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان، بما ينزل على رسوله من الآيات البينات، أي ليس إظهاركم للحق أو إخفاؤكم، له دخل في الهداية، بل الهداية من الله وتوفيقه، والفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء، ويختص برحمته من يشاء، كإعطاء النبوة لمحمد، والله دائما ذو الفضل العظيم.
وهذا تكذيب لليهود في قولهم: نبوة موسى مؤبدة، ولن يؤتي الله أحدا مثل ما آتى بني إسرائيل من النبوة والشرف. إن النبوة اصطفاء واختيار من الله، لا من أجل مصلحة أحد، وإنما للمصلحة العامة.
الأمانة والأيمان عند اليهود
لقد أنصف القرآن الكريم اليهود، فأخبر أنهم قسمان في الأمانة وحلف الأيمان، فمنهم من يتصف بالأمانة التامة، ومنهم من يتصف بالخيانة وعدم الوفاء بالعهد
203
واستحلالهم أكل أموال العرب. ومنهم من يحلف بالله صدقا، ومنهم من يحلف بالله كذبا وافتراء.
وأنزل الله تعالى آيات في كتابه المجيد تعبر عن حقيقة الفئتين، وتتحدث عن صفة الأمانة والخيانة، وعن الكذب في الأيمان ونقض العهد.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٥ الى ٧٧]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [آل عمران: ٣/ ٧٥- ٧٧].
أما الآية الأولى فتذكر أن بعض أهل الكتاب من اليهود يستحلون أكل أموال غير اليهود، زاعمين أن التوراة لم تنههم إلا عن خيانة إخوانهم الإسرائيليين، وأما الأميون العرب وغير العرب فليس عليهم ذنب في أكل أموالهم، إذ هم شعب الله المختار، ومن سواهم لا حرمة له عند الله، فهو مبغوض ولا حق ولا حرمة له، وعند ذلك يحل أكل ماله وهم يفترون على الله الكذب في هذا، لأن كل الشعوب والأمم سواء في صون الحقوق الإنسانية، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى:
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: ٤٩/ ١٣].
وسبب نزول هذه الآية: أن جماعة من العرب كانت لهم ديون في ذمم قوم من أهل الكتاب، فلما أسلم أولئك العرب، قالت لهم اليهود: نحن لا نؤدّي إليكم شيئا
(١) أي مطالبا بالحق ملازما للمدين.
(٢) أي في العرب المشركين. [.....]
(٣) لا نصيب لهم من الخير.
(٤) لا يرحمهم ويسخط عليهم.
(٥) لا يطهرهم ولا يثني عليهم.
204
حين فارقتم دينكم (أي الدين الوثني) الذي كنتم عليه، فنزلت الآية في ذلك. وروي أيضا: كان بنو إسرائيل يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان، فلما جاء الإسلام، وأسلم من أسلم من العرب، بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد، فنزلت الآية حامية من ذلك.
ثم رد الله تعالى عليهم بقوله: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ أي لا صحة لما قالوا ولا حجة لهم في استحلال أموال غيرهم، وعليهم صيانة الحقوق والوفاء بالذمم والعهود، فمن أوفى بالعهد واتقى عقوبة الله في نقضه، فإنه محبوب عند الله.
ثم ذكر الله سبحانه وعيده وتهديده لمن فعل هذه الأفاعيل، فجحد الحقوق، ونقض المواثيق، وحلف الأيمان الكاذبة، وهؤلاء هم أهل الغدر والخيانة، وجزاؤهم أنه لا نصيب لهم في الآخرة أصلا، ولا يكلمهم الله يوم القيامة كلام رحمة، غضبا عليهم، ولا ينظر إليهم نظرة عطف ورحمة، ولا يزكيهم بالثناء عليهم أصلا ولهم عذاب أليم،
قال عبد الله بن مسعود: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه أصحاب الكتب الستة-: «من حلف على يمين، وهو فيها فاجر «١» ليقطع بها مال امرئ مسلم، لقي الله وهو عليه غضبان». فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله نزلت الآية، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض، فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: لك بينة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: أتحلف؟ قلت: إذن يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله عز وجل إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية.
(١) أي كاذب.
205
إحقاق الحق وإبطال الشرك
إن منهج الإسلام الأساسي في إصلاح العقيدة: هو إحقاق الحق وتثبيت معالمه وصرحه، وإبطال الشرك وهدم معاقله وحصونه، وليس هناك أخطر على الأمة من تشوية عقيدتها، وتحريف كتاب الله، وتأويل الكلام تأويلا باطلا، وليس هناك أيضا أضر على الإنسان من الشرك والوثنية واتخاذ الأرباب مع الله ظلما وزورا، وافتراء وبهتانا.
وقد ضل جماعة من علماء أهل الكتاب وأحبارهم، فلووا ألسنتهم في كتاب الله، ليميلوها عن الآيات المنّزلة الصحيحة إلى العبارات المبدلة المحرّفة، فزادوا في كلام الله، أو نقصوا، أو حرفوا الكلم عن مواضعه، أو قرءوا كلامهم بأنغام وتراتيل، ليوهموا الناس بأنه من التوراة، وأن الكتاب جاء بذلك ليحسبه المسلمون حقا وصدقا، والواقع أنه ليس من كلام الله، ويقولون على الله الكذب، وهم يعلمون أنه مخترع مبدّل محرّف، ليس من عند الله، وإنما هو من عند الشيطان والهوى، وهذا ليس تلميحا أو إيماء، وإنما يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم وجرأتهم على الله.
قال الله تعالى مبينا هذا الموقف:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
«١» [آل عمران: ٣/ ٧٨].
ثم قرر الله موقفا آخر لإثبات عقيدة التوحيد لله، ونبذ الشرك، وهدم كل معالمه ومظاهره، فقال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
«٢»
(١) يميلونها عن الصحيح إلى الكلام المحرّف.
(٢) فقهاء في الدين تعلّمون الناس بإخلاص.
206
«١» [آل عمران: ٣/ ٧٩- ٨٠].
وسبب نزول هذه الآية كما
ذكر ابن عباس، قال: إن أبا رافع القرظي قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم حين اجتمعت الأحبار من اليهود ووفد نصارى نجران: يا محمد، أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «معاذ الله أن يعبد غير الله، أو نأمر بعبادة غير الله، ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الحسن البصري: بلغني أن رجلا قال: يا رسول الله، نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك؟ قال: «لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم، واعرفوا الحق لأهله» فأنزل الله تعالى هذه الآية.
فلا يصح لبشر امتن الله عليه بإنزال الكتاب، والهداية إلى الحكمة والصواب في فهم ما أنزل الله عليه، وإيتائه النبوة والرسالة، ثم يطلب من الناس أن يعبدوه وحده، أو يعبدوه مع الله، فهذا هو الشرك بعينه، ولكن يقول: كونوا أيها الناس ربانيين، أي متمسكين بالدين، مطيعين لله أتم طاعة، بسبب كونكم تعلّمون الكتاب لغيركم، وبسبب كونكم تدرسونه وتتعلمونه. ولا يعقل أن يأمر نبي باتخاذ الملائكة والأنبياء آلهة تعبد من دون الله، فكل هذا كفر وفسوق وعصيان، لا يتفق مع الإسلام، والانقياد لله بالطبيعة والفطرة، التي فطر الناس عليها.
ميثاق النبيين
إن الأديان المنزلة من الله تعالى واحدة في أصولها، فهي متفقة على الدعوة إلى توحيد الله عز وجل، وأصول الأخلاق والفضائل، وأسس التشريع الناظم لمصالح
(١) تقرؤون الكتاب.
207
الناس وحاجاتهم، والأنبياء مهمتهم واحدة، ودينهم واحد، وهم إخوة يؤمن كل واحد منهم برسالة الآخر وشريعته، لذا أخذ الله تعالى ميثاق كل نبي بأنه يلتزم هو ومن آمن به الإيمان بمن أتى بعده من الرسل، الظاهرة براهينهم، ويلتزم نصرة بعضهم بعضا.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
«١» «٢» «٣» [آل عمران: ٣/ ٨١- ٨٢].
قال ابن عباس: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم، فهو أخذ لميثاق الجميع، وقال طاوس: أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا. وقال علي بن أبي طالب: ما بعث الله نبيا- آدم فمن بعده- إلا أخذ عليه العهد في محمد، لئن بعث وهو حي، ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره بأخذه على قومه، ثم تلا هذه الآية.
هذه الآية تذكير للأمم والشعوب بما تضمنه الكتاب الإلهي والنبوة من وجوب إيمان كل نبي وكل فرد من أتباعه برسالات الأنبياء جميعا، ومنها رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، فهو الرسول المصدق لمن تقدمه من الكتب والأنبياء، وعلى أتباع أولئك الأنبياء الإيمان به ومناصرته، فذلك نصر لكل نبي سابق.
وقال الله تعالى لمن أخذ عليهم الميثاق من الأنبياء وأقوامهم: أأقررتم وقبلتم ذلك الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصرته، أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟! قالوا: أقررنا وصدقنا، فقال الله تعالى: فليشهد بعضكم على بعض، وأنا معكم جميعا، لا يغيب عن علمي شيء.
(١) الميثاق: العهد المؤكد.
(٢) الإقرار بالشيء: النطق بما يدل على ثبوته.
(٣) الإصر: العهد المؤكد الذي يمنع من التهاون.
فمن تولى بعد هذا الميثاق المأخوذ قديما، ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان، المصدق لمن تقدمه، ولم ينصره، فأولئك هم الفاسقون الخارجون من ميثاق الله، الناقضون عهده.
ثم أنكر القرآن على أولئك الذين يطلبون غير دين الله الذي هو الإسلام، ولله استسلم جميع من في السماوات والأرض، وخضعوا له وانقادوا لتصرفه بالتكوين والإيجاد، سواء طوعا واختيارا، أم إكراها وجبرا، ثم يكون المرجع والمآب إلى الله تعالى، قال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٣]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣)
«١» [آل عمران: ٣/ ٨٣].
وسبب نزول هذه الآية هو ما
قال ابن عباس: اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما اختلفوا فيه بينهم من دين إبراهيم، كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم» فغضبوا وقالوا: والله ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله تعالى: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ..
أي يطلبون أو يرغبون.
يفهم من الآية ميثاق النبيين أن دين الله واحد، وإن تعدد الأنبياء، فرسالات جميع الأنبياء تلتقي في جذع واحد، وهو الدعوة إلى توحيد الله جل جلاله، وتحقيق العبودية لله تعالى، والحث على التمسك بمكارم الأخلاق، والتزام الفضائل التي لا بد منها لصلاح الفرد والجماعة.
وإذا كانت رسالات الأنبياء واحدة، فما على البشرية ولا سيما المؤمنون بالكتب الإلهية إلا أن يتحدوا ويتضامنوا تحت لواء واحد، وينبذوا الفرقة والخلاف والتنازع على أي شيء في الدين ومصالح الدنيا.
(١) انقاد وخضع.
وإذا كانت أمتنا مطالبة في الدرجة الأولى بإيمان ذي مضمون واحد، وبكتاب سماوي واحد، فعليها أن توحد الصفوف، وتتماسك لبناتها، وتتجاوز خلافاتها، وتتناسى أحقادها وخصوماتها، لتكون أمة مهيبة مرهوبة الجانب في أنظار العالم قاطبة، قال الله تعالى في سورة الأنبياء: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
الإيمان بجميع الأنبياء وجزاء المخالف
يتميز المسلمون بأنهم يؤمنون ويصدّقون بجميع الرسل والأنبياء، دون تفرقة، امتثالا لأمر الله في قرآنه حيث قال لنبيه:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٤]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)
«١» [آل عمران: ٣/ ٨٤]. والمعنى:
قل يا محمد أنت وأمتك: نحن آمنا بالله الواحد الأحد، وما أنزل علينا في القرآن الذي هو مصدر المعرفة الثابت الشامل لجميع الشرائع والأحكام، وآمنا بما أنزل على الأنبياء السابقين: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وأولاده الأسباط، وما أوتي موسى من التوراة، وعيسى من الإنجيل، وما أوتي النبيون الآخرون كداود وسليمان عليهم السلام، مما لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى.
نحن نؤمن بشيئين: بالله ربا وإلها، ونؤمن بكل الأنبياء إيمانا لا نفرق فيه بين أحد منهم، بل نؤمن بالكل على أن كل واحد نبي مرسل من الله لأمته، يهديها إلى سواء السبيل، ولا نفعل كما يفعل غير المسلمين من الإيمان ببعض الرسل والكفر بالبعض الآخر، ونحن له مسلمون منقادون.
(١) الأسباط: أولاد يعقوب أو أحفاده الاثنا عشر.
وقد أنكر الله تعالى على من يبتغي دينا غير الإسلام الذي هو دين جميع الأنبياء، وهو الدين الذي ارتضاه لعباده، ومن يطلب غيره دينا، فلن يقبل منه قطعا، وهو في الآخرة من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ولم يزكّوها بالإسلام الشامل، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٨٥]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
«١» [آل عمران: ٣/ ٨٥].
ثم ذكر الله تعالى جزاء الكفر بعد الإيمان برسالات الأنبياء فقال تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
«٢» [آل عمران: ٣/ ٨٦- ٨٩].
قال ابن عباس ومجاهد فيما ذكره ابن جرير وغيره: نزلت هذه الآيات في الحارث بن سويد الأنصاري، كان مسلما ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لي من توبة؟ فنزلت الآيات السابقة التي مطلعها: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً إلى قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فبعث بها قومه إليه، فلما قرئت عليه قال: والله ما كذبني قومي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا كذب رسول الله على الله، والله عز وجل أصدق الثلاثة، فرجع ثانيا إلى الإسلام، فقبل منه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتركه.
وتنطبق الآية أيضا على أهل الكتاب المعاصرين للنبي، لما رأوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم، وأقروا بذلك، وشهدوا أنه حق، وكانوا يستفتحون ويستنصرون به على المشركين، فلما بعث هذا النبي من غيرهم، حسدوا العرب وأنكروه، وكفروا به بعد إيمان.
(١) عقيدة الإسلام القائمة على التوحيد وشرائعه.
(٢) يؤخرون عن العذاب لحظة. [.....]
والذين يكفرون بعد الإيمان: جزاؤهم لعنة الله (أي الطرد من رحمته) ولعنة الملائكة والناس أجمعين، وهم مخلّدون ماكثون دائما في نار جهنم، لا يخفف عنهم العذاب، ولا يمهلون ولا يؤخرون عن العذاب، إلا الذي تابوا منهم بعد كفرهم، ورجعوا إلى الله وأصلحوا أعمالهم وقلوبهم، فإن الله غفور لما سبق، رحيم بعباده، حيث يقبل توبة التائب.
إذا كنا بأمر الله في قرآنه نؤمن بجميع الأنبياء، فما على المؤمنين حقا إلا أن يكونوا متسامحين، مبتعدين عن العصبية الدينية التي تزرع الأحقاد وتولد الخصومات، وأن يعلموا أن الله تعالى قادر على هداية العالم إلى دين واحد، وأن اختلاف الناس لحكمة بالغة هي معرفة الحق في مقارنته مع غيره من الباطل، وهذا يدعونا إلى أن نعمل معا صفا واحدا لخير البلاد والأمة، تاركين الحساب على الإيمان وغيره إلى الله تعالى في عالم الآخرة.
أصناف الكفار
صنّف الله تعالى الكفار في قرآنه أصنافا ثلاثة بحسب أحوالهم من الإصرار على الكفر ثم الموت، أو التوبة بعد الكفر في الحياة العادية، أو في آخر لحظات العمر، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْء ُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
[آل عمران: ٣/ ٩٠- ٩١].
هؤلاء الكفار أصناف ثلاثة:
صنف كفر بعد إيمان، ثم تاب توبة صادقة من بعد ذلك، فأولئك يقبل الله توبتهم، إنه هو الغفور الرحيم، إن هذا الصنف من اليهود كفروا بعيسى والإنجيل،
ثم ازدادوا كفرا بمحمد والقرآن، أو ازدادوا كفرا بالذنوب التي أصابوها من الافتراء على النبي والمسلمين، فإذا تابوا من كفرهم، فالله يقبل التوبة عن جميع العباد ما دامت قبل الغرغرة ولن تقبل توبتهم عند معاينة الموت.
وصنف كفر بالله، ثم تاب ورجع، ثم عاد إلى الكفر، فلن تقبل توبته عن بعض الذنوب مع بقائه على الكفر، وهذا يشمل فئة المرتدين عن الإسلام، وصنف كفروا بالله وماتوا وهم كفار، فلن يقبل من هؤلاء فدية عن كفرهم، مهما كثرت الفدية، ولو كانت ملء الأرض ذهبا، أولئك لهم عذاب أليم شديد، وما لهم في الآخرة من ناصر ولا شفيع.
ثم أقام الله الدليل على عدم إيمان هؤلاء الكفار: وهو شح نفوسهم وبخلهم بالإنفاق في وجوه الخير، فإن الإنفاق أكبر دليل على صدق الإيمان، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
«١» [آل عمران: ٣/ ٩٢].
والمعنى لن يصل أحد إلى البر الحقيقي، ولن يكون بارا بالله إلا إذا أنفق ما يحب من كريم ما يملك، فإن شحت النفوس ولم تنفق شيئا أو أنفقت رديء المال، فهم بعيدون عن الصدق في دعواهم الإيمان والطاعة لمولاهم، وما ينفق الناس من شيء، سواء كان كريما جيدا أو رديئا، فإن الله به عليم، ولا يخفى إخلاص المنفقين ورياؤهم.
وهذه الآية خطاب عام لجميع المؤمنين، فلا قيمة لإنفاق في وجوه الخير، ما لم يستند إلى قاعدة الإيمان الصحيح، وأرضية الدين القويم، وسبب نزول هذه الآية وقائع طيبة من إنفاق صحابة رسول الله، تصدق أبو طلحة الأنصاري بأكرم أمواله
(١) الإحسان وكمال الخير.
213
وهو بستان بيرحاء في المدينة،
وتصدق زيد بن حارثة بفرس كان يحبها، فأعطاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابنه أسامة، فكأن زيدا شق عليه، فقال له النبي: «أما إن الله قد قبل صدقتك»
وأعتق عمر بن الخطاب أكرم جارية لديه من سبي جلولاء. فالصدقة المقبولة هي من رغائب الأموال التي يضن بها أو يستأثر بها، فيكون إخراجها مغالبة للنفس، وتخليصا من شحها وبخلها.
يتبين من الآيات السابقة أن الله تعالى يحب عباده أشد الحب، وهو لا يرضى لهم إلا الخير، وإبعادهم عن أسباب الشقاوة والشر، وهو يحذرهم مما يضرهم في دنياهم وآخرتهم، ويرغبهم في ترك ما هم عليه من الضلالة والانحراف، والمبادرة إلى ساحة الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، ليعيشوا في سعادة واطمئنان، وبعد عن القلق النفسي وتعذيب الروح والضمير، وكل ذلك تنبيه لأمتنا أيضا فإن الإيمان مدعاة للوفاق والمحبة والتعاون، والكفر بيئة للتفرق والتشتت والضياع، والله دائما بالنصر والتأييد مع المؤمنين، غاضب ساخط على غير المؤمنين، وهو سبحانه أحكم الحاكمين في عالم الحساب.
تحريم إسرائيل على نفسه بعض الأطعمة
كان يعقوب بن إبراهيم عليهما السلام وهو الملقب بإسرائيل (أي الأمير المجاهد مع الله) قد أصيب بوجع عرق النّساء، وطال سقمه منه، وكان يحب لحوم الإبل وألبانها، فجعل تحريم ذلك على نفسه، شكرا لله تعالى إن شفي، بقصد ترك الترفه والتنعم والزهد في الدنيا، وكان هذا سائغا في شريعته، واستمر هذا التحريم في بني إسرائيل، وهذا يدل على أن للأنبياء أن يحرموا باجتهادهم على أنفسهم ما اقتضاه النظر لمصلحة أو قربة أو زهد، ومن هذا على جهة المصلحة تحريم نبينا صلّى الله عليه وسلّم العسل على
214
نفسه، أو تحريم جاريته مارية القبطية أم إبراهيم على نفسه، فعاتبه الله تعالى في ذلك من تحريم المباح بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: ٦٦/ ١] ولم يعاتب يعقوب.
وزعم اليهود أن تحريم الإبل وألبانها هو ملة إبراهيم وشريعة التوراة،
قال أبو روق والكلبي: حين قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنا على ملة إبراهيم» قالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم، فنحن نحلّه» فقالت اليهود: كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه، فإنه كان محرما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا، فأنزل الله عز وجل تكذيبا لهم:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٣ الى ٩٥]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
«١» [آل عمران: ٣/ ٩٣- ٩٥].
والمعنى: كل أنواع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل إلا ما حرمه إسرائيل على نفسه خاصة، وهو لحوم الإبل وألبانها، من قبل نزول التوراة، وليس في شريعة التوراة شيء من هذا التحريم، وقل لهم يا محمد: فأتوا بالتوراة كتابكم، فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم، لا تخافون تكذيبها لكم. فكل من افترى على الله الكذب، وادعى ما لم ينزله الله في كتاب، فأولئك هم الظالمون بتحويل الحق وتغييره، والكذب على الله وادعاء تحريمه ما لم يحرمه.
وقل يا محمد أيضا: صدق الله فيما أنبأني به من أني على دين إبراهيم، وأني أولى الناس به، وأنه لم يحرم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة. وإذا كان الأمر كذلك، فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها، وهي الملة الوسط التي لا إفراط فيها ولا تفريط، وما كان إبراهيم من المشركين مع الله غيره.
(١) مائلا عن الباطل إلى الدين الحق.
215
وفي هذا دليل ظاهر على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأنه يعلم ما في التوراة، وأنها مؤيدة لما في القرآن، وأن النبي أولى بإبراهيم وملته، لا تختلف عن ملته، فكل من إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام مائل عن الباطل إلى الحق، وما كان حلالا عند إبراهيم فهو حلال عند المسلمين.
واستمر تحريم لحوم الإبل وألبانها عند اليهود استنانا بما فعله يعقوب نفسه، ثم حرم الله عليهم في التوراة بعض الطيبات عقوبة لهم على أفعالهم، قال الله تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (١٦٠) [النساء: ٤/ ١٦٠]. وقال سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (١٤٦) [الأنعام: ٦/ ١٤٦].
إن إباحة الطعام وتحريمه في البيان الإلهي يقوم على مبدأ واحد لا يتغير، فما كان طيبا نافعا غير ضار فهو الحلال، وما كان خبيثا ضارا بصحة الإنسان، فهو الحرام، ومن هنا لا يوجد اختلاف بين منهج الإسلام وبين منهج أي دين آخر في التحليل والتحريم، وهذا سبب آخر يدعو البشرية إلى التوافق والتقارب والتآخي والتعاون، والبعد عن موجبات الفرقة والخصام والنزاع، وليس لأمة القرآن من باب أولى إلا أن تتحد مشاعر أبنائها، وتتعاطف مع بعضها، وتترك كل ما يصدع وحدتها ويسيء إلى كرامتها وعزتها.
مكانة البيت الحرام
كان من الطبيعي بعد بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يشتد الحوار بين النبي وبين أهل الكتاب، فإنهم أتباع دين سابق، ولهم أعرافهم وتقاليدهم، فكانوا يثيرون الشبهات مثل شبهة تحريم الإبل وألبانها، ومثل المفاضلة بين بيت المقدس والبيت الحرام.
216
قال أهل الكتاب للنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم: كيف تدعي أنك على ملة إبراهيم وأنك أولى الناس به، وإبراهيم وإسحاق والأنبياء بعدهم كانوا يعظمون بيت المقدس، ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا لعظّمته، ولما تحولت إلى الكعبة، فخالفت الجميع.
وقال مجاهد: تفاخر المسلمون واليهود، فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة، لأنه مهاجر «١» الأنبياء، وفي الأرض المقدسة، وقال المسلمون:
بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى هذه الآية:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
«٢» [آل عمران: ٣/ ٩٦- ٩٧].
دلت هاتان الآيتان على مكانة البيت الحرام وما تميز به من مميزات: أولها- أنه أقدم بيت وضع للعبادة، والأولية في الزمان تستلزم الأولية في الشرف والمكانة. بناه إبراهيم وإسماعيل كما قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ. [البقرة: ٢/ ١٢٧].
ثم بني المسجد الأقصى بعد ذلك بعشرات السنين، وقد جدّد بناءه بعد قرون سليمان بن داود.
سأل أبو ذر النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: «يا رسول الله، أي مسجد وضع أول؟ قال: المسجد الحرام، قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» «٣».
الميزة الثانية- أن البيت الحرام بيت مبارك: كثير الخيرات والبركة المادية، إذ هو بصحراء جرداء، وتجبى إليه ثمرات كل شيء، وتحمل إليه بضائع الدنيا، وهو أيضا كثير البركة في الثواب والأجر.
(١) أي مواضع الهجرة.
(٢) بكة أي مكة.
(٣) أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذر.
217
والميزة الثالثة: أنه موطن هداية للناس، حيث دعي العالمون إليه فأجابوا ويتجهون إليه في أدعيتهم وصلواتهم، وتهواه أفئدتهم على أنه مصدر لهداية النفوس التي تحجه وتعتمر فيه.
والميزة الرابعة: فيه آيات واضحات لا تخفى على أحد، منها: مقام إبراهيم للصلاة والعبادة، وفيه صخرة فيها أثر قدمه الشريف. ومن دخل البيت الحرام كان آمنا على نفسه، مطمئنا على ماله، حتى ولو كان مطلوبا للثأر، وذلك معروف للعرب في الجاهلية والإسلام. أما ما وقع فيه من مخالفات أو اقتتال فذلك جناية عظيمة من العصاة والجهلاء. وفيه الحجر الأسود المعروف مبدأ الطواف حول الكعبة، وفيه ماء زمزم المبارك النافع لما شرب له.
والميزة الخامسة: أنه مكان الحج والعمرة، وحج البيت فرض على المستطيع وهو ركن من أركان الدين، والاستطاعة نوعان: بدنية صحية، ومالية، فلا يجب إلا على من تمكن من الركوب، وأمن الطريق، وقدر على السفر.
ومن جحد هذه المزايا وكفر بها ولم يمتثل أمر الله في الحج وغيره، فإن الله غني عن العالمين جميعا، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية.
أخرج الترمذي والبيهقي عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من ملك زادا وراحلة، فلم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا».
وأهم ميزة للبيت الحرام أنه سبب وحدة المسلمين في أنحاء العالم، لاتجاههم إليه في صلاتهم، وأنه موضع أمن وسلام لمن دخله. وإذا كانت قبلة المسلمين واحدة في أقدس معتقداتهم وهو الصلاة بعد الإيمان فهل يقبل منهم الصراع والتخاصم والاختلاف؟ وهل يليق بهم وهم أمة القرآن أن يتحاربوا، وينضم بعضهم لصف
218
الأعداء؟ وإذا اختلفوا فلم لا يبادرون إلى إزالة سبب الخلاف، ورأب الصدع وتناسي الماضي، حتى يحققوا لأنفسهم العزة والكرامة ومهابة الأعداء؟!
موقف أهل الكتاب من الإسلام وتحذير المسلمين من إطاعتهم
وبخّ الله تعالى في القرآن الكريم أهل الكتاب على عدم الإيمان برسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم، بعد أن قامت العلامات الظاهرة والمعجزات الباهرة والأدلة القاطعة على صدق نبوته، وهم مع هذا الموقف يحاولون صدّ الناس عن الإسلام والإيمان بالقرآن.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
«١» [آل عمران: ٣/ ٩٨- ٩٩].
ومطلع الآية عتاب رقيق، ودعوة رشيدة للإيمان بالقرآن، فيا أهل الكتاب لم تكفرون بدلائل الله الظاهرة على يدي محمد صلّى الله عليه وسلّم؟! هاتوا برهانكم على صحة ما تسيرون عليه، وإذا لم يكن عندكم برهان ولا دليل مقبول عقلا ودينا، فاعلموا أن الله شهيد عليكم، عالم مطّلع عليكم، وسيجازيكم على ما تعملون. يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن بمحمد؟ قاصدين بصدكم أن تكون سبيل الله معوجة، غير مستقيمة ولا رشيدة، تطلبون لدين الله الاعوجاج والانحراف عن الحق والقصد الصحيح، والحال أنكم تشهدون في أعماق نفوسكم بصدق محمد، وأنتم الشهود العدول عند قومكم، وما الله بغافل عن خبايا نفوسكم وأعمالكم وسيجازيكم عليها.
(١) تطلبونها معوجّة.
ثم حذّر الله المؤمنين من مؤامرات كيد أهل الكتاب، ومحاولتهم إيقاع العداوة والبغضاء بينهم، وبذر بذور التفرقة في صفوفهم، وردهم كافرين بالله والدين والخلق: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ [البقرة: ٢/ ١٠٩]. كيف تكفرون بالله أيها المؤمنون، وكيف تطيعون غيركم فيما يشيرون به ويقولون، والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله التي فيها الهداية والخير والمحبة والوئام وبيان أصول الإيمان، وبينكم رسول الله رسول المحبة والخير والألفة والرشاد، فكيف يليق بكم أن تتبعوا أهواء قوم آخرين لا يريدون الخير لكم، ومن يعتصم بالله وبكتابه ورسوله، فقد تحققت هدايته، لا يضل أبدا، وكان على الطريق المستقيم.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
«١» [آل عمران: ٣/ ١٠٠- ١٠١].
وسبب نزول هاتين الآيتين:
أن شاس بن قيس اليهودي مرّ بمجلس فيه نفر من الأوس والخزرج يتحدثون، فجلس معهم وغاظه اتحادهم وتآلفهم بعد أن كانوا متفرقين مختلفين في الجاهلية، فقال في نفسه: مالنا معهم إذا اجتمعوا من قرار، فأرسل شابا من اليهود كان معه، وأمره أن يذكّرهم بيوم بعاث «٢»، وما قيل فيه من الأشعار، فتنازع القوم وتفاخروا واحتكموا إلى السيوف والسلاح. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إليهم ومعه المهاجرون، وقال: يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ووعظهم، فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان،
(١) يلتجئ إليه، ويستمسك بدينه وقرآنه.
(٢) وهو اليوم الذي اقتتلت فيه الأوس والخزرج في الجاهلية، وكان الظفر فيه للأوس.
فألقوا السلاح وبكوا، وتعانقوا، وانصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سامعين مطيعين، فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع هذه الآيات.
إن هذه الإثارة وتأجيج الفتنة وبذر بذور التفرقة بين المسلمين من قبل غيرهم تعطينا دليلا واضحا وعبرة وعظة وهو أن معطيات العقل والتجربة والمصلحة أسباب تقتضي الحذر من الأعداء، والتنبه للمخاطر وألوان المكر والمؤامرات، فإن سوء الظن قد يكون أحيانا عصمة من الوقوع في الشرور، وحسن الظن ورطة، والغفلة عن مكائد الأعداء نوع من البله والسذاجة، فهل نعتبر ونتعظ من حادث واحد، فضلا عن تكرار العبر والدروس في تعاملنا مع الآخرين؟
الاعتصام بالقرآن والسنة
ليس هناك في السياسة العامة أسوأ من تفرق الأمة وتمزق صفوفها وانقسامها فرقا وأحزابا، لذا حرص الإسلام إبان عهده الأول على وحدة الصف، واجتماع الكلمة، وتحقيق الألفة، وإشاعة المحبة، والسبيل التي وحّد الله بها الأمة هو اتحاد دستورها، واعتصامها بكتاب الله وسنة نبيه، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٢ الى ١٠٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ١٠٢- ١٠٣].
قال ابن عباس مبينا سبب النزول: كان بين الأوس والخزرج شر في الجاهلية،
(١) تمسكوا بدينه.
(٢) طرف حفرة.
221
فذكروا ما بينهم، فثار بعضهم إلى بعض بالسيوف، فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فذكر ذلك له، فذهب إليهم، فنزلت هذه الآية: وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ..
[آل عمران: ٣/ ١٠١] وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
أعدّ الله الأمة للاجتماع والاتحاد، فأمر الجميع بتقوى الله تعالى، والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله اتقاء حقا شاملا فيما استطعتم، أي بالغوا في التقوى، وأدوها كاملة حتى لا تتركوا شيئا من المستطاع، وذلك بالتزام أوامر الله واجتناب نواهيه، بأن يطاع الله فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى، ومعنى قوله تعالى: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ: دوموا على الإسلام حتى يوافيكم الموت وأنتم عليه، والإسلام: هو المعنى الجامع للتصديق في القلب وأداء الأعمال، وهو الدّين عند الله، وهو الذي بني على خمس معروفة.
وبعد توحيد العقيدة والعمل، أمر الله تعالى بالتمسك بكتاب الله وعهده واتباع سنة نبيه، وهذا هو حبل الله، وتسمى العهود والمواثيق حبالا، وحبل الله الذي أمر باتباعه: هو القرآن،
أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كتاب الله: هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض».
ثم نهى الله عن التفرق أبدا، فإن الداء العضال في الفرقة والانحلال. ويكون التزام الجماعة بعد الاعتصام بالكتاب والسنة هو سبيل الوحدة، والبعد عن التفرق.
أخرج الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة قيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ فقبض يده وقال: الجماعة، ثم قرأ: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا.
وقد كان العرب الجاهليون في حروب مستعرة وعداوات وأحقاد، وبخاصة
222
الأوس والخزرج، فلما جاء الإسلام، انتزع من قلوبهم الحقد، وطهرهم من العداوة، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين متعاطفين، يؤثرون إخوانهم على أنفسهم، ولو كان بهم خصاصة (أي حاجة) وكانوا على وشك الوقوع في النار بسبب شركهم ووثنيتهم إذا ماتوا، فأنقذهم الله بالإسلام والتوحيد، والإيمان والطاعة، ومثل هذا البيان والتوجيه والتذكير، يبين الله آياته للناس، ليهتدوا إلى الطريق المستقيم، أو ليكونوا بالاستقامة والسداد راجين الهداية.
والجامع بين المسلمين هو المبدأ العظيم في القرآن: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:
٤٩/ ١٠]
والحديث النبوي الذي رواه أحمد ومسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».
إن عزة العرب والمسلمين تتطلب منهم أولا وقبل كل شيء الاستغناء عن غيرهم في كل شيء عسكري واقتصادي، لأن الحاجة تقتضي المذلة والهوان، وسبيل تحقيق وحدة الصف لهذه الأمة: هو الحفاظ على شخصيتها المتماسكة، وتميزها الذاتي، ورفض تبعتها لغيرها من الأمم التي لا تبغي لها إلا الشر، وينبغي أن تكون لنا استراتيجيتنا الذاتية وخطتنا الخاصة وعقليتنا الواعية، فلا نطمئن لمشورة غيرنا، ولنتأمل جيدا في مصداقية ما ينصحوننا به، كيلا نقع كما وقعنا كثيرا في شرك خداعهم، وإلحاق أفدح الخسائر والمحن والبلايا في مصالحنا وبناء أمجاد وطننا وأمتنا.
جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنهجهم
قد يتعرض الأفراد والجماعات للنسيان أو الضعف أو التورط في معصية، فيكون التذكير بالخير والنصح والإرشاد خير سبيل لاستدراك الخطأ، والعودة إلى جادة الاستقامة والصواب، لذا تكررت وسائل التذكير في الإسلام بخطب الجمعة
223
والعيدين والمناسبات الإسلامية، وأمر الله تعالى بتخصيص جماعة أو فئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتحذير من الانقسام والتفرّق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض من فروض الكفاية، إذا قام به قائم، سقط عن الباقي. قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
[آل عمران: ٣/ ١٠٤- ١٠٩].
أوجب الله تعالى على المسلمين جميعا تكوين أمة منظمة موحدة، لا ترهب أحدا، وتقول الحق، وترفع الظلم، ولا تخشى في الله لومة لائم، وعلى هذه الأمة أو الجماعة المنظمة مهمة الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف الذي يقره الشرع والعقل، والنهي عن المنكر الذي يقبّحه الشرع والعقل، وحماية الدين، وحفظ الحقوق، وإقامة العدل، وأداء الأمانات، وأسلوب هذه الجماعة كما
جاء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» «١».
وتتميز هذه الجماعة بالعلم والمعرفة لأحكام الشريعة، والتقوى، والتخلق بأخلاق الأنبياء، وأن يكونوا المثل الأعلى في الخلق والفضيلة، وهم لا غيرهم الكمل المفلحون في الدنيا والآخرة.
(١) أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن أبي سعيد الخدري.
224
ثم حذر القرآن الكريم من التفرق والاختلاف كما حدث لمن قبلنا، من بعد ما جاءت الآيات الواضحات التي تهدي إلى سواء السبيل، لتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاستحقوا العذاب الشديد في الآخرة.
إن هذا العذاب العظيم يوم تبيض وجوه المؤمنين وتشرق بالسعادة، وتسودّ وتكتئب وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحق والصبر من الكفار والمنافقين حينما يرون ما أعدّ لهم من العذاب الدائم، ويقال لهؤلاء الذي اسودت وجوههم تأنيبا وتوبيخا: أكفرتم بالرسول محمد بعد إيمانكم به، فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون.
وأما الذين ابيضت وجوههم: ففي رحمة الله وجنته ورضوانه خالدون، هذه آيات الله المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار وتنعيم المؤمنين، تتلى علينا بالحق الثابت، فلا عذر بعد هذا للمتفرقين المختلفين، ولا يريد الله بهذه التوجيهات والنصائح والأحكام ظلما في حكمه لأحد من العباد، وإنما هي لمصلحتهم في الدنيا والآخرة، ولإقرار الحق وتثبيته، ولا يعترض أحد على الحق، فلله ما في السماوات وما في الأرض ملكا وخلقا وتصرفا وحكما، وإلى الله وحده لا غير ترجع أمور الخلائق قاطبة.
الخلاصة: إن الدعوة الإسلامية ونشرها في أنحاء العالم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الإسلام الكفائية لأن الإسلام دعوة الحق والخير والسعادة والتوحيد للعالم أجمع، ولأن الإسلام حريص على نقاوة المجتمعات من عوامل الدمار والانحطاط، وجعل المجتمع قويا ناضجا متماسكا، ليتفرغ لبناء الحضارة، وإرساء معالم المدنية الحقة القائمة على التقدم المادي والمعنوي.
225
منزلة الأمة الإسلامية
ليست الأمة الإسلامية أمة متعصبة لأفرادها، منغلقة على نفسها، وإنما هي أمة منفتحة على الشعوب، متسامحة مع الناس، تحب الخير لجميع البشر، وتدرأ الشر والسوء عن الأمم، فهم خير الناس للناس.
وقد حدد القرآن الكريم معيار تفضيل الأمة الإسلامية على غيرها، وهو حرصها على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله تعالى وحده، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)
[آل عمران: ٣/ ١١٠].
قال عكرمة ومقاتل: نزلت هذه الآية في ابن مسعود، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعونا إليه، ونحن خير وأفضل منكم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفحوى الآية: أنكم أيها المسلمون خير أمم الأرض، بشيء واحد، وهو أنكم تأمرون بالمعروف المنقذ للأمم، وتنهون عن المنكر المدمر للشعوب، وتؤمنون بالله إيمانا صادقا كاملا لا ينقص منه شيء، ولو أن أهل الكتاب آمنوا بما آمنتم به، لكان خيرا لهم وأكرم وأفضل من الإيمان ببعض الكتب الإلهية وببعض الرسل كموسى وعيسى، والكفر بالبعض الآخر، وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم. وبعض أهل الكتاب مؤمنون حقيقة كعبد الله بن سلام وجماعته، وكثير منهم فاسقون خارجون عن حدود دينهم وكتبهم.
ثم هوّن القرآن الكريم من شأن عداوة اليهود وقوتهم، فقال الله تعالى:

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١١ الى ١١٢]

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢)
«١» «٢» «٣» «٤» »
«٦» «٧» [آل عمران: ٣/ ١١١- ١١٢].
قال مقاتل مبينا سبب النزول: إن رؤوس اليهود: كعب وبحري والنعمان، وأبو رافع وأبو ياسر وابن صوريا، عمدوا إلى مؤمنهم عبد الله بن سلام وأصحابه، فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً.
والمعنى: لن يصيبكم من اليهود ضرر في الأبدان، ولا في الأموال، وإنما هو مجرد أذى بالألسنة، كالهجاء والطعن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، والتنفير من الإسلام.
فإن قاتلوكم انهزموا أمامكم وولوا الأدبار، وصفهم القرآن بثلاث صفات: عدم الضرر، والفرار في الحرب، وعدم النصر.
وهم قوم أذلة إلى الأبد، ورثوا ذل النفس وضعف القلب، وهم دائمو الفقر والحاجة، لا يشبعون من مال، ولا قوة لهم وإن كانوا أغنياء، إلا بمدد مؤقت من الله ومدد من الناس.
وسبب اتصافهم بهذه الصفات أنهم يكفرون بآيات الله، ويقتلون الأنبياء معتقدين أنهم على غير حق فيما يفعلون. وما جرّأهم على ذلك إلا فعل المعاصي والعدوان على قيم الآخرين وحقوقهم، قال قتادة مفسرا هذه الآية: «اجتنبوا المعصية والعدوان، فإن بها أهلك من كان قبلكم من الناس».
(١) ضررا يسيرا.
(٢) ينهزمون.
(٣) الذل والصغار. [.....]
(٤) وجدوا.
(٥) بعهد منه وهو الإسلام.
(٦) رجعوا متلبسين به.
(٧) الفقر والشح.
أجل! إن الأمة الإسلامية خير الأمم بسبب إيمانها الصحيح التام بما أنزل الله في كتبه، وبسبب قيامها بمهمة إصلاح المجتمع وحرصها على الفضيلة، وأصول الإصلاح ثلاثة كما ذكرت آية كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ: وهي الإيمان بالله وكبته ورسله واليوم الآخر، ومنه الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، والأمر بالمعروف المتفق مع الشرع والعقل والعرف الصحيح والنهي عن المنكر، وهو كل قبيح ينهى عنه الشرع ويستقبحه العقل السليم والعرف الصحيح.
مؤمنو أهل الكتاب
لا نجد في الإسلام أي سمة للتعصب والميل والمحاباة للمسلمين على حساب غيرهم، لأن الإسلام ذو قيمة ذاتية خالدة، ورسالة سامية، يترفع عن التأثير بالعصبيات، أو ممالأة الأتباع على حساب الحق والعدل.
لذا أنصف القرآن أهل الكتاب إنصافا عاليا رفيع المستوى، فأقرت آيات القرآن بوجود فئة أمينة من أهل الكتاب تؤتمن على القليل والكثير، وأعلنت آي القرآن عن وجود جماعة مؤمنة صالحة مستقيمة عادلة، تؤمن بالله واليوم الآخر، وترعى الذمم، وتحترم القيم، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتبادر إلى فعل الخيرات، وهؤلاء الصالحون هم الذين ماتوا قبل مجيء الإسلام وظهور شرائعه، أو أدركوا الإسلام، فدخلوا فيه. وغيرهم جماعة فاسقون خارجون عن حدود الله.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٣ الى ١١٥]
لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
«١» «٢»
(١) أي مستقيمة عادلة.
(٢) أي ساعات الليل.
228
«١» [آل عمران: ٣/ ١١٣- ١١٥].
وسبب نزول هذه الآيات في أصح التأويلات: ما قاله ابن عباس رضي الله عنه: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعنة، وأسيد بن سعية، وأسد بن عبيد، ومن أسلم من اليهود، قالت أحبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائنا. وقالوا لهم: لقد خنتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره، فأنزل الله تعالى: لَيْسُوا سَواءً الآية.
والمعنى: ليس أهل الكتاب متساوين في العقيدة والأفعال، فمنهم أمة مستقيمة على طاعة الله، ثابتة على أمره، يتلون آيات الله، ويقرءون القرآن في ساعات الليل، ويصلون والناس نيام، ويناجون ربهم وغيرهم غافلون، وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا خالصا، ويخشون الله، ويرجون ثوابه وتجارة لن تبور، فهؤلاء مؤمنون حقا.
وهم في مجال الأخلاق والعمل الاجتماعي، يأمرون بالفضيلة والمعروف، وينهون عن الرذيلة والمنكر، ويبادرون إلى فعل الخيرات بسرعة وبلا تلكؤ أو إمهال، وهم قوم صالحون مثل عبد الله بن سلام وصحابته الذين أسلموا وصلحت أحوالهم وارتفعت درجاتهم. فهم بإسلامهم خيار، لا أشرار كما زعم اليهود، وأتقياء لا فجار، وعقلاء لا مجانين، إذ اختاروا الإيمان وتركوا الضلال.
وما يفعلون من الطاعات، فلن يحرموا ثوابه ويمنعوا جزاءه، ولا يتصور غير هذا في شريعة الإسلام العادلة، وعدل الله الشامل، فالله شكور لفعل عباده الأتقياء،
(١) أي يمنعوا أو يحرموا ثوابه.
229
عليم بهم، لا ينساهم ولا يهملهم، فالجزاء الحسن لهم حق، والله القادر على كل شيء، البصير بأعمال العباد، فقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ وعد ووعيد.
إن عدل الله الشامل أن يظهر الأخيار ويتولاهم برعايته وتأييده، ويبعد من ساحته الفجار والأشرار والحاقدين والمعاندين، لذا أنصف الإسلام غير المسلمين، فحكم بإيمان بعضهم بالقرآن، وأشاد بقيامهم بالأعمال الصالحة، حيث أصلحوا أنفسهم، وجاهدوا في إصلاح غيرهم، وقاوموا دعوة الفساد والانحراف، وكانوا دعاة حق وخير، وبناة صالحين لمجد أمتهم، وتقدم دولة الحق والخير والتوحيد.
جزاء الضلال
أقام الله السماوات والأرض وأوجد من فيهما بالحق والعدل، والعادل لا يقبل الظلم ولا جحود النعمة وكفرانها، وإنما يطلب الله العادل من عباده أن يشكروه على نعمه الكثيرة فلا يكفروه، وأن يؤمنوا به لأنه الخالق المبدع، لا أن يكذّبوا بوجوده وعدله ووحدانيته.
فالمؤمن الصادق الإيمان يقرّ بوجود الله ويشكر نعمة الله عليه لأنه أوجده وسوّاه، ورزقه وصانه في حياته، وأما الكافر الذي ينكر وجود الله أو وحدانيته ولم يشكر نعم الله عليه، فهذا منتكس الفطرة، ليس لديه وفاء للمعروف ولا تقدير للمنعم.
وكثيرا ما عقد القرآن الكريم المقارنة بين المؤمنين والكفار، والأتقياء والفجار، والمصلحين والمفسدين، لينبّه العباد ويحذرهم، ويرغب الناس بالإيمان والصلاح، وينفرهم من الكفر والفساد.
وكثيرا ما افتخر الكفار ويفتخرون بقولهم: نحن أكثر أموالا وأولادا وزينة في
230
الحياة الدنيا، وما نحن بمعذّبين، والكفار: هم كل من لم يؤمن بالله ربا واحدا لا شريك له، ولا ندّ له ولا نظير، وليس له والد ولا ولد، ولا يشبهه أحد من خلقه، وقد ردّ الله على هؤلاء الكفار جميعا بقوله تعالى مبينا جزاءهم في الآخرة.
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٦ الى ١١٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ١١٦- ١١٧].
ومعنى الآية: إن الكفار لن تجزي عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا من الإجزاء يوم القيامة، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) [الشعراء: ٢٦/ ٨٨].
وفي آية أخرى قال تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى. [سبأ:
٣٤/ ٣٧].
وهؤلاء الكفار الذين لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم هم ملازمون للنار، لا ينفكون عنها، وماكثون فيها أبدا على الدوام، الله أعلم به.
ثم ضرب الله مثلا رائعا صور فيه الأموال التي ينفقها الكفار، ظانين أنها قربة وحسبة وعبادة، وهي في الواقع للرياء والسمعة والمفاخرة وكسب الثناء، أو للصد عن سبيل الله، مثل هذا المال الذي ينفقونه كمثل ريح فيها برد شديد أتت على الزرع، فأهلكت الأخضر واليابس. إن هذا المال أفسد عقولهم بما صرفهم عن النظر الصحيح والتفكير في عواقب الأمور، وإنهم مع إنفاقه ظلموا أنفسهم بمعاصي الله، فكانت النقمة إليه أسرع وفيه أقوى.
(١) الصر: البرد الشديد.
(٢) الحرث: إثارة الأرض للزرع، والمراد هنا فيها نبات مزروع أي زرعهم.
إنهم إذا أنفقوا المال في سبيل الشيطان والهوى والفساد، ورجوا منه الثواب والنفع، فهم لن يجدوا في الآخرة إذا قدموها إلا الحسرة والندامة، ومثلهم مثل من زرع زرعا، وتوقع منه خيرا ونفعا، فأصابته ريح، فأحرقته، فوقف مبهوتا حائرا، إن الله يتقبل من المؤمنين المتقين، ويثيب المخلصين، وما ظلم الله الكافرين، بل جازاهم وكافأهم على عملهم الشر بالشر، وكانوا هم الظالمين لأنفسهم.
إن الانحراف عن هدي الله وضلال الاعتقاد أساس بلاء الإنسان في الآخرة، وهو أيضا سبب ضياع ثمرة الأعمال الصالحة التي عملها الشخص على أرضية غير مؤمنة، ويكون مصيره الخزي والذل والندامة والزج به في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا.
اتخاذ بعض الأعداء مستشارين
يحرص القرآن الكريم على تماسك الأمة وتناصحها، ويحذرها من التعثر ومداخل الشر والسوء، ويحميها من استشارة المشبوهين والمعادين، ومن اتخاذ فئة من الأعداء في مواطن السر والاطلاع على دخائل الأمور وأسرار الدولة والولاة والحكام، لذا قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١١٨ الى ١٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥»
(١) بطانة الرجل: خاصته وأهل مشورته وأمناء سره.
(٢) أي لا يقصرون في إيصال الخبال: وهو الشر والفساد إليكم.
(٣) أي تمنوا إيقاعكم في العنت، أي المشقة والحرج.
(٤) انفردوا.
(٥) أشد الغضب. [.....]
232
[آل عمران: ٣/ ١١٨- ١٢٠].
قال ابن عباس ومجاهد: نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين، كانوا يصافون المنافقين، ويواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من القرابة والصداقة، والحلف والجوار والرضاع، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، ينهاهم عن مباطنتهم، خوف الفتنة منهم عليهم.
ينهى الله تعالى المؤمنين بهذه الآيات عن أن يتخذوا من الأعداء أخلاء وأمناء، يأنسون بهم في الباطن من أمورهم، ويفاوضونهم في الآراء، ويطمئنون إلى آرائهم ونصائحهم. فإياكم أيها المؤمنون من اتخاذ فئة من غيركم أمناء أسراركم، تطلعونهم على أموركم، وتودونهم، فهم لا يقصرون في إيصال الفساد والشر لكم، ويحرصون على إيقاع الضرر بكم، ويؤيد هذا المعنى
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من خليفة ولا ذي إمرة إلا وله بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم: من عصم الله» «١».
هؤلاء الأعداء يتمنون كل شر ومشقة لكم، فإن لم يستطيعوا حربكم وإيذاءكم ودوا من صميم قلوبهم كل فساد وألم وسوء بكم.
ألم تظهر البغضاء لكم والحسد عليكم من فلتات ألسنتهم، وما تخفي صدورهم:
من الحسد وإرادة الشر أكبر وأكثر، قد بينا لكم أيها المؤمنون العقلاء الآيات والعبر التي ترشدكم إلى الخير وتحذركم من الشر، وهذا تحذير خطير وتنبيه شديد يهز النفوس، لتحذر من منافقي اليهود التي نزلت هذه الآيات فيهم لا في منافقي العرب.
إنكم أيها المؤمنون مخطئون في حبهم وإحسان الظن بهم، فهم لا يحبونكم مع أنكم
(١) أخرجه البخاري والنسائي وغيرهما عن أبي سعيد الخدري.
233
تؤمنون بالكتب السماوية كلها، ومنها كتابهم، وتصدقون بكل الرسل ومنهم رسولهم، ومع هذا هم لا يحبونكم، وهم إذا قابلوكم أظهروا الإيمان بدينكم وجاملوكم، وإذا خلوا إلى أنفسهم وشياطينهم، أظهروا شدة الغيظ والحقد عليكم، فليموتوا بغيظهم، فإن الله عليم بما تنطوي عليه نفوسهم.
إنهم إذا أصابكم خير وخصب ونصر ووحدة ساءهم، وإذا أصابكم شر فرحوا، بسبب شدة العداوة والحسد لكم، فإن تصبروا أيها المؤمنون على كيدهم وتآمرهم وعلى كل حال، واتقيتم الله واتخذتم الوقاية من كيد عدوكم، فإن الله ضمن لكم السلامة والنجاة من شرهم وضررهم، وسيرد كيدهم في نحورهم، ويجازيهم على كل ذلك، أي إن صبرتم واتقيتم.
إن أسوأ ما يصدّع بناء الدولة والأمة ويكون أداة هدم وتدمير لوجودها وتحطيم كيانها هو اتخاذ بعض الأعداء مستشارين في قضايا الأمة الخطيرة ورسم سياستها ووضع الخطط الاقتصادية والتربوية والاجتماعية لها، لأن الإخلاص للأمة ومحبة الخير لها ينبعان من الإيمان برسالة الأمة، والاعتقاد بأهليتها للقيادة وإظهار قوتها وعزتها ومنعتها أمام الأمم الأخرى.
فضيلة الصبر والتقوى في المعارك وغيرها
قارن الله تعالى بين موقفين متعارضين للمؤمنين في معركتي بدر وأحد، ففي معركة بدر الكبرى التي وقعت يوم الجمعة في السابع عشر من رمضان بعد ثمانية عشر شهرا من الهجرة، صبر المؤمنون القلة أمام الفئة الكثيرة من المشركين، وتضرعوا وأنابوا إلى الله، والتزموا جانب التقوى لله، واستنصروا بربهم، فنصرهم الله تعالى، وأمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين أي معلمين.
234
وفي غزوة أو معركة أحد التي وقعت بين المسلمين والمشركين المكيين في السنة الثالثة من الهجرة بعد ٣١ شهرا من الهجرة يوم الأربعاء في الثاني عشر من شوال، في هذه المعركة التي أشرف النبي صلّى الله عليه وسلّم على إدارتها وتنظيم العسكر في مواقع معينة، لم يصبر المؤمنون، ولم يتقوا الله حق تقاته، ولم يلتزموا بطاعة النبي القائد وخالفوه، فلم يمدهم الله بالملائكة كما وعدهم النبي في بدء القتال، لأنه لم يتحقق الشرط المطلوب للنصر، وهزم المسلمون أمام المشركين، ولو أمدهم الله بالملائكة كما حدث في معركة بدر، لهزموا الكفار من فورهم، فعاتب الله المؤمنين في أمر أحد، وذكرّهم بفضله ونعمته يوم بدر، ونزلت هذه الآيات مبتدءا فيها الخطاب للنبي:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٢١ الى ١٢٩]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» «٨» «٩» [آل عمران: ٣/ ١٢١- ١٢٩].
والمعنى الإجمالي للآيات: اذكر يا محمد وقت قولك للمؤمنين يوم أحد، وانخذال جماعة المنافقين وهم ثلاث مائة بقيادة عبد الله بن أبي: سيمدكم الله بثلاثة آلاف من
(١) خرجت أول النهار.
(٢) تنزل.
(٣) مواطن ومواقف له يوم أحد.
(٤) تجبنا عن القتال.
(٥) يقويكم يوم بدر.
(٦) ساعتهم فورا.
(٧) معلمين أنفسهم بعلامات.
(٨) ليهلك طائفة.
(٩) يخزيهم بالهزيمة.
235
الملائكة، والله منجز وعد رسوله لكم إن صبرتم على الجهاد ولم تطمعوا بالغنائم، واتقيتم الله وأطعتم أمر نبيكم، وكادت طائفتان من الأنصار وهما بنو سلمة وبنو حارثة ألا يخرجوا إلى القتال في أحد، ثم وفقهم الله فخرجوا، وكان هذا الوعد من النبي للمؤمنين بشرى لهم لتطمئن قلوبهم وتهدأ نفوسهم بالوعد بالنصر. والنصر من عند الله وحده بعد اتخاذ الأسباب ومن أهمها الثبات في المعركة ووحدة الصف، ونبذ الفرقة والخلاف، وإطاعة القائد وترك الغرور بالنفس. وأدى ترك هذه الأمور في أحد للهزيمة، على عكس الحال في بدر، تحقق النصر من الله، وتم الإمداد الفعلي بالملائكة، ليهلك ويقطع الله طائفة من رؤوس الكفر والشرك بالقتل والأسر، أو الكبت والإغاظة، والخزي، فانقلبوا خائبين غير ظافرين، أو يتوب الله عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والشقاق، فإنهم ظالمون لأنفسهم، أما أنت يا محمد فليس لك من الأمر شيء، إنما عليك البلاغ، وعلى الله الحساب، فلا تجزع ولا تتألم منهم، ولا تدع عليهم، فربما يتوب الله على بعضهم كما تاب على أبي سفيان وأمثاله، والأمر كله بيد الله، فلله ملك السماوات والأرض، يغفر لمن يشاء بفضله، ويعذب من يشاء بحكمته وعدله.
إن تحقيق الانتصارات الحاسمة في المعارك مرهون بمدى الصبر والثبات في لقاء الأعداء، فإذا ما دبّ الخوف وسادت روح الانهزام في الجيش تضعضعت قواه وانهارت معنوياته، لذا كان الفرار من الزحف من الكبائر العظمى في شرعة الله، وبما أن النصر بيد الله فهو صانع النصر، والجنود أدوات وأسباب للنصر، فإن الاستقامة على أمر الله، واجتناب المعاصي أمر ضروري للفوز والغلبة، قال الله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) [الحج: ٢٢/ ٤٠].
236
إرشاد المؤمنين للخير
اشتملت آيات القرآن الكريم على إرشادات ومواعظ للمؤمنين، تدلهم على ما هو خير وفضيلة، وتمنعهم عما هو شر ورذيلة، إحقاقا للحق، وإبطالا للباطل، وبناء للمجتمع الفاضل، وهذه مجموعة أوامر ونواه مع بيان الجزاء الكريم لامتثال الأمر واجتناب النهي، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
«١» «٢» «٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ١٣٠- ١٣٦].
في مطلع هذه الآيات نهى الله المؤمنين عن التشبه باليهود وعرب الجاهلية الذين كانوا يأكلون الربا أضعافا مضاعفة، فكانوا إذا حل أجل الدين، وعجز المدين عن سداد دينه، قال الدائن للمدين: إما أن تقضي أو تربي، فيلجأ المدين إلى القبول اضطرارا بتضعيف الربا أو الفائدة، وتأجيل الدين عاما آخر، فهذا فعل شنيع، واستغلال قبيح، وقد حرّم الله جميع أنواع الربا قليله وكثيره، وكل قرض جرّ نفعا للمقرض في مقابل التأخير فهو ربا، سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا كثيرة أو قليلة،
(١) كثيرة.
(٢) اليسر والعسر.
(٣) الحابسين غيظهم في نفوسهم.
(٤) معصية كبيرة. [.....]
237
لقوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) [البقرة: ٢/ ٤٠].
ثم أمر الله تعالى باتقاء النار التي أعدت للعصاة والكافرين، واتقاؤها يكون بطاعة الله وامتثال أوامره وترك المعاصي والمنكرات، والنار سبع طبقات، العليا منها وهي جهنم للعصاة، والخمس للكفار، والدرك الأسفل للمنافقين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
ثم أمر الله بطاعته وطاعة رسوله، والطاعة موافقة الأمر كما أراد الآمر، كي يرحمنا الله في الدنيا بصلاح الحال وانتظام الأمر، وفي الآخرة بحسن الجزاء،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله..» «١».
والطاعة تتطلب المبادرة إلى فعل ما يوجب مغفرة الله، وجزاء المطيعين جنات فسيحات واسعات عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للمتقين الذين وقوا أنفسهم من عذاب الله بالعمل الصالح، وأوصاف المتقين هي:
الذين ينفقون في السراء والضراء، في الشدة والرخاء، ويكتمون غيظهم، ويملكون أنفسهم عند الغضب، فلا يعتدون على الآخرين إذا كانوا في قوة ومنعة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كظم غيظا، وهو يقدر على إنفاذه، ملأه الله أمنا وإيمانا» «٢».
وهم أيضا يعفون عن مساوئ الناس ويتجاوزون عن ذنوبهم بطيب خاطر وطواعية، والعفو عن الناس من أجلّ أفعال الخير، وهم أيضا يحسنون إلى من أساء إليهم، والله يحب المحسنين، وهؤلاء المتقون إذا فعلوا فاحشة أو ذنبا كبيرا يضر كالزنا والربا، والغيبة والنميمة، أو ذنبا صغيرا لا يتعدى إلى غيرهم، ذكروا عقاب
(١) أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة.
(٢) حديث حسن أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر.
238
الله، وما أعده للظالمين والعاصين، فيرجعون ويتوبون إلى الله، ويندمون على ما فعلوا، وينصرفون عن مهاوي الشيطان، ويعملون بأخلاق الرحمن. أولئك الموصوفون بما ذكرهم: أهل الكمال والتوفيق الإلهي، وجزاؤهم مغفرة من الله ورضوان من ربهم، وجنات تجري من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، ولهم نعيم مقيم دائم، ونعم ثواب العاملين المخلصين.
والخلاصة: قد يتحقق النصر للفئة الضالة المنحرفة امتحانا لأهل الإيمان، وليكون ذلك النصر باعثا المؤمنين على إعادة الحساب وتصحيح الأخطاء، والتفكير الجادّ في إعادة البناء، وسد الثغرات وإزالة عوامل الضعف، والانهزام، وإيجاد جيل قوي وادع يدرك الأخطار، ويلتزم بقانون النصر والغلبة الإلهية القائم على الحق والعدل، وتحقيق التمكين في الأرض لأهل الصلاح المتوحدين المتضامنين، قال الله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) [الأنبياء: ٢١/ ١٠٥].
اتخاذ الأسباب لتحقيق العاقبة الطيبة
يقرر القرآن الكريم قاعدة ثابتة دائمة في الحياة، وهي أن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة، ربطت فيها الأسباب بالمسببّات والنتائج، مع أن الله قادر على كل شيء، ففي الحرب أو السلم، أو الزرع أو التجارة أو التخطيط أو الدراسة العلمية مثلا إذا سار فيها الإنسان على الطرق السليمة، نجح، وإن كان شريرا مجوسيا، وإن خرج الإنسان عن المعقول والمألوف، واتبع طريقا غير معقولة، أو تكاسل وأهمل، كان من الخاسرين، ولو كان شريفا حسيبا، أو رجلا عظيما.
وأحق الناس بالتزام المعقول، والاستفادة من هدي القرآن، هم المؤمنون. قال
239
الله تعالى مبينا سنته الدائمة في الخلق وأن العاقبة للمتقين:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٣٧ الى ١٤١]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
«١» «٢» «٣» »
«٥» «٦» «٧» [آل عمران: ٣/ ١٣٧- ١٤١].
والمعنى: انظروا أيها المسلمون في الماضي والحاضر إلى من سبقكم من الأمم، وتعرفوا على أخبار الماضين، فستجدون منهجا واحدا لا يتغير، وطريقا واحدا لا يتخلف، وهو إن سرتم سير الطائعين الموفقين، نجحتم، وإن سرتم سير العصاة المكذبين خسرتم، إنكم سلكتم طريقا معتدلا يوم بدر فانتصرتم، وسلكتم طريقا خطأ بمخالفة نبيكم يوم أحد فانهزمتم. وهكذا كل ما نتعرض له من هزائم إنما هو بسبب من أنفسنا.
والقرآن بيان واضح للناس عامة، وهدى وموعظة للمتقين خاصة: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) [البقرة: ٢/ ٢].
وإياكم أيها المؤمنون من الوهن والضعف بعد الانهزام في أحد وغيرها، ولا تحزنوا على ما حدث، ولا على من قتل، فإن يمسسكم قتل وجراح في معركة أحد مثلا، فقد مسّ غيركم مثله، فشهداؤكم مكرمون عند الله، وما وقع للأعداء ليس نصرا، ولكنه درس بليغ تتعظون به، لذا
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد: «لو خيرت بين الهزيمة والنصر يوم أحد لاخترت الهزيمة».
لما في تلك المعركة من تربية وعظة وعبرة، أهمها أن مخالفة أمر النبي خروج على سنة الله في تحقيق الظفر.
(١) مضت.
(٢) وقائع.
(٣) لا تضعفوا عن القتال.
(٤) القرح: القتل والجراح.
(٥) نصرفها بأحوال مختلفة.
(٦) ليختبر.
(٧) يهلك ويستأصل.
240
لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تضعفوا أو تحزنوا أو تستسلموا للوهن والحزن، فأنتم الأعلون بمقتضى سنة الله في جعل العاقبة للمتقين، وعلو كلمة الإسلام، وقتلاكم في الجنة، وقتلاهم في النار، فالحرب سجال والأيام دول نداولها بين الناس، فنجعل للباطل دولة في يوم، وللحق دولة في أيام، والعاقبة والنصر في النهاية للمتقين الصابرين.
والمعارك وساحة الحياة ميدان للاختبار والامتحان، ففيها يعلم الله علم مكاشفة وظهور، لا العلم الطارئ بعد الجهل، لأن علم الله سابق ومطابق للواقع لا يتغير، فالله يعلم الذين يؤمنون من الأزل، ثم يظهر في الوجود إيمانهم في الواقع، ويكرّم أناسا بالشهادة والقتل في سبيل الله، وللشهادة درجة عظيمة عند الله والناس، وفي هذه المحن العصيبة يمحّص وينقي الله الذين آمنوا، ويظهر الإيمان الخالص من الإيمان المشوه، ويتضح في الواقع المشاهد إيمان الذين قد علم الله أزلا أنهم يؤمنون، وذلك حتى تصفو النفوس، وتستعد للعودة إلى الطريق الأسلم وخوض معارك ناجحة، يتم بها محق الكافرين أو ذهابهم شيئا فشيئا، وانتصار المؤمنين وتنقية المخلصين وتمييزهم عن المنافقين، وعلى هذا إذا انتصر الأعداء طغوا وبغوا، فيكون هلاكهم مرة واحدة، وإذا انهزموا ضعفوا وهلكوا شيئا فشيئا وأبيدوا، والعاقبة في النهاية للمتقين.
والخلاصة: إن اتخاذ الأسباب المهيئة للرزق والنصر مثلا أمر متفق مع مبدأ الإيمان بقدرة الله الشاملة في إيجاد ما يشاء لأن الله يريد للناس أن يثبتوا ذاتيتهم، ويظهروا أعمالهم، ليتميز المحسن من المسيء، والمجاهد من المتقاعس، والقوي من الضعيف، وإذا كنا نريد أن يتحقق كل شيء بأمر الله التكويني كُنْ فَيَكُونُ فذلك إلغاء لوجود الإنسان، وإهمال لدوره وفعاليته في الحياة، وإن عزيز النفس لا
241
يقبل عادة أن يمنح من غيره كل شيء، وهو منتظر التقاط النتائج، وتقديم الانتصارات على طبق من ذهب، لذا فالعمل شرف، والجهاد فضيلة وإثبات الذات مظهر تكريم وإعزاز.
عتاب المقصرين والمخالفين يوم أحد وبدر
يبين الله تعالى أن سبيل العزة والنصر والكرامة في الدنيا، والثواب في الآخرة، منوط بالجهاد والقتال، والصبر والتضحية، فليست الحياة العزيزة مفروشة بالورود، وليس الفوز والنصر مجرد منحة إلهية من غير عمل وجهاد، فلا بد للفوز في الدنيا من الصلاح والاستقامة ونصر دين الله وإقامة العدل، ومنع الظلم، وسلوك الطرق السوية المألوفة، وتلك هي سنة الله التي لا تتبدل ولا تتغير.
أبان الله تعالى هذه السنة وعرّفنا هذا المنهاج القويم، فقال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
[آل عمران: ٣/ ١٤٢- ١٤٤].
والمعنى: لا يصح لكم أيها المؤمنون أن تصابوا بداء الغرور، فتفهموا أن دخول الجنة يكون من غير جهاد في سبيل الله، وصبر على المعارك الرهيبة، والجهاد أنواع:
جهاد العدو الظاهر بالسلاح والإعداد لطرده من الأوطان والبلاد، وجهاد النفس بمنعها من الأهواء والشهوات وحملها على الطاعة والفضيلة والعمل الصالح، وجهاد باللسان بالحرب الإعلامية الموجهة المدروسة، وجهاد حب المال عند البذل في
242
الأعمال العامة النافعة، وإذا لم يعلم الله وقوع الجهاد والصبر، فذلك دليل على عدم وقوعه بالفعل من المؤمنين.
ثم عاتب الله بعض المؤمنين الذين يعتمدون على الأماني والتمنيات، فلقد تمنى المتخلفون من المؤمنين يوم بدر حضور قتال المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، لينالوا منزلتهم العالية، فلما جد الجد، وجاء يوم أحد، واحتدمت المعركة، لم يصدق كل المؤمنين في القتال، وتوانوا وقصّروا، وانحازوا إلى الجبل والرسول يدعوهم إلى الصمود والقتال، فلا يجيبه أحد.
قال الحسن البصري: بلغني أن رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون، أي يوم بدر: لئن لقينا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفعلن ولنفعلن، فابتلوا بذلك أي يوم أحد، فلا والله ما كلهم صادق، فأنزل الله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
وفي غزوة أحد أشيع خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعض المنافقين: لو كان نبيا ما قتل، من لنا برسول إلى عبد الله بن أبي (زعيم المنافقين) ليأخذ لنا الأمان عند أبي سفيان؟ وتبرأ أنس بن النضر إلى الله من مثل هذا الكلام، وجعل يقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين، وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن مناصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم، فعاتبهم الله بقوله: وما محمد إلا رسول كغيره من الرسل السابقين، إن مات كموسى وعيسى، أو قتل كزكريا ويحيى، فإن ديانتهم بقيت كما هي، وتمسك أتباعهم بها، فالمعقول والمطلوب أن تظلوا مؤمنين مجاهدين مخلصين كما كنتم، ثابتين على المبدأ ولو مات أو قتل، عاملين بمضمون رسالته على الدوام، فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء، يموت كما مات الرسل قبله، وله في الدنيا مهمة مؤقتة تنتهي بانتهاء أجله، والله باق دائم، فمن كان يعبد الله فإن الله حي باق، ومن كان يعبد محمدا
243
فإن محمدا قد مات. ومن يرتد عن دينه، فلن يضر الله شيئا، وإنما يضر نفسه، ومن ثبت على دينه فهو من الصابرين المجاهدين الشاكرين، وسيجزيهم الله جزاء حسنا على ثباتهم والتزامهم دين الله.
إن العتاب الإلهي لون من ألوان التربية والإعداد والتصحيح، وذلك دليل من الله على محبته لعباده وإرادته الخير لهم، فإذا أخطئوا لم يسكت الله على الخطأ، وإن قصروا نبههم لما فيه صلاحهم، حتى يبادروا للعمل البنّاء من جديد، بروح قوية، وعزيمة صادقة، وجرأة وشجاعة نادرة، وإيجابية لا تعرف التقهقر أو التردد، وهذا سبيل العزة والكرامة، وتحقيق الغايات الكبرى.
أجل الموت بإذن الله
هناك أمور حتمية مقدّرة للإنسان لا تزيد ولا تنقص، مردها إلى الله جل جلاله، كالحياة والموت، والعز والذل، والرزق والأجل، اختص الله بعلمها، وما على الإنسان إلا الرضا بالقضاء والقدر، وهذا يعدّ حافزا قويا للبطولة والشجاعة، والإقدام على خوض معارك الجهاد وغمار الموت، بنفس قوية، لا تخور ولا تتردد، ولا تضعف ولا تجبن ولا تتقاعس لأن الأجل محتوم، فليست المعارك والمخاطر مسرّعة للموت، وليس النوم في المنازل ولا على الأسرّة بمطيل للأجل، كما قال الله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ [آل عمران:
٣/ ١٥٤]. وقال سبحانه: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:
٤/ ٧٨].
قال عطية العوفي لما كانت يوم أحد، انهزم الناس، فقال بعض الناس: قد
244
أصيب محمد، فأعطوهم بأيديكم «١»، فإنما هم إخوانكم، وقال بعضهم: إن كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؟ فأنزل الله تعالى في ذلك: وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) [آل عمران: ٣/ ١٤٤]. إلى أن قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٥ الى ١٤٨]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
«٢» «٣» «٤» «٥» «٦» [آل عمران: ٣/ ١٤٥- ١٤٨].
أوضحت الآيات أن محمدا- كبقية الرسل- بشر معرض للموت، لم يطلب لنفسه العبادة، وإنما كان يأمر بعبادة الله وحده، والله حي لم يمت، ومهمة الرسول البلاغ فقط، فليس لوجوده دخل في استمرار عبادة الله.
وأبانت الآيات أيضا أنه ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذن الله أو مشيئته، فالله وحده هو المتصرف في كل شيء، فيأذن للملك بقبض الروح في الموت العادي وغير العادي، كتب الله هذا كتابا محكما محددا بوقت لا يتعداه، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها. وإذا كان العمر بيد الله، فكيف يصح الجبن والضعف؟
ومن يرد ثواب الدنيا بجهاده وعمله، أعطاه الله شيئا منها، ومن يرد بعمله ثواب
(١) أي استسلموا لهم قبل أن يأخذوكم قهرا.
(٢) كم من نبي.
(٣) أي جماعات كثيرة.
(٤) عجزوا.
(٥) أي لقتل نبيهم. [.....]
(٦) ما خضعوا.
245
الآخرة وجزاءها، أعطاه الله شيئا منها، على حسب إرادته وحكمته ومشيئته في كلا الحالين.
وكثير من الأنبياء السابقين قاتل معه في سبيل الله جماعات كثيرة، فما وهنوا ولا ضعفوا ولا خضعوا للدنيا ومتاعها، بل ظلوا صابرين ثابتين على المبدأ، والله يحب الصابرين، وما كان قول أولئك المجاهدين إلا أن قالوا: ربنا اغفر لنا ذنوبنا وخطايانا، وإسرافنا وتجاوزنا أمرك، وثبّت أقدامنا على صراطك المستقيم وأمام عدوك، وانصرنا على القوم الكافرين، فآتاهم الله ثواب الدنيا بالرضا والسعادة والعزة والنصر، وثواب الآخرة وهو الجنة والرضوان، والله يرضى عن المحسنين ويكافئهم بالفوز العظيم.
وما دام الأجل محتوما ومحددا، فيكون ذلك باعثا على الإقدام والتضحية والاستبسال في سبيل إحراز النصر في الحياة على الأهواء والشهوات أم على الأعداء ووساوس الشياطين.
وإن الجهل بالأجل أو العمر فيه الخير والمصلحة، فيبقى الإنسان في أمل وتفاؤل، ويبتعد عن اليأس والإحباط، أما إذا علم الإنسان بوقت أجله، فيفقد الأمل ويعيش منتظرا الأجل المعلوم، وكم رأينا بعض المرضى الذين يخبرهم الأطباء بألا أمل من شفائهم يعيشون بائسين حزينين مكروبين، قلقين في أنفسهم، ومزعجين لغيرهم.
عاقبة ولاء الكفار
يمتحن الله تعالى عادة عباده بأنواع مختلفة من الاختبارات، في السلم والحرب، أو في الرخاء والشدة، أو في الغنى والفقر، أو في الصحة والمرض، أو في الحياة والموت، أو في الفرح والمصيبة، ليعرف المؤمن الصامد الثابت على العقيدة والمبدأ،
246
ويكشف الكافر والمنافق الذي لا هم له إلا النفع المادي الدنيوي، والمطمع المالي والمصلحة السريعة.
وحرصا من الله على استقامة عباده المؤمنين، حذرهم من موالاة الكافرين ومناصرتهم ومتابعتهم وتقليدهم في عملهم وموقفهم، فقال الله سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٤٩ الى ١٥١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
«١» «٢» «٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ١٤٩- ١٥١].
وسبب نزول هذه الآيات أن بعض المنافقين حينما أذيع خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة أحد، قال: من لنا برسول إلى ابن أبي (أي زعيم المنافقين) يأخذ لنا أمانا عند أبي سفيان، فقال بعضهم: لو كان نبيا ما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم، وهذا أبو سفيان ينادي: العزّى (وهو الصنم المعروف) لنا، ولا عزّى لكم، فنزلت هذه الآيات.
وقال السدّي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد، متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق، ثم إنهم ندموا وقالوا: بئس ما صنعنا، قتلناهم، حتى إذا لم يبق منهم إلا الشر ذمة «٥» تركناهم؟ ارجعوا فاستأصلوهم، فلما عزموا على ذلك، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب، حتى رجعوا عما همّوا به، وأنزل الله تعالى هذه الآية: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ.. الآية.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أرسل علي بن أبي طالب يتعرف خبر المشركين بعد أحد، عائدين إلى مكة إلى المدينة؟ ثم رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، فجهز جيشا، وتابع
(١) ناصركم.
(٢) الخوف.
(٣) حجة وبرهانا.
(٤) مأوى ومقام.
(٥) الطائفة القليلة من الناس.
247
المشركين، حتى بلغ (حمراء الأسد) وأخبر معبد بن أبي معبد الخزاعي وهو على كفره أبا سفيان بما صمم عليه رسول الله، وأنه خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط، يتحرقون عليكم، قد اجتمع إليه من كان تخلّف عنه، وندموا على ما صنعوا، فوقع الرعب في قلوب الكفار، وأسرعوا بالعودة إلى مكة.
هذه الآيات تحذر المؤمنين من إطاعة الذين كفروا كأبي سفيان وعبد الله بن أبي وأتباعهما، فإنهم إن أطاعوهم ردوهم خاسرين في الدنيا بالذلة بعد العزة، وتحكّم العدو فيهم، وحرمانهم من السعادة والملك الذي وعد الله به المؤمنين بالاستخلاف في الأرض والتمكين فيها، وكذلك يخسرون الآخرة بالعذاب الشديد في نار جهنم، إن الله مولاكم وناصركم أيها المومنون، فإياكم أن تفكروا في ولاية أبي سفيان أو غيره، واحذروا كلام المنافقين الجبناء، فالله نعم المولى والناصر وهو خير الناصرين.
وسيلقي الله في قلوب الذين كفروا الرعب الشديد بسبب شركهم بالله أصناما وحجارة، لا حجة ولا برهان على صواب عبادتها وتعظيمها، وتوّرث عبادتهم الأصنام خبالا في عقولهم وضعفا في نفوسهم، ويزداد رعبهم كلما وجدوا المسلمين متمسكين بدينهم، ومأواهم النار في الآخرة، وبئس القرار فإنهم الظالمون المشركون العابثون، وهذا الترهيب يستدعي زيادة شجاعة المؤمن الموعود بالنصر. وضعف المشرك وخوار عزيمته، لأنه مبشر بالعذاب والعقاب.
إن الأمة الواعية هي التي تعتمد على نفسها، وعلى من يشاركها بحرارة وصدق في آلامها وآمالها، وإن أخطأ البعض لا يصح أن يكون سببا للارتماء في أحضان العدو، فما عند الأعداء إلا الخطط المدمرة، والكيد لنا، وإبقائنا أذلة أتباعا لهم، وإن ما نشاهده أعقاب حرب الخليج ١٩٩٠ م من اعتماد على مساندة الأعداء وتضييع للمصالح الكبرى دليل واضح على صدق التحذير القرآني من إطاعة الآخرين الذين لا صدق ولا إخلاص في دعمنا ومساندتنا.
248
أسباب الهزيمة في غزوة أحد
للنصر أسباب وللهزيمة أسباب، والمؤمن المتبصر هو الذي يدرك ما يجب عليه الحالين. وقد أبان القرآن أسباب هزيمة المسلمين في غزوة أحد، للرد على المنافقين المشككين في نبوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم،
قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
«١» «٢» «٣» [آل عمران: ٣/ ١٥٢].
أقسم الله تعالى في هذه الآية أنه قد نصر المؤمنين أولا في بداية أمر المعركة وقت أن أخذوا يقتلون المشركين قتلا، ويفتكون بهم فتكا، ولكنهم لما طمعوا في الغنائم وانقسموا فريقين: فريق الرماة فوق الجبل تركوا أماكنهم حينما رأوا انهزام المشركين، وفريق ثبت مكانه وقالوا: لا نخالف أمر الرسول أبدا، وهم القائد عبد الله بن جبير مع نفر قليل من أصحابه، والفريق الأول وهم الرماة هم الذين أرادوا الدنيا وتركوا أماكنهم طلبا للغنيمة، والفريق الثاني هم الذين أرادوا الآخرة وثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم تحول النصر إلى هزيمة، وعفا الله عن المخالفين، وصرف المؤمنين عن المشركين ليمتحن إيمانهم ويظهر الصادقون من المنافقين، وتاب الله بفضله العظيم على المؤمنين.
ثم ذكّر الله المؤمنين حيث انهزموا ولم يلتفتوا إلى ما وراءهم، والحال
أن الرسول
(١) أي تقتلونهم بأمر الله وإرادته.
(٢) أي جبنتم وضعفتم.
(٣) ليختبر صبركم.
يدعوهم لمناصرته قائلا: «إلي عباد الله، إلي عباد الله، أنا رسول الله، من يكر فله الجنة».
فقال تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)
«١» «٢» «٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ١٥٣].
أي إن الله جازاكم على صنيعكم، وألقى عليكم الغم والحزن بسبب الغم الذي أدخلتموه على الرسول وسائر المؤمنين بعصيانكم أمره ورأيه، وما فعل بكم ذلك إلا ليمرنكم ويدربكم على الشدائد، ولئلا تحزنوا على شيء فات، ولا ما أصابكم من عدوكم، والله خبير بأعمالكم ومجازيكم عليها.
ثم بيّن الله فضله على المؤمنين الصادقين الملتفين حول الرسول بإلقاء النعاس عليهم، وكشف زيف المنافقين الذين لا يثقون بنصر الله، قائلين: لن يأتي النصر لنا، وإن محمدا ليس نبيا، إذ لو كان نبيا ما هزم، رابطين بين النبوة والنصر، ومضمرين الحقد والعداوة لبقية المؤمنين، فرد الله عليهم بأن النصر من عند الله، والأمر كله لله، فقال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٤]
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤)
«٥» «٦» «٧» «٨» «٩» «١٠» [آل عمران: ٣/ ١٥٤]. فالنصر من عند الله، وهذا رد على
(١) تهربون في الوادي.
(٢) أي تبعدون في الذهاب، ولا تلتفتون لأحد.
(٣) أي جماعتكم المتأخرة التي وقفت تدافع عن النبي.
(٤) حزنا متصلا بحزن.
(٥) أمنا. [.....]
(٦) سكونا، ومقاربة للنوم.
(٧) يحيط كالغشاء.
(٨) أي لخرج المقدر موتهم إلى مصارعهم التي يموتون فيها.
(٩) ليختبر.
(١٠) ليخلّص ويزيل.
المنافقين القائلين: هل لنا من الأمر والنصر نصيب، ولو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا، أي إن الخروج للقتال خطأ، ولو لم يخرج المسلمون لم يقتل أحد.
ثم أوضح الله تعالى أن الذين تركوا أماكنهم أو انهزموا إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب أفعالهم وذنوبهم السابقة، ولكن عفا الله عنهم لما تابوا، قال تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
«١» [آل عمران: ٣/ ١٥٥]. أي إن الله غفور للذنوب حليم لا يعجل بالعقوبة.
لقد كان انهزام المسلمين في أحد بسبب الحرص على المادة والغنائم، ومخالفة أوامر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والإصغاء لوساوس الشيطان، واقتراف الخطايا والذنوب، وإن الاستفادة من دروس الهزيمة أهم من فوائد النصر والغلبة، فلا يمكن تحقيق النصر إلا بتجنب وسائل الضعف والهزيمة، والله برحمته ينبّه هؤلاء المخطئين كيلا يقعوا في الخطأ المماثل إلى الأبد.
تبديد مخاوف الموت
يشيع بين الناس- بسبب وسوسة الشيطان- خطأ فاسد ومعتقد باطل أن الأمان في البقاء في البيوت والمدن، وأن الموت في السفر والارتحال، أو الحرب والقتال، وأن من سافر في تجارة ونحوها، ومن قاتل فقتل، لو قعد في بيته لعاش ولم يمت في ذلك الوقت الذي عرّض فيه نفسه للسفر أو للقتال.
فندّد الله تعالى في قرآنه هذا الاعتقاد الفاسد، وأبان حقيقة أمر الموت، وأنه بيد
(١) حملهم على الزلة بالوسوسة.
الله وحده، وأن الاستشهاد في سبيل الله طريق لغفران الله والتعرض لرحمته، فقال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ١٥٦- ١٥٨].
أبطل الله في هذه الآيات ما يوسوس به الشيطان من أن السفر أو الجهاد عرضة للقتل أو الموت، فيا أيها المؤمنون بالله ورسوله، لا تكونوا كأولئك المنافقين الكفار الذين لا يهتدون إلى صواب الرأي وسلامة الاعتقاد، فهم يقولون في شأن إخوانهم في الدين، الذين يسافرون للتجارة، أو يجاهدون في سبيل الله، فيموتوا أو يقتلوا:
لو كانوا عندنا مقيمين، لم يبرحوا مكانهم، ما ماتوا وما قتلوا.
إن هذا المعتقد خطأ واضح، فليست المنايا ترسل بلا حساب، وأن الهلاك بالسفر أو الحرب، والمنافق أو الجبان هو الذي يعتقد أنه لو قعد في بيته لم يمت، وحينئذ يتحسر أو يتلهف لو سافر أو جاهد، أما المؤمن الشجاع فهو الذي يتيقن أن كل موت أو قتل بأجل سابق، فيسلم الأمر لله، ويكون التسليم لله تعالى بردا وسلاما على قلبه، قال الله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا [آل عمران: ٣/ ١٤٥].
احذروا أيها المؤمنون أن تكونوا مثل الكفار والمنافقين، وثقوا بالله واعتقدوا حق الاعتقاد أن الله هو الذي يحيى ويميت، والله بما تعملون بصير، فلا تخفى عليه
(١) سافروا.
(٢) أي غزاة مقاتلين.
252
خافية من خبايا نفوسكم ومعتقداتكم، وفي هذا ترغيب للمؤمنين بتسليم الأمر لله، وتهديد للكافرين بسبب سوء الاعتقاد.
ووالله أيها المسلمون لئن قتلتم في سبيل الله أو متم، فإن مغفرة الله لكم ورضوانه عليكم خير من كل ما تجمعون من حطام الدنيا الفانية. وكل ميت أو قتيل يحشر إلى الله، فيحاسبه على ما قدم في دنياه، وأجره على الله. وهذا وعظ بالآخرة والحشر، وتزهيد في الدنيا والحياة، وإفهام واضح لحقيقة الموت والحياة.
إن هذا التصحيح لأخطاء الناس عن أجل الموت يبعث في النفس روح التضحية والفداء، والإقدام والجهاد من أجل إرضاء الله ورفع لواء الإسلام والذود عن حياض الوطن الغالي، فكل من يقتل في سبيل الله حي يرزق عند ربه، وحي على ألسنة الناس بالذكر الطيب والثناء الحسن.
وإن الجبن والاستضعاف في الأمة وتهيب مخاطر الموت يوقع الأمة والبلاد برمتها في ذل وقهر أبدي، يجعل الناس عبيدا أو كالعبيد للقوي المستبد، والسيد الظالم. ولقد ذاقت بلاد المسلمين والعرب ويلات الاستعمار، وأدركت بتجربة قاسية مدى الظلم والذل والنكال الذي يلحق بالكرامة والثروة والقيم والأعراض، فهل من متعظ مدرك ما نعانيه من وجود الصهاينة في بلادنا والمستعمرين الجدد في منطقة الخليج تحت مظلة ما يسمى بالنظام العالمي الجديد؟
الأخلاق النبوية
أعد الله تعالى نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم إعدادا طيبا يتناسب مع مهمة الرسالة، وسياسة الدعوة، وصلاح الناس، وترغيبهم في الإسلام وذلك بتليين قلب النبي وغرس
253
خصلة الرحمة في قلبه، ومشاورة أصحابه، ومحبته الخير لهم بالدعاء والاستغفار لهم والعفو عنهم، والتوكل على الله وطلب المعونة والنصر منه سبحانه وتعالى.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
«١» »
«٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ١٥٩- ١٦٠].
اشتملت هذه الآيات على مقومات نجاح الدعوة النبوية وأصول الحكم الإسلامي ومنهج التعامل مع الناس. وأول هذه المقومات: إلانة قلب النبي ورحمته الشاملة بالناس، فالله تعالى جعل نبيه سهل المعاملة، ليّن الكلام والإرشاد، شديد العطف، إذ لو كان شديد النفس غليظ القلب، لانفض الناس من حوله، ولكن الله جعله رحمة مهداة للعالمين: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (١٠٧) [الأنبياء: ٢١/ ١٠٧].
وجعله المثل الأعلى الكامل في الخلق والمعاملة، حتى امتدحه ربه بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) [القلم: ٦٨/ ٤].
ومن هذه المقومات التي أمر الله بها نبيه: أن يعفو ويصفح عن أخطاء قومه، فلا يجازيهم على معاملتهم السيئة له، وإنما يقابل الإساءة بالإحسان، ويستغفر الله لهم فيما وقعوا به من تبعات وأخطاء.
ومن مقومات الإسلام ودعوته: الشورى، فهي من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام، ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب، وقد مدح الله المؤمنين بقوله: وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [الشورى: ٤٢/ ٣٨].
(١) لا ينتهم بخلق سمح.
(٢) جافيا في المعاشرة.
(٣) لتفرقوا.
(٤) فلا قاهر لكم.
254
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما خاب من استخار، ولا ندم من استشار» «١».
وقال عليه السلام: «المستشار مؤتمن» «٢».
والاستشارة مطلوبة في جميع شؤون الدنيا والدين، أما أمور الدين فالقرآن هو الحكم فيها، وأما أمور الدنيا فالعقل والتجربة والحنكة والود أساسها.
ومن مقومات العقيدة الإسلامية: التوكل على الله، وتفويض الأمر والشأن له، ولكن بشرط اتخاذ الأسباب، واقتران التوكل بالجد في الطاعة، والعمل والحزم وبذل الجهد بحسب مقتضى الحكمة وواقع الأمور.
ثم نبّه الله المؤمنين إلى عقيدة النصر بقوله: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ أي الزموا الأمور التي أمركم بها ووعدكم النصر معها، فما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم، لأن جميع ما في الكون بتدبيره ومشيئته، وإذا خذل الله قوما بأن تركهم وتخلى عنهم في مواطن الحاجة والشدة، فلن يجدوا ناصرا لهم من بعده، لذا وجب عليهم أن يتوكلوا على الله وحده بعد اتخاذ الأسباب، لأنه لا ناصر لهم سواه، ولا معين لهم غيره، ونصر الله مرهون بشرط نصرة دين الله، لقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) [محمد: ٤٧/ ٧].
إن هذه القيم الخلقية القرآنية- النبوية تعد اللبنة الأولى لبناء الأمجاد والحفاظ على حرمة الديار والبلاد، وإن تخلق النبي صلّى الله عليه وسلّم بأخلاق القرآن يعد دليلا حسيا وترجمة عملية للالتزام بالأخلاق القائمة على حماية الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة والمساواة.
(١) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك.
(٢) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة، والترمذي عن أم سلمة، وابن ماجه عن ابن مسعود. [.....]
255
بعض المقومات الإسلامية
من المعلوم أن رسالة الإسلام رسالة إنقاذ وإصلاح للمجتمع، وغرس لمبادئ الفضيلة والخصال الكريمة في النفوس المسلمة، وإيجاد رابطة قوية ووثيقة بين الأفراد، وتنمية الشعور بالواجب، وحماية الحقوق العامة والخاصة لكل إنسان. ومن أهم هذه المبادئ والمقومات: الحفاظ على حقوق الجماعة بصون الأمانة وتحريم الخيانة، سواء من المغانم أو غيرها، واتباع ما يرضي الله والتزام أوامره، والبعد عما يسخط الله ويوجب العذاب، وليس الناس في الجنة في درجة واحدة، وإنما هم في درجات، ومهمة النبي صلّى الله عليه وسلّم تبليغ الأحكام والشرائع لأمته، وتلاوة آيات القرآن الكريم عليها وإفهامها لهم، وتعليمهم جميع ما في القرآن، والسنة النبوية، فإذا ما امتثلوا هذه التعاليم كانوا مثال المجتمع الفاضل، وتخلصوا من مفاسد الجاهلية البدائية وضلالاتها الموروثة، وبنوا حضارة جديدة قائمة على الحق والعدل والإحسان والأخلاق الفاضلة.
قال الله تعالى مبينا هذه المقومات:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦١ الى ١٦٤]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
«١» «٢» «٣» [آل عمران: ٣/ ١٦١- ١٦٤].
وسبب نزول آية الإغلال:
أنه قيل للرماة الذين تركوا أماكنهم يوم أحد: لم
(١) يخون في الغنيمة، والإغلال: الخيانة وأخذ بعض الغنائم الحربية قبل قسمتها بين الغانمين.
(٢) رجع متلبسا بغضب.
(٣) يطهرهم من أدناس الجاهلية.
256
تركتم أماكنكم؟ فقالوا: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: من أخذ شيئا من مغنم فهو له، وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بل ظننتم أننا نغل- أي نخون- ولا نقسم، أي الغنيمة.
ومعنى الآيات: أن الله قد عصم أنبياءه من ارتكاب بعض الدناءات، فلا يصح ولا يليق بمكانة نبي أن يأخذ شيئا من الغنائم، لأن النبي هو المثل الأعلى في الخلق والكرامة للناس جميعا، ومن أخذ شيئا في الدنيا بغير حق، عوقب عليه في الآخرة، ولا يظلم ربك أحدا بمؤاخذة من غير ذنب.
ولا يعقل في ميزان الحق والعدل أن يسوّى بين الطائع والعاصي، والمحسن والمسيء: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ. [آل عمران: ٣/ ١٦٢]. والعدل يقضي أيضا بتفاوت درجات المحسنين، وتباين منازلهم، فمنازلهم في الجنة بعضها أعلى من بعض في المسافة أو التكرمة، وكذلك المسيئون يعذبون في جهنم بألوان مختلفة من العذاب بحسب تفاوتهم في السوء وارتكاب الفواحش والمنكرات، فهم في دركات متفاوتة من النار.
وكان من أعظم النعم على المؤمنين: بعثة النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، إذ أرسله ربه رحمة للعالمين، وكان من بين العرب قومه، فهو من جنسهم، وهو عربي من ولد إسماعيل، فجدير بقومه العرب أن يكونوا سبّاقين إلى الإسلام، والتصديق برسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ورسالته إصلاح وإنقاذ لهم وللبشرية جمعاء، يرشدهم إلى الإيمان الحق بالله عز وجل وينقذهم من ظلمات العقائد والأخلاق الفاسدة إلى نور الهداية الربانية والخصال الكريمة والمبادئ القويمة، ويتلو عليهم آيات القرآن الدالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته وعلمه وكمال صفاته، مثل قوله سبحانه:
257
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) [آل عمران: ٣/ ١٩٠].
والرسول يزكّي النفوس، ويطهرها من كل دنس وفحش ورذيلة وكفر ومعصية، واستطاع أن يخرج من العرب الجاهليين أمة لها نظام وحكم وسياسة وإدارة فاقت كل نظام سابق، ويعلّم الرسول أمته القرآن والكتابة والحكمة والسنة النبوية حتى صار منهم الكتّاب والعلماء والحكماء والقادة في جميع العلوم والمعارف، وإن كانوا سابقا في متاهة وضلال مبين.
والخلاصة: إن رسالة السماء تتطلب من الناس الحفاظ على الحقوق فلا سرقة ولا خيانة من المغنم، وهم أمة الحضارة والمدنية إن اتبعوا تعاليم القرآن وفهموا أسرار التشريع وعملوا بمنهج النبي صلّى الله عليه وسلّم وسيرته العطرة.
إرشاد المؤمنين ببيان قبائح المنافقين
يظن بعض الناس خطأ أن النصر على العدو ينبغي أن يكون دائما في جانب المسلمين مهما كان وضعهم، ومهما خالفوا وعصوا أوامر دينهم، ويظن آخرون خطأ أيضا أن الدفاع عن الوطن وتخليص الأراضي المحتلة من الغاصب المحتل ليس جهادا في سبيل الله، وأن الشهداء من أجل ذلك ليسوا شهداء في الجنة.
لقد أجاب القرآن عن هذين الخطأين، وردّ تلك الشبهتين بما يبين الحقيقة والصواب، ويرشد إلى واجب المؤمنين في الأخذ بالأسباب وتصحيح الأخطاء بين التصور وواقع الأمر، فقال الله تعالى، معلّما ومبينا وجه الحق والاستفادة من الأحداث، ومعرّفا لهم أن ما أصابهم من قلق للمصيبة التي نزلت بهم بعد أحد إنما كان ذلك لسبب من أنفسهم، قال سبحانه:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٨]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
258
«١» «٢». [آل عمران: ٣/ ١٦٥- ١٦٨].
ترشد هذه الآيات الكريمات أهل الإيمان والحق إلى معرفة أسباب الهزيمة في أحد من خلال هذا العتاب الإلهي، فإن كنتم أيها المؤمنون هزمتم في معركة أحد وقتل منكم سبعون، فقد هزمتم المشركين في معركة بدر وقتلتم من المشركين سبعين وأسرتم سبعين، على أن هزيمتكم في أحد كنتم أنتم سببها، كما قال سبحانه: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران: ٣/ ١٦٥] علما بأن الله قادر على نصركم لأنه سبحانه القادر على كل شيء، فلا يقع شيء خارج عن قدرته، ولكنه سبحانه أراد أن يعلّمكم من دروس الهزيمة ما تتمكنون به من تجنب أسبابها في معارك أخرى. وما أصابكم من مصيبة وقلق يوم أحد، وقتل سبعين من المسلمين، يوم التقى الجمعان والجيشان، جيش المسلمين وجيش المشركين، فبإذن الله وإرادته وتقديره لأن كل شيء في الوجود خاضع لإرادته وحكمته.
لقد حدثت الهزيمة في معركة أحد، ليعلم إيمان المؤمنين، ويعلم نفاق الذين نافقوا، أي ليتحقق في الظاهر والواقع والتطبيق موقف أهل الإيمان وموقف أهل النفاق، ويتميز أعيان المؤمنين من أعيان المنافقين، لقد قيل للمنافقين: تعالوا قاتلوا في سبيل الله وجاهدوا للدفاع عن الدين والحق والعدل، ابتغاء مرضاة الله، لا
(١) من أين لنا هذا الخذلان؟
(٢) فادفعوا.
259
لمكسب دنيوي، أو تعالوا قاتلوا دفاعا عن النفس والأهل والوطن، فما كان من هؤلاء المنافقين إلا أن قعدوا وتكاسلوا قائلين للمؤمنين: لو نعلم أنكم تتعرضون للقتال لا تبعناكم وسرنا معكم، ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون، إنهم بهذه المقالة وتخلفهم عن جيش المسلمين هم يومئذ للكفر أقرب منهم للإيمان، فإن من يقعد عن الجهاد في سبيل الله، أو الدفاع عن الأوطان، ليس من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) [الحجرات: ٤٩/ ١٥].
إن هؤلاء الذين تخلفوا عن المشاركة في القتال يوم أحد هم جماعة تظاهروا بالإيمان بأفواههم فقط، ولم يؤمنوا حقا بالإسلام، فهم المنافقون. إنهم قالوا لأمثالهم المنافقين المشاركين في المعركة، وقعدوا هم عن الجهاد: لو أطاعونا ولم يسيروا مع المسلمين ما قتلوا، وكأنهم يظنون أن الموت والهلاك فقط بسبب الذهاب إلى ساحات القتال. إنهم جبناء. فلو أن أجل الموت جاءهم في السلم، وهم في بيوتهم، هل يستطيعون أن يدفعوا الموت عن أنفسهم؟ لا، فهم أينما وجدوا يدركهم الموت، ولو كانوا في بروج مشيدة.
والخلاصة: إن النصر ليس لازما أن يكون دائما في صف المسلمين، وبخاصة إذا خالفوا أوامر دينهم، والجهاد كما يكون من أجل إعلاء كلمة الله والدين والحق، يكون من أجل البلاد والديار والأوطان، وتخليص الأراضي من أيدي المعتدين.
منزلة الشهداء والمجاهدين وجزاؤهم
إن الصراع قائم منذ القديم بين أتباع الدين الحق وبين الأعداء الذين يقاومون دعوة الأنبياء، ويحرصون على حفظ مصالحهم الدنيوية وزعاماتهم ومناصبهم، ولا
260
يسمحون للمستضعفين أن تكون لهم عزة وكرامة، وقوة ومنعة. لذا تنشأ الحروب بين الفريقين، ويصبح الجهاد وردّ العدوان أمرا واجبا وفريضة لازمة، ويكون تقديم الشهداء وبذل التضحيات في الأمة عملا مفروضا. وقد جعل الإسلام للشهداء منزلة عالية في الدنيا بتخليد ذكرهم والثناء الحسن عليهم، وفضلوا في قبورهم بالرزق من الجنة من وقت القتل، حتى كأن حياة الدنيا دائمة لهم، إذ لا يرزق إلا حي.
قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٥]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
«١» [آل عمران: ٣/ ١٦٩- ١٧٥].
تضمنت هذه الآيات الشريفة الكلام عن منزلة الشهداء، وعن بطولات المجاهدين في سبيل الله المخلصين أعمالهم ابتغاء مرضاة الله.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب إخوانكم بأحد، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم وشربهم وحسن مقيلهم قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا، فقال الله تعالى: أنا أبلغهم عنكم»، فنزلت هذه الآية.
(١) أي الألم الشديد والجراح يوم أحد.
261
آية الشهداء هذه تحث المؤمنين على الجهاد ونصر الإسلام وإعلاء كلمة الله، وترغب في الاستشهاد في سبيل الله، لأن للشهداء مكانة عالية عند ربهم، فهم أحياء عند ربهم حياة من نوع خاص، في عالم الغيب، يمددهم الله برزق من الجنة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس: «أرواح الشهداء على نهر بباب الجنة يقال له بارق، يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا».
هؤلاء الشهداء فرحون بما رأوه من نعيم واسع وفضل كبير وإكرام جليل من الله، وهم مسرورون بإخوانهم المجاهدين الذين يتبعونهم على درب الجهاد والاستشهاد، لما شاهدوه من الجزاء العظيم لهم: وهو حياة أبدية ونعيم دائم، لا خوف عليهم من مكروه، ولا حزن على ما فاتهم في الدنيا، وهم يستبشرون بما يتجدد لهم من نعمة الحياة عند ربهم، ورزقه لهم، وحفظ ثوابهم العظيم.
والمجاهدون الذين يحظون بشرف الشهادة هم المؤمنون الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم الألم الشديد والجراح في غزوة أحد، فلبوا نداء الرسول صلّى الله عليه وسلّم حينما طلبهم فورا بعد أحد للقاء أبي سفيان في غزوة حمراء الأسد، للذين أحسنوا منهم العمل واتقوا ربهم وخافوا عقابه لهم أجر عظيم يتناسب مع جهادهم وتضحياتهم.
وهم الذين قال لهم بعض الناس (نعيم بن مسعود) : إن الناس وهم قريش قد جمعوا جموعهم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم، وذلك في غزوة بدر الصغرى، فزادهم قول الناس المثبّطين إيمانا بالله وثقة به ويقينا في دينه، فخافوا الله، ولم يخافوا الناس، واعتمدوا على نصره وعونه قائلين: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. أي كافينا الله وهو نعم الناصر المتولي أمورنا، وهذه الكلمة هي التي قالها إبراهيم الخليل حينما ألقي في النار، وقالها النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. ولما
262
فوض أولئك المؤمنون المجاهدون أمورهم لربهم، أعطاهم من الجزاء أربعة معان:
النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضى الإلهي، والله صاحب الفضل العظيم.
إنما ذلكم الشيطان وهو نعيم بن مسعود المثبّط للمسلمين قبل إسلامه، أو هو إبليس يخوفكم- أيها المؤمنون- أنصاره وهم المنافقون وقريش ومن معهم من صناديد الكفار، فلا تخافوهم وخافوني باتباع أمري وجاهدوا مع رسولي إن كنتم مؤمنين حقا.
ومجمل القول: إن المؤمن القوي لا يكون جبانا، وإن الشهداء أحياء بعد قتلهم حياة غيبية خاصة، ورزقهم في الدنيا من الجنة، والخوف يجب أن يكون من الله فقط لا من الأعداء، وعلى المؤمن أن يثق بتأييد الله وعونه ونصره، ويتخطى كل أسباب الخوف من غير الله.
استبعاد الخوف من الأعداء
الخوف غريزة في البشر، وتزداد المخاوف حين لقاء الأعداء في المعارك، ولكن الإيمان بالله يلقي في النفس الطمأنينة، ويقوّي النفوس المؤمنة، فترى المؤمن قويا شجاعا مقداما، والكافر ضعيفا جبانا متقهقرا، ولا يتغير هذا الموقف في القديم والجديد، فأهل الإيمان هم الشجعان، وغير المؤمنين هم الجبناء عادة.
وجاء القرآن لتربية نفوس المؤمنين، وتبديد المخاوف من ملاقاة الأعداء، وغرس الثقة والقوة في صفوف الدعاة إلى الله، لأن إرادة الله هي الغالبة، والله سبحانه هو القوي الغالب القاهر. ومن مقتضى الإرادة الإلهية تمييز أهل الإيمان عن غيرهم، لتعرف مكانتهم ومنزلتهم عند الله تعالى.
قال الله عز وجل مبينا الفارق بين صف المؤمنين وبين صف الكافرين:
263

[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٧٦ الى ١٧٩]

وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ١٧٦- ١٧٩].
والمراد من هذه الآيات توصية النبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته من بعده بما يجب أن يكونوا عليه حين لقاء أعدائهم. فلا تجعل أيها النبي نفسك حزينة كئيبة من موقف المسارعين في نصرة الكفار، إن هؤلاء لا يحاربونك ويضرونك، إنما يحاربون الله، فهم لا يضرون الله شيئا، وإنما يضرون أنفسهم، والدمار عليهم، يريد الله ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من الثواب، لفساد طبيعتهم، وميلهم إلى الشر والضرر، ولهم في الآخرة عذاب شديد، لمساعدتهم في نصرة الكفر وتأييده.
وإن الذين بدلوا الكفر بالإيمان، فاختاروا الكفر، وآثروه على الإيمان، لن يضروا الله شيئا، بل الضرر واقع عليهم، ولهم عذاب مؤلم جدا في الآخرة. ولا يغترن هؤلاء الكفرة بإمهال العذاب عنهم، فليس ذلك الإمهال خيرا لهم، بل هو شر عليهم، لأن إمهالهم وتركهم مدة أخرى من الزمان ليزدادوا إثما على إثم، ويمعنوا في الضلال والباطل، ولهم عذاب بالغ الإهانة والذل.
(١) أي نمهل ونتركهم يفعلون ما شاؤوا مع كفرهم.
(٢) يصطفي ويختار.
264
وما كان الله ليترك المؤمنين على حالهم، حتى يميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، لأن بهذا التمييز والغربلة يعرف المخلصون، وينقّى المجتمع من بذور الشر والفتنة والفساد، ويكون هذا التمييز لاختبار المؤمنين بالشدائد والمصائب، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) [محمد: ٤٧/ ٣١].
وما كان الله ليعلمكم حقيقة أنفسكم بطريق الغيب، وإنما يعلمكم بالحقائق في ميدان التجربة والممارسة والتكاليف، فذلك الميدان هو الدليل القاطع على إخلاص المؤمن، وتردد المنافق وجبنه.
لا بد من أن يمر الناس في عالم الدنيا بمرحلة الابتلاء والاختبار ليظهر الصادقون من الكاذبين، أما مرتبة الاطلاع على الغيب فهي مختصة بمن يختارهم الله من خلقه للرسالة والنبوة، وإذا أطلع الله رسوله على بعض الغيب، وأخبر به الناس، فيكون منهم الذين يؤمنون بالغيب ومنهم الكافرون، والإيمان بالله ورسله وغيبياته وتقوى الله محقق للثواب العظيم والرضوان الإلهي. والغيب: كل ما غاب عن البشر، مما هو في علم الله من الحوادث التي تحدث، والأسرار التي يبطنها المنافقون، والأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس.
تبين لدينا: أن تآمر الأعداء على المؤمنين لن يحقق فائدة تذكر، وأن الخوف منهم يتصادم مع شرف الإيمان، والإيمان والتقوى أمران أساسيان في تحقيق الظفر والنصر في الدنيا، والأجر العظيم في الآخرة.
البخل بالمال والإنفاق في سبيل الله
إن بناء المجد والحضارة للأمة، والدفاع عن شرفها وعزتها وكيانها يتطلب جانبا مهما في الحياة العملية ألا وهو الإنفاق في سبيل الله، والبعد عن البخل والشح، والتضحية بشيء من المال كالتضحية بالنفس والنفيس.
265
فالإنفاق بسخاء في سبيل المصلحة العامة ضرورة وفضيلة، والبخل والتقصير في الاسهام بالقضايا العامة ممنوع ورذيلة بل وداء وبيل. ولذا رغب القرآن الكريم بالإنفاق، وحذر من البخل، وتوعدّ الكانزين والبخلاء بالعذاب في نار جهنم، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٤]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ١٨٠- ١٨٤].
قال ابن عباس وغيره: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب وبخلهم ببيان ما علّمهم الله من أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والمعنى: لا يظنن أحد أن البخل وكنز المال مفيد في الملمات، وأن الجود يفقر والإقدام قتال، لا، فإن البخل شر مستطير على الأمة والفرد، فمن قصر بأداء الزكاة المفروضة أو أهمل واجبه في دعم مصلحة الأمة العليا، استحق العذاب الشديد في نار جهنم في الآخرة، وكان محل نقد وذم وتشنيع عليه من أبناء مجتمعة في الدنيا.
أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن من كان له مال، فلم يؤد زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع «٥» يأخذ بلهزمتيه «٦»، ثم يقول له: أنا مالك، أنا مالك، أنا كنزك.
(١) سيجعل طوقا في أعناقهم.
(٢) أمرنا وأوصانا.
(٣) هو ما يتقرب به إلى الله تعالى، وتأكله النار:
تحرقه.
(٤) كتب المواعظ.
(٥) أي ثعبانا عظيما.
(٦) أي شدقيه. [.....]
266
وكيف يجوز البخل، والله مالك السماوات والأرض هو الرزاق، والمطلع على أعمال العباد، لا تخفى عليه خافية،
لذا أمر الله بالإنفاق في قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: ٥٧/ ٧]، وقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة: ٢/ ٣].
وقد وبخ الله اليهود حين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ
قال ابن عباس: أتت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل الله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ [البقرة: ٢/ ٢٤٥] فقالوا: يا محمد، أفقير ربك؟ يسأل عباده القرض، ونحن أغنياء، فأنزل الله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ.
ووبخهم أيضا على جرمهم الخطير الشنيع، وهو قتل الأنبياء بغير حق، ويقال لهم يوم القيامة: ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي المحرق والمؤلم، وذلك بسبب ارتكابهم الذنوب والفواحش، وليس الله بظالم أحدا من عباده، فيؤاخذه بلا ذنب.
هؤلاء اليهود الذين حاولوا أيضا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم بدس السم في طعامه يوم خيبر، وهم المانعون للزكاة القائلون كذبا: إن الله عهد إلينا ألا نؤمن برسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، ويفترون على الله الكذب بزعمهم أن الله أوحى إليهم ذلك في التوراة. فرد الله عليهم بأن هذه معجزة، وقد سبق أن أرسلت لكم الأنبياء الكثر ومعهم المعجزات، وأتوكم بالأدلة الواضحة الدالة على صدقهم، فلم كذبتموهم، ولم تصدقوهم، ولم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟
فإن كذبوك أيها النبي محمد بعد هذا كله، فقد كذبت رسل كثيرون قبلك، جاؤوا بالمعجزات والكتب الإلهية مثل التوراة ذات الهدى والنور، والإنجيل الكتاب المنير، ومع ذلك لم يؤمنوا حق الإيمان.
أجل! إن أداء الزكاة المفروضة، والإنفاق بالصدقات المطلقة سبيل واضح من
267
سبل التعاون الإنساني البناء وتحقيق التكافل الاجتماعي الواجب عقلا ودينا وقانونا، وإن البخل والشح داء مدمر للأمة، ومعوق نهضتها، ومقوض بنية عزتها وكرامتها.
الموت أمر حتمي والدنيا دار ابتلاء
الحياة الإنسانية مدرسة كبري، وميدان لتسابق الأعمال الخيرية، والتنافس الشريف، والعمل والعطاء، والبذل والبناء، ولا بد من طي صحيفة العمر الإنساني بالأجل المحتوم والموت المحقق، فمن عمل خيرا سعد في الدنيا والآخرة، ومن قصّر في واجبه كان مغرورا مخدوعا. ولا تخلو الحياة من مصاعب ومشاق، ومحن وبلايا، ومصائب وفتن في الأموال والأنفس، ويتعرض أهل الإيمان لحملة مكثّفة دائمة وسلسلة من ألوان الأذى والشر، ولكن لا بد من صبر واعتماد على الله، مقدّر الأشياء، والفعال لما يريد.
لذا حذر القرآن الكريم من تفويت الفرصة قبل مفاجأة الموت، فقال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٦]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ١٨٥- ١٨٦].
هذه الآيات الكريمات وعظ للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأمته في شأن الدنيا وأهلها، ووعد كريم
(١) تمتع الخداع.
(٢) لتختبرن بالمحن، والبلاء: الاختبار، والمراد: لتعاملن معاملة المختبرين، حتى تظهر أحوالكم على حقيقتها.
268
في الآخرة، فبالتفكر في الموت تهون الأمور، ولا يعبأ أحد بما يلقاه في الدنيا من مصاعب ومشكلات ومؤذيات، فكل إنسان إلى الموت سائر، فمن كان مسيئا لنفسه ودينه وأمته فإساءته محدودة موقوتة، لا داعي للتضجر منها ولا التألم، وسيجازى عليها جزاء أوفى. ومن كان مؤمنا عاملا الخير، يوفى جزاءه وحقه كاملا غير منقوص يوم القيامة.
ومن نحّي عن النار وأدخل الجنة، فقد فاز فوزا عظيما، لأن روحه سمت وغلبت صفاته الطيبة على نوازعه الشريرة، واتجه بعمله لإرضاء الله سبحانه.
وما حياتنا الدنيا التي نحياها ونشغلها بالماديات كالطعام والشراب، أو بالمعنويات كالجاه والمنصب إلا أوضاع زائلة نتمتع وننتفع بها، ثم تزول بسرعة، والمفتون بالدنيا ومظاهرها مغرور مخدوع دائما، لأن الحياة الدنيا وكل ما فيها من الأموال هي متاع قليل، تخدع المرء وتمنّيه بالأباطيل، فالواجب على العاقل ألا يغتر بالدنيا وألا يسرف في حبها، وإلا أصابه شررها عند فراقها، إنما الدنيا جسر للآخرة، فمن أحسن العبور بالعمل الطيب لنفسه وأمته، فقد أصاب الهدف، وكان متعقلا واعيا.
وليست الدنيا خالية من المصاعب والمتاعب، ولا بد من أن يتعرض المرء فيها لألوان من الأذى والشدائد، سواء في داخل الأمة والبلاد، أم في خارج الديار من الأعداء، لذا كان لا بد من الامتحان العسير في الحياة في الأموال والأنفس، والاختبار في المال يكون من الله بطلب بذله في جميع وجوه الخير وفيما يعرض من حوائج وآفات، والاختبار في النفس يكون بطلب الدفاع والجهاد في سبيل الله والتعرض للقتل والموت في الحرب وغيرها من أجل إسعاد الأمة برمتها.
ويتعرض المسلمون في كل عصر لألوان من المحن والمؤامرات من المشركين وأهل الكتاب، ويلحقون بهم الأذى الكثير في الاعتبار والكرامة والديار والطعن في الدين
269
والقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم، كما نشاهد في تصريحات المسؤولين من قادة الأعداء، وفي الكتب والمجلات والإذاعات، ولكن السلاح الأمضى والعلاج النافع هو الصبر والتقوى، الصبر على المكائد ومحاولة التخلص منها، وتقوى الله في السر والعلن بالتزام المأمورات واجتناب المنهيات، ومن يصبر ويتق الله يؤته الله أجرين من رحمته، ويكون التصبر والتقوى من عزائم الأمور، أي مما يجب العزم عليه من الأمور، فذلك دليل الإرادة القوية والحكمة والعقل والاتزان.
وفي الجملة: إن هدف الحياة هو العمل والبناء، والإنجاز والعطاء، وإعداد العدة اللازمة لخيري الدنيا والآخرة، وعوامل النجاح في هذا العالم: الصبر والإرادة، والتقوى والإخلاص في العمل.
أمانة الاعلام الديني
إن من أقدس واجبات العلماء في الدين أن يكونوا أمناء على ما يعلمون من الكتب الإلهية، لإبلاغها للناس والعمل بها، فلا يكتمون شيئا منها، لأنها أحكام الله وشرائعه التي أنزلها للإصلاح والإسعاد، وتحقيق الأمن والسلام وصون الحقوق العامة والخاصة. وهذا يعد عهدا مؤكدا على أهل العلم مثل العهود والمواثيق التي يعقدها الناس فيما بينهم، والعهد واجب الاحترام والتنفيذ، قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧)
«١» [آل عمران: ٣/ ١٨٧].
هذه الآية خطاب لمعاصري النبي صلّى الله عليه وسلّم وخبر عام لهم ولغيرهم، مضمونه أن يذكر
(١) طرحوه.
النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم خبر الميثاق: وهو العهد المؤكد الذي أخذه الله على أهل الكتاب بوساطة الأنبياء، وأقسم عليها ليبينن الكتاب الإلهي للناس ويظهرونه ولا يحرفونه عن موضعه حتى يفهم الناس ويعملوا بما جاء فيه. ولكن نبذ أهل الكتاب هذا الميثاق وراء ظهورهم، وبدلوا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا الفانية كالرياسة والمال الزائل، فكانوا في هذه الصفقة مغبونين، حيث جعلوا العرض الفاني بدل النعيم الباقي في الآخرة، فبئس الشراء شراؤهم، وبئست هذه المبادلة،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أحمد وغيره عن أبي هريرة: «من سئل عن علم فكتمه، ألجم يوم القيامة بلجام من نار».
وإذا أخبر العالم الديني بحكم شرعي فعليه أن يكون أمينا في نقله حاذقا في فهمه، فلا يحرّفه ولا يبدله، ولا يبتر منه شيئا، ولا يدلّس ويعمّي الأمور ويغطّي الحقائق، ولا يطلب الثناء على ما فعل من بيان الخبر المشوه أو الحكم المبدل، وهو في هذا كاذب دجّال، قال الله تعالى عقب الآية السابقة:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٨٨ الى ١٨٩]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
«١» [آل عمران: ٣/ ١٨٨- ١٨٩].
وسبب نزول هذه الآية كما
روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري: أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو، تخلفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا إليه، وقالوا: كانت لنا أشغال ونحو هذا، فيظهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القبول ويستغفر لهم، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية،
فكانوا يفرحون بما يأتونه ويفعلونه من التخلف والاعتذار، ويحبون أن يقال لهم: إنهم في حكم المجاهدين، لكن العذر حبسهم، أي منعهم عن الجهاد.
(١) بفوز ونجاة.
271
وقال جماعة كثيرة من المفسرين: إنما نزلت الآية في أهل الكتاب أحبار اليهود، لقول ابن عباس: إن الآية نزلت في قوم سألهم النبي عليه السلام عن شيء، فكتموه الحق، وقالوا له غير ذلك، ففرحوا بما فعلوا، وأحبوا أن يحمدوا بما أجابوا، وظنوا أن ذلك قد قنع به واعتقد صحته.
لقد كان هؤلاء من أهل الكتاب يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب، ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم قادة وأئمة يهتدى بهم، وهذا فرح في غير محله وتضليل وقلب للحقائق، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب وعلماؤه، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك، لذا أخبر القرآن الكريم أنهم معذبون في الآخرة، وعذابهم شديد مؤلم جدا.
فما على العلماء إلا أن يبينوا للناس حقيقة الكتاب الإلهي، وحكم الشرع الصحيح، فإن فعلوا الواجب وأخبروا بالحق، يكفهم الله تعالى ما أهمهم وينصرهم على أعدائهم، ويغنهم عن هذه المسالك المشبوهة التي لا تليق بمراكزهم، فهم قدوة الناس، ومحل التقدير والاحترام، والله الذي يكفيهم ما أهمهم هو مالك السماوات والأرض، يعطي ويمنع، ويخفض ويرفع وهو على كل شيء قدير، قادر على نصر من نصر دينه وشرعه، وهلاك من ضيّع دينه وشرعه.
بان لك أن واجب العلماء مقدس، وهو تبيين الدين والتعريف بحقيقته لغير المؤمنين بأسلوب واضح سهل، وفهم لروح التشريع، حتى يهتدوا به، وتبيين الدين أيضا للمسلمين حتى يهتدوا به ويفهموه على حقيقته، دون بتر ولا تشوية، ودون إخلال وتجهيل، وبصراحة وإخلاص.
272
أسلوب القرآن في بيان العقيدة
أرشد البيان الإلهي في القرآن الكريم إلى مواضع التأمل والتفكر، والنظر والعبرة، في أبسط الأشياء الكونية، وأوضحها للناس، فأقام الدليل القاطع على وجود الإله الصانع الخالق بوجود السماوات والأرضين، فالمخلوقات دليل واضح على العلم، ومحال أن يوجد شيء من غير موجد، وأن يكون هذا الموجد غير عالم ولا مريد ولا حي. قال الله تعالى:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥)
«١» «٢» «٣» «٤» [آل عمران: ٣/ ١٩٠- ١٩٥].
روى ابن حبان في صحيحة وابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «هل لك يا عائشة أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله، إني لأحب قربك، وأحب هواك (أي ما تهوى وتريد) وقد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت، فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلي، فقرأ من القرآن،
(١) عبثا من غير حكمة.
(٢) احفظنا من عذابها.
(٣) أهنته.
(٤) أزل عنا واستر.
273
وجعل يبكي حتى بلغت الدموع حقويه «١»، ثم جلس، فحمد الله وأثنى عليه، وجعل يبكي، ثم رفع يديه، فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض، فأتاه بلال ليؤذن بصلاة الغداة (أي الصبح) فرآه يبكي، فقال له: يا رسول الله، أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا.
ثم قال: ومالي لا أبكي؟ وقد أنزل الله علي في هذه الليلة: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.. الآيات، ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها».
هذه الآيات ترشد إلى أدلة وجود الله سبحانه، وهي خلق السماوات والأرض، وتعاقب الليل والنهار، ففي السماء بدائع الكواكب والنجوم وأفلاكها ومداراتها، وفي الأرض خزائن الرزق من زروع وأشجار وأنهار ومعادن جامدة وسائلة، والليل والنهار يتعاقبان بانتظام، ويتفاوتان بحسب الفصول طولا وقصرا، ويختلفان نورا وظلاما، إن في هذا كله لعلامات لأولي الأبصار على وجود الله، وأولوا الأبصار:
هم الذين ينظرون ويتأملون في السماء والأرض وما فيهما، ويذكرون نعم الله وفضله في كل حال من قيام وقعود واجتماع وافتراق، ويكون ذكرهم بالقلب والعقل حتى تطمئن النفس أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ١٣/ ٢٨] ثم يذكرون معتقدهم باللسان، ذاكرين الله كثيرا، ومسبحين إياه بكرة وأصيلا.
ويردد هؤلاء الذاكرون وقلبهم ممتلئ خشية وعبرة: ربنا ما خلقت هذا الخلق عبثا، بل لا بد لهذا الخلق من نهاية للجزاء والحساب، ربنا اصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك، فمن أدخلته النار فقد أهنته وأخزيته، وليس للظالمين الكافرين من أعوان ولا أنصار، ربنا إننا سمعنا رسول الهدى يدعو للإيمان، فآمنا بربنا وصدّقنا برسالة رسوله، ربنا فاغفر لنا الذنوب وكفر عنا السيئات، وأمتنا واحشرنا مع أهل
(١) الحقو: الخصر.
274
البر والخير والاستقامة، واجعلنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم. ربنا وانصرنا على أعدائنا وأعطنا ما وعدتنا من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم في الآخرة، فأنت الصادق الوعد الذي لا تخلف الميعاد.
فأجاب الله أدعية هؤلاء المؤمنين بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص، لا فرق بين ذكر وأنثى، بل العدل والمساواة التامة في الجزاء، والرجل مولود من الأنثى، والأنثى من جنس الرجل في الخلقة والتكوين، وللمهاجرين الذين تركوا الديار والأموال، وتعرضوا للأذى والقتل، وعد قاطع بتكفير سيئاتهم وغفران ذنوبهم وإدخالهم جنات النعيم، فضلا من الله ونعمة، والخلاصة أن الجزاء منوط بالعمل، ولا فرق بين الرجل والأنثى في العمل والثواب.
جزاء المؤمنين وغيرهم في الآخرة
وعد الله تعالى عباده المؤمنين بالثواب العظيم، ثم واساهم وصبّرهم على ما يتعرضون له من شدائد ومصاعب في الحياة، ليدوموا على العمل الصالح، ويستمروا على ما هم عليه من الإيمان القوي الذي لا يتأثر بالأحداث. فقال الله تعالى في أواخر سورة آل عمران:
[سورة آل عمران (٣) : الآيات ١٩٦ الى ٢٠٠]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
«١» «٢» «٣» «٤»
(١) لا يخدعنك.
(٢) تصرف.
(٣) بئس الفراش والمضجع.
(٤) ضيافة وتكرمة.
275
«١» «٢» [آل عمران: ٣/ ١٩٦- ٢٠٠].
ذكر بعض الرواة: أن بعض المؤمنين قالوا: إن أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦).
والمراد من الآيات أنه لا تغتر أيها المخاطب بما تراه في الدنيا من ظواهر الأشياء، ولا تظن أن حال الكفار حسنة بما تراه عندهم من مظاهر الثراء والسعادة، ولا تنزعج لذلك، فإنهم يتقلبون في البلاد ويترددون في شؤون التجارة والكسب، ويتمتعون بزخارف الدنيا، وينتفعون بخيراتها، ولكن تمتعهم بما لديهم قليل، فهو قصير الأمد وزائل، وكل زائل قليل. ثم يكون مصيرهم القاتم المدمر: وهو دخول جهنم، وبئس المكان الممهد الموطأ لهم كالفراش، وهذا على سبيل التهكم بوصف بلاط جهنم كأنه الفراش.
وفي مقابل فئة الكفار نجد فئة المؤمنين الذين إذا قورن حالهم في الدنيا والآخرة بحال غيرهم، ظهر الفرق جليا، ليعرف المسلمون أنهم أسعد حالا في دنياهم، وآخرتهم. هؤلاء المؤمنون الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات واجتناب المنهيات لهم جنات المأوى والنعيم، تجري من تحت غرفها وبساتينها الأنهار، نزلا معدا لهم كما يعد النزل للضيف من زاد وغيره، وما أعد الله لهم خير لأهل البر الذين فعلوا الخير وأخلصوا فيه، أي إنه خير مطلق محض لا يقارن به سواه، ولا تفاضل بينه وبين غيره، لأن ما أعد للكفار شر محض لا خير فيه.
وإنصافا للحقيقة وإبرازا للحق والعدل، أخبر القرآن الكريم أن بعض أهل
(١) غالبوا في الصبر. [.....]
(٢) أقيموا في الثغور الحدود المجاورة للأعداء مستعدين للجهاد.
276
الكتاب الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا خالصا لا شبهة فيه، لهم كالمسلمين الأجر الكامل عند ربهم، والله سريع الحساب يحاسب الناس في مدة قصيرة، تعادل نصف يوم، وذلك الأجر الممنوح إذا تحققت فيهم الأوصاف التالية: وهي الإيمان بالله إيمانا صادقا، والإيمان بالقرآن المنزل على نبي الإسلام والمسلمين، والإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل، والخشوع لله والخضوع له بالعبادة والإخلاص، فإن القلب متى كان خاشعا ممتلئا بخوف الله، خضعت جميع الأعضاء لله وأوامره، ومتى جمعوا هذه الصفات استحال عليهم تبديل كتابهم، وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى.
نزلت هذه الآية الدالة على إيمان بعض الكتابيين بسبب أصحمة الحبشي النجاشي سلطان الحبشة،
فإنه كان مؤمنا بالله وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، فلما مات عرف خبر موته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك اليوم، فقال لأصحابه كما ثبت في الصحيحين: «إن أخا لكم بالحبشة قد مات فصلوا عليه» أي صلاة الغائب، فصلى عليه رسول الله بالناس الموجودين.
ثم ختمت سورة آل عمران بوصية جامعة يوصي الله فيها المؤمنين أن يصبروا على تكاليف الدين، وعلى ما يتعرضون له من مصائب وشدائد، وعليهم أن يصابروا الكفار ويغلبوهم في الصبر، فيكونوا أكثر تحملا لشدائد الحرب وويلاتها، وواجبهم أن يرابطوا في الثغور أي الاستعداد للقاء الأعداء في المواضع الاستراتيجية المهمة المجاورة لبلاد الأعداء، وأن يخافوا الله ويحذروه ويراقبوه في السر والعلن ليفلحوا ويفوزوا. هذا هو جزاء الكافرين وجزاء المؤمنين وبيان سبب الجزاء لكلا الفريقين.
277
Icon