وهي السورة الثالثة وآياتها مائتان
نزلت هذه السورة في المدينة وآياتها مائتان باتفاق العادين، ولكنهم اختلفوا في مواضع عدها بعضهم دون بعض، منها ( ألم ) أول السورة عدت في الكوفي آية و( الإنجيل ) الأولى لم تعد في الشامي وهو الظاهر.
الاتصال بين هذه السورة وما قبلها من وجوه :( فمنها ) أن كلا منهما بدئ بذكر الكتاب وشأن الناس في الاهتداء به، ففي السورة الأولى ذكر أصناف الناس من يؤمن به ومن لا يؤمن والمناسب في ذلك التقديم لأنه كلام في أصل الدعوة، وفي الثانية ذكر الزائغين الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، والراسخين في العلم الذين يؤمنون بمحكمه ومتشابهه ويقولون كل من عند ربنا والمناسب فيه التأخير. لأنه فيما وقع بعد انتشار الدعوة.
( ومنها ) أن كلا منهما قد حاج أهل الكتاب. ولكن الأولى أفاضت في محاجة اليهود واختصرت في محاجة النصارى، والثانية بالعكس، والنصارى متأخرون عن اليهود في الوجود وفي الخطاب بالدعوة إلى الإسلام. فناسب أن تكون الإفاضة في محاجتهم في السورة الثانية.
( ومنها ) ما في الأولى من التذكير بخلق آدم وفي الثانية من التذكير بخلق عيسى وتشبيه الثاني بالأول في كونه جاء بديعا على غير سنة سابقة في الخلق. وذلك يقتضى أن يذكر كل منهما في السورة التي ذكر فيها.
( ومنها ) أن في كل منهما أحكاما مشتركة كأحكام القتال. ومن قابل بين هذه الأحكام رأى أن ما في الأولى أحق بالتقديم وما في الثانية أجدر بالتأخير.
( ومنها ) الدعاء في آخر كل منهما فالدعاء في الأولى يناسب بدء الدين لأن معظمه فيما يتعلق بالتكليف وطلب النصر على جاحدي الدعوة ومحاربي أهلها. وفي الثانية يناسب ما بعد ذلك، لأنه يتضمن الكلام في قبول الدعوة وطلب الجزاء عليه في الآخرة.
( ومنها ) ما قاله بعضهم من ختم الثانية بما يناسب بدء الأولى كأنها متممة لها. ذلك أن بدأ الأولى بإثبات الفلاح للمتقين وختم الثانية بقوله :﴿ واتقوا الله لعلكم تفلحون ﴾.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى :﴿ آلم ﴾ هو اسم السورة على المختار، كما تقدم في أول سورة البقرة ويقال : قرأت آلم البقرة وآلم آل عمران وآلم السجدة. ويقرأ بأسماء الحروف لا بمسمياتها. وتذكر ساكنة كما تذكر أسماء العدد. فتقول ألف، لام، ميم، كما تقول واحد اثنان ثلاثة. وتمد اللام والميم. وإذا وصلت به لفظ الجلالة جاز لك في الميم المد والقصر باتفاق القراء. والجمهور يصلون فيفتحون الميم ويطرحون الهمزة من لفظ الجلالة للتخفيف. وقرأ أبو جعفر والأعشى والبرجمي عن أبي بكر عن عاصم بسكون الميم وقطع الهمزة.﴿ مصدقا لما بين يديه ﴾ أي مبينا صدق ما تقدمه من الكتب المنزلة على الأنبياء أي كونها وحيا من الله تعالى. وذلك أنه أثبت الوحي وذكر أنه تعالى أرسل رسلا أوحى إليهم. فهذا تصديق إجمالي لأصل الوحي لا يتضمن تصديق ما عند الأمم التي تنتمي إلى أولئك الأنبياء من الكتب بأعيانها ومسائلها. ومثاله تصديقنا لنبينا صلى الله عليه وسلم في جميع ما أخبر به فهو لا يستلزم تصديق كل ما في كتب الحديث المروية عنه بل ما ثبت منها عندنا فقط.
﴿ وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس ﴾ التوراة كلمة عبرانية معناها المراد الشريعة أو الناموس، وهي تطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار يقولون إن موسى كتبها وهي : سفر التكوين وفيه الكلام عن بدء الخليقة وأخبار بعض الأنبياء وسفر الخروج وسفر اللاويين أو الأخبار وسفر العدد و سفر تثنية الاشتراع ويقال التثنية فقط. ويطلق النصارى لفظ التوراة على جميع الكتب التي يسمونها العهد العتيق وهي كتب الأنبياء وتاريخ قضاة بني إسرائيل وملوكهم قبل المسيح. ومنها ما لا يعرفون كاتبه. وقد يطلقونه عليها وعلى العهد الجديد معا وهو المعبر عنه بالإنجيل وسيأتي تفسيره. أما التوراة في عرف القرآن فهي ما أنزله الله تعالى من الوحي على موسى عليه الصلاة والسلام ليبلغه قومه لعلهم يهتدون به. وقد بين تعالى أن قومه لم يحفظوه كله إذ قال في سورة المائدة :﴿ ونسوا حظا مما ذكروا به ﴾ [ المائدة : ١٣ ] كما أخبر عنهم في آيات أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه وذلك فيما حفظوه واعتقدوه. وهذه الأسفار الخمسة التي في أيديهم تنطق بما يؤيد ذلك ومنه ما في سفر التثنية من أن موسى كتب التوراة وأخذ العهد على بني إسرائيل بحفظها والعمل بها ففي فصل ( الإصحاح ) الحادي والثلاثين منه ما نصه :
" ٢٤ فعندما كمل موسى كتابة كلمات هذه التوراة في كتاب إلى تمامها ٢٥ أمر موسى اللاويين حاملي تابوت عهد الرب قائلا ٢٦ خذوا كتاب التوراة هذا وضعوه بجانب تابوت عهد الرب إلهكم ليكون هناك شاهدا عليكم ٢٧ لأني أنا عارف تمردكم ورقابكم الصلبة. هو ذا وأنا بعد حي معكم اليوم قد صرتم تقاومون الرب فكم بالحري بعد موتي ٢٨ اجمعوا إلي كل شيوخ أسباطكم وعرفائكم لأنطق في مسامعهم بهذه الكلمات وأشهد عليهم السماء والأرض ٢٩ لأني عارف أنكم بعد موتي تفسدون وتزيغون من الطريق الذي أوصيتكم ٣٠ ويصيبكم الشر في آخر الأيام لأنكم تعملون الشر أما الرب حتى تغيظوه بأعمال أيديكم ٣١ فنطق موسى في مسامع كل جماعة إسرائيل بكلمات هذا النشيد إلى تمامه " وههنا ذكر النشيد في الفصل الثاني والثلاثين ثم قال أي الكاتب لسفر التثنية :" ٤٤ فأتى موسى ونطق بجميع كلمات هذا النشيد في مسامع الشعب هو ويشوع بن نون ٤٥ ولما فرغ موسى من مخاطبة جميع بني إسرائيل بهذه الكلمات ٤٦ قال لهم وجهوا قلوبكم إلى جميع الكلمات التي أنا أشهد عليكم بها اليوم لكي توصوا بها أولادكم ليحرصوا ان يعملوا بجميع كلمات هذه التوراة لأنها ليست أمرا باطلا عليكم بل هي حياتكم وبهذا الأمر تطيلون الأيام على الأرض التي أنتم عابرون الأردن إليها لتمتلكوها ".
ومنه خبر موت موسى وكونه لم يقم في بني إسرائيل نبي مثله بعد، أي إلى وقت الكتابة.
فهذان الخبران عن كتابة موسى للتوراة وعن موته معدودان عندهم من التوراة وما هما في الحقيقة من الشريعة المنزلة على موسى التي كتبها ووضعها بجانب التابوت بل كتبا كغيرهما بعده. وقد ظهر تأويل علم موسى في بني إسرائيل. فإنهم فسدوا وزاغوا بعده كما قال وأضاعوا التوراة التي كتبوا غيرها، ولا ندري عن أي شيء أخذوا ما كتبوه، على أنه فقد أيضا. وفي الفصل الرابع والثلاثين من أخبار الأيام الثاني أن حلقيا الكاهن وجد سفر شريعة الرب وسلمه إلى شافان الكاتب فجاء به شافان إلى الملك. قال صاحب دائرة المعارف العربية : إنهم ادعوا أن هذا السفر الذي وجد حلقيا هو الذي كتبه موسى. ولا دليل لهم على ذلك، على أنهم أضاعوه أيضا. ثم إن عزرا الكاهن الذي " هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها وليعلم إسرائيل فريضة وقضاء " قد كتب لهم الشريعة بأمر أرتحشستا ملك فارس الذي أذن لهم ( أي لبني إسرائيل ) بالعودة إلى أورشيلم.
وقد أمر هذا الملك بأن تقام شريعتهم وشريعته كما في سفر عزرا ( راجع الفصل السابع منه ). فجميع أسفار التوراة التي عند أهل الكتاب قد كتبت بعد السبي كما كتب غيرها من أسفار العهد العتيق. ويدل على ذلك كثرة الألفاظ البابلية فيها. وقد اعترف علماء اللاهوت من النصارى بفقد توراة موسى التي هي أصل دينهم وأساسه. قال صاحب كتاب ( خلاصة الأدلة السنية على صدق أصول الديانة المسيحية ) : والأمر مستحيل أن تبقى نسخة موسى الأصلية في الوجود إلى الآن ولا نعلم ماذا كان من أمرها والمرجح أنها فقدت مع التابوت لما خرب بختنصر الهيكل. وربما كان ذلك سبب حديث كان جاريا بين اليهود على أن الكتب المقدسة فقدت وأن عزرا الكاتب الذي كان نبيا جمع النسخ المتفرقة من الكتب المقدسة وأصلح غلطها وبذلك عادت إلى منزلتها الأصلية اه بحروفه.
ولقد نعلم أنهم يجيبون من يسأل : من أين جمع عزرا تلك الكتب بعد فقدها وإنما يجمع الموجود، وعلى أي شيء اعتمد في إصلاح غلطها ؟ قائلين : إنه كتب ما كتب بالإلهام فكان صوابا. ولكن هذا الإلهام مما لا سبيل إلى إقامة البرهان عليه ولا هو مما يحتاج فيه إلى جمع ما في أيدي الناس الذين لا ثقة بنقلهم. ولو كتب عزرا بالإلهام الصحيح لكتب شريعة موسى مجردة من الأخبار التاريخية ومنها ذكر كتابته لها ووضعها في جانب التابوت وذكر موته وعدم مجيء مثله.
وقد بين بعض علماء أوربا أن أسفار التوراة كتبت بأساليب مختلفة لا يمكن أن تكون كتابةَ واحدٍ. وليس من غرضنا أن نطيل في ذلك. وإنما نقول إن التوراة التي يشهد لها القرآن هي ما أوحاه الله تعالى إلى موسى ليبلغه قومه بالقول والكتاب. وأما التوراة التي عند القوم فهي كتب تاريخية مشتملة على كثير من تلك الشريعة المنزلة لأن القرآن يقول في اليهود : إنهم أوتوا نصيبا من الكتاب، كما يقول : إنهم نسوا حظا مما ذكروا به لأنه يستحيل أن تنسى تلك الأمة بعد فقد كتاب شريعتها جميع أحكامها. فما كتبه عزرا وغيره مشتمل على ما حفظ منها إلى عهده وعلى غيره من الأخبار، وهذا كاف للاحتجاج على بني إسرائيل بإقامة التوراة وللشهادة بأن فيها حكم الله كما في سورة المائدة. وبهذا يجمع بين الآيات الواردة في التوراة وبين المعقول والمعروف في تاريخ القوم.
أما لفظ " الإنجيل " فهو يوناني الأصل ومعناه البشارة قيل والتعليم الجديد. وهو يطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل الأربعة وعلى ما يسمونه العهد الجديد، وهو هذه الكتب الأربعة مع كتاب أعمال الرسل ( أي الحواريين ) ورسائل بولس وبطرس ويوحنا ويعقوب ورؤيا يوحنا. أي على المجموع، فلا يطلق على شيء مما عدا الكتب الأربعة بالانفراد. والأناجيل الأربعة عبارة عن كتب وجيزة في سيرة المسيح عليه السلام وشيء من تاريخه وتعليمه. ولهذا سميت أناجيل. وليس لهذه الكتب سند متصل عند أهلها وهم مختلفون في تاريخ كتابتها على أقوال كثيرة.
ففي السنة التي كتب فيها الإنجيل الأول تسعة أقوال. وفي كل واحد من الثلاثة عدة أقوال أيضا، على أنهم يقولون إنها كتبت في النصف الثاني من القرن الأول للمسيح. لكن أ حد الأقوال في الإنجيل الأول أنه كتب سنة ٣٧ ومنها أنه كتب سنة ٦٤. ومن الأقوال في الرابع أنه كتب في ٩٨ للميلاد. ومنهم من أنكر أنه من تصنيف يوحنا. وإن خلافهم في سائر كتب العهد الجديد لأقوى وأشد.
وأما الإنجيل في عرف القرآن فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام من البشارة بالنبي الذي يتمم الشريعة والحكم والأحكام. وهو ما يدل عليه اللفظ. وقد أخبرنا سبحانه وتعالى في ١٤ : ٥ أن النصارى نسوا حظا مما ذكروا به كاليهود، وهم أجدر بذلك. فإن التوراة كتبت في زمن نزولها وكان الألوف من الناس يعملون بها، ثم فقدت والكثير من أحكامها محفوظ معروف. ولا ثقة بقول بعض علماء الإفرنج إن الكتابة لم تكن معروفة في زمن موسى عليه السلام.
وأما كتب النصارى فلم تعرف وتشتهر إلا في القرن الرابع للمسيح. لأن أتباع المسيح كانوا مضطهدين بين اليهود والرومان فلما أمنوا باعتناق الملك قسطنطين النصرانية سياسةً، ظهرت كتبهم، ومنها تواريخ المسيح المشتملة على بعض كلامه الذي هو إنجيله، وكانت كثيرة، فتحكم فيها الرؤساء حتى اتفقوا على هذه الأربعة.
فمن فهم ما قلناه في الفرق بين عرف القرآن وعرف القوم في مفهوم التوراة والإنجيل، يتبين له أن ما جاء في القرآن هو الممحص للحقيقة التي أضاعها القوم، وهي ما يفهم من لفظ التوراة والإنجيل. ويصح أن يعد هذا التمحيص من آيات كون القرآن موحى به من الله، ولولا ذلك لما أمكن ذلك الأمي الذي لم يقرأ هذه الأسفار والأناجيل المعروفة ولا تواريخ أهلها، أن يعرف أنهم نسوا حظا مما أوحي إليهم وأوتوا نصيبا منه فقط، بل كان يجاريهم على ما هم عليه ويقول الأناجيل لا الإنجيل. ثم إن من فهم هذا لا تروج عنده شبهات القسيسين الذين يوهمون عوام المسلمين أن ما في أيديهم من التوراة والأناجيل هي التي شهد بصدقها القرآن.
وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الجملة : المتبادر من كلمة ( أنزل ) أن التوراة نزلت على موسى مرة واحدة، وإن كانت مرتبة في الأسفار المنسوبة إليه. فإنها مع ترتيبها مكررة والقرآن لا يعرف هذه الأسفار ولم ينص عليها. وكذلك الإنجيل نزل مرة واحدة ليس هو هذه الكتب التي يسمونها أناجيل، لأنه لو أرادها لما أفرد الإنجيل دائما. مع أنها كانت متعددة عند النصارى حينئذ.
وحاول بعض المفسرين بيان اشتقاق التوراة والإنجيل من أصل عربي وما هما بعربيين ومعنى التوراة وهي عبرية الشريعة ومعنى الإنجيل وهي يونانية البشارة. وإنما المسيح مبشر بالنبي الخاتم الذي يكمل الشريعة للبشر. وأما كونها هدى للناس فهو ظاهر.
ومازال علماء الكلام وأهل التوحيد يعدون البراهين العقلية هي الأصل في معرفة العقائد الدينية. ويجب على علماء الأحكام وأهل الفقه أن يحذوا حذوهم في العدل فيعلموا أنه يمكن أي يعرف ويطلب لذاته، وأن النصوص الواردة في بعض الأحكام مبينة له وهادية إليه وأكثر الأحكام القضائية في الإسلام اجتهادية فيجب أن يكون أساسها تحري العدل. والغزالي يفسر الميزان بالعقل الذي يؤلف الحجج ويميز بين الحق والباطل والعدل والجور وغير ذلك. وفي حديث جابر عند البيهقي " قوام المرء العقل ولا دين لمن لا عقل له " ومن حديثه عند أبي الشيخ في الثواب وابن النجار " دين المرء عقله ومن لا عقل له لا دين له ".
﴿ إن الذين كفروا بآيات الله ﴾ التي أنزلها لهداية عباده وإرشادهم إلى طرق السعادة في المعاش والمعاد ﴿ لهم عذاب شديد ﴾ بما يلقي الكفر في عقولهم من الخرافات والأباطيل التي تطفئ نورها، وما يجرهم إليه من المعاصي والمفاسد التي تدسي نفوسهم وتدنسها حتى تكون ظلمة عقولهم وفساد نفوسهم منشأ عذابهم الشديد في تلك الدار الآخرة التي تغلب فيها الحياة الروحية العقلية على الحياة البدنية المادية، فلا يكون لهم شاغل ولا مسل من المادة عما فاتهم من النعيم وما أصابهم من الجحيم.
﴿ والله عزيز ذو انتقام ﴾ فهو بعزته ينفذ سننه فينتقم ممن خالفها بسلطانه الذي لا يعارض. والانتقام من النقمة وهي السطوة والسلطة ويستعمل أهل هذا العصر الانتقام بمعنى التشفي بالعقوبة، وهو بهذا المعنى محال على الله تعالى.
وإذا فهمت معنى هذه الآيات في نفسها، فاعلم أن المفسرين قالوا كما أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر : إنها نزلت وما بعدها إلى نحو ثمانين آية في نصارى نجران، إذ وفدوا على رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ستين راكبا فذكروا عقائدهم واحتجوا على التثليت وألوهية المسيح بكونه خلق على غير السنة التي عرفت في توالد البشر، وبما جرى على يديه من الآيات وبالقرآن نفسه فأنزل الله هذه الآيات. وقد ذكر ذلك الأستاذ الإمام غير جازم به وأشار إلى وجه الرد عليهم في تفسيرها، ولم يزد على ذلك إلا ما ذكرناه عنه في تفسير التوراة والإنجيل والفرقان، أما ما قاله في توجيه الرد عليهم فهو : بدأ بذكر توحيد الله ليفي عقيدتهم من أول الأمر ثم وصفه بما يؤكد هذا النفي كقوله " الحي القيوم "، أي الذي قامت به السموات والأرض، وهي قد وجدت قبل عيسى فكيف تقوم به قبل وجوده ؟
ثم قال إنه نزل الكتاب وأنزل التوراة لبيان أن الله تعالى قد أنزل الوحي وشرع الشريعة قبل وجود عيسى كما أنزل عليه وأنزل على من بعده، فلم يكن هو المنزل للكتب على الأنبياء وإنما كان نبيا مثلهم، وقوله " وأنزل الفرقان " لبيان أنه هو الذي وهب العقل للبشر ليفرقوا بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهبا للعقول. وفيه تعريض بأن السائلين تجاوزوا حدود العقل.
أقول وفي هذا وما قبله شيء آخر وهو : الإشعار بأن ما أنزله الله تعالى من الكتب والفرقان يدل على إثبات الوحدانية لله تعالى وتنزيهه عن الولد والحلول أو الاتحاد بأحد أو بشيء من الحوادث. قال : وقوله :﴿ إن الله لا يخفى عليه شيء ﴾ رد لاستدلالهم على ألوهية عيسى باخباره عن بعض المغيبات، فهو يثبت أن الإله لا يخفى عليه شيء مطلقا سواء كان في هذا العالم أو غيره من العوالم السماوية. وعيسى لم يكن كذلك. وقوله ﴿ هو الذي يصوركم ﴾ إلخ رد لشبهتهم في ولادة عيسى من غير أب، أي إن الولادة من غير أب ليست دليلا على الألوهية، فالمخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء، وعيسى لم يصور أحدا في رحم أمه. ولذلك صرح بعد هذا بكلمة التوحيد وبوصفه تعالى بالعزة والحكمة. أقول : ولا يخفى ما في ذكر الأرحام من التعريض بأن عيسى تكون وصور في الرحم كغيره من الناس.
بحث المحكم والمتشابه
أقول : المحكمات من أحكم الشيء بمعنى : وثقه أتقنه. والمعنى العام لهذه المادة المنع. فإن كل محكم يمنع بأحكامه تطرق الخلل إلى نفسه أو غيره. ومنه الحكم والحكمة وحكمة الفرس، قيل وهي أصل المادة. و " المتشابه " يطلق في اللغة على ما له أفراد أو أجزاء يشبه بعضها بعضا، وعلى ما يشتبه من الأمر، أي يلتبس قال في الأساس :« وتشابه الشيئان واشتبها، وشبهته به وشبهته إياه واشتبهت الأمور وتشابهت : التبست لإشباه بعضها بعضا. وفي القرآن المحكم والمتشابه، وشبه عليه الأمر لبس عليه، وإياك والمشبهات الأمور المشكلات ». وقد وصف القرآن بالإحكام على الإطلاق في أول سورة هود بقوله :﴿ كتاب أحكمت آياته ﴾ [ هود : ١ ] وهو من إحكام النظم وإتقانه أو من الحكمة التي اشتملت آياته عليها. ووصف كله بالمتشابه في سورة الزمر :﴿ الله أنزل أحسن الحديث كتابا متشابها ﴾ [ الزمر : ٢٢ ] أي يشبه بعضه بعضا في هدايته وبلاغته وسلامته من التناقض والتفاوت والاختلاف :﴿ ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا ﴾ [ النساء : ٨١ ] أما قوله تعالى :﴿ وأتوا به متشابها ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] فمفهومه أن ما جيئوا به من الثمرات أخيرا يشبه ما رزقوه من قبل وأنهم اشتبهوا به لهذا التشابه.
وقالوا إن الأصل في ورود التشابه بمعنى المشكل الملتبس أن يكون الالتباس فيه بسبب شبه لغيره، ثم أطلق على كل ملتبس مجازا، وإن كان ظاهر الأساس أن المعنيين حقيقتان فيه. ولا شك أن القٍرآن يصح أن يوصف كله بالمحكم وبالمتشابه من حيث هو متقن ويشبه بعضه بعضا فيما ذكر. والتقسيم في هذه الآية مبني على استعمال كل من المحكم والمتشابه في معنى خاص ولذلك اختلف فيه المفسرون على أقوال :
أحدها : أن المحكمات هي قوله تعالى :﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا ﴾ [ الأنعام : ١٥٢ ] إلى آخر الآية والآيتين اللتين بعدها. والمتشابهات هي التي تشابهت على اليهود وهي أسماء حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور. وذلك أنهم أولوها على حساب الجمل فطلبوا أن يستخرجوا منها مدة بقاء هذه الأمة، فاختلط الأمر عليهم واشتبه. وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما. وزعم الفخر الرازي أن المراد به أن المحكم ما لا تختلف فيه الشرائع كالوصايا في تلك الآيات الثلاث والمتشابه ما يسمى بالمجمل أو هو ما تكون دلالة اللفظ بالنسبة إليه وإلى غيره على السوية إلا بدليل منفصل. وهذا رأي مستقل يجعل المعنى الخاص عاما وهو لا يفهم من هذه الرواية.
ثانيها : أن المحكم هو الناسخ والمتشابه هو المنسوخ. وهو مروي عن ابن عباس أيضا وعن ابن مسعود وغيرهما.
ثالثهما : أن المحكم ما كان دليله واضحا لائحا، كدلائل الوحدانية والقدرة والحكمة، والمتشابه ما يحتاج في معرفته إلى التدبر والتأمل. عزاه الرازي إلى الأصم وبحث فيه.
رابعها : أن المحكم كل ما أمكن تحصيل العلم به بدليل جلي أو خفي والمتشابه ما لا سبيل إلى العلم به، كوقت قيام الساعة ومقادير الجزاء على الأعمال.
وهذه الأربعة ذكرها الرازي وكأنه لم يطلع على غيرها. وفي تفسير ابن جرير وغيره أقوال أخرى مروية عن المفسرين منها ما يقرب من بعض ما ذكر فنوردها في سياق العدد.
خامسها : أن المحكمات ما أحكم الله فيها بيان حلاله وحرامه والمتشابه منها ما أشبه بعضه بعضا في المعاني وإن اختلفت ألفاظه. رواه ابن جرير عن مجاهد وعبارته عنده : محكمات ما فيه من الحلال والحرام وما سوى ذلك فهو متشابه يصرف بعضه بعضا وهو مثل قوله :﴿ وما يضل به إلا الفاسقين ﴾ [ البقرة : ٢٦ ] ومثل قوله :﴿ كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ﴾ [ الأنعام : ١٢٥ ] ومثل قوله :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ﴾ [ محمد : ١٧ ] وكأن مجاهدا يعني بالمتشابه ما فيه إبهام أو عموم أو إطلاق أو كل ما لم يكن حكما عمليا فهو عنده خاص بالإنشاء دون الخبر.
سادسها : أن المحكم من آي الكتاب ما لم يحتمل من التأويل إلا وجها واحدا والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجها. رواه ابن جرير عن محمد بن جعفر بن الزبير وعبارته عنده هكذا : آيات محكمات هن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم والباطل ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه وأخر متشابهة في الصدق لهن تصريف وتحريف وتأويل ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق اه. وعبارة ابن جرير في حكايته عنه تجعل المحكم بمعنى النص عند الأصوليين والمتشابه ما يقابله.
سابعها : أن التقسيم خاص بالقصص. فالمحكم منها ما أحكم وفصل فيه خبر الأنبياء مع أممهم والمتشابه ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عن التكرير في السور، وأطال في التمثيل له.
ثامنها : أن المتشابه ما يحتاج إلى بيان وهو مروي عن الإمام أحمد. والمحكم ما يقابله.
تاسعها : أن المتشابه ما يؤمن به ولا يعمل به. ذكره ابن تيمية والظاهر أنه جميع الأخبار فالمحكم هو قسم الإنشاء.
عاشرها : أن المتشابه آيات الصفات :( أي صفات الله ) خاصة ومثلها أحاديثها ذكره ابن تيمية أيضا.
وقال الأستاذ الإمام في معنى المتشابهات : التشابه إنما يكون بين شيئين فأكثر، وهو لا يفيد عدم فهم المعنى مطلقا كما قال المفسر ( الجلال ). ووصف التشابه في هذه الآية هو للآيات باعتبار معانيها، أي إنك إذا تأملت في هذه الآيات تجد معاني متشابهة في فهمها من اللفظ لا يجد الذهن مرجحا لبعضها على بعض. وقالوا أيضا إن المتشابه ما كان إثبات المعنى فيه للفظ الدال عليه ونفيه عنه متساويان فقد تشابه فيه النفي والإثبات أو ما دل فيه اللفظ على شيء من العقل على خلافه فتشابهت الدلالة ولم يمكن الترجيح، كالاستواء على العرش وكون عيسى روح الله وكلمته، فهذا هو المتشابه الذي يقابله المحكم الذي لا ينفي العقل شيئا من ظاهر معناه. أما كون المحكمات هن أم الكتاب فمعناه أنهن أصله وعماده أو معظمه وهذا ظاهر لكنه لا ينطبق إلا على بعض الأقوال.
وقال الأستاذ الإمام : إن معنى ذلك أنها هي الأصل الذي دعى الناس إليه ويمكنهم أن يفهموها ويهتدوا بها وعنها يتفرع غيرها وإليها يرجع. فإن اشتبه علينا شيء نرده إليها. وليس المراد بالرد أن نؤوله بل أن نؤمن بأنه من عند الله، وأنه لا ينافي الأصل المحكم الذي هو أم الكتاب وأساس الدين الذي أمرنا أن نأخذ به على ظاهره الذي لا يحتمل غيره إلا احتمالا مرجوحا. مثال هذه المتشابهات قوله تعالى :﴿ الرحمن على العرش ﴾ [ طه : ٥ ] وقوله :﴿ يد الله فوق أيديهم ﴾ [ الفتح : ١٠ ] وقوله :﴿ وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ﴾ [ النساء : ١٧١ ]. وهذا رأي جمهور المفسرين وذهب جمهور عظيم منهم إلى أنه لا متشابه في القرآن إلا أخبار الغيب كصفة الآخرة وأحوالها من نعيم وعذاب.
﴿ فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ﴾ قال الأستاذ الإمام : معنى اتباعه ابتغاء الفتنة أنهم يتبعونه بالإنكار والتنفير استعانة بما في أنفس الناس من إنكار ما لم يصل إليه علمهم ولا يناله حسهم، كالإحياء بعد الموت وشؤون تلك الحياة الأخرى. وابتغاء الفتنة بالنسبة إلى الوجه الأول في معنى المتشابه : هو أن يتبع أهل الزيغ من المشركين والمجسمة مثل قوله تعالى :﴿ وروح منه ﴾ [ النساء : ١٧١ ] فيأخذونه على ظاهره من غير نظر إلى الأصل المحكم ليفتنوا الناس بدعوتهم إلى أهوائهم ويختلبوهم بشبهتهم، فيقولون : إن الله روح والمسيح روح منه، فهو من جنسه وجنسه لا يتبعض فهو هو. فالتأويل هنا بمعنى الإرجاع، أي أنهم يرجعونه إلى أهوائهم وتقاليدهم لا إلى الأصل المحكم الذي بنى عليه الاعتقاد. وأما ابتغاء تأويله لهم فهو أنهم يطبقونه على أحوال الناس في الدنيا، فيحولون خبر الإحياء بعد الموت وأخبار الحساب والجنة والنار عن معانيها ويصرفونها إلى معان من أحوال الناس في الدنيا، ليخرجوا الناس من الدين بالمرة. والقرآن مملوء بالرد عليهم كقوله تعالى :﴿ قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ﴾ [ يس : ٧٩ ].
﴿ وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ﴾ قال بعض السلف : إن قوله والراسخون في العلم كلام مستأنف، وبعضهم انه معطوف على لفظ الجلالة. قال الأستاذ الإمام استدل الذين قالوا بالوقف عند لفظ الجلالة وبكون ما بعده استئنافا بأدلة ( منها ) ان الله تعالى ذم الذين يتبعون تأويله ( ومنها ) قوله :﴿ يقولون آمنا به كل من عند ربنا ﴾ [ آل عمران : ٧ ] فإن ظاهر الآية التسليم المحض لله تعالى، ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض. وهذا رأي كثير من الصحابة رضي الله عنهم كأبي بن كعب وعائشة. وذهب ابن عباس وجمهور من الصحابة إلى القول الثاني وكان ابن عباس يقول " أنا من الراسخين في العالم أنا أعلم تأويله ". وقالوا في استدلال أولئك أن الله تعالى إنما ذم الذين يبتغون التأويل بذهابهم فيه إلى ما يخالف المحكمات يبتغون بذلك الفتنة والراسخون في العلم ليسوا كذلك، فإنهم أهل اليقين الثابت الذي لا زلزال فيه ولا اضطراب. فهؤلاء يفيض الله تعالى عليهم فهم المتشابه بما يتفق مع المحكم. وأما دلالة قولهم " آمنا به كل من عند ربنا " على التسليم المحض، فهو لا ينافي العلم، فإنهم إنما سلموا بالمتشابه في ظاهره أو بالنسبة إلى غيرهم لعلمهم باتفاقه مع المحكم فهم لرسوخهم في العلم ووقوفهم على حق اليقين لا يضطربون ولا يتزعزعون بل يؤمنون بهذا وبذاك على حد سواء، لأن كلا منهما من عند الله ربنا. ولا غرو فالجاهل في اضطراب دائم والراسخ في ثبات لازم. ومن اطلع على ينبوع الحقيقة لا تشتبه عليه المجاري، فهو يعرف الحق بذاته ويرجع كل قول إليه قائلا : آمنا به كل من عند ربنا.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في بيان التفسير المأثور في الآية ثم قال : بينا أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة، أو ما خالف ظاهر لفظه المراد منه. وورود المتشابه بالمعنى الأول في القرآن ضروري، لأن من أركان الدين ومقاصد الوحي الإخبار بأحوال الآخرة فيجب الإيمان بما جاء به الرسول من ذلك على أنه من الغيب كما نؤمن بالملائكة والجن، ونقول إنه لا يعلم تأويل ذلك أي حقيقة ما تؤول إليه هذه الألفاظ إلا الله. والراسخون في العلم وغيرهم في هذا سواء. وإنما يعرف الراسخون ما يقع تحت حكم الحس والعقل فيقفون عند حدهم ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة ما يخبر به الرسل عن عالم الغيب، لأنهم يعلمون أنه لا مجال لحسهم ولا لعقلهم فيه، وإنما سبيله التسليم، فيقولون آمنا به كل من عند ربنا. فعلى هذا يكون الوقف على لفظ الجلالة لازما. وإنما خص الراسخين بما ذكر، لأنهم هم الذين يفرقون بين المرتبتين : ما يجول فيه علمهم وما لا يجول فيه. ومن المحال أن يخلو الكتاب من هذا النوع فيكون كله محكما بالمعنى الذي يقابل المتشابه. ومن ال
لما كان المتشابه مزلة الأقدام ومدرجة الزائغين إلى الفتنة وصل الراسخون الإقرار بالإيمان به بالدعاء بالحفظ من الزيغ بعد الهداية، فإنهم لرسوخهم في العلم يعرفون ضعف البشر وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ويعرفون أن قدرة الله فوق كل شيء وعلمه لا يحاط به، وهو المحيط بكل شيء فيخافون أن يستزلوا فيقعوا في الخطأ والخطأ في هذا المقام قرين الخطر، وليس للإنسان بعد بذل جهده في إحكام العلم في مسائل الاعتقاد وإحكام العمل بحسن الاهتداء، إلا اللجأ إلى الله تعالى بأن يحفظه من الزيغ العارض ويهبه الثبات على معرفة الحقيقة، والاستقامة على الطريقة، فالرحمة في هذا المقام هي الثبات والاستقامة. واختاره الأستاذ الإمام. أقول : ولا تلتفت في معنى الآية إلى مجادلة الأشعرية للمعتزلة في إسناد الإزاغة إلى الله تعالى فإنه تعالى يسند إليه في مقام تقرير الإيمان به وذلك لا ينافي اختيار العبد في زيغه. فقد قال تعالى في سورة الصف :﴿ فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ﴾ [ الصف : ٥ ] ولكل مقام مقال.
ومن مباحث الألفاظ في الآية أن قوله تعالى :﴿ من لدنك ﴾ معناه من عندك فإن " لدن " تستعمل بمعنى عند وإن لم تكن مرادفة لها بل هي أخص وأقرب مكانا ولا للذي، فقد فرقوا بينهما بخمسة أمور. ولا تستعمل لدن إلا في الشيء الحاضر فهي أدل على الاختصاص. فهذه الرحمة المطلوبة منه في هذا المقام هي العناية الإلهية والتوفيق الذي لا يناله العبد بكسبه، ولا يصل إليه بسعيه، ويؤيد ذلك التعبير بالهبة ووصفه تعالى بالوهاب فإن الهبة عطاء بلا مقابل.
جمع الناس وحشرهم واحد وجمعهم لذلك اليوم للجزاء فيه وهو يوم القيامة. وكونه لا ريب فيه معناه أننا موقنون به لا نشك فيه لأنك أخبرت به ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه. وليس معناه كمعنى ﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه ﴾ [ البقرة : ٢ ] أي أنه ليس من شانه أن يرتاب فيه، فإن الكلام هناك عن الكتاب في نفسه والكلام هنا حكاية عن المؤمنين الراسخين في العلم. ولذلك علل نفي الريب بنفي إخلاف الميعاد، وجيء به على طريق الالتفات عن الخطاب إلى الغيبة للإشعار بهذا التعليل هذا على قول الجمهور أن الجملة كالدعاء من كلام الراسخين في العلم، وجوزوا أن تكون من كلامه تعالى لتقرير قولهم ودعائهم وهو خلاف المتبادر.
قال الأستاذ الإمام : إن مناسبة هذا الدعاء للإيمان بالمتشابه ظاهرة على القول بان المتشابه هو الإخبار عن الآخرة أي أنهم كما يؤمنون بالمتشابه يؤمنون بمضمونه والمراد منه وما يؤول إليه. وأما على القول بأنه لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم فوجهه أنهم يذكرون يوم الجمع ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرب الزيغ الذي يبسلهم١ في ذلك اليوم. فهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي من الزيغ. أعاذنا الله منه بمنه وكرمه.
قال الأستاذ الإمام في تفسير ﴿ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ﴾ ما مثاله : يقال إن هذه الآية وما قبلها في تقرير التوحيد سواء كان ردا على نصارى نجران أو كان كلاما مستقلا، فإن التوحيد لما كان أهم ركن للإسلام كان مما تعرف البلاغة أن يبدأ بتقرير الحق في نفسه، ثم يؤتى ببيان حال أهل المناكرة والجحود ومناشئ اغترارهم بالباطل وأسباب استغنائهم عن ذلك الحق أو اشتغالهم عنه. وأهمها الأموال والأولاد فهي تنبئهم هنا بأنها لا تغني عنهم في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه، إذ يجمع الله فيه الناس ويحاسبهم بما عملوا، بل ولا في أيام الدنيا لأن أهل الحق لا بد أن يغلبوهم على أمرهم، وما أحوج الكافرين إلى هذا التذكير أن الجحود إنما يقع من الناس للغرور بأنفسهم وتوهمهم الاستغناء عن الحق، فإن صاحب القوة والجاه إذا وعظ بالدين عند هضم حق من الحقوق لا يؤثر فيه الوعظ، ولكنه إذا رأى أن الحق له واحتاج إلى الاحتجاج عليه بالدين، فإنه ينقلب واعظا بعد أن كان جاحدا. فهم لظلمة بصيرتهم وغرورهم بما أوتوا من مال وجاه يتبعون الهوى في الدين في كل حال.
قال : فسر مفسرنا ( الجلال ) " تغني " بتدفع وهو خلاف ما عليه جمهور المفسرين. وإنما تغني هنا كيغني في قوله عز وجل :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ [ يونس : ٣٦ ] ولا أراك تقول إن معناها لن يدفع من الحق شيئا وإنما معنى " من " هنا البدلية أي إن أموالهم وأولادهم لن تكون بدلا لهم من الله تعالى تغنيهم عنه. فإنهم إذا تمادوا على باطلهم يغلبون على أمرهم في الدنيا ويعذبون في الآخرة كما سيأتي في الآية التي تلي ما بعد هذه بل توعدهم في هذه أيضا بقوله :﴿ وأولئك هم وقود النار ﴾ الوقود بالفتح ( كصبور ) ما توقد به النار من حطب ونحوه. قال الأستاذ الإمام هنا : أي إنهم سبب وجود نار الآخرة كما أن الوقود سبب وجود النار في الدنيا أو أنهم مما توقد به، ولا نبحث عن كيفية، ذلك فإنه من أمور الغيب التي تؤخذ بالتسليم ( راجع تفسير ﴿ وقودها الناس والحجارة ﴾ [ البقرة : ٢٤ ] ففيها مزيد بيان ).
أما غرورهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا وحسبانهم أنهم يكونون بها غالبين أعزاء دائما فذلك معهود وشبهته ظاهرة. وأما زعمهم أنهم يكونون كذلك في الآخرة فهو منتهى الطغيان الذي بينه الله تعالى في قوله :﴿ إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى ﴾ [ الحاقة : ٦ ]. وقد أنفذ الله وعيده الأول في أولئك الكافرين فغلبوا في الدنيا. قيل إن الخطاب لليهود وقد غلبهم المسلمون فقتلوا بني قريظة الخائنين وأجلوا بني النضير المنافقين وفتحوا خيبر، وقيل هو للمشركين وقد غلبهم المؤمنون يوم بدر، وأتم الله نعمته بغلبهم يوم الفتح، ولم تغني عن الفريقين أموالهم ولا أولادهم. وسينفذ وعيده بهم في الآخرة فيحشرون إلى جهنم ﴿ وبئس المهاد ﴾ ما مهدوا لأنفسهم أو بئس المهاد جهنم. المهاد : الفراش يقال مهد الرجل المهاد إذا بسطه ويقال مهد الأمر إذا هيأه وأعده. وجعل بعضهم جملة " وبئس المهاد " محكية بالقول أي ويقال لهم بئس المهاد.
وقال الأستاذ الإمام : لا يبعد أن تكون الآية تشير إلى وقعة بدر كما قال المفسر ( الجلال ) ويحتمل أن تكون إشارة إلى وقائع أخرى قبل الإسلام ويرجح هذا إذا كان الخطاب لليهود فإن في كتبهم مثل هذه العبرة كقصة طالوت وجالوت التي تقدمت في سورة البقرة أقول :( أو قصة جدعون على ما عندهم من التحريف )، ويرجح الأول إذا كان الخطاب في بدر ثلاثة أضعاف المسلمة، ويصح أن يكونوا مع ذلك رأوهم مثليهم فقط، لأن الله قللهم في أعينهم كما ورد في سورة الأنفال.
أقول : وهذا التصحيح مبني على القول بأن الرائين هم الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي المؤمنة وان المرئيين هم الفئة الكافرة. وعليه الجمهور. وقيل إن الرائين والمرئيين هم المقاتلون في سبيل الله فالمعنى أنهم يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه عددا وقيل إن الرائين هم الكافرون والمرئيين هم المؤمنون، أي أن الكافرين يرون المؤمنين على قتلهم مثليهم في العدد لما وقع في قلوبهم من الرعب والخوف. وقد حاول من قال بهذا تطبيقه على قوله تعالى في خطاب أهل بدر ﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] فقال إن المؤمنين قللوا في أعين المشركين أولا فتجرؤوا عليهم فلما التقوا كثرهم الله في أعينهم ولا يخفى ما فيه من التكلف.
كل هذا على قراءة الجمهور.
وأما على قراءة نافع فالمعنى : ترونهم أيها المخاطبون مثليهم. وهي لا تنافي قراءة الجمهور وإنما تفيد معنى آخر وهو أن المخاطبين كانوا يرون الكافرين مثلي المؤمنين. فإذا كان الخطاب لمشركي مكة فهو ظاهر لأنه كان منهم من رأى ذلك وعلم به الآخرون، وإذا كان لليهود فاليهود كانوا مشرفين أيضا بكل عناية على ما جرى ببدر وغير بدر من القتال بين المسلمين والمشركين على أن الكلام ليس نصا في وقعة بدر، واليهود قد شهدوا مثل ذلك في الماضي. وقد علم أن القرآن يسند إلى الحاضرين من الأمة عمل الغابرين لإفادة معنى الوحدة والتكافل وظهور أثر الأوائل في الأواخر ورأوا مثله في زمن الخطاب في حربهم للمسلمين. وقوله تعالى :﴿ رأي العين ﴾ مصدر مؤكد ليرونهم وهو ظاهر إذا كانت الرؤية بصرية وأما إذا كانت علمية اعتقادية، كما ذهب إليه بعضهم. فالمعنى على التشبيه أي تعلمون أنهم مثليهم علما مثل العلم برؤية العين ﴿ والله يؤيد بنصره من يشاء ﴾ من الفئتين.
وجملة القول : إن الآية ترشد إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها التي غلبت فيها فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله. ولذلك قال :﴿ إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ﴾ أي لأصحاب الأبصار الصحيحة التي استعملت فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور بقصد الاستفادة منها لا لمن وصفوا بقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وقال بعض المفسرين إن الأبصار هنا بمعنى البصائر والعقول من باب المجاز. وقال بعضهم يعني بأولي الأبصار من أبصروا بأعينهم قتال الفئتين.
وما ذكرته أظهر، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام في هذا شيئا. وإنما تكلم عن العبرة فقال ما مثاله مبسوطا مزيدا فيه : وجه العبرة ان هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الكثيرة بإذن الله. وقد ورد في القرآن ما يمكن أن نفهم به سنته تعالى في مثل هذا التأييد لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ويجب أخذه بجملته. بل هذه الآية نفسها تهدي إلى السر في هذا النصر. فإنه قال :﴿ فئة تقاتل في سبيل الله ﴾ ومتى كان القتال في سبيل الله أي سبيل حماية الحق والدفاع عن الدين وأهله فإن النفس تتوجه إليه بكل ما فيها من قوة وشعور ووجدان وما يمكنها من تدبير واستعداد مع الثقة بان وراء قوتها معونة الله وتأييده، ومما يوضح ذلك قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين * ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ﴾ [ الأنفال : ٤٥ ٤٧ ] أقول وهذا مما نزل في واقعة بدر التي قيل إن الآية التي نفسرها نزلت فيها، وإن كان عاما في حكمه مطلقا في عبارته.
أمر الله تعالى المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره الذي يشد عزائمهم وينهض هممهم وبالطاعة له تعالى ولرسوله. وكان هو القائد في تلك الواقعة وطاعة القائد ركن من أركان الظفر ونهاهم عن التنازع وأنذرهم عاقبته وهي الفشل وذهاب القوة وحذرهم أن يكونوا كأولئك المشركين من أهل مكة إذ خرجوا لقتال المسلمين لعلة البطر والطغيان ومرآة الناس بقوتهم وعزهم وهم يصدون عن سبيل الله. فبهذه الأوامر والنواهي تعرف سنة الله في نصر الفئة القليلة على الكثيرة. وقال تعالى في هذه السورة أيضا :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ].
أورد الأستاذ الإمام الآية الأولى من الآيات التي ذكرناها آنفا وهذه الآية فقط ثم قال : ولا شك أن المؤمنين قد امتثلوا أمر الله تعالى في كل ما أوصاهم به بقدر طاقتهم فاجتمع لهم الاستعداد والاعتقاد، فكان المؤمن يقاتل ثابتا واثقا والكافر متزلزلا مائقا ونصروا الله فنصرهم وفاء بوعده في قوله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ﴾ [ محمد : ٧ ] وقوله :﴿ وكان حقا علينا نصر المؤمنين ﴾ [ الروم : ٤٧ ] فالمؤمن من يشهد له بإيمانه القرآن وإيتاؤه ما وعد الله المؤمنين لا من يدعي الإيمان بلسانه، وأخلاقه وأعماله وحرمانه مما وعد الله المؤمنين تكذب دعواه. وغزوات الرسول وأصحابه شارحة لما ورد من الآيات في ذلك وناهيك بغزوة أحد، فإنهم لما خالفوا ما أمروا به نزل بهم ما نزل. وهذا أكبر عبرة لمن بعدهم لو كانوا يعتبرون بالقرآن، ولكنهم اعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما اختاروا لأنفسهم. ولو عادوا إليه واتحدوا فيه واعتصموا بحبله لفازوا بالعز الدائم والسعادة الكبرى والسيادة العليا في الدنيا والآخرة.
لاتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها مبني على القول بأن بضعا وثمانين آية من أول هذه السورة نزلت في وفد نصارى نجران. وروى أصحاب السير أن هذا الوفد كان ستين راكبا وأنهم دخلوا المسجد النبوي وعليهم ثياب الحبرات١ وأردية الحرير وفي أصابعهم خواتم الذهب وطفقوا يصلون صلاتهم فأراد الناس منعهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم " دعوهم " ثم عرضوا هديتهم عليه وهي بسط فيها تصاوير ومسوح فقبل المسوح دون البسط. ولما رأى فقراء المسلمين ما على هؤلاء من الزينة تشوفت نفوسهم إلى الدنيا فنزلت الآية. كذا قال بعضهم وهو يذكره أهل السير ولا يخفى ضعفه.
قال الأستاذ الإمام : إن رئيس وفد نجران ذكر في حديثه مع النبي صلى الله عليه وسلم أنه يمنعه من الاعتراف بأنه هو النبي المبشر به وبصدقه أن هرقل ملك الروم أكرم مثواه ومتعه وانه يسلبه ما أعطاه من مال وجاه إذا هو آمن. فبين تعالى أن ما زين للناس من حب الشهوات حتى صرفهم عن الحق لا خير فيه.
وقال الإمام الرازي : إنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد صلى الله عليه وسلم في قوله، إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه. قال : وروينا انه عليه الصلاة والسلام لما دعوا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح فبين في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا باطلة وان الآخرة خير وأبقى. اه.
ومنها ما هو مبني على أن الآيات نزلت في تقرير أمر التوحيد وما يتبعه. والاتصال على هذا الوجه أظهر، فإنه بعد ما بين أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم التي أعرضوا عن الحق لأجلها، بيَّن وجه غرورهم بها للتحذير من جعلها آلة للغرور وترك الحق، وللتذكير بأنه لا ينبغي أن تشغل الإنسان عن الآخرة.
ومنها وهو المختار عند الأستاذ الإمام أنه لما كان الكلام السابق يتضمن وعيد الكافرين جاء بعده بوعد المتقين وجعل له مقدمة بين فيها جميع أصول اللذات التي يتمتع بها الناس بحسب غرائزهم تمهيدا لتعظيم شان ما بعدها من أمر الآخرة. أقول : يعني انه ليس المراد ذمها والتنفير عنها، وإنما المراد التحذير من أن تجعل هي غاية الحياة.
والناس في قوله تعالى :﴿ زين للناس حب الشهوات ﴾ هم المكلفون لأن الكلام في إرشادهم، فلا معنى للبحث في الأطفال هنا. والشهوات جمع شهوة وهي انفعال النفس بالشعور بالحاجة إلى ما تستلذه. والمراد بها هنا المشتهيات على طريق المبالغة. وهي شائعة الاستعمال، يقال : هذا الطعام شهوة فلان أي مشتهاه. ومعنى تزيين حبها لهم أن حبها مستحسن عندهم لا يرون فيه شيئا ( قبحا ) ولا غضاضة، وقد يحب الإنسان الشيء وهو يراه من الشين لا من الزين ومن الضار لا من النافع، ويود لذلك لو لم يكن يحبه. ومثل لذلك الإمام الرازي بحب المسلم لبعض المحرمات، ومثل له الأستاذ الإمام بحب بعض الناس للدخان على تأذيه منه. فكل من هذين المحبين يود لو انقلب حبه كرها وبغضا، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن يرجع عن حبه يوما وأما من زين له حبه لشيء فلا يكاد يرجع عنه لأن ذلك منتهى الحب وصاحبه لا يكاد يفطن لقبحه وضرره إن كان قبيحا أو ضارا ولا يحب أن يرجع وإن تأذى به. قال المجنون :
وقالوا لو تشاء سلوت عنها *** فقلت لهم : وإني لا أشاء
ولذلك قال تعالى :﴿ أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ﴾ [ محمد : ١٤ ] وقد اختلف المفسرون في إسناد التزيين في هذا المقام فأسنده بعضهم إلى الشيطان، لأن حب الشهوات مذموم لا سيما وقد أطلقت هنا فدخل فيها المحرمات في رأيهم، ولأن حب كثرة المال مذموم في الدين بحسب فهمهم له، ولأنه سمى ذلك متاع الحياة الدنيا وهي مذمومة عندهم، ولأنه فضل عليه ما أعده للمتقين يوم القيامة. ويؤثر هذا الإسناد عن الحسن البصري. وأسنده بعضهم إلى الله تعالى لأنه تعالى أباح الزينة والطيبات وأنكر على من حرم ذلك بقوله :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] فجعل إباحتها في الدنيا غير منافية لنيلها في الآخرة، ولأنها قد تكون وسائل للآخرة بتكثير النسل وكثرة الصدقات والميراث والجهاد.
وعزي هذا القول إلى المعتزلة. وقال بعض المعتزلة بالتفصيل، فقسم الشهوات إلى محمودة ومذمومة أو مباحة ومحرمة. وقال إن الله زين القسم الأول والشيطان زين القسم الثاني.
أقول : وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه. فالمراد أن الله تعالى أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه. ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال، وإنما يسند إليه ما قد يعد هو من أسبابه كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا. ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال قال تعالى :﴿ وإذا زين لهم الشيطان أعمالهم ﴾ [ الأنفال : ٤٨ ] الآية وقال :﴿ وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون ﴾ [ الأنعام : ٤٣ ] وأما الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له. قال عز وجل :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ [ الكهف : ٧ ] وقال :﴿ كذلك زينا لكل أمة عملهم ﴾ [ الأنعام : ١٠٨ ] فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع وفي هذا المعنى آيات أخرى.
ثم بين المشتهيات التي يحبها الناس وحبها مزين لهم وله مكانة من نفوسهم بقوله :﴿ من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ﴾ فهذه ستة أنواع :
( أولها ) : النساء وحبهن لا يعلوه حب لشيء آخر من متاع الحياة الدنيا. فهن مطمح النظر وموضع الرغبة وسكن النفس ومنتهى الأنس، وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال في كدهم وكدحهم فكم افتقر في حبهن غني ؟ وكم استغنى بالسعي للحظوة عندهن فقير ؟ وكم ذل بعشقهن عزيز ؟ وكم ارتفع في طلب قربهن وضيع ؟ ولعل في القارئين من يحب أن يعرف كيف يغنى الفقير ويرتفع الوضيع بسبب حب النساء إذا كان لا يوجد فيهم من يحتاج إلى معرفة كيف يذل العاشق ويفتقر فنقول : إن من يحب ذات شرف ورفعة ويرى أنه لا سبيل إلى الاقتران بها إلا بتحصيل المال وتسنم غارب المعالي يوجه جميع قواه إلى ذلك ولا يزال به حتى يناله. ولم يذكر حب النساء للرجال على أن حبهن لهم من نوع حبهم لهن ولكن الحب لا يبرح بالنساء تبريحه بالرجال. فالمرأة أقدر على ضبط حبها وكتمانه وضبط نفسها وحفظ مالها، وإنك لتسمع بأخبار المئين والألوف من الرجال الذين افتقروا أو احتقروا أو جنوا في حب النساء ولا تجد في مقابلتهم عشر نسوة قد منين بمثل ذلك في الرجال.
ثم إن الرجال هم القوامون على النساء لقوتهم وقدرتهم على الحماية والمكسب فإسرافهم في الحب واستهتارهم في العشق له الأثر العظيم في شؤون الأمة وفي إضاعة الحق أو حفظه. فإن قيل : إن حب الولد أشد من حب المرأة فلماذا قدم ذكر النساء ؟ أقول إن الأمر ليس كذلك فإن حب الولد وإن كان لا يزول وحب المرأة قد يزول لا يعظم فيه الغلو والإسراف كحبها، وكم من رجل جنى عشقه للمرأة على أولاده حتى أن كثيرا من الرجال الذين تزوجوا بأكثر من امرأة فعشقوا واحدة وملوا أخرى قد أهملوا تربية أولاد المملولة وحرموهم الرزق من حيث أفاضوا نصيبهم على أولاد المحبوبة. وهذا من أسباب تحريم التزويج بأكثر من واحدة على من يخاف أن لا يعدل، فكيف بمن يوقن بذلك ويعزم عليه ؟ وكم من غني عزيز يعيش أولاده عيشة الفقراء الأذلاء لعشق والدهم لغير أمهم من نسائه وإن ماتت أمهم ولم يكن للمعشوقة ولد وما هو إلا محض التقرب وابتغاء الزلفى إلى المرأة.
أما السبب في كون حب الرجل للمرأة أقوى من حبها له فهو أن السبب الطبيعي لهذا الحب هو داعية النسل لا قصده، والداعية في الرجل أقوى وأش. ولذلك تراه يشغل بها إذا بلغ سنا أكثر من المرأة على كثرة شواغله الصارفة له عن ذلك وهو هو الذي يطلب المرأة ويبذل جهده وماله في سبيلها موطنا نفسه على أن يمونها ويصونها ويتحمل أثقالها طول الحياة وما عليها هي إلا القبول. فإن طلبت أجملت في الطلب. وإن شئت دليلا آخر على أن داعية النسل فيه أقوى، فتأمل تجده مستعدا لها في كل حال طول عمره والمرأة تفقد هذا الاستعداد في زمن الحيض وبعد سن اليأس من الحيض الذي يكون غالبا من سن الخمسين إلى الخامسة والخمسين. فإذا قبلت المرأة الرجل بعد هذا كان قبولها إياه من باب التودد والعتبى، أو إثارة الذكرى ولا يدخل في السبب ما هو عند أكثر الرجال من كون النساء أوفر نصيبا من الحسن، وقسما من القسامة والجمال، فإن هذه القضية المسلمة غير صحيحة، فإن الرجال أكمل وأجمل خلقا كما هي القاعدة في سائر الحيوان، إذ نرى أن خلقة الذكر منها أجمل وأكمل من خلقة الأنثى، وكما نراه في الشيوخ والعجائز من الناس، بل نرى الأبيض القوقاسي يفضل خلقة رجال الزنوج على نسائهم لأنه قلما يشتهي الزنجيات في حال الاعتدال، فمعظم حسن المرأة وجمالها إنما جاء من زيادة حب الرجل إياها.
فمن تأمل هذه المعاني والفروق في حب كل من الزوجين للآخر يسهل عليه أن يقول إن المراد بحب النساء حب الزوجية الذي يكون بين المرأة والرجل وذكر أقوى طرفيه لأن قصد التمتع فيه أظهر، وأثره في الصرف عن الحق أو الاشتغال عن الآخرة أقوى، وطوى الطرف الثاني، وفعل مثل ذلك في النوع الثاني من الحب المزين للناس وهو حب الولد، فكان في الآية احتباكا. وليس عندي في هذه المسألة بل ولا في الآية شيء عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلا ما سيأتي في حب الولد.
( النوع الثاني ) حب البنين : أي الأولاد، فاكتفى بذكر ما كان حبه أقوى والفتنة به أعظم على طريق التغليب أو لدلالة ما حذف فيما قبله كدلالته هو على ما حذف مما قبله على طريق الاحتباك أو شبه الاحتباك، وأخر في الذكر عن حب النساء لما تقدم ولتأخره في الوجود إذ الأولاد من النساء. قلنا إن العلة الطبيعية لحب النساء أو الأزواج هي داعية النسل، فهذه الداعية تحدث في النفس انفعالا يحفز صاحبه إلى الزواج. وأما حب الأولاد فيكاد يكون كحب النفس لا علة له غير ذاته إلا أن نقول إن عاطفة رحمة الوالدين بالولد منذ يولد هي غير عاطفة حبها له وهي علته. ولكن حكمة الخالق في حب الزوجية وحب الولد واحدة وهي تسلسل النسل وبقاء النوع وهي حكمة مطردة في غير الناس من الأحياء. هذا هو حب الولد من حيث هو ولد. وقد يكون للولد محبات أخرى في قلوب الوالدين كحب الأمل في نصرته ومعونته وحب الاعتزاز به وهذا مما يشارك الأولاد فيه غيرهم وإن كان يكون فيهم أقوى لأن وجوه المحبة إذا تعددت يغذي بعضها بعضا، وحب الولد من حيث هو ولد يظهر في وقت ذهاب الأمل في فائدته بأشد مما يظهر مع الأمل فيها، كحال الصغر والمرض. وقد قيل لبعض أصحاب الفطرة السليمة : أي ولدك أحب إليك ؟ فقال صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ.
أما كون حب البنين أقوى والتمتع به أعظم فله أسباب ( منها ) ا
( القراءات ) للعرب في مثل همزتي " أؤنبئكم " أي ما كانت أولاهما مفتوحة والثانية مضمونة أربع لغات، قرئ بها القرآن بإذن الله على لسان رسوله تسهيلا عليهم هنا، وفي قوله تعالى :﴿ أأنزل ﴾ في سورة " ص " وقوله :﴿ أألقي ﴾ في سورة القمر وليس في القرآن سواها :
( إحداها ) تحقيق الهمزتين من غير مد بينهما وعليه القراء الكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر وهشام في رواية عنه في السور الثلاث.
( الثانية ) : تحقيق الهمزتين مع المد بينهما وهي رواية عن هشام في السور الثلاث.
( الثالثة ) : تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع المد بينهما والتسهيل قراءة الهمزة بين نفسها وبين حرف حركتها، وهو أن تجعل هنا بين الهمزة والواو ويعبر بعضهم عن المد بإدخال ألف بين الهمزتين، والمعنى واحد، وهي قراءة قالون.
( الرابعة ) : تحقيق الأولى وتسهيل الثانية من غير مد، وهي قراءة ورش وابن كثير.
وهناك قراءة مركبة من لغتين وهي المد وعدمه مع التسهيل، وهي قراءة أبي عمرو. وعن هشام تفريق بين ما هنا وما في القمر و " ص " وهو أنه المد هنا مع التحقيق والقصر هناك معه.
وفي قوله تعالى :﴿ رضوان ﴾ لغتان ضم الراء وهي قراءة عاصم فيما عدا قوله تعالى :﴿ إلا من اتبع رضوانه ﴾ وكسرها وهي قراءة الباقين في جميع القرآن.
قوله تعالى :﴿ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم ﴾ الآية بيان وتفصيل لقوله تعالى ﴿ والله عنده حسن المآب ﴾. وبدأه بالاستفهام لأجل توجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه والتنبئة بالشيء التخبير به كالإنباء بمعنى الإخبار وقال في الكليات " النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له وقع وشأن عظيم ". وعلى هذا يكون التعبير بمادة النبأ تشويقا آخر. وقوله " ذلكم " إشارة إلى ما تقدم ذكره من النساء والبنين وسائر الشهوات المذكورة في الآية السابقة. وكون ما سيأتي في جواب الاستفهام خيرا من تلك الشهوات يشعر بأن تلك خير في نفسها أو ليست بشر. والصواب أنها خير ومن أجل نعم الله تعالى على الناس وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعمه تعالى على الناس في أنفسهم، كحواسهم وعقولهم وفي غيرها حتى في الشريعة. فالذي يسرف في حب النساء حتى يعطي امرأة ولدها حق غيرهما أو يمهل لأجلها تربية ولده من غيرها أو يترك حق الله وطاعته تقربا إليها أو يعتدي في ذلك بأن يحب امرأة غيره، هو كمن يستعمل عقله في استنباط الحيل لهضم حقوق الناس وإيذائهم، أو يحتال في نصوص الشريعة ويؤولها حتى يفوت الغرض من الأحكام وتترك الفرائض وتهدم الأركان فسوء سلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أن النعم شر في ذاتها ولا كون حبها شرا مع القصد والوقوف عند حدود الشريعة والفطرة في ذلك.
أما الجواب عن الاستفهام فهو قوله :﴿ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله ﴾ جعل ما أعده للمتقين من الجزاء على التقوى نوعين : نوعا جسمانيا وهو الجنات وما فيها من الخيرات، والأزواج المطهرات مما يعهد في نساء الدنيا من الشوائب، ونوعا روحانيا عقليا وهو رضوان الله تعالى. وقد تقدم تفسير التقوى والجنات والأزواج المطهرة في سورة البقرة ولا يخفى ما في إضافة لفظ رب إلى ضمير المتقين من الإشعار بفضلهم وعناية من رباهم بعنايته وتوفيقه بشأنهم. وأما الرضوان فهو مصدر بمعنى الرضا مع ما في زيادة المبنى من المبالغة في المعنى، فكأنه قال ورضوان عظيم من الله لا يشوبه ولا يعقبه سخط وفي سورة التوبة :﴿ وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر. ذلك هو الفوز العظيم ﴾ [ التوبة : ٧٢ ] وفي هذا من تفضيل الرضوان على نعيم الجنات وما فيها ما لا غاية وراءه، وفي سورة الحديد :﴿ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، كمثل غيث أعجب الكفار١ نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما. وفي الآخرة عذاب شديد، ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾ [ الحديد : ٢ ] وهذه الآية أوجز من الآية التي نفسرها على أنها في موضوعها، وفيها من زيادة الفائدة بيان جزاء المسرفين والمعتدين في هذه الشهوات الدنيوية الذين تشغلهم عن حقوق الله وتحملهم على هضم حقوق خلقه، وجزاء المقتصدين الذين يتقون الله في تمتعهم ولا ينسون الله ولا الدار الآخرة. ولعلنا إذا أمهل الزمان وبلغنا سورة الحديد نبين ما في الآية.
وقال الأستاذ الإمام في تفسير الرضوان في الآية : وأكبر من هذه اللذات كلها رضوان الله تعالى، وهذا يدلنا على أن أهل الجنة طبقات ومراتب كما نراهم في الدنيا فمن الناس من لا يفهم معنى رضوان الله تعالى ولا يكون باعثا له على ترك الشر ولا على فعل الخير، وإنما يفهمون معنى اللذات الحسية التي جربوها فكانت أحسن الأشياء موقعا من نفوسهم، فهم فيها يرغبون ولأجلها يعملون، ولكن جميع المتقين يعرفون في الآخرة هذه اللذة التي لم يكونوا يعقلون لها معنى في الدنيا.
﴿ والله بصير بالعباد ﴾ قال الأستاذ الإمام رحمه الله : ختم الآية بهذه الجملة للإشعار بأنه ليس كل من ادعى التقوى في نفسه أو بلسانه يكون متقيا. وإنما المتقي عند الله هو من يعلم منه التقوى، وفي هذا تنبيه للناس وإيقاظ لمحاسبة نفوسهم على التقوى لئلا يغشهم العجب بأنفسهم فيحسبوها متقية وما هي بمتقية.
وقالوا في قوله تعالى :﴿ فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ﴾ أنهم رتبوا طلب المغفرة والوقاية من النار على الإيمان فدل ذلك على أن الإيمان وحده غير كاف في استحقاقهما من غير توقف على العمل الصالح. وأقول قد يصح هذا إذا أريد مغفرة الشرك السابق على الإيمان وما تبعه من الذنوب والوقاية من الخلود في النار بذلك. فإن الإسلام يجب ما قبله١ كما ورد. ولا يمكن أن يصح إذا أريد به أن الإنسان قد يكون مؤمنا ولا يعمل صالحا بل يكون منغمسا في المعاصي والخطايا ثم يكون مستحقا للمغفرة والوقاية من العذاب. فإن العقل والنقل يحيلان هذا الفرض. ذلك أن المعروف من سنة الله تعالى في الإنسان أن عقائده الراسخة اليقينية لها السلطان الأعلى على أعماله البدنية. وما الإيمان إلا الاعتقاد اليقيني الراسخ في العقل المهيمن على القلب. ولا عمل إلا عن فكر من العقل أو وجدان من القلب، فأعمال المؤمن يجب أن تكون تابعة لإيمانه لا تستبد دونه ولا تتحول على طاعته إلا لنسيان أو جهالة، كغلبة انفعال يعرض ولا يلبث أن يزول وتقفي التوبة على أثره فتمحوه :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب ﴾ [ النساء : ١٧ ] فهذا دليل العقل.
وأما النقل فالآيات التي يعسر إحصاؤها ومنها في المغفرة قوله تعالى :﴿ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ] وقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين :﴿ ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ﴾ [ غافر : ٨ ] إلى قوله :﴿ وقهم السيئات ومن تق السيئات يومئذ رحمته ﴾ [ غافر : ٩ ] والفرق بين وعده بالمغفرة وبين حكايته دعاء المستغفرين لا يحتاج إلى بيان، على أن الآية التي نفسرها لا تعارض هذه الآيات وما في معناها بل تؤيدها لأن الدعاء فيها لم يرد به أن كل متق ينطق به نطقا بلسانه وإنما هو بيان لشأن المتقين الموصوفين بما يأتي في الآية التالية من أكمل صفات المؤمنين. على أنه لو لم يكن الكلام في المؤمنين المتقين ولو لم يوصفوا بعد الدعاء بما يأتي من الصفات بأن قيل : للذين آمنوا عند ربهم إلخ الدعاء فقط. لكان لنا أن نقول : إن المراد بالإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وعمل الصالحات لتتفق الآية مع سائر آيات القرآن الموافقة للعقل والعلم بطبيعة البشر والإجماع والسلف على أن الإيمان قول واعتقاد وعمل. ولكن القوم غفلوا عن هذا وحجبوا عنه بالتماس ما يؤيدون به مذاهبهم ويفندون به من خالفها. وقد قررنا هذه الحقيقة في الإيمان والعمل من قبل ولا نزال نبدئ القول فيها ونعيده لعل التكرار في المقامات المختلفة يؤثر في صخرة التقليد الصماء فيفتتها أو ينسفها نسفا، فيعود المسلمون إلى إيمان القرآن الذي كان عليه السلف وصفوة علماء الخلف، كحجة الإسلام الغزالي في المشرق وشيخ الإسلام ابن تيمية في الوسط والعلامة الشاطبي صاحب الموافقات في المغرب كل هؤلاء من القرون الوسطى وحسبك بالأستاذ الإمام من المتأخرين.
تقدم في تفسير سورة البقرة معنى الصبر وكيفية اكتسابه والاستعانة به وقال الأستاذ الإمام : هنا مجموع الآيات الواردة في الصبر تدلنا على أن الصبر هو حبس النفس عند كل مكروه يشق على النفس احتماله. وأكمل أنواعه الصبر على ملازمه الشريعة في المنشط والمكره. فعندما تهب زوابع الشهوات فتزلزل الاعتقاد بقبح المعاصي وسوء عاقبتها يكون الصبر هو الذي يثبت الإيمان ويقف بالنفس عند الحدود المشروعة. لذلك قرن الأمر يالتواصي بالحق بالأمر بالتواصي بالصبر في سورة العصر، والحق هو المقصود الأول من الدين، وهو لا يقوم إلا بالصبر. وكما يحفظ النفس عند حدود الشرع يحفظ شرف الإنسان في الدنيا عند المكاره ويحفظ حقوق الناس أن تغتالها أيدي المطامع. وكتب في تفسير سورة العصر " الصبر ملكة في النفس يتيسر معها احتمال ما يشق احتماله والرضا بما يكره في سبيل الحق، وهو خلق يتعلق به بل يتوقف عليه كمال كل خلق وما أتي الناس من شيء مثل ما أوتوا من فقد الصبر أو ضعفه. كل أمة ضعف الصبر في نفوس أفرادها ضعف فيها كل شيء وذهبت منها كل قوة ". وأتى بأمثلة متعددة على ذلك.
ويعلم مما تقدم أن تقديم ذكر الصابرين على ما بعده لأنه كالشرط إذ لا يتم بدونه الصدق والقنوت والإنفاق والاستغفار في الأسحار، وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشق القيام. قال الأستاذ الإمام : والصدق يكون في القول والعمل والوصف يقال فلان صادق في عمله صادق في جهاده وصادق في حبه كما يقال صادق في قوله أقول : ويدخل في ذلك الإيمان والنية. والصدق منتهى الكمال في كل شيء، وحسبك في بيان فضل الصدق وجزائه قوله عز وجل :﴿ والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاؤون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون ﴾ [ الزمر : ٣٣ ٣٥ ] فقد جعل الصدق ملاك الدين كله وجامع حقيقته، وجعل أسوأ الذنوب معه مستحقا لأن يكفر ويغفر، وأي ذنب يدنس نفس الصادق في إيمانه وأخلاقه وأقواله وأفعاله فيمنعها استحقاق المغفرة ؟ أليس أسوأ ما يمكن أن يلم به الصادق من الذنب بادرة غضب لا تلبث أن تفيء، أو نزوة شهوة لا تمكث أن تسكن، فيكون مس طائف الشيطان ضعيفا قصير الأمد لا يقوى على إضعاف فضيلة تلك النفس القوية بالصدق ولا على إطفاء نورها.
وقد فسروا القانتين بالمطيعين وبالمداومين على الطاعة والعبادة وتقدم في سورة البقرة أن القنوت هو المداومة على الخشوع والضراعة، أي على روح العبادة ولبابها لا على صورها ورسومها فقط. والمنفقون معروفون. ولم يعين النفقة ولا المنفق عليه، فعلم أن المراد بهم المنفقون للمال في جميع الطرق المشروعة من واجبة ومستحبة، لا يمنعون حقا ولا يقبضون أيديهم عن شيء من أعمال البر. وفسر مجاهد وغيره المستغفرين هنا بالمصلين لأن أهل التهجد في آخر الليل يطلبون بتهجدهم مغفرة الله ورضوانه، فهؤلاء المفسرون يرون أن الاستغفار هو طلب المغفرة بالفعل لا بمجرد حركة اللسان. ومن يقول إنه الطلب باللسان فإنه يجعل من شروطه حضور القلب ولا يقول أحد يعتد بقوله أن استغفار اللسان وحده نافع بل قالوا إن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بربه. وفي مثل هذا الاستغفار، الذي يغتر به الجهلة الأغرار، قالت رابعة العدوية : استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. وروي تفسير الاستغفار هنا بالصلاة في وقت السحر وبصلاة الصبح أي لأول وقتها وقيده زيد بن أسلم بصلاة الجماعة. وحكمة تخصيص وقت السحر : أن العبادة تكون حينئذ أشق على أهل البداية لأنه الوقت الذي يطيب فيه النوم ويعزب الرياء، وأروح لأهل النهاية لأن النفس تكون أصفى والقلب أفرغ من الشواغل.
ومن مباحث اللفظ النكتة في نسق هذه الأوصاف بالعطف مع أن الأوصاف المعدودة تسرد غير معطوفة. ذكر الأستاذ الإمام عن الزمخشري أن العطف يفيد كمال الموصوفين بهذه الأوصاف. وقال غيره من المفسرين إننا لا نعهد من معاني الواو الكمال في معطوفاتها، ومن عنده ذوق في اللسان يجد في نفسه فرقا بين المعطوف وغيره وذكر أمثلة منها قول الشاعر :
ولو كان رمحا واحدا لاتقيته | ولكنه رمح وثان وثالث |
" وتوسيط الواو بينها للدلالة على استقلال كل واحدة منها وكمالهم فيها أو لتغاير الموصوفين بها " وهي مبهمة وإيضاح الاستقلال ما قرأت آنفا. وأما تغاير الموصوفين بها فمعناه هنا إن الذين اتقوا أصناف فمنهم الصابرون ومنهم الصادقون الخ والمراد الممتازون بالكمال في الصبر والصدق الخ وذلك لا يقتضي أن يكون كل صنف عاريا من صفات الآخر. وهذا ما ذهب إليه الرازي إذ قال المدح العظيم وهو ما لا بد منه.
والتحقيق أن الألفاظ المفردة يمتنع عطفها في مقام سردا مطلقا لأنها عند ذلك تكون بمثابة الأعداد التي تسرد : واحد اثنان ثلاثة أربعة : الخ ولكنها إذا لم يرد سردها كأن ذكرت للحكم وعلى مدلولاتها ابتداء فلا بد أن تجمع بالعطف. مثال الأول قوله تعالى :﴿ التائبون العابدون الحامدون السائحون ﴾ [ التوبة : ١١٢ ] الآية وقوله تعالى في سورة التحريم ﴿ أزواجا خيرا منكن مسلمات مؤمنات ﴾ [ التحريم : ٥ ] الخ فإن هذه أوصاف سردت للتعريف بها بعد الحكم على الموصوف ابتداء ويتعين إذن أن تكون منصوبة على الاختصاص. ومثلها ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾ [ التوبة : ٦٠ ] الخ فإن المراد الحكم على مدلولات هذه الألفاظ ابتداء. ومن الفرق بين هذا القول وما قبله : أنه يمتنع على هذا أن تكون هذه الألفاظ نعوتا ( نحوية ) للذين اتقوا.
بعدما بين تعالى جزاء المتقين وبين حالهم في إيمانهم ومدح أصنافهم الكاملين في أوصافهم بين أصل الإيمان وأساسه فقال ﴿ شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط ﴾ صرح كثير من المفسرين بأن شهادة الله هنا وما أوحاه إلى أنبيائه في ذلك يشبه شهادة الشاهد بالشيء في إظهاره وإثباته. وكذلك شهادة الملائكة عبارة عن إقرارهم بذلك كما قال البيضاوي. زاد أبو السعود وإيمانهم به وجعلها من باب عموم المجاز وشهادة أولي العلم عبارة عن إيمانهم به واحتجاجهم عليه.
وقال بعضهم : إن الشهادة من كل بمعنى واحدة لأنها إما عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم وإما عبارة عن الإظهار والبيان، وكل ذلك حاصل من الملائكة وأولي العلم فالله تعالى أخبر بتوحيده ملائكته ورسله عن علم وبينه لهم أتم البيان والملائكة أخبروا الرسل وبينوا لهم، وأولو العلم أخبروا بذلك وبينوه عالمين به ولا يزالون كذلك.
وأقول : إن ما قاله الأولون ضعيف وأقرب التفسيرين للشهادة في القول الآخر أولهما. يقال : شهد الشيء إذا حضره وشاهده كقوله تعالى :﴿ فمن شهد منكم الشهر ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] وقوله ﴿ ما شهدنا مهلك أهله ﴾ [ النمل : ٤٩ ] ويقال شهد به إذا أخبر به عن مشاهدة بالبصر، وهو الأكثر والأصل أو عن مشاهدة بالبصيرة وهي الاعتقاد والعلم كقوله تعالى حكاية عن أخوة يوسف ﴿ وما شهدنا إلا بما علمنا ﴾ [ يوسف : ٨١ ] وذلك أنهم أخبروا أباهم يعقوب بأن ابنه ( شقيق يوسف ) سرق عن اعتقاد لا مشاهدة بالبصر. وإنما سموا اعتقادهم علما لأنه لم يخطر في بالهم ما يعارض ما رأوه من إخراج صواع الملك من رحل شقيق يوسف بعدما نودي فيهم بأن الصواع قد سرق. والحاصل أن الشهادة بالشيء هي الإخبار به عن علم بالمشاهدة الحسية أو المعنوية وهي الحجة والدليل وهو المختار هنا. ولكن يرد عليه هنا أنه إثبات للتوحيد بالنقل وهو فرع عنه، لأنه إذا لم يثبت توحيد الله لا يثبت الوحي. ويجاب عنه بأن شهادة الله في كتابه مؤيدة بالبراهين التي قرنها بها وبالآيات على صدق الرسل، وشهادة الملائكة للأنبياء مقرونة بعلم ضروري هو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات البديهية. وبتلك الدلائل التي أمروا بأن يحتجوا بها على الناس، وشهادة أولي العلم تقرن عادة بالدلائل والحجج لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه، على أن الكلام في وحدانية الألوهية والمشترك بها لا يكون معطلا حتى يقال لا بد من إقناعه بوجود الله قبل إقناعه بشهادته، بل يكون مقرا بوجود الله، وإنما شركه باتخاذ الوسطاء يكونون بزعمه وسائل بينه وبين الله يقربونه إليه زلفى وبالشفعاء يكونون في وهمه سببا لقضاء حاجاته وتكفير سيئاته، كما كانت تدين العرب في الجاهلية.
وقد اختلفوا في أولي العلم. فقيل هم الصحابة وقيل علماء أهل الكتاب. وذهب الزمخشري إلى أنهم المعتزلة، والرازي إلى أنهم علماء الأصول. وهذا من عجيب الخلاف، فإن أولي العلم لا يحتاجون إلى تعريف ولا تفسير، فهم أصحاب العلم البرهاني القادرون على الإقناع وهم معروفون في هذه الأمة وفي الأمم السابقة.
أما قوله تعالى :﴿ قائما بالقسط ﴾ فمعناه أنه تعالى شهد هذه الشهادة قائما بالقسط وهو العدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة، فمن الأول تقرير العدل في الاعتقاد كالتوحيد الذي هو وسط بين التعطيل والشرك. ومن الثاني جعل سنن الخليقة في الأكوان والإنسان الدالة على حقية الاعتقاد قائمة على أساس العدل فمن نظر في هذه السنن ونظامها الدقيق يتجلى له عدل الله العام، فالقيام بالقسط على هذا من قبيل التنبيه إلى البرهان على صدق شهادته في الأنفس والآفاق لأن وحدة النظام في هذا العدل تدل على وحدة واضعه. وهذا مما يفند تفسير بعضهم للشهادة بأنها عبارة عن خلق ما يدل على الوحدانية من الآيات الكونية والنفسية. كذلك كانت أحكامه تعالى في العبادات والآداب والأعمال مبنية على أساس العدل بين القوى الروحية والبدنية وبين الناس بعضهم مع بعض. فقد أمر بذكره وشكره في الصلاة وغير الصلاة لترقية الروح وتزكيته، وأباح الطيبات والزينة لحفظ البدن وتربيته، ونهى عن الغلو في الدين والإسراف في الدنيا وذلك عين العدل، فهذا هو القسط في العبادات والأعمال الدنيوية. وأما القسط في الآداب والأخلاق فهو صريح في القرآن كصراحة الأمر بالعدل في الأحكام قال تعالى :﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان ﴾ [ النحل : ٩ ] وقال :﴿ وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ﴾ [ النساء : ٥٨ ].
وإذ قد تجلى لك صدق الشهادة فعليك أن تقر بها قائلا ﴿ لا إله إلا هو العزيز الحكيم ﴾ تفرد بالألوهية وكمال العزة والحكمة. فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ولا يخرج شيء منها عن مقتضى الحكمة البالغة.
أقول : الدين في اللغة الجزاء، والطاعة والخضوع أي سبب الجزاء. ويطلق على مجموع التكاليف التي يدين بها العباد لله فيكون بمعنى الملة والشرع. وقالوا إن ما يكلف الله به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه ويسمى دينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع به. ويسمى ملة باعتبار جملة التكاليف. والإسلام مصدر أسلم وهو يأتي بمعنى دخل في السلم وهو بالفتح والكسر بمعنى الصلح والسلامة وبالتحريك الخالص في الشيء ومنه قوله تعالى :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل ﴾ [ الزمر : ٢٩ ] أي خالصا له لا يشاركه فيه من يشاكسه. وتسمية دين الحق إسلاما يناسب كل معنى من معاني الكلمة في اللغة وأظهرها آخرها في الذكر لاسيما في هذا المقام، ويؤيده الآية وقوله تعالى :﴿ ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا ﴾ [ النساء : ١٢٥ ] وقد وصف إبراهيم بالإسلام في عدة سور ووصف غيره من النبيين بذلك. فيعلم بذلك أن الحصر في قوله :" إن الدين عند الله الإسلام " يتناول جميع الملل التي جاء بها الأنبياء لأنه هو روحها الكلي الذي اتفقت فيه على اختلاف بعض التكاليف وصور الأعمال فيها وبه كانوا يوصون راجع تفسير :( ٢ : ١٢٨ و ١٣١ ١٣٣ ).
والأستاذ الإمام لم يقل هنا إلا بعض ما قاله هناك، وبذلك كله تعلم أن المسلم الحقيقي في حكم القرآن من كان خالصا من شوائب الشرك بالرحمن، مخلصا في أعماله مع الإيمان، من أي ملة كان، وفي أي زمان وجد ومكان، وهذا هو المراد بقوله عز وجل :﴿ ومن يتبع غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ [ آل عمران : ٨٥٨ ] الآية وستأتي. ذلك أن الله تعالى شرع الدين لأمرين أصليين ( أحدهما ) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بالسلطة الغيبية للمخلوقات، وقدرتها على التصرف في الكائنات، لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها، أو لما هو دونها في استعدادها وكمالها، ( وثانيهما ) إصلاح القلوب بحسن القصد في جميع الأعمال، وإخلاص النية لله وللناس، فمتى حصل هذان الأمران انطلقت الفطرة من قيودها العائقة لها عن بلوغ كمالها في أفرادها وجمعياتها. وهذان الأمران هما روح المراد من كلمة الإسلام. وأما أعمال العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الأمري في الروح الخلقي. ولذلك شرط فيها النية والإخلاص ومتى تربى سهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الأدبية والمدنية التي يصل بها إلى المدينة الفاضلة وتحقيق أمنية الحكماء.
آه ما أشد غفلة الناس عن حقيقة الإسلام ! أي سعادة للناس تعلو عرفان كل فرد من أفرادهم أنه أوتي من الاستعداد ما أوتيه من يوصفون بالولاية والقداسة، ويدلون بالزعامة والرياسة، فمنهم من يستعبد بها الناس استعبادا روحانيا. ومنهم يستعبدهم بها استعبادا سياسيا، وإخلاص كل فرد من أفرادهم في عمله الديني لله وعمله الدنيوي للناس ؟ هذه السعادة هي روح الإسلام وحقيقته حجبتها عن بعضهم الرسوم العلمية، والتقاليد المذهبية، وعن آخرين النزعات النظرية، والتقاليد الوضعية، فالأولون يرمون بالكفر أو البدعة كل من خالف مذاهبهم، والآخرون ينبزون بالغباوة والتعصب كل من لم يستعذب مشربهم، فمتى يكثر المسلمون الخالصون للأولين والآخرين فيكونوا حجة الله وعلى جميع العالمين، وآية الوحدة الفاضحة للمختلفين ؟ ؟
﴿ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ قيل إن المراد بأهل الكتاب هنا اليهود خاصة وقيل النصارى خاصة. ويدعم هذا القول : أن الآيات نزلت في نصارى نجران كما تقدم. والصواب : أنها عامة لا تخص فريقا دون آخر. والجملة بيان لسبب خروج أهل الكتاب عن الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على ما تقدم في الجملة الأولى، فصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين والدين واحد لا تفرق فيه ولا مثار للاختلاف بله الاقتتال. وهذا السبب هو البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء. كما فصله الأستاذ الإمام تفصيلا في تفسير ﴿ كان الناس أمة واحدة ﴾ [ البقرة : ٢١٢ ] فليراجعه من لم يقرأه. ومن كان على علم بالتاريخ وخاصة ونشأة المذاهب في كل أمة، وفشو البدع في كل ملة، فهو الذي يفهم كنه المراد من هذه الآية. فلولا بغي رؤساء الدين والدنيا ونصر مذهب على مذهب لما تعصب لكل مذهب يشتق من الدين شيعة تنصره وتؤيده في كل مسألة وتقاوم كل من يقاومه وتضللهم متوكئة على علم الدين ومستندة إلى نصوصه بتفسير بعضها بالرأي والهوى وتأويل بعضها وتحريفه أو يوافق المذهب المنتحل.
ويجب على المسلم أن لا ينظم الآية في سمط أخبار التاريخ ولا في سلك علم الملل والنحل، أو علم المناظرة والجدل، بل يتلوها متذكرا أنها ما أنزلت إلا هداية وعبرة لمن يؤمن بالقرآن ليتقوا الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب اتباعا لسنن من قبلهم. نحن المسلمين نعتقد أن دين المسيح عليه السلام هو الإسلام الذي بينا معناه آنفا وإن أساسه التوحيد والتنزيه وأن الرؤساء الروحيين وغير الروحيين، لا سيما الملوك والأحبار الرومانيين، هم الذين بتفرقهم جعلوا ذلك الدين الإلهي الواحد مذاهب ينقض بعضها بعضا. وأهله شيعا يفتك بعضهم ببعض، وإنه لولا بغيهم لما تمزق شمل آريوس واتباعه الذين دعوا إلى التوحيد والتنزيه، بعد فشو الشرك والتشبيه، إذ حكم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة ٣٢٥م بمقاومة آريوس وإحراق كتبه وتحريم اقتنائها ولما انتشر تعليمه من بعده قضى تيودوسيوس الثاني باستئصال مذهبه وإبادة الآريوسية بقانون روماني صدر في سنة ٦٢٨م وبقيت مذاهب التثليث يكافح بعضها بعضا، نعيب ذلك عليهم ولكن يجب علينا أن لا ننسى أنفسنا ولا يغيب عنا ما أصبنا به من الخلاف والتفرق عسى أن يسعى أهل الإيمان الصادق والغيرة في نبذ الاختلاف والشقاق، والعود إلى الوحدة والاتفاق، كما كنا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وخلفائه عليهم الرضوان١.
﴿ ومن يكفر بآيات الله ﴾ الدالة على وحدة الدين ووجوب الاعتصام به وحرمة الاختلاف والتفرق فيه وهي المراد بالعلم في قوله :﴿ إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ﴾ ﴿ فإن الله سريع الحساب ﴾ يحاسب من كفر فيجازيه بما يستحق. وقد تقدم تفسير سريع الحساب في سورة البقرة فليراجع.
أما هذا الكفر فهو عبارة عن ترك الإذعان لهذه الآيات والامتثال لها ومن لوازمه تأويلها بما يصرفها عن معناها لتوافق مذاهب أهل التأويل.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه في دينهم وما اعتادوه من التحريف والتأويل، وإلى الرجوع إلى حقيقته، وهي الإسلام لله والإخلاص له في كل عمل كما نطقت هذه الآيات التي ورد أنها نزلت عند مجيء وفد نصارى نجران.
قرأ نافع والبصري ( اتبعني ) بالياء في الوصل خاصة والباقون بحذفها وصلا ووقفا. قال الأستاذ الإمام : كأنه يقول إن من يقصد إلى الحجاج بعد تأييد الحق وتفنيد الباطل لا يقصد إلا إلى المجادلة والمشاغبة لمحض العناد والمشاكسة، وذلك شأن المبطلين. وأما طالب الحق فإنه يبخل بالوقت أن يضيع سدى. ﴿ وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين ﴾ أي لليهود والنصارى ومشركي العرب وكانوا ينسبون إلى الأم لجهلهم كما تقدم في تفسير سورة البقرة وخص هؤلاء بالذكر والبعثة عامة لأنهم هم الذين خاطبهم الرسول بالدعوة بلا واسطة ﴿ ءأسلمتم ﴾ ٢ كما أسلمت لما وضحت لكم الحجة أم لا ؟ قال البيضاوي ونظيره قوله :" فهل أنتم منتهون " وفيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة اه.
وقال الأستاذ الإمام : الاستفهام للتقريع والمراد بالإسلام روح الدين الذي نزل به الكتاب ومقصده، يعني أنه ليس لهم إلا الرسوم منه ﴿ فإن أسلموا ﴾ هذا الإسلام ﴿ فقد اهتدوا ﴾ قال الأستاذ الإمام : لأن هذا هو روح الدين فمن أصابه فهو على هداية من هذا الوجه فإن غشيه مع ذلك شيء من الباطل الصوري فهو لا يلبث أن يزول متى ظهر له الدليل على بطلانه. ولذلك كان إسلامهم هذا لا بد من أن يستتبع اتباعك فيما جئت به، لأن من كان كذلك فهو نير القلب متوجه دائما إلى طلب الحق، فهو أقرب الناس إلى قبوله متى جاءه وظهر له ﴿ وإن تولوا ﴾ معرضين عن الاعتراف بما سألت عنه، لعلمهم أنهم ليسوا منه، ﴿ فإنما عليك البلاغ ﴾ لحقيقة الإسلام، وما أمرت به من الأحكام، ﴿ والله بصير بالعباد ﴾ فهو أعلم بمن طمس قلبه فارتكس في شقائه، ووقع اليأس من اهتدائه، ومن يرجى له بتوفيق الله من بعد ما لا يرجى له اليوم. أقول : ومثل هذه الآية نص قاطع في حصر وظيفة الرسول بالبلاغ عن الله وأنه ليس مسيطرا على الناس، ولا جبارا ولا مكرها لهم على الإسلام. وقد صرحت آيات أخرى بمفهوم الحصر في التبليغ يعرف مواقعها حفاظ القرآن والمكثرون من تلاوته.
٢ في مثل هاتين الهمزتين لغات: تحقيق الأولى وتسهيل الثانية وقرأ بها الحرميان والبصري وهشام في أحد الطريقين، وتحقيقهما وقرأ بها الباقون وهو الطريق الثاني لهشام، وإبدال الثانية ألفا وروي عن ورش، وإدخال ألف بينهما وقرأ قالون وبصري وهشام. (المؤلف)..
قيل إن المراد بهذه الآية ﴿ إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ﴾ اليهود خاصة وقد نسب إليهم قتل النبيين الذي كان من سابقهم لاعتبار الأمة في تكافلها وجرى لاحقها على أثر سابقها كالشخص الواحد على ما مر بيانه عن الأستاذ الإمام غير مرة، على أن اليهود همت بقتل النبي صلى الله عليه وسلم في زمن نزول الآية، والسورة مدنية كما علمت وهم بذلك قومه الأميون من قبل في مكة، ثم كان كل من الفريقين حربا له وهم المعتدون. ولذلك قال آخرون إن الآية فيمن سبق ذكرهم من أهل الكتاب والأميين، فكل قاتله وقاتل الذين يأمرون بالقسط من المؤمنين به. والظاهر الأول حتى على قراءة حمزة ( ويقاتلون الذين ) لأن محاولة قتل نبي لا يعبر عنه بيقتلون النبيين والقتال غير القتل ولما في آيات أخرى من إطلاق مثل هذا التعبير على اليهود خاصة ولا حاجة إلى القول بأن المراد مجموع الكافرين الذين يقتل بعضهم النبيين وبعضهم الذين يأمرون بالقسط.
فالآية وما بعدها انتقال إلى خطاب اليهود خاصة فاليهود هم الذين جروا على الكفر بآيات الله من عهد موسى إلى عهد محمد عليهما الصلاة والسلام، وبذلك تشهد عليهم كتبهم قبل القرآن، وعلى قتل النبيين كزكريا ويحيى عليهما السلام ولكن الأستاذ الإمام وجه القول بالعموم وجعله بالنسبة إلى مشركي العرب الذين حاولوا قتل نبي واحد على حد كون قتل النفس الواحدة كقتل جميع الناس.
وقوله تعالى :﴿ بغير حق ﴾ بيان للواقع بما يقرر بشاعته وانقطاع عرق العذر دونه وإلا فإن قتل النبيين لا يكون بحق مطلقا كما يقول المفسرون. وأقول إن هذا القيد يقرر لنا أن العبرة في ذم الشيء ومدحه تدور مع الحق وجودا أو عدما لا مع الأشخاص والأصناف. وإذا قلنا كلمة " حق " هنا المنفية تشمل الحق العرفي بقاعدة أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم يدخل في ذلك مثل قتل موسى عليه السلام للمصري وإن لم يكن معتمدا لقتله، فإذا كانت الشريعة المصرية تقضي بقتل مثله وقتلوه يكون قتله حقا في عرفهم لا يذمون عليه وإنما تذم شريعتهم إذا لم تكن عادلة، واليهود لم يكن لهم حق ما في قتل من قتلوا من النبيين لا حقيقة ولا عرفا.
﴿ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس ﴾ أي الحكماء الذين يرشدون الناس إلى العدالة العامة في كل شيء ويجعلونها روح الفضائل وقوامها ومرتبتهم في الهداية والإرشاد تلي مرتبة الأنبياء وأثرهم في ذلك يلي أثرهم. ذلك أن جميع طبقات الناس تنتفع بهدي الأنبياء كل صنف بقدر استعداده وأما الحكماء فلا ينتفع بهم إلا بعض الخواص المستعدين لتلقي الفلسفة. ألم تر كيف اصطلم التوحيد وثنية العرب في مدة قليلة بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم وكيف عجزت دعوة فلاسفة اليونان إلى التوحيد عن مثل ذلك أو ما يقاربه فلم يستجب لهم فيها في الزمن الطويل إلا قليل من طلاب الفلسفة. ذلك بأن دعوة النبي على ما تختص به من التأييد الإلهي وثأتير روح الوحي لها ثلاثة مظاهر بينها الله تعالى في قوله :
﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ﴾ [ النحل : ١٢٥ ] فالحكمة ما يدعي به العقلاء وأهل النظر من البراهين والحجج، والموعظة ما يدعي به العوام السذج، والجدل بالتي هي أحسن للمتوسطين الذين لم يرتقوا إلى الاستعداد لطلب الحكمة، ولا ينقادون إلى الموعظة بسهولة بل يبحثون بحثا ناقصا فلا بد من الحسنى في مجادلتهم ومخاطبتهم على قدر عقولهم. وأما الحكماء فإن لهم طريقة واحدة في الدعوة إلى الحق والفضيلة مبنية على طلب العدل في الأفكار والأخلاق. وقد يكون الحكيم الذي يدعو إلى ذلك متدينا ويجري في الإقناع بالدين على الطريقة المذكورة آنفا وقد يكون غير متدين وهو مع ذلك يدعو إلى القسط والعدل من طريق العقل بحسب ما وصل إليه علمه مع الصدق والإخلاص. والإقدام على قتل هؤلاء دليل على غمط العقل، ومقت العدل، وأقبح بذلك جرما، وكفى به إثما. ولم يفسر الأستاذ الإمام الذين يأمرون بالقسط بالحكماء بل قال إن مرتبة هؤلاء تلي مرتبة الأنبياء وقال : إن قوله تعالى :﴿ من الناس ﴾ يشعر بقتلهم. وأقول على ما تقدم من الاختيار أنه يشعر بشمول قوله :﴿ الذين يأمرون بالقسط ﴾ لمن بلغته دعوة نبي على وجهها فآمن بها ومن لم يكن كذلك وإلا لقال :" والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين " وفي هذا من تعظيم شأن الحكمة والعدالة ما فيه من شرف الإسلام وإرشاد أهله إلى أن يكونوا من أهل هذه المرتبة التي تلي مرتبة النبوة :﴿ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾ [ البقرة : ٢٦٩ ].
وقوله :﴿ فبشرهم بعذاب أليم ﴾ يحملون مثله على التهكم وعدوه من المجاز بالاستعارة على ما في مفردات الراغب لأن التبشير من البشارة والبشرى وهي الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه. وقد يقال إنه ما ظهر أثره في البشرة باستنباط أو انقباض وكآبة ولكنه غلب في الأول. وهذا العذاب يصيب من كان منهم في زمن البعثة في الدنيا ثم يشاركون بمثل ذنوبهم في عذاب الآخرة. وأي الناس أحق بالعذاب الأليم من هؤلاء القساة الطغاة المسرفين في الشر إسرافا جعلهم على منتهى البعد عن النبيين والآمرين بالقسط حتى كان منهم الذين قتلوهم بالفعل ومنهم الذين نفوسهم كنفوس من قتلوا وما يمنعهم عن الفعل إلا العجز ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك ﴾ [ الأنفال : ٢٠ ] فهذه النفوس قد أحاطت بها خطاياها حتى لم يبق فيها منفذ لنور آيات الله التي بها يبصر الحق ويهتدي إلى إقامة القسط ولذلك قال فيهم :﴿ أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة ﴾.
كان سابق الكلام في تقرير التوحيد وإقامة الدلائل عليه وعلى الحشر وبيان ثواب العاملين، وقيام الحجة على المعاندين، لأن البلاغ قد أوضح المحجة للناس فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فحسابهم على الله تعالى. ثم ذكر أشد ما كان من أهل الكتاب الذين تولوا عن الدعوة من قبل إذ كانوا يقتلون الأنبياء والآمرين بالقسط وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وكان يحزنه إعراضهم، ولذلك التفت إلى خطابه بأعجب شأنهم في الدين لذلك العهد فقال :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾ أخرج ابن أبي حاتم وابن المنذر عن عكرمة عن ابن عباس قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدارس على جماعة من يهود فدعاهم إلى الله فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ قال على ملة إبراهيم ودينه، قالا فإن إبراهيم كان يهوديا فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلما إلى التوراة فهي بيننا وبينكم. فأنزل الله :﴿ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى قوله يفترون ﴾ ذكر هذا التخريج السيوطي في لباب النقول وأخرجه أيضا ابن جرير في تفسيره.
فكتاب الله الذي يدعون إليه هو التوراة على هذا الوجه. قال ابن جرير : وقيل بل ذلك كتاب الله الذي أنزله على محمد، وإنما دعيت طائفة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحق فأبت. روي ذلك عن قتادة وابن جريج ورجح الأول، ومعناه ألم تر يا محمد إلى هؤلاء الذين تعجب لعدم إيمانهم بك على وضوح ما جئت به كيف يعرضون عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم. ووقائع الأحوال في عصر التنزيل تتفق مع كل من القولين. فقد كانوا يتولون عن حكم التوراة إذا خالف أهواءهم كما يفعل أهل كل دين في طور انحلال الدين وضعفه وكانوا ربما تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم عازمين على قبول حكمه حتى إذا كان على غير ما أحبوا خالفوه كما فعلوا يوم زنا أشرافهم وحكموه فحكم بينهم بمثل حكم كتابهم فتولوا وأعرضوا عن قبول حكمه لأنهم إنما فزعوا إليه ليخفف عنهم.
أما قوله :" أوتوا نصيبا " فقد علم ما هو تفسيره المختار عندنا فيما تقدم أول السورة من تفسير التوراة والإنجيل وقال الأستاذ الإمام في تفسير هذه الآية إنه مبين لقوله تعالى :﴿ أوتوا الكتاب ﴾ وهو بمعنى ﴿ لا يعلمون الكتاب إلا أماني ﴾ [ البقرة : ٧٨ ] فالنصيب عبارة عن تمسكهم بالألفاظ بتعظيمها وتعظيم ما تكتب فيه مع عدم العناية بالمعاني بفقهها والعمل بها.
قال : ولك أن تقول : إن ما يحفظونه من الكتاب هو جزء من الكتاب الذي أوحاه الله إليهم ( أو قال الكتب ) وقد فقدوا سائره وهم مع ذلك لا يقيمونه بحسن الفهم له والتزام العمل به. ولا غرابة في فقد بعض الكتاب فالكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى عليه السلام التي يسمونها التوراة لا دليل على أنه هو الذي كتبها ولا هي محفوظة عنه بل قام الدليل عند الباحثين من الأوربيين على أنها كتبت بعده بمئات من السنين ( أراه خمس مئة سنة ) وكذلك يقال في سائر الكتب المنسوبة إلى الأنبياء في المجموع الذي يسمونه ( الكتاب المقدس ) أقول ولا تعرف اللغة التي كتبت بها التوراة أول مرة ولا دليل على أن موسى عليه السلام كان يعرف اللغة العبرانية وإنما كانت لغته مصرية فأين هي التوراة التي كتبها بتلك اللغة ومن ترجمها عنها ؟
أما قوله تعالى :﴿ ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون ﴾ فللتراخي فيه وجهان أحدهما : استبعاد توليهم لأنه خلاف الأصل الذي يكون عليه المؤمن. ثانيها : أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولى ذلك الفريق بعد تردد وترو في القبول وعدمه وكان من مقتضى الإيمان أن لا يتردد المؤمن في إجابة الدعوة إلى حكم كتابه الذي هو أصل دينه. أورده الأستاذ الإمام وقال : على أنهم لم يكتفوا بالتردد حتى تولوا بالفعل ولم يكن التولي عرضا حدث لهم بعد أن كانوا مقبلين على الكتاب خاضعين لحكمه في كل حال وآن، بل هو وصف لهم لازم بل اللازم لهم ما هو شر منه وهو الإعراض عن كتاب الله في عامة أحوالهم : فجملة :" وهم معرضون " ليست للتولي كما قيل بل هي مؤسسة لوصف الإعراض الذي هو أبلغ منه. وإنما قال " فريق منهم " لأن هذا الوصف ليس عاما لكل فرد منهم بل كان منهم أمة يهدون بالحق وبه يعدلون. ومنهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أقول : وهذا مما عهدنا في أسلوب القرآن من تحديد الحقائق والاحتراس في الحكم على الأمم فتارة يحكم على فريق منهم في مقام بيان شؤونهم وتارة يحكم على أكثرهم وإذا أطلق الحكم في بعض الآيات يتبعه بالاستثناء استثناء الأقل كقوله ﴿ تولوا إلا قليلا منهم ﴾ [ البقرة : ٢٤٦ ].
وأقول : لعل المراد بعبارة الآية أنهم كانوا يعتقدون أن الإسرائيلي إذا عوقب فإن عقوبته لا تكون إلا قليلة كما هو اعتقاد أكثر المسلمين اليوم إذ يقولون : المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات، وإما تنجيه الكفارات وإما أن يمنح العفو والمغفرة بمحض الفضل والإحسان، فإن فاته كل ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة. وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار كيفما كانت حالهم ومهما كانت أعمالهم. والقرآن لا يقيم للانتساب إلى دين ما وزنا وإنما ينوط أمر النجاة من النار، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار، بالإيمان الذي وصفه وذكر علامات أهله وصفاتهم وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة مع التقوى وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
وأما المغفرة فهي خاصة في حكم القرآن بمن لم تحط به خطيئته وأما من أحاطت به حتى استغرقت شعوره ورانت على قلبه فصار همه محصورا في إرضاء شهوته ولم يبق للدين سلطان على نفسه فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأن من يجعل الدين جنسية وينوط النجاة من النار بالانتساب إليه أو الاتكال على من أقامه من السلف فهو مغتر بالوهم، مفتر يقول على الله بغير علم، كما قال هنا ﴿ وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ﴾ أي بما زعموا من تحديد مدة العقوبة للأمة في مجموعها وهذا من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم في دينهم ومثله لا يعرف بالرأي ولا بالفكر لأنه من أمر عالم الغيب فلا يعرف إلا بوحي من الله وليس في الوحي ما يؤيده ولا يوثق به إلا بعهد منه عز وجل ولا عهد بهذا وإنما عهد الله ما سبق في سورة البقرة :﴿ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة، قل اتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ﴾ [ البقرة : ٨٠ ٨٢ ]. ثم توعدهم تعالى على هذا الافتراء بقوله :﴿ فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ﴾.
وقد قال المفسرون في هذه الجملة كلمة أحب التنبيه على ما فيها. قالوا : فيها دليل على أن العبادة لا تحبط وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية جزاء إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها. فإذن هي بعد الخلاص منها. والعبارة للبيضاوي ونقلها أبو السعود كعادته. وأقول : إن الكسب هنا ليس خاصا بالعبادة والإيمان بل هو عام شامل لكل ما عمله العبد من خير وشر فإذا أرادوا أن الآية تدل على أنه لا بد من الجزاء على الكسب، كما هو ظاهر الآية لزمهم أن الكافر إذا أحسن في بعض الأعمال ولا يوجد أحد من البشر لا يحسن عملا قط وجب أن يجازى عليه وهم لا يقولون بذلك. ولذلك خصصوا وأخرجوا الآية عن ظاهرها وإذا نحن جمعنا بين هذه الآية التي وردت ردا لقول الذين زعموا أنهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودة وآية البقرة التي وردت في ذلك أيضا علمنا مراد الله في الجزاء على كسب الإنسان بحسبه، وهو العبرة بتأثير العمل في النفس. فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بعلمها وشعورها واستغرق وجدانها كانت خالدة في النار لأن العمل السيئ لم يدع للإيمان أثرا صالحا فيها يعدها لدار الكرامة، بل جعلها من أهل دار الهوان بطبعها. وإذا لم يصل إلى هذه الدرجة بأن غلب عليها تأثير العمل الصالح أو استوى الأمران، فكانت بين بين جوزيت على كل بحسب درجته كما قررناه آنفا. وليس عندنا شيء عن الأستاذ الإمام في هذه الآية ولكن ما قلناه موافق لما قرره في سورة البقرة.
روي عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل فارس والروم في أمته فنزل قوله تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء ﴾ وقال الأستاذ الإمام ما معناها : إن الكلام متصل بما قبله صح ما قيل في سبب النزل أم لم يصح. والكلام في حال النبي صلى الله عليه وسلم مع من خوطبوا بالدعوة من المشركين وأهل الكتاب، فالمشركون كانوا ينكرون النبوة لرجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، كما أنكر أمثالهم على الأنبياء قبله. وأهل الكتاب كانوا ينكرون أن يكون نبي من غير آل إسرائيل وقد عهد في غير موضع من القرآن تسلية النبي صلى الله عليه وسلم في مقام بيان عناد المنكرين ومكابرة الجاحدين وتذكيره بقدرته تعالى على نصره وإعلاء كلمة دينه. فهذه الآية من هذا القبيل. كأنه يقول له : إذا تولى هؤلاء الجاحدون عن بيانك، ولم ينظروا في برهانك. وظل المشركون منهم على جهلهم، وأهل الكتاب في غرورهم، فعليك أن تلجأ إلى الله تعالى وترجع إليه بالدعاء والثناء، وتتذكر أنه بيده الأمر يفعل ما يشاء، وهذا يناسب ما تقدم في الرد على نصارى نجران من أمره بالالتجاء إليه سبحانه بقوله ﴿ فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ﴾ [ آل عمران : ٢٠ ].
قال : وعلى هذا التفسير يصح أن يكون الملك بمعنى النبوة أو لازمها ولا شك أن النبوة ملك كبير لأن سلطانها على الأجساد والأرواح، وعلى الظاهر والباطن قال تعالى :﴿ فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ﴾ [ النساء : ٥٤ ] فإن لم يكن هذا الملك عين النبوة فهو لازمها ونزع الملك على هذا القول عبارة عن نزعه من الأمة التي كان يبعث فيها الأنبياء، كأمة إسرائيل فقد نزعت منها النبوة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يفسر النزع هنا بالحرمان فإنه تعالى يعطي النبوة من يشاء ويحرم منها من يشاء. فإن قيل إن النزع إنما يكون لشيء قد وجد صح أن يجاب عنه بأن هذا على حد قوله تعالى حكاية عن لسان الرسل ﴿ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها ﴾ [ الأعراف : ٨٩ ] فإنهم لم يكونوا في ملتهم، إذ يستحيل الكفر على الأنبياء. هذا سياقه وقد تبع فيه الإمام الرازي إلا أنه زاد عليه كلمة " أو لازمها " والتمثيل غير ظاهر على المعنى الثاني والآية حكاية عن شعيب عليه السلام وهي جواب عن قول قومه ﴿ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ﴾ [ الأعراف : ٨٨ ] فهم قد طلبوا منه وممن آمن معه أن يعودوا في ملتهم وكان أولئك المؤمنون في ملتهم. ففي جوابه عليه السلام تغليب للأكثر وهو متعين. ومثل الرازي أيضا بقوله تعالى :﴿ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ﴾ [ البقرة : ٢٥٧ ] وفيه ما فيه.
أقول : والظاهر المتبادر أن المراد بالملك السلطة والتصرف في الأمور والله سبحانه وتعالى صاحب السلطان الأعلى والتصرف المطلق في تدبير الأمر وإقامة ميزان النظام العام في الكائنات فهو يؤتي الملك في بعض البلاد من يشاء من عباده إما بالتبع بما يختصهم به من النبوة كما وقع لآل إبراهيم، وإما بسيرهم على سننه الحكيمة الموصلة إلى ذلك لأسبابه الاجتماعية كتكوين العصبيات كما وقع لكثير من الناس، وينزعه ممن يشاء من الأفراد ومن الأسر والعشائر والفصائل والشعوب بتنكبهم سننه الحافظة للملك، كالعدل وحسن السياسة وإعداد المستطاع من القوة كما نزعه من بني إسرائيل ومن غيرها بالظلم والفساد ذلك أننا لا نعرف ما قضت به مشيئته عز وجل إلا من الواقع لأنه لا يقع في الوجود إلا ما يشاء. وقد نظرنا في ما وقع للغابرين والحاضرين ومحصنا أسبابه فألفيناها ترجع إلى سنن مطردة كما قال في هذه السورة :﴿ قد خلت من قبلكم سنن فسيروا في الأرض فانظروا ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] وبين بعض هذه السنن في نزع الملك ممن يشاء وإيتائه من يشاء بمثل قوله تعالى من سورة إبراهيم :﴿ وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ] وقد فصلنا هذا المعنى في سورة البقرة أفضل تفصيل فليراجع الآية ٢٤٧ من يشاء.
وبهذا يظهر وجه اتصال الآية بما قبلها وكونها بمثابة الدليل لقوله السابق ﴿ قل للذين كفروا ستغلبون ﴾ فهي تتضمن تأكيد الوعد بنصر النبي صلى الله عليه وسلم وغلب أعدائه من أهل الكتاب والمشركين. وقد قال أبو سفيان للعباس يوم رأى جيش المسلمين زاحفا إلى مكة : لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما : فقال العباس رضي الله عنه : كلا إنها النبوة. وكان أبو سفيان يعني أن الأمر كله تأسيس ملك وما كان الملك مقصودا، ولكنه جاء معناه والمراد منه تابعا أصلا والفرق عظيم والغرض من النبوة غير الغرض من الملك ولذلك لم يسم الصحابة من جعلوه رئيس ملكهم ومرجح سياستهم ملكا بل سموه خليفة.
﴿ وتعز من تشاء وتذل من تشاء ﴾ العز والذل معروفان ومن آثار الأول حماية الحقيقة ونفاذ الكلمة ومن أسبابه كثرة الأعوان وملك القلوب بالجاه والعلم النافع للناس وسعة الرزق مع التوفيق للإحسان، ومن آثار الثاني الضعف عن الحماية، والرضى بالضيم والمهانة، كذا قال الأستاذ الإمام. وقد يكون الضعف سببا وعلة للذل لا أثرا معلولا وهو الغالب، ولا تلازم بين العز والملك فقد يكون الملك ذليلا إذا ضعف استقلاله بسوء السياسة وفساد التدبير حتى صارت الدول الأخرى تفتات عليه كما هو مشاهد. وكم من ذليل في مظهر عزيز، وكم من أمير أو ملك يغر الأغرار ما يرونه فيه من الأبهة والفخفخة فيحسبون أنه عزيز كريم وهو في نفسه ذليل مهين فمثله كمثل ملوك ملاهي التمثيل ( التياترات ) والتشبيه للأستاذ الإمام.
هذا ولا عز أعلى من عز الاجتماع والتعاون على نشر دعوة الحق ومقاومة الباطل إذا تبع المجتمعون سنة الله تعالى فأعدوا لكل أمر عدته. وقد كان المشركون في مكة واليهود ومنافقو العرب في المدينة يعتزون بكثرتهم على النبي والمؤمنين ﴿ يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ﴾ [ المنافقون : ٨ ] فعسى أن يعتبر المسلمون في هذا الزمان ويفقهوا معنى كون العزة لله ورسوله وللمؤمنين ويحاسبوا أنفسهم وينصفوا منها ليعلموا مكانهم من الإيمان الذي حكم الله لصاحبه بالعزة ﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ [ محمد : ٢٤ ].
﴿ بيدك الخير ﴾ قال الأستاذ الإمام : قدر المفسر ( الجلال ) هنا كلمة ( والشر ) هربا من المعتزلة لتصادم المذاهب فيها وحسبنا قوله :﴿ إنك على كل شيء قدير ﴾ أي إثبات أن كل شيء بيده لا يعجزه شيء والبلاغة قاضية بذكر الخير فقط سواء كان السبب في نزول الآية خاصا، وهو ما كان في واقعة الخندق من بشارته صلى الله عليه وسلم أن ملك أمته سيبلغ كذا وكذا، أو عاما وهو حال النبي صلى الله عليه وسلم مع المنكرين، فإنه ما أغرى أولئك المجاحدين بإنكار النبوة والاستهانة بدعوة الحق إلا فقر الداعي وضعف من اتبعه من المسلمين وقلتهم. فأمره الله تعالى أن يلجأ هو ومن اتبعه إلى مالك الملك والمتصرف المطلق التصرف في الإعزاز والإذلال وذكرهم في هذا المقام بأن الخير كله بيده فلا يعجزه أن يؤتي نبيه والمؤمنين من السيادة والسلطان ما دعاهم وأن يعزهم ويعطيهم من الخير ما لا يخطر ببال الذين يستضعفونهم ﴿ ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ﴾ [ القصص : ٥ ] على هذا الأصل أمر الله نبيه بأن يدعوه والمؤمنون تبع له بهذه الكلمات ويلجؤوا إليه بهذه الرغبة فكان المناسب ذكر الخير الذي وعدوا به فقط وأنه بيده وحده.
وأقول : إنه لا يسند إلى يده تعالى أو يديه إلا النعم الجليلة والمخلوقات الشريفة فلا يقال : إن الشر بيد الله تعالى، على أن جميع ما خلقه الله تعالى ودبره وهو خير في نفسه والشر أمر عارض من الأمور الإضافية. فلا توجد حقيقة هي شر في ذاتها وإنما يطلق لفظ الشر على ما يأتي غير ملائم للأحياء ذات الإدراك ولا منطبق على مصالحهم ومنافعهم. وسبب ذلك في الغالب سوء عملهم الاختياري ومن غير الغالب أن تقوض الريح لهم بناء أو يجرف السيل لهم رزقا وكل من الريح والسيل من أعظم الخيرات في ذاتهما. ومن الخير والنعم ما قدرته السنن الإلهية وأخبر به الوحي من ترتيب العقاب على العمل السيئ. فإن ذلك أعظم مرب للناس وعون لهم على الارتقاء في الدنيا والسعادة في الآخرة. ومن تدبر سورة الرحمن فقه ما نقول. وللإمام ابن القيم كلام في هذه المسألة لا بأس بإيراده هنا. قال في كتاب ( شرح منازل السائرين )، ونقله السفاريني في شرح عقيدته ما نصه :
إن الشر كله يرجع إلى العدم أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه وهو من هذه الجهة شر وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه مثاله أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها فإنها خلقت في الأصل متحركة لا تسكن، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت بطبعها إلى خلافه، وحركتها من حيث هي حركة، خير وإنما تكون شرا بالإضافة لا من حيث هي الحركة، والشر كله ظلم وهو وضع الشيء في غير موضعه، فلو وضع في موضعه لم يكن شرا. فعلم أن جهة الشر فيه نسبة إضافية ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيرا في نفسها وإن كانت شرا بالنسبة إلى المحل الذي حلت به لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له فصار ذلك الألم شرا بالنسبة إليها وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه موضعه فإنه سبحانه لا يخلق شرا محضا من جميع الوجود والاعتبارات وفي خلقه مصالح وحكم باعتبارات أخر أرجح من اعتبارات مفاسده، بل الواقع منحصر في ذلك فلا يمكن في جناب الحق جل جلاله أن يريد شيئا يكون فسادا من كل وجه وبكل اعتبار لا مصلحة في خلقه بوجه ما. هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه بيده الخير والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شرا فتأمله. فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شرا.
فإن قلت : لم تنقطع نسبته إليه خلقا ومشيئة. قلت هو من هذه الجهة ليس بشر والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه والعدم ليس بشيء حتى ينسب إلى من بيده الخير. فإن أردت مزيد إيضاح في ذلك فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة : الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فهذه هي الخيرات وأسبابها، فإيجاد هذا السبب خير وهو إلى الله، وإعداده خير وهو إليه أيضا. فإذا لم يحدث فيه إعدادا ولا إمدادا حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل، وإنما إليه ضده. فإن قلت فهلا أمده إذ أوجده ؟ قلت : ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده فإنه سبحانه يوجده ويمده وما اقتضت الحكمة إيجاده وترك إمداده أوجده بحكمته ولم يمده بحكمته. فإيجاده خير والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قلت : فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فالجواب : هذا سؤال فاسد يظن مورده ان تساوي الموجودات أبلغ في الحكمة وهذ
﴿ وتخرج الحي من الميت ﴾ كالعالم من الجاهل والصالح من الطالح والمؤمن من الكافر ﴿ وتخرج الميت من الحي ﴾ كالكافر من المؤمن والجاهل من العالم والشرير من الخير. وقد مثل المفسرون للحياة الحسية بخروج النخلة من النواة والعكس وخروج الإنسان من النطفة والطائر ونحوه من البيضة وبالعكس والتمثيل صحيح وإن أثبت علماء هذا الشأن أن في النطفة حياة وكذا في البيضة والنواة لأن هذه الحياة اصطلاحية لأهل الفن في عرفهم دون العرف العام الذي جاء التنزيل به. ومن الأمثلة الصحيحة في العرفين خروج النبات من التراب. وقد جاء القرآن بتسمية ما يقابل الحي ميتا سواء كانت الحياة حسية او معنوية وسواء كان ما أطلق عليه لفظ الميت مما يعيش ويحيا أم لا وهو استعمال عربي صحيح فصيح.
والجملة كسابقتها مثال ظاهر لكونه تعالى مالك الملك يؤتي الملك من يشاء إلخ ما في الآية السابقة وكل شيء عنده بمقدار. فقد أخرج من العرب الأميين، خاتم النبيين المرسلين، كما أخرج من سلائل الأنبياء والصديقين، أولئك الأشرار المفسدين، ذلك ان سننه تعالى في الاجتماع قد أعدت الأمة العربية لأن يظهر خاتم النبيين منها أعدتها لذلك بارتقاء الفكر واستقلاله وبقوة الإرادة واستقلالها حتى صارت هذه الأمة أقوى أمم الأرض استعدادا لقبول الدين الذي هدم بناء التقليد والاستعباد، واستبدل به بناء الاستدلال والاستقلال، من حيث كان بنوا إسرائيل كغيرهم من الأمم يرسفون في قيود التقليد للأحبار والرهبان، مرتكسين في أغلال الاستبداد من الملوك والحكام فما أعطى سبحانه ما أعطى ونزع ما نزع إلا بإقامة السنن التي هي قوام النظام ومناط الإبداع والإحكام ﴿ والله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ يطلب منه، لأن الأمر كله بيده، وليس فوقه أحد يحاسبه، أو بغير تضييق ولا تقتير، أو بغير حساب من هذا المرزوق ولا تقدير، ولكنه بقدر وحساب، ممن وضع السنن والأسباب.
قال وذكروا في سبب نزول الآية أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة. وقصته معروفة. وقيل إنها نزلت في ابن أبي ابن سلول ( زعيم المنافقين ) وقيل في جماعة من الصحابة كانوا يوالون بعض اليهود ومهما كان السبب في نزولها فإنا نعلم أن من طبيعة الاجتماع في كل دعوة أن يوجد في المستجيبين لها القوي والضعيف، على أن مظاهر القوة والعزة تغر بعض الصادقين وتؤثر في نفوس بعض المخلصين، فما بالك بغيرهم ؟ ولذلك نهى الله تعالى المؤمنين عن اتخاذ الأولياء من الكافرين. وقد ورد بمعنى هذه الآية آيات أخرى فلا بد من تفسيرها تفسيرا تتفق به معانيها.
أقول : قصة حاطب التي أشار إليها مسندة في الصحيحين وغيرهما وملخصها : أن حاطبا كتب كتابا لقريش يخبرهم فيه باستعداد النبي صلى الله عليه وسلم للزحف على مكة إذ كان يتجهز لفتحها وكان يكتم ذلك ليبغت قريشا على غير استعداد منها فتضطر إلى قبول الصلح وما كان يريد حربا. وأرسل حاطب كتابه مع جارية وضعته في عقاس شعرها فأعلم الله نبيه بذلك فأرسل في أثرها عليا والزبير والمقداد وقال :" انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظغينة معها كتاب فخذوه منها " فلما أتي به قال :" يا حاطب ما هذا " ؟ فقال : يا رسول الله لا تعجل علي ! إني كنت حليفا لقريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم وأموالهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعله ارتدادا عن ديني ولا رضى بالكفر بعد الإسلام. فقال عليه الصلاة والسلام :" أما إنه قد صدقكم " واستأذن عمر النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فلم يأذن له. قالوا وفي ذلك نزل قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم ﴾ [ الممتحنة : ١ ] إلخ. ولم أر أحدا قال إن الآية وما نزل في قصة حاطب يشتركان في النهي عن موالاة الكافرين، وما نزل في قصة حاطب وهو معظم سورة الممتحنة يفسر لنا أو يفصل جميع الآيات التي وردت في النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء، لأن ما في سورة الممتحنة مفصل وهو من آخرها أو آخرها نزولا وما عداه مجمل يبينه المفصل.
يزعم الذين يقولون في الدين بغير علم، ويفسرون القرآن بالهوى في الرأي، أن آية آل عمران وما معناها من النهي العام والخاص كقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ﴾ [ المائدة : ٥٠ ] يدل على أنه لا يجوز للمسلمين ان يحالفوا أو يتفقوا مع غيرهم، وإن كان الخلاف أو الاتفاق لمصلحتهم، وفاتهم ان النبي صلى الله عليه وسلم كان محالفا لخزاعة وهم على شركهم، بل يزعم بعض المتحمسين في الدين على جهل أنه لا يجوز للمسلم ان يحسن معاملة غير المسلم أو معاشرته أو يثق به في أمر من الأمور وقد جاءتنا ونحن نكتب في هذه المسألة إحدى الصحف فرأينا في أخبارها البرقية أن الأفغانيين المتعصبين ساخطون على أميرهم أن عاشر الإنكليز في الهند وواكلهم ولبس زي الإفرنج وأنهم عقدوا اجتماعا حكموا فيه بكفره ووجوب خلعه من الإمارة، فأرسلت الجنود لتفريق شملهم. فأمثال هؤلاء المتحمسين الجاهلين ؛ أضر الخلق بالإسلام والمسلمين، بل أبعد عن حقيقته من سائر العالمين، وماذا فهم أمثال أولئك الأفغانيين من القرآن على عجمتهم وجهلهم بأساليبه وبعمل الصدر الأول به.
قال الأستاذ الإمام في تفسير الآية ما مثاله مبسوطا : الأولياء الأنصار والاتخاذ يفيد معنى الاصطناع، وهو عبارة عن مكاشفتهم بالأسرار الخاصة بمصلحة الدين وقوله :﴿ من دون المؤمنين ﴾ قيد في الاتخاذ. أي لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء، وأنصارا في شيء تقدم فيه مصلحتهم على مصلحة المؤمنين أي كما فعل حاطب بن أبي بلتعة ( رضي الله عنه ) لأن في هذا اختيارا لهم وتفضيلا على المؤمنين بل فيه إعانة للكفر على الإيمان ولو بطريق اللزوم ومن شأن هذا أن لا يصدر من مؤمن ولو كان فيه مصلحة خاصة له. ولذلك هم عمر رضي الله عنه يقتل حاطب وسماه منافقا لولا ان نهاه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وذكره بأنه من أهل بدر.
أقول : وإذا كان الشارع لم يحكم بكفر حاطب في موالاة المشركين التي هي موضع النهي فكيف نكفر باسم الإسلام مثل أمير الأفغان الذي لم يفعل إلا ما أباحه الله له من أكل ولباس ومجاملة لحكومة من أهل الكتاب وهم أقرب إلينا من المشركين ومجاملته لها ليست موالاة لها من دون المؤمنين ( أي ضدهم كما يقول أهل العصر ) وإنما هي موالاة لمصلحتهم التي تتفق مع مصلحتها وهم أحوج إليها منها إليهم.
عود إلى كلام الأستاذ الإمام : وقال تعالى في آية أخرى :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آبائهم ﴾ [ المجادلة : ٢٢ ] الآية فالموادة مشاركة في الأعمال فإن كانت في شأن من شؤون المؤمنين من حيث هم مؤمنون والكافرين من حيث هم كافرون فالممنوع منها ما يكون فيه خذلان لدينك وإيذاء لأهله أو إضاعة لمصالحهم وأما ما عدا ذلك كالتجارة وغيرها من ضروب المعاملات الدنيوية فلا تدخل في ذلك النفي لأنها ليست معاملة في محادة الله ورسوله أي في معاداتهما ومقاومة دينهما.
أقول : وإذا رجع المؤمن إلى سورة الممتحنة التي فصلت فيها هذه المسألة ما لم تفصل في غيرها يجد الآية الأولى وقد تقدم صدرها في قصة حاطب تقيد النهي عن موالاة أعداء الله ورسوله وإلقاء المودة إليهم بكونهم كفروا كفرا حملهم على إخراج الرسول والمؤمنين من وطنهم لأنهم مؤمنون بالله. فكل شعب حربي يعامل المؤمنين مثل هذه المعاملة تحرم موالاته قطعا. ثم وصف هؤلاء الذين نهى عن موالاتهم بأنهم إن يثقفوا المؤمنين يعادوهم ويؤذوهم بأيديهم وألسنتهم ثم قال :﴿ عسى الله أن يجعل بينكم بين الذين عاديتم منهم مودة، والله قدير والله غفور رحيم لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين واخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ﴾ [ الممتحنة : ٧ ٩ ] فالبصير يرى أن القرآن يجعل المودة بين المؤمنين وأولئك المشركين الذين آذوا الرسول ومن آمن به أشد الإيذاء وأخرجوهم من ديارهم وبين هؤلاء المؤمنين مرجوة. وقال إنه لا ينهاهم عن البر والقسط إلى من ليسوا كذلك من المشركين وهم أشد الناس عداوة للمؤمنين أيضا وأبعد عنهم من أهل الكتاب ثم أكد ذلك بحصر النهي في الذين قاتلوهم في الدين، أي لأنهم مسلمون وأخرجوهم من ديارهم وساعدوا على إخراجهم منها ولكنه خص هذا النهي بتوليهم ونصرهم لا بمجاملتهم وحسن معاملتهم بالبر والإحسان والعدل. وهذا منتهى الحلم والسماح بل الفضل والكمال.
ولا تنس أن هذه الآيات نزلت قبل فتح مكة، وكان المشركون في عنفوان طغيانهم واعتدائهم وقد عمل عليه الصلاة والسلام يوم الفتح بهذه الوصايا فعفا عن قدرة، وحلم عن عزة وسلطة، وقال " أنتم الطلقاء " وأحسن إلى المؤمن والكافر والبر والفاجر. ومثله أهل للفضل والإحسان. ولقد كان للمؤمنين فيه أسوة ولكن بعد متحسمو المسلمين اليوم عن سنته وعن كتاب الله الذي تأدب هو به. اللهم اهد هؤلاء المسلمين بهداية كتابك ليكونوا بحسن عملهم حجة له، بعد ما صار أكثرهم بسوء العمل حجة عليه.
﴿ ومن يفعل ذلك ﴾ فيتخذ الكافرين أولياء وأنصارا من دون المؤمنين فيما يخالف مصلحتهم من حيث هم مؤمنون ﴿ فليس من الله في شيء ﴾ أي فليس من ولاية الله في شيء. قاله البيضاوي وغيره. وولاية الله من العبد طاعته ونصر دينه ومن الله مثوبته ورضوانه. وقال الأستاذ الإمام : معنى العبارة انه يكون بينه وبين الله غاية البعد أي تنقطع صلة الإيمان بينه وبين الله تعالى. أي فيكون من الكافرين كما قال في آية أخرى :﴿ ومن يتولهم منكم فإنه منهم ﴾ [ المائدة : ٤٥ ] أو معناه فيكون عدو الله، وقد صرح بذلك الأستاذ. وقوله :﴿ إلا أن تتقوا منهم تقاة ﴾ استثناء من أعم الأحوال أي أن ترك موالاة الكافرين على المؤمنين حتم في كل حال إلا في حال الخوف من شيء تتقونه منهم فلكم حينئذ ان توالوهم بقدر ما يتقى به ذلك الشيء، لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. وهذه الموالاة تكون صورية لأنها للمؤمنين لا عليهم. والظاهر أن الاستثناء منقطع، والمعنى ليس لكم أن توالوهم على المؤمنين ولكن لكم أن تتقوا ضررهم بموالاتهم. وإذا جازت موالاتهم لاتقاء الضرر فجوازها لأجل منفعة المسلمين يكون أولى. وعلى هذا يجوز لحكام المسلمين أن يحالفوا الدول غير المسلمة لأجل فائدة المؤمنين بدفع الضرر أو جلب المنفعة وليس لهم أن يوالوهم في شيء يضر بالمسلمين وإن لم يكونوا من رعيتهم. وهذه الموالاة لا تختص بوقت الضعف بل هي جائزة في كل وقت.
أقول : وقد استدل يعضهم بالآية على جواز التقية وهي ما يقال أو يفعل مخالفا للحق، لأجل توقي الضرر ولهم فيها تعريفات وشروط وأحكام، فقيل إنها مشروعة للمحافظة على النفس والعرض والمال. وقيل لا تجوز التقية لأجل المحافظة على المال وقيل إنها خاصة بحال الضعف. وقيل بل عامة وينقل عن الخوارج أنهم منعوا التقية في الدين مطلقا، وإن أكره المؤمن وخاف القتل لأن الدين لا يقدم عليه شيء ويرد عليهم وقوله تعالى :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] فمن نطق بكلمة الكفر مكرها وقاية لنفسه من الهلاك لا شارحا بالكفر صدرا ولا مستحسنا للحياة الدنيا على الآخرة لا يكون كافرا بل يعذر كما عذر عمار بن ياسر وفيه نزلت هذه الآية وكما عذر الصحابي الذي قال له مسيلمة الكذاب أتشهد أني رسول الله ؟ قال نعم، فتركه وقتل رفيقه الذي سأله هذا السؤال فقال. إني أصم ثلاثا.
وينقل عن الشيعة ان التقية عندهم أصل من أصول الدين جرى عليه الأنبياء والأئمة. وينقل عنهم في ذلك أمور متناقضة مضطربة وخرافات مستغربة وقلما يسلم نقل المخالف من الظنة، لا سيما إذا كان نقله بالمعنى. وليس في تفسيرنا هذا موضع للمناقشات والجدل في مسائل الخلاف. وقصارى ما تدل عليه آية سورة النحل ما تقدم آنفا وكل ذلك من باب الرخص لأجل الضرورات العارضة لا من أصول الدين المتبعة دائما. ولذلك كان من مسائل الإجماع وجوب الهجرة على المسلم من المكان الذي يخاف فيه من إظهار د
أقول : وكيف لا تجد كل نفس ما عملت محضرا فتسر المحسنة وتنعم بما أحسنت، وتبتئس المسيئة وتغم بما أساءت، وتود لو كان بينها وبينه بعد المشرقين وهذه الأعمال مرسومة في صحائف هذه الأنفس وهي صفات لها وعن هذه الصفات صدرت تلك الحركات فزادت الصفات رسوخا والنقوش في النفس تمكنا حتى ارتقت بالمحسن إلى عليين، حيث كتاب الأبرار، وهبطت بالمسيء إلى سجين، حيث كتاب الفجار، ﴿ ويحذركم الله نفسه ﴾ فإنه من ورائكم محيط وسنته في تأثير الأعمال في النفوس وجعل آثار أعمالها مصدرا لجزائها حاكمة عليكم، أفلا يجب عليكم والأمر كذلك أن تحذروه بما أوتيتم من القدرة على الخير والميل إليه بترجيحه على ما يعرض على الفترة من تزيين عمل السوء والتوبة إليه سبحانه ما غلبتم عليه في الماضي ﴿ والله رؤوف بالعباد ﴾ ومن رأفته : أن جعل الفطرة سليمة ميالة بطبعها إلى الخير وتتألم مما يعرض لها من الشر، وأن جعل للإنسان أنواعا من الهدايات يرجح بها الخير على الشر كالعقل والدين، وأن جعل جزاء الخير مضاعفا وأن جعل أثر الشر في النفس قابلا للمحو بالتوبة والعمل الصالح، وأن أكثر التحذير من عاقبة السوء ليذكر الإنسان ولا ينسى، لعله يتذكر أو يخشى.
ومن مباحث اللفظ في الآية دخول الحرف المصدري على مثله في قوله " لو أن " قال الأستاذ الإمام : وهو المعروف في الكلام العربي الفصيح فلا حاجة إلى جعل الأصل فيه المنع وتأويل ما سمع منه. وقد اختلف في تفسير الأمد فقيل الغاية وقيل الأجل وقيل المكان. وقال الراغب : الأمد والأبد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة من الزمان ليس لها حد محدود ولا يتقيد لا يقال أبد كذا والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق وقد ينحصر نحو أن يقال أمد كذا كما يقال زمان كذا والفرق بين الزمان والأمد إن الأمد يقال باعتبار الغاية والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان.
تعصى الآله وأنت تزعم حبه | هذا لعمري في القياس بديع |
لو كان حبك صادقا لأطعته | إن المحب لمن يحب مطيع |
﴿ قل أطيعوا الله ﴾ باتباع كتابه ﴿ والرسول ﴾ باتباع سننه والاهتداء بهديه ﴿ فإن تولوا ﴾ وأعرضوا ولم يجيبوا دعوتك غرورا منهم بدعواهم أنهم محبون لله وأنهم أبناؤه وأحباؤه ﴿ فإن الله لا يحب الكافرين ﴾ الذين تصرفهم أهواؤهم عن النظر الصحيح في آيات الله وما أنزل على رسوله وترك الشرك والضلال الذي نهيت عنه واتباع الحق في الاعتقاد الذي بينته والعمل الصالح الذي أرشدت إليه. هؤلاء هم الكافرون وإن ادعوا أنهم مؤمنون وأنهم يحبون الله والله يحبهم.
هذا ما نراه في فهم الآيات وليس عندنا فيها عن الأستاذ الإمام شيء. وإن من الباحثين من يخفى عليه معنى حب الله للناس وحبهم إياه، فنوضح ذلك بعض الإيضاح.
حب الناس لله يجهله من يعيش كما تعيش الديدان والبهائم لا يشغله الأهم قبقبه وذبذبه ويعرفه الحكماء الربانيون والمؤمنون الصالحون. ويمكن تقريبه من فهم الجاهل المستعد للعلم وتشويقه إليه بإرشاده إلى مراجعة فطرته والبحث في أسباب حب الناس لكثير من الأشياء التي لا يحبها حيوان آخر.
يجد كل حي من الأحياء ميلا من نفسه إلى ما به كمال فطرته على حسب استعدادها فالأنعام التي ينحصر استعدادها فيما به حفظ وجودها الشخصي والنوعي لا تميل إلا إلى الغذاء لحفظ الأول والنزوان لحفظ الثاني. وأما الإنسان فله استعداد لا يعرف له حد ولا نهاية، وميله أو حبه ليس له حد ولا نهاية أيضا. وإنما تقف الأمراض الروحية ببعض أفراده أو جمعياته عند حدود معينة لفساد في التربية ومرض في مزاج الاجتماع. وهذا الاستعداد وما يتبعه أنصع الدلائل عند العالمين بنظام الأكوان، على أن الإنسان خلق للبقاء لا للفناء وأن له حياة أخرى ينال بها كل ما خلق مستعدا له من العرفان وأعلاه الكمال في معرفة الله.
يحب الإنسان جمال الطبيعة، ويطربه خرير المياه وحفيف الرياح، وتغريد الأطيار على أفنان الأشجار فيبذل المال الكثير لأنشاء الحدائق والجنات واجتلاب ما لم يوجد في بلاده من أنواع الطير والنبات، يعشق جمال الصنعة فينفق القناطير المقنطرة من الذهب والفضة في اقتناء الصور البديعة، والنقوش الدقيقة يهوى الوقوف على مجاهل الأرض والاطلاع على أحوال العالمين فيركب الأخطار ويقتحم البحار، ويسمح بالوقت والدينار يهيم بالرياسة، فيستهين لأجلها باللذات، ويزدري الشهوات، وينافح في سبيلها الأقران، ويكافح في طلبها السلطان يفتتن بحب أهل النجدة والشجاعة وقواد الجيوش، فيبذل حياته لحفظ حياتهم، ويتحمس في التحزب لهم بعد مماتهم يولع بكبار العلماء. فيتخذهم أئمة متبعين، وإن حرم في اتباعهم من حقيقة العلم والدين، ويتعصب لهم على من خالفهم، وإن كان الحق يؤيده من دونهم يهيم بالمعقولات السامية، والحكمة العالية، فيحتقر دونها المال والحياة والرياسة والإمارة، وينزوي في كسر بيته يعمل الفكر، ويروض النفس، ويصقل الروح، معتقدا أن من سار سيرته فهو المغبوط وأن الغافل عن ذلك هو المغبون، ﴿ كل حزب بما لديهم فرحون ﴾ [ المؤمنون : ٥٣ ]. ألا إن استعداد الإنسان أعلى من كل ذلك فهو لا يقف عند حد اكتشاف المجهولات، ومعرفة ما في الأرض والسموات، ومجالدة جليد القطب الشمالي. ومواثبة أسود إفريقية وأفاعي الهند، ومناصبة أمواج القاموس الأعظم، ومراقبة نجوم السماء في الليالي الليلاء، بل هو يبحث عن الماضي ليتعرف مبدأ الخلق والتكوين، ويبحث عن المستقبل ليعلم الغاية والمصير، بل هو يبحث عن حقيقة الخالق البارئ قبل أن يعرف شيئا من حقائق المخلوقات : وقبل أن يعرف نفسه واستعدادها، وغرضها من بحثها واستقصائها، ترى هذا الإنسان الذي يحب هذه الأشياء التي لا تتناهى، لأنه خلق مستعدا لمعرفة لا تتناهى، قد يهيم حبا في بعضها حتى يشغله عن سائرها، وكلما كان موضوع حبه أعلى، كان هو في نفسه أرقى وأسمى، ومنتهى الرقي والسمو أن يحب في كل شيء، معنى الجمال المودع في كل شيء، وهو الإبداع الإلهي، والنظام الرباني، فلا تحجبه المباني عن المعاني، ولا تشغله الأشباح عن الأرواح، فيلاحظ في كل جميل أحبه منشأ جماله، وفي كل كامل أجله مصدر كماله، وفي كل بديع مال إليه علة إبداعه، وفي كل مخترع أعجب به الحكمة العامة في الإقدار على اختراعه :
إذا لم تشاهد غير حسن شياتها | وأعضائها فالحسن عنك مغيب |
وأما حبه تبارك اسمه وتعالى جده لعباده الذين يحبونه ويتبعون رسوله الذي هداهم إلى معرفته، ودلهم على سبيل حبه وعبادته، فهو شأن من شؤونه الإلهية في عباده لا يعرفه إلا من ذاقه، وعرف وصل الحبيب وفراقه، وصار مظهرا من مظاهر حكمته، ومجلى من مجالي إبداعه، ومصدرا من مصادر الخير في عباده، وروحا من أرواح النظام في خلقه، وإنما يكون كذلك إذ تخلق بأخلاق الله، وتحقق بأسمائه وصفاته جل علاه، حتى صار في نفسه من خلفاء الله، كما أرشد كتاب الله، ولا يمكن الإفصاح عن هذا المقام، لأنه يعرف بالذوق لا بالكلام، وإنما يذوقه من أحب الله، وعرف كيف يعامل من أحبه واصطفاه، فاعمل لذلك، لتعرف ما هنالك.
تحبب فإن الحب داعية الحب | وكم من بعيد الدار مستوجب القرب |
أقول : لما بين سبحانه وتعالى أن محبته منوطة باتباع الرسول فمن اتبعه كان صادقا في دعوى حبه لله، وجديرا بأن يكون محبوبا منه جل علاه، أتبع ذلك ذكر من أحبهم واصطفاهم وجعل منهم الرسل الذين يبنون طريق محبته، وهي الإيمان به مع طاعته، فقال :﴿ إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ﴾ أي اختارهم وجعلهم صفوة العالمين وخيارهم بجعل النبوة والرسالة فيهم، فآدم أول البشر ارتقاء إلى هذه المرتبة فإنه بعدما تنقل في الأطوار على مرتبة التوبة والإنابة اصطفاه تعالى واجتباه كما قال في سورة طه ﴿ ثم اجتباه به فتاب عليه وهدى ﴾ [ طه : ١٢٢ ] فكان هاديا مهديا وكان في ذريته من النبيين والمرسلين من شاء الله تعالى. وأما نوح عليه السلام فقد حدث على عهده ذلك الطوفان العظيم فانقرض من السلائل البشرية من انقراض ونجا هو وأهله في الفلك فكان بذلك أبا ثانيا للجم الغفير من البشر، وكان هو نبيا مرسلا وجاء من ذريته كثير من النبيين والمرسلين. ثم تفرقت ذريته وانتشرت وفشت فيهم الوثنية حتى ظهر فيهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام نبيا مرسلا وخليلا مصطفى وتتابع النبيون والمرسلون من آله وذريته وكان أرفعهم قدرا وأنبههم ذكرا آل عمران قبل أن تختم النبوة بولد إسماعيل عليهم الصلاة والسلام.
أقول : وهؤلاء الذين بعضهم بعضا من هذه الذرية هم الأنبياء والرسل قال تعالى في سياق الكلام على إبراهيم ﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب كلا هدينا ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم ﴾ [ الأنعام : ٨٤ ٨٧ ].
﴿ والله سميع عليم إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم ﴾ أي إنه سبحانه وتعالى كان سميعا لقول امرأة عمران عليما بنيتها في وقت مناجاتها إياه وهي حامل بنذر ما في بطنها له حال كونه محررا، أي معتقا من رق الأغيار لعبادته سبحانه وخدمة بيته أو مخلصا لهذه العبادة والخدمة لا يشتغل بشيء آخر، وثنائها عليه تعالى عند هذه المناجاة بأنه السميع للدعاء، العليم بما في أنفس الداعين والداعيات.
قال الأستاذ الإمام : ورد ذكر عمران في هذه الآيات مرتين فبعضهم يقول إنهما واحد وهو أبو مريم، ويستدل على ذلك بورودهما في سياق واحد. وأكثرهم يقول إن الأول أبو موسى ( عليه السلام ) والثاني أبو مريم ( عليها الرضوان ) وبينهما نحو ألف وثمان مائة سنة تقريبا. وذكر تفصيل ذلك على ما هو معروف عند اليهود قال : والمسيحيون لا يعترفون بأن أبا مريم يدعى عمران ولا ضير في ذلك فإنه لا يلزم أن تكون كل حقيقة معروفة عندهم وليس لهم سند لنسب المسيح يحتج به فهو كسلسلة الطريق عند المتصوفة يزعمون أنها متصلة بعلي أو بالصديق وليس لهم في ذلك سند متصل يحتج بمثله. وأقول : إن نسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا مختلف. ولو كتب عن علم لما وقع فيه الخلاف.
قال الأستاذ الإمام : ورد ذكر عمران في هذه الآيات مرتين فبعضهم يقول إنهما واحد وهو أبو مريم، ويستدل على ذلك بورودهما في سياق واحد. وأكثرهم يقول إن الأول أبو موسى ( عليه السلام ) والثاني أبو مريم ( عليها الرضوان ) وبينهما نحو ألف وثمان مائة سنة تقريبا. وذكر تفصيل ذلك على ما هو معروف عند اليهود قال : والمسيحيون لا يعترفون بأن أبا مريم يدعى عمران ولا ضير في ذلك فإنه لا يلزم أن تكون كل حقيقة معروفة عندهم وليس لهم سند لنسب المسيح يحتج به فهو كسلسلة الطريق عند المتصوفة يزعمون أنها متصلة بعلي أو بالصديق وليس لهم في ذلك سند متصل يحتج بمثله. وأقول : إن نسب المسيح في إنجيلي متى ولوقا مختلف. ولو كتب عن علم لما وقع فيه الخلاف.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم ويعقوب ( وضعت ) على أنه من كلامها، وعليه يكون المعنى وليس الذكر كالأنثى فيما يصلح له كل منهما.
﴿ وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم ﴾ العوذ الالتجاء إلى الغير والتعلق به. فمعنى أعوذ بالله من الشيطان. ألجأ إليه وأعتصم به منه وأعاذه به منه جعله معاذا له يمنعه ويعصمه منه والإعاذة بالله تكون بالدعاء والرجاء. والرجيم المطرود عن الخير. وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين وغيرهما واللفظ هنا لمسلم " كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها " وفسر البيضاوي المس هنا بالطمع في الإغواء. وقال الأستاذ الإمام : إذا صح الحديث فهو من قبيل التمثيل لا من باب الحقيقة. ولعل البيضاوي يرمي إلى ذلك. والحديث صحيح الإسناد بغير خلاف ويشهد له ومن وجه حديث شق الصدر وغسل القلب بعد استخراج حظ الشيطان منه. وهو أظهر في التمثيل ولعل معناه أنه لم يبق للشيطان نصيب من قبله صلى الله عليه وسلم، ولا بالوسوسة كما يدل على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في شيطانه " إلا إن الله أعانني عليه فأسلم " رواه مسلم وفي رواية زيادة " فلا يأمر إلا بخير ".
فإن قيل : إن حديث استخراج حظ الشيطان منه ونحوه يدل على أنه كان له حظ منه قبل ذلك. وهذا ينافي قوله تعالى :﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾ [ الحجر : ٤٢ ] وهو صلى الله عليه وسلم صفوة عباده وخاتم رسله المصطفين الأخيار فإن الآية تنفي سلطة الشيطان عن عباد الرحمن في كل آن. فالجواب : إن الآية تنفي السلطان عليهم لا أصل الوسوسة فإذا وسوس الشيطان ولم تطع وسوته لم يكن له سلطانا، ومعنى الحديث أنه لم يعد له طريق إلى الوسوسة ولا إلى الأمر بالشر قط. وهذه مرتبة عليا لا يرتقي إليها كل عباد الله وقد ذكر أهل الحديث من خصائصه صلى الله عليه وسلم إسلام شيطانه : وجملة القول إن الشيطان لم يكن له عليه سلطان ما ولكن كان له حظ وطمع فزال وغلبه نور النبوة حتى يئس وزال حظه فلم يأمر إلا بخبر أو أسلم كما ورد.
فإن قيل : إن ما فسر به البيضاوي حديث مريم وعيسى يقتضي ان يكونا أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممتازين عليه إذا كان يطمع فيه ولم يطمع فيها. وهذا ما يشاغب به دعاة النصرانية عوام المسلمين مستدلين بالحديث على تفضيل عيسى على محمد عليهما الصلاة والسلام، أو على أنه فوق البشر. فالجواب أن كتاب هؤلاء الدعاة حجة عليهم، ففي الفصل الرابع من إنجيل مرقص ما نصه :" أما يسوع فرجع من الأردن ممتلئا من الروح القدس وكان يقتاد بالروح في البرية ٢ أربعين يوما يجرب من إبليس ولم يأكل شيئا في تلك الأيام ولما تمت جاع أخيرا ٣ وقال له إبليس إن كنت ابن الله فقل لهذا الحجر خبزا ٤ فأجابه يسوع قائلا : مكتوب أن ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان بل بكل كلمة من الله ثم أصعده إبليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان ٦ وقال له إبليس لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهن لأنه إلى قد دفع وأنا أعطيه لمن أريد ٧ فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع ٨ فأجابه يسوع وقال " اذهب يا شيطان " إنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد ٩ ثم جاء به إلى أورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له إن كنت ابن الله فاطرح نفسك من هنا إلى أسفل ١٠ لأنه مكتوب أنه يوصي ملائكته بك لكي يحفظونك ١١ وإنهم على أياديهم يحلونك لكي لا تصدم بحجر رحلك ١٢ فأجاب يسوع وقال له إنه قيل لا تجرب الرب إلهك ١٣ ولما أكمل إبليس كل تجربة فارقه إلى حين " اه.
فهذا صريح في أن إبليس كان يوسوس للمسيح عليه السلام حتى يحمله ويأخذه من مكان إلى مكان، وقصارى الأمر أنه لم يكن يطيعه فيما أمر به من السجود له ومن امتحان الرب إلهه ( أي إله المسيح ) وقوله لا تجرب الرب إلهك يراد به ما ورد في سفر التثنية آخر أسفار التوراة ومثله قوله ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وقوله للرب إلهك تسجد إلخ وذلك مما يدل على أنه كان متبعا للتوراة.
هذا وقد تقدم تحقيق القول في الشيطان ووسوسته في سورة البقرة والمحقق عندنا أنه ليس للشيطان سلطان على عباد الله المخلصين، وخيرهم الأنبياء والمرسلون، وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى من أن الشيطان لم يمسهما وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وحديث إزالة حظ الشيطان من قبله فهو من الأخبار الظنية لأنه من رواية الآحاد. ولما كان موضوعها عالم الغيب والإيمان بالغيب من قسم العقائد وهي لا يؤخذ فيها بالظن لقوله تعالى :﴿ إن الظن لا يغني من الحق شيئا ﴾ [ يونس : ٣٦ ] كنا غير مكلفين الإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا وقال بعضهم : يؤخذ فيها بأحاديث الآحاد لمن صحت عنده، ومذهب السلف في هذه الأحاديث تفويض العلم بكيفيتها إلى الله تعالى : فلا نتكلم في كيفية مس الشيطان ولا في كيفية إخراج حظه من القلب، وإنما نقول عن ما قاله الرسول حق وأنه يدل على مزية لمريم وابنها وللنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركهم فيها سواهم من عباد الله الذين ليس للشيطان عليهم سلطان، وهذه المزية لا تقتضي وحدها أن يكون كل واحد منهم أفضل من سائر عباد الله المخلصين، إذ قد يوجد في المفضول من المزايا ما لا يوجد في الفاضل، فليست مريم أفضل من إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام لأن اختصاص الله إياهما بالنبوة والرسالة والخلة والتكليم يعلو كون الشيطان لم يمسهما عند الولادة. على أن الحديث ورد في تفسير كونه تعالى تقبل من أمها إعاذتها وذريتها من الشيطان. وهذه الإعاذة قد كانت بعد ولادتها والعلم بأنها أنثى، وظاهر الحديث أن المس يكون عند الوضع. والله ورسوله أعلم بمرادهما.
﴿ وكفلها زكريا ﴾ شدد الكوفيون من القراء الفاء وخففها الباقون. والمعنى على الأولى : وجعل زكريا كافلا لها وعلى الثانية ظاهر. وقرؤوا زكريا بالقصر وبالمد :﴿ كلما دخل عليها زكريا المحراب ﴾ وهو مقدم المصلى ويطلق على مقدم المجلس، كما قال ابن جرير وقيل لا يسمى محرابا إلا إذا كان يصعد إليه بالسلاليم. وأقول : المحراب هنا هو ما يعبر عنه أهل الكتاب بالمذبح، وهو مقصورة في مقدم المعبد لها باب يصعد إليه بسلم ذي درجات قليلة ويكون من فيه محجوبا عمن في المعبد. ﴿ وجد عندها رزقا ﴾ قالوا كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف. والله لم يقل ذلك ولا قاله رسوله صلى الله عليه وسلم ولا هو مما يعرف بالرأي ولم يثبته تاريخ يعتد به والروايات عن مفسري السلف متعارضة. وفي أسانيدها ما فيها. ومما قال ابن جرير في ذلك : إن بني إسرائيل أصابتهم أزمة حتى ضعف زكريا عن حملها وإنهم اقترعوا على حملها فخرج السهم على نجار منهم، فكان يأتيها كل يوم من كسبه بما يصلحها فينميه الله ويكثره فيدخل عليها زكريا فيجد عندها فضلا من الرزق فإذا وجد ذلك :﴿ قال يا مريم أنى لك هذا ﴾ أي من أين لك هذا والأيام أيام قحط :﴿ قالت هو من عند الله ﴾ رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض :﴿ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ﴾ ولا توقع من المرزوق، أو رزقا واسعا ( راجع آية ٢٧ ) وأنت ترى أنه لا دليل في الآية على أن الرزق كان من خوارق العادات وإسناد المؤمنين الأمر إلى الله في هذا المقام معهود في القديم والحديث.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله مبسوطا : إن القرآن نزل سائغا يسهل على كل أحد فهمه من غير حاجة إلى عناء ولا ذهاب في الدفاع عن شيء خلاف الظاهر، فعلينا أن لا نخرج عن سنته ولا نضيف إليه حكايات إسرائيلية أو غير إسرائيلية لجعل هذه القصة من خوارق العادات والبحث عن ذلك الرزق ما هو، ومن أين جاء ؟ فضول لا يحتاج إليه لفهم المعنى ولا لمزيد العبرة. ولو علم الله أن في بيانه خيرا لنا لبينه.
أما ما سيقت القصة لأجله وهو الذي يجب أن نبحث فيه، ونستخرج العبر من قوادمه وخوافيه، فهو تقرير نبوة النبي صلى الله عليه وسلم ودحض شبه أهل الكتاب الذين احتكروا فضل الله وجعلوه خاصا بشعب إسرائيل وشبهة المشركين الذين كانوا ينكرون نبوته لأنه بشر. وبيان ذلك : أن المقصد الأول من مقاصد الوحي هو تقرير عقيدة الألوهية وأهم مسائلها مسألة الوحدانية، وتقرير عقيدة البعث والجزاء وعقيدة الوحي والأنبياء. وقد افتتحت السورة بذكر التوحيد وإنزال الكتاب ثم كانت الآيات من أولها إلى هذه القصة أو قبيل هذه القصة في الألوهية والجزاء بعد البعث بالتفصيل وإزالة الشبهات والأوهام في ذلك، ثم بين أن الإيمان بالله واعاء حبه ورجاء النجاة في الآخرة والفوز بالسعادة فيها إنما تكون باتباع رسوله، وقفى على ذلك بهذه القصة التي تزيل شبه المشركين وأهل الكتاب في رسالته وتردها على وجوههم.
رد عليهم بما يعرفونه من أن آدم أبو البشر وأن الله اصطفاه بجعله أفضل من كل أنواع الحيوان وتمكينه هو وذريته من تسخيرها وهذا متفق عليه بين المشركين وأهل الكتاب، ومن اصطفاء نوح وجعله أبا البشر الثاني وجعل ذريته هم الباقين، ومن اصطفاء إبراهيم وآله على البشر. فإن العرب وأهل الكتاب كانوا يعرفون ذلك فالأولون يفخرون بأنهم من ولد إسماعيل وعلى ملة إبراهيم كما يفخر الآخرون باصطفاء آل عمران من بني إسرائيل حفيد إبراهيم. فالله سبحانه وتعالى يرشد هؤلاء وأولئك وجميع البشر إلى أنه هو الذي اصطفى هؤلاء بغير مزية سبقت منهم تقتضي ذلك وتوجبه عليه. فإذا كان الأمر له في اصطفاء من يشاء من عباده وبذلك اصطفى هؤلاء على عالمي زمانهم. فما المانع له من اصطفاء محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى أولئك ؟ لا مانع يمنع ذلك عند من يعقل.
فإن قيل إنه لم يعهد أن بعث نبيا من غير بني إسرائيل بعد وجودهم. قلنا ولم اصطفى بني إسرائيل عند وجودهم ؟ أليس ذلك بمحض مشيئته ؟ بلى. وبمحض مشيئته اصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم. فهذه المثل مسوقة لبيان أنه تعالى يصطفي من خلقه من يشاء. أما الدليل على كونه شاء اصطفاءه فاصطفاه بالفعل فهو أنه اصطفاه بالفعل إذ جعله هاديا للناس مخرجا لهم من ظلمات الشرك والجهل والفساد، إلى نور الحق الجامع للتوحيد والعلم والصلاح، ولم يكن أثر غيره من آل إبراهيم وآل عمران في الهداية بأظهر من أثره، بل أثره أظهر، ونوره أسطع، صلى الله عليه وعلى كل عبد مصطفى وهذا بيان لوجه اتصال القصة بما قبلها من أول السورة.
ومن هذه المثل قصة مريم فإن أمها إذا كانت قد ولدتها وهي عاقر على خلاف المعهود كما نقل، أو يقال إذا كان قبول الأنثى محررة لخدمة بيت الله على خلاف المعهود عندهم وقد تقبله الله، فلماذا لا يجوز ان يرسل الله محمدا من غير بني إسرائيل على خلاف المعهود عندهم ؟ ومثل هذا يقال في قصة زكريا عليه السلام الآتية، ومن ذلك كله يعلم أن أعماله لا تأتي دائما على ما يعهد الناس ويألفون.
ثم قال الأستاذ الإمام في معنى هذا الدعاء وهذا التعجب من استجابته أحسن قول وهاكه بالمعنى مع شيء من التصرف : إن زكريا لما رأى ما رآه من نعمة الله على مريم في كمال إيمانها وحسن حالها ولا سيما اختراق شعاع بصيرتها لحجب الأسباب، ورؤيتها أن المسخر لها هو الذي يرزق من يشاء بغير حساب، أخذ عن نفسه، وغاب عن حسه، وانصرف عن العالم وما فيه، واستغرق قلبه في ملاحظة فضل الله ورحمته، فنطق بهذا الدعاء في حال غيبته، وإنما يكون الدعاء جديرا بأن يستجاب إذا جرى به اللسان بتلقين القلب، في حال استغراقه في الشعور بكمال الرب، ولما عاد من سفره في عالم الوحدة إلى عالم الأسباب ومقام التفرقة، وقد أوذن بسماع ندائه، واستجابة دعائه، سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة، وهي على غير السنة الكونية فأجابه بما أجابه، وذلك قوله عز وجل.
قال ابن جرير : يقال خرج فلان على بغال البريد وإنما ركب بغلا واحدا وركب السفن وإنما ركب سفينة واحدة وكما يقال ممن سمعت هذا الخبر ؟ فيقال من الناس، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إن منه ﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ] والقائل كان فيما ذكروا واحدا. ثم قال بعد ذلك : وأما الصواب من القول في تأويله فأن يقال إن الله جل ثناؤه أخبر أن الملائكة نادته والظاهر من ذلك أنها جماعة الملائكة دون الواحد وجبريل واحد. فلن يجوز أن يحمل تأويل القرآن إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب دون الأقل، ما وجد إلى ذلك سبيل، ولم تضطرنا حاجة إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفي من الكلام والمعاني. وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم منهم قتادة والربيع بن أنس وعكرمة ومجاهد وجماعة غيرهم : اه.
أما قوله :﴿ وهو قائم يصلي في المحراب ﴾ فالظاهر من معناه المتبادر عندي انه نودي وهو قائم يدعو بذلك الدعاء الذي ذكر هنا مختصرا وذكر في سورة مريم بأطول مما هنا. فالصلاة دعاء والدعاء صلاة وقد عطف " فنادته الملائكة " على ما قبله بالفاء وحكاية ما قبله صريحة في كون الدعاء وقع في المحراب الذي كانت مريم فيه. فقول الرازي إن الآية تدل على أن الصلاة مشروعة عندهم غريب جدا، وأي دين لا صلاة فيه ولا دعاء ؟
﴿ أن الله يبشرك بيحيى ﴾ أي بولد اسمه يحيى، كما في سورة مريم ﴿ إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى ﴾. قرأ ابن عامر وحمزة ﴿ إن ﴾ بكسر الهمزة لأن النداء قول، والباقون بفتحها على تقدير الباء أي نادته بأن الله يبشره وفيه إشعار بان البشارة محكية بالمعنى لا باللفظ، فما هنا لا ينافي ما في سورة مريم من التفصيل. قرأ حمزة والكسائي يبشرك كينصرك والباقون بالتشديد ؛ ويحيى تعريب لكلمة " يوحنا " في لغة بني إسرائيل. وهي من مادة الحياة فالاسم يشعر بأنه يحيا حياة طيبة بأن يكون وارثا لوالده ومن آل يعقوب ما كان فيهم من النبوة والفضل.
وقد وصف تعالى هذا المبشر به بعدة صفات وردت حالا منه وهي قوله :﴿ مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين ﴾ أما تصديقه بكلمة من الله فهو تصديقه بعيسى الذي يبشر الله به بكلمة منه أو الذي يولد بكلمة الله " كن " فيكون أي بغير السنة العامة في توالد البشر، وهي أن يولد الولد بين أب وأم. وقال أبو عبيدة أي المراد بالكلمة هنا الكتاب أو الوحي. لأن الكلمة تطلق على الكلام وإن كان كثيرا، وقيل غير ذلك. وأما السيد فهو من يسود في قومه بالعلم أو الكرم أو الصلاح وعمل الخير. والحصور وصف مبالغة من مادة الحصر ومعناها الحبس فهو من يحبس نفسه ويمنعها مما ينافي الفضل والكمال اللائق بها. ويطلق على الكتوم للأسرار وعلى من يمتنع من النساء للعنة أو للعفة. وأكثر المفسرين على أن هذا الأخير هو المراد هنا. ولذلك بحثوا في كون ترك التزوج أفضل من فعله أم لا ؟ وقال الرازي : احتج أصحابنا بهذه الآية على أن ترك النكاح أفضل : ونقول إن الآية ليست نصا ولا ظاهرة في ذلك، وإذا سلمنا انها تدل عليه فلا نسلم أنها تدل على أن ترك التزوج أفضل مطلقا. وليس يحيى بأفضل من أبيه ولا من إبراهيم الخليل ومحمد خاتم النبيين والمرسلين. وسنة النكاح أفضل سنن الفطرة لأنها قوام هذه الحياة الدنيا وسبب بقاء الإنسان الذي كرمه الله وخلقه في أحسن تقويم وجعله خليفة في الأرض إلى الأجل المسمى في علم الله. ومعنى كونه نبيا معروف وأما كونه من الصالحين فمعناه أنه من الأنبياء الصالحين أو من القوم الصالحين، وهم أهل بيته.
ومن سخافات بعض المفسرين التي أومأنا إليها آنفا زعمهم أن زكريا عليه السلام اشتبه عليه وحي الملائكة ونداؤهم بوحي الشياطين ولذلك سأل سؤال التعجب، ثم طلب آية للتثبت، وروى ابن جرير عن السدي وعكرمة ان الشيطان هو الذي شككه في نداء الملائكة وقال له إنه من الشيطان. ولولا الجنون بالروايات مهما هزلت وسمجت لما كان لمؤمن أن يكتب مثل هذا الهزء والسخف الذي ينبذه العقل وليس في الكتاب ما يشير إليه ولو لم يكن لمن يروي مثل هذا إلا هذا لكفى في جرحه، وأن يضرب بروايته على وجهه، فعفا الله عن ابن جرير إذ جعل هذه الرواية ما ينشر :
﴿ قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا ﴾ قيل معناه أن تعجز عن خطاب الناس بحصر يعتري لسانك إذا أردته ويرجحه أن الآية تكون بغير المعتاد وقيل معناه أن تترك ذلك مختارا التفرغ لعبادة الله ويؤيده قوله :﴿ واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار ﴾ والمشهور الأول. وللمفسرين روايات سقيمة فيه، منها أن هذه الآية عقوبة عاقبه الله تعالى بها أن طلب الآية بعد تبشير الملائكة ومنها ان لسانه ربا فيه حتى ملأه ومثل هذا السخف لا يجوز ذكره إلا لأجل رده على قائله وضرب وجهه به. وفي إنجيل لوقا أن جبريل قال لزكريا " وها أنت تكون صامتا ولا تقدر أن تتكلم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته ".
وقال الأستاذ الإمام : الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه، ويبشر أهله، فسأل عن الكيفية ولما أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، ويكون إتمامه إياها وعلامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع للذكر والتسبيح مساء صباح مدة ثلاثة أيام فإذا احتيج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، وعلى هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال. واختلفوا في الرمز هل كان بالقول الخفي وتحريك الشفتين أم بغيرهما من الأعضاء كالعينين والحاجبين والرأس واليدين لأن الرمز والإيماء يكون بكل ذلك. والعشي من الزوال إلى الغروب وقيل من الغروب إلى ذهاب صدر من الليل وقال الراغب من زوال الشمس إلى الصباح. والإبكار من الصباح إلى الضحى.
وقال الأستاذ الإمام : هو جعلنا تلد نبيا من غير أن يمسها رجل فهو على هذا اصطفاء لم يكن قد تحقق بالفعل بل بالإعداد والتهيئة. وبحثوا هنا في قوله " على نساء العالمين " هل المراد به عالموا زمانها كما يقال أرسطو أعظم الفلاسفة ويفهم منه فلاسفة زمانه أو أمته أم جميع العالمين. وفي الأحاديث أن أفضل النساء مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهن.
قال الأستاذ الإمام : أعقب هذه القصة بهذه الآية الناطقة بأنها من أنباء الغيب وأخر خبر إلقاء الأقلام لكفالة مريم وذكره في سياق نفي حضور النبي صلى الله عليه وسلم مجلس القوم ما جرى منهم. ولا بد لهذه العناية من نكتة وقد قالوا في بيانها : إن كونه صلى الله عليه وسلم لم يقرأ أخبار القوم ولم يروها سماعا عن أحد معلوم عند منكري نبوته فلم يبق له طريق للعلم بها إلا مشاهدتها فنفاها تهكما بهم وبذلك تعين أنه لم يبق له طريق لمعرفتها إلا وحي الله تعالى إليه بها. وهذا الجواب منقوض وإن اتفق عليه من نعرف من المفسرين وذلك أن القرآن نطق بأنهم قالوا :﴿ إنما يعلمه بشر ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] و ﴿ قالوا أساطير الأولين اكتتبها ﴾ [ الفرقان : ٥ ].
قال : والصواب أن النكتة في النص على نفي حضور النبي القوم إذ يلقون أقلامهم أي بعد النص على كون القصة من أنباء الغيب هي أن المسألة لم تكن معلومة عند أهل الكتاب فيكون للمنكرين شبهة على أنه أخذها عنهم. أقول : ويرد على هذا قوله تعالى في آخر قصة يوسف :
﴿ ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم وهم يمكرون ﴾ [ يوسف : ١٠٢ ] وإذا كان بعض المجاحدين قد ادعوا أنه يعلمه بشر فهذه الدعوى قد ردها القرآن بقوله :﴿ لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ﴾ [ النحل : ١٠٣ ] ورد أنهم قالوا هذا إذ رأوه يقف على قين ( حداد ) رومي بمكة وذلك القين لم يكن يحسن العربية، وأنى للقين بمثل هذا العلم ؟ عرف العربية أم لم يعرفها. فالقرآن لا يعتد بتلك الشبهة إذ الأمي الناشئ بين الأميين لا يمكن أن يتلقى أخبار الأولين من حداد ولا من عالم كحبر أو راهب بمجرد وقوفه عليه أو اجتماعه به ولو أمكن ذلك عادة أو عقلا لما كان لعاقل أن يثق بحفظ ذلك القين أو غير القين وبأماناته في النقل ولا يختلف أحد من المنكرين لنبوته صلى الله عليه وسلم في كمال عقله وسمو إدراكه وفطنته. ولا شك في أن إتيانه في هذه القصص بما لا يعرفه أهل الكتاب مما يؤكد دفع تلك الشبهة الواهية ويدعم ذلك الأصل الراسخ وهو كونه صلى الله عليه وسلم أميا نشأ بين أميين لا علم لهم بأخبار الأنبياء مع أممهم كما قال في سورة هود بعد ذكر قصة نوح عليه السلام :﴿ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا ﴾ [ هود : ٤٩ ] وقد سمع كفار قريش هذه الآية وسائر سورتها ولم يقل أحد منهم بل كنا نعلمها. ومثل هذا قوله بعد ذكر قصة موسى وشعيب في سورة القصص :﴿ وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر ﴾ [ القصص : ٤٤ ] إلى آخر الآيات الثلاث.
أما المجاحدون من أهل الكتاب لا سيما دعاة النصرانية في هذا الزمان فهم يقولون فيما وافق القرآن به كتبهم أنه مأخوذ منها بدليل موافقته لها وفيما خالفها أنه غير صحيح بدليل أنه خالفها وفيما لم يوافقها ولم يخالفها به أنه غير صحيح لأنه لم يوجد عندنا، وهذا منتهى ما يكابر به مناظر وأبطل ما يرد به خصم على خصم. ويقول المسلمون إننا نحتج على أن ما جاء به القرآن هو الحق بما قام من الأدلة على نبوة النبي صلى الله عليه وسلم مع حفظ كتابه ونقله بالتواتر الصحيح. ومن تلك الدلائل التي يشتمل عليها القرآن معرفة قصص الأنبياء مع كونه أميا لم يتعلم شيئا كما تقدم. فهي دليل على صحة نفسها وما جاء فيها مخالفا لما في الكتب السابقة نعده مصححا لما وقع فيها من الغلط والنسيان بانقطاع أسانيدها، حتى أن أعظمها وأشهرها كالأسفار المنسوبة إلى موسى عليه السلام لا يعرف كاتبها ولا زمن كتابتها ولا اللغة التي كتبت بها أولا. وقد تقدم الإلماع إلى ذلك من قبل.
وفي لفظ ( كلمة ) أربعة وجوه :
( أحدها ) أن المراد بالكلمة كلمة التكوين لا كلمة الوحي. ذلك أنه لما كان أمر الخلق والتكوين وكيفية صدوره عن الباري عز وجل مما يعلو عقول البشر عبر عنه سبحانه بقوله :﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾ [ يس : ٨٢ ] فكلمة " كن " هي كلمة التكوين وسيأتي تفسيرها. وههنا يقال إن كل شيء قد خلق بكلمة التكوين فلماذا خص المسيح بإطلاق الكلمة عليه ؟ وأجيب عن ذلك بأن الأشياء تنسب في العادة والعرف العام في البشر إلى أسبابها ولما فقد في تكوين المسيح وعلوق أمه به ما جعله الله سببا للعلوق وهو تلقيح ماء الرجل لما في الرحم من البيوض التي يتكون منها الجنين أضيف هذا التكوين إلى كلمة الله وأطلقت الكلمة على المكون إيذانا بذلك أو جعل كأنه نفس الكلمة مبالغة. وهذا هو الوجه المشهور.
( الوجه الثاني ) أنه أطلق على المسيح للإشارة إلى بشارة الأنبياء به فهو قد عرف بكلمة الله أي بوحيه لأنبيائه. قاله الأستاذ الإمام والكلمة تطلق على الكلام كقوله :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين ﴾ [ الصافات : ١٧١ ] إلخ.
( الوجه الثالث ) أنه أطلق عليه لفظ الكلمة لمزيد إيضاحه لكلام الله الذي حرفه قومه اليهود حتى أخرجوه عن وجهه وجعلوا الدين ماديا محضا، قاله الرازي وجعله من قبيل وصف الناس للسلطان العادل بظل الله ونور الله، لما أنه سبب لظهور ظل العدل ونور الإحسان. قال فكذلك كان عيسى سببا لظهور كلام الله عز وجل بسبب كثرة بياناته له وإزالة الشبهات والتحريفات عنه.
( الوجه الرابع ) أن المراد بالكلمة كلمة البشارة لأمه فقوله بكلمة منه معناه بخبر من عنده أو بشارة وهو كقول القائل ألقى إلي فلان كلمة سرني بها بمعنى أخبرني خبرا فرحت به، قاله ابن جرير واستشهد له بقوله :﴿ وكلمة ألقاها إلى مريم ﴾ يعني بشرى الله مريم بعيسى ألقاها إليها قال : فتأويل القول : وما كنت يا محمد عند القوم إذا قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك ببشرى من عنده هي ولد لك اسمه المسيح عيسى ابن مريم. ثم قال مستدلا على هذا ما نصه : ولذلك قال عز وجل اسمه المسيح فذكر ولم يقل اسمها فيؤنث والكلمة مؤنثة لأن الكلمة غير مقصود بها قصد الاسم الذي هو بمعنى فلان وإنما هي بمعنى البشارة، فذكرت كنايتها كما تذكر الذرية والدابة والألقاب إلى آخر ما أطال به في المسألة من جهة العربية.
أما لفظ " المسيح " فمعرب وأصله العبراني " شيحا " ومعناه الممسوح وهو لقب الملك عندهم لما مضت به تقاليدهم من مسح الكاهن كل من يتولى الملك بالدهن المقدس وهم يعبرون عن توليه الملك بالمسح وعن الملك بالمسيح. وقد اشتهر أن أنبياءهم بشروهم بمسيح يظهر فيهم وأنهم كانوا يعتقدون أنه ملك يعيد إليهم ما فقدوا من السلطان في الأرض فلما ظهر عيسى عليه السلام وسمي بالمسيح آمن به قوم. وقالوا إنه هو الذي بشر به الأنبياء ولا يزال سائر اليهود يعتقدون أن البشارة لما يأت تأويلها، وأنه لا بد أن يظهر فيهم ملك. وقد بين الأستاذ الإمام معنى صدق لفظ المسيح على عيسى عليه السلام بحسب عرفهم فقال : إن الناس إنما يولون الملك عليهم لأجل تقرير العدل فيهم ورفع أثقال الظلم عنهم وقد فعل المسيح ذلك. فإن اليهود كانوا عند بعثته فيهم متمسكين بظواهر ألفاظ الكتاب وخاضعين لأفهام الكتبة والفريسيين وأوهامهم حتى أرهقهم ذلك عسرا وتركهم ينأون من الظلم وأثقال التكاليف. فرفع المسيح ذلك عنهم بإرجاعهم إلى مقاصد الدين وحملهم على الأخوة الرافعة للظلم.
أقول : وقد نقلوا عنه ما يفيد هذا المعنى وهو أن مملكته روحانية لا جسدية. وقد لاح عند الكتابة أن قوله تعالى :﴿ اسمه المسيح عيسى ﴾ يراد به أن لفظ المسيح هنا أجري مجرى العلم لا مجرى الوصف والعلم المشتق لا يشترط فيه أن يكون مسماه متصفا بالمعنى الذي يدل إذا استعمل وصفا. فإنا وضعت لفظ " على " علما على رجل يصير مدلوله شخص ذلك الرجل سواء كان ذا علو أم لا وإذا سميت ابنتك " ملكة " لم يكن لأحد أن يفسر اللفظ بالمعنى الذي وضع له اللفظ قبل العلمية. وقد يجوز أن يلمح المعنى الذي ينقل لفظه إلى العلمية أحيانا. وقد ذكر المفسرون بضعة وجوه لتفسير لفظ المسيح بناء على أنه مشتق من المسح ولا حاجة إلى ذكر شيء منها.
وأما لفظ " عيسى " فهو معرب يشوع بقلب الحروف بعد جعل المعجمة مهملة وهذا يكثر في المنقول من العبرانية إلى العربية. فسين المسيح وموسى شين في العبرانية وكذلك سين شمس فهي عندهم بمعجمتين. وإنما قيل : ابن مريم مع كون الخطاب لها، إعلاما لها بأنه ليس له أب ولذلك قالت بعد البشارة ﴿ رب أنى يكون لي ولد ﴾ الخ.
وقوله تعالى في وصفه ﴿ وجيها في الدنيا والآخرة ﴾ معناه أنه يكون وجاهة وكرامة في الدارين فالوجيه ذو الجاه والوجاهة. والمادة مأخوذة من الوجه حتى قالوا إن لفظ الجاه أصله وجه، فنقلت الواو إلى وضع العين، فقلبت ألفا ثم اشتقوا منه فقالوا جاه فلان يجوه، كما قالوا وجه يوجه، وذو الجاه يسمى وجها كما يسمى وجيها ويقال إن لفلان وجها عند السلطان كما يقال إن له جاها ووجاهة وكأن الأصل في الوجيه من يعظم ويحترم عند المواجهة لما له من المكانة في النفوس.
وقال الإمام الغزالي : الجاه ملك القلوب. قال الأستاذ الإمام : إن كون المسيح ذا جاه ومكانة في الآخر ظاهر. وأما وجاهته في الدنيا فهي قد تكون موضع إشكال لما عرفت من امتهان اليهود له ومطاردتهم إياه على فقره وضعف عصبيته. والجواب عن ذلك سهل وهو أن الوجيه في الحقيقة من كانت له مكانة في القلوب واحترام ثابت في النفوس، ولا يكون أحد كذلك حتى يكون له أثر حقيقي ثابت من شأنه أن يدوم بعده زمنا طويلا أو غير طويل. ولا ينكر أحد أن منزلة المسيح في نفوس المؤمنين به كانت عظيمة جدا وأن ما جاء به من الإصلاح هو من الحق الثابت. وقد بقي بعده. فهذه الوجاهة أعلى وأرفع من وجاهة الأمراء والملوك الذين يحترمون في الظواهر لظلمهم واتقاء شرهم أو لدهانهم والتزلف إليهم رجاء الانتفاع بشيء مما في أيديهم من عرض الحياة الدنيا لأن هذه وجاهة صورية لا أثر لها في النفوس إلا الكراهة والبغض والانتقاض وتلك وجاهة حقيقية مستحوذة على القلوب.
وحقيقة الوجاهة في الآخرة : هي أن يكون الوجيه في مكان علي ومنزلة رفيعة يراه الناس فيها فيجلونه ويعلمون أنه مقرب من الله تعالى ولا يمكننا أن نحددها ونعرف بماذا تكون. قال قائل في الدرس : إن هذه الوجاهة تكون بالشفاعة. فقال الأستاذ الإمام : إن الآية لم تبين ذلك، على أنكم تقولون إن هذه الشفاعة عامة لكل نبي وعالم وصالح فما هي مزية المسيح إذن ؟ ولما كانت الوجاهة متعلقة بالناس وما يعود من مطارح أنظارهم على شعور قلوبهم وخطرات أفكارهم قال تعالى فيه ﴿ ومن المقربين ﴾ أي هو مع ذلك من عباد الله المقربين إليه عز وجل. فما ينعكس عن أنظار الناظرين إليه إلى مرايا قلوبهم حقيقي في نفسه.
وأقول : اعلم أن الكافرين بآيات الله ينكرون الحمل بعيسى من غير أب جمودا على العادات، وذهولا عن كيفية ابتداء خلق جميع المخلوقات، ولو كان لهم دليل عقلي على استحالة ذلك لكانوا معذورين، ولكن لا دليل لهم إلا أن هذا غير معتاد، وهم في كل يوم يرون من شؤون الكون ما لم يكن معتادا من قبل فمنه ما يعرفون له سببا ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة. ونحن معاشر المؤمنين نقول إن تلك الأشياء المعبر عنها بالفلتات، إما أن يكون لها سبب خفي، وحينئذ يجب أن تهدي هؤلاء الجامدين إلى أن بعض الأشياء يجوز أن يأتي من غير طريق الأسباب المعروفة فلا ينكروا كل ما يخالفها لاحتمال أن يكون له سبب خفي لم يقفوا عليه، ولا ينزل أمر عيسى في الحمل به من غير واسطة أب عن ذلك. وإما أن تكون قد وجدت في الواقع ونفس الأمر خارقة لنظام الأسباب، وحينئذ يجب أن يعترفوا بأن الأسباب الظاهرة المعروفة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ما وعده مستحيلا لأنه لا يعرف له سببا.
ولعل أبناء العصور السابقة كانوا أقرب إلى أن يعذروا بإنكار غير مألوف من أبناء هذا العصر الذي ظهر فيه من أعمال الناس ما لو حدث به عقلاء الغابرين لعدوه من خرافات الدجالين، ونحن نرى علماء الغرب وفلاسفته متفقين على إمكان التولد الذاتي، أي تولد الحيوان من غير حيوان أو من الجماد وهم يبحثون ويحاولون أن يصلوا إلى ذلك بتجاربهم. وإذا كان تولد الحيوان من الجماد جائزا فتولد الحيوان من حيوان واحد أولى بالجواز وأقرب إلى الحصول. نعم إنه خلاف الأصل وإن كونه جائزا لا يقتضي وقوعه بالفعل. ونحن نستدل على وقوعه بالفعل بخبر الوحي الذي قام الدليل على صدقه.
ويمكن تقريب هذه الآية من السنن المعروفة في نظام الكائنات بوجهين :
( أحدهما ) أن الاعتقاد القوي الذي يستولي على القلب ويستحوذ على المجموع العصبي يحدث في عالم المادة من الآثار ما يكون على خلاف المعتاد. فكم من سليم اعتقد أنه مصاب بمرض كذا وليس في بدنه شيء من جراثيم هذا المرض فولد له اعتقاده تلك الجراثيم الحية وصار مريضا. وكم من امرئ سقي الماء القراح أو نحوه فشربه معتقدا أنه سم ناقع فمات مسموما به، والحوادث في هذا الباب كثيرة أثبتتها التجارب، وإذا اعتبرنا بها في أمر ولادة المسيح نقول : إن مريم لما بشرت بأن الله تعالى سيهب لها ولدا بمحض قدرته، وهي على ما هي عليه من صحة الإيمان وقوة اليقين انفعل مزاجها بهذا الاعتقاد انفعالا فعل في الرحم فعل التلقيح، كما يفعل الاعتقاد القوي في مزاج السليم فيمرض أو يموت، وفي مزاج المريض فيبرأ وكان نفخ الروح الذي ورد في سورة أخرى متمما لهذا التأثير.
( الوجه الثاني ) : وهو أقرب إلى الحق، وإن كان أخفى وأدق، وبيانه يتوقف على مقدمة وجيزة في تأثير الأرواح في الأشباح. وهي أن المخلوقات قسمان أجسام كثيفة وأرواح لطيفة، وأن اللطيف هو الذي يحدث في الكثيف الحي ما نراه من النمو والحركة والتوالد الذي يكون من النمو أو يكون النمو منه، فلولا الهواء لما عاشت هذه الأحياء، والهواء روح، ولذلك كان من أسمائه إذا تحرك الريح، وأصلها روح بكسر الراء ولأجل الكسر قلبت الواو ياء لتناسبه. والماء الذي منه كل شيء روح مركب من روحين لطيفين وهو يكاد يكون في حال التركيب وسطا بين الكثيف واللطيف، ولكنه أقرب إلى الثاني. والكهربائية من الأرواح وناهيك بفعلها في الأشباح. فهذه الموجودات اللطيفة التي سميناها أرواحا هي التي تحدث معظم التغير الذي نشاهده في الكون، حتى أننا قد رأينا في هذا العصر من أسرارها ما لم يكن يخطر على بال احد من قدماء فلاسفتنا، ويعتقد علماؤنا اليوم أن ما سيظهر منها في المستقبل أجل وأعظم. فإذا كان الأمر كذلك في الأرواح التي لا دليل عندنا على أنها تدرك وتريد، فلم لا يجوز أن يكون تأثير الأرواح العاقلة المريدة أعظم ! !
إذا تمهد هذا فنقول : إن الله المسخر للأرواح المنبثة في الكائنات قد أرسل روحا من عنده إلى مريم فتمثل لها بشرا ونفخ فيها، فأحدثت نفخته التلقيح في رحمها، فحملت بعيسى عليه السلام. وهل حملت إليها تلك النفخة مادة أم لا ؟ الله اعلم. أما البحث في تمثل هذه الأرواح التي تسمى بلسان الشرع الملائكة فسيأتي الكلام عليه في تفسير قوله تعالى :﴿ فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا ﴾ [ مريم : ١٧ ] إذا أنسأ الله لنا في الأجل ووفقنا للمضي في هذا العمل ( التفسير ) والأستاذ الإمام لم يتعرض لهذا البحث.
والكتاب هنا الكتابة بالخط والحكمة العلم الصحيح الذي يبعث الإرادة على العمل النافع ويقف بالعالم على الصراط المستقيم فقد كان المسيح عالما به بين أسراره لقومه، ويقيم عليهم الحجج بنصوصه والإنجيل هو ما أوحى إليه نفسه. وقد تقدم في تفسير أول السورة الكلام فيهما. والكلام معطوف على قوله :﴿ ويكلم الناس ﴾ وآية ﴿ قالت رب ﴾ معترضة بينهما.
ورأيت روحك في الوغى *** متقلدا سيفا ورمحا١
وقال الأستاذ الإمام : إن الرسول هنا بمعنى الرسالة. والتقدير ويعلمه الرسالة إلى بني إسرائيل، واستعمال لفظ الرسول بمعنى الرسالة شائع. قال كثير :
لقد كذب الواشون، ما بحت عندهم *** بسر ولا أرسلتهم برسول٢
وفي رواية " برسيل ". قال : وبعض المفسرين يجعل الرسول بمعنى الناطق أي ناطقا إلى بني إسرائيل ﴿ أني قد جئتكم بآية من ربكم ﴾ أقول : والمعنى على التقدير الأول انه يرسله محتجا على صدق رسالته بأني قد جئتكم بآية من ربكم. وفسر الآية بقوله :﴿ أني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ﴾ قال الأستاذ الإمام : الخلق التقدير والترتيب لا الإنشاء والاختراع ويقرب ان يكون هذا إجماعا من المفسرين، وفسره الجلال هنا بالتصوير لأنه من التقدير.
أقول : وذكر الجلال كغيره أنه كان يتخذ من الطين صورة خفاش، فينفخ فيها فتحلها الحياة وتتحرك في يده، وقال بعضهم بل تطير قليلا ثم تسقط. قال الأستاذ الأمام : ولا حاجة إلى هذه التفصيلات بل نقف عند لفظ الآية. وغاية ما يفهم منها إن الله تعالى جعل هذا السر ولكن لم يقل أنه خلق بالفعل، ولم يرد عن المعصوم أن شيئا من ذلك وقع، وقد جرت سنة الله تعالى أن تجري الآية على أيدي الأنبياء عند طلب قومهم لها وجعل الإيمان موقوفا عليها فإن كانوا سألوه شيئا من ذلك فقد جاء به وكذلك يقال في قوله :﴿ وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم ﴾ فإن قصارى ما تدل عليه العبارة أنه خص بذلك وأمر بأن يحتج به. والحكمة في إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك إقامة الحجة على منكري نبوته كما تقدم وأما وقوع ذلك كله أو بعضه بالفعل فهو يتوقف على نقل يحتج به في مثل ذلك.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام. ومن الغريب أن ابن جرير يروي عن ابن إسحاق " إن عيسى صلوات الله عليه جلس يوما مع غلمان من الكتاب فأخذ طينا ثم قال أجعل لكم من هذا الطين طائرا، قالوا وتستطيع ذلك ؟ قال نعم بإذن ربي ثم هيأه حتى إذا جعله في هيئة الطائر فنفخ فيه، ثم قال كن طائرا بإذن الله فخرج يطير بين كفيه " فكأنه اتخذ آية الله على رسالته ألعوبة للصبيان. والحاصل أنه ليس عندنا نقل صحيح بوقوع خلق الطير بل ولا عند النصارى الذين يتناقلون وقوع سائر الآيات المذكورة في الآية إلا ما في إنجيل الصبا أو الطفولة من نحو ما قال ابن إسحاق وهو من الأناجيل غير القانونية عندهم. ولعل آية سورة المائدة أدنى إلى الدلالة على الوقوع من هذه الآية وهي ﴿ إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا، وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذني، وإذ تخرج الموتى بإذني، وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات ﴾ [ المائدة : ١١٠ ] فإن جعل ذلك كله متعلق النعمة يؤذن بوقوعه إلا أن يقال إن جعل هذه الآيات مما يجرى على يديه عند طلبه منه والحاجة إلى تحديه به من اجل النعم وأعظمها ولكن هذا خلاف ظاهر.
ومقتضى مذهب الصوفية أن روحانية عيسى كانت غالبة على جثمانيته أكثر من سائر الروحانيين لأن أمه حملت به من الروح الذي تمثل لها بشرا سويا فكان تجرده من المادة الكثيفة للتصرف بسلطان الروح من قبيل الملكة الراسخة فيه. وبذلك كان إذا نفخ من روحه في صورة رطبة من الطين تحلها الحياة حتى تهتز وتتحرك وإذا توجه بروحانيته إلى روح فارقت جسدها أمكنه أن يستحضرها ويعيد اتصالها ببدنها زمنا ما، ولكن روحانية البشر لا تصل إلى درجة إحياء من مات فصار رميما. ويؤيد ذلك ما ينقله النصارى من إحياء المسيح للموتى. فإنهم قالوا إنه أحيا بنتا قبل أن تدفن وأحيا اليعازر قبل أن يبلى ولم ينقل أنه أحيا ميتا كان رميما. وأما إبراء الأكمه والأبرص بالقوة الروحانية فهو أقرب إلى ما يعهد الناس لاسيما مع اعتقاد المريض. ويقول مجاهد : إن الأكمه من لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمشهور أنه من ولد أعمى. وأما الأخبار ببعض المغيبات فقد أوتيه كثيرون من الأنبياء وممن دون الأنبياء.
﴿ إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ﴾ أي إن فيما ذكر لحجة لكم على صدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين بقدرته الكاملة.
ومن مباحث اللفظ : أن قوله " فأنفخ فيه " يعود إلى الطير أو إلى ما ذكر.
يا ليت زوجك قد غدا
وهو من مجزوء كامل، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر ٢/١٠٨، ٦/٢٣٨/، وأمالي المرتضى ١/٥٤، والإنصاف ٢/٦١٢، وخزانة الأدب ٢/٢٣١، ٣/١٤٢، ٩/١٤٢، والخصائص ٢/٤٣١، وشرح شواهد الإيضاح ص ١٨٢، وشرح المفصل ٢/٥٠، ولسان العرب (رغب) (زجج)، (مسح)، (قلد)، (جدع)، (جمع)، (هدى)، والمقتضب ٢/٥١..
٢ البيت من الطويل، وهو في ديوان كثير ص ١١٠، وفيه "برسيل" بدل "برسول" ولسان العرب (رسل) والبيت بلا نسبة في تهذيب اللغة ١٢/٣٩١، وديوان الأدب ١/٣٩٥، ولسان العرب (رسل)، وتاج العروس (رسل)..
﴿ فاتقوا الله وأطيعون ﴾ أمرهم بتقوى الله وطاعته فيما جاء به عنه.
قال الأستاذ الإمام : انتقل من البشارة بعيسى إلى ذكر خبره مع قومه وطوى ما بينهما من خبر ولادته ونشأته وبعثته مؤيدا الآيات وهذا من إيجاز القرآن الذي انفرد به. فقد انطوى تحت قوله :﴿ فلما أحس عيسى منهم الكفر ﴾ جميع مادلت عليه البشارة وهم بنو إسرائيل الكفر والمقاومة والقصد بالإيذاء وفي هذا من العبرة والتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ما فيه وأن أكبر ما فيه الإعلام بأن الآيات الكونية وإن كثرت وعظمت ليست ملزمة بالإيمان ولا مفضية إليه حتما، وإنما يكون الإيمان باستعداد المدعو إليه وحسن بيان الداعي. ولذلك كان من أمر عيسى عليه السلام أنه لما أحس من قومه الكفر ﴿ قال من أنصاري إلى الله ﴾ أي توجه إلى البحث عن أهل الاستعداد الذين ينصرونه في دعوته تاركين لأجلها كل ما يشغل عنها منخلعين عما كانوا فيه متحيزين ومنزوين إل الله منصرفين إلى تأييد رسوله ونصره على خاذليه والكافرين بما جاء به ﴿ قال الحواريون نحن أنصار الله ﴾ أي أنصار دينه. وهذا القول يفيد الانخلاع والانفصال من التقاليد السابقة، والأخذ بالتعليم الجديد. وبذل منتهى الاستطاعة في تأييده، فإن نصر الله لا يكون إلا بذلك.
والحواريون أنصار المسيح. والنصر لا يستلزم القتال فالعمل بالدين والدعوة إليه نصر له. قال الأستاذ الإمام : ولا نتكلم في عددهم لأن القرآن لم يعينه. أقول ولعل لفظ الحواري مأخوذ من الحواري وهو لباب الدقيق وخالصه لأنه من خيار القوم وصفوتهم، أو من الحور وهو البياض، وفي حديث الصحيحين " لكل نبي حواري وحواري الزبير " ١ ومن هنا قيل خاص بأنصار الأنبياء.
﴿ آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ﴾ مخلصون له منقادون لأمره وفي هذا دليل على أن الإسلام دين الله على لسان كل نبي وإن اختلفوا في بعض صوره وأشكاله وأحكامه وأعماله.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن " أحس " يستعمل في إدراك الحسي والمعنوي ففي حقيقة الإحساس : أحسست منه مكرا وأحسست منه بمكر وما أحسسنا منه خبرا وهل تحس من فلان بخبر ؟ والمكر من الأمور المعنوية وإن كان يستنبط من الأعمال الحسية ويستدل عليه بها. وقال البيضاوي في الآية " تحقق كفرهم عنده تحقق ما يدركه بالحواس " وهو مبني على أن معنى أحس الشيء أدركه بإحدى حواسه وأن إطلاقه على إدراك الأمور المعنوية مجاز شبه فيه معقول بالمحسوس في الجلاء والوصول إلى درجة اليقين. على أن الكفر يعرف بالأقوال والأعمال المحسوسة. وقال الأستاذ الإمام : إن الجار في " إلى الله " متعلق بلفظ " أنصاري " وإن لم يعرف أن مادة نصر تعدى بإلى. ذلك بأن مجموع الكلام هنا قد أشرب الكلمة معنى اللجأ والانضمام، لأن النصر يحصل بذلك. ويصح أن يتعلق بوصف يفيد المفسرون محافظة على القواعد الموضوعة.
يقول بعض المفسرين " إني متوفك " أي منومك، وبعضهم أني قابضك من الأرض بروحك وجسدك " ورافعك إلي " بيان لهذا التوفي، وبعضهم أني أنجيك من هؤلاء المعتدين فلا يتمكنون من قتلك وأميتك حتف أنفك ثم أرفعك إلي ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال : للعلماء ههنا طريقتان إحداهما وهي المشهورة أنه رفع حيا بجسمه وروحه، وأنه سينزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى. ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف. وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبا أقول : وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع إذ الرفع هو الأهم لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعه المكانة.
قال : والطريقة الثانية أن الآية على ظاهرها وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة روحه. فإن الروح هي حقيقة الإنسان والجسد كالثوب المستعار، فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي قال : ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان أحدهما أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي لأن المطلوب فيها هو اليقين. وليس في الباب حديث متواتر. وثانيهما تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسر رسالته على الناس وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها والتمسك بقشورها دون لبابها. وهو حكمتها وما شرعت لأجله فالمسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى عليه السلام، ويوقفهم على فقهها والمراد منها ويأمرهم بمراعاته وبما يجذبهم على عال الأرواح بتحري كمال الآداب، ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها معبرا عن رأيه وفهمه، وكان ذلك مزهقا لروحها ذاهبا بحكمتها كان لا بد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي. وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدو الدين في كل زمان. فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر.
هذا ما قاله الأستاذ الإمام في الدرس مع بسط وإيضاح ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه ولأهل هذا التأويل أن يقولوا : إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث والناقل للمعنى ينقل ما فهمه. وسئل عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال : إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكها، وإن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك. وسنعود إلى مبحث ما جرى للمسيح عليه السلام مع الماكرين الذين أرادوا قتله وصلبه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى.
﴿ وجاعل الذين اتبعوك ﴾ بالأخذ بما جئت به من الهدى ﴿ فوق الذين كفروا ﴾ بك ولم يهتدوا بهديك فوقية روحانية دينية وهي كونهم أحسن أخلاقا وأكمل آدابا وأقرب إلى الحق والفضل وأبعد عن الباطل والاعتداء أو فوقية دنيوية وهو كونهم يكونون أصحاب السيادة عليهم. ولكن هذا الوجه الأول هو المراد ووجهه ظاهر فإن اتباع المسيح هو عين الأخذ بتلك الفضائل والمواعظ التي جاء بها وليس عندنا شيء عن الأستاذ الإمام في هذا. ولا يشكل عليه قوله :﴿ إلى يوم القيامة ﴾ فإن فوقية الفضائل والآداب هي التي كانت وستبقى كذلك مادامت السماوات والأرض.
﴿ ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون ﴾ أقول فيه التفات عن الغيبة إلى الخطاب وبذلك يشمل المسيح والمختلفين معه ويشمل الاختلاف بين أتباعه والكافرين به والله هو الذي يبين لهم جميعا يوم الحساب الحق في كل ما اختلفوا فيه بما يزيل شبه المشتبهين ورياء الجاحدين.
أقول : بعد أن بين سبحانه خلق عيسى ومجيئه بالآيات وما كان من أمر قومه في الإيمان والكفر به كشف شبهة المفتونين بخلقه على غير السنة المعتادة والمحاجين فيه بغير علم، ورد على المنكرين لذلك فقال :﴿ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ﴾ أي إن شبه عيسى وصفته في خلق الله إياه على غير مثال سبق كشأن آدم في ذلك، ثم فسر هذا المثل بقوله :﴿ خلقه من تراب ﴾ أي قدر أوضاعه وكون جسمه من تراب ميت أصابه الماء فكان طينا لازبا ذا لزوجة ﴿ ثم قال له كن فيكون ﴾ أي ثم كونه تكوينا آخر بنفخ الروح فيه. وقد تقدم تفسير العبارة إلا انه كان الظاهر ان يقول هنا : ثم قال له : كن فيكون : ولكنه قال " فيكون " لتصوير الحال الماضية كما يقول أهل المعاني في وضع المضارع موضع الماضي أحيانا.
وخطر لي الآن أنه يجوز ان تكون كلمة التكوين مجموع " كن فيكون " والمعنى : ثم قال له كلمة التكوين التي هي عبارة عن توجه الإرادة إلى الشيء ووجوده بها حالا. ويظهر هذا في مثل قوله تعالى :﴿ وهو الذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق ﴾
[ الأنعام : ٧٣ ] ولو كان القول للتكليف لم يظهر هذا. لأن قول التكليف من صفة الكلام، وقول التكوين من صفة المشيئة. ولعل من تأمله حق التأمل لا يجد عنه منصرفا.
والعطف بثم لبيان التكوين الآخر يفيد تراخيه وتأخره عن الخلق الأول. وهل كان في هذه المدة على صفة واحدة أم تقلب في أطوار مختلفة كما تتقلب ذريته ؟ اقرأ قوله تعالى :﴿ وقد خلقكم أطوارا ﴾ [ نوح : ١٤ ] وقوله عز وجل :﴿ ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا فتبارك الله أحسن الخالقين * ثم إنكم بعد ذلك لميتون * ثم إنكم يوم القيامة تبعثون ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ١٦ ].
فالسلالة المستخرجة من الطين هي المكون الأول الذي يعبرون عنه بلسان العلم الآن بالبروتوبلاسما ومنها تكون أصلنا في ذلك الطور، لأنه تعالى يقول إنه خلقه من تلك السلالة، ثم انتقل إلى طور التولد بواسطة النطفة في القرار المكين وهو الرحم، ثم انتقل إلى طور تحول النطفة على علقة والعلقة إلى مضغة والمضغة إلى هيكل من العظام يكسى لحما وقد عد هذا طورا واحدا، ثم أنشأه خلقا آخر وهو الطور الأخير. ثم ذكر أن له طورا آخر في الموت وطورا آخر في البعث وهو آخر أطواره فكل طور من الأطوار التي قبل الموت حادث وحدوثه لأول مرة لم يكن مسبوقا بنظير ولم يكن معتادا وإنما وجد بمشيئة الله وتكوينه المعبر عنه بقوله :" كن فيكون " فهل يعز على صاحب هذه المشيئة أن يخلق عيسى من غير أب ؟ كلا. ولا يعجزه ان يبعث الناس بعد موتهم في نشأة أخرى كالنشأة الأولى.
وقال الأستاذ الإمام ما مثاله : قلنا إن هذه الآيات سيقت في معرض إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ببيان أن الله تعالى يصطفي من عباده من يشاء لرسالته وأنه مستقل في أفعاله فلا وجه لإنكار اصطفائه محمدا وقد اصطفى قبله آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران. ثم جاء في السياق ذكر قصة عيسى وأمه وما جاء به وما كان من كفر بعض قومه به ورمي أمه بالزنا، وإيمان بعض، وهناك قسم ثالث لم يكفر بعيسى ولم يؤمن به إيمانا صحيحا بل افتتن به افتتانا لكونه ولد من غير أب وزعموا أن معنى كونه ولد بكلمة من الله وكونه من روح الله أن الله تعالى حل في أمه وأن كلمة الله تجسدت فيه فصار إلها وإنسانا. فضرب للكافرين وللمفتونين مثل خلق آدم من تراب وهو حجة على الفريقين من اليهود والنصارى ولا شك أن خلق آدم أعجب من خلق عيسى لأن هذا خلق من حيوان من نوعه وذاك قد خلق من التراب، وفي الكلام إرشاد إلى أن أمر الخليقة يشبه بعضه بعضا فكله غريب بالنسبة إلينا إذا تفكرنا في حقيقتها وعللها ولا شيء منه بغريب عند الموجد المبدع.
أما القوانين المعروفة في علم الخليقة فهي قد استخرجت ما نعهده ونشاهده وليست قوانين عقلية قامت البراهين على استحالة ما عداها كيف وأننا نرى في كل يوم ما يخالفها كالحيوانات التي لها أعضاء زائدة والتي تولد من غير جنسها، وترون ذكر ذلك في الجرائد ويعبرون عنه بفلتات الطبيعة، وهو إنما خالف ما نعرف لا ما يعلم الله تعالى. وما يدرينا أن لكل هذه الشواذ والفلتات سننا مطردة محكمة لم تظهر لنا. وكذلك شأن خلق عيسى فكونه على غير المعهود ليس مزية تقتضي تفضيله عليهم. فكيف تقتضي أن يكون إلها ؟ وإذا كان عيسى قد خلق من بعض جنسه فآدم قد خلق من غير جنسه، فهو أولى بالمزية لو كانت وبالإنكار إن صح، على أن ما نعرف من أمر الخلقية ليس لنا منه إلا الظاهر، نصفه ونقول به وإن لم نعقله، وماذا نعقل من الرابطة بين الحس والنطق في الإنسان مثلا ؟ بل ماذا نعقل من أمر حبة الحنطة في نبتها واستوائها على سوقها وتناسب أوراقها وغير ذلك ؟
" أن العاقب والسيد أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أن يلاعنهما فقال أحدهما لصاحبه : لا تلاعنه فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح أبدا ولا عقبنا من بعدنا. فقال له نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا فقال : قم يا أبا عبيدة فلما قام قال : هذا أمين هذه الأمة " ١.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء والضحاك عن ابن عباس " إن ثمانية من نصارى نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم العاقب والسيد فأنزل الله تعالى :﴿ قل تعالوا ﴾. فقالوا أخرنا ثلاثة أيام فذهبوا إلى قريظة والنضير وبني قينقاع فاستشاروهم فأشاروا عليهم أن يصالحوه ولا يلاعنوه وقالوا : هو النبي الذي نجده في التوراة. فصالحوا النبي صلى الله عليه وسلم على ألف حلة في صفر وألف في رجب ودراهم " وروي في الصلح غير ذلك. ومنها صالحوه على الجزية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما عليهم السلام والرضوان وخرج بهم وقال :" إن أنا دعوت فأمِّنوا أنتم " وفي رواية لمسلم والترمذي وغيرهما عن سعد قال :" لما نزلت هذه الآية ﴿ قل تعالوا ﴾ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا وقال : اللهم هؤلاء أهلي " ٢ وأخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه ﴿ قل تعالوا ندع أبناءنا ﴾ قال فجاء بأبي بكر وولده وبعمر وولده وبعثمان وولده وبعلي وولده. والظاهر أن الكلام في جماعة المؤمنين.
قال الأستاذ الإمام : الروايات متفقة على أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار للمباهلة عليا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة نساءنا على علي وفاطمة وكلمة أنفسنا على علي فقط ومصادر هذه الروايات الشيعة ومقصدهم منها معروف. وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من أهل السنة. ولكن واضيعها لم يحسنوا تطبيقها على الآية فإن كلمة " نساءنا " لا يقولها العربي ويريد بها بنته لا سيما إذا كان له أزواج ولا يفهم هذا من لغتهم. وأبعد من ذلك ان يراد بأنفسنا علي عليه الرضوان. ثم إن وفد النجران الذين قالوا إن الآية نزلت فيهم لم يكن معهم نساؤهم وأولادهم. وكل ما يفهم من الآية أمر النبي صلى الله عليه وسلم ان يدعو المحاجين والمجادلين في عيسى من أهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا ونساء وأطفالا ويجمع هو المؤمنين رجالا ونساء وأطفالا ويبتهلون إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب فيما يقول عن عيسى وهذا الطلب يدل على قوة يقين صاحبه وثقته بما يقول كما يدل امتناع من دعوا إلى ذلك من أهل الكتاب سواء كانوا نصارى نجران أو غيرهم على امترائهم في حجاجهم ومماراتهم فيما يقولون وزلزالهم فيما يعتقدون وكونهم على غير بينة ولا يقين. وأنى لمن يؤمن بالله أن يرضى بأن يجتمع مثل هذا الجمع من الناس المحقين والمبطلين في صعيد واحد متوجهين إلى الله تعالى في طلب لعنه وإبعاده من رحمته ؟ وأي جراءة على الله واستهزاء بقدرته وعظمته أقوى من هذا ؟
قال : أما كون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا على يقين مما يعتقدون في عيسى عليه السلام فحسبنا في بيانه قوله تعالى :﴿ من بعد ما جاءك من العلم ﴾ فالعلم في هذه المسائل الاعتقادية لا يراد به إلا اليقين وفي قوله :﴿ ندع أبناءنا وأبناءكم ﴾ إلخ وجهان أحدهما أن كل فريق يدعو أهله فنحن المسلمين ندعو أبناءنا ونساءنا وأنفسنا وأنتم كذلك ولا إشكال في وجه من وجهي التوزيع في دعوة الأنفس وإنما الإشكال فيه على قول الشيعة ومن شايعهم على القول بالتخصيص.
أقول : وفي الآية ما ترى من الحكم بمشاركة النساء للرجال في الاجتماع للمباراة القومية والمناضلة الدينية وهو مبني على اعتبار المرأة كالرجل في الأمور العامة إلا ما استثني منها ككونها لا تباشر الحرب بنفسها بل يكون حظها من الجهاد خدمة المحاربين كمداواة الجرحى. وقد علمنا ما تقدم أن الحكمة في الدعوة إلى المباهلة هي إظهار الثقة بالاعتقاد واليقين فيه، فلو لم يعلم الله أن المؤمنات على يقين في اعتقادهن كالمؤمنين لما أشركهن معهم في هذا الحكم. فأين هذا من حال نسائنا البوم، ومن اعتقاد جمهورنا فيما ينبغي أن يكن عليه ؟ لا علم لهن بحقائق الدين ولا بما بيننا وبين غيرنا من الخلاف والوفاق ولا مشاركة للرجال في عمل من الأعمال الدينية ولا الاجتماعية. فهل فرض الإسلام على نساء الأغنياء لا سيما في المدن أن لا يعرفن غير التطرس والتطرز والتورن وعلى نساء الفقراء لا سيما القرى والبوادي أن يكن كالأتن الحاملة والبقر العاملة ؟ وهل حرم على هؤلاء وأولئك علم الدنيا والدين، والاشتراك في شيء من شؤون العالمين ؟ كلا بل فسق الرجال عن أمر ربهم، فوضعوا النساء في هذا الموضع، بحكم قوتهم، فصغرت نفوسهن، وهزلت آدابهن، وضعفت ديانتهن، ونحفت إنسانيتهن، وصرن كالدواجن في البيوت، أو السوائم في الصحراء، أو السواني على السواقي والآبار، أو ذوات الحرث في الحقول والغيطان، فساءت تربية البنين والبنات، وسرى الفساد الاجتماعي من الأفراد إلى الجماعات، فعم الأسر والعشائر، والشعوب والقبائل، لبث المسلمون على هذا الجهل الفاضح أحقابا، حتى قام فيهم اليوم من يعيرهم باحتقار النساء واستعبادهن ويطالبونهم بتحريرهن ومشاركتهن في العلم والأدب وشؤون الحياة. منهم من يطالب بهذا اتباعا لهدى الإسلام وما جاء به من الإصلاح ومنهم من يطالب به تقليدا لمدنية أوروبا. وقد استحسنت الدعوة الأولى بالقول دون العمل وأجيبت الدعوة الأخرى بالعمل على ذم الأكثرين لها بالقول. فأنشأ المسلمون يعلمون بناتهم القراءة والكتابة وبعض اللغات الأوربية والعزف بآلات اللهو وبعض أعمال اليد كالخياطة والتطريز ولكن هذا التعليم لا يصحبه شيء من التربية الدينية ولا من إصلاح الأخلاق والعادات بل هو من عوامل الانقلاب الاجتماعي الذي تجهل عاقبته.
٢ أخرجه سلم في فضائل الصحابة حديث ٣٢، والترمذي في تفسير سورة ٣، باب ٧، والمناقب باب ٢٠..
لما بين جل شأنه القصص الحق في شأن عيسى والمختلفين فيه وأقام الحجة العقلية على الغالين فيه بجعله ربا وإلها ثم ألزمهم من طريق الوجدان أو الضمير كما يقال بما دعاهم إلى المباهلة لم يبق إلا أن يأمر نبيه بأن يدعوهم إلى الحق الواجب اتباعه في الإيمان وذلك قوله :﴿ قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ﴾. قال الأستاذ الإمام : الكلام من أول السورة في إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وسلم والرد على المنكرين. وقد ظهر بالدعوة إلى المباهلة انقطاع حجاج المكابرين ودل نكولهم عنها على أنهم ليسوا على يقين من اعتقادهم ألوهية المسيح وفاقد اليقين يتزلزل عند ما يدعى إلى شيء يخاف عاقبته. فلما نكلوا دعاهم إلى أمر آخر هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء وهو سواء بين الفريقين أي عدل ووسط لا يرجح فيه طرف على آخر.
وقد فسر بقوله :﴿ ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾ أقول المراد بهذا تقرير وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية وكلاهما متفق عليه بين الأنبياء فقد كان إبراهيم موحدا صرفا. وقد كان الأساس الأول لشريعة موسى قول الله له :" إن الرب إلهك لا يكن لك آلهة أخرى، أمامي لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق ومما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض، لا تسجد لهن ولا تعبدهن " وعلى هذا درج جميع أنبياء بني إسرائيل حتى المسيح عليه وعليهم الصلاة والسلام وهم لا يزالون ينقلون عنه في إنجيل يوحنا قوله :" وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفونك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته " وغير ذلك من عبارات التوحيد وكان يحتج على اليهود بعدم إقامتهم ناموس موسى ( شريعته ) وهو لم ينسخ من هذا الناموس إلا بعض الرسوم الظاهرة والتشديدات في المعاملة أما الوصايا العشر ورأسها التوحيد والنهي عن الشرك فلم ينسخ منها شيئا.
قال الأستاذ الإمام : المعنى أننا نحن وإياكم على اعتقاد أن العالم من صنع إله واحد والتصرف فيه لإله واحد، وهو خالقه ومدبره وهو الذي يعرفنا على ألسنة أنبيائه ما يرضيه من العمل وما لا يرضيه. فتعالوا بنا نتفق على إقامة هذه الأصول المتفق عليها ورفض الشبهات التي تعرض لها حتى إذا سلمنا ان فيما جاءكم من نبأ المسيح شيئا فيه لفظ ابن الله خرجناه جميعا على وجه لا ينقض الأصل الثابت العام الذي اتفق عليه الأنبياء. فإن سلمنا أن المسيح قال إنه ابن الله قلنا هل فسر هذا القول بأنه إله يعبد ؟ وهل دعا إلى عبادته وعبادة أمه، أم كان يدعو إلى عبادة الله وحده ؟ لا شك أنكم متفقون معنا على أنه كان يدعو إلى عبادة الله وحده والإخلاص له بالتصريح الذي لا يقبل التأويل.
وأقول : إن كلامه عن نفسه كان أكثره من باب الكناية أو المجاز، بل كان بعضه من قبيل المعميات والألغاز، حتى أن تلاميذه لم يكونوا يفهموه إلا بعد تفسيره. ولقد كان هذا التفسير يتأخر أحيانا إلى أمد بعيد ولفظ ابن الله أطلق في كتب العهد العتيق على إسرائيل وغيره فهو مجاز قطعا. أما هذه النزاعات الوثنية التي دخلت على الدين فقد دخلت بعده وليس لواضعيها سند من كلامه وإنما يروجونها بأقيسة باطلة جرى عليها كثير من الوثنيين من قبل ومن بعد كقول مشركي العرب ﴿ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ﴾ [ الزمر : ٣ ] وقولهم :﴿ هؤلاء شفعاؤنا عند الله ﴾
[ يونس : ١٨ ].
قلنا إن الآية قررت وحدانية الألوهية ووحدانية الربوبية فأما وحدانية الألوهية فهي قوله :﴿ أن لا نعبد إلا الله ﴾ وأكده بقوله :﴿ ولا نشرك به شيئا ﴾ والإله هو المعبود الذي توله العقول في معرفته وتدعوه وتصمد إليه لاعتقادنا أن السلطة الغيبية له وحده وأما وحدانية الربوبية فهي قوله :﴿ ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ﴾ فالرب هو السيد المربي الذي يطاع فيما يأمر وينهى. والمراد هنا من له حق التشريع والتحليل والتحريم كما ورد في حديث عدي بن حاتم قال :" أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب من ذهب، فقال يا عدي اطرح عنك هذا الوثن وسمعته يقرأ في سورة براءة :﴿ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ﴾ [ التوبة : ٣١ ] فقلت له يا رسول الله لم يكونوا يعبدونهم فقال : أليس يحرمون ما أحل الله فيحرمون ويحلون ما حرم الله فيستحلون ؟ فقلت بلى وسئل حذيفة رضي الله عنه عن الآية فأجاب بمثل ذلك.
قال الأستاذ الإمام : كان اليهود موحدين ولكن كان عندهم شيء هو منبع شقائهم في كل حين وهو اتباع رؤساء الدين فيما يقررونه وجعله بمنزلة الأحكام المنزلة من الله تعالى وجرى النصارى على ذلك وزادوا مسألة غفران الخطايا وهي مسالة تفاهم أمرها في بعض الأزمان حتى ابتلعت بها الكنائس أكثر أملاك الناس. ومن الغلو فيها ولدت مسألة البروتستانت إذ قاموا فقالوا هلم بنا نترك هؤلاء الأرباب من دون الله ونأخذ الدين من كتابه لا نشرك معه في ذلك قول أحد.
قال تعالى :﴿ فإن تولوا ﴾ وأعرضوا عن هذه الدعوة وأبوا إلا أن يعبدوا غير الله باتخاذ الشركاء الذين يسمونهم وسطاء وشفعاء واتخاذ الأرباب الذين يحلون لهم ويحرمون ﴿ فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ نعبد الله وحده مخلصين له الدين لا ندعو سواه ولا نتوجه إلى غيره في طلب نفع ولا دفع ضر ولا نحل إلا ما أحله ولا نحرم إلا ما حرمه. قال الأستاذ الإمام : الآية حجة على أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد ما لم يسنده إلى المعصوم. أقول يعني في مسائل الدين البحتة : العبادات والحلال والحرام. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر ؛ وهم رجال الشورى من أهل الحل والعقد. فما يقررونه يجب على حكام المسلمين أن ينفذوه وعلى الرعية أن يقبلوه. فما جرى عليه المقلدون من المسلمين من الأخذ بآراء بعض الفقهاء في العبادات والحلال والحرام هو عين ما أنكره كتاب الله تعالى على أهل الكتاب وجعله منافيا للإسلام بل جعل مخالفتهم فيه هي عين الإسلام فليعتبر المعتبرون. فإن هذه الآية أساس الدين المتين وأصله الأصيل ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بها أهل الكتاب إلى الإسلام كما ثبت في كتبه إلى هرقل والمقوقس وغيرهما وهذا نص كتابه صلى الله عليه إلى هرقل عاهل الروم كما في رواية البخاري :
بسم الله الرحمن الرحيم
" من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم اليريسيين و ﴿ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا تعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ﴾ الآية إلى آخرها.فلولا أن هذه الآية الكريمة أساس الدين وعموده لما جعلها آية الدعوة إلى الإسلام فهل يعذر من يؤمن بها إذا هو أدخل فيها باجتهاده ما ليس منها فاتخذ له أندادا يدعوهم لكشف الضر وجلب النفع زاعما أنهم وسائط يقربونه إلى الله زلفى ؛ ويشفعون له عنده في مصالح الدنيا، وهذا عين الإشراك في الألوهية بالاجتهاد الباطل، والقياس الفاسد، الذي يشبه به الخبير العليم، الرحمن الرحيم، بالملوك الجاهلين والأمراء المستبدين، ولا اجتهاد في العقائد، ولا قياس في أصل الإيمان، أم هل يعذر من يؤمن بها إذا هو اتخذ لنفسه أربابا سماهم العلماء الراسخين، أو الأئمة المجتهدين، فجعل كلامهم حجة في الدين، وشرعا متبعا في التحليل والتحريم، وذلك عين الإشراك في الربوبية، والخروج عن هداية الآية القرآنية، المؤيدة بمثل قوله تعالى :﴿ أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله ﴾ [ الشورى : ٢١ ] وقوله :﴿ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام ﴾ [ النحل : ١١٦ ] فالله تعالى قد حد الحدود وبين الحلال والحرام وسكت عن أشياء رحمة بنا غير نسيان منه عز وجل، ونهانا نبيه أإن نبحث عما سكت عنه وأن نزيد في الدين برأينا واجتهادنا وإنما أباح لنا الاجتهاد لاستنباط ما تقوم به مصالحنا في الدنيا فهذا هو هدى الآية وما يعقلها إلا العالمون.
﴿ أفلا تعقلون ﴾ أن المتقدم على الشيء لا يمكن أن يكون تابعا له. فإن خطر في بالك أيها القارئ أن هذا يرد على القرآن فاصبر نفسك معي إلى تفسير الآية الثالثة.
جاءت هذه الآيات بعد دعوة أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم والأنبياء لبيان حالهم في ذلك.
وقد قال المفسرون إن اليهود دعوا معاذا وحذيفة وعمارا إلى دينهم.
فأنزل الله :﴿ ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ﴾ الآية ولا شك أنهم كانوا أشد الناس حرصا على إضلال المؤمنين سواء دعوا بعض الصحابة إلى دينهم أم لا. وليس الإضلال خاصا بالدعوة بل كانوا يلقون ضروبا من الشك في النفوس ليصدوها عن الإسلام. من أغربها ما في الآية الآتية ( ٧٢ ). وكان النزاع بين الفريقين مستمرا وهو ما لا بد منه في وقت الدعوة وقد قال تعالى في بيان حال هذه الطائفة المضللة. ﴿ وما يضلون إلا أنفسهم ﴾.
قال الأستاذ الإمام : معناه أنهم بتوجههم إلى الإضلال واشتغالهم به ينصرفون عن النظر في طرق الهداية وما أوتيه النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات على كونه نبيا هاديا. فهم يعبثون بعقولهم ويفسدون فطرتهم باختيارهم ولا وجه لمن قال : إن معنى إضلال أنفسهم هو كون عاقبته شرا عليهم ووبالا في الآخرة لأنهم يعذبون عليه فإن الكلام في المحاجة وبيان اعوجاج طريقة المضلين وأما العقاب في الآخرة على الإضلال فهو مبين في مواضع من الكتاب وليس هذا محله وهو لا يفيد هنا في الاحتجاج لأنه إنذار لغير مؤمن بالنذير. ولكل مقام مقال.
أقول : وقد أورد الرازي نحو ما قاله الأستاذ الإمام ووجها ثالثا هو أنهم لما اجتهدوا في إضلال المؤمنين ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم صاروا خائنين خاسرين حيث اعتقدوا شيئا ولاح لهم أن الآمر بخلاف ما تصوروه. ولكن ينافي هذا قوله " وما يشعرون " وهم قد شعروا بخيبتهم في الإضلال ولكنهم لانهماكهم فيه لم يشعروا بأنه كان صارفا لهم عن معرفة الحق والهدى لأن المنهمك في الشيء لا يكاد يفطن لعواقبه وآثاره.
والآية حجة على الحشوية المقلدين من هذه الأمة الذين يخلطون الحق المنزل بآراء الناس ويجعلون كل ذلك دينا سماويا وشرعا إلهيا.
وقال الأستاذ الإمام : هذا النوع الذي تحكيه الآية من صد اليهود عن الإسلام مبني على قاعدة طبيعية في البشر وهي أن من علامة الحق أن لا يرجع عنه من يعرفه. وقد فقه هذا هرقل صاحب الروم فكان مما سأل عنه أبا سفيان من شؤون النبي صلى الله عليه وسلم عندما دعاه إلى الإسلام " هل يرجع عنه من دخل في دينه ؟ فقال أبو سفيان : لا " وقد أرادت هذه الطائفة أن تغش الناس من هذه الناحية ليقولوا لولا أن أظهر لهؤلاء بطلان الإسلام لما رجعوا عنه بعد أن دخلوا فيه، واطلعوا على باطنه وخوافيه، إذ لا يعقل أن يترك الإنسان الحق بعد معرفته، ويرغب عنه بعد الرغبة فيه بغير سبب.
فإن قيل : إن بعض الناس قد ارتدوا عن الإسلام بعد الدخول فيه رغبة لا حيلة ومكيدة، كما كاد هؤلاء، فماذا تقول في هؤلاء ؟ والجواب عن هذا يرجع إلى قاعدة أخرى، وهي أن بعض الناس قد يدخل في الشيء رغبة فيه لاعتقاده أن فيه منفعة له لا لاعتقاده أنه حق في نفسه، فإذا بدا له في ذلك ما لم يكن يحتسب وخاب ظنه في المنفعة فإنه يترك ذلك الشيء، ويظهر لي أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بقتل المرتد إلا لتخويف أولئك الذين كانوا يدبرون المكايد لإرجاع الناس عن الإسلام بالتشكيك فيه، لأن مثل هذه المكايد إذا لم يكن لها أثر في نفوس الأقوياء من الصحابة الذين عرفوا الحق ووصلوا فيه إلى عين اليقين، فإنها قد تخدع الذين يدخلون في الإسلام لتفضيله على الوثنية في الجملة قبل أن تطمئن قلوبهم بالإيمان كالذين كانوا يعرفون بالمؤلفة قلوبهم. وبهذا يتفق الحديث الآمر بذلك مع الآيات النافية للإكراه في الدين والمنكرة له فيما رأى. وقد أفتيت بذلك كما ظهر لي والله أعلم.
[ العنكبوت : ٢٦ ] وقال حكاية عن إخوة يوسف :﴿ وما أنت بمؤمن لنا ﴾ [ يوسف : ١٧ ] وقال الأستاذ الإمام : إن الإيمان يتعدى باللام إذا أريد بالتصديق الثقة والركون كقوله :﴿ ويؤمن للمؤمنين ﴾ أي فيكون تصديقا خاصا تضمن معنى زائدا. وذلك أن اليهود حصروا الثقة بأنفسهم لزعمهم أن النبوة لا تكون إلا فيهم بل غلوا في التعصب والغرور حتى حقروا جميع الناس فجعلوا كل ما يكون من أنفسهم حسنا وما يكون من غيرهم قبيحا. وهذا من الانتكاس الذي يحول بين أهله وبين كل خير.
وإننا نرى من الناس من يحاول تغرير قومه بحملهم على أن يكونوا كذلك يحقرون كل ما لم يأت منهم وإن كان حسنا. فنعوذ بالله من الخذلان وعسى أن يعتبر هؤلاء بما رد الله به على أهل الكتاب إذ قال لنبيه :﴿ قل إن الهدى هدى الله ﴾ لا هدى شعب معين هو لازم من لوازم ذاته فهو سبحانه يبين هداه على لسان من شاء من عباده لا تتقيد مشيئته بأحد ولا بشعب. أما قوله :﴿ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم به عند بربكم ﴾ وقد قرأه ابن كثير " أآن " بهمزتين مع تليين الثانية والباقون بهمزة واحدة ففيه وجهان : أحدهما : أنه متصل بما حكاه تعالى من قول اليهود وجملة " قل إن الهدى هدى الله " اعتراضية بينه وبين ما سبقه. والمعنى ولا تصدقوا غير من تبع دينكم بأن أحدا يؤتى مثل ما أوتيتم أو يقيموا عليك الحجة عند ربكم، أي لا تعترفوا أمام العرب مثلا بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بني إسرائيل إلخ وهذا مبني على أنهم كانوا ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلى الله عليه وسلم لا اعتقادا وأنهم كانوا لا يصرحون باعتقاده المستكن في أنفسهم إلا لمن آمنوا له من قومهم لما هم عليه من المكر والمخادعة. وهذا الوجه ظاهر على قراءة الجمهور. هذا ما ظهر لي وهو نحو ما جرى عليه الزمخشري في الكشاف كما رأيته بعد قال : أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا : أسروا تصديقك بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام. ( قال ) " أو يحاجوكم عند ربكم " عطف على " أن يؤتى " والضمير في يحاجوكم لأحد في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. فإن قلت فما معنى الاعتراض ؟ قلت معناه أن الهدى هدى الله من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان كذلك ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيفكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين. وكذلك قوله تعالى :﴿ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ يريد الهداية والتوفيق اه كلام الزمخشري. أي فهو مؤكد للاعتراض الأول أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام. كقوله :﴿ وكذلك يفعلون ﴾ بعد قوله :﴿ إن الملوك إذ دخلوا قرية أفسدوها ﴾ [ النمل : ٣٤ ].
قال النيسابوري فإن قيل إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار بما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب ؟ فالجواب ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم بل المراد أنه إن اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم. على أنه يحتمل أن يكون شائعا ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان عن غيرهم. هذا ما قاله وهو مبني على أن المراد من الإيمان إظهاره والظاهر أن المراد به النهي عن تصديق من يقول ذلك من غيرهم أي الاعتراف له بأنه صادق كأنهم قالوا إذا قال لكم قائل إنه يجوز أن يؤتى غيركم من النبوة ما أوتيتم فكذبوه ولا تؤمنوا له. والمفهوم مسكوت عنه وهو مفهوم مخالفة، فيه من الخلاف في الأصول ما هو مشهور وإذا قلنا به فإنه يصدق بأن يؤمنوا لبعض أهل دينهم إذا قالوا بهذا الجواز كالمتفقين معهم على المكابرة والمكايدة للتنفير عن الإسلام. وأهل الجحود والكيد لا يكابد بعضهم بعضا فيما هو حجة للمخالف عليهم جميعا وإنما يكابرون المخالفين.
ثم قال النيسابوري : فإن قيل كيف وقع قوله " قل إن الهدى هدى الله " بين جزئي كلام واحد وهذا لا يليق بكلام الفصحاء ؟ قلت قال القفال يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيا أن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحد كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله، أو لا إله إلا الله، أو تعالى الله، ثم يعود إلى تلك الحكاية اه.
أقول : ويجوز على هذا الوجه أن تكون الباء المحذوفة من " أن يؤتى " للسببية ويكون المعنى آمنوا وجه النهار مخادعة واكفروا آخره مكايدة ولا تؤمنوا إيمانا حقيقا ثابتا إلا لمن تبع دينكم وأقركم على ما أنت عليه من التوراة بسبب إتيان أحد كمحمد صلى الله عليه وسلم مثل ما أوتيتم من النبوة والوحي أو بسبب ما يخشى من محاجته لكم عند ربكم في الآخرة. والسببية معلقة بالنهي، أي لا يكون إتيان محمد بدين حق وشرع إلهي كالذي أوتيتموه على لسان موسى سببا في الإيمان له.
وأما قراءة ابن كثير بالاستفهام : فأقرب ما تفسر به على هذا الوجه أي وجه كون الكلام حكاية عن اليهود أن يقال : إن المصدر الذي يؤخذ من " أن يؤتى " مبتدأ خبر محذوف للعلم به من قرينة الحال والخطاب. والمعنى أإتيان أحد بمثل ما أوتيتم يحملكم على الإيمان له وإن لم يتبع دينكم ؟ أي إن هذا منكر لا ينبغي أن يكون. ولم أر هذا ولا ما قبله لأحد.
الوجه الثاني : أن يكون قوله " أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم " من كلام الله تعالى بناء على أن حكاية كلام اليهود قد انتهت بقوله " دينك " وعلى هذا تكون قراءة ابن كثير أظهر. وتقرير المعنى عليها : أتكيدون هذا الكيد كراهة أن يؤتى أحد ما أوتيتم ؟ أو : أإيتاء أحد مثل ما أوتيتم يحملكم على ذلك الباطل ؟ ويحتمل على هذا أن يكون قوله " أو يحاجوكم " بمعنى حتى يحاجوكم إذ وردت " أو " بمعنى " حتى " أو بمعنى الواو كما قيل. أو التقدير الأجل أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ولما يتصل بذلك محاجتكم عند ربكم كدتم ذلك الكيد ؟ ينكر عليهم ذلك.
وأما قراءة الجمهور فيجوز أن تحمل على هذه القراءة لأن أداة الاستفهام يجوز حذفها استغناء عنها بلحن القول وكيفية الأداء. ويجوز فيها وجوه أخرى أظهرها أن يكون المعنى : قل إن الهدى الذي هو هدى الله هو أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ويحاجوكم به عند ربكم في الآخرة، أي وذلك جائز داخل في مشيئة الله فلا وجه لإنكاره ولذلك أعقبه بقوله ﴿ قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ﴾ فالكلام كله رد عليهم من الله تعالى. وأقوى هذه الوجوه ما يوافق القراءتين وهو ان قوله تعالى " قل إن الهدى " إلى آخر الآية رد عليهم وإن قوله " أن يؤتى " استفهام إنكاري على القراءتين. والمعنى : أتفعلون ما تفعلون من الكيد للمؤمنين ومن كتمان الحق عن غير أبناء دينكم كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلخ.
وعندي أن في الكلام لفا ونشرا مرتبا، وهو أن كراهتهم أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا هو سبب كيدهم للمؤمنين ليرجعوا، وكراهتهم أن يحاجهم بعض المؤمنين عند ربهم هو سبب كتمانهم ذلك عمن لم يتبع دينهم أو عدم الإيمان لهم إذا هم ادعوه. ويشهد لهذا الأخير قوله تعالى حكاية عنهم :﴿ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم ﴾ [ البقرة : ٧٦ ] هذا ما فتح الله علي به وله الحمد. وما عدا هذا مما أكثروا فيه فانتزاع بعيد من البلاغة لا يقبله الذوق إلا باستكراه وتكلف.
وختم الآية بقوله :﴿ والله واسع عليم ﴾ لبيان سعة فضله وإحاطة علمه بالمستحق له وللإشعار بأن اليهود قد ضيقوا بزعمهم حصر النبوة فيهم هذا الفضل الواسع وجهلوا كنه هذا العلم المحيط.
هذا بيان حال أخرى من أحوال أهل الكتاب، تمثلها طائفة أخرى تخون الأمانة وتستحب أكل أموال من ليس من الإسرائيليين بالباطل، غرورا في الدين وتأويلا للكتاب. وهي قد جاءت في مقابل الطائفة التي تكيد للمسلمين ليرجعوا عن دينهم. وقال الأستاذ الإمام في قوله :﴿ ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك ﴾ الخ هذه الآية جاءت ببعض التفصيل لما أجمل في الآيات السابقة من غرور أهل الكتاب وزعهم أنهم شعب الله الخاص، وأن الدين والحق من خصائصهم. وابتداؤها بالعطف يشعر بمعطوف محذوف حذف إيجازا، لأن السياق لا يقتضي ذكره وهو مبين في آيات أخرى كقوله تعالى :﴿ من أهل الكتاب أمة قائمة ﴾ [ آل عمران : ١١٣ ] الخ فكأنه ههنا يعطف على ما هنالك أي منهم كذا ومنهم كذا. وإنما قال : كأنه لأن آية " من أهل الكتاب " الخ في هذه السورة وهي متأخرة عن هذه الآيات. ولعل جعله معطوفا على ما قبله باعتبار المفهوم أقرب، فكأنه قال منهم طائفة تكيد للمسلمين ومنهم من يستحل أكل أموالهم وأموال غيرهم، وقد أرشدنا إلى ذلك آنفا وإنما أعاد ذكر " أهل الكتاب " ولم يبتدئ الآية بقوله " ومنهم " والكلام فيهم للإشعار بأنهم فعلوا ذلك باسم الكتاب الذي حرفوا نهيه عن أكل أموال الناس بالباطل فزعموا أنه لم ينههم إلا عن خيانة إخوتهم الإسرائيليين. وقد تقدم تفسير القنطار ( آية ١٤ ).
وقوله :﴿ إلا ما دمت عليه قائما ﴾ معناه إلا مدة دومك أيها المؤتمن له قائما على رأسه تلح بالمطالبة، أو تلجأ إلى التقاضي والمحاكمة، ﴿ ذلك بأنهم قالوا ليس علينا الأميين سبيل ﴾ أي ذلك الترك للأداء بسبب قولهم ليس علينا في أكل أموال الأميين أي العرب تبعة ولا ذنب. فكأنه يقول إن استحلال هذه الخيانة جاءهم من الغرور بشعبهم والغلو في دينهم، فإن ذلك يستتبع احتقار المخلف احتقارا يهضم به حقه الثابت في المعاملة. قال الأستاذ الإمام : كأنهم يقولون : إن كل من ليس من شعب الله الخاص وليس من أهل دينه فهو ساقط من نظر الله ومبغوض عنده، فلا حقوق له ولا حرمة لماله، فيحل أكله متى أمكن.
وقد رد الله عليهم هذه المزاعم بقوله :﴿ ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ أن ذلك كذب عليه لأن ما كان منه فهو ما جاء في كتابه، وليس في التوراة التي عندهم إباحة خيانة الأميين وأكل أموالهم بالباطل وهم يعلمون أن ذلك ليس فيها ولكنهم لا يأخذون الدين من الكتاب وإنما لجؤوا إلى التقليد فعدوا كلام أحبارهم دينا ينسبونه إلى الله، وهؤلاء يقولون في الدين بآرائهم ويحرفون الكلم عن مواضعه ليؤيدوا بذلك أقوالهم. فكل هذه الدواهي جاءتهم من هذه الناحية : ناحية التقليد والأخذ بكلام العلماء في الحلال والحرام، وهو مما لا يؤخذ فيه إلا بكتاب الله ووحيه. وانظر كيف أنصفهم الكتاب فبين أن منهم الوفي والخائن ولا يكون أفراد جميع الأمة خائنين وناهيك بأمة منها السموأل.
أقول : وفي خبر هؤلاء المحرفين من العبرة لنا معشر المسلمين ما فيه، فإن فينا من يقول الآن إنه يجوز أكل أموال غير المسلمين بل والمسلمين في دار الحرب مطلقا ثم إن هؤلاء يفسرون دار الحرب كما يشاؤون حتى رأيت بعض الناس يحلون لعمال مركبات الترام بمصر أن يخونوا أصحابها بيبع تذكرة الركوب فيها مرتين أو أكثر ويساعدونهم على ذلك وإن استلزمت مساعدتهم الكذب فهم بهذا يحلون الخيانة والسرقة والكذب وهي من كبائر المعاصي التي لا تحل في دين ويتناولهم وعيد اليهود في الآية ووعيد قوله تعالى :﴿ ولا تقربوا لما تصف ألسنتهم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون * متاع قليل ولهم عذاب أليم ﴾ [ النحل : ١١٦ ١١٧ ] ما جرأهم على ذلك إلا سوء التقليد للفقهاء الذين قالوا بجواز أكل مال الحربي في داره بالعقود الفاسدة التي لا تحل في دار الإسلام كالربا والبيع والفاسد. ولكن هؤلاء الفقهاء لا يحلون الغش ولا الخيانة ولا السرقة ولا الكذب والاحتيال لذلك، وإنما يقولون يجوز أكل ماله برضاه في مثل تلك العقود، على أن المسألة خلافية لم يتفق الفقهاء عليها. فلينظر المسلم الصادق المستنير بالدليل إلى سوء مغبة التقليد وكيف أنه استلزم الاجتهاد الباطل إذ صار الجاهلون المقلدون يقيسون أكل المال بالغش والخيانة والسرقة على أكله بالعقود الفاسدة مع التراضي وبينهما فرق عظيم.
ولفظ " بلى " جاءت لإثبات ما نفوه في قولهم ﴿ ليس علينا في الأميين سبيل ﴾ فهو يقول بلى عليكم سبيل وأي سبيل، إذ فرض عليكم الوفاء بالعهد والتقوى ثم ذكر جزاء أهل الوفاء والتقوى فقال من أوفى بعهده الذي عاهد به الله أو الناس واتقى الإخلاف والغدر والاعتداء فإن الله يحبه فيعامله معاملة المحبوب بأن يجعله محل عنايته ورحمته في الدنيا والآخرة.
قال الأستاذ الإمام ما معناه : إن ورود الجواب بهذه العبارة أفادنا قاعدة عامة من قواعد الدين، وهي أن الوفاء بالعهود واتقاء الإخلاف وسائر المعاصي والخطايا هو الذي يقرب العبد من ربه، ويجعله أهلا لمحبته، لا كونه من شعب كذا. ومن هذه القاعدة يعلم خطأ اليهود في زعمهم أنه ليس عليهم في الأميين سبيل. وفيه تعريض بأن أصحاب هذا الرأي ليسوا من أهل التقوى التي هي الركن الركين لكل دين قويم.
وأخرج ابن جرير عن عكرمة أن الآية نزلت في حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وغيرهما من اليهود الذين كتموا ما أنزل الله في التوراة وبدلوه وحلفوا أنه من عند الله. قال الحافظ ابن حجر : والآية محتملة ولكن العمدة في ذلك ما ثبت في الصحيح اه من لباب النقول. ويحتمل أن الآية كانت تذكر عند ذكر تلك الوقائع فيظن من لم يكن سمعها أنها نزلت فيها، وهي على كل حال متصلة بما قبلها متممة له.
والأيمان فيها جمع يمين وهو في الأصل اسم لليد التي تقابل الشمال ثم سمي الحلف والقسم يمينا لأن الحالف في العهد يضع يمينه في يمين من يعاهده عند الحلف لتأكيد العهد وتوثيقه، حتى إن اللفظ يطلق على العهد نفسه. وقد أضاف العهد ههنا إلى الله لأنه تعالى عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء بما يتعاهدون ويتعاقدون عليه وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ويتقوه في جميع الأمور. فعهد الله يشتمل كل ذلك. ولما كان الناكث للعهد لا ينكث إلا لمنفعة يجعلها بدلا منه عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة، وسمى العوض ثمنا قليلا مع العلم بأن بعض الناس لا ينكثون العهد في الأمور الكبيرة إلا إذا أوتوا عليه أجرا كبيرا وثمنا كثيرا، لأجل أن يبين للناس أن كل ما يؤخذ بدلا من عهد الله فهو قليل، لا سيما إذا أكد باليمين، لأن العهود إذا خزيت اختل أمر الدين ؛ إذ الوفاء آيته البينة بل محوره الذي عليه مداره، وفسدت مصالح الدنيا إذ تبطل ثقة الناس بعضهم ببعض، والثقة روح المعاملات وسلك النظام وأساس العمران، لأجل هذا كان الوعيد على نكث العهد ولو لأجل المنفعة أشد ما نطق به الكتاب وأغلظه. وأي عقاب أشد من عقاب من لا خلاق له في الآخرة أي لا نصيب له من النعيم فيها ولا يكلمه الله كلام إعتاب ولا ينظر عطف ورحمة ولا يزكيه بالثناء على عمل له صالح أو لا يطهره من ذنوبه بالعفو والمغفرة وله عذاب أليم ؟ لم يكتف تعالى بحرمان بائعي العهد بالثمن من النعيم وبما أعد لهم من العذاب الأليم حتى بين مع ذلك أنهم يكونون في دركة من الغضب الإلهي لا ترجى لهم فيها رحمة ولا يسمعون منه تعالى كلمة عفو ولا مغفرة فعدم النظر والكلام كناية عن عدم الاعتداد ومنتهى الغضب الذي لا رجاء معه ولا أمل.
إن الزنا وشرب الخمر والميسر والربا وعقوق الوالدين من الكبائر. ولكن الله تعالى لم يتوعد مرتكبي هذه الموبقات بمثل ما توعد به ناكثي العهود وخائني الأمانات، لأن مفاسد النكث والخيانة أعظم من جميع المفاسد التي حرمت لأجلها تلك الجرائم فما بال كثير من الناس يدعون التدين ويتسمون بسمة الإسلام وهم لا يبالون بالعهود ولا يحفظون الأيمان ويرون ذلك صغيرا من حيث يكبرون أمر المعاصي التي لم يتعودوها لأنهم لم يتعودوها. الإيمان بالله لا يجتمع مع الخيانة والنكث في نفس. وقد عد تعالى أخص وصف لزعماء الكفر يبيح قتالهم كونهم لا وفاء لهم بالعهود إذ قال :﴿ فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ﴾ [ التوبة : ١٢ ] وقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" آية المنافق ثلاث وفي رواية لمسلم : وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " ٢ رواه الشيخان وغيرهما وفي رواية لهما " وإذا عاهد غدر " ٣ وروى أحمد والبزار والطبراني في الأوسط عن أنس رضي الله عنه أنه قال : ما خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقال :" لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له " ٤.
٢ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤، والشهادات باب ٢٨، والوصايا باب ٨، والأدب باب ٦٩، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٧، ١٠٨، والترمذي في الإيمان باب ٢٠، وأحمد في المسند ٢/٢٠٠، ٢٩١، ٣٥٧، ٣٩٧، ٥٣٦..
٣ أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢٤، والمظالم باب ١٧، ومسلم في الإيمان حديث ١٠٦، وأبو داود في السنة باب ١٥، والترمذي في الإيمان باب ١٤، والنسائي في الإيمان باب ٢٠، وأحمد في المسند ٢/١٨٩، ١٩٨..
٤ أخرجه أحمد في المسند ٣/١٣٥، ١٥٤، ٢١٠، ٢٥١..
قوله تعالى :﴿ وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب ﴾ بيان لحال طائفة أخرى من أهل الكتاب والجمهور. على أن المراد بهذا الفريق بعض علماء اليهود الذين كانوا حوالي المدينة وإن كان التشنيع عليهم يتناول كل من كان على شاكلتهم منهم ومن غيرهم. ويروون عن ابن عباس
( رضي الله عنهما ) أن هذا الفريق هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف أحد زعمائهم الملحين في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإيذائه والإغراء به، غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم وجعلوا يلوون ألسنتهم بقراءته يوهمون الناس أنه من التوراة. وهذا العمل ينبئ بفساد اعتقادهم وعدم استمساكهم بكتابهم. وذلك أنهم جعلوا الدين جنسية وصار الانتصار له عندهم عبارة عن مقاومة من لم يكن من جنسهم وإن كان أقرب منهم إلى ما جاء في كتابهم بل إنهم يخرجون عن كتابهم ويحرفونه لمقاومة الغريب ويعدون ذلك انتصارا له.
وهكذا يفعل أشباههم من المسلمين اليوم. فقد يعدون من أنصار الدين والمتعصبين له من لا معرفة له بعقائده وأصوله ولا بفروعه إلا ما هو مشهور عند العامة. ولا هو يعمل بما يعلم من ذلك وإنما يعدونه كذلك إذا هو عادى من لا يعدون من المسلمين ولو بسبب سياسي أو دنيوي لا علاقة له بالإسلام. بل يعدون من أنصار الدين من يطعن في بعض المصلحين من المسلمين لمخالفتهم ما عليه العامة، والمقلدون فيما يعدونه من الإسلام لأنهم اعتادوه لا لأن كتاب الله جاء به. وقد يحرفون القرآن بالتأويل لتأييد تقاليدهم وبدعهم أو يعرضون عنه اعتذارا بأنهم غير مطالبين بأخذ دينهم منه بل من كلام العلماء.
أما لَيُّ اللسان بالكتاب فهو فتله للكلام وتحريفه بصرفه عن معناه إلى معنى آخر. وقد وصف تعالى به اليهود في سورة النساء بقوله :﴿ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا وأسمع غير مسمع وراعنا ليا بألسنتهم وطعنا في الدين ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم وأقوم ﴾ [ النساء : ٤٦ ] فهذا مثال من لي اللسان بالكلام وإن لم يكن من الكتاب، ذلك أنهم وضعوا كلمة " غير مسمع " مكان جملة " لا أسمعت مكروها " الدعائية التي تقال عادة عند ذكر السماع. وكلمة " راعنا " مكان كلمة " انظرنا " التي يقولها الناس لمن يطلبون معونته ومساعدته وإنما قالوا " غير مسمع " لأنها تستعمل في الدعاء على المخاطب بمعنى " لا سمعت " وقالوا :" راعنا " لأن هذه الكلمة عبرانية أو سريانية كانوا يتسابون بها كما قال المفسرون وسيأتي تفصيل ذلك في محله.
ومثل هذا ما ورد في كتب الحديث والسير من أنهم كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يمضغون كلمة السلام فيخفون اللام قائلين
" السام عليكم " غير مفصحين بالكلمة والسام الموت. فاللي والتحريف قد كان يكون منهم أحيانا بتغيير في اللفظ وأحيانا بصرفه إلى غير المعنى المراد منه، ومنه أن يقرأ القارئ شيئا بالكيفية التي يقرأ بها الكتاب من جرس الصوت وطريقة النغم وإظهار الخشوع ليحسبه السامع من الكتاب فيقبله، ولا أذكر أن أحدا نبه عليه ولفظ اللي يتناوله وهو مما يتبادر إلى أذهان الموهمين. وقد رأينا من المتساهلين في المسلمين من يأتيه مازحا بأن يقرأ من كتاب ما جملا بالتجويد الذي يقرأ به القرآن ليوهم الجاهل أو يختبره. ويروى أن عبد الله بن رواحة أوهم امرأته بمثل ذلك وهو مما لا يصدق على صحابي جليل مثله.
قال الأستاذ الإمام : هذا اللي هو أن يعطي الناس للفظ معنى آخر غير المعنى الذي يظهر منه. مثال ذلك الألفاظ التي جاءت على لسان سيدنا عيسى عليه السلام ككلمة ابن الله وتسمية الله أبا وأبا للناس فقد كان ذلك استعمالا مجازيا، ولواه بعضهم فنقله إلى الحقيقة بالنسبة إلى المسيح وحده أي فهم يفسرون لفظا بغير معناه المراد في الكتاب يوهمون الناس أن الكتاب جاء بذلك كما قال :﴿ لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ﴾ أنهم كاذبون. أكد الخبر بتعمدهم التحريف وسجل الكذب الصريح عليهم، كأنه يقول إنهم لا يعرضون ولا يورون وإنما يصرحون بالكذب تصريحا لفرط جراءتهم وعدم خوفهم من الله تعالى. لأن الدين عندهم رسم ظاهر وجنسية هي مصدر الغرور، إذ يعتقدون أنهم يغفر لهم جميع ما يجترمون لأنهم من أهل هذا الدين، ومن سلالة أولئك النبيين، وهكذا حال الذين اتبعوا سننهم من المسلمين، يقولون إن المسلم من أهل الجنة حتما، مهما كانت سيرته سيئة وعمله قبيحا. فإن لم تدركه الشفاعات أدركته المغفرة، ويعنون بالمسلم من اتخذ الإسلام جنسا له. وإن لم يصدق عليه ما جاء في الكتاب والأحاديث من صفات المؤمنين الصادقين، بل صدق عليه ما جاء في وصف الكافرين والمنافقين.
أخرج أبو إسحاق والبيهقي عن ابن عباس قال : قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ؟ قال :" معاذ الله " فأنزل الله في ذلك :﴿ ما كان لبشر ﴾ إلى قوله ﴿ مسلمون ﴾ وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن الحسن قال : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أفلا نسجد لك ؟ قال :" لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله، فإنه لا ينبغي أن يُسجد لأحد من دون الله " فأنزل الله :﴿ ما كان لبشر ﴾. ذكر ذلك السيوطي في لباب النقول.
وقال الأستاذ الإمام : إن ما روي من أن بعض الصحابة طلب أن يسجدوا للرسول هو من الروايات التي لم يق الله المسلمين شرها ولا حاجة إليها في القرآن. فإن الآية متصلة بما قبلها فهي في سياق الرد على أهل الكتاب إبطال لما ادعاه بعضهم من أن لله تعالى ابنا أو أبناء حقيقة، وأن بعض الأنبياء أثبت ذلك لنفسه. وصرح بأن هذه الدعوى مما يدخل في لي اللسان بالكتاب وتحريفه بالتأويل. ويصح أن يكون ردا على أصحاب هذه الدعوى ابتداء مستأنفا بيانيا كأن النفس تتشوف بعد بيان حال فرق اليهود إلى بيان حال النصارى وما يدعون في المسيح فجاءت الآيتان في ذلك.
فقوله :﴿ ما كان لبشر ﴾ نفي للشأن وهو أبلغ من نفي الوقوع خاصة، لأنه نفي للوقوع مع بيان السبب والدليل، وهو أن هذا غير ممكن ﴿ أن يؤتيه الله الكتاب والحكم ﴾ به والعمل بإرشاده. قال في الكشاف : الحكم الحكمة التي هي السنة. ووافقه الأستاذ الإمام قائلا : إن عبارات الكتاب ربما تذهب النفس فيها مذاهب التأويل فالعمل هو الذي يقرر الحق فيها. وقد تقدم عنه تفسير الحكمة بفقه الكتاب ومعرفة أسراره وأن ذلك يستلزم العمل به. وإنما قال :﴿ والنبوة ﴾ بعد قوله يؤتيه الله الكتاب لأن المرسل إليهم يقال إنهم أوتوا الكتاب ﴿ ثم يقول للناس كونوا عباد لي ﴾ العباد : جمع عبد بمعنى عابد والعبيد جمع له بمعنى مملوك أي بأن تتخذوني إلها أو ربا لكم ﴿ من دون الله ﴾ أي كائنين لي من دون الله، أو كونوا عابدين لي من دونه. وقيل معناه حال كونهم متجاوزين الله تعالى أي متجاوزين ما يجب من إفراده بالعبادة وتخصيصه بالعبودية. وقطع أبو السعود بأن ذلك يصدق بعبادة غيره استقلالا أو اشتراكا. وله عندي وجهان :( أحدهما ) أن العبادة الصحيحة لله تعالى لا تتحقق إلا إذا خلصت له وحده فلم تشبها شائبة ما من التوجه إلى غيره كما قال :﴿ قل الله أعبد مخلصا له ديني ﴾ [ الزمر : ١٤ ] وقال :﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ﴾ [ البينة : ٥ ] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
فمن دعا إلى عبادة نفسه فقد دعا الناس إلى أن يكونوا عابدين له من دون الله وإن لم ينههم عن عبادة الله، بل وإن أمرهم بعبادة الله. ومن جعل بينه وبين الله واسطة في العبادة كالدعاء فقد عبد هذه الواسطة من دون الله لأن هذه الوساطة تنافي الإخلاص له وحده. ومتى انتفى الإخلاص انتفت العبادة ولذلك قال :﴿ فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم ﴾ [ الزمر : ٢ ] فلم يمنع توسلهم بالأولياء إليه تعالى أن يقول إنهم اتخذوهم من دونه. ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم :
" قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه وفي رواية فأنا منه بريء، هو للذي عمل له " ١ رواه مسلم وغيره وقوله صلى الله عليه وسلم :" إذا جمع الله الناس يوم القيامة ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله. فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " رواه أحمد٢.
و( الوجه الثاني ) إن من يتوجه بعبادته إلى غير الله تعالى على أنه وسيلة إليه ومقرب منه وشفيع عنده، أو على أنه متصرف بالنفع ودفع الضر لقربه منه فتوجهه هذا إليه عبادة له مقدرة بقدرها فهو عبد له في هذا القدر من التوجه إليه من دون الله. وهذا الوجه معقول في نفسه، والأول أقوى لأن النصوص مؤيدة له. وقد غفل عنه من أجازوا للعامة اتخاذ أولياء يتوجهون إليهم بالدعاء وطلب الحاجات ويسمون ذلك توسلا بهم إلى الله وإنما هو عبادة لهم من دون الله. ففي الحديث الصحيح " الدعاء هو العبادة " وتلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :﴿ وقال ربكم ادعوني ﴾ ٣ [ غافر : ٦٠ ] رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم.
﴿ ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ﴾ أي ولكن يأمرهم النبي الذي أوتي الكتاب والحكم بأن يكونوا منسوبين إلى الرب مباشرة من غير توسطه هو ولا التوسل بشخصه وإنما يهديهم إلى الوسيلة الحقيقية الموصلة إلى ذلك وهي تعليم الكتاب ودراسته. فبعلم الكتاب وتعليمه والعمل به يكون الإنسان ربانيا مرضيا عند الله تعالى. فالكتاب هو واسطة القرب من الله تعالى، والرسول هو الواسطة المبلغة للكتاب كما قال تعالى :﴿ إن عليك إلا البلاغ ﴾ [ الشورى : ٤٨ ] فلا يمكن لأحد أن يتقرب إلى الله بشخص الرسول بل بما جاء به الرسول
( راجع تفسير آية ٣١ ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعون يحببكم الله ﴾ ) والآيات المقررة لهذه الحقيقة كثيرة جدا.
قال الأستاذ الإمام ما مثاله مفصلا : أفادت الآية أن الإنسان يكون ربانيا بعلم الكتاب ودرسه وبتعليمه للناس ونشره. ومن المقرر أن التقرب إلى الله تعالى لا يكون إلا بالعمل والعلم، والعلم الذي لا يبعث إلى العمل لا يعد علما صحيحا. لأن العلم الصحيح ما كان صفة للعالم وملكة راسخة في نفسه، وإنما الأعمال آثار الصفات والملكات، والمعلم يعبر عما رسخ في نفسه. ومن لم يحصل من علم الكتاب إلا صورا وتخيلات تلوح في الذهن ولا تستقر في النفس لا يمكنه أن يكون معلما له يفيض العلم على غيره، كما أنه لا يكون عاملا به على وجهه كما ثبت بالمشاهدة والاختبار أي في نحو العلوم الفنية. فإن من لا يعرف من الهندسة إلا بعض الاصطلاحات والمسائل الناقصة لا يمكنه أن يكون مهندسا بالفعل ولا أن يكون معلما للهندسة. ومراد الأستاذ أن العلم لما كان يستلزم العمل استغنى بذكره عن التصريح بالعمل كما يستغنى عن ذكر العلم عندما يعلق الجزاء على العمل. لأن العمل الصحيح لا يكون إلا عن العلم الصحيح فتارة يذكر الملزوم وتارة يذكر اللازم ولكل مقام مقال.
٢ المسند ٤/٢١٥..
٣ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ١٦، وسورة ٤٠، وابن ماجه في الدعاء باب ١، وأحمد في المسند ٤/٢٦٧، ٢٧١، ٢٧٦..
تنقل عبادة الملائكة عن مشركي العرب وعن بعض أهل الكتاب. واتخذ بعض اليهود عزيرا والنصارى المسيح ابنا لله، فجاء الإسلام يبين أن كل ذلك مخالف لما جاء به الأنبياء من الأمر بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له والنهي عن عبادة غيره. ولذلك قال ﴿ أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ﴾ بمقتضى الفطرة. وقال الأستاذ الإمام : معناه أنه ما كان للمسيح أن يأمر أهل الكتاب الذي بعث فيهم بعبادته بعد إذ كانوا موحدين بمقتضى ما جاءهم به موسى، وحمله أكثر من عرفنا من المفسرين على جواب من طلب السجود للنبي صلى الله عليه وسلم بناء على أنهم هم المسلمون دون غيرهم، وقد نسوا هنا أن الإسلام في عرف القرآن هو دين جميع الأنبياء كما أنه دين الفطرة ( راجع تفسير ١٩ ﴿ إن الدين عند الله الإسلام ﴾ ).
أما أخذ الميثاق من المرء وهو العهد الموثق المؤكد فهو عبارة عن كون المأخوذ منه وهو المعاهِد ( بكسر الهاء ) يلتزم للآخذ وهو المعاهَد ( بفتح الهاء ) أن يفعل كذا مؤكدا ذلك باليمين أو بلفظ من المعاهدة أو المواثقة. وفي قوله :﴿ ميثاق النبيين ﴾ وجهان : أحدهما أن معناه الميثاق من النبيين. فالنبيون هم المأخوذ عليهم. وعلى هذا يكون حكمه ساريا على أتباعهم بالأولى، كما قال الأستاذ الإمام. وثانيهما أن إضافة ميثاق إلى النبيين على أنهم أصحابه فهو مضاف إلى الموثق لا إلى الموثق عليه، كما تقول عهد الله وميثاق الله. وحينئذ يكون المأخوذ عليه مسكوتا عنه للعلم به، وتقديره : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على أممهم، أو الخطاب لأهل الكتاب والمعنى : وإذا أخذ الله عليهم ميثاق النبيين الذين أرسلوا إلى قومكم، أو التقدير ميثاق أمم النبيين. وكل من القولين مروي عن السلف. وممن قال بالثاني من آل البيت جعفر الصادق قال هو على حد ﴿ يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ﴾ [ الطلاق : ١ ] فالخطاب فيه للنبي والمراد أمته عامة.
والمقصود من الوجهين أو الطريقين في تفسير العبارة واحد وهو أن الواجب على الأمم التي أوتيت الكتاب إذا جاءهم رسول مصدق لما معهم أن يؤمنوا به وينصروه وجب ذلك عليهم بميثاق الله على أنبيائهم أو ميثاقه عليهم أنفسهم على لسان أنبيائهم.
واللام في قوله :﴿ لما آتيتكم ﴾ لام التوطئة لأخذ الميثاق قال الزمخشري لأنه في معنى الاستحلاف أي أن الميثاق بمعنى القسم، فأخذه بمعنى الاستحلاف. و " ما " التي دخلت عليها اللام هي المتضمنة لمعنى الشرط ولمعنى مهما آتيتكم ﴿ من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ واللام في " لتؤمنن " لام جواب القسم وجعلوا " لتؤمنن " سادا مسد جواب القسم وجواب الشرط جميعا. ويجوز أن تكون " ما " موصولة والعائد حينئذ محذوف أي : لما آتيتكموه : وقرأ حمزة " لما " بكسر اللام وهي لام التعليل و " ما " على هذه موصولة حتما. والمعنى أنه أخذ ميثاقهم لأجل ما ذكر. وقرأ نافع " آتيناكم " بالإسناد إلى ضمير الجمع تفخيما.
وقوله :﴿ ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ﴾ قال فيه بعض المفسرين : إن لفظ " رسول " فيه على إطلاقه. وقال بعضهم : إن المراد به هنا محمد صلى الله عليه وسلم ويرد على هذا القول إشكال بناء على أن الميثاق قد أخذ على النبيين أنفسهم وهو أن هذا الرسول ما جاء في عصر أحد منهم. وكان الله تعالى يعلم ذلك عند أخذ الميثاق عليهم لأن علمه أزلي أبدي. وأجيب عنه بأنه ميثاق مبني على الفرض أي إذا فرض إن جاءكم وجب عليكم الإيمان به ونصره.
أقول : ويكون المراد منه بيان مرتبته صلى الله عليه وسلم مع النبيين إذا فرض أن وجد في عصرهم، وهو أنه يكون الرئيس المتبوع لهم، فما قولك إذا في أتباعهم لاسيما بعد زمنهم ؟ وإنما كان له صلى الله عليه وسلم هذا الاختصاص لأن الله تعالى قضى في سابق علمه بأن يكون هو خاتم النبيين الذي يجيء بالهدى الأخير العام الذي لا يحتاج البشر بعده إلى شيء معه سوى استعمال عقولهم واستقلال أفكارهم، وأن يكون ما قبله من الشرائع التي يجيئون بها هداية موقوتة خاصة بقوم دون قوم. واحتج القائلون بأن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم بحجج منها حديث
" والله لو كان موسى حيا بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني " رواه أبو يعلى من حديث جابر.
وأما المعنى على الوجه الأول مع القول بأن الميثاق أخذ على الأنبياء فهو أنه لما كان القصد من إرسالهم واحدا وجب أن يكونوا متكافلين متناصرين إذا جاء واحد منهم في زمن آخر آمن به ونصره بما استطاع ولا يلزم من ذلك ان يكون متبعا لشريعته، كما آمن لوط لإبراهيم وأيد دعوته إذ كان في زمنه.
وكل من القولين حجة على الذين يجعلون الدين سببا للخلاف والنزاع والعداوة والبغضاء، كما فعل أهل الكتاب في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم والكيد له. فكان يدعوهم إلى كلمة سواء فلا يلقى منهم إلا الخلاف والشحناء.
وسئل الأستاذ الإمام في الدرس عن إيمان نبي بنبي آخر يبعث في عصره هل يستلزم ذلك نسخ الثاني لشريعة الأول ؟ فقال : لا يستلزم ذلك ولا ينافيه. وإنما المقصود تصديق دعوته ونصره على من يؤذيه ويناوئه فإن تضمنت شريعة الثاني نسخ شيء مما جاء به الأول وجب التسليم له وإلا صدقه بالأصول التي هي واحدة في كل دين ويؤدي كل واحد مع أمته أعمال عبادتها التفصيلية ولا يعد ذلك اختلافا وتفرقا في الدين. فإن مثله يأتي في الشريعة الواحدة كأن يؤدي شخصان كفارة اليمين أو غيرها بغير ما يكفر به الآخر هذا بالصيام وذاك بإطعام المساكين وسبب ذلك اختلاف حال الشخصين فأدى كل واحد ما سهل عليه.
أقول : ولنا ان نضرب للمسألة مثل عاملين يرسلهما الملك في عصر واحد على ولايتين مستقلتين متجاورتين فلا شك انه يجب على كل منهما تصديق الآخر ونصره عند الحاجة وأنه يجب ان يكونا متفقين في الأصول العامة للسلطنة أو ما يعبر عنه أهل هذا العصر بالقانون الأساسي، وما يناسب ذلك. وقد يكون بين الولايتين اختلاف في طباع الأهالي واستعدادهم وحال البلاد يقتضي اختلاف الأحكام الجزئية كأن تكون الضرائب قليلة في إحداهما كثيرة في الأخرى. وكل من العاملين يؤمن للآخر بذلك وإن لم يعمل بعمله. وكذلك يؤمن كل من النبيين المرسلين بكل ما جاء به الآخر وإن وافقه في الأصول دون جميع الفروع. ولا يعقل أن ينسخ ما جاء به الأول على لسان رسول آخر لقوم آخرين. وأما إذا بعث الرسولان في أمة واحدة فإنهما يكونان متفقين في كل شيء، ولا تنس موسى وهارون عليهما السلام. وأما مجيء النبي بعد النبي فيجوز أن ينسخ معظم فروع شرعه. وبهذا يتضح لك معنى تصديق نبينا بالكتب السابقة ولمن جاؤوا بها من الرسل وأنه لا يقتضي أن يكون شرعه التفصيلي موافقا لشرائعهم، ولا أن يقر أقوامهم على ما درجوا عليه.
قال تعالى لمن أخذ عليهم هذا الميثاق ﴿ أأقررتم وأخذتم ﴾ أي قبلتم ﴿ على ذلكم ﴾ الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصره
﴿ إصري ﴾ أي عهدي ﴿ قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ﴾ أي فليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم شاهد عليكم جميعا لا يغيب عن علمي شيء وقيل معناه فليشهد كل واحد على نفسه كما قال :﴿ وأشهدهم على أنفسهم ﴾ [ الأعراف : ١٧٢ ] وقيل معناه فبينوا هذا الميثاق للناس. وقيل معناه فاعلموا ذلك علما يقينا، كالعلم بالمشاهد بالبصر. وقال الأستاذ : إن هذا الأمر بالشهادة دليل على ترجيح قول جعفر الصادق أن العهد مأخوذ من الأنبياء على أممهم، والمعنى أن الله تعالى أمر الأنبياء بأن يشهدوا على أممهم بذلك وهو سبحانه معهم شهيد. وقال أيضا : إن العبارة ليست نصا في أن هذه المحاورة وقعت وهذه الأقوال قيلت، والمختار عنده ان المراد بها تقرير المعنى وتوكيده على طريق التمثيل.
أقول : ومن مباحث اللفظ في الآية أن الإقرار من قر الشيء إذا ثبت ولزم قرارة مكانه. زيدت عليه همزة التعدية، فقيل أقر الشيء إذا أثبته وأقر به إذا نطق بما يدل على ثبوته. والأخذ التناول، وفسرناه هنا بالقبول وهو غايته لأن آخذ الشيء يقبله، وهو مستعمل كذلك في التنزيل قال تعالى :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ﴾ [ البقرة : ٤٦ ] ثم قال :﴿ واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يؤخذ منها عدل ﴾ [ البقرة : ١٢٣ ] فقال مرة إنه لا يؤخذ منها عدل ولا يقبل منها عدل. والمعنى واحد و " الإصر " في الأصل عقد الشيء وحبسه بقهره، والمأصر محبس السفينة، وفسر الإصر في ﴿ ويضع عنهم إصرهم ﴾ [ الأعراف : ١٥٧ ] بما يحسبهم عن الخير ويقعدهم عن عمل البر. وعلى هذا قال الراغب في الآية التي نفسرها : إن الإصر هو العهد الموكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب والخيرات. والأظهر عندي : أن يقول هو العهد الذي يحبس صاحبه ويمنعه من التهاون فيما التزمه وعاهد عليه. وتقدم تفسير الشهادة في آية :" شهد الله " إلخ.
﴿ وله أسلم من في السموات والأرض طوعا وكرها ﴾ أي والحال أن جميع من في السموات والأرض من العقلاء قد خضعوا له تعالى وانقادوا لأمره طائعين وكارهين. قد اختلفوا في بيان الإسلام الطوع والكره، فذهب يعضهم إلى أن الإسلام هنا متعلق بالتكوين والإيجاد والإعدام لا بالتكليف. أي إنه تعالى هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون المنقادون لتصرفه. وقال الرازي : إن هذا هو الأصح عنده ولم يذكر فيه معنى الطوع والكره وكأنه يعني أن ما يحل بالعقلاء من تصاريف الأقدار منه ما يصحبه اختيارهم عن رضى واغتباط فيكونون خاضعين له طوعا، ومنه ما ليس كذلك فيحل به وهم له كارهون ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ [ الإسراء : ٤٤ ].
ويقابل هذا : أن الإسلام متعلق بالتكليف والدين فقط. وصاحب هذا القول يفسر إسلام الكره بما يكون عند الشدائد الملجئة إليه، كما قال تعالى :﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآيتنا إلا كل ختار كفور ﴾ [ لقمان : ٣٢ ] وقال :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]. ومنهم من قال إن إسلام الكره ما يكون عند رؤية الآيات كما وقع لقوم موسى، وقيل ما يكون عند الخوف من السيف، وقيل ما يكون عند الموت إذ يشرف الكافر على الآخرة ولكنه إسلام لا ينفعه.
وهناك مذهب ثالث وهو أن هذا الإسلام أعم من إسلام التكليف وإسلام التكوين فهو يشمل ما يكون بالفطرة وما يكون بالاختيار. وفي هذا المذهب وجوه قال الحسن الطوع لأهل السموات خاصة وأما أهل الأرض فبعضهم بالطوع وبعضه بالكره. وقيل إن كل الخلق منقادون لإلهيته طوعا بدليل قوله ﴿ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرها. وقيل المسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وينقادون له كرها فيما يخالف طباعهم من المرض والفقر والموت وأشباه ذلك. وأما المكابرون فهم ينقادون لله كرها على كل حال في التكليف والتكوين. وهذه وجوه ضعيفة كما ترى.
وقال الأستاذ الإمام : إن الذين أسلموا طوعا هم الذين لهم اختيار في الإسلام وأما الذين أسلموا كرها فهم الذين فطروا على معرفة الله تعالى كالأنبياء والملائكة. وإن كان لفظ الكره يطلق في الغالب على ما يخالف الاختيار ويقهره، فإن الله تعالى قد استعمله في غير ذلك، كقوله بعد ذكر خلق السماء في الكلام على التكوين ﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها ﴾ [ فصلت : ١١ ] فأطلق الكره وأراد به لازمه وهو عدم الاختيار.
أقول : وهذا سهو فيما يظهر لي وكنت في أيام حياته أراجعه في مثله قبل الكتابة والطبع، وبيانه أن تتمة الآية ﴿ قالتا أتينا طائعين ﴾. فالظاهر أن ما يكون منهم من الانقياد لله تعالى بمقتضى الفطرة من قسم إسلام الطوع. وأما ما يقع منهم من التكليف بالاختيار فمنه ما فعل طوعا وما يفعل كرها. وكذا ما يقع بهم منه ما يكونون كارهين له، ومنه ما يكونون راضين به. فإذا كان مرادا في الآية فالطوع فيه بمعنى الرضى. وصفوه الكلام أن الدين الحق هو إسلام الوجه لله تعالى والإخلاص في الخضوع له. وأن الأنبياء كلهم كانوا على ذلك وقد أخذ ميثاقهم بذلك على أممهم ولكنهم نقضوه، فجاءهم النبي الموعود به يدعوهم إليه فكذبوه، فهم بذلك قد ابتغوا غير دينه الذي زعموه ﴿ وإليه يرجعون ﴾ فيجزيهم بما كانوا يعلمون.
قرأ حفص " يرجعون " بالياء كما قرأ " يبغون " وكذلك أبو عمرو على أنه قرأ " تبغون " بالتاء كالجمهور، فهو قد جعل الخطاب أولا لليهود وجعل الكلام في المرجع عاما وقرأ الباقون " ترجعون " وفاقا لقراءتهم " تبغون ".
كما ختم آية دعوة أهل الكتاب على الإسلام بقوله :﴿ فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ﴾ جاء هنا بعد ذكر توليتهم عن الإسلام يأمرنا بالإقرار به فقال مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ قل آمنا بالله ﴾ أي آمنت أنا ومن معي بوجود الله ووحدانيته وكماله ﴿ وما أنزل علينا ﴾ من كتابه بالتفصيل وهذه الآية نظير قوله تعالى في سورة البقرة ﴿ قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ] إلخ وقد عدى الإنزال هناك بإلى الدالة على الغاية والانتهاء وهنا بعلى التي للاستعلاء، وكلا المعنيين صحيح كما قال في الكشاف راميا بالتعسف من فرق بين التعديتين باختلاف الأمور بالقول في الآيتين، إذ هو هناك المؤمنون وههنا النبي صلى الله عليه وسلم، لأن التعدية بإلى وردت في خطاب النبي والتعدية بعلى وردت في خطاب غيره في آيات أخرى. وقدم الإيمان بالله على الإيمان بإنزال الوحي لأنه الأصل المقصود بالذات، والوحي فرع له، إذ هو وحيه تعالى إلى رسله.
﴿ وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ﴾ أي وآمنا بما انزل على هؤلاء بالإجمال أي صدقنا بأن الله تعالى أنزل عليهم وحيا لهداية أقوامهم، وأنه موافق لما أنزل علينا في أصله وجوهره والقصد منه كما أخبرنا الله تعالى في مثل قوله :﴿ قد أفلح من تزكى ﴾ [ الأعلى : ٣٦ ] إلخ السورة وقوله :﴿ أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم ﴾ [ الطور : ٣٦ ] إلخ وقوله :﴿ إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ﴾ [ النساء : ١٦٣ ] إلخ وأما عين ما أوحى إليهم فلم يبق منه في أيدي الأمم شيء يعتمد على نقله.
﴿ وما أوتي موسى وعيسى ﴾ من التوراة للأول والإنجيل للثاني ﴿ و ﴾ ما أوتي ﴿ النبيون من ربهم ﴾ كداود وسليمان وأيوب وغيرهم ممن لم يقص الله علينا خبرهم، فإن منهم من قصه علينا ومنهم من لم يقصصه. فإذا ثبت عندنا أن نبيا ظهر في الهند أو الصين قبل ختم النبوة نؤمن به. وارجع إلى آية البقرة في استبانة الفرق بين التعبير بالإنزال والتعبير بالإيتاء.
قال الأستاذ الإمام : وقد قدم الإيمان بما أنزل علينا على الإيمان بما انزل على من قبلنا من كونه أنزل قبله في الزمن لأن ما أنزل علينا هو الأصل في معرفة ما أنزل عليهم والمثبت له، ولا طريقة لإثبات سواه لانقطاع سند تلك وفقد بعضها ووقوع الشك فيما بقي منها، فما أثبته كتابنا من نبوة كثير من الأنبياء نؤمن به إجمالا فيما أجمل وتفصيلا فيما فصل، وما أثبته لهم من الكتب كذلك. ونؤمن بأن أصول ما جاؤوا به واحدة هي الإيمان بالله وإسلام القلوب له والإيمان بالآخرة والعمل الصالح مع الإخلاص. فكما أن الإيمان بالله أصل للإيمان بما أنزل علينا كذلك ما أنزل علينا أصل للإيمان بما أنزل عليهم فقدم عليه.
﴿ لا نفرق بين أحد منهم ﴾ كما يفرق أهل الكتاب. فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ولا نفرق بينهم في الدين، فنقول بعضهم على حق وبعضهم على باطل، بل نقول إنهم كانوا جميعا على الحق لا خلاف بينهم في الأصول والمقاصد، فمثلهم كمثل الولاة الصادقين يرسلهم الملك العادل متعاقبين لعمارة الولاية وإصلاح أهلها، وما يكون من التغيير في بعض قوانينهم إنما يكون بحسب حال الولاية وأهلها، والمقصد واحد وهو العمران والإصلاح ﴿ ونحن له مسلمون ﴾ منقادون بالرضا والإخلاص منصرفون عن أهوائنا وشهواتنا في الدين لا نتخذه جنسية لأجل حظوظ الدنيا وإنما نبتغي به التقرب إليه تعالى بإصلاح النفوس وإخلاص القلوب والعروج بالأرواح، إلى سماء الكرامة والفلاح ؛ افتتح الآية بذكر الإيمان وختمها بالإسلام الذي هو في كماله ثمرته وغايته وهذا هو الإسلام الدين الذي كان عليه جميع الأنبياء. ولذلك قفى عليه بقوله :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾.
[ الأعراف : ٥٣ ] في الدين ويزعمون أنه مناط النجاة ووسيلة الفوز والسعادة إذ يهوون أن يسعدوا بغيرهم من الأنبياء والأولياء، وإن خسروا أنفسهم بسلوك سبل الشقاء :﴿ قل الله أعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه. قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين ﴾ [ الزمر : ١٤ ١٥ ] ولم أر أحدا من المفسرين نبه في هذا المقام على أن الأصل في خسران الآخرة هو خسران النفس، ولا نبه إليه الأستاذ الإمام، بل لم يقل في هذه الآية شيئا لظهور معناها.
وقد أورد الإمام الرازي ههنا إشكالا وأجاب عنه قال : واعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان الإيمان غير الإسلام لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولا. لقوله تعالى :﴿ ومن يبتغ غير الإسلام فلن يقبل منه ﴾ إلا أن ظاهر قوله تعالى :﴿ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ﴾ [ الحجرات : ١٤ ] يقتضي كون الإسلام مغايرا للإيمان. ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي والآية الثانية على الوضع اللغوي : اه كلامه. وهذا الجواب مبهم وقد أراد بالآية الأولى الآية التي نفسرها وبالثانية ( قالت الأعراب ) والمعنى أن أولئك الأعراب الذين نزلت فيهم الآية لم يسلموا الإسلام الشرعي وإنما انقادوا لأهله في الظاهر وهو يقتضي اتحاد الإيمان والإسلام. وقال في تفسير هذه الثانية من سورة الحجرات ما نصه :
( المسألة الرابعة ) المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا ؟ نقول : بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان والإسلام أعم. لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا آخر غيره. مثاله : الحيوان أعم من الإنسان لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس امرا ينفك عن الإنسان ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا ولا يكون إنسانا فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود. فكذلك المؤمن والمسلم. وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى :﴿ فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ﴾ [ الذاريات : ٣٥ ٣٦ ].
وقال في تفسير الآية الثانية من هاتين ما نصه : والدلالة على أن المسلم بمعنى المؤمن ظاهرة. والحق أن المسلم أعم من المؤمن وإطلاق العام على الخاص لا مانع منه. فإذا سمي المؤمن مسلما لا يدل على اتحاد مفهوميهما. فكأنه تعالى قال أخرجنا المؤمنين فما وجدنا الأعم منهم إلا بيتا من المسلمين. ويلزم من هذا أن لا يكون هناك غيرهم من المؤمنين. وهذا كما لو قال قائل لغيره : من في البيت من الناس ؟ فيقول له ما في البيت من الحيوانات أحد غير زيد. فيكون مخبرا له بخلو البيت عن كل إنسان غير زيد " اه.
أقول : وأنت ترى أن في كلامه اضطرابا وسببه تزاحم الاصطلاحات الكلامية والإطلاقات اللغوية في ذهنه. والصواب أن مفهومي الإسلام والإيمان في اللغة متباينان فالإسلام الدخول في السلم وهو يطلق على ضد الحرب وعلى السلامة والخلوص وعلى الانقياد كما تقدم في أوائل السورة، والإيمان التصديق ويكون بالقلب كأن يقول امرؤ قولا فتعتقد صدقه. ويكون باللسان كأن تقول له صدقت. وقد أطلق كل من الإيمان والإسلام في القرآن على إيمان خاص جعل هو المنجي عند الله تعالى وإسلام خاص هو دينه المقبول عنده. أما الأول فهو التصديق اليقيني بوحدانية الله وكماله وبالوحي والرسل وباليوم الآخر بحيث يكون له السلطان على الإرادة والوجدان فيترتب عليه العمل الصالح. ولذلك قال بعد نفي دخول الإيمان في قلوب أولئك الأعراب ﴿ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ﴾ [ الحجرات : ١٥ ].
وأما الثاني فهو الإخلاص له تعالى في التوحيد والعبادة والانقياد لما هدي إليه على ألسنة رسله. وهو بهذا المعنى دين جميع النبيين الذين أرسلهم لهداية عباده. فالإيمان والإسلام على هذا يتواردان على حقيقة واحدة يتناولها كل واحد منهما باعتبار. ولذلك عدا شيئا واحدا في الآيات التي ذكرت آنفا وفي قوله بعد ما ذكر عن إيمان الأعراب وإسلامهم ( في ٤٩ : ١٥ ) ثم بيان حقيقة الإيمان الصادق ﴿ قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الأرض والله بكل شيء عليم يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين ﴾ [ الحجرات : ١٦ ١٧ ] فهذا هو الإيمان الصادق والإسلام الصحيح وهما المطلوبان لأجل السعادة.
وقد يطلق كل من الإيمان والإسلام على ما يكون منهما ظاهرا سواء كان ذلك عن يقين أو عن جهل أو نفاق. فمن الأول الشق الأول من قوله تعالى :﴿ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ﴾ [ البقرة : ٦٢ ] الآية. فالمراد بالذين آمنوا في أول الآية الذين صدقوا بهذا الدين في الظاهر. وقوله :﴿ من آمن منهم بالله ﴾ إلخ هو الإيمان الحقيقي الذي عليه مدار النجاة وقد تقدم شرحه آنفا. ومن الثاني قوله :﴿ ولكن قولوا أسلمنا ﴾ أي دخلنا في السلم الذي هو مسالمة المؤمنين بعد أن كنا حربا لهم وليس معناه الإخلاص والانقياد مع الإذعان وإلا لما نفى عنهم إيمان القلب. هذا هو التحقيق في المسألة ولله الحمد.
أما إطلاق الإسلام بمعنى ما عليه هؤلاء الأقوام المعروفون بالمسلمين من عقائد وتقاليد وأعمال فهو اصطلاح حادث مبني على قاعدة " الدين ما عليه المتدينون " فالبوذية ما عليه الناس المعروفون بالبوذية واليهودية ما عليه الشعب الذي يطلق عليه اسم اليهود والنصرانية ما عليه الأقوام الذين يقولون إنا نصارى وهكذا. وهذا هو الدين بمعنى الجنسية. وقد يكون له أصل سماوي أو وضعي فيطرأ عليه التغيير والتبديل حتى يكون بعيدا عن أصله في قواعده ومقاصده، وتكون العبرة بما عليه أهله لا بذلك الأصل المجهول أو المعلوم. وتحول دين أهل الكتاب إلى جنسية بهذا المعنى هو الذي صد أهل الكتاب عن اتباع النبي عليه الصلاة والسلام على ما جاء به من بيان روح دين الله الذي كان عليه جميع الأنبياء على اختلاف شرائعهم في الفروع وهو الإسلام. فالإسلام معنى بينه القرآن فمن اتبعه كان على دين الله المرضي ومن خالفه كان باغيا لغير دين الله وليس هو من معنى الجنسية المعروفة الآن التي تختلف باختلاف ما يحدث لأهلها من التقاليد. فالإسلام الحقيقي مباين للإسلام العرفي، لذلك جرينا في هذا التفسير على إنكار جعل الإسلام جنسية عرفية مع الغفلة عن كونه هداية إلهية. نعم إنه لو أقيم على أصله واستتبع مع ذلك رابطة الجنسية لم تكن هذه الرابطة إلا رابطة خير لأهلها غير ضارة بغيره لبنائها على قواعد العدل والفضل والرحمة والإحسان، ولكن جعل الجنسية هو الأصل مفسد للدين الذي هو مناط سعادة الدارين.
روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال " كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أرسلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم { إلى قوله { فإن الله غفور رحيم ﴾ فأرسل إليه قومه فأسلم١ وأخرج مسدد في مسنده عبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه فأنزل الله :﴿ كيف يهدي الله قوما ﴾ إلى قوله :﴿ غفور رحيم ﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة : فرجع فأسلم وحسن إسلامه. اهـ من لباب النقول.
وفي روح المعاني : أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم حسدا لعرب حيث بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله. وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة فنزلت الآية فيهم. قال الألوسي وأكثر الروايات على هذا.
وفي التفسير الكبير ثلاثة أقوال في سبب نزول الآية :
١ ـ عن ابن عباس أنها نزلت في رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾.
٢ ـ عنه أيضا أنها نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات كفروا بغيا وحسدا.
٣ ـ نزلت في الحارث بن سويد وتقدم خبره.
أقول : إن الآيات متصلة بما قبلها. وذلك أنه لما بين حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي بعث جميع الأنبياء والذي لا يقبل غيره من أحد، ذكر حال الكافرين به وجزاءهم وأحكامهم. وقد رآها أصحاب أولئك الروايات في سبب نزولها صادقة على من قالوا إنها نزلت فيهم فذهبوا إلى ذلك. وأظهر تلك الروايات وأشدها التئاما مع السياق رواية من يقول إنها نزلت في أهل الكتاب وهو الذي اختاره ابن جرير والأستاذ الإمام وقال إن الكلام من أول السورة معهم.
أما قوله تعالى ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم ﴾ فهو استبعاد لهداية هؤلاء كما قال البيضاوي وإيئاس للنبي صلى الله عليه وسلم منهم. وفسرت المعتزلة الهداية بالألطاف الذي يكون من الله للمؤمنين أو بالهداية إلى الجنة وأهل السنة بخلق المعرفة قالهما الرازي وكلاهما ضعيف. وفسرها ابن جرير بالتوفيق والإرشاد فأما الإرشاد فقد أوتوه ولولا ذلك لكانوا معذورين ولولاه لما كان لإيمانهم بعد مجيء البينات معنى، والصواب ما أشرنا إليه من أن المعنى استبعاد هدايتهم بحسب سنن الله تعالى في البشر وإيئاس النبي صلى الله عليه وسلم من إيمانهم. ووجه الاستبعاد أن سنة الله تعالى في هداية البشر إلى الحق هي أن يقيم لهم الدلائل والبينات مع عدم الموانع من النظر فيها على الوجه الذي يؤدي إلى المطلوب. وكل ذلك قد كان لهؤلاء ولذلك آمنوا من قبل ﴿ وشهدوا أن الرسول حق ﴾ ثم كفروا مكابرة لأنفسهم ومعاندة للرسول حسدا له وبغيا عليه. أو المعنى : بأي كيفية تكون هداية من كفروا بعد إيمانهم والحال أنهم قد شهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات التي تبين بها الحق من الباطل والرشد من الغي. ولم يغن عنهم ذلك شيئا لغلبة العناد والاستكبار على نفوسهم والحسد والبغي على قلوبهم، فكانوا بذلك ظالمين لأنفسهم باستحباب العمى على الهدى ﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي مضت سنته بأن الظالم لا يكون مهتديا.
وقال الأستاذ الإمام : في تفسير الآية طريقتان : إحداهما شهادتهم بأن الرسول حق : هي أنهم كانوا يعرفون بشارات الأنبياء بمحمد صلى الله عليه وسلم وكانوا عازمين على اتباعه إذا جاء في زمنهم وانطبقت عليه العلامات وظهرت فيه البشارات. ثم إنهم كفروا به وعاندوه بعد مجيئهم بالبينات لهم وظهور الآيات على يديه. والله لا يهدي أمثال هؤلاء الظالمين لأنفسهم والجانين عليها. ووضع الوصف " الظالمين " مكان الضمير لبيان سبب الحرمان من الهداية، فإن الظلم هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه لأجل الوصول إلى الحق في كل شيء بحسبه. فذكره من قبيل ذكر الدليل على الشيء بعد ادعائه وما كان من تنكب هؤلاء باختيارهم لطريق الحق وهو العقل وهدى النبوة بعد ما عرفوه بالبينات وهو نهاية الظلم. ( قال ) : والهداية هنا هي التي أمرنا بطلبها في سورة الفاتحة وهي الإيصال إلى الحق لأن سائر معاني الهداية عام لهم ولغيرهم.
والطريقة الثانية : هي أنهم كفروا بعد ما سبق لهم من الإيمان بالرسل فالرسول على هذا القول للجنس وجاءهم البينات على ألسنتهم وذلك بتركهم ما اتفق عليه أولئك الرسل من التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله وإخلاصه له بالبراءة من حظوظ النفس وأهوائها في الدين واستبدالهم بهذه الهداية ما وضعوا لأنفسهم من التقاليد والبدع. وحاصل المعنى على هذه الطريقة : كيف ترجو يا محمد هداية هؤلاء المعاندين لك ظنا أن معرفتهم بالكتاب والإيمان جعلتهم أقرب الناس إلى معرف حقيقة ما جئت به بعد ما علمت من كفرهم بحقيقة ما كانوا عليه من الإسلام بنقضهم الميثاق وتحريفهم الكلم. أقول : والكلام على هذه الطريقة مبني على اعتبار الأمة كالشخص لتكافلها كما قرره مرارا. فالمراد بكفرهم بعد إيمانهم كفر مجموع الحاضرين وأمثالهم بعد إيمان مجموع سلفهم لا أن كل واحد من الكافرين كان مؤمنا ثم كفر.
روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال " كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أرسلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم { إلى قوله { فإن الله غفور رحيم ﴾ فأرسل إليه قومه فأسلم١ وأخرج مسدد في مسنده عبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه فأنزل الله :﴿ كيف يهدي الله قوما ﴾ إلى قوله :﴿ غفور رحيم ﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة : فرجع فأسلم وحسن إسلامه. اهـ من لباب النقول.
وفي روح المعاني : أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم حسدا لعرب حيث بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله. وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة فنزلت الآية فيهم. قال الألوسي وأكثر الروايات على هذا.
وفي التفسير الكبير ثلاثة أقوال في سبب نزول الآية :
١ ـ عن ابن عباس أنها نزلت في رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾.
٢ ـ عنه أيضا أنها نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات كفروا بغيا وحسدا.
٣ ـ نزلت في الحارث بن سويد وتقدم خبره.
أقول : إن الآيات متصلة بما قبلها. وذلك أنه لما بين حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي بعث جميع الأنبياء والذي لا يقبل غيره من أحد، ذكر حال الكافرين به وجزاءهم وأحكامهم. وقد رآها أصحاب أولئك الروايات في سبب نزولها صادقة على من قالوا إنها نزلت فيهم فذهبوا إلى ذلك. وأظهر تلك الروايات وأشدها التئاما مع السياق رواية من يقول إنها نزلت في أهل الكتاب وهو الذي اختاره ابن جرير والأستاذ الإمام وقال إن الكلام من أول السورة معهم.
﴿ أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ﴾ قال الأستاذ الإمام : لعنة الله عبارة عن سخطه ولعنة الملائكة والناس إما سخطهم وهو الظاهر هنا وإما الدعاء عليهم باللعنة، أي أنهم متى عرفوا حالهم فإنهم يلعنونهم : والمشهور أن معنى اللعنة الطرد والإبعاد، ففي حقيقة الأساس " لعنه أهله طروده وأبعدوه وهو لعين طريد " وبذلك فسرنا الكلمة في قوله تعالى :﴿ وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم ﴾ [ البقرة : ٨٨ ] وهي أول آية ذكر فيها اللعن في سورة البقرة. والظاهر من العبارة هناك أنها ليست عن الأستاذ الإمام. وما قاله هنا هو من التفسير بطريق اللزوم، فإن الطريد لا يطرد إلا وهو مسخوط عليه. وقد قال الراغب في المفردات " اللعن الطرد والإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول رحمته وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره قال :﴿ ألا لعنة الله على الظالمين ﴾ [ هود : ١٨ ] ﴿ والخامسة أن لعنة الله عليها ﴾ [ النور : ٧ ] اه.
وقوله دعاء على غيره أي بالطرد لأنه هو معنى اللعن في الأصل. والجمهور يفسرون لعن الله لمن يلعنه بطرده من جنته أو من رحمته أي الخاصة إذ الرحمة العامة مبذولة لكل مخلوق. ويفسرون السخط والغضب منه بنحو ذلك لأن ما أطلق عليه تعالى من الأوصاف التي تدل في البشر على الانفعالات تفسر بآثارها التي هي أفعال.
ولكن السلفيين يعدون هذا تأويلا، ويقولون إن تلك الأوصاف كغيرها شؤون لله تعالى لا يدرك البشر كنهها وتلك الأفعال التي فسرت بها هي آثارها كما هو المفهوم من اللغة. والأستاذ الإمام كان سلفي العقيدة في سنيه الأخيرة التي عرفناه فيها فلا يبالي بإمضاء جميع الصفات على ظاهرها مع التنزيه، وكأنه رأى أن تفسير مثل " عليه اللعنة " بعليه السخط أقرب من تفسيره بعليه الطرد. فما قاله أقرب إلى الذوق الصحيح في أسلوب الكلام. ومثله قوله :﴿ فعليهم غضب ولهم عذاب عظيم ﴾ [ النحل : ١٠٦ ] فعبر عن وقوع الغضب الذي هو صفة بعلى وعن العذاب الذي هو فعل باللام.
وقد استشكلوا قوله تعالى :﴿ والناس أجمعين ﴾ مع العلم بأن من على عقيدتهم لا يلعنونهم. وقد أشار الأستاذ إلى الجواب عن ذلك بأن كل الناس يلعنونهم متى عرفوا حقيقة حالهم. فالمعنى أن هذه الحالة التي هم عليها مجلبة للعنة بطبعها من كل من عرفها. وصحح الرازي أن المراد به ما يجري على ألسنة جميع الناس من لعن الكافر والمبطل. وقال أبو مسلم : له أن يلعنه وإن كان لا يلعنه : كأنه يفسر اللعن باستحقاقه. وهناك وجه ثالث وهو أن ذلك يكون في الآخرة ويؤيده قوله تعالى :﴿ وقال : إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم بعضا ويلعن بعضكم بعضا ﴾ [ العنكبوت : ٢٥ ] وقيل إن المراد بالناس المؤمنون.
روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال " كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أرسلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم { إلى قوله { فإن الله غفور رحيم ﴾ فأرسل إليه قومه فأسلم١ وأخرج مسدد في مسنده عبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه فأنزل الله :﴿ كيف يهدي الله قوما ﴾ إلى قوله :﴿ غفور رحيم ﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة : فرجع فأسلم وحسن إسلامه. اهـ من لباب النقول.
وفي روح المعاني : أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم حسدا لعرب حيث بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله. وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة فنزلت الآية فيهم. قال الألوسي وأكثر الروايات على هذا.
وفي التفسير الكبير ثلاثة أقوال في سبب نزول الآية :
١ ـ عن ابن عباس أنها نزلت في رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾.
٢ ـ عنه أيضا أنها نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات كفروا بغيا وحسدا.
٣ ـ نزلت في الحارث بن سويد وتقدم خبره.
أقول : إن الآيات متصلة بما قبلها. وذلك أنه لما بين حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي بعث جميع الأنبياء والذي لا يقبل غيره من أحد، ذكر حال الكافرين به وجزاءهم وأحكامهم. وقد رآها أصحاب أولئك الروايات في سبب نزولها صادقة على من قالوا إنها نزلت فيهم فذهبوا إلى ذلك. وأظهر تلك الروايات وأشدها التئاما مع السياق رواية من يقول إنها نزلت في أهل الكتاب وهو الذي اختاره ابن جرير والأستاذ الإمام وقال إن الكلام من أول السورة معهم.
﴿ خالدين فيها ﴾ أي في اللعنة أي يكونون مطرودين أو مسخوطا عليهم إلى الأبد، أو في أثرها وهو عذاب جهنم :﴿ لا يخفف عنهم العذاب ﴾ الذي هو من لوازمها لأن علته ما تكيفت به نفوسهم الظالمة، وهي معهم لا تفارقهم والشيء يدوم بدوام علته :﴿ ولا هم ينظرون ﴾ من الإنظار وهو التأخير والإمهال.
روى النسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال " كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ثم ندم فأرسل إلى قومه أرسلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة ؟ فنزلت ﴿ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم { إلى قوله { فإن الله غفور رحيم ﴾ فأرسل إليه قومه فأسلم١ وأخرج مسدد في مسنده عبد الرزاق عن مجاهد قال جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم كفر فرجع إلى قومه فأنزل الله :﴿ كيف يهدي الله قوما ﴾ إلى قوله :﴿ غفور رحيم ﴾ فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه فقال الحارث : إنك والله ما علمت لصدوق وإن رسول الله لأصدق منك وإن الله لأصدق الثلاثة : فرجع فأسلم وحسن إسلامه. اهـ من لباب النقول.
وفي روح المعاني : أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم حسدا لعرب حيث بعث من غيرهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله. وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحارث بن سويد في اثني عشر رجلا رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة فنزلت الآية فيهم. قال الألوسي وأكثر الروايات على هذا.
وفي التفسير الكبير ثلاثة أقوال في سبب نزول الآية :
١ ـ عن ابن عباس أنها نزلت في رهط كانوا آمنوا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون فأنزل الله فيهم هذه الآية وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب منهم بقوله :﴿ إلا الذين تابوا ﴾.
٢ ـ عنه أيضا أنها نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم كفروا بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات كفروا بغيا وحسدا.
٣ ـ نزلت في الحارث بن سويد وتقدم خبره.
أقول : إن الآيات متصلة بما قبلها. وذلك أنه لما بين حقيقة الإسلام وأنه دين الله الذي بعث جميع الأنبياء والذي لا يقبل غيره من أحد، ذكر حال الكافرين به وجزاءهم وأحكامهم. وقد رآها أصحاب أولئك الروايات في سبب نزولها صادقة على من قالوا إنها نزلت فيهم فذهبوا إلى ذلك. وأظهر تلك الروايات وأشدها التئاما مع السياق رواية من يقول إنها نزلت في أهل الكتاب وهو الذي اختاره ابن جرير والأستاذ الإمام وقال إن الكلام من أول السورة معهم.
﴿ إلا الذين تابوا ﴾ من ذنبهم وتابوا إلى ربهم :﴿ من بعد ذلك ﴾ الظلم الذي دنسوا به أنفسهم فتركوه مستقبحين له نادمين على ما أصابوا منه :﴿ وأصلحوا ﴾ أعمالهم بما صار للإيمان الراسخ من السلطان على نفوسهم، والتصريف لإرادتهم، أو أصلحوا نفوسهم بالأعمال الصالحة التي تمد الإيمان وتغذيه وتمحو من لوح القلب تلك الصفات الذميمة وتثبت فيه أضدادها :﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ فينالهم من مغفرته، ما يزكي نفوسهم بمقتضى سنته، ويصيبهم من رحمته ما يؤهلهم لدخول جنته.
وقال الأستاذ الإمام في هذه الآية ما مثاله : عطف الإصلاح على التوبة لأن التوبة التي لا أثر لها في العمل لا شأن لها ولا قيمة في نظر الدين. ولذلك جرى القرآن على عطف العمل الصالح عليها عند ذكرها أو وصفها بالنصوح. وترى كثيرا من الناس يظهرون التوبة بالندم والاستغفار والرجوع عن الذنب ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى ما كانوا تابوا عنه، ذلك بأنه لم يكن للتوبة أثر في نفوسهم ينبههم إذا غفلوا، كي لا يعودوا إلى ما اقترفوا، ويهديهم إلى اتخاذ الوسائل لإصلاح شأنهم، وتقويم أمرهم،
﴿ إن الذين كفروا بعد إيمانهم ﴾ وشهادتهم أن الرسول حق :﴿ ثم ازدادوا كفرا ﴾ بمقاومة الحق وإيذاء الرسول والصد عن سبيل الله بالكيد والتشكيك وبالحرب والكفاح، أو الكلام على عمومه لا يختص بأولئك الذين سبق ذكرهم فازدياد الكفر عبارة عما ينميه ويقويه من الأعمال التي يقاوم بها الإيمان فالكفر يزداد قوة واستقرارا وتمكنا بالعمل بمقتضاه، كما أن الإيمان كذلك. وقوله :﴿ لن تقبل توبتهم ﴾ يعدونه من المشكلات، إذ هو مخالف في الظاهر للآية السابقة ولمثل قوله :﴿ وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ﴾ [ الشورى : ٢٥ ] فقال القاضي والقفال وابن الأنباري : إنه تعالى لما قدم ذكر من كفر وبين أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب ذكر في هذه الآية أنه لو كفر مرة أخرى بعد تلك التوبة فإن التوبة الأولى تصير غير مقبولة حتى كأنها لم تكن. ويكون التقدير في الآية وما قبلها : إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم. فإن كانوا كذلك ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم اه من التفسير الكبير بتصرف.
وفيه أن هذا الوجه أليق بالآية من كل الوجوه وإنه مطرد في الآية سواء حملت على العهود السابق أو على الاستغراق. وفي الكشاف أن عدم قبول توبتهم كناية عن موتهم على الكفر. وقال البيضاوي :" لن تقبل توبتهم " لأنهم لا يتوبون أو لا يتوبون إلا إذا أشرفوا على الهلاك فكنى عن عدم توبتهم بعدم قبولها تغليظا في شأنهم وإبراز حالهم في صورة الآيسين من الرحمة، أو لأن توتبتهم لا تكون إلا نفاقا لارتدادهم وزيادة كفرهم ولذلك لم يدخل الفاء فيه. اه.
واختار ابن جرير أن الكلام في أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم وأن المراد بالتوبة التوبة عن الذنوب فهي لا تنفعهم مع بقائهم على الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم. روى في الآية عدة روايات وقال عن هذا الذي قلنا إنه اختاره لأنه أولاها بالصواب قال : وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب لأن الآيات قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها إذا كانت في سياق واحد، وإذ كان ذلك كذلك وكان من حكم الله في عباده إنه قابل توبة كل تائب من كل ذنب وكان الكفر بعد الإيمان أحد تلك الذنوب التي وعد قبول التوبة منها بقوله :﴿ إلا الذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ﴾ علم أن المعنى الذي لا تقبل التوبة منه غير المعنى الذي تقبل التوبة منه. وإذ كان ذلك كذلك فالذي لا تقبل التوبة منه هو الازدياد على الكفر بعد الكفر لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما عمن تاب من شركه وكفره وأصلح فإن الله كما وصف نفسه غفور رحيم : اه. ثم بين ضعف سائر الروايات حتى رواية من قال إن المراد بذلك التوبة عند الموت وجزم ( أي ابن جرير ) بأن الكافر إذا أسلم قبل موته بطرفة عين فإن إيمانه يكون مقبولا وليس هذا محل الخوض في ذلك.
فأنت ترى أن هذه الأقوال وهي أظهر ما قيل في الآية منها ما يرجع إلى وقت التوبة ومنها ما يتعلق بالذنب الذي تيب عنه. وللأستاذ الإمام وجه يتعلق بصفة التوبة وكيفيتها. فقد ذكر في الدرس أن أولئك الكافرين الذين ازدادوا كفرا قد يحدث لهم في أنفسهم ألم من مقاومة الحق وقد يحملهم ذلك الألم على ترك بعض الذنوب والشرور، قال فهذا النوع من التوبة لا يقبل منهم ما لم يصلحوا أمرهم ويخلصوا لله في اتباع الحق ونصرته، فالتوبة التي يزعمونها على ما هم عليه من مقاومة المحقين لا يقبلها الله تعالى، يعني أنه قد يقع من هؤلاء نوع من التوبة لا يكون مطهرا لأنفسهم من جميع ما لصق بها من الكفر والأوزار وليس هذا عين قول من قال إن توبتهم هذه التي لا تقبل هي توبة في الظاهر دون الباطن وباللسان دون القلب فإن ذلك نفي للتوبة وهذا إثبات لها بل هو قريب من قول ابن جرير الذي هو اظهر الأقوال السابقة.
وقد يكون مراد الأستاذ الإمام أن النفوس قد توغل في الشر وتتمكن في الكفر حتى تحيط بها خطيئتها وتصل إلى ما عبر عنه القرآن بالرين والطبع والختم على القلوب. فإذا كان صاحب هذه النفس قد جحد الحق عنادا واستكبارا وضل على علم فلا يبعد ان يحدثه نفسه بالتوبة وأن يحاولها ولكن يكون له في نفسه من الموانع والحوائل دون قبولها للخير والحق ما يكون هو السبب لعدم قبولها فإن قبول التوبة المستلزم لمغفرة ذنب التائب ليس من قبيل العطاء الجزاف والأمر الأنف وإنما يكون بموافقة سنن الله في الفطرة الإنسانية ذلك ان من مقتضى الفطرة السليمة ان يحدث لها العلم بقبح الذنب وسوء عاقبته ألما يحملها على تركه ومحو أثره المدنس لها بعمل صالح يحدث فيها أثرا مضادا لذلك الأثر وبهذا تكون معدة صاحبها ومؤهلة له للمغفرة التي هي ترك العقوبة على الذنب المترتب على محو سببه وهو تدنيس النفس وتدسيتها :﴿ قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها ﴾ [ الشمس : ٩ ] فإذا بلغت التدسية من بعضها مبلغا تتعذر معه التزكية على مريدها أو محاولها صح أن يعبر عن ذلك قبول توبة صاحب هذه النفس.
مثال ذلك الثوب الأبيض الناصع يصيبه لوث فيستقبح ذلك صاحبه فيغسله فينظف فإذا كان اللوث قليلا وبادر إلى غسله بعيد طروئه يرجى أن يزول حتى لا يبقى له أثر. ولكن هذا الثوب إذا دس في الأقذار سنين كثيرة حتى تخللت جميع خيوطه وتمكنت منها فاصطبغ بها صبغة جديدة ثابتة تعذر تنظيفه وإعادته إلى نصاعته الأولى. وبين هذه الدرجة وما قبلها درجات كثيرة. وقد أشير إلى الطرفين بقوله تعالى :﴿ إنما التوبة على الله للذين يعلمون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما * وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ﴾ [ النساء : ١٧ ١٨ ].
تلك حالة هذا الصنف من الهازئين بالدين المتقلبين في الكفر العريقين في الشر. ولذلك سجل عليهم الرسوخ في الضلال بصيغة القصر أو الحصر فقال :﴿ وأولئك هم الضالون ﴾ المتمكنون من الضلال حتى كأنه محصور فيهم وحسبك بضال لا ترجى هدايته، ولا تقبل توبته، ونعوذ بالله من الخذلان.
﴿ ولو افتدى به ﴾ في الآخرة على فرض إنه يملكه بأن أراد أن يجعله جزاء نجاته والعفو عنه كما يفعل الناس من الحكام الظالمين فإنه لا يقبل منه أيضا. قال تعالى في وعيد المنافقين :﴿ فاليوم لا يؤخذ منكم فدية ولا من الذين كفروا مأواكم النار هي مولاكم وبئس المصير ﴾ [ الحديد : ١٥ ] بل لا تقبل الفدية من غيرهم أيضا، كما في آيات أخرى عامة. وليست علة ذلك ما قالوه من كون الله تعالى غنيا عن الذهب وغيره مما يفتدى به فإنه تعالى غني أيضا عن إيمان الناس وأعمالهم، وإنما علته أنه تعالى لم يجعل أمر نجاة الناس من عذاب الآخرة ولا أمر فوزهم بنعيمها مما يكون بالأمور الخارجية كمالٍ يبذل وعظيمٍ ينفع، بل جعل ذلك أمرا متعلقا بأمر داخلي، متعلقا بجوهر النفس، فمن زكاها بالإيمان مع العمل الصالح أفلح ومن دساها بالكفر والأعمال السيئة خاب وخسر راجع تفسير ﴿ واتقوا يوما ﴾ [ البقرة : ٤٧ و ١٢٣ ] إلخ وتفسير ﴿ يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ﴾ [ البقرة : ٢٥٤ ] إلخ.
وقال الأستاذ الإمام في الآية : الكلام في هذا الجزاء من التمثيل لأنه ليس هناك حاجة إلى الذهب ولا إلى إنفاقه لأن الأشقياء لا نصير لهم فينفق عليه والأولياء في غنى بفضل الله ورحمته عمن ينفق عليهم. والمراد أنه لا طريق للافتداء لو أريد. ليس عندنا عنه غير هذا.
﴿ أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين ﴾ ينصرونهم بدفع العذاب عنهم أو إيصال الخير إليهم، أي لا يجدون لهم نصيرا ما كما تفيده " من " الدالة على استغراق النفي ويسمونها زائدة، لأنها لا متعلق لها في اصطلاح النحاة لا لأنها لا معنى لها في الكلام.
ومن مباحث اللفظ مع المعنى في الآية إنه قال في هذه الآية " فلن يقبل " وفي الآية التي قبلها " لن تقبل " بغير فاء وقد بين صاحب الكشاف النكتة في ذلك وتبعه غيره فيها. قال " قد أوذن بالفاء أن الكلام بني على الشرط والجزاء وأن سبب امتناع قبول الفدية هو الموت على الكفر، وبترك الفاء أن الكلام مبتدأ وخبر ولا دليل فيه على التسبب كما تقول : الذي جاءني له درهم : لم تجعل المجيء سببا في استحقاق الدرهم، بخلاف قولك : فله درهم " أي فإنه يفيد أن الدرهم جزاء لمجيئته. والنكتة في غاية الجلاء والظهور. فإن عدم قبول توبة أولئك ليس مسببا عن كونهم كفروا ولا عن كونهم ازدادوا كفرا. لأن الكافر ومن ازداد كفرا تقبل توبتهما إذا صحت. وقد علم سببه مما تقدم.
ومنها أنهم اختلفوا في موقع الواو من قوله " ولو افتدى به " على ظهوره فيما جرينا عليه من تفسير الآية. ويقرب منه قول الزجاج النحوي إنها للعطف والتقدير لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك ولو افتدى بملء الأرض ذهبا لم يقبل منه. قال الرازي : وهذا اختيار ابن الأنباري. قال وهذا أوكد في التلغيظ لأنه تصريح بنفي القبول من جميع الوجوه. أقول : وما قدرناه أظهر وبالنظم أليق. قال الرازي بعد إيراد رأي الزجاج الثاني : الواو دخلت لبيان التفصيل بعد الإجمال وذلك لأن قوله " فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا " يحتمل الوجوه الكثيرة فنص على نفي القبول بجهة الفدية.
أقول : ولو قال التخصيص بعد التعميم لكان أظهر لأن ذكر واحد مما يتناوله أو يحتمله المجمل ليس تفصيلا له. ثم قال : الثالث : وهو وجه خطر ببالي وهو أن من غضب على بعض عبيده فإذا أتحفه ذلك العبد بتحفة وهدية لم يقبلها البتة إلا أنه قد يقبل الفدية فأما إذا لم يقبل منه الفدية أيضا كان غاية الغضب والمبالغة إنما تحصل بتلك المرتبة التي هي الغاية فحكم تعالى بأنه لا يقبل منهم ملء الأرض ذهبا ولو كان واقعا على سبيل الفداء تنبيها على أنه لا لم يكن مقبولا بهذا الطريق فبأن لا يكون مقبولا منه بسائر الطرق أوْلى. اه. وفي الكشاف : هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل فلن تقبل من أحدهم فدية لو افتدى بملء الأرض ذهبا ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله وأورد لذلك شواهد وأمثلة ثم قال وأن يراد فلن يقبل من احدهم ملء الأرض ذهبا كان قد تصدق به ولو افتدى به أيضا لم يقبل. اه.
ذكر جمهور المفسرين أن قوله تعالى :﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ خطاب للمؤمنين وأنه كلام مستأنف سبق لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكافرين ولا يقبل منهم. وذهب الأستاذ الإمام إلى أن الخطاب لا يزال لأهل الكتاب. ذلك أن من سنة القرآن أن يقرن الكلام في الإيمان بذكر آثاره من الأعمال الصالحة. وأدلها عليه بذل المال في سبيل الله فلما حاج أهل الكتاب في دعاويهم في الإيمان والنبوة وكونهم شعب الله الخاص وكون النبوة محصورة فيهم وكونهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودات خاطبهم في هذه الآية بآية الإيمان وميزان الصحيح، الذي يعرف به المرجوح والرجيح، وهو الإنفاق في سبيل الله من المحبوبات مع الإخلاص وحسن النية كأنه يقول : إنكم أيها المدعون لتلك الدعاوى والمفتخرون بالكتاب الإلهي واتصال حبل النسب بالنبيين قد أحضرت أنفسكم الشح وآثرتم شهوة المال على مرضاة الله وإذا أنفق أحدكم شيئا ما فإنما من أردأ ما يملك وأبغضه إليه وأكرهه عنده. لأن محبة كرائم المال في قلبه تعلو محبة الله تعالى، والرغبة في ادخاره تفوق لديه الرغبة عند ربه من الرضى والمثوبة، ولن تنالوا البر فتعدوا من الأبرار الذين هم المؤمنون الصادقون، حتى تنفقوا مما تحبون، فحذف ذكر الإيمان استغناء بذكر أكبر آياته، وأوضح دلالاته، وهي إنفاق المحبوبات، وبذل المشتهيات.
وقال الأستاذ الإمام : إن المتبادر من الإنفاق هنا هو إنفاق المال لأن شأنه عند النفوس عظيم حتى أن الإنسان كثيرا ما يخاطر بنفسه ويستسهل بذل روحه لأجل الدفاع عن ماله أو المحافظة عليه أقول وتؤيده آية ٢ : ١٨٨ الآتية على أن المال يعم النقدين وغيرهما مما يتموله الناس وشرط البر بذل بعض ما يحبه الإنسان من كل شيء حتى الطعام وهو أحد الوجهين في تفسير قوله تعالى :﴿ ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ﴾ [ الإنسان : ٨ ] أي على حبهم إياه. والوجه الثاني أن الضمير عائد إلى الله تعالى أي لأجل حبه تعالى والمال يجمع جميع المحبوبات ويوصل إليها.
واختلفوا في البر المراد هنا الذي لا يناله المرء أي يصيبه ويدركه إلا إذا أنفق مما يحب فقيل هو بر الله تعالى وإحسانه مطلقا وقيل الجنة وقيل هو ما يكون به الإنسان بارا وهو ما تقدم تفضيله في قوله تعالى :﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب لكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ﴾ [ البقرة : ١٨٨ ] الآية وفيها :﴿ وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى ﴾ إلخ وأنت ترى أنه في هذه الآية جعل إيتاء المال على حبه شعبة من شعب البر كما جعل في سورة الإنسان إطعام الطعام على حبه صفة من صفات الأبرار. ولكنه في الآية التي نفسرها جعل الإنفاق مما يحب غاية لا ينال البر إلا بالانتهاء إليها. وقد فهم منه بعضهم أن من أنفق مما يحب كان برا وإن لم يأت بسائر شعب البر من الإيمان بجميع أركانه وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والوفاء بالعهد والصبر في البأساء والضراء وحين البأس. وليس ما فهم بصواب. إنما الصواب أن الإنسان لا يكون برا بالقيام بهذه الخصال حتى ينتهي إلى هذه الخصلة الإنفاق مما يحب وما جعلها غاية إلا وهي أشق على النفوس وأبعد عن الحصول إلا من وفقه الله تعالى ووهبه الكمال.
وهذا الإنفاق غير الزكاة خلافا لما نقل في بعض الروايات. فإن الزكاة قد عدت في آية البقرة من شعب البر وأركانه بعد ذكر إيتاء المال على حبه. فدل ذلك على أنهما متغايران ولا يشرط في الزكاة أن تكون مما يحب المؤدي بل ورد أمر العاملين عليها باتقاء كرائم أموال الناس. ومن فضل الله تعالى علينا أن اكتفى منا في نيل البر بأن ننفق مما نحب ولم يشترط علينا أن ننفق جميع ما نحب.
ثم قال تعالى :﴿ وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم ﴾ لا يخفى عليه هل هو محبوب لديك أو مزهود فيه. وهل أنتم مخلصون في إنفاقه أم أنتم مراؤون طالبون للشهرة والجاه. فهو عز وجل يجازيكم على ما تنفقون بحسب ما يعلم من نيتكم ومن موقع ذلك من قلوبكم وقدر ما ترتقي بذلك أرواحكم. فرب منفق مما يحب لا يسلم من الرياء ورب فقير لا يجد ما يحب فينفق منه ولكن قلبه يفيض بالبر حتى لو وجد ما أحب لأوشك أن ينفقه.
ويذكر المفسرون في تفسير الآية ما كان عليه السلف الصالح من جعل ما يحبون لله تعالى. ذكر ابن جرير الشواهد على ذلك من روايته ونقل غيره من كتب الحديث بعض الوقائع. فمن ذلك ما أخرجه الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس قال " كان أبو طلحة أكثر الأنصار بخلا بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون ﴾ قال أبو طلحة يا رسول الله إن أحب أموالي إلى بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه " ١ وفي رواية لمسلم وأبي داود " فجعلها بين حسان بن ثابت وأبي بن كعب ".
وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال " لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال هي صدقة فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنة أسامة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال : إن الله قبلها منك " وفي رواية ابن جرير " فكأن زيدا وجد في نفسه فلما رأى ذلك منه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أما إن الله قد قبلها " وهذا وما قبله من آيات سياسته صلى الله عليه وسلم للقلوب. رأى أن زيدا وأبا طلحة قد خرجا بعاطفة الإيمان عن أحب أموالهما إليهما على تعلق القلوب بكرائم الأموال فجعل ذلك في الأقربين منهما ليثبت قلوبهما فلا يكون للشيطان سبيل إلى الوسوسة لهما بالندم أو الامتعاض إذا رأيا ذلك في أيدي الغرباء.
وقد يمتعض المرء بعد فقد المحبوب وإن فارقه مختارا مرتاحا لعاطفة أو أريحية طارئة ثم لا يلبث أن يعاوده من الحنين إليه ما لا يعاوده إلى ما هو أغلى منه ثمنا إذا لم يكن من الكرائم المحبوبة. ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر عمال الصدقة باتقاء كرائم أموال الناس. ويدل على ما قررته في ذلك أثر ابن عمر الآتي : أخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال حضرتني هذه الآية " لن تنالوا البر " إلخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى، فلو أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعا : فانظر كيف راودته نفسه بعد عتقها أن يستبقيها لنفسه ولا يفارقها لولا أن كان مما تربت عليه نفسه العالية أن لا يعود في شيء جعله لله، وانظر كيف خص بها بعد ذلك مولاه نافعا الذي كان يحبه كولده.
ومما رواه ابن جرير في ذلك عن مجاهد قال كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى في قتال سعد بن أبي وقاص. فدعا بها عمر فقال إن الله يقول ﴿ لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون ﴾ فأعتقها.
وآثار السلف في الإيثار وبذل المحبوبات في سبيل الله كثيرة " نزل بالرسول صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا فدخل عليه رجل من الأنصار هو أبو طلحة زيد بن سهل فذهب به أهله فوضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج فقامت كأنها تصلحه فأطفأته وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام وبقي هو وعياله مجهودين فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد عجب الله عز وجل من صنيعكم٢ الليلة إلى ضيفكم " ونزلت :﴿ يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ [ الحشر : ٩ ] رواه الشيخان وغيرها من حديث أبي هريرة.
واشتهى عبد الله بن عمر سمكة وكان قد نقه من مرض فالتمست بالمدينة فلم توجد حتى وجدت بعد مدة واشتريت بدرهم ونصف فأشويت وجيء بها على رغيف فقام سائل بالباب فقال ابن عمر للغلام لفها برغيفها وادفعها إليه فأبى الغلام فرده وأمره بدفعها إليه ثم جاء بها فوضعها بين يديه وقال كل هنيئا يا أبا عبد الرحمن فقد أعطيته درهما وأخذتها فقال لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم فإني سمعت رسول الله صلى اله عليه وسلم يقول " أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له " أو غفر الله له. رواه ابن حبان في الضعفاء وأبو الشيخ من حديث نافع عن ابن عمر والدارقطني في الأفراد.
وعن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه أهدى إلى رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس شاة إن أخي فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلما وصل إليه قال إن فلانا كان أحوج مني إليه فبعث به إليه فلم يزل يبعث به كل واحد إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول، نقله أبو طالب في القوت والغزالي في الإحياء. ويشبه هذا ما حكى عن أبي الحسن الأنطاكي الصوفي أنه اجتمع عنده ثلاثون نفسا ونيفا وكانوا في قرية بقرب الري ولهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام واوهم كل واحد صاحبه أنه يأكل فلما رفع إذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منه شيئا.
وفي الإحياء أن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه خرج إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيهم غلام أسود يعمل فيه، إذ أتى الغلام بقوته فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله ثم رمى إليه بالثاني والثالث فأكلهما وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم ؟ قال ما رأيت قال فلم آثرت هذا الكلب فقال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعا فكرهت رده، قال فما أنت صانع اليوم ؟ قال أطوي يومي هذا. فقال عبد الله بن جعفر : ألام على السخاء ؟ إن هذا لأسخى مني. فاشترى الحائط ( أي بستان النخل الذي يعمل فيه الغلام الأسود ) والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه.
وفي هذه الآثار وأمثالها ما يجب أن يكون فيه أسوة حسنة لمن يؤمن بالله واليوم الآخر. وينتمي إلى أولئك السلف الصالحين، والله ولي المؤمنين، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
٢ أخرجه البخاري في ناقب الأنصار باب ١، ١٠، ومسلم في الأشربة حديث ١٧٢..
بسم الله الرحمن الرحيم
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة قل فآتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٩٣ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ٩٤ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ٩٥ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ٩٦ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ٩٧ ).كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما الأستاذ الإمام هكذا :
قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده – كما تدعي- فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول : إنك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى. وأما الثانية فهي أنهم قالوا : إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
فقوله تعالى :( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) هو جواب عن الشبهة الأولى، قال الأستاذ الإمام : ولكن الجلال وكثيرا من المفسرين يقررون الشبهة ولا يبينون وجه دفعها بيانا مقنعا، إذ يعترفون بأن بعض الطيبات كانت محرمة على إسرائيل. والصواب ما قصه الله تعالى علينا في هذه الآية وغيرها من الآيات التي توضحها، وهي أن كان الطعام كان حلالا لبني إسرائيل ولإبراهيم من قبل بالأولى، ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا، كما قال :( فبظلم من الذين هادوا حرما عليهم طيبات أحلت لهم ) [ النساء : ١٦٠ ] الآية. فالمراد بإسرائيل شعب إسرائيل، كما هو مستعمل عندهم، لا يعقوب نفسه. ومعنى تحريم الشعب ذلك على نفسه : أنه ارتكب الظلم و اجترح السيئات التي كانت سبب التحريم، كما صرحت الآية. فكأنه يقول : إذا كان الأصل في الأطعمة الحل، وكان تحريم ما حرم على إسرائيل تأديبا على جرائم أصابوها، وكان النبي وأمته لم يجترحوا تلك السيئات، فلم تحرم عليهم الطيبات ؟ ثم قال تعالى مبينا تقرير الدفع وسنده ( قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ) في قولكم، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها. أقول : كأنه يقول : أما إنكم لو جئتم بما عندكم منها لما كان إلا مؤيدا للقرآن فيما جاء به من أنها هي حرمت عليكم ما حرمتُ. وعللت جملة التكاليف بأنكم شعب غليظ الرقبة متمرد يقاوم الرب، كما قال موسى عند أخذ العهد عليكم بحفظ الشريعة ( اقرأ الفصل ٣١ من سِفر التثنية ) وفي غير ذلك من فصول التوراة.
قال الأستاذ الإمام : أما قول الجلال وغيره : إن يعقوب كان به عرق النّسا- بالفتح والقصر- فنذر : إن شُفي لا يأكل لحم الإبل. فهو دسيسة من اليهود وقيل : إنه نذر أن لا يأكل هذا العرق. وفي التوراة أن يعقوب التقى في بعض أسفاره بالرب في الطريق فتصارعا إلى الصباح، وكاد يعقوب يغلبه، ولكن اعتراه عرق النسا إلخ ما حرفوه. أقول : وتتمة العبارة- كما في سفر التكوين- " ٣٢ : ٢٥ ولما رأى أنه لا يقدر عليه ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه ٢٦ وقال أطلقني لأنه قد طلع الفجر. فقال : لا أطلقك إن لم تباركني ٢٧ فقال له : ما اسمك ؟ فقال يعقوب ٢٨ فقال : لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل. لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت ٢٩ وسأل يعقوب وقال : أخبرني باسمك. فقال : لماذا تسأل عن اسمي ؟ وباركه هناك ٣٠ فدعا يعقوب اسم المكان فنيئيل ( قائلا ) لأني نظرت الله وجها لوجه ونجيت نفسي ٣١ وأشرقت له الشمس إذ عبر فنوئيل وهو يخمع على فخذه ٣٢ لذلك لا يأكل بنو إسرائيل عرق النسا على حق الفخذ إلى هذا اليوم لأنه ضرب حق فخذ يعقوب على عرق النسا " ا ه.
وليس فيه أنه نذر شيئا ولا حرم شيئا وقيل : إن ما حرمه يعقوب هو زائدتا الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر. وقال مجاهد : حرم لحوم الأنعام كلها. وكل ذلك من الإسرائيليات. وصحة السند في بعضها عن ابن عباس أو غيره-كما زعم الحاكم- لا يمنع أن يكون مصدرها إسرائيليا. والأقرب ما قاله الأستاذ الإمام لأنه هو الذي تقوم به الحجة، لا سيما عند المطلع على التوراة. ولو أريد بإسرائيل يعقوب نفسه لما كان هناك حاجة إلى قوله " من قبل أن تنزل التوراة " لأن زمن يعقوب سابق على زمن نزول التوراة سبقا لا يشتبه فيه فيحترس عنه. والمتبادر عندي : أن المراد بما حرمه إسرائيل على نفسه ما امتنعوا عن أكله وحرموه على أنفسهم بحكم العادة والتقليد، لا بحكم من الله، كما يعهد مثل ذلك في جميع الأمم. ومنه تحريم العرب للبحائر والسوائب وغير ذلك مما حكاه القرآن عنهم في سورتي المائدة والأنعام. وقيل : إن شبهتهم التي دفعتها الآية هي إنكار النسخ، فألزمهم بأن التوراة نفسها نسخت بعض ما كان عليه إبراهيم وإسرائيل، وهو إلزام لا يمكنهم التفصي منه. لأنه ثابت عندهم في التوراة وهو يدل على نبوة النبي على كل حال. إذ أخبرهم بما عندهم ولم يطلع عليه. وبهذا يسقط بحثهم في كون التحليل والتحريم لا يكونان إلا من الله.
ومن مباحث اللفظ في الآية : أن الطعام ما يطعم، أن يُتناول لأجل الغذاء، كما قال الراغب. وقد يقال أيضا : طعِم الماء- بكسر العين- وكان يطلق غالبا على الخبز. ومنه قولهم : أكل الطعام مأدوما، وعلى البر. ومنه حديث أبي سعيد " كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير " ١ الخ متفق عليه. ومن إطلاقه على غيره حتما : قوله تعالى :( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ) [ المائدة : ٩٦ ] وعلى الذبائح أو العموم قوله :( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) [ المائدة : ٥ ] الآية. والحل بالكسر مصدر حل الشيء ضد حرم، وهو مستعار من حل العقدة، كما قال الراغب. وإسرائيل : لقب نبي الله يعقوب عليه السلام. ومعناه " الأمير المجاهد مع الله " وقد علمت ما عندهم في سبب إطلاقه عليه من عبارة سفر التكوين الذي ذكرناها آنفا. ثم أطلق على جميع ذريته كما هو شائع في كتب القوم من الأسفار المنسوبة إلى موسى فما دونها.
بسم الله الرحمن الرحيم
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة قل فآتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٩٣ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ٩٤ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ٩٥ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ٩٦ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ٩٧ ).كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما الأستاذ الإمام هكذا :
قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده – كما تدعي- فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول : إنك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى. وأما الثانية فهي أنهم قالوا : إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
( فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك ) البيان وإلزام الكاذبين على إبراهيم والأنبياء بالتوراة ودعوتهم إلى الإتيان بها وتلاوتها على الملأ، وامتناعهم عن ذلك لئلا يظهر أن الله لم يحرم عليهم شيئا من الطعام قبل التوراة. والأصل في الأشياء الحل حتى يرد النص بالتحريم ( فأولئك هم الظالمون ) بتحويلهم الحق في المسألة عن وجهه ووضع حكم الله بتحريم بعض الطيبات عليهم في غير موضعه.
بسم الله الرحمن الرحيم
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة قل فآتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٩٣ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ٩٤ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ٩٥ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ٩٦ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ٩٧ ).كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما الأستاذ الإمام هكذا :
قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده – كما تدعي- فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول : إنك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى. وأما الثانية فهي أنهم قالوا : إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
( قل صدق الله ) فيما أنبأني به من عدم تحريم شيء على إسرائيل قبل التوراة، وقامت الحجة عليكم بذلك. فثبت أنني مبلغ عنه. إذ ما كان لولا وحيه أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون به عن أنبيائكم. وإذ كان الأمر كذلك ( فاتبعوا ملة إبراهيم ) التي أدعوكم إليها حال كونه ( حنيفا ) لا غلو فيما كان عليه ولا تقصير، ولا إفراط ولا تفريط. بل هو الفطرة القويمة والحنيفية السمحة المبنية على الإخلاص لله وإسلام الوجه له وحده ( و ما كان من المشركين ) الذين يبتغون الخير من غيره تعالى أو يخافون الضر من غير أسبابه التي مضت بها سنته.
بسم الله الرحمن الرحيم
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة قل فآتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٩٣ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ٩٤ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ٩٥ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ٩٦ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ٩٧ ).كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما الأستاذ الإمام هكذا :
قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده – كما تدعي- فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول : إنك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى. وأما الثانية فهي أنهم قالوا : إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
أما قوله عز وجل :( إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ) فهو جواب الشبهة الثانية، وتقريره : إن البيت الحرام الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس ؛ بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام لأجل العبادة خاصة. ثم بني المسجد الأقصى ببيت المقدس بعده بعدة قرون بناه سليمان بن داود عليهما السلام. فصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم، ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وولده إسماعيل. وهذا هو المعنى الظاهر المتبادر من الآية الذي قرره الأستاذ الإمام. وهو كاف في إبطال شبهة اليهود على النبي عليه الصلاة والسلام من غير حاجة إلى البحث في هذه الأولية، هل هي أولية الشرف أو أولية الزمان ؟
أقول : والمتبادر أنها أولية الزمان بالنسبة إلى بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء. فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يعرف من تاريخهم وما يؤثر عنهم. وهذا يستلزم الأولية في الشرف.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الأولية زمانية بالنسبة إلى وضع البيوت مطلقا. فقالوا : إن الملائكة بنته قبل خلق آدم وأن بيت المقدس بني بعده بأربعين عاما. وقال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى : إذا صح الحديث فلاشيء في العقل يحيله. ولكن الآية لا تدل عليه ولا يتوقف الاحتجاج بها على ثبوته. وبيت المقدس المعروف الذي ينصرف إليه الإطلاق قد بناه سليمان بالاتفاق وذلك قبل ميلاد المسيح بنحو ٨٠٠ سنة : كذا قال رحمه الله تعالى في الدرس. والمعروف في كتب القوم إنه تم بناؤه سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد. والحديث الذي ذكر آنفا في بناء المسجدين رواه الشيخان من حديث أبي ذر بلفظ الوضع لا البناء. قال " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال : المسجد الحرام ثم بيت المقدس. فقيل : كم بينهما ؟ فقال :" أربعون سنة " ١ وأجابوا عما فيه من الإشكال بوجوه، منها : أن الوضع غير البناء وهو ضعيف، لأنه سماه بيتا. ولو جعل المكان مسجدا ولم يبن فيه لما سمي بيتا بل مسجدا أو قبلة. ومنها : أن ذلك مبني على القول بأن إبراهيم هو الذي بنى أول مسجد للعبادة في أرض بيت المقدس. وذلك معقول وإن لم يكن عندنا فيه نص صحيح. وقال ابن القيم : إن الذي أسس بيت المقدس يعقوب، وإنما كان سليمان مجددا له. هذا وإن أخبار التاريخ ليست مما بلغ على أنه دين يتبع. والموضوعات المروية في بناء الكعبة كثيرة ولا حاجة إلى إضاعة الوقت في ذكرها وبيان وضعها.
أما قوله تعالى في البيت :( مباركا وهدى للعالمين ) فهو بيان لحاله الحسنة الحسية وحاله الشريفة المعنوية. أما الأولى : فهي ما أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شيء على كونه بواد غير ذي زرع. فترى الأقوات والثمار في مكة أكثر وأجود وأقل ثمنا منها في مثل مصر وكثير من بلاد الشام. وأما الثانية : فهي هُويّ أفئدة الناس إليه وإتيانه للحج والعمرة مشاة وركبانا من كل فج، وتولية وجوههم شطره في الصلاة، ولعله لا تمر ساعة ولا دقيقة من ليل أو نهار وليس فيها أناس متوجهون إلى ذلك البيت الحرام يصلون. فأي هداية للعالمين أظهر من هذه الهداية. تلك دعوة إبراهيم ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم، ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ) [ إبراهيم : ٣٧ ] وقد أشير إلى الوصفين في قوله تعالى : حكاية عن المشركين ( وقالوا إن نتبع الهدى معك نُتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبي إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ؟ ولكن أكثرهم لا يعلمون ) [ القصص : ٥٧ ] وقال بعضهم : إن " مباركا " يشمل البركات الحسية والمعنوية. وما اخترناه هو المتبادر.
ومن مباحث اللفظ في الآية : إن ( بكة ) اسم لمكة. كما روي عن مجاهد، قيل : وعليه الأكثرون، وجعلوه من إبدال الميم باء، وهو كثير في كلامهم، كسمّد رأسه وسبده، وضربة لازم وضربة لازب، وراتم وراتب، ونميط ونبيط. وقيل : بكة اسم المسجد نفسه، أو حيث الطواف من التباك، أي الازدحام وقيل : هو اسم بطن مكة حيث الحرم.
بسم الله الرحمن الرحيم
( كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، من قبل أن تنزل التوراة قل فآتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ٩٣ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ٩٤ قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ٩٥ إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ٩٦ فيه آيات بينات مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ٩٧ ).كان الكلام من أول السورة إلى هنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، مع إثبات التوحيد، واستتبع ذلك محاجة أهل الكتاب في ذلك، وفي بعض بدعهم وما استحدثوا في دينهم. أما هذه الآيات ففي دفع شبهتين عظيمتين من شبهات اليهود على الإسلام، قررهما الأستاذ الإمام هكذا :
قالوا : إذا كنت يا محمد على ملة إبراهيم والنبيين من بعده – كما تدعي- فكيف تستحل ما كان محرما عليه وعليهم كلحم الإبل ؟ أما وقد استبحت ما كان محرما عليهم فلا ينبغي لك أن تدعي أنك مصدق لهم وموافق في الدين، ولا أن تخص إبراهيم بالذكر وتقول : إنك أولى الناس به. هذه هي الشبهة الأولى. وأما الثانية فهي أنهم قالوا : إن الله وعد إبراهيم بأن تكون البركة في نسل ولده إسحاق، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه ؛ فلو كنت على ما كانوا عليه لعظمت ما عظموا، ولما تحولت عن بيت المقدس وعظمت مكانا آخر اتخذته مصلى وقبلة، وهو الكعبة، فخالفت الجميع.
( فيه آيات بينات مقام إبراهيم ) أي فيه دلائل أو علامات ظاهرة لا تخفى على أحد. أحدها، أو منها : مقام إبراهيم، أي موضع قيامه فيه للصلاة والعبادة تعرف ذلك العرب بالنقل المتواتر. فأي دليل أبين من هذا على كون هذا البيت أو بيت من بيوت العبادة الصحيحة المعروفة في ذلك العهد وضع ليعبد الناس فيه ربهم- وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم بجعل النبوة والملك فيهم لا يعرف لنبي قبله أثر ولا يحفظ له نسب.
وقوله :( ومن دخله كان آمنا ) آية ثانية بينة لا يمتري فيها أحد، وهي اتفاق قبائل العرب كلها على احترام هذا البيت وتعظيمه لنسبته إلى الله، حتى أن من دخله يأمن على نفسه لا من الاعتداء عليه وإيذائه فقط بل يأمن أن يثأر منه من سفك هو دماءهم واستباح حرماتهم مادام فيه. مضى على هذا عمل الجاهلية على اختلافها في المنازع والأهواء والمعبودات وكثرة ما بينها من الأحقاد والأضغان وأقره الإسلام.
ويرد على إقرار الإسلام لحرمة البيت فتح مكة بالسيف، وأجيب عنه : بأنها حلت للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله ولن تحل لأحد بعده، كما ورد في الحديث. وذلك لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه لما وضع له. وأقول : إن حرمة مكة كلها وما يتبعها من ضواحيها وحلها للنبي صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على ما نحن فيه، وهو أمن من دخل البيت والنبي لم يستحل البيت ساعة ولا بعض ساعة، وإنما كان مناديه ينادي بأمره :" من دخل داره وأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن " ١ ولما أخبر أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن عُبادة حامل لواء الأنصار له في الطريق : اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة : قال صلى الله عليه وسلم " كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة " ٢ ( راجع السير ).
وأما فعل الحجاج أخزاه الله فقد قال الأستاذ الإمام : إنه كان من الشذوذ الذي لا ينافي الاتفاق على احترام البيت وتعظيمه، وتأمين من دخله، وهذا الجواب مبني على أن أمن من دخل البيت ليس معناه : أن البشر يعجزون عن الإيقاع به عجزا طبيعيا على سبيل خرق العادة. وإنما معناه : أنه تعالى ألهمهم احترامه لاعتقادهم نسبته إليه عز وجل، وحرم الإلحاد والاعتداء فيه. ولم يكن الحجاج وجنده يعتقدون حل ما فعلوا من رمي الكعبة بالمنجنيق، ولكنها السياسة تحمل صاحبها على مخالفة الاعتقاد، وتوقعه في الظلم والإلحاد، وإن ما يفعل الآن في الحرم من الظلم والإلحاد المستمر لم يسبق له نظير في جاهلية ولا إسلام. ولا ضرورة ملجئة إليه، وإنما هي السياسة السوءى قضت بتنفير الناس من أمراء مكة وشرفائها وإبعاد عقلاء المسلمين عنها حتى لا يكون للمسلمين فيها قوة في الدين ولا في العلم والرأي ! ! وماذا يكون من ضرر هذه القوة ؟ يوسوس لهم شيطان السياسة : أن عمران الحجاز وثقة الناس بأمرائه وشرفائه، وأمن العقلاء والسرورات فيه ربما يكون سببا في إنشاء خلافة عربية فيه.
إن كثيرا من أمراء المسلمين ونابغيهم يعلمون أن دون أدائهم لفريضة الحج عقبات سياسة لا يسهل اقتحامها. وقد جاء في صحف الأخبار أن أمير مصر استأذن السلطان في حج والدته وبعض أمراء أسرته فلم يأذن. وقد كان الأستاذ الإمام يعتقد اعتقادا جازما فيه أنه إذا حج يلقي بيديه إلى التهلكة، وأنه لا أمان له في الحرم الذي كان يرى الجاهلي فيه قاتل أبيه فلا يعرض له بسوء. وإن كاتب هذه السطور يعتقد مثل هذا الاعتقاد٣. فنسأل الله تعالى أن يحقق لنا ثانية مضمون قوله :( ومن دخله كان آمنا ) لنمتثل ما فرضه علينا من حج هذا البيت- كما يأتي في تتمة الآية- فلا نلجأ إلى تأويل الأمان بمثل ما أوله به من قال : إن المراد به الأمن من العذاب يوم القيامة. وقد رد الأستاذ الإمام هذا التأويل، وقال ما معناه : إنه هدم للدين كله. فإن الأمن هناك إنما يكون لأهل التوحيد الخالص والعمل الصالح، الذين أقاموا الدين في الدنيا كما أمر الله تعالى، وما دخول البيت إلا بعض أعمال الإيمان، إذا أخلص صاحبه فيه. أقول : ولا تنسى في هذا المقام مثل قوله تعالى :( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) [ الأنعام : ٨٢ ] وما رووه في ذلك من الآثار لا ينافي المتبادر المختار، وما أظن أن ذلك يصح عن الإمام جعفر الصادق كما قيل.
أما قوله تعالى :( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) فهو بيان آية ثالثة من آيات هذا البيت جاءت بصيغة الإيجاب والفرضية في معرض ذكر مزاياه ودلائل كونه أول بيوت العبادة المعروفة للمعترضين من اليهود على استقباله في الصلاة، فهو يفيد بمقتضى السياق معنى خبريا وبمقتضى الصيغة معنى إنشائيا، وهو وجوب الحج على المستطيع من هذه الأمة. أشار إلى ذلك الأستاذ الإمام بقوله : هذه الجملة – وإن جاءت بصيغة الإيجاب- هي واردة في معرض تعظيم البيت، وأي تعظيم أكبر من افتراض حج الناس إليه ؟ وما زالوا يحجونه من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلى الله عليهما وعلى آلهما وسلم. ولم يمنع العرب عن ذلك شركها، وإنما كانوا يحجون عملا بسنة إبراهيم. يعني أن الحج عام جروا عليه جيلا بعد جيل على أنه من دين إبراهيم، وهذه آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى إبرهيم. فهي أصح من نقول المؤرخين التي تحتمل الصدق والكذب. وبهذا وبما سبقه بطل اعتراض أهل الكتاب، وثبت أن النبي على ملة إبراهيم دونهم.
أما الحج فمعناه في أصل اللغة القصد، -وهو بكسر الحاء- وبه قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، وفتحها، وبه قرأ الباقون، وقيل : الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد. وقد تقدم تفصيل أعماله في تفسير آيات سورة البقرة. وأما استطاعة السبيل : فهي عبارة عن القدرة على الوصول إليه. وهي تختلف باختلاف الناس في أنفسهم وفي بعدهم عن البيت وقربهم منه. وكل مكلف أعلم بنفسه – وإن كان عاميا- من غيره وإن كان عالما نحريرا. وما زاد الناس اختلاف العلماء في تفسير الاستطاعة إلا بعدا عن حقيقتها الواضحة من الآية أتم الوضوح إذ قال بعضهم : إن الاستطاعة صحة البدن والقدرة على المشي. وقال بعضهم : إنها القدرة على الزاد والراحلة. واشترطوا فيها : أمن الطريق، ولم يشترطوا الأمن في أرض الحرم، لأنها كانت آمنة قطعا.
وأما في هذا الزمان فما كل أحد يأمن فيها ؛ لا سيما إذا كان متهما بالاشتغال بالسياسة. وكيف ؟ وقد ألقي بعض علمائها في ظلمة السجن مكبلا بالسلاسل والأغلال، ولا ذنب له إلا أنه ألف كتابا أيد فيه التوحيد٤ وبين فساد ما طرأ على الناس من نزغات الوثنية التي يعبرون عنها بالتوسل بالأولياء فيا ليت شعري لو كان مثل الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الذي كان ينكر كرامات الأولياء حيا أكان يأمن على نفسه إذا أراد الحج، وهو المعدود في عصر العلم من أئمة علماء السنة في أصول الدين ؟ وقل مثل هذا في الإمام أبي بكر الباقلاني، الذي كان يقول في الأرواح بمثل ما يقول جمهور علماء أوربا اليوم من ماديين وغيرهم، دع الفرق التي وُسمت بالابتداع، كالمعتزلة والخوارج والشيعة. ولم يكن أهل السنة يكفرون أحدا منهم ولا يعاقبونه على مخالفة الجمهور في بعض الآراء أيام كان قرب جمهور المسلمين من العلم والدين كبعدهم عنه اليوم.
وقال الأستاذ الإمام في قوله تعالى :" من استطاع إليه سبيلا " أنه بيان لموقع الإيجاب ومحله، وإعلام بأن الفرضية موجه أولا وبالذات إلى هذا العمل، ولكن الله رحم من لا يستطيع إليه سبيلا. والاستطاعة تختلف باختلاف الأشخاص : ولم يزد على ذلك.
وقوله تعالى :( ومن كفر فإن الله غني عن العالمين ) تأكيد لما سبق ووعيد على جحوده، وبيان لتنزيه الله تعالى بإزالة ما عساه يسبق إلى أوهام الضعفاء عند سماع نسبة البيت إلى الله، والعلم بفرضه على الناس أن يحجوه من كونه محتاجا إلى ذلك. فالمراد بالكفر : جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة الصحيحة، بعد إقامة الحجج على ذلك وعدم الإذعان لما فرض الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة. هذا هو المتبادر. وحمله بعضهم على الكفر مطلقا على أنه مستقل لا متمم لما قبله. وهو بعيد جدا، وبعضهم على ترك الحج وهو بعيد أيضا، وإن دعموه بحديث أبي هريرة مرفوعا :" من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " رواه ابن عدي، وحديث أبي أمامة عند الدارمي٥ والبيهقي :" من لم يمنعه من الحج حاجة ظاهرة أو سلطان جائر أو مرض حابس فمات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا " ورواه غيرهم باختلاف في اللفظ والروايات كلها ضعيفة إلا ما قيل في رواية موقوفة ؛ بل عده ابن الجوزي من الموضوعات. واعترض عليه لكثرة طرقه. وأمثل طرقه المرفوعة : ما روي عن علي كرم الله وجهه بلفظ :" من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا، وذلك لأن الله تعالى قال في كتابه :( ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ) الآية " رواه الترمذي، ٦ وقال : غريب، في إسناده مقال، والحارث يضعف. وهلال بن عبد الله الراوي له عن إسحاق مجهول. وقد قال بعضهم : إن تعدد طرق الحديث ترتقي به إلى درجة الحسن لغيره كما يقولون في مثله، ولا يقدح في ذلك قول العقيلي والدارقطني : لا يصح في هذا الباب شيء، إذ لا ندعي أن هناك شيئا صحيحا. وأشد من ذلك أثر عمر عند سعيد بن منصور في سننه قال :" لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فينظروا كل من كان له جِدَة ولم يحج فيضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين " واستدل بهذه الروايات على أن الحج واجب على الفور. وبه قال كثير من أهل الفقه والأثر. والآخرون يقولون : إنه على التراخي. والاحتياط أن لا يؤخر المستطيع الحج بغير عذر صحيح لئلا يفاجئه الموت قبل ذلك.
أقول : إن الآية تشتمل على مزايا وآيات لبيت الله الحرام. فالمزايا كونه أول مسجد وضع للناس، وكونه مباركا. وكونه هدى للعالمين، والآيات : مقام إبراهيم وأمن داخله، والحج إليه على ما بينا، ويذكر له المفسرون هنا خصائص ومزايا أخرى يعدونها من الآيات على تقدير " منها مقام إبراهيم " ومنهم من قال : إنها هي الآيات، وإن قوله " مقام إبراهيم " كلام مستقل. قال الرازي : فكأنه قال : فيه آيات بينات ؛ ومع ذلك هو مقام إبراهيم ومقره والموضع الذي اختاره وعبد الله فيه : ا ه ولعل الدافع لهم إلى هذا : فهمهم أن " مقام إبراهيم " تفسير للآيات وهو مفرد، وقد علمت أن ما بعده تابع له في ذلك. وما يؤيد ذلك : محاولة الآخرين أن يجعلوا مقام إبراهيم بمنزلة عدة آيات. قال الرازي : إن مقام إبراهيم اشتمل على الآيات، لأن أثر القدم في الصخرة الصماء آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية، لأنه لان من الصخرة ما تحت قدميه فقط، وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام آية خاصة لإبراهيم عليه السلام، وحفظه مع كثرة أعدائه من اليهود والنصارى والمشركين ألوف السنين آية. فثبت أن مقام إبراهيم عليه السلام آيات كثيرة : ا ه.
أقول : وقد تقدم في تفسير ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) [ البقرة : ١٢٥ ] أن بعضهم يقول : إن مقامه عبارة عن موقعه حيث ذلك ا
٢ - أخرجه البخاري في المغازي باب ٤٨..
٣ - كتب الأستاذ الشيخ رشيد رضا هذا قبل أن يستولي الوهابيون على الحجاز ومكة عام ١٩٢٤، وقد كانت بيد الشريف حسين المتحالف مع الإنكليز، وعندما دخل الوهابيون مكة ظافرين اندفع الشيخ رشيد رضا في تأييد انبعاث الوهابية في أواسط الجزيرة العربية، وسياسة زعيمها عبد العزيز بن سعود مرحبا بفتح الوهابيين للحجاز ومبرئا إياهم من تهمة الخروج على الدين معلنا أن عقيدتهم سنية صرفة ودينهم دين المسلمين الأولين، ورأى رشيد رضا أن ابن سعود يكاد يكون أفضل من حافظ على المبادئ الجوهرية للسنة ودافع عنها بعد الخلفاء الأربعة الأولين (راجع، الفكر العربي في عصر النهضة لألبرت حوراني ص ٢٧٧-٢٧٨).
٤ - هو الشيخ أبو بكر خوقير رحمه الله. ألف كتابا فصل المقال في توسل الجهال. فعاقبه الحسين بن علي بالسجن هو وابنه، حتى مات ابنه في السجن. وما خرج الشيخ أبو بكر إلا بعد دخول الملك آل سعود وكتبه المعتصم رضا (المؤلف)..
٥ - كتاب المناسك باب ٢..
٦ - كتاب الحج باب ٣..
أقول لما أقام سبحانه الحجة على أهل الكتب وبين بطلان شبهاتهم على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكونه على ملة إبراهيم عليه السلام أمره أن يبكتهم على كفرهم وصدهم عن سبيل الإيمان، وابتغائه عوجا وضلالهم بذلك على علم فقال :( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) في بيته الدالة على كونه أول بيت وضع لعبادته وعلى بناء إبراهيم له وتعبده فيه قبل وجود بني إسرائيل وبيت المقدس، أو بآياته على صحة نبوة محمد وإحيائه لملة إبراهيم الذي تعترفون بنبوته وفضله. ومنها ما ذكر عن البيت – ( والله شهيد على ما تعملون ) أي والحال أن الله تعالى مطلع على عملكم هذا وسائر أعمالكم محيط به، أفلا تخافون أن يأخذكم به ويجازيكم عليه أشد الجزاء ؟.
( وما الله بغافل عما تعملون ) من هذا الصد وغيره فهو يجازيكم عليه. فالتذييل تهديد لهم ووعيد. وقد جاء بنفي الغفلة لأن صدهم عن الإسلام كان بضروب من المكايد والحيل الخفية التي لا تروج إلا على الغافل. كما ختم الآية السابقة بكونه شهيدا على عملهم، لأن العمل الذي ذكر فيها هو الكفر وهو ظاهر مشهود، فذكر في كل آية ما يناسب المقام.
أخرج الفريابي وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال " كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهما شر، فبينما هم جلوس ذكروا ما ( كان ) بينهم حتى غضبوا وقام بعضهم إلى بعض بالسلاح فنزلت ( وكيف تكفرون ) الآية والآيتان بعدها ". وأخرج ابن إسحاق وأبو الشيخ عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس- وكان يهوديا- على نفر من الأوس والخزرج يتحدثون، فغاظه ما رأى من تآلفهم بعد العداوة. فأمر شابا معه من يهود أن يجلس بينهم فيذكرهم يوم بعاث، ففعل، فتنازعوا وتفاخروا حتى وثب رجلان : أوس بن قرظي من الأوس، وجبار بن صخر من الخزرج، فتقاولا، وغضب الفريقان. وتواثبوا للقتال. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء حتى وعظهم وأصلح بينهم، فسمعوا وأطاعوا، فأنزل الله في أوس أو جبار ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ) الآية. وفي شاس بن قيس ( يا أهل الكتاب لم تصدون ) الآية، انتهى من لباب النقول للسيوطي.
وأخرجه ابن جرير في التفسير مفصلا عن زيد بن أسلم، قل : مرّ شاس بن قيس- وكان شيخا قد عتا في الجاهلية، عظيم الكفر، شديد الضّغن على المسلمين، شديد الحسَد لهم- على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من جماعهم وأُلفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان منهم من العداوة في الجاهلية، فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار. فأمر فتى شابا من اليهود- وكان معه- فقال : اعمد إليهم فاجلس معهم وذكرهم يوم بعاث وما كان قبله. وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. وكان يوم بعاث يوما اقتتلت به الأوس والخزرج، وكان الظَفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل، فتكلم القوم عند ذلك، فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجلان في الحيين على الركب- أوس بن قيظي أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج – فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها الآن جذعة. وغضب الفريقان وقالوا : قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة :- والظاهرة الحرة – فخرجوا إليها وتحاور الناس، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال :" يا معشر المسلمين الله الله، أتدعون بدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا " ؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهما بعضا ؛ ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع.
قال ابن جرير : فأنزل الله في شاس بن قيس وما صنع ( يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ) إلى آخر الآيتين السابقتين قال : وأنزل الله عز وجل في أوس بن قيظي وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب ) – إلى قوله- ( لعلكم تهتدون ) وأورد صاحب الكشاف، الرواية مختصرة وقال في آخرها : فما كان يوم أقبح أولا وأحسن آخرا من ذلك اليوم :- فعلى هذا تكون الآيتان السابقتان متصلتين بالآيات الآتية.
أقول ويجوز أن يراد بالكفر على الوجه الأول : حقيقته، كأنه يقول : إنكم إذا أصغيتم إلى ما يلقيه هؤلاء اليهود من مثيرات الفتن واستجبتم لما يدعونكم إليه فكنتم طائعين لهم فإنهم لا يقنعون منكم بالعود إلى ما كنتم عليه من العداوة والبغضاء، بل يتجاوزون إلى ما وراء ذلك، وهو أن يردوكم إلى الكفر. ويؤيد هذا قوله تعالى :( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم ) [ لبقرة : ١٠٩ ] الآية وقوله في هذه السورة :( ودّت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم ) [ آل عمران : ٦٨ ] ولا يمنع الإنسان من إتيان ما يود إلا عجزه. وإذا كان هذا جائزا- وهو الظاهر على الوجه الأول- فهو متعين على الوجه الثاني.
أما اتصال الآية بما قبلها على هذا فظاهر جلي. فإنه بعد ما وبخ أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله، وهو الإسلام، إثر إقامة الحجج عليهم وإزالة شبهاتهم ناسب أن يخاطب المؤمنين مبينا لهم أن من كان هذا شأنهم في الكفر وهذا شأن ما دعوا إليه في ظهور حقيقته لا ينبغي أن يطاعوا ولا أن يسمع لهم قول : فإنهم دعاة الفتنة ورواد الكفر. ولذلك قال :﴿ وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم ﴾
أقول : وإذا كانت الرواية بالنسخ ضعيفة بحسب الصناعة، فهي في اعتقادي موضوع من لم يفهم الآية. ولو كان معناها ما رووا عن ابن مسعود رضي الله عنه لكانت من تكليف ما لا يطاق وهو ممنوع. وبه أخذ الأستاذ الإمام في منع النسخ.
أما قوله تعالى :( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) فمعناه على المختار عند الأستاذ الإمام : استمروا على الإسلام ؛ وحافظوا على أعماله حتى الموت. فالمراد بالإسلام على هذا هو الدين : إيمانه وعمله. ووجه الاختيار أنه جاء في مقابلة قوله :( يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) وبعد الأمر بالتقوى حق التقوى. وقيل إن المراد به الإخلاص، وقيل : الإيمان دون العمل لأنه هو الذي يستمر إلى الموت. أقول : وهذا النهي مبني على قاعدة : أن المرء يموت غالبا على ما عاش عليه فإذا عاش على اليقين والتقوى حق التقوى والاحتراس مما ينافي الإسلام مات على ذلك بفضل الله الذي كانت تلك القاعدة من سننه في خلقه. ثم بين لنا عز وجل ما به يتحقق ذلك الأمر والنهي، فقال :
( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا )
وصور الأستاذ الإمام التمثيل بما هو أظهر من هذا، قال ما معناه : الأشبه أن تكون العبارة تمثيلا، كأن الدين في سلطانه على النفوس واستيلائه على الإرادات وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال على حسب هديه : حبل متين يأخذ به الآخر فيأمن السقوط، كأن الآخذين به قوم على نشر من الأرض يخشى عليهم السقوط منه فأخذ بحبل موثق جمعوا به قوتهم فامتنعوا من السقوط.
وأقول : إن المختار هو ما ورد في الحديث المرفوع من تفسير حبل الله بكتابه، ومن اعتصم به كان آخذا بالإسلام. ولا يظهر تفسيره بالجماعة والاجتماع ؛ وإنما الاجتماع هو نفس الاعتصام، فهو يوجب علينا أن نجعل اجتماعنا ووحدتنا بكتابه، عليه نجتمع، وبه نتحد، لا بجنسيات نتبعها، ولا بمذاهب نبتدعها، ولا بمواضعات نضعها، ولا بسياسات نخترعها، ثم نهانا عن التفرق والانفصام، بعد هذا الاجتماع والاعتصام، لما في التفرق من زوال الوحدة، التي هي معقد العزة والقوة، وبالعزة يعتز الحق فيعلو في العالمين، وبالقوة يحفظ هو وأهله من هجمات الواثبين وكيد الكائدين، فهذا الأمر والنهي في معنى الأمر والنهي في قوله تعالى :( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) [ الأنعام : ١٥٢ ] فحبل الله هو صراطه وسبيله. وما أشرنا إليه هنا من بيان أنواع التفرق هو السبل التي نهى عن اتباعها في تلك الآية، وهي قد نزلت قبل هذه التي نفسرها. لأنها في سورة الأنعام وهي مكية، وسورة آل عمران مدنية. فكأنه قال : ولا تتفرقوا باتباع السبل غير سبيل الله الذي هو كتابه. فمن تلك السبل المفرقة : إحداث المذاهب والشيع في الدين كما قال :( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) [ الأنعام : ١٥٩ ] ومنها عصبية الجنسية الجاهلية وهي التي نزلت الآية التي نفسرها وما معها فيها لما كان بين الأوس والخزرج ما كان كما تقدم. وورد في النهي عنها أحاديث كثيرة صحاح وحسان، كقوله صلى الله عليه وسلم " أبغض الناس إلى الله ثلاثة : ملحد في الحرم، ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، ومطلب دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه " ٢ رواه البخاري من حديث ابن عباس، وقوله صلى الله عليه وسلم :" ليس منا من دعا إلى عصبية " ٣. رواه أبو داود من حديث جبير بن مطعم.
وقد اعتصم في هذا العصر أهل أوروبا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب في الجاهلية ؛ فسرى سم ذلك إلى كثير من متفرنجة المسلمين، فحاول بعضهم أن يجعلوا في المسلمين جنسيات وطنية لتعذر الجنسية النسبية. ويوجد في مصر من يدعو إلى هذه العصبية الجاهلية٤ مخادعين للناس بأنهم ينهضون بالوطن ويعلون شأنه، وليس الأمر كذلك فإن حياة الوطن وارتقاءه باتحاد كل المقيمين فيه على إحيائه، لا في تفرقهم ووقع العداوة والبغضاء بينهم لا سيما المتحدين منهم في اللغة والدين أو أحدهما. فإن هذا من مقدمات الخراب والدمار، لا من وسائل التقدم والعمران، فالإسلام يأمر باتحاد واتفاق كل قوم تضمهم أرض وتحكمهم الشريعة على الخير والمصلحة فيها، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم، ويأمر مع ذلك باتفاق أوسع، وهو الاعتصام بحبل الله بين جميع الأقوام والأجناس لتتحقق بذلك الأخوة في الله، ولذلك قال بعد الأمر بالاعتصام والاجتماع والنهي عن التفرق :
( واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ) يشير إلى ما كان عليه المؤمنون في عصر التنزيل من أخوة الإيمان التي بها قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم وبها كانوا يؤثرون بعضهم بعضا بالشيء على نفسه، وهو في خصاصة وحاجة شديدة إلى ذلك الشيء بعد ما كان بينهم في الجاهلية من العداوة والبغضاء وتسافك الدماء ما هو معروف في جملته للجماهير وفي تفاصيله الغربية للمطلعين على أخبارهم المروية والمدونة. ومنها أن الحروب تطاولت بين الأوس والخزرج مئة وعشرين سنة حتى أطفأها الإسلام، وألف الله بين قلوبهم برسوله صلى الله عليه وسلم، فهذا بعض ما أفادهم الإسلام في حياتهم الدنيا، وقد أنقذهم فيما يستقبلون من أمر الآخرة مما هو شر، وأدهى وأمر، وذلك قوله عز وجل :
( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) أي كنتم كذلك، بوثنيتكم وشرككم بالله تعالى وما يتبعه من الخرافات والمفاسد فهي التي أطفأت نور الفطرة وهبطت بالأرواح إلى درك سافل حتى كانت كأنها على طرف حفرة يوشك أن تنهار بها في النار. فشفا الحفرة أو البئر طرفها، ويضرب به المثل في القرب من الهلاك، قال الراغب : ومنه أشفى على الهلاك، أي حصل على شفاه. وليس بين الشرك وبين الهلاك في النار إلا الموت، والموت أقرب غائب ينتظر. فما أعظم منة الله تعالى على المؤمنين الصادقين، لا سيما الأولين الذين خوطبوا بهذه الآية، أولا : أن أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه وشقائه، وألف بينهم حتى صاروا بهذه الألفة أسعد الناس، ثم صاروا سادات الأرض، وأنقذهم بذلك من النار. فكانوا به سعداء الدارين والفائزين بالحسنيين. أفليس أول واجب من شكر هذه النعمة التي لا تفضلها نعمة أن يعرضوا عن وساوس ودسائس أولئك المغرورين بسلفهم من الأنبياء وهم ليسوا على شيء من هدايتهم ؟ بلى، فقد وضح ا لحق وبطل الإفك.
قال الأستاذ الإمام : انظر آية الله، قوم متخالفون بين العداوات والإحن يتربص كل واحد بالآخر الهلكة على يده، فيأتي الله بهذه الهداية فيجمعهم ويزيل كل ما في نفوسهم من التنافر ويجعلهم إخوانا ترجع أهواؤهم كلها إلى شيء واحد لا يختلفون فيه، وهو حكم الله. ولذلك قال :( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) أن ليعدكم ويؤهلكم بها للاهتداء الدائم المستمر فلا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.
ثم قال : التفرق والاختلاف قسمان : قسم لا يمكن أن يسلم منه البشر، فالنهي عنه من قبيل تكليف ما لا يستطاع، وليس بمراد في الآيات ؛ وقسم يمكن الاحتراس منه وهو المراد بها. أما الأول فهو الخلاف في الفهم والرأي ولا مفر منه لأنه مما فطر عليه البشر. كما قال تعالى :( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) [ هود : ١١٨ ] فاستواء الناس في العقول والأفهام مما لا سبيل إليه ولا مطمع فيه. إذ هو من قبيل الحب والبغض، فالأخوة الأشقاء في البيت الواحد تختلف أفهامهم في الشيء كما يختلف حبهم له وميلهم إليه. وأما الثاني- وهو ما جاءت الأديان لمحوه- فهو تحكيم الأهواء في الدين والأحكام، وهو أشد الأشياء ضررا في البشر، لأنه يطمس أعلام الهداية التي يلجأ إليها في إزالة المضمار التي في النوع الأول من الخلاف.
أما كون القسم الأول غير ضار فهو ما يعرفه كل أحد من نفسه، ذكر ذلك الأستاذ الإمام وضرب له المثل بنفسه، فقال ما مثاله : إن بيني وبين بعض أصحابي الصادقين في محبتي وإرادة الخير لي خلافا في إلقاء هذا الدرس هنا. فأنا أعتقد أن إلقاء درس التفسير في الأزهر عمل واجب عليّ وخير لي ولا أشك في هذا ؛ كما أنني لا أشك في هذا الضوء الذي أمامي، ويوجد من أصحابي من يعتقد أن ترك هذا الدرس خير لي من قراءته ويحاجوني في ذلك، قائلين : إن تأخري لأجل الدرس إلى الليل ضار بصحتي وإنه مثير لحسد الحاسدين لي، ودافع لهم إلى الكيد والإيذاء، وأن الدرس عقيم لأن أكثر الذين يسمعونه لا يفقهون ما أقول ولا يفهمون، ومن فهم لا يرجى أن يعمل به لغلبة فساد الأخلاق. هذه حجة بعض أصحابي في مخالفة رأيي واعتقادي يصرحون لي بها، ومع ذلك ألقاهم ويلقونني لم ينقص ذلك من مودتنا شيئا، فضلا عن أن يكون مثارا للعداوة والبغضاء بيننا. فأنا أعذرهم في رأيهم مع اعتقادي بإخلاصهم وهم يعذرونني كذلك. ولنفرض أن الخلاف بيننا في مسألة دينية كأن أعتقد أنا أن فعل كذا حرام، وهم يعتقدون حله ؛ أكان يكون بيننا تفرق لأجله ؟ كلا. لا ريب عندي أنه لا فرق بين الخلافين وأننا نبقى على هذا الخلاف أصدقاء.
ثم قال ما مثاله مبسوطا : كذلك كان الخلاف بين علماء السلف وأئمة الفقهاء. فمالك قد نشأ في المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من حسن الحال وسلامة القلوب فقال : إن عمل أهل المدينة أصل من أصولي، لأنهم على حسن حالهم وقرب عهدهم بالنبي وأصحابه لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة عملا. وأما أبو حنيفة فنشأ في العراق وأهلها كما اشتهر عنهم أهل شقاق ونفاق. فهو معذور إذا لم يحتج بعملهم ولا بعمل غيرهم قياسا عليهم، ولو اجتمعا لعذر كل منهما الآخر. لأنه بذل جهده في استبانة الحق مع الإخلاص لله تعالى، وإرادة الخير والطاعة. وقد نقل عن الأئمة أن كل واحد كان يعذر الآخرين فيما خالفوه فيه، ولكن تنكب هذه الطريقة طوائف جاءت بعدهم تقلدهم فيما نقل من مذاهبهم لا في سيرتهم، حتى صار الهوى هو الحاكم في الدين، وصار المسلمون شيعا، يتعصب كل فريق إلى رأي من مسائل الخلاف، ويعادي الآخر إذا خالفه فيه. وكان من جراء ذلك ما هو مدون في التاريخ. وما ذلك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلوب هؤلاء المتعصبين، وإلا فبالله كيف يصدق أن يكون الإمام الشافعي مثلا مصيبا في كل ما خالف به غيره ؟ وإذا كان الصواب في بعض المسائل الاجتهادية مع غيره، فكيف يعقل أن يمر أكثر من ألف سنة على فقهاء مذهبه ولا يظهر لهم شيء من ذلك، فيرجعوا عن قوله إلى ما ظهر لهم أنه الصواب من مذهب غيره كأبي حنيفة أو مالك ؟ وهذا ما يقال في أتباع كل مذهب.
هذا النوع من الخلاف هو الذي ذلت به الأمم بعد عزها، وهوت بعد رفعتها وضعفت بعد قوتها- هو الافتراق في الدين وذهاب أهله مذاهب تجعلهم شيعا تتحكم فيهم الأهواء، كما حصل من الفرق الإسلامية، لا يكاد أحدهم يعلم أن الآخر خالفه في رأي إلا ويبادر إلى الرد عليه بالتأليف، وبذل الجهد في تضليله وتفنيد مذهبه ويقابله الآخر بمثل ذلك، لا يحاول أحد منهم محادثة الآخر والاطلاع على دلائله ووزنها بميزان الإنصاف والعدل. فالواجب أولا : محاولة الفهم والإفهام في البحث والمذاكرة –أي ولو كتابة- وثانيا : أن لا يكون الخلاف مفرقا بين المختلفين في الدين. قال : فما دام المسلم لا يخل بنصوص كتاب الله ولا باحترام الرسول صلى الله عليه وسلم فهو على إسلامه لا يكفر ولا يخرج من جماعة المسلمين. فإذا تحكم الهوى فلعن بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا فقد باء بها من قالها كما ورد في الحديث.
ثم قال : ومثل الاختلاف في الدين الاختلاف في المعاملة ؛ لا يجوز أن يكون مفرقا بين المؤمنين، بل يرجعون في النزاع إلى حكم الله وأهل الذكر منهم : يعني أولي الأمر، وهم أهل العلم والرأي في مصالح الأمة. فإذا امتثلنا أمر الله ونه
٢ - أخرجه البخاري في الديات باب ٩..
٣ - أخرجه أبو داود في الأدب باب ١١٢..
٤ - بينا في المنار فساد هذه الدعوة ومنابذتها للإسلام مرارا كثيرا آخرها ما تقدم في الجزء السادس ( ج ٦ م ١٠) في الرد على فريد أفندي وجدي. وفي الجزء السابع بعده في الكلام على جريدة اللواء وصاحبها (المؤلف)..
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى ما مثاله : إن الله تعالى قد وضع لنا بفضله ورحمته قاعدة نرجع إليها عند تفرق الأهواء واختلاف الآراء، وهي الاعتصام بحبله ولذلك نهانا عن التفرق بعد الأمر بالاعتصام، الذي قلنا في تفسيره : إنه تمثيل لجمع أهوائهم وضبط إرادتهم. ومن القواعد المسلمة : أنه لا تقوم لقوم قائمة إلا إذا كان لهم جامعة تضمهم ووحدة تجمعهم وتربط بعضهم ببعض، فيكونون بذلك أمة حية كأنها جسد واحد، كما ورد في حديث " مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " ١ رواه أحمد ومسلم من حديث النعمان بن بشير. وحديث " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضا " ٢ رواه الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أبي موسى.
فإذا كانت الجامعة الموحدة للأمة هي مصدر حياتها، سواء أكانت مؤمنة أم كافرة، فلا شك أن المؤمنين أولى بالوحدة من غيرهم لأنهم يعتقدون أن لهم إلها واحدا يرجعون في جميع شؤونهم إلى حكمه الذي يعلو جميع الأهواء ويحول دون التفرق والخلاف. بل هذا هو ينبوع الحياة الاجتماعية لما دون الأمم من الجمعيات حتى البيوت- العائلات- ولما كان لكل جامعة وكل وحدة حفاظ يحفظها أرشدنا سبحانه وتعالى إلى ما نحفظ به جامعتنا التي هي مناط وحدتنا- وأعني بها الاعتصام بحبله- فقال :( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حفاظ الجامعة وسياج الوحدة.
وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى " منكم " هل معناه : بعضكم، أم " من " بيانية ؟ ذهب مفسرنا الجلال إلى الأول، لأن ذلك فرض كفاية. وسبقه إليه الكشاف وغيره. وقال بعضهم : بالثاني، قالوا : والمعنى : ولتكونوا أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر. قال الأستاذ الإمام : والظاهر أن الكلام على حد " ليكن لي منك صديق " فالأمر عام، ويدل على العموم قوله تعالى :( والعصر. إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر ) [ العصر : ١-٣ ] فإن التواصي هو الأمر والنهي، وقوله عز وجل :( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ) [ المائدة : ٧٨-٧٩ ] وما قص الله علينا شيئا من أخبار الأمم السالفة إلا لنعتبر به.
وقد أشار المفسر- الجلال- إلى الاعتراض الذي يرد على القول بالعموم وهو أنه يشترط فيمن يأمر وينهى أن يكون عالما بالمعروف الذي يأمر به والمنكر الذي ينهى عنه، وفي الناس جاهلون لا يعرفون الأحكام ولكن هذا الكلام لا ينطبق على ما يجب أن يكون عليه المسلم من العلم. فإن المفروض الذي ينبغي أن يحمل عليه خطاب التنزيل هو أن المسلم لا يجهل ما يجب عليه وهو مأمور بالعلم والتفرقة بين المعروف والمنكر، على أن المعروف عند إطلاقه يراد به ما عرفته العقول والطباع السليمة والمنكر ضده، وهو ما أنكرته العقول والطباع السليمة. ولا يلزم لمعرفة هذا قراءة حاشية ابن عابدين على الدر، ولا فتح القدير ولا المبسوط. وإنما المرشد إليه- مع سلامة الفطرة- كتاب الله وسنة رسوله المنقولة بالتواتر والعمل، وهو ما لا يسع أحدا جهله ولا يكون المسلم مسلما إلا به. فالذين منعوا عموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جوزوا أن يكون المسلم جاهلا لا يعرف الخير من الشر، ولا يميز بين المعروف والمنكر، وهو لا يجوز دينا.
ثم إن هذه الدعوة إلى الخير والأمر بالنهي لها مراتب :
فالمرتبة الأولى : هي دعوة هذه الأمة سائر الأمم إلى الخير وأن يشاركوهم فيما هم عليه من النور والهدى، وهو الذي يتجه به قول المفسر : إن المراد بالخير : الإسلام. وقد فسرنا الإسلام من قبل بأنه دين الله على لسان جميع الأنبياء لجميع الأمم، وهو الإخلاص لله تعالى والرجوع عن الهوى إلى حكمه. وهذا مطلوب منا بحكم جعلنا أمة وسطا وشهداء على الناس كما تقدم في سورة البقرة، وخير أمة أخرجت للناس كما سيأتي بعد آيات مقيدا بكوننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وبحكم قوله في وصف المؤمنين الذين أذن لهم بالقتال :( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) [ الحج : ٤١ ] فالواجب دعوة الناس إلى الإسلام أولا. فإن أجابوا فالواجب أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر –قال : وأما كون هذا حفاظا للوحدة ومانعا من الفرقة فهو أن الأمة إذا اجتمعت على هذا المقصد العالي الشريف وهو أن تكون مسيطرة على الأمم كلها ومربية لها ومهذبة لنفوسها فلا شك أن جميع الأهواء الشخصية تتلاشى من بينهم، فإذا عرض الحسد والبغي لأحد من أفرادهم تذكروا وظيفتهم العالية الشريفة التي لا تتم إلا بالتعاون والاجتماع، فأزالت الذكرى ما عرض وشفت النفوس قبل تمكن المرض.
والمرتبة الثانية في الدعوة والأمر والنهي : هي دعوة المسلمين بعضهم بعضا إلى الخير وتآمرهم فيما بينهم بالمعروف وتناهيهم عن المنكر. والعموم فيها ظاهر أيضا. وله طريقان : أحدهما : الدعوة العامة الكلية- قال : كهذا الدرس- ببيان طرق الخير وتطبيق ذلك على أحوال الناس، وضرب الأمثال المؤثرة في النفوس، التي يأخذ كل سامع منها بحسب حاله. وإنما يقوم على هذا الطريق خواص الأمة العارفون بأسرار الأحكام وحكمة الدين وفقهه، وهم المشار إليهم بقوله تعالى :( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون ) [ التوبة : ١٢٢ ] ومن مزايا هؤلاء : تطبيق أحكام الله تعالى على مصالح العباد في كل زمان ومكان. فهم يأخذون من الأمر العام بالدعوة والأمر والنهي على مقدار علمهم.
والطريق الثاني : الدعوة الجزئية الخاصة، وهي ما يكون بين الأفراد بعضهم مع بعض، ويستوي فيه العالم والجاهل، وهو ما يكون بين المتعارفين من الدلالة على الخير والحث عليه عند عروضه، والنهي عن الشر والتحذير منه. وكل ذلك من التواصي بالحق والتواصي بالصبر. وكل واحد يأخذ من الفريضة العامة بقدره.
أقول : أما كون هذه المرتبة حفاظا للوحدة وسياجا دون الفرقة فهو ظاهر على الطريق الأول، فلو كان أهل البصيرة والفقه الحقيقي في الدين يعممون دعوتهم وإرشادهم في الأمة يواصلونها لكانوا موارد لحياتها ومعاقد لرابطة وحدتها. وكذلك على الطريق الثاني. فإن أفراد الأمة إذا قام كل واحد منهم بنصيحة الآخر، دعوة وأمرا ونهيا، امتنع فشوّ الشر والمنكر فيهم، واستقر أمر الخير والمعروف بينهم. فكيف تجد الفرقة منفذا إليهم ؟ أم كيف يستقر الخلاف في الدين بينهم ؟ وناهيك إذا قام كل على طريقه المستقيم- العلماء الحكماء في مساجدهم ومعابدهم، وجميع الأفراد في منازلهم ومساكنهم ومعاهدهم.
وقد يقال : إننا نرى التصدي لنصيحة الأفراد وأمرهم ونهيهم مجلبة للخلاف والفرقة، لا داعية إلى الوفاق والوحدة، وقد أورد الأستاذ الإمام هذه الشبهة وأجاب عنها، فقال ما مثاله : كيف يكون التآمر والتناهي حافظا للوحدة ونحن نرى الأمر بالعكس ؟ نرى التناصح سبب التخاصم والتدابر، حتى صار من أعسر الأمور بين الإخوان والأصحاب أن يقول أحدهما للآخر : إنك فعلت كذا وهو منكر، فارجع عنه، وإنك قادر على كذا من المعروف فائته. وذكر عن نفسه رحمه الله أنه صار يجد من الصعب جدا- حتى مع من يعده صنيعة له أو ولدا أو أخا- إن ينصحه في الأمر أكثر من مرة خشية أن ينفر ويحمله ذلك على قطع ما بينهما من الرابطة. قال : فكأن النصح لهم من الكليات التي لا يوجد لها إلا فرد واحد. وذكر أنه لهذا النفور من النصح يسلك مع أصحابه والمتصلين به مسالك الكناية والتعريض في الغالب. وأجاب عن ذلك بأن هذا لا يعد حجة على الله ولا شبهة على دينه، لأنه منتهى ما تصل إليه الأمم من الفساد والبعد عن الخير، واستحقاق الغضب الإلهي. وتكاد الأمة التي يفشو هذا فيها تكون من الأمم التي تودع منها. وإنما الكلام في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المسلمين الذين كانوا يشعرون بنعمة الله عليهم بالتأليف بين قلوبهم وإنقاذهم من النار بعد أن كانوا قد أشفوا عليها، ومع من يشاركونهم في شعورهم ذاك ويتبعون سنتهم في الاهتداء بما أنزل الله. كما وقع بين الأوس والخزرج في الرواية التي سبق ذكرها. فأمثال هؤلاء هم الذين يصدق عليهم قوله صلى الله عليه وسلم :" المؤمن مرآة المؤمن " رواه الطبراني. في الأوسط والضياء من حديث أنس، ورواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود عن أبي هريرة بزيادة " والمؤمن أخو المؤمن يكف عليه ضيعته ويحوطه من ورائه " ٣.
قال الأستاذ الإمام : إن ما نحن فيه الآن من سوء الحال أثر تفريط كبير تمادى في زمن طويل بعدما عظم التساهل في ترك التناصح، وبطل رد ما يتنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنة رسوله، وخوت القلوب من احترام الدين حتى لم يعد له سلطان على الإرادة، بل صار كل شخص أسير هواه ومتى أمسى الناس هكذا- لا دين ولا مروءة ولا أدب- فأي فرق بين الطائفة منهم والقطيع من المعز أو البقر ؟
عند هذا سأل سائل عن قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ) [ المائدة : ١٠٥ ] فأجاب : إن هذا بعد القيام بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إن الإنسان لا يضره ضلال غيره إذا هو أمره ونهاه. فإنه لا يكون مهتديا مع تركه لهذه الفريضة. ثم قال : من العجب أن بعض الناس اشترطوا لهذه الفريضة شرطا لم يأذن به الله ولم ينزله في كتابه، وهو أنه لا يأمر وينهي إلا من كان مؤتمرا ومنهيا : فالمختار عنده ما حققه الإمام الغزالي من عدم اشتراط ذلك، على أن الإمامين يقولان بوجوب كون الواعظ المتصدي للإرشاد والدعوة العامة مهتديا عاملا بعلمه متصفا بما يدعو إليه. وقد قال الأستاذ الإمام : بمنع أولئك الجاهلين الفاسقين الذين ينصبون أنفسهم للوعظ والإرشاد من تسلق هذه الدرجة، وليس ذلك لأنه يشترط في فرضية الأمر والنهي الائتمار والانتهاء، بل لأن المرشد العام محل لقدوة العوام، فإذا كان ضالا يكون كالخمر والميسر إثمه أكبر من نفعه، فهو يمنع منها لدرء المفسدة، ولا يمنع من كل أمر ونهي.
فحاصل رأيه : أن يمنع من منصب الإرشاد الذي قال : إنه خاص بالعارفين بأسرار الشريعة وفقهاء النفوس فيها. ومن كان كذلك لا يكون إلا عاملا بعلمه مهتديا بما يهدي إليه، لأن العلم الصحيح يوجب العمل، كما قررناه مرارا وقلنا إنه رأيه ورأي الغزالي، ولا يمنعه من كل نصيحة وأيّ أمر ونهي بل يأمره بذلك وإن لبسه العار الذي أشار إليه الشاعر بقوله :
لا تنه عن خلق وتأتي مثله | عار عليك إذا فعلت عظيم٤ |
٢ - أخرجه البخاري في الصلاة باب ٨٨ والأدب باب ٣٦، والمظالم باب ٥، ومسلم في البر حديث ٦٥، والترمذي في البر باب ١٨، والنسائي في الزكاة باب ٦٧، وأحمد في المسند ٤/١٠٤- ٤٠٥، ٤٠٩..
٣ - أخرجه أبو داود في الأدب باب ٤٩..
٤ - البيت من الكامل، وهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه ص ٤٠٤، والأزهية ص ٢٣٤، وشرح التصريح ٢/٢٣٨، وشرح شذور الذهب ص ٣١٠، وهمع الهوامع ٢/ ١٣، وللمتوكل الليثي في الأغاني ١٢/١٥٦، وحماسة البحتري ص ١١٧، والعقد الفريد ١/٣١١، والمؤتلف والمختلف ص ١٧٩، ولأبي الأسود أو للمتوكل في لسان العرب (عظم)، ولأحدهما أو للأخطل في شرح شواهد الإيضاح ص ٢٥٢، ولأبي الاسود الدؤلي أو للأخطل المتوكل الكناني في الدرر ٤/٨٦، والمقاصد النحوية ٤/٣٩٤، ولأحد هؤلاء أو للمتوكل الليثي أو للطرماح أو للسابق البربري في خزانة الأدب ٨/٥٦٤، ٥٦٧، وللأخطل في الرد على النحاة ص ١٢٧، وشرح المفصل ٧/٢٤، والكتاب ٣/٢٤، ولحسان بن ثابت في شرح أبيات سيبويه ٢/١٨٨، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٦/٢٩٤، وأمالي ابن الحاجب ٢/٨٦٤، وأوضح المسالك ٤/١٨١، وجواهر الأدب ص ١٦٨، والجنى الداني ص ١٥٧، ورصف المباني ص ٤٢٤، وشرح الأشموني ٣/٥٦٦، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٥٣٥، وشرح ابن عقيل ص ٥٧٣، وشرح عمدة الحافظ ص ٣٤٢، وشرح قطر الندى ص ٧٧، ولسان العرب (وا)، ومغني اللبيب ٢/٣٦١، والمقتضب ٢/٢٦..
( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) وهم أهل الكتاب، تفرقوا في الدين وكانوا شيعا كل شيعة تذهب مذهبا يخالف مذهب الأخرى وصار كل ينصر مذهبه ويدعو إليه ويخطئ ما سواه، حتى تعادوا واقتتلوا على ذلك ( راجع تفسير ( ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ) [ البقرة : ٢٥٣ ] في ج ٢ من التفسير ) ولو كانوا أمة أو كان فيهم أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر معتصمين بحبل واحد متوجهين إلى غاية واحدة لما تفرقوا في المقاصد، ولو لم يتفرقوا لما اختلفوا في الدين وتعددت فيهم المذاهب في أصوله وفروعه حتى قتل بعضهم بعضا. فلا تكونوا مثلهم فيحل بكم ما حل بهم.
فهذه الآية متممة لقوله تعالى :( واعتصموا بحبل الله ) وما بعدها فالاعتصام بحبل الله هو الأصل، وبه يكون الاجتماع والاتحاد الذي يجعل الأمة كالشخص الواحد، والدعوة إلى الخير هي التي تغذو هذه الوحدة وتمدها وتنميها ؛ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقوم به أمة قوية هو الذي يحفظها ويؤيدها ويشد أزرها. قال الأستاذ الإمام : إن هذه الآية كالدليل على أنه يجب أن تكون وجهة الأمة الداعية الآمرة الناهية واحدة، لأن الذين سبقوهم ما أفلحوا لعدم وحدتهم. كأنه يقول : لا يمكن أن تتكون فيكم أمة للدعوة والأمر والنهي إلا إذا اجتمعت على مقصد واحد فالترتيب في الآيات طبيعي، إذ من البديهي أن المتفقين في المقصد لا يختلفون اختلافا ضارا ينافيه، وإنما يقع الاختلاف بعد التفرق في المقاصد والتباين في الأهواء بذهاب كل إلى تأييد مقصده وإرضاء هواه فيه. والاختلاف في الرأي لأجل تأييد المقصد المتفق عليه لا يضر بل ينفع وهو طبيعي لا مندوحة عنه.
أقول : وقد أورد الإمام الرازي لاتصال هذه الآية بما قبلها قولين أقربهما ثانيهما، وإن كان الأول منهما صحيحا في نفسه فقال :" في النظم وجهان ( الأول ) إنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام وصحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم ذكر أن أهل الكتاب حسدوا محمدا صلى الله عليه وسلم واحتالوا في إلقاء الشكوك والشبهات في تلك النصوص الظاهرة. ثم إنه تعالى أمر المؤمنين بالإيمان بالله والدعوة إلى الله. ثم ختم ذلك بأن حذر من مثل فعل أهل الكتاب وهو إلقاء الشبهات في هذه النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة الرافعة لدلالة هذه النصوص، فقال ولا تكونوا أيها المؤمنون عند سماع هذه البينات كالذين تفرقوا واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم في التوراة والإنجيل تلك النصوص الظاهرة. فعلى هذا الوجه تكون من تتمة جملة الآيات.
و ( الثاني ) وهو أنه تعالى لما أمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك مما لا يتم إلا إذا كان الآمر بالمعروف قادرا على تنفيذ هذا التكليف على الظلمة والمتغالين، ولا تحصل هذه القدرة إلا إذا حصلت الألفة والمحبة بين أهل الحق والدين، لا جرم حذرهم تعالى من الفرقة والاختلاف لكي لا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف. وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية من تتمة الآية السابقة فقط " ا ه وما قاله صحيح ولكن الوجه في تفسيرها واتصالها بما قبله هو ما جرينا عليه آنفا.
وعلم مما بينا أن الاختلاف المنهي عنه هو ما كان ناشئا عن التفرق لا كل اختلاف، وإن كان في وسائل تأييد المقصد مع حسن النية الذي لا يدوم معه خلاف، وإذا دام في مسألة فإنه لا يضر لأنه لا يترتب عليه اختلاف في العلم، إذ المتفقون المخلصون يرجع بعضهم إلى قول من ظهر على لسانه البرهان منهم، وإلا عملوا برأي الأكثرين فيما لا يظهر للأقلين برهانه. قال الأستاذ الإمام : ولا نخوض في أقوال المؤولين المتحككين بالألفاظ على الطريقة التي يعبرون عنها بالتحقيق والتدقيق كحمل بعضهم التفرق على ما يكون في العقائد والاختلاف على ما يكون في الأحكام وادعاء بعضهم أنهما بمعنى واحد، فالآية ظاهرة المعنى :
أقول : ومن الأقوال التي أوردها الرازي أنهم تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة ثم اختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة مذهبه. وهذا واقع ولكنه تفسير للاختلاف في المذاهب وما ينشأ عنه وكله أثر للتفرق. ومنها أنهم تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل واحد من أولئك الأحبار رئيسا في بلد ثم اختلفوا بأن صار كل واحد منهم يدعي أنه على الحق وأن صاحبه على الباطل. قال الإمام الرازي بعد إيراد هذا القول " وأقول إنك إذا أنصفت علمت أن أكثر علماء هذا الزمان صاروا موصوفين بهذه الصفة فنسأل الله العفو والرحمة " ا ه.
أقول : وتبع الرازي في قوله هذا في العلماء نظام الدين الحسن النيسابوري في تفسيره ( كعادته ) فقال بعد ذكر تفرق الأحبار واختلافهم " ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة، فنسأل الله العصمة والسداد " ا ه وسبقهما حجة الإسلام الغزالي إلى بيان سوء حال العلماء في الاختلاف ما عدا الأفراد الذين ينكرون التقليد ويقولون بوجوب الاعتصام بحبل الله وهو كتابه وعدم التفرق والاختلاف. ولكن صوت هؤلاء الأفراد لا يسمع بين جلبة جمهور العلماء لا سيما أصحاب المناصب والحظوة عند الأمراء والملوك الذين يدعمون سلطتهم بجمهور العلماء الذين يتبعهم العامة.
ومن العجيب أن هؤلاء العلماء الأفراد الذين تنبهوا في القرون الوسطى إلى سوء حال علماء الإسلام الذين يلقبهم الغزالي بعلماء السوء، لم يحاولوا معالجة هذا الداء واصطلام أورمته ؛ وهي تفرق المذاهب والتعصب لها، بالدواء الذي وصفه الله تعالى في كتابه ؛ وهو تأليف أمة تدعو إلى الاعتصام وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. بل اكتفى بعضهم بالشكوى من ذلك وإنكاره في الكتب التي يؤلفها كالإمام الرازي أو باللسان لبعض تلاميذه كما نقل الرازي عن أكبر شيوخه في تفسير قوله تعالى :( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا ) [ التوبة : ٣١ ] فإنه بعد تفسير اتخاذهم أربابا لإطاعتهم فيما يحللون ويحرمون كما ورد في الحديث المرفوع قال ما نصه :
" قال شيخنا ومولانا خاتم المحققين والمجتهدين رضي الله عنه قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يتلفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب ! يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها ! ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريا في عروق الأكثرين من أهل الدنيا " ا ه.
أقول : إن الرازي رحمه الله تعالى كان يقرر هذه الحقيقة عندما يفسر آياتها وينساها في مواضع أخرى، فيتعصب للأشعرية في أصول العقائد وللشافعية في فروع الفقه، بل سيما فيما يخالفون فيه الحنفية. وهذا هو أصل الداء الذي يشكو من بعض أعراضه عند الكلام في مسائل الخلاف مع الغفلة عن سببها. أما الإمام الغزالي فقد تجرد عن التعصب للمذاهب كلها في نهايته ووصف الدواء في بعض كتبه كالقسطاس المستقيم ( راجع ذلك في ص ١٢ من الجزء الثاني ) ولكنه لم يوفق في تأليف أمة تدعو إليه وتقوم به.
وإذا كان الرازي وشيخه يقولان في علماء القرن السابع والغزالي يقول في علماء القرن الخامس ما قالوا، فماذا نقول في أكثر علماء زماننا وهم يعترفون بما نعرفه من كونهم لا يشقون لأولئك غبارا ؟ ألسنا الآن أحوج إلى الإصلاح منا إليه في تلك العصور التي اعترف هؤلاء الأئمة بأن الظلمات فيها غشيت النور، حتى ضل بالاختلاف الجمهور ؟ بلى. وهو ما نعاني فيه ما نعاني وإلى الله ترجع الأمور.
وقوله تعالى :( من بعد ما جاءهم البينات ) يفيد أن الإنسان لا يؤاخذ على ترك الحق أو اتباع الباطل إلا إذا تبين له ذلك حتى يتبين أو صار بحيث تبين له لو نظر فيه ؛ والجهل ليس بعذر بعد البيان، كما هو المقرر عند العقلاء والحكام في كل مكان.
قال تعالى في المتفرقين المختلفين بعد مجيء البينات ( وأولئك لهم عذاب عظيم ) فهذا الوعيد يقابل الوعد الكريم في الآية التي قبل هذه الآية بقوله تعالى في الداعين إلى الخير الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر " وأولئك هم المفلحون " فالفلاح في ذلك الوعد يشمل الفوز بخير الدنيا والآخرة. والعذاب في هذا الوعيد يشمل خسران الدنيا والآخرة. قال الأستاذ الإمام ما معناه : أما عذاب الدنيا فهو أن المتفرقين المختلفين الذين اتبعوا أهواءهم، وحكموا في دينهم آراءهم، يكون بأسهم بينهم شديدا فيشقى بعضهم ببعض، ثم يبتلون بالأمم الطامعة في الضعفاء فتذيقهم الخزي والنكال، وتسلبهم عزة الاستقلال، وأما عذاب الآخرة فقد بين الله في كتابه أنه أشد من عذاب الدنيا وأبقى.
وفي هذا المقام أورد الأستاذ الإمام هذا السؤال : هل قام المسلمون بذلك الأمر " ولتكن منكم أمة " وانتهوا عن هذا النهي " ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا " ؟ وجعل ذلك مجالا لتفكر طلاب العلم. وأما جوابه هو فكما نقلنا لك عن الإمام الرازي وعن شيخه. والأمر ظاهر في نفسه وفي الوعد والوعيد المذكورين آنفا، وإذا كان لا يزال في علماء الرسوم منا من يقول ويعتقد أن المسلمين في فلاح وفوز، فقد علم سائر المسلمين من جميع الطبقات في أكثر البلاد أنهم قد فقدوا عزهم واستقلالهم، وأنهم معذبون بما فقدوا وبما يتوقعون أن يفقدوا مما بقي لهم. وأن أذكياء شعوبهم يسأل بعضهم بعضا على بعد الدار وقربه عن طريق علاج الداء، قبل الإبداء، والتماس الشفاء، قبل الإشفاء، والعلاج بين أيديهم فمتى يبصرون، والطبيب يناديهم فأنى يسمعون ؟ عسى أن يكون ذلك قريبا.
وقال في مادة ( سود ) " السواد اللون المضاد للبياض يقال اسودّ واسوادّ قال ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) فابيضاض الوجوه عبارة عن المسرة واسودادها عبارة عن المساءة ونحوه ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم ) [ النحل : ٨٥ ] وحمل بعضهم الابيضاض والاسوداد على المحسوس والأول أولى لأن ذلك حاصل لهم سودا كانوا في الدنيا أو بيضا. وعلى ذلك قوله في البياض ( وجوه يومئذ ناضرة ) [ القيامة : ٢٢ ] وقوله في السواد ( ووجوه يومئذ باسرة ) [ القيامة : ٢٤ ] ( ووجوه يومئذ عليها غبرة ترهقها قترة ) [ عبس : ٤٠- ٤١ ] وقال ( وترهقهم ذلة كأنما أغشيبت وجوهم قطعا من الليل مظلما ) [ يونس : ٢٧ ] وعلى هذا النحو ما روي أن المؤمنين يحشرون غرلا محجلين من آثار الوضوء " ا ه.
وأورد الرازي في تأييد هذا الاستعمال الشائع شعرا لبعضهم في الشيب :
يا بياض القرون سودت وجهي | عند بيض الوجوه سود القرون |
فلعمري لأخفينك جهدي | عن عياني وعن عيان العيون |
بسواد فيه بياض لوجهي | وسواد لوجهك الملعون |
فتعجبوا لسواد وجه الكاذب
هذا هو الراجح في تفسير الآية وفاقا للراغب ولأبي مسلم والمختار عند الأستاذ الإمام، إذ حمل العذاب في الآية على عذاب الدنيا وعذاب الآخرة جميعا. ويدل على ما يكون في الآخرة الآيات التي ذكرناها آنفا في بحث استعمال السواد والبياض في المعاني إذ فيها التصريح بذكر ذلك اليوم. وأما ما يكون في الدنيا فقد قال الأستاذ الإمام في بيانه ما مثاله :
أما المتفقون الذين جمعوا عزائهم وإرادتهم على العمل بما فيه مصلحة أمتهم وملتهم، واعتصموا واتفقوا على الأعمال النافعة التي فيها عزتهم وشرفهم، وأصبح كل واحد منهم عونا للآخر ووليا له، فأولئك تبيض وجوههم- أي تنبسط وتتلألأ بهجة وسرورا- عند ظهور أثر الاتفاق والاعتصام ونتائجهما وهي السلطة والعزة والشرف وارتفاع المكانة وسعة السلطان. وهذا الأثر ظاهر في الأمم المتفقة المتحدة التي يتألم مجموعها إذا أهين واحد منها في قطر من أقطار الأرض بعيد أو قريب، وتجيش جميعها مطالبة بنصره والانتقام له لأنه ظلم وأهين، ولا يصح عندها أن يكون منها ثم يظلم أو يهان وتكون هي راضية ناعمة البال. أولئك الأقوام ترى على وجوههم لألاء العزة وتألق البشر بالشرف والرفعة، وهو ما يعبر عنه ببياض الوجه. وأما المختلفون لافتراقهم في المقاصد، وتباينهم في المذاهب والمشارب، الذين لا يتناصرون ولا يتعاضدون ولا يهتم أفرادهم بالمصلحة العامة التي فيها شرف الملة وعزة الأمة، فهم الذين تسود وجوههم بالذلة والكآبة يوم تظهر عاقبة تفرقهم واختلافهم بقهر الأجنبي لهم ونزعه السلطة من أيديهم. والتاريخ شاهد على صدق هذا الجزاء في الماضين، والمشاهدة أصدق وأقوى حجة في الحاضرين.
( فأما الذين اسودت وجوههم ) فيقال لهم ( أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) قال الأستاذ الإمام : يقال لهم هذا القول في الدنيا وفي الآخرة : أما في الدنيا فلا بد أن يوجد في الناس من يقول للأمة التي وقع لها ذلك مثل هذا القول تغليظا عليها، لأن عملها لا يصدر إلا من الكافرين. وأما في الآخرة فيوبخهم الله في مثل هذا السؤال.
وأقول : يجوز أن يكون المراد بيان الشأن لا الحكاية عن قول لساني وقع بالفعل، والمعنى أن شأنهم حينئذ أن يقال فيهم أو لهم ذلك القول. بل هذا هو المتعين عندي والكلام في الأمم لا في الأفراد. والكفر في عرف القرآن ليس خاصا بما يعده الفقهاء والمتكلمون كفرا كما بينا غير مرة ( راجع تفسير ( والكافرون هم الظالمون ) [ البقرة : ٢٥٤ ) في أوائل الجزء الثاني ) فمن عرف أن المتفرقين في الدين يعدون من الكفار والمشركين كما يقال ( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) [ الروم : ٣١ ] وقال عز وجل لنبيه ( ص ) :( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ) [ الأنعام : ١٥٩ ] فمن تذكر هذا لا يتوقف في فهم الآية التي نفسرها، ولا يجيز لنفسه صرفها عن ظاهرها لأجل مطابقة عرف الفقهاء الذين ترجع مسائل الكفر بعد الإيمان عندهم إلى جحد المجمع عليه المعلوم من الدين بالضرورة، وفي معناه كل ما اعتقد المكلف أنه من الدين ثم كذبه. ولكن القرآن يعد الخروج من مقاصد الدين الحقيقية بالعمل من الكفر. وقد فهم السلف الصالح من الكتاب والسنة أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وله شعب كثيرة من أعظمها تحري العدل واجتناب الظلم ( مثلا ) فمن استرسل في الظلم حتى صار صفه له كان كافرا كما قال تعالى :( والكافرون هم الظالمون ). فإذا كان الظالمون كافرين في عرفه فكيف لا يكون المتفرقون المختلفون كافرين والاعتصام بالوحدة وترك التفرق والاختلاف من أعظم شعبه بل ذلك هو أساسه الذي لا يثبت بناؤه إلا عليه. ولذلك وردت هذه الآيات التي نحن بصدد تفسيرها عقب قوله :( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) فإن ما قررته من وجوب الاعتصام والنهي عن التفرق أولا وآخرا وإناطة الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأمة قوية متحدة هو بيان السبيل التي يجب علينا سلوكها لنموت مسلمين.
( وما الله يريد ظلما للعالمين ) فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، وإنما يريد به هدايتهم إلى ما تكمل به فطرتهم ويتم به نظام اجتماعهم، فإذ هم فسقوا عن أمره وحل بهم البلاء فإنما يكونون هم الظالمين لأنفسهم بتفرقهم واختلافهم، وكذا بغير ذلك من الذنوب الاجتماعية. فالكلام في الأمم وعقوبتها ولا يمكن أن يحل بها بلاء إلا بذنب فشا فيها فزحزحها عن صراط الله لذي بينه في هذه الآيات وغيرها ( وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ) [ هود : ١٠٢ ].
فقد قالت المعتزلة : إن الظلم في الآية جاء نكرة في سياق النفي فهو عام، والمعنى أنه لا يريد الظلم مطلقا من أفعاله ولا من أفعال عباده، وما لا يريده لا يقع منه حتما، وقد ثبت في العقل والنقل أن من أفعال العباد ما هو ظلم فتعين أن تكون أفعالهم منهم لا منه، ووجهوا الآية الثانية على إثبات هذا. وقال الأشعرية : إن وقوع الظلم منه تعالى محال لأنه عبارة عن تصرف الإنسان في ملك غيره وليس لغير الله ملك فيكون ظلما بتصرف فيه. ولذلك بين بعد نفي إرادة الظلم أن له ما في السماوات والأرض. فهم يقولون إنه لو عذب الأتقياء الصالحين وأثاب الفجار المفسدين لم يكن ذلك منه ظلما بل عدلا لأنه تصرف في ملكه.
ونحن نقول : أولا : إن الآيتين في واد وهذه المسائل الكلامية في واد آخر. وثانيا إن الظلم محال عليه تعالى لا لأن الظلم عبارة عن تصرف المتصرف في ملك غيره وأن تصرفه في ملكه لا يمكن أن يكون ظالما، فإن هذا غير صحيح، وإنما يستحيل عليه الظلم لأنه ينافي الحكمة والكمال في النظام وفي التشريع. ومن حمل عبيده أو دوابه ما لا تطيق يقال إنه قد ظلمها، بل قالوا فيمن حفر الأرض ولم تكن موضعا للحفر إنه ظلمها وسموها الأرض المظلومة وسموا التراب الذي يخرج منها المظلوم، ومن نقص امرءاً حقه فقد ظلمه، قال تعالى :( كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا ) [ الكهف : ٢٣ ] ولعل هذا هو الأصل في معنى الظلم. وقال الراغب " الظلم عند أهل اللغة وكثير من العلماء وضع الشيء في غير موضعه المختص به إما بنقصان أو بزيادة وإما بعدول عن وقته أو مكانه " فالظلم الذي ينفيه تعالى عن نفسه في الأحكام هو ما ينافي مصلحة العبادة وهدايتهم لسعادة الدنيا والآخرة وفي الخلق ما ينافي النظم والاحكام.
بعدما أمر الله تعالى بالاعتصام بحبله وذكر بنعمته على المؤمنين بتأليف القلوب وأخوة الإسلام- وبعدما نهى عن التفرق في الأهواء والاختلاف في الدين وتوعد على ذلك بالعذاب العظيم – بين فضل المعتصمين بحبله، المتآخين في دينه، المتحابين فيه، ووصفهم بهذا الوصف الشريف ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) فعلم منه أن خيرية الأمة وفضلها على غيرها تكون بهذه الأمور : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله تعالى.
في قوله تعالى :( كنتم ) ثلاثة أوجه :
( أحدها ) أنها تامة فالمعنى وجدتم خير أمة كأنه قال أنتم خير أمة في الوجود الآن لأن جميع الأمم غلب عليها الفساد فلا يعرف فيها المعروف ولا ينكر فيها المنكر وليست على الإيمان الصحيح الذي يزع أهله عن الشر ويصرفهم إلى الخير وأنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله إيمانا صحيحا يظهر أثره في العمل.
( والوجه الثاني ) أنها ناقصة والمعنى حينئذ كنتم في علم الله أو كنتم في الأمم السابقة كما في كتبها المبشرة بكم خير أمة الخ. وقال أبو مسلم إن هذا القول يقال لمن ابيضت وجوههم، والمعنى كنتم فيما سبق من أيام حياتكم خير أمة شأنكم كذا وكذا وبذلك كان لكم هذا الجزاء الحسن. فالكلام عنده تتمة للآيات السابقة فكما ذكر فيها ما يقال لمن اسودت وجوههم ذكر أيضا ما يقال لمن ابيضت وجوههم. وقيل على هذا – أي كونها ناقصة- غير ذلك.
( الوجه الثالث ) إن " كان " هنا بمعنى صار أي صرتم خير أمة وهذا أضعف الأقوال.
إذا فسرت كلمة " كنتم " بغير ما قاله أبو مسلم كانت الجملة شهادة من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنها خير أمة أخرجت للناس بتلك المزايا الثلاث. ومن اتبعهم فيها كان له حكمهم لا محالة، ولكن هذه الخيرية لا يستحقها من ليس لهم من الإسلام واتباع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الدعوى وجعل الدين جنسية لهم بل لا يستحقها من أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام رمضان وحج البيت الحرام والتزام الحلال واجتنب الحرام مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وبالاعتصام بحبل الله مع اتقاء التفرق والخلاف في الدين.
قال الأستاذ الإمام ما معناه : هذا الوصف يصدق على الذين خوطبوا به أولا وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين كانوا معه عليهم الرضوان. فهم الذين كانوا أعداء فألف الله بين قلوبهم فكانوا بنعمته إخوانا وهم الذين اعتصموا بحبل الله ولم يتفرقوا في الدين، فيذهبوا فيه مذاهب تتعصب لكل مذهب شيعة منهم، وهم الذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر لا يخاف في ذلك ضعيف قويا، ولا يهاب صغير كبيرا ؛ وهم المؤمنون بالله ذلك الإيمان الذي استولى على عقولهم وقلوبهم ومشاعرهم وملك أزمة أهوائهم حتى كان هو المسير لهم في عامة أحوالهم- ذلك الإيمان الذي بين سبحانه خواصه وصفاته في آيات كثيرة وظهرت فوائده وآثاره في تغيير هيئة الأرض على أيديهم – ذلك الإيمان الذي قال تعالى في أهله ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [ الحجرات : ١٥ ] وقال فيهم ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) [ الأنفال : ٢ ] إلى قوله ( أولئك هم المؤمنون حقا ) [ الأنفال : ٤ ] وقال فيهم ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) [ المؤمنون : ١ ] الخ الآيات التي تحقق معناها ومعنى أمثالها في أولئك الأصحاب الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
أقول : هذا معنى ما قال الأستاذ الإمام في الجملة إلا أن كلمة " وأصحابه الذين كانوا معه " هي من لفظه يريد أن هذه الصفات العالية والمزايا الكاملة لذلك الإيمان الكامل لم تكن لكل من يطلق عليه المحدثون اسم الصحابي كالأعرابي الذي يسلم ويرى النبي صلى الله عليه وسلم ولو مرة واحدة. وكأنه أخذ ذلك من قوله تعالى :( محمد رسول الله والذين معه ) [ الفتح : ٢٩ ] فهم الذين تصدق عليهم تلك الصفات الجليلة وأفضلها وأعلاها الجهاد والهجرة إلى المدينة بالنسبة إلى غير أهلها والإيواء والنصر من أهلها. لذلك قال تعالى في آخر سورة الأنفال :( والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا، لهم مغفرة ورزق كريم والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) [ الأنفال : ٧٤-٧٥ ] ولم يهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم منافق لأن الهجرة كانت في زمن الضعف وإنما يكون النفاق في زمن القوة. ومنافقو المدينة لم ينصروه صلى الله عليه وسلم وإنما كانوا يخذلون ويثبطون الصادقين من المؤمنين ويغرون الأعداء بهم. قال تعالى فيهم :( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولاوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون ) [ التوبة : ٤٧-٤٧ ] وروي عن ابن عباس أن المراد بالآية المهاجرون الأولون وعن عمر أنها في خاصة الصحابة ومن صنع مثل صنيعهم.
فإن قيل : إن بعض أولئك الصحابة الصادقين من المهاجرين والأنصار قد تفرقوا واختلفوا في الفتنة التي أثارها معاوية على علي أمير المؤمنين فهل خرجت الأمة بذلك عن كونها خير أمة أخرجت للناس ؟ فالجواب من ثلاثة وجوه.
أحدهما : أن ذلك الخلاف والتفرق لم يكن في الدين وإنما كان في أمر دنيوي لم يتغير به اعتقاد أهل الفريقين ولم يحدث به مذهب جديد في الإسلام فالدين نفسه لم يطرأ عليه شيء من ذلك الخلاف.
ثانيهما : أن معاوية الذي أثار ذلك التفرق لم يكن من المهاجرين الأولين فإنه أسلم عام فتح مكة الذي انقطعت به الهجرة أو أظهر إسلامه في ذلك العام كما قال الواقدي أنه أسلم عام الحديبية وأنه كان في عمرة القضاء مسلما. قال الحافظ في الإصابة بعد نقل الواقدي : وهذا يعارضه ما ثبت في الصحيح عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في العمرة في أشهر الحج " فعلناها وهذا يومئذ كافر " : يعني معاوية. وسواء صح قول الواقدي أم لا فمعاوية لم يهاجر ونقل ابن سعد عنه أنه كان يقول : لقد أسلمت قبل عمرة القضاء ولكني كنت أخاف أن أخرج إلى المدينة لأن أمي كانت تقول إن خرجت قطعنا عنك القوت : وما كان مع معاوية من المهاجرين الأولين إلا قليل اعتقدوا أنه يطالب بحق لا يلبث أن يناله وهو القصاص من قاتلي عثمان- ثم يدخل فيما دخل فيه الناس من مبايعة علي.
ثالثها : قد عرف المطلعون على التاريخ أن الصحابة لم يفرطوا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجدوا وإنما ضعف ذلك بعد انقراض أكثرهم وهذان الركنان هما بعد الإيمان أعظم أركان خيرية الأمة فما عرض من التفرق الدنيوي والخلاف بعد قتل عثمان لم يلبث أن زال بعد قتل علي. لأن التفرق والخلاف لا يدوم في أمة تقيم هذين الركنين ولو بغير نظام ولو كان لهما نظام في الصدر الأول لما وقع كل ذلك الذي وقع. ألم يهد لك كيف كان الناس يغلظون لمعاوية في إنكار ما ينكرونه عليه حتى غير الصحابة منهم ؟
الحق أقول : إن هذه الأمة ما فتئت خير أمة أخرجت للناس حتى تركت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وما تركتهما رغبة عنهما أو تهاونا بأمر الله تعالى بإقامتهما، بل مكرهة باستبداد الملوك والأمراء من بني أمية ومن سار على طريقهم ممن بعدهم وقد كان أول أمير منهم أظهر هذه الفتنة جهرا عبد الملك بن مروان إذ قال على المنبر " من قال لي اتق الله ضربت عنقه " فقد كانت شجرة بني مروان الخبيثة هي التي سنت في هذه الأمة سنة الاستبداد فما زال يعظم ويتفاقم حتى سلب الأمة أفضل مزاياها في دينها ودنياها بعد الإيمان.
وقد بين الفخر الرازي في تفسيره نحو ما تقدم من كون وصف الأمة هنا بالأمر والنهي والإيمان علة لكونها خير أمة أخرجت للناس فقال :
" واعلم أن هذا الكلام مستأنف والمقصود منه بيان علة تلك الخيرية كما تقول زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بما يصلحهم. وتحقيق الكلام أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم مقرونا بالوصف المناسب له يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف. فهنا حكم تعالى بثبوت وصف الخيرية لهذه الأمة ثم ذكر عقيبه هذا الحكم وهذه الطاعات أعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان فوجب كون تلك الخيرية معللة بهذه العبادات " ثم أورد سؤالا وذكر الجواب عنه فقال :
" أورد من أي وجه يقتضي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله كون هذه الأمة خير الأمم مع أن هذه الصفات كانت حاصلة في سائر الأمم ؟ والجواب : قال القفال تفضيلهم على الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بآكد الوجوه وهو القتال، لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل، وأعرف المعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله فكان الجهاد في الدين محملا لأعظم المضار لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار، فوجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات. ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع لا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم. وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية قوله :( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقروا بما أنزل الله وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب هو أنكر المنكر.
ثم قال القفال :( فائدة ) القتال على الدين لا ينكره منصف وذلك لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم، فإذا أكره ( المرء ) على الدخول في الدين بالتخويف بالقتل دخل فيه، ثم لا يزال يضعف ما في قلبه من حب الدين الباطل ولا يزال يقوي قلبه حب الدين الحق، إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحق ومن استحقاق العذاب الدائم إلى استحقاق الثواب الدائم " ا ه. ما أورده الرازي عن القفال وأقره.
أقول : إن هذا القول باطل مبني على قواعد غير ثابتة :
( منها ) توهم القفال والرازي أن الأمم السابقة لم يكن عندها جهاد ديني قوي ولا إكراه على الدين وذلك لقلة اطلاعهما على الأديان والتاريخ. والصواب أن أهل الكتاب كانوا أشد من المسلمين في حروبهم الدينية وورد عنهم في الإكراه على الدين ما لم يرد مثله عن المسلمين.
و( منها ) : أن الإكراه على الدين منفي من الإسلام بنص القرآن ولم يحارب النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من العرب ولا من غيرهم لأجل الإكراه على الإسلام وإنما حارب دفاعا، وكيف يحاو
وقد أورد الرازي على الوعد بأنهم لا ينصرون أنه يصدق في اليهود دون النصارى، أي إن اليهود هم الذين لم ينصروا على المسلمين بعد ما كان من انكسارهم في الحجاز، وأما النصارى فقد كانت الحرب بينهم وبين المسلمين بعد الصدر الأول سجالا ثم صاروا هم المنصورين. وأجاب الرازي عن ذلك بأن الآية خاصة باليهود نعم وما قلناه يصلح جوابا مطلقا، ويؤيده تقييده تعالى نصر المؤمنين بنصرهم إياه :( يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) [ محمد : ٧ ] وبالقيام بما أمر به ومنه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما ورد في سورة الحج وذكرناه في تفسير الآية السابقة. ومثله وصف المؤمنين المجاهدين في سورة التوبة بقوله :( الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله ) [ التوبة : ١١٢ ] وقد شرحنا هذا المعنى غير مرة وسنفصله- إن شاء الله- في مقدمة التفسير تفصيلا.
وقال الأستاذ الإمام : أي أن حالهم معكم أن يكونوا أذلاء مهضومي الحقوق رغم أنوفهم إلا بحبل من الله وهو ما قررته شريعته لهم إذ دخلوا في حكمكم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم إيذائهم وهضم شيء من حقوقهم، وحبل من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في المعيشة من احتياجكم إليهم واحتياجهم إليكم في بعض الأمور. أي فهذا القدر المستثنى من عموم الذلة لم يأتهم من أنفسهم وإنما جاءهم من غيرهم، فهم لا عزة لهم في أنفسهم لأن السلطان والملك قد فقدا منهم.
وأنت ترى أن هذا الذي قاله الأستاذ الإمام أظهر وأشد انطباقا على الواقع، فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحسن معاملتهم ويقترض منهم، وكذلك كان الخلفاء الراشدون يفعلون وقضية علي مع اليهودي عند عمر مشهورة، وفيها أن عليا أنكر على عمر مخاطبته أمام خصمه اليهودي بالكنية، وفيها تعظيم ينافي المساواة بينهما. وقد تقدم أيضا تفسير ( وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ) في آية البقرة المشار إليها آنفا. باؤوا بالغضب كانوا أحقاء به من البواء وهو المساواة يقال باء فلان بدم فلان أو بفلان إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له. أو أقاموا فيه ولبثوا من المباءة أي حلوا مبوأ أو بيئة من الغضب. وقد فسر بعضهم المسكنة بالفقر، وإن تعجب فعجب قول البيضاوي : إن اليهود في الغالب أهل فقر ومسكنة ! وليست المسكنة هي الفقر وإنما هي سكون عن ضعف أو حاجة.
قال الأستاذ الإمام هنا : إن المسكنة حالة للشخص منشؤها استصغاره لنفسه حتى لا يدعي له حقا والذلة حالة تعتري الشخص من سلب غيره لحقه وهو يتمناه، فمنشؤها وسببها غيره لا نفسه كالمسكنة. وكأن البيضاوي أخذ عبارته من قول الكشاف في سورة البقرة :" فاليهود صاغرون أذلاء أهل مسكنة ومدقعة إما على الحقيقة وإما لتصاغرهم وتفاقرهم خيفة أن تضاعف الجزية عليهم ". وهذا الوصف أكثر انطباقا عليهم في أكثر البلاد في ذلك العصر. ونقل الرازي أن الأكثرين فسروا المسكنة بالجزية لأنها هي التي بقيت مضروبة عليهم. أخذوا هذا من ذكرها بعد الاستثناء أي أن الذلة ضربت عليهم لا ترتفع عنهم إلا بحبل من الله وحبل من الناس، فاستثنى من الذلة ثم ذكر المسكنة ولم يستثن فاقتضى ذلك بقاءها عليهم. وإذا كان المراد من الجزية كونهم تابعين لغيرهم يؤدون إليه ما يضرب عليهم من المال وادعين ساكنين فهذا الوصف صادق على اليهود إلى اليوم في كل بقاع الأرض. وأما الذل فقد كان ارتفع عنهم في بلاد المسلمين بحبل من الله، وهو ما تقدم من وجوبي معاملتهم بالمساواة واحترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم والتزام حمايتهم والذود عنهم بعد إنقاذهم من ظلم حكامهم السابقين الظالمين ؛ وبحبل من الناس بما تقدم بيانه، ثم ارتفع عنهم فيما عدا روسيا من بلاد أوروبا وقد يبخلون عليهم في ألمانيا بلقب الألماني ويعبرون عنهم بلقب اليهودي.
وهل ترتفع عنهم المسكنة فيكون لهم ملك وسلطان في يوم من الأيام ؟ الجواب عن هذا يحتاج فيه إلى بسط، فأما من الجهة الدينية فهم يقولون بأنهم مبشرون بذلك بظهور مسيح " مسيا " فيهم ومعناه ذو الملك والشريعة. والنصارى يقولون إن هذا الموعود به هو المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام والمراد بالملك الذي يجيء به الملك الروحاني المعنوي. وفي إنجيل برنابا عن المسيح أن ذلك الموعود به هو محمد صلى الله عليه وسلم أي فهو الذي جاء بالنبوة التي استتبعت الملك. ومحل هذا البحث تفسير قوله تعالى فيهم :( عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا ) [ الإسراء : ٨ ] فإنه ذكر هذا بعد ذكر إفسادهم في الأرض مرتين وتسليط الأمم عليهم. وأما من الجهة الاجتماعية فيبحث فيه عن تفرقهم في الأرض على قلتهم، وعن انصرافهم عن فنون الحرب وأعمالها ؛ وضعفهم في الأعمال الزراعية لعنايتهم بجمع المال من أقرب الموارد وأكثرها نماء وأقلها عناء كالربا. ولا محل هنا لتفصيل ذلك وبيان علاقته بالملك.
ثم علل تعالى هذا الجزاء وبين سببه فقال :( ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ) وتقدم مثله في البقرة أي ذلك الذي ذكر من ضرب الذلة والمسكنة عليهم وخلاقتهم بالغضب الإلهي بسبب كفرهم وقتلهم الأنبياء بغير حق تعطيهم إياه شريعتهم. وفي التنصيص على كون ذلك بغير حق مع العلم به تغليظ عليهم وتشنيع على تحريهم الباطل وكون ذلك عن عمد لا عن خطأ. ثم بين سبب هذا الكفر والعدوان الشنيع فقال :( ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) أي جرأهم على ذلك سبق المعاصي والاستمرار على الاعتداء فتدرجوا من الصغائر إلى الكبائر إلى أكبر الموبقات وهو الكفر وقتل الأنبياء المرشدين والهداة الصالحين الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ؛ فصار هذا العصيان والاعتداء خلقا للأمة وطبعا يتوارثه الأبناء عن الآباء بلا نكير، ولهذا نسب إلى متأخريهم عمل متقدميهم والأمم متكافلة ينسب إلى مجموعها ما فشا فيهم وإن ظهر بعض آثاره في زمن دون زمن وتقدم بيان ذلك غير مرة.
ومن مباحث اللفظ في الآية : إعراب قوله تعالى :( إلا بحبل من الله وحبل من الناس ) قال الزمخشري : هو في محل النصب على الحال بتقدير " إلا معتصمين أو متمسكين أو متلبسين بحبل من الله وحبل من الناس وهو استثناء من أعم الأحوال " والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل الله وحبل الناس.
قوله تعالى :( ليسوا سواء ) كلام تام، أي ليس أهل الكتاب متساوين في هذه الأوصاف والأعمال القبيحة التي ذكرت آنفا ؛ بل منهم المؤمنون وهم الأقلون ؛ ومنهم الفاسقون وهم الأكثرون، كما قال في الآية المتقدمة ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) فهو بيان له بعد وصف الفاسقين، وذكر ما استحقت الأمة بسوء عملهم. ولما بين وصف فاسقيهم كان من العدل الإلهي أن يبين وصف مؤمنيهم، ولذلك قال :( من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) الآيات قيل : إن هذه الأمة جماعة أسلموا من اليهود كعبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعد وأسيد بن عبيد رواه ابن جرير عن ابن عباس. وروي عن قتادة أنه كان يقول في الآية :" ليس كل القوم هلك قد كان لله فيهم بقية " بل روي عن ابن عباس أنه قال في الأمة القائمة :" أمة مهتدية قائمة على أمر الله لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه " حمل ابن جرير هذا القول على تلك الرواية، أي أن هذا مقبول فيمن أسلم منهم ولكنه لا ينطبق عليهم في حال الإسلام، لأن ما قاموا عليه هو ما ضيعه الآخرون وهو من دينهم وكتابهم، فالظاهر أن الرويات اختلط بعضها ببعض، أو المراد أن هؤلاء الذين وصفوا بالتمسك بما حفظوا من كتابهم والقيام بما عرفوا من دينهم هم الذين أسلموا بعد ذلك فيكون هذا الوصف لهم قبل الإسلام.
وقد نقل الرازي في الآية قولين، أحدهما : أن المراد بهذه الأمة القائمة عبد الله بن سلام وأصحابه. والثاني : أن المراد بأهل الكتاب كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان. قال " وعلى هذا القول يكون المسلمون من جملتهم ". وأي حاجة إلى إدخال المسلمين في أهل الكتاب عند إطلاقه وهو مخالف لعرف القرآن ؟ والمسلمون مستغنون عن هذا الإدخال بقوله :( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) الآية وما هي من هذه ببعيد. إلا أن أكثر مفسرينا قد صعب عليهم أن يكون في أهل الكتاب أحد يؤمن بالله ويفعل الخير فلذلك اضطربوا في الآية وأمثالها وهي ظاهرة.
قال الأستاذ الإمام : هذه الآية من العدل الإلهي في بيان حقيقة الواقع وإزالة الإيهام السابق، وهي دليل على أن دين الله واحد على ألسنة جميع الأنبياء، وأن كل من أخذه بإذعان، وعمل فيه بإخلاص، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهو من الصالحين. وفي هذا العدل قطع لاحتجاج أهل الكتاب الذين يعرفون من أنفسهم الإيمان والإخلاص في العمل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- يعني الأستاذ أنه لولا مثل هذا النص لكان لهم أن يقولوا : لو كان هذا القرآن من عند الله لما ساوانا بغيرنا من الفاسقين ونحن مؤمنون به مخلصون له- وفيه استمالة لهم وتناهٍ عن التفرقة بين الأمم والملل التي لم يكن يعترف فيها أحد الفريقين بفضيلة ولا مزية للآخر، كأنه بمجرد مخالفته له في بعض الأشياء- وإن كان معذورا- تتبدل حسناته سيئات. وظاهر أن هذا كالذي قبله في أهل الكتاب حال كونهم على دينهم خلافا لمفسرنا ( الجلال ) وغيره الذين حملوا المدح على من أسلم منهم، فإن المسلمين لا يمدحون بوصف أنهم أهل الكتاب وإنما يمدحون بعنوان المؤمنون.
ثم إنه ذكر اختلاف المفسرين في قوله :( قائمة ) ورجح أن معناها موجودة ثابتة على الحق، قال : وفي ذلك تعريض بالمنحرفين عن الحق بأنهم لا يعدون من أهل الوجود وإنما حكمهم حكم العد. وأطال في وصف من لا خير في وجودهم الذين قال في مثلهم الشاعر :
خلقوا وما خلقوا لمكرمة | فكأنهم خلقوا وما خلقوا |
رزقوا وما رزقوا سماح يد | فكأنهم رزقوا وما رزقوا |
وأقول : إن استقامة بعض أهل الكتاب على الحق من دينهم لا ينافي ما حققناه في تفسير التوراة والإنجيل في أول السورة من ضياع بعض كتبهم وتحريف بعضهم لما في أيديهم منها. فإن من يعرف من المسلمين بعض السنة ويحفظ بعض الأحاديث النبوية فيعمل بما علم مستمسكا به مخلصا فيه يقال إنه قائم بالسنة السنية عامل بالحديث النبوي، وإن كان بعض الأحاديث قد نقل بالمعنى وبعضها ضعيف أو موضوع وبعض الناس كالحشوية حرفوها بل وحرفوا بعض آيات القرآن تحريفا معنويا ليدعموا بها مذاهبهم وآرائهم.
أما قوله تعالى :( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) فمعناه على القول بأن المراد بهم من دخل في الإسلام ظاهر، وعلى القول الآخر المختار أنهم يتلون ما عندهم من مناجاة الله ودعائه له والثناء عليه عز وجل وهي كثيرة في كتبهم لا سيما زبور ( مزامير ) داود عليه السلام، كقوله في المزمور السادس والثلاثين ( ٥- يا رب في السماوات رحمتك، ٦- أمانتك إلى الغمام ٧- ما أكرم رحمتك يا الله فبنو البشر في ظل جناحيك يحتمون ٨- يروون من دسم بيتك ومن نهر نعمتك تسقيهم ٩- لأن عندك ينبوع الحياة، بنورك ترى نورا ١٠- أدم رحمتك للذين يعرفونك وعدلك للمستقيمي القلب ١١- لا تأتني رجل الكبرياء ويد الأشرار لا تزحزحني ١٢- هناك سقط فاعلو الإثم ؛ دحروا فلم يستطيعوا القيام ".
وقوله في المزمور الخامس والعشرين " ١- إليك يا رب أرفع نفسي ٢- يا إلهي عليك توكلت فلا تدعني أخزى، لا تشمت بي أعدائي ٣- كل منتظريك لا يخزوا أيضا، ليخز الغادرون بلا سبب ٤- طرقك يا رب عرفني، سبلك علمني ٥- دربني في حقك وعلمني، لأنك أنت إله خلاصي. ٦- إياك انتظرت اليوم كله اذكر مراحمك يا رب وإحسانك لأنها هي منذ الأزل ٧- لا تذكر خطايا صباي ولا معاصي، كرحمتك اذكرني أنت من أجل جودك يا رب ".
وأمثال هذه الأدعية والمناجاة كثير جدا وإذا رآها العربي البليغ غريبة الأسلوب فليذكر أنها ترجمة ضعيفة وأن قراءتها بلغة أهل الكتاب أشد تأثيرا في النفس من قراءة ترجمتها هذه.
أما السجود الذي أسنده إليهم فهو إما عبارة عن صلاتهم وإما استعمال له بمعناه اللغوي، وهو التطامن والتذلل كما تقدم في تفسير قوله تعالى في خطاب مريم ( واسجدي واركعي مع الراكعين ) [ آل عمران : ٤٣ ]. ثم قال فيهم :( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر }
قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب. جامعا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، فلما وصف من آمن من الكافرين بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار.
فقال :( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) وأقول : قد اختلف المفسرون في المراد بالذين كفروا، فقيل : هم بنو قريظة والنضير من اليهود وروي هذا القول عن ابن عباس ( رضي الله عنهما ) وهو الملائم للسياق من حيث كانت الآيات قبله في مؤمني أهل الكتاب ومن حيث حرص اليهود على المال والحياة، وأعَزُّها وآثَرُها حياةُ الأولاد، وقيل : هم مشركو قريش عامة، وقيل : بل هم أبو سفيان ورهطه خاصة ووجهوه بما نقل من إنفاقه المال الكثير على المشركين يوم بدر ويوم أحد وقيل : إن الكلام في الكفار عامة لعموم اللفظ فهو على إطلاقه ويدخل فيه اليهود الذين كانوا مجاورين للمسلمين يومئذ وكذا مشركو مكة دخولا أوليا. قالوا : إنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال ويعيرون النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه بالفقر ويقولون : لو كان محمد على الحق ما تركه به ربه في هذا الفقر والشدة، وقيل : هم المنافقون إذ كان أكثرهم من الأغنياء. ومن كان كثير الأموال والأولاد قلما يشعر بحاجته إلى ما عند غيره من هداية أو علم أو أدب ( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : ٦-٧ ] وقد سبق لنا بيان ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة :( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ) [ آل عمران : ٩ ].
وقد فسر الجلال كغيره " تغني " بتدفع، أي لا تدفع شيئا من العذاب عنهم وإنما هو من الغناء بمعنى الكفاية، ولذلك رد هذا القول الأستاذ الإمام واختار أن " شيئا " هو مفعول مطلق قال : أي لا تغني عنهم نوعا من أنواع الغناء أو لا تغني غناء ما قال : وذكر الأموال والأولاد لأن المغرور إنما يصده عن اتباع الحق أو النظر في دليله الاستغناء بما هو فيه من النعم وأعظمها الأموال والأولاد، فالذي يرى نفسه مستغنيا بمثل ذلك قلما يوجه نظره إلى طلب الحق أو يصغي إلى الداعي إليه : أي ومن لم يوجه نظره إلى الحق لا يبصره ومن لم يبصره تخبط في دياجير الضلال عمره حتى يتردى فيهلك الهلاك الأبدي ولا ينفعه في الآخر ماله فيفتدي به أو ينتفع بما كان أنفقه منه ولذلك قال :( ولأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) لأن طبيعة أرواحهم اقتضت أن يكونوا في تلك الهاوية المظلمة المستعرة.
قال الرازي في وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها : اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه الآيات مرة أحوال الكافرين في كيفية العقاب، وأخرى أحوال المؤمنين في الثواب. جامعا بين الزجر والترغيب، والوعد والوعيد، فلما وصف من آمن من الكافرين بما تقدم من الصفات الحسنة أتبعه تعالى بوعيد الكفار.
ثم مثل حالهم في إنفاق أموالهم التي فتنتهم فشغلهم عن الحق أو أغرتهم بمقاومته فقال :( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته ) قال الراغب : مثل الشيء- بالتحريك- مثله وشبهه ويطلق على صفة الشيء. والمثل في الكلام عبارة عن قول في شيء يشبه قولا في شيء آخر ليبين أحدهما الآخر ويصوره : أي ولو من بعض الوجوه لأن بيان الحقائق يكون على حسب المقاصد. والصر- بالكسر- والصرة شدة البرد وقيل هو البرد عامة حكيت الأخيرة عن ثعلب. وقال الليث الصر البرد الذي يضرب النبات ويحسه١ ا ه من لسان العرب وفي الكشاف الصر الريح الباردة نحو الصرصر قال :
لا تعدلن أتاويتين تضربُهم | نكباء صرّ بأصحاب المحلات٢ |
ثم قال الزمخشري : فإن قلت : فما معنى قوله " كمثل ريح فيها صر " قلت : فيه أوجه. أحدها : أن الصر في صفة الريح بمعنى الباردة فوصف بها القرة٣ بمعنى " فيها قرة صر " كما تقول :" برد بارد " على المبالغة. الثاني : أن يكون الصر مصدرا في الأصل بمعنى البرد فيجيء به على أصله والثالث : أن يكون من قوله تعالى :( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) ومن قولك : إن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل. قال : وفي الرحمن للضعفاء كافي. ا ه ونقل اللسان عن ابن الأنباري في الآية ثلاثة أقوال : أحدها فيها صر أي برد والثاني فيها تصويت وحركة ونقل عن ابن عباس قول آخر :" فيها صر " قال فيها نار ا ه يعني حرا شديدا وهو أحد قولين عنه ومن هنا أخذ الجلال قوله في تفسير الصر : حر وبرد. وأنكر عليه الأستاذ الإمام كلمة الحر ؛ وقال إنه لا يهلك الحرث بمجرد إصابته وإنما يهلكه البرد فهو المراد حتما. أقول : وقد اختلف في معنى أصل مادة الصر هل هو الصوت أو الشدة، والصواب أن الشدة تكون في الصوت ومنه " فأقبلت امرأته في صرة " كما تكون في البرد ؛ فالصر هنا هو البرد الشديد حتما وهو قول ابن عباس الذي رواه عنه وعن غيره ابن جرير، ولعلهم أخذوا قولهم فيها نار من إحراق الزرع.
أما المعنى فقد قال الأستاذ الإمام : إن الريح المهلكة مثال للمال الذي ينفقونه في لذاتهم وجاههم ونشر سمعتهم وتأييد كلمتهم فيصدهم عن سبيل الله، وإن العقول والأخلاق الحسنة التي هي أصل جميع المنافع هي مثال الحرث أي إن المال الذي ينفقونه فيما ذكر هو الذي أفسد أخلاقهم وأهلك عقولهم بما صرفها عن النظر الصحيح ولفتها عن التفكر في عواقب الأمور، ثم أشار إلى ما قالوه في جعل التشبيه في المثل مركبا وهو أن حالهم فيما ينفقونه وإن كان في الخير كحال الريح ذات الصر المهلكة للزرع. فهم لا يستفيدون من نفقتهم شيئا. ومن المفسرين من جعل هذا فيما ينفقونه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومة دعوته سواء كان المنفقون هم اليهود أم أهل مكة. ومنهم من جعل ذلك فيما ينفق المنافقون رياء أو تقية. وقد خاب الفريقان وخسروا بنصر الله نبيه والمؤمنين وبفضيحة المنافقين في سورة براءة. وبعض المفسرين يخص هذا الإنفاق بما يفعله الكافر على سبيل البر وهو لا يفيده في الآخر شيئا، إذ الإيمان شرط لقبول الأعمال ونفعها في تلك الدار.
أما وصف القوم الذين أهلكت الريح حرثهم بكونهم ظلموا أنفسهم فقد قال الزمخشري في الكشاف مبينا نكتته ما نصه :" فأهلك عقوبة لهم لأن الإهلاك عن سخط أشد وأبلغ "، وفي هامشه كتب بإملائه في ذلك : أن النكتة في ذلك هي إفادة أن أولئك المنفقين لا يستفيدون شيئا منه لأن حرث الكافرين الظالمين هو الذي يذهب على الكلية إذ لا منفعة لهم فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة فأما حرث المسلم المؤمن فلا يذهب على الكلية لأنه وإن كان يذهب صورة إلا أنه لا يذهب معنى لما فيه من حصول أغراض لهم في الآخرة والثواب بالصبر على الذهاب ا ه.
وأقول : إن الوصف يشعر بأن الجوائح قد تنزل بأموال الناس من حرث ونسل عقوبة على ذنوب اقترفوها ولكنه ليس نصا في ذلك، لما علمت من تعليل الكشاف آنفا. ولا يعارض ذلك ما ثبت من الأسباب الطبيعية لها، لأنه لا يستنكر على البارئ الحكيم الذي وضع سنن ارتباط الأسباب بالمسببات في عالم الحس أن يوفق بينهما وبين سننه الخفية في إقامة ميزان القسط في البشر لهدايتهم إلى ما به كمالهم من طريق العلوم الحسية التي يستفيدونها من النظر والتجربة، ومن طريق الإيمان بالغيب الذي يرشد إليه الوحي الإلهي. ويسمى ما ترتب عليه حدوث الشيء سببا له وما قارن المسبب من نفع بعض العباد وضر بعضهم به حكمة له. وكل من سبب الشيء وحكمته أو حكمه مقصود للخالق الحكيم.
رأينا في مذهب دارون العالم الطبيعي الشهير أن الحكمة في ألوان الثمار كالمشمش والخوخ والبرقوق هي إغراء أكلتها من الطير والناس بها لتأكلها، فيسقط عجمها٤ على الأرض لينبت فيها بسهولة، فيحفظ نوعه بتجدد النسل أو ما هذا حاصله. ومن المعلوم بالضرورة أن لتلك الألوان أسبابا طبيعية تتعلق باستعداد نباتها وتأثير النور فيه. فهل تستنكر على حكمة من وفق بين أسباب تلك الألوان ذات البهجة في الثمار وبين مصلحة الطير بهدايته إليها، وحفظ النظام العام ببقاء أنواعها، أن يوفق بين أسباب إرسال العواصف والأعاصير وبين عقوبة الظالمين من البشر ليكون لهم زاجران عن الذنوب :
( أحدهما ) حذر آثارها الطبيعية الضارة بهم فإن لكل ذنب ضررا لأجله كان محرما، إذ لا يحرم الله على عباده شيئا لإعناتهم.
و( ثانيهما ) ما يتخوف المؤمن من إصابة العقوبات الآفاقية إياه بذهاب الجوائح بماله إذا هو بغى وظلم.
ومن هذا القبيل : ما سألني عنه غير واحد من أهل العلم والبحث، وهو : ما معنى جعل الشهب رجوما للشياطين ومنعها إياهم من استراق السمع لمعرفة الوحي من الملائكة مع العلم بأن للشهب أسبابا طبيعية ؟ وجوابه : أن الحكيم الخبير- الذي يوفق أقدارا لأقدار فيجمع بين السبب ومسببه وبين أمور أخرى تسوقها أسباب خاصة بها لحكمة وراء تلك الأسباب- هو الذي جعل لهذه الظاهرة الطبيعية، تلك الحكمة الغيبية التي بينها الوحي ونطق بها الذكر، ومثلها في عالم الطبيعة كثير، ولعل لبعض الماديات تأثيرا في الأرواح الغيبية كتأثيرها في أرواحنا ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) [ الإسراء : ٨٥ ].
أكتفي هنا بهذا التنبيه إلى هذه المسألة التي لم أر في كتاب ولم أسمع من لسان أحد قولا فيها، وإن لها لمواضع أخرى من التفسير كقوله تعالى :( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) [ الشورى : ٣٠ ] وسنعقد لها فصلا في المقدمة، وهنالك نجيب عما يرد عليها من الشبهات.
قال تعالى :( وما ظلمهم الله ) يعني أولئك الذين أهلكت الريح ذات الصر حرثهم وذلك أنهم هم الذين كانوا ظلموا أنفسهم كما تقدم، فكان هلاك زرعهم عقوبة لهم لا إيذاء آنفا. وعلى هذا يكون قوله :( ولكن أنفسهم يظلمون ) تأكيدا ذاهبا بكل شبهة. والظاهر المختار أن الضمير في قوله :" وما ظلمهم الله " للمنفقين الذين ضرب المثل لبيان حالهم، فهم المقصودون بالذات والمعنى، ما ظلمهم الله بأن لم ينفعهم بنفقاتهم بل هم الذين ظلموا أنفسهم وحدها دون غيرها بإنفاق تلك الأموال في الطرق التي تؤدي إلى الخيبة والخسران بحسب سنة الله في أعمال الإنسان.
أما كونهم يظلمون أنفسهم دون غيرها أو دون أن يظلمهم أحد- كما تقدم أخذا من تقديم " أنفسهم " على عامله- فهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيما كان ينفقه أهل مكة كلهم أو بعضهم أو اليهود في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم ومقاومته إذ كانوا هم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم ولم يضروه صلى الله عليه وسلم ومن معه به بل كانوا سبب سيادته عليهم وتمكنه منهم، وظاهر أيضا على القول بأن المراد بتلك النفقات ما كان يضعه المنافقون في بعض طرق البر رياء وسمعة أو تقية من حيث إنها لا ينتفع بها في الآخرة. ويقولون مثل هذا في الكافر الذي ينفق في طرق البر حبا في البر ورغبه في الخير، فإنه وإن كان أحسن حالا من المرائي لا تفيده نفقته في الآخرة لأن شرطها الإيمان ؛ وقد ظلم نفسه بترك النظر في الآيات والبينات عليه بعد ما ظهرت له أو بالجحود بعد النظر ونهوض الحجة. وإنما يعنون بقولهم أن نفقته لا تفيده في الآخرة أنها لا تجعله من أهل الجنة. ولا يوجد عاقل قط يقول إن الكافرين في الآخرة كلهم سواء لا فرق بين المحسن عملا والمسيء وبين فاعل الخير ومقترف الإثم. وسنعود إلى هذا البحث في مواضع أخرى.
٢ - يروى صدر البيت:
لا يعدلن أتاويّون تضربهم
والبيت من البسيط وهو بلا نسبة في لسان العرب (حلل) (أتى، ومقاييس اللغة ١/ ٥٢- ٥/٤٧٤ـ والمخصص ١٣/ ٢٢٥، وأساس البلاغة (حلل)، وتاج العروس (حلل)، (اتو)..
٣ - القرة: بالكسر كالقر بالفتح. وهو البرد.
.
٤ - العَجَم، بالتحريك: ما في جوف المؤكول من النوى أو البزر..
قال الأستاذ الإمام : إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب، وكذا في المشركين بالتبع والمناسبة. وأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ومعاملة بعضهم لبعض وإرشادهم في أمرهم، أي إن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك.
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآية بما قبلها ثلاث مقدمات ١- إنه كان بين المؤمنين وغيرهم صلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم والإفضاء إليهم بالسر واطلاعهم على كل أمر، منها المحالفة والعهد، ومنها النسب والمصاهرة، ومنها الرضاعة ٢- إن الغرة من طبع المؤمن فإنه يبني أمره على اليسر والأمانة والصدق ولا يبحث عن العيوب، ولذلك يظهر لغيره من العيوب وإن كان بليدا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيا ٣- إن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة وإبطال ما جاء به الإسلام وكان هم المؤمنين الأكبر نشر الدعوة وتأييد الحق. فكان الهمان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال : فإذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شك مقتضية لأن يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين والمحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال. لذلك جعل الله تعالى للصلات بين المؤمنين وغيرهم حدا لا يتعدونه فقال :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) إلى آخر الآيات.
" بطانة " الرجل وليجته وخاصته الذين يستنبطون أمره ويتولون سره، مأخوذ من بطانة الثوب وهو الوجه الباطن منه، كما يسمى الوجه الظاهر، ظهارة. و " من دونكم " معناه من غيركم و " يألونكم " من الإلو، وهو التقصير والضعف، و " الخبال " في الأصل الفساد الذي يلحق الحيوان فيورثه اضطرابا كالأمراض التي تؤثر في المخ فيختل إدراك المصاب بها، أي لا يقصرون ولا ينون في إفساد أمركم والأصل في استعمال فعل " ألا " أن يقال فيه نحو " لا آلو في نصحك " وسمع مثل " لا آلوك نصحا " على معنى لا أمنعك نصحا ؛ وهو ما يسمونه التضمين. و " عنتم " من العنت وهو المشقة الشديدة و " البغضاء " شدة البغض.
أما سبب النزول : فقد أخرج ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال :" كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية، فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة عليهم هذه الآية ". وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين. وروى ابن جرير القولين عن ابن عباس. وذكر الرازي وجها ثالثا أنها في الكافرين والمنافقين عامة قال :" وأما ما تمسكوا به من أن ما بعد الآية مختص بالمنافقين فهذا لا يمنع عموم أول الآية. فإنه ثبت في أصول الفقه أن أول الآية إذا كان عاما وآخرها إذا كان خاصا لم يكن خصوص آخر الآية مانعا من عموم أولها : وسيأتي عن ابن جرير ترجيح الأول.
وأما المعنى فهو نهي المؤمنين أن يتخذوا لأنفسهم بطانة من الكافرين الموصوفين بتلك الأوصاف على القول بأن قوله :" لا يألونكم " الخ نعوت للبطانة هي قيود للنهي وكذا على القول بأنه كلام مستأنف مسوق للتعليل، فالمراد واحد وهو : أن النهي خاص بمن كانوا في عداوة المؤمنين على ما ذكر، وهو أنهم لا يألونهم خبالا وإفسادا لأمرهم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. فهذا هو القيد الأول، والثاني قوله عز وجل :( ودّوا ما عنتم ) أي تمنوا عنتكم أي وقوعكم في الضرر الشديد والمشقة. والثالث والرابع قوله :( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) أي قد ظهرت علامات بغضائهم لكم من كلامهم، فهي لشدتها مما يعوزهم كتمانها، ويعز عليهم إخفاؤها، على أن ما تخفي صدروكم منها أكبر مما يفيض على ألسنتهم من الدلائل عليها، وهذا النوع من البغضاء والعداوة مما يلقاه القائمون بكل دعوة جديدة في الإصلاح ممن يدعونهم إليه ؛ وما كان المسلمون الأولون يعرفون سنة البشر في ذلك إذ لم يكونوا على علم بطبائع الملل وقوانين الاجتماع وحوادث التاريخ حتى أعلمهم الله به، ولذلك قال :( قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) يعني بالآيات هنا العلامات الفارقة بين من يصح أن يتخذ بطانة ومن لا يصح أن يتخذ لخيانته وسوء عاقبة مباطنته. أي إن كنتم تدركون حقائق هذه الآيات والفصول الفارقة بين الأعداء والأولياء فاعتبروا بها ولا تتخذوا أولئك بطانه.
وأنت ترى أن هذه الصفات التي وصف بها من نهى عن اتخاذهم بطانة أو فرض أن اتصف بها من هو موافق لك في الدين والجنس والنسب، لما جاز لك أن تتخذه بطانة لك إن كنت تعقل، فما أعدل هذا القرآن الحكيم وما أعلى هديه وأسمى إرشاده ؟ لقد خفي على بعض الناس هذه التعليلات والقيود فظنوا أن النهي عن المخالف في الدين مطلقا، ولو جاء هذا النهي مطلقا لما كان أمرا غريبا ونحن نعلم أن الكافرين كانوا إلبا على المؤمنين في أول ظهور الإسلام إذ نزلت هذه الآيات لا سيما اليهود الذين نزلت فيهم على رأي المحققين. ولكن الآيات جاءت مقيدة بتلك القيود لأن الله تعالى- وهو منزلها- يعلم ما يعتري الأمم وأهل الملل من التغير في الموالاة والمعاداة كما وقع من هؤلاء اليهود، فإنهم بعد أن كانوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا في أول ظهور الإسلام قد انقلبوا فصاروا عونا للمسلمين في بعض فتوحاتهم ( كفتح الأندلس )، وكذلك كان القبط عونا للمسلمين على الروم في مصر، فكيف يجعل عالم الغيب والشهادة الحكم على هؤلاء واحدا في كل زمان ومكان أبد الأبيد ؟ ألا إن هذا مما تنبذه الدراية، ولا تروي غلته الرواية، فإن أرجح التفسير المأثور يؤيد ما قلناه.
قال ابن جرير يرد على قتادة القائل بأن الآية في المنافقين ويؤيد رأيه الموافق لما اخترناه ما نصه " إن الله تعالى ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء إما بأدلة ظاهرة دالة على أن ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بتلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يتأسوه معرفة أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالته ومباطنته فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته إلا بعد تعريفهم إياهم إما بأعيانهم وأسمائهم وإما بصفات قد عرفوهم بها وإذا كان ذلك كذلك وكان إبداء المنافقين بألسنتهم لهم والتودد إليهم كان بينا أن الذين نهى الله عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم على ما وصفهم الله تعالى به فعرفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها وأنهم هم الذين وصفهم الله تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ممن كان له ذمة وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب لأنهم لو كانوا المنافقين لكان الأمر منهم على ما بيننا ولو كانوا الكفار ممن ناصب المسلمين الحرب لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهر المؤمنين من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقد من يهود بني إسرائيل " ا ه.
فهذا شيخ المفسرين وأشهرهم يجعل هذا النهي فيمن ظهرت عداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه ممن كان لهم عهد فخانوا فيه، كبني النضير الذين حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء ائتمانه لهم لمكان العهد والمحالفة. ويمنع أن يكون أراد به جميع الكافرين أو المنافقين. فهذا حكم من أحكام الإسلام في المخالفين أيام كان جميع الناس حربا للمسلمين، فهل ينكر أحد له مسكة من الإنصاف أنه في هذه القيود التي قيد بها بعد منتهى التساهل والتسامح مع المخالفين، إذ لم يمنع اتخاذ البطانة إلا ممن ظهرت عداوتهم وبغضاؤهم للمسلمين، فهم لا يقصرون في إفساد أمرهم ويتمنون لهم من الشر فوق ذلك. لو كانت هذه القيود للنهي عن استعمال المخالفين في كل شيء ومشاركتهم في كل عمل لكان وجه العدل فيها زاهرا، وطريق العذر فيها ظاهرا، فكيف وهي قيود لاتخاذهم بطانة يستودعون الأسرار ويستعان برأيهم وعملهم على شؤون الدفاع عن الملة وصون حقوقها ومقاومة أعدائها ؟ ؟
وما أشبه هذا النهي في قيوده بالنهي عن اتخاذ الكفار أنصارا وأولياء إذ قيد بقوله عز وجل :( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) [ الممتحنة : ٨-٩ ] وقد شرحنا هذا البحث في تفسير قوله تعالى :( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) [ آل عمران : ٢٨ ].
هذا التساهل الذي جاء به القرآن هو الذي أرشد عمر بن الخطاب إلى جعل رجال دواوينه من الروم، وجرى الخليفتان الآخران وملوك بني أمية من بعده على ذلك إلى أن نقل الدواوين عبد الملك بن مروان من الرومية إلى العربية. وبهذه السيرة وذلك الإرشاد عمل العباسيون وغيرهم من ملوك المسلمين في نوط أعمال الدولة باليهود والنصارى والصائبين، ومن ذلك جعل الدولة العثمانية أكثر سفرائها ووكلائها في بلاد الأجانب من النصارى. ومع هذا كله يقول متعصبو أوروبا : إن الإسلام لا تساهل فيه ! ! " رمتني بدائها وانسلت " ألا إن التساهل قد أخرج عند المسلمين عن حده، حتى كتب الأستاذ الإمام في ذلك مقالة في العروة الوثقى صدرها بالآية التي نفسرها نوردها هنا برمتها لأنها تدخل في باب تفسير الآية والاعتبار بها على أكمل وجه وهذا نصها [ نقلا من الجزء الثاني من تاريخه ].
" قالوا : تصان البلاد ويحرس الملك بالبروج المشيدة والقلاع المنيعة والجيوش العاملة والأهب الوافرة والأسلحة الجيدة. قلنا : نعم، هي أحراز وآلات لا بد منها للعمل فيما يقي البلاد، ولكنها لا تعمل بنفسها ولا تحرس بذاتها فلا صيانة بها ولا حراسة إلا أن يتناول أعمالها رجال ذوو خبرة وأولو رأي وحكمة يتعهدونها بالإصلاح زمن السلم، ويستعملونها فيما قصدت له من زمن الحرب. وليس بكاف حتى يكون رجال من ذوي التدبير والحزم وأصحاب الحذق والدراية يقومون على سائر شؤون المملكة، يوطئون طرق الأمن، ويبسطون بساط الراحة، ويرفعون بناء الملك على قواعد العدل، ويوقفون الرعية عند حدود الشريعة، ثم يراقبون روابط المملكة مع سائر الممالك الأجنبية، ليحفظوا لها المنزلة التي تليق بها بينها، بل يحملوها على أجنحة السياسة القويمة إلى أسمى مكانة تكمن لها. ولن يكونوا أهلا للقيام على هذه الشؤون الرفيعة حتى تكون قلوبهم فائضة بمحبة البلاد، طافحة بالمرحمة والشفقة على سكانها، وحتى تكون الحمية ضاربة في نفوسهم آخذة بطباعهم، يجدون في أنفسهم منبها على ما يجب عليهم، وزاجرا عما لا يليق بهم، وغضاضة وألما موجعا عندما يمس مصلحة المملكة ضرر ويوجس عليها من خطر، ليتيسر لهم بهذا الإحساس وتلك الصفات أن يؤدوا أعمال وظائفهم كما ينبغي، ويصونوها من الخلل الذي ربما يفضي قليله إلى فساد كبير في الملك. فهؤلاء الرجال بهذه الخلال هم المنعة الواقية والقوة الغالبة.
" يسهل على أي حاكم في أي قبيل أن يكتب الكتائب ويجمع الجنود ويوفر العدد من كل نوع بنقد النقود وبذل النفقات، ولكم من أين يصيب بطانة من أولئك الذين أشرنا إليهم. عقلاء رحماء أباة أصفياء تهمهم حاجات الملك كما تهمهم ضرورات حياتهم ؟ لا بد أن يتبع في هذا الأمر الخطير قانون الفطرة ويراعي ناموس الطبيعة، فإن متابعة هذا الناموس تحفظ الفكر من الخطأ، وتكشف له خفيات الدقائق، وقلما يخطئ في رأيه أو يتأود في عمله من أخذ به دليلا وجعل له من هديه مرشدا. وإذا نظر العاقل في أنواع الخطأ التي وقعت في العالم الإنساني من كلية وجزئية وطلب أسبابها لا يجد لها من علة سوى الميل عن قانون الفطرة والانحراف عن سنة الله في خلقه.
" من أحكام هذا الناموس الثابت أن الشفقة والمرحمة والحمية والنعرة على الملك والرعية إنما تكون لمن له في الأمة أصل راسخ ووشيج يشد صلته بها. هذه فطرة فطر الله الناس عليها، إن الملتحم مع الأمة بعلاقة الجنس والمشرب يراعي نسبته إليها ونسبتها إليه ويراها لا تخرج عن سائر نسبة الخاصة به فيدافع الضيم عن الداخلين معه في تلك النسبة دفاعه عن حوزته وحريمه " راجع رأيك فيما تشهده كثيرا حتى بين العامة عندما يرمي أحدهم أهل البلد الآخر أو دينه بسوء على وجه عام، كسوري ينتقد المصريين أو مصري ينتقد السوريين " هذا إلى ما يعلمه كل واحد من الأمة أن ما تناله أمة من الفوائد يلحقه حظ منها وما يصيبها من الأرزاء يصيبه سهم منه، خصوصا أن كان بيده هامات أمورها وفي قبضته زمام التصرف فيها، فإن حظه " حينئذ " م
قال الأستاذ الإمام : إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب، وكذا في المشركين بالتبع والمناسبة. وأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ومعاملة بعضهم لبعض وإرشادهم في أمرهم، أي إن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك.
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآية بما قبلها ثلاث مقدمات ١- إنه كان بين المؤمنين وغيرهم صلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم والإفضاء إليهم بالسر واطلاعهم على كل أمر، منها المحالفة والعهد، ومنها النسب والمصاهرة، ومنها الرضاعة ٢- إن الغرة من طبع المؤمن فإنه يبني أمره على اليسر والأمانة والصدق ولا يبحث عن العيوب، ولذلك يظهر لغيره من العيوب وإن كان بليدا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيا ٣- إن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة وإبطال ما جاء به الإسلام وكان هم المؤمنين الأكبر نشر الدعوة وتأييد الحق. فكان الهمان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال : فإذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شك مقتضية لأن يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين والمحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال. لذلك جعل الله تعالى للصلات بين المؤمنين وغيرهم حدا لا يتعدونه فقال :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) إلى آخر الآيات.
( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ) فالقرآن ينطق بأفصح عبارة وأصرحها واصفا المسلمين بهذا الوصف الذي هو من أثر الإسلام وهو إنهم يحبون أشد الناس عداوة لهم الذين لا يقصرون في إفساد أمرهم وتمني عنتهم، على أن بغضاءهم لهم ظاهرة وما خفي فمنها أكبر مما ظهر. أولئك المبغضون هم الذين قال الله فيهم أو في طائفة منهم ( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود ] [ المائدة : ٨٢ ] الخ يعني أولئك اليهود المجاورين لهم في الحجاز. أليس حب المؤمنين لأولئك اليهود الغادرين الكائدين وإقرار القرآن إياهم على ذلك لأنه أثر من آثار الإسلام في نفوسهم، هو أقوى البراهين على أن هذا الدين دين حب ورحمة وتساهل وتسامح لا يمكن أن يصوب العقل نظره إلى أعلى منه في ذلك ؟ بلى، ولكن وجد في الناس من ينكر عليه ذلك ويصفه بضده زورا وبهتانا، بل تعصبا خرّوا عليه صما وعميانا.
من هم الذين يرمون الإسلام بأنه دين بغض وعدوان ؟ لا أقول إنهم النصارى الذين كانوا أجدر بحبنا وودنا من اليهود لقوله تعالى في تتمة الآية التي استشهدنا بها آنفا ( ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى )، بل هم قسوس أوروبا المتعصبون على الإسلام من حيث هو دين، وساستها المتعصبون على الإسلام من حيث هو شرع ونظام قامت به دول وممالك. فأوروبا التي تتهم الإسلام- والشرق الأدنى كله لأجل الإسلام- بالتعصب والبغضاء للمخالف هي التي أبادت من بلادها كل مخالف لدينها إلا الترك، فإنها لم تَقْوَ على إبادتهم حتى الآن، ولولا ما بين دولها من التنازع السياسي لقضت عليهم. فنصارى الشرق ومسلموه وكذا وثنيوه إنما اغترفوا غرفة من بحر وتعصب أوروبا، ولكنهم لا قوة لهم على الدفاع عن أنفسهم أمام أولئك المعتدين.
أما قوله تعالى :( وتؤمنون بالكتاب كله ) فمعناه أنكم تؤمنون بجميع ما أنزل الله من كتاب، سواء منه ما نزل عليكم وما نزل عليهم، فليس في نفوسكم من الكفر ببعض الكتب الإلهية أو النبيين الذين جاؤوا بها ما يحملكم على بغض أهل الكتاب، فأنتم تحبونهم بمقتضى إيمانكم هذا. وذكر بعضهم أن جملة " وتؤمنون " حالية من قوله " ولا يحبونكم " والمعنى أنهم لا يحبونكم مع إنكم تؤمنون بكتابه وكتابكم فكيف لو كنتم لا تؤمنون بكتابهم كما أنهم لا يؤمنون بكتابكم ؟ فأنتم أحق ببغضهم، أي ومع ذلك تحبونهم ولا يحبونكم.
قال ابن جرير :" في هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين أعني المؤمنين والكافرين ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أولئك وغلظتهم على أهل الإيمان، كما حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد عن قتادة : قوله ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوي إليه ويرحمه ولو أن المنافق يقدر من المؤمن على ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه ". حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال حدثني حجاج عن ابن جريج قال " المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن : يرحمه، ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر عليه المؤمن منه لأباد خضراءه " ا ه.
فهؤلاء أئمة التفسير من سلف الأمة يقولون إن المسلم خير للكافر وللمنافق منهما له حبا ورحمة ومعاملة. وكذلك قالوا في السني مع المبتدع كما بين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية. قالوا إن علامة أهل السنة أن يرحموا المخالف لهم ولا يقطعوا أخوته في الدين. ولذلك يذكرون في كتب العقائد :" لا نكفر أحدا من أهل القبلة ". بل كان رواة الحديث من أئمة أهل السنة كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن يروون عن الخوارج والشيعة والمعتزلة لا يلتفتون إلى مذهب الراوي بل إلى عدالته في نفسه. ونتيجة هذا كله : أن الإنسان يكون في التساهل والمحبة والرحمة لإخوانه البشر على قدر تمسكه بالإيمان الصحيح وقربه من الحق والصواب فيه. وكيف لا يكون كذلك والله يقول لخيار المؤمنين ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ) فبهذا نحتج على أن من يزعم أن ديننا يغرينا ببغض المخالف لنا كما نحتج على بعض الجاهلين منا بدينهم الذين يطعنون ببعض علمائهم وفضلائهم، لمخالفتهم إياهم في مذاهبهم وآرائهم، أو في ظنونهم وأهوائهم، والذين سرت إليهم عدوى المتعصبين، فاستحلوا هضم حقوق المخالفين لهم في الدين.
ثم قال تعالى شانه مبينا لشأن طائفة منهم أسندها إليهم في الجملة على قاعدة تكافل الأمة وكونها كشخص واحد ( وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ )، كان بعض اليهود يظهرون الإيمان للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين نفاقا وخداعا، ومنهم من كان يظهره ثم يرجع عنه ليشكك المسلمين، كما تقدم في آية " ٧٢ " من هذه السورة، وإذا خلا بعضهم إلى بعض أظهروا ما في نفوسهم من الغيظ والحقد الذي لا يستطيعون معه إلى التفشي سبيلا، وعض الأنامل كناية عن شدة الغيظ ويكنى به أيضا عن الندم ( قل موتوا بغيظكم ) فإن الإسلام الذي هو سبب غيظكم لا يزداد باعتصام أهله به إلا عزة وقوة وانتشارا، وقال ابن جرير " موتوا بغيظكم الذي على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم " فليعتبر المسلمون اليوم بهذا لعلهم يتذكرون أنه ما حل بهم من الأرزاء إلا بزوال هذا الاجتماع والائتلاف وبالتفرق بعد الاعتصام ﴿ إن الله عليم بذات الصدور ﴾ فهو يعلم ما تضم صدوركم من شعور الغيظ والبغضاء وموجدة الحقد والحسد، فكيف يخفى عليه ما تقولون في خلواتكم وما يبديه بعضكم لبعض من ذلك ويعلم كذلك ما تنطوي عليه صدورنا معشر المؤمنين من حب الخير والنصح لكم. ثم قال مبينا حسدهم وسوء طويتهم ﴿ إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبهم سيئة يفرحوا بها ﴾.
ومن مباحث اللفظ في الآيات : قوله ﴿ ها أنتم أولاء ﴾ أصله " أنتم هؤلاء " فقدمت أداة التنبيه التي تلحق اسم الإشارة " أولاء " على الضمير ويقال في المفرد " ها أناذا " وعلى ذلك فقس. وإعرابه : ها للتنبيه وأنتم مبتدأ وأولاء خبره وتحبونهم في موضع النصب على الحال أو خبر بعد خبر وجوز بعضهم أن تكون أولاء اسم موصول وتحبونهم صلته.
قال الأستاذ الإمام : إن الآيات السابقة من أول السورة كانت في الحجاج مع أهل الكتاب، وكذا في المشركين بالتبع والمناسبة. وأن هذه الآيات وما بعدها إلى آخر السورة في بيان أحوال المؤمنين ومعاملة بعضهم لبعض وإرشادهم في أمرهم، أي إن أكثر الآيات السابقة واللاحقة في ذلك.
ثم ذكر لبيان اتصال هذه الآية بما قبلها ثلاث مقدمات ١- إنه كان بين المؤمنين وغيرهم صلات كانت مدعاة إلى الثقة بهم والإفضاء إليهم بالسر واطلاعهم على كل أمر، منها المحالفة والعهد، ومنها النسب والمصاهرة، ومنها الرضاعة ٢- إن الغرة من طبع المؤمن فإنه يبني أمره على اليسر والأمانة والصدق ولا يبحث عن العيوب، ولذلك يظهر لغيره من العيوب وإن كان بليدا ما لا يظهر له هو وإن كان ذكيا ٣- إن المناصبين للمؤمنين من أهل الكتاب والمشركين كان همهم الأكبر إطفاء نور الدعوة وإبطال ما جاء به الإسلام وكان هم المؤمنين الأكبر نشر الدعوة وتأييد الحق. فكان الهمان متباينين، والقصدان متناقضين. ثم قال : فإذا كانت حالة الفريقين على ما ذكر فهي لا شك مقتضية لأن يفضي النسيب من المؤمنين إلى نسيبه من أهل الكتاب والمشركين والمحالف منهم لمحالفه من غيرهم بشيء مما في نفسه وإن كان من أسرار الملة التي هي موضوع التباين والخلاف بينهم، وفي ذلك تعريض مصلحة الملة للخبال. لذلك جعل الله تعالى للصلات بين المؤمنين وغيرهم حدا لا يتعدونه فقال :( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ) إلى آخر الآيات.
( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) المس في الأصل كاللمس، والمراد بتمسسكم هنا تصبكم، ولعل اختيار لفظ المس في جانب الحسنة والإصابة في جانب السيئة للإشعار بأن أولئك الكافرين يسوءهم ما يصيب المسلمين من خير وإن قل ؛ بأن كان لا يزيد على ما يمس باليد وإنما يفرحون بالسيئة إذا أصابت المسلمين إصابة يشق احتمالها. هذا ما كان يتبادر إلى فهمي ولكن رأيت صاحب الكشاف يجعلهما هنا بمعنى واحد ويستدل باستعمال القرآن لكل منها في موضع الآخر، ويقول : إن المس مستعار للإصابة. ثم خطر لي أن أراجع تفسير أبي السعود فإذا هو يقول " وذكر المس مع الحسنة، والإصابة مع السيئة للإيذان بأن مدار مساءتهم أدنى مراتب إصابة الحسنة ومناط فرحهم تمام إصابة السيئة. وإما لأن اليأس مستعار لمعنى الإصابة " والأول هو الوجه وهو من دقائق البلاغة العليا. والحسنة المنفعة سواء كانت حسية أو معنوية، وأعظمها انتشار الإسلام ودخول الناس فيه وانتصار المسلمين على المعتدين عليهم المقاومين لدعوتهم. قال قتادة في بيان ذلك كما رواه عنه ابن جرير " فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وحماية وظهورا على عدوهم غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافا أو أصيب طرف من أطراف المسلمين سرهم ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به، فهم كلما خرج منهم قرن أكذب الله أحدوثته وأوطأ محلته، وأبطل حجته وأظهر عورته، فذلك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقي إلى يوم القيامة ".
ثم أرشد الله المسلمين إلى ما إن تمسكوا به سلموا من كيدهم الذي يدفعهم إليه الحسد والبغضاء فقال :﴿ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ﴾ ذهب بعضهم إلى أن المراد : وإن تصبروا على عداوتهم وتتقوا اتخاذهم بطانة وموالاتهم من دون المؤمنين لا يضركم كيدهم لكم وهم بمعزل عنكم. وذهب آخرون إلى أن المراد : وإن تصبروا على مشاق التكاليف وامتثال الأوامر عامة وتتقوا ما نهيتم عنه وحظر عليكم- ومنه اتخاذ البطانة منهم- لا يضركم كيدهم. و- " يضركم " بتشديد الراء من الضرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " يضركم " بكسر الضاد وسكون الراء المخففة من ضاره يضيره والضير بمعنى المضرة. وقال الأستاذ الإمام : إن الصبر يذكر في القرآن في مقام ما يشق على النفس، وحبس الإنسان سره عن وديده وعشيره ومعامله وقريبه مما يشق عليه فإن من لذات النفوس أن تفضي بما في الضمير إلى من تسكن إليه وتأنس به، فلما نهوا عن اتخاذ بطانة ممن دونهم من خلطائهم وعشرائهم وحلفائهم وعلل بما علل به من بيان بغضائهم وكيدهم حسن أن يذكروا بالصبر على هذا التكليف الشاق عليهم وباتقاء ما يجب اتقاؤه لأجل السلامة من عاقبة كيدهم. ويصح أن يراد بالتقوى الأخذ بوصاياه وامتثال أمره تعالى في البطانة وغيرها.
أقول : ومن الاعتبار في الآية أنه تعالى أمر المؤمنين بالصبر على عداوة أولئك المبغضين الكائدين وباتقاء شرهم ولم يأمرهم بمقابلة كيدهم وشرهم بمثله وهكذا شأن القرآن لا يأمر إلا بالمحبة والخير والإحسان ودفع السيئة الحسنة وإن أمكن كما قال :﴿ ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ﴾ [ فصلت : ٣٤ ] فإن لم يمكن تحويل العدو إلى محب بدفع سيئاته بما هو أحسن منها فإنه يجيز دفع السيئة بمثلها من غير بغي ولا اعتداء، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في معاملة بني النضير الذين نزلت الآية فيهم أولا بالذات، فإنه حالفهم ووادهم فنكثوا وخانوا غير مرة أعانوا عليه قريشا يوم بدر وادعوا أنهم نسوا العهد ثم أعانوا الأحزاب الذين تحزبوا لإبادة المسلمين، ثم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فتعذرت موادتهم واستمالتهم بالمحبة وحسن المعاملة، فكان اللجأ إلى قتالهم وإجلائهم ضربة لازب.
ثم قال ﴿ إن الله بما يعملون محيط ﴾ قال الأستاذ الإمام ما مثاله المحيط بالعمل هو الواقف على دقائقه، فهو إذا دل على طريق النجاة لعامل من كيد الكائدين والوسيلة للخلاص من ضررهم، فإنما يدل على الطريق الموصل للنجاة حتما، والوسيلة المؤدية إلى النجاح قطعا، فالكلام كالتعليل لكون الاستعانة بالصبر والتمسك بالتقوى شرطين للنجاح. وهناك وجه آخر وهو أن الخطاب بتعلمون عام للمؤمنين والكافرين جميعا- يعني على قراءة الحسن وأبي حاتم " تعلمون " بالمثناة الفوقية أو على الالتفات- ومن كان عالما بعمل فريقين متحادين محيطا بأسباب ما يصدر عن كل منهما ومقدماته، ونتائجه وغاياته، فهو الذي يعتمد على إرشاده في معاملة أحدهما للآخر ولا يمكن أن يعرف أحدهما من نفسه في حاضرها وآتيها ما يعرفه ذلك المحيط بعمله وعمل من يناهضه ويناصبه. فهداية الله تعالى للمؤمنين خير ما يبلغون به المآرب وينتهون به إلى أحسن العواقب.
وأقول : إن الإحاطة إحاطتان : إحاطة علم وإحاطة قدرة ومنع. وهذا التفسير مبني على أن الإحاطة هنا إحاطة علم لتعلقها بالعمل، وذلك من المجاز الذي ورد في التنزيل كقوله تعالى :( أحاط بكل شيء علما ) [ الطلاق : ١٢ ] وقوله :( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) [ يونس : ٣٩ ]. وأما الإحاطة بالشخص أو بالشيء قدرة فهي تأتي بمعنى منعه مما يراد به، وهذا ليس بمراد هنا، بمعنى منعه مما يريده وبمعنى التمكن منه. ومنه الإحاطة بالعدو، أي أخذه من جميع جوانبه بالفعل والتمكن من ذلك ومنه قوله تعالى :( وأحاطت به خطيئته ) [ البقرة : ٨١ ] وقوله :( إن ربي بما تعملون محيط ) [ هود : ٩٢ ] وقوله :( وظنوا أنهم أحيط بهم ) [ يونس : ٢٢ ] كل هذا من باب واحد وإن فسر كل قول بما يليق به. فيصح أن يكون منه ما نحن فيه والمعنى حينئذ أن الله قد دلكم يا معشر المؤمنين على ما ينجيكم من كيد عدوكم فعليكم بعد الامتثال أن تعلموا أنه محيط بأعمالهم إحاطة قدرة تمنعهم مما يريدون منكم معونة منه لكم كقوله :( وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها ) [ الفتح : ٢١ ] فعليكم بعد القيام بما يجب عليكم أن تتقوا به وتتوكلوا عليه.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
قال تعالى :﴿ وإذ غدوت من أهلكج أي واذكر بعد هذا يا محمد إذ خرجت من بيت أهلك غدوة وذلك سحر يوم السبت سابع شوال من سنة ثلاث للهجرة { تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال ﴾، أي توطنهم وتنزلهم أماكن ومواضع في الشعب من أُحد لأجل القتال فيها. فمنها موضع للرماة وموضع للفرسان وموضع لسائر المؤمنين. فالمقاعد جمع مقعد وهو في الأصل مكان القعود كالمجلس لمكان الجلوس والمقام لمكان القيام، ثم استعملت هذه الألفاظ كلها بمعنى المكان توسعا. وقيل : تبوئة المقاعد تسويتها وتهيئتها. ﴿ والله سميع عليم ﴾ لم يخف عنه شيء مما قيل في مشاورتك لمن معك في أمر الخروج إلى لقاء المشركين في أُحد أو انتظارهم في المدينة، فهو قد سمع أقوال المشيرين وعلم نيّة كل قائل، وأن منهم المخلص في قوله وإن أخطأ في رأيه كالقائلين بالخروج إليهم، ومنهم غير المخلص في قوله وإن كان صوابا كعبد الله ابن أبي ومن معه من المنافقين. ويصح أن يكون الوصفان الكريمان متعلقا للظرف في الآية التالية كما نبينه في تفسيرها.
وذهب ابن جرير إلى أن الخطاب في هذه الآية للنبي والمراد به أصحابه يضرب لهم مثلا أو مثلين على صدق وعده في الآية السابقة :﴿ وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئا ﴾ بتذكيرهم بما كان يوم أحد من وقوع المصيبة بهم عند ترك الرماة الصبر والتقوى- وذنب الجماعة أو الأمة لا يكون عقابه قاصرا على من اقترفه بل يكون عاما – وبما كان يوم بدر إذ نصرهم على قلتهم وذلتهم، وهذا الرأي يتفق مع ما ذكرناه في وجه الاتصال بين الآيات.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ﴾ قال ابن جرير : يعني بذلك جل ثناؤه والله سميع عليم حين همت طائفتان منكم أن تفشلا. والهم حديث النفس وتوجهها إلى الشيء والفشل ضعف مع جبن. وقيل إن هذا بدل من قوله :﴿ وإذ غدوت ﴾ وقيل متعلق بتبوئ. أي كان صلى الله عليه وسلم يتخذ المعسكر للمؤمنين وينزل كل طائفة منهم منزلا في وقت همت فيه طائفتان منهم بالفشل افتتانا بكيد المنافقين الذين رجعوا من المعسكر. والطائفتان هما بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار كما تقدم في القصة ﴿ والله وليهما ﴾ أي متولي أمورهما لصدق إيمانهما، لذلك صرف الفشل عنهما وثبتهما فلم يجيبا داعي الضعف الذي ألم بهما عند رجوع نحو ثلث العسكر، بل تذكروا ولاية الله للمؤمنين فوثقا به توكلا عليه ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أمثالهم، لا على حولهم وقوتهم، ولا أعوانهم وأنصارهم، وإنما يبذلون حولهم وقوتهم، ويأخذون أهبتهم وعدتهم، إقامة لسنن الله تعالى في خلقه إذ جعل الأسباب مفضية إلى المسببات وهو الفاعل المسخر للسبب والمسبب والموفق بينهما فينصر الفئة القليلة على الكثيرة إن شاء كما نصر المؤمنين يوم بدر ولذلك قال :﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾ وهو ماء أو بئر بين مكة والمدينة كان لرجل اسمه بدر فسمي باسمه، ثم أطلق اللفظ على المكان الذي هو فيه. وقد كانت فيه أول غزوة قاتل فيها النبي المشركين في ١٧ رمضان من السنة الثالثة للهجرة فنصره الله عليهم نصرا مؤزرا ﴿ وأنتم أذلة ﴾ أي نصركم في حالة ذلة كنتم فيها على قلتكم- كما يفيده لفظ أذلة، إذ هو جمع قلة- وقد كانوا ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلا، والمراد بكونهم أذلة أنهم لا منعة لهم إذ كانوا قليلي العدة من السلاح والظهر ( أي ما يركب ) والزاد. ولا غضاضة في الذل إلا إذا كان عن قهر من البغاة والظالمين ولم يكن المؤمنون بمقهورين ولا مستذلين من الكافرين، وإنما كانت قوتهم في أوائل تكونها ﴿ فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾ فإن التقوى هي التي تعدكم للقيام في مقام الشكر على النعم التي يسديكم إياها، فمن لم يرض نفسه بالتقوى غلب عليه اتباع الهوى فلا يرجى له أن يكون شاكرا بصرف النعمة إلى ما وهبت لأجله من الحكم والمنافع.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
﴿ إذ تقول للمؤمنين ﴾ قيل : إن هذا متعلق بقوله :﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾ وقيل إنه خاص بوقعة أُحد التي ورد فيها هذا السياق كقوله :﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ﴾ متعلق بتبوئ أو بسميع أو بدل من إذ الأولى. والتقدير تبوئهم مقاعد للقتال في الوقت الذي همّ فيه بعضهم بالفشل مع أن الله نصركم ببدر على قلة وذلة- وفي الوقت الذي كنت تقول فيه للمؤمنين ﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ﴾ وهذا هو المختار. والتقدير على الأول : إن الله نصركم ببدر في ذلك الوقت الذي كنت تقول فيه لهم :﴿ ألن يكفيكم ﴾ الخ أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله ﴿ ألن يكفيكم ﴾ الخ فبلغت كرزا الهزيمة فلم يمد المشركين. ورواه ابن جرير عن الشعبي وعن غيره وذكر الخلاف في حصول هذا الإمداد بالفعل، وأن بعضهم يقول إنه لم يحصل، وبعضهم قال إنه حصل يوم بدر. ونقل عن بعضهم أن الوعد بالإمداد وإن لم يحصل ببدر عام في كل الحروب، وأنهم أمدوا في حرب قريظة والنضير والأحزاب ولم يمدوا يوم أُحد لأنهم لم يصبروا ولم يتقوا.
وروي عن الضحاك أن هذا كان موعدا من الله يوم أًُحد عرضه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن المؤمنين إن اتقوا وصبروا أمدهم بخمسة آلاف. وروي نحوه عن ابن زيد قال " قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم ينظرون المشركين أليس الله يمدنا كما أمدنا يوم بدر ؟ فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين وإنما أمدكم يوم بدر بألف.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
قال : فجاءت الزيادة ﴿ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائمة مسومين ﴾ الفور في الأصل فوران القدر ونحوها ثم استعير الفور للسرعة ثم سميت به الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج من صاحبها على شيء ؛ فمعنى يأتوكم من فورهم من ساعتهم هذه بدون إبطاء. مسومين من التسويم قرأها ابن كثير وأبو عمرو وعاصم ويعقوب بكسر الواو المشدّدة والباقون بفتحها. وقد ورد سوّمه الأمر بمعنى كلفه إياه وسوّم فلانا خلاه وسوّمه في ماله حكمه وصرفه، وسوّم الخيل أرسلها. وكل هذه المعاني ظاهرة على قراءة فتح الواو من " مسومين " فيصح أن يكون المعنى أن هؤلاء الملائكة يكونون مكلفين من الله بتثبيت قلوب المؤمنين، أو محكمين ومصرفين فيما يفعلونه في النفوس من إلهام النصر بتثبيت القلوب والربط عليها، أو مرسلين من عنده تعالى.
وأما قراءة كسر الواو " مسوِّمين " فهي من قولهم سوّم على القوم إذا أغار عليهم ففتك بهم ولو بالإعانة المعنوية على ذلك. وقال بعض المفسرين إنه من التسويم بمعنى إظهار سيما الشيء أي علامته أي معلمين أنفسهم أو خيلهم. وهو كما ترى لولا الرواية لم يخطر على بال أحد منهم ويمكن أن يُقال مسومين للمؤمنين بما يظهر عليهم من سيما تثبيتهم إياهم.
قال ابن جرير بعد ذكر الخلاف في هذا الإمداد ما نصه :" وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال إن الله أخبر عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ثم وعدهم بعد بثلاثة الآلاف خمسة ألاف إن صبروا لأعدائهم واتقوا. ولا دلالة في الآية على أنهم أمدوا بثلاثة الآلاف ولا بخمسة الآلاف ولا على أنهم لم يمدوا بهم. وقد يجوز أن يكون الله أمدهم على نحو ما رواه الذين أثبتوا أن الله أمدهم، وقد يجوز أن يكون الله لم يمدهم على نحو الذي ذكره من أنكر ذلك. ولا خبر عندنا صح من الوجه الذي يثبت أنهم أمدوا بالثلاثة الآلاف ولا بالخمسة الآلاف، وغير جائز أن يُقال في ذلك قول إلا بخبر تقوم الحجة به، ولا خبر به فنسلم لأحد الفريقين قوله. غير أن في القرآن دلالة على أنهم قد أمدوا يوم بدر بألف من الملائكة وذلك قوله :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ [ الأنفال : ٩ ] أما في أحد فالدلالة على أنهم لم يمدوا أبين منها في أنهم لو أمدوا وذلك أنهم لو أمدوا لهم يهزموا وينل منهم ما نيل منهم " ا ه.
أقول : أما معنى هذا الإمداد بالملائكة فهو من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم أو عدتهم وقوتهم ولو النفسية وهذا هو الظاهر، وهاك بيانه.
الإمداد من المد، والمد في الأصل عبارة عن بسط الشيء كمد اليد والحبل أو عن الزيادة في مادته كمد النهر بنهر أو سيل آخر. قال تعالى :﴿ أيحسبون أن ما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات ﴾ [ المؤمنون : ٥٥- ٥٦ ] ؟ فالإمداد يكون بالمال وهو ما يتمول وينتفع به ويكون بالأشخاص. والإمداد بالملائكة يصح أن يكون من قبيل الإمداد بالمال الذي يزيد في قوة القوم وأن يكون من الإمداد بالأشخاص الذين ينتفع بهم ولو نفعا معنويا وذلك أن الملائكة أرواح تلابس النفوس فتمدها بالإلهامات الصالحة التي تثبتها وتقوي عزيمتها، ولذلك قال عز وجل :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ﴾ قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره وما جعل الله وعده إياكم ما وعدكم به من إمداده إياكم بالملائكة الذين ذكر عددهم إلا بشرى لكم يبشركم بها ﴿ ولتطمئن قلوبكم به ﴾ يقول وكي تطمئن بوعده الذي وعدكم من ذلك قلوبكم فتسكن إليه ولا تجزع من كثرة عدد عدوكم وقلة عددكم ﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ يعني وما ظفركم إن ظفرتم بعدوكم إلا بعون الله لا من قبل المدد الذي يأتيكم من الملائكة ا ه.
وأقول : الظاهر أن يكون التقدير وما جعل الله ذلك القول الذي قاله لكم الرسول وهو :﴿ ألن يكفيكم ﴾ الخ إلا بشرى يفرح بها روعكم وتنبسط به أسارير وجوهكم وطمأنينة لقلوبكم التي طرقها الخوف من كثرة عدوكم واستعدادهم. أي إن قول الرسول له هذا التأثير في تقوية القلوب وتثبيت النفوس. وإنما أرجعنا ضمير " جعله " إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا إلى وعد الله عز وجل لأن الآيتين السابقتين ليستا وعدا من الله بالإمداد بالملائكة وإنما هما إخبار عما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم. فقد أخبر تعالى في تينك الآيتين أن رسوله قال لأصحابه ذلك القول وبيّن في هذه الآية فائدة ذلك القول ومنفعته مع بيان الحقيقة، وهي أن النصر بيد الله العزيز أي القوى الذي لا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي يدبر الأمر على خير سنن، ويقيمه بأحسن سنن ؛ فيهدي لأسباب النصر الظاهرة والباطنة من يشاء ؛ ويصرف عنهما من يشاء، فإن حصل الإمداد بالملائكة فعلا فما يكون إلا جزءا من أجزاء سبب النصر أو فردا من أفراده، ومنه إلقاء الرعب والخوف في قلوب الأعداء، ومنه سائر الأسباب المعروفة من الصبر والثبات وحسن التدبير ومعرفة المواقع وغير ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سلك إلى أحد أقرب الطرق وأخفاها عن العدو وعسكر في أحسن موضع وهو الشعب ( الوادي ) وجعل ظهر عسكره إلى الجبل وجعل الرماة من ورائهم، فلما اختل بعض هذه التدبيرات لم ينتصروا.
وذكر بعض أهل السير أن الملائكة قاتلت يوم أحد وهو ما نفاه ابن جرير، وقد ذكرنا عبارته. بل روي عن ابن عباس أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفيما عداه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون. وأنكر أبو بكر الأصم قتال الملائكة وقال : إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط. فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وبتقدير حضوره أي فائدة في إرسال سائر الملائكة ؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتِلُ كل منهم من الصحابة معلوم، وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا، وعلى الأول يكون المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك، وأنه خلاف قوله :﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ [ الأنفال : ٤٤ ] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ألبتة ؛ وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزق البطون وإسقاط الكفار من غير مشاهدة فاعل، ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف. وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل. وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخيول، ا ه ذكر ذلك الرازي والنيسابوري. فالرازي أورد هذا عن الأصم وذكر حججه مفصلة كعادته بقوله : الحجة الأولى- الحجة الثانية الخ ؛ ولخصه النيسابوري عنه بما ذكرناه واعترض الرازي عليه بأن مثل هذا إنما يصدر من غير المؤمنين، وكان يجب أن يرد عليه بما يدفع هذه الحجج أو يبيّن لها مخرجا.
ليس في القرآن الكريم نص قاطع بأن الملائكة قاتلت بالفعل فيحتج به الرازي على أبي بكر الأصم، وإنما جاء ذكر الملائكة في سياق الكلام عن غزوة بدر في سورة الأنفال على أنها وعد من الله تعالى بإمداد المؤمنين بألف من الملائكة وفسّر هذا الإمداد بقوله عز وجل :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ [ الأنفال : ١٢ ] قال ابن جرير في معنى التثبيت :( ج ٩ ص ١٢٤ ) " يقول قووا عزمهم وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقيل : كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم " فأنت ترى أنه جزم بأن عمل الملائكة في ذلك اليوم إنما كان موضوعه القلوب بتقوية عزيمتها، وتصحيح نيتها، وذكر قول من قال إن ذلك كان بمعونتهم في القتال بصيغة تدل على ضعفه " قيل " وجعل قوله تعالى :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ الخ من تتمة خطاب الله للمؤمنين وهو الظاهر. وبعض المفسرين يجعله بيانا لما تثبت به الملائكة النفوس أي إنها تلقي فيها اعتقاد إلقاء الرعب في قلوب المشركين الخ.
وبهذا يندفع ما قاله الأصم ولا يبقى محل لحججه فإنه لا ينكر أن الملائكة أرواح يمكن أن يكون لها اتصال ما بأرواح بعض البشر وتأثير فيها بالإلهام أو تقوية العزائم. ويؤيده قوله تعالى :﴿ وما جعله الله إلا بشرى ﴾ كما قال مثل ذلك في هذه السورة.
هذا ما كان يوم بدر، وسيأتي بسطه في تفسير سورة الأنفال إن أحيانا الله تعالى. وأما يوم أحد فالمحققون على أنه لم يحصل إمداد بالملائكة ولا وعد من الله بذلك. وإنما أخبر الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر ذلك لأصحابه وجعل الوعد به معلقا على ثلاثة أمور : الصبر والتقوى وإتيان الأعداء من فورهم، ولم تتحقق هذه الشروط فلم يحصل الإمداد كما تقدم. ولكن القول أفاد البشارة والطمأنينة.
وبقي أن يُقال : ما الحكمة وما السبب في إمداد الله المؤمنين يوم بدر بملائكة يثبتون قلوبهم، وحرمانهم من ذلك يوم أحد حتى أصاب العدو منهم ما أصاب ؟
والجواب عن ذلك يعلم من اختلاف حال المؤمنين في ذينك اليومين، فنذكره هنا مجملا مع بيان فلسفته الروحانية، وندع التفصيل فيه إلى تفسير الآيات هنا وفي سورة الأنفال. فإن ما هنا تفصيل لما في وقعة أحد من الحكم وما في سورة الأنفال تفصيل لما كان في وقعة بدر من ذلك.
كان المؤمنون يوم بدر في قلة وذلة من الضعف والحاجة فلم يكن لهم اعتماد إلا على الله تعالى وما وهبهم من قوة في أبدانهم ونفوسهم، وما أمرهم به من الثبات والذكر إذ قال :﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ [ الأنفال : ١٥ ] فبذلوا كل قواهم وامتثلوا أمر ربهم، ولم يكن في نفوسهم استشراف إلى شيء ما غير نصر الله وإقامة دينه والذود عن نبيه لا في أول القتال ولا في أثنائه، فكانت أرواحهم بهذا الإيمان وهذا الصفاء قد علت وارتقت حتى استعدت لقبول الإلهام من أرواح الملائكة والتقوى بنوع ما من الاتصال بها.
وأما يوم أحد فقد كان بعضهم في أول الأمر على مقربة من الافتتان بما كان من المنافقين، ولذلك همت طائفتان منهم أن تفشلا. ثم إنهم لما تثبتوا وباشروا القتال انتصروا وهزموا المشركين الذين هم أكثر من ثلثهم، فكان بعد ذلك أن خرج بعضهم عن التقوى وخالفوا أمر الرسول، وطمعوا في الغنيمة وفشلوا وتنازعوا في الأمر فضعف استعداد أرواحهم، فلم ترتق إلى أهلية الاستمداد من أرواح الملائكة فلم يكن لهم منهم مدد، لأن الإمداد لا يكون إلا على حسب الاستعداد.
هذا هو السبب لما حصل بحسب ما يظهر لنا. وأما حكمته فهي تمحيص المؤمنين كما سيأتي في قوله :" وليمحص الله " الخ وتربيتهم بالفعل على إقامة سنن الله تعالى في الأسباب والمسببات كما سيأتي في قوله :﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾ [ آل عمران : ١٣٧ ] وبيان أن هذه السنن حاكمة حتى على الرسول، وأن قتل الرسول أو موته لا ينبغي أن يكون مثبطا للهمم ولا داعية إلى الانقلاب على الأعقاب، وأنه ليس له من أمر العباد شيء، وأن كل ما يصيبهم من المصائب فهو نتيجة عملهم إذ هو عقوبة طبيعية لهم، وغير ذلك مما بينه الله تعالى في قوله :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ] الخ وقوله :﴿ وما محمد إلا رسول ﴾ [ آل عمران : ١٤٤ ] الخ وغيرهما، فلا نتعجله قبل الكلام في تفسير الآيات الناطقة به، وما هي ببعيد.
ومن نكت البلاغة المؤدية لما ذكرنا من اختلاف الحالين في الواقعتين : أنه تعالى قال هنا :﴿ ولتطمئن قلوبكم به ﴾ وقال في سورة الأنفال :﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾ [ الأنفال : ١٠ ] والفرق بينهما أن المؤمنين لم يكن لهم يوم بدر ما تطمئن به قلوبهم غير وعد الله وبشارته لهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك كان من دعائه يومئذ " اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا " قال عمر راوي هذا الحديث : فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرداه ثم التزمه من ورائه، ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك. وأنزل الله يومئذ ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم ﴾١ [ الأنفال : ٩ ]. رواه أحمد ومسلم وغيرهما. فكان بهذا الوعد اطمئنان قلوبهم لا بسواه فلذلك قدم " به " على " قلوبكم " وأما في يوم أحد فلم تكن الحال كذلك كما علم مما تقدم آنفا، فلم تعد البشارة أن تكون مما يطمئن به القلب فقال :" ولتطمئن قلوبكم به " من غير قصر.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
ثم قال تعالى :
﴿ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ﴾ ذهب بعض المفسرين إلى أن هذا متعلق بقوله :﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾ وبعض آخر إلى أنه من الكلام في وقعة أحد المقصودة بالذات ؛ فإن ذكر النصر ببدر إنما جاء استطرادا ولذلك أنكروا أن يكون ذكر الملائكة الثلاثة الآلاف والخمسة الآلاف متعلقا به. وهذا هو المختار عندنا. أي إنه فعل ما فعل ليقطع طرفا، أو وما النصر إلا من عنده ليقطع طرفا. ومعنى قطع الطرف منهم إهلاك طائفة منهم يقال :" قطع دابر القوم " إذا هلكوا وقد نطق به التنزيل. وعبر عن الطائفة بالطرف لأنهم الأقرب إلى المسلمين من الوسط وأراد بهم الإشراف منهم، كذا قيل، والمتبادر الأول لا لأنه من باب " قاتلوا الذين يلونكم " كما قيل، بل لأن الطرف هو أول ما يوصل إليه من الجيش. وقد أهلك الله من المشركين يوم أحد طائفة في أول الحرب.
روى ابن جرير عن السدي أنه قال : ذكر الله قتلى المشركين يعني بأحد، وكانوا ثمانية عشر رجلا فقال :﴿ ليقطع طرفا من الذين كفروا ﴾ الخ ونقول قد ذكر غير واحد من أهل السير أن قتلى المشركين يوم أحد كانوا ثمانية عشر رجلا، ورد عليهم آخرون بأن حمزة وحده قتل نحو ثلاثين. وصرح بعضهم بأن سبب غلط من قال ذلك القول هو ما روي أن بعض المسلمين أراد عد قتلى المشركين فعد ثمانية عشر. وصرح بعضهم بأن سبب ذلك أن المشركين أخذوا قتلاهم أو دفنوهم لئلا يمثل بهم المسلمون بعد المعركة كما مثلوا هم بالمسلمين عندما أصابوا الغرة منهم، وهذا هو المعقول. وانتظر أيها القارئ قوله تعالى :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ].
وأما قوله :﴿ أو يكبتهم ﴾ فقد فسروه بأقوال، منها أن معناه يخزيهم ومنها أن معناه يصرعهم لوجوههم، وفي الأساس : كبت الله عدوه أكبه وأهلكه. ولكن صاحب الأساس فسر الكلمة في الكشاف بقوله :" ليخزيهم ويغيظهم بالهزيمة ". وقال الراغب : الكبت الرد بعنف وتذليل. وقال البيضاوي :" أو يخزيهم والكبت شدة الغيظ أو وهن يقع في القلب ". وكل هذه المعاني وردت في كتب اللغة وصرح البيضاوي بأن " أو " هنا للتنويع لا للترديد. والمعنى أنه يقطع طرفا وطائفة ويكبت طائفة أخرى أي ويتوب على طائفة ويعذب طائفة كما في الآية الآتية.
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
﴿ ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ﴾ جملة " ليس لك من الأمر شيء " معترضة بين هذا التقسيم، وما بعدها معطوف على ما قبلها. ولما كانت هذه الآية مما نزل في وقعة أحد كما روي في الصحيح تعين أن تكون التي قبلها كذلك وإلا كانت غير مفهومة إلا بتكلف ينزه القرآن عن مثله على كونه لا حاجة إليه.
أما كونها نزلت في شأن وقعة أحد فيدل عليه وما ورد في سبب نزولها. روى أحمد والبخاري والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد :" اللهم العن أبا سفيان اللهم العن الحارث بن هشام اللهم العن سهيل بن عمرو اللهم العن صفوان بن أمية " ١ فنزلت هذه الآية فتيب عليهم كلهم. وروى البخاري عن أبي هريرة نحوه. وروى أحمد ومسلم من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أحد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال :" كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم " ؟ فأنزل الله :﴿ ليس لك من الأمر شيء ﴾٢. ذكر ذلك كله السيوطي في لباب النقول ولم يعز الأول إلى الترمذي والنسائي اكتفاء بمن هو أصح منهما رواية. وقد روى ذلك ابن جرير من عدة طرق. وما روي غير ذلك لا يعتد به. ولا تنافي بين حديث ابن عمر وحديث أنس لأن الجمع بينهما ظاهر، وهو أنه قال ما قال فيهم حين أدموه، ثم لعن رؤسائهم فنزلت الآية عقب ذلك كله.
وأما المعنى فقد قال ابن جرير : يعني بذلك تعالى ذكره : ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ليس لك من الأمر شيء فقوله :" أو يتوب عليهم " منصوب عطفا على قوله أو " يكبتهم " وقد يحتمل أن يكون تأويله ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب عليهم، فيكون نصب يتوب بمعنى " أو " التي هي في معنى " حتى " والقول الأول أولى بالصواب، لأنه لا شيء من أمر الخلق إلى أحد سوى خالقهم، قبل توبة الكفار وعقابهم وبعد ذلك. وتأويل " ليس لك من الأمر شيء " ليس إليك يا محمد من أمر خلقي إلا أن تنفذ فيهم أمري وتنتهي فيهم إلى طاعتي وإنما أمرهم إلي والقضاء فيهم بيدي دون غيري، أقضي فيهم وأحكم بالذي أشاء من التوبة على من كفر بي وعصاني وخالف أمري أو العذاب إما في عاجل الدنيا بالقتل والنقم المبيرة وإما في آجل الآخرة بما أعددت لأهل الكفر بي. انتهى قول ابن جرير وقد أورد بعده ما عنده من الروايات في الآية.
وأقول : لو لم يكن لما جرى في غزوة أحد حكمة إلا نزول هذه الآية لكفى فكيف وقد جمع إليها ما سيأتي من الحكم الدينية والاجتماعية والحربية ! !
كان المؤمنون السابقون إلى الإسلام على ثقة من وعد الله تعالى بنصر نبيه وإظهار دينه لم يزلزل إيمانهم بذلك ضعفهم وقلتهم، ولا إخراج المشركين للمهاجرين من ديارهم وأموالهم، وكان وقعة بدر أول تباشير هذا النصر، فلما رأوا أن الله تعالى نصرهم على قلتهم وضعفهم بعد ما كان من دعاء الرسول وتضرعه واستغاثته ربه زادهم ذلك إيمانا بأنهم هم المنصورون، ولكن وقع في نفوس الكثيرين – إن لم نقل في نفوس الجميع- أن نصرهم سيكون بالآيات والعناية الخاصة من غير التزام للسنن الإلهية في الاجتماع البشري، وأن وجود الرسول فيهم ودعاءه على أعدائهم هما أفعل في التنكيل بالكفار من التزام الأسباب الظاهرة التي أهمها طاعة القائد والتزام النظام العسكري وغير ذلك، ولكن الإسلام دين الفطرة لا الخوارق.
كانت عاقبة ذلك أن قصروا في هذه الأسباب يوم أحد حتى ظهر عليهم العدو وجرح الرسول نفسه- وإن لم يقصر هو ولم ينهزم صلى الله عليه وسلم كما هي السنة الاجتماعية التي بينها تعالى قبل ذلك في سورة الأنفال بقوله :( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ) [ الأنفال : ٥ ] – وإن تبرم الرسول من الكافرين ودعا على رؤسائهم، فكان ذلك فرصة لإعلام المؤمنين بحقيقة من حقائق دين الفطرة، وهي أن الرسول بشر ليس له من أمر العباد ولا من أمر الكون شيء، وإنما هو معلم وأسوة حسنة فيما يعلمه والأمر كله لله كما صرح به في الآية ١٥٤ يدبره بمقتضى سننه كما نص على ذلك في الآية ١٣٧ وكلا الآيتين من هذا السياق.
هذا البيان الإلهي في هذه الواقعة يتمكن في النفوس ما لا يتمكن لو لم يكن مقرونا بواقعة مشهودة لا مجال معها لتأويله ولا لتخصيصه أو تقييده، فهو من أقوى دعائم التوحيد في القرآن ؛ ودلائل نبوة النبي صلى الله عليه وسلم إذ لو كان النبي صلى الله عليه وسلم مؤسس ملك ؛ وزعيم سياسة يديرها بالرأي، لما قال مثل هذا القول ؛ في مثل هذا الموطن، فأي نصيب من هذا الدين للذين يجعلون أمر العباد وتدبير شؤون الكون لطائفة من أصحاب القبور أو الأحياء، الذين يلقبون بالمشايخ والأولياء، فيزعمون أنهم ينصرون ويخذلون، ويسعدون ويشقون، ويميتون، ويحيون، ويغنون ويفقرون، ويمرضون ويشفون، ويفعلون كل ما يشاؤون ؟ ؟، هل يعد هؤلاء من أهل الإسلام، وأتباع القرآن، الذي يخاطب خاتم النبيين والمرسلين، حين لعن رؤساء المشركين، الذين حاربوه حتى خضبوا بالدم محياه، وكسروا إحدى ثناياه، بقوله :( ليس لك من الأمر شيء ) وقوله :( قل إن الأمر كله لله ) ؟ هذا تعليم القرآن الحكيم، وهذا هديه القويم.
فهل كان أهل بخارى مهتدين به عندما كانوا يقولون وقد علموا بعزم روسيا على الاستيلاء على بلادهم : إن " شاه نقشبند " هو حامي هذه البلاد فلن يستطيعها أحد ؟ هل كان أهل فاس مهتدين عندما لجؤوا إلى قبر وليهم " إدريس "، يستغيثونه ويستفتحون به على الفرنسيس، هل كان المسلمون على شيء من هدي هذا الدين عندما كانوا يستنصرون بقراءة البخاري أو يستغيثون بالأولياء في بلاد كثيرة ؟ أيزعمون أن تلك النزعات الوثنية تعد من الدعاء المشروع ؟ ألم يعتبروا بهذه الآية وما رواه أهل الصحيح في سببها وهو دعاء النبي على رؤساء المشركين حين فعلوا ما فعلوا ؟ ألم يتعلموا من ذلك أن الاستعداد بالفعل، مقدم على الدعاء بالقول، ألم يروا أن سلفهم كانوا ينصرون، أيام لم يكونوا دائما يقولون، " اللهم نكس أعلامهم. اللهم زلزل أقدامهم، اللهم يتم أطفالهم، اللهم اجعلهم غنيمة للمسلمين " وأنهم بعد اللهج بهذه الكلمة، غير منصورين في جهة من الجهات ؟ فالعمل العمل، الاستعداد الاستعداد، الأهبة الأهبة، ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : ٦٠ ] ولا قوة إلا بالعلم، والمال، ولا مال إلا بالعدل، ولا عدل مع حكم الاستبداد، ثم بعد كمال الاستعداد، يكون الذكر والاستمداد ﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ولا تنازعوا فتفشلوا ﴾ [ الأنفال : ٤٥ -٤٦ ] هذا هدى الإسلام وقد تمثل لهم صدقه في النبي وصالحي المؤمنين، ﴿ أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ﴾ [ المؤمنون : ٦٨ ] ؟ ؟.
٢ - أخرجه البخاري في المغازي باب ٢١، ومسلم في الجهاد باب ١٠٣ والترمذي في تفسير سورة ٣، باب ١٠، وأحمد في المسند ٣/ ٩٩، ١٧٩، ٢٠٦، ٢٥٣، ٢٨٨..
إن هذه الآيات وعشرات بعدها نزلت في شأن غزوة أحد ويتوقف فهمها على الوقوف على قصة تلك الغزوة ولو إجمالا. فوجب لذلك أن نأتي قبل تفسيرها بما يعين القارئ على فهمهما ويبين له مواقع تلك الأخبار وما فيها من الحكم والأحكام، فنقول :
غزوة أحد١
لما خذل الله المشركين في غزوة بدر ورجع فلهم إلى مكة مقهورين موتورين نذر أبو سفيان بن حرب أن لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا صلى الله عليه وسلم، فخرج في مائة رجل من قريش حتى أتى بني النضير ليلا وبات ليلة واحدة عند سلام بن مشكم اليهودي سيد بني النضير وصاحب كنزهم فسقاه الخمر وبطن له من خبر الناس ؛ ثم خرج في عقب ليلته وأرسل أصحابه إلى ناحية من المدينة، يقال لها العريض، فقطعوا وحرقوا صوراً٢ من النخل ورأوا رجلا من الأنصار وحليفا له فقتلوهما ونذر به٣ رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج في طلبه ؛ فلم يدركهم، لأنهم فروا وألقوا سويقا كثيرا من أزوادهم يتخففون به فسميت غزوة السويق، وكانت بعد بدر بشهرين، وإنما ذكرناها قبل ذكر أحد ليعلم القارئ أن العدوان من المشركين على المسلمين كان متصلا متلاحقا ! !.
ولما رجع أبو سفيان إلى مكة أخذ يؤلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وكان بعد قتل صناديد قريش في بدر هو السيد الرئيس فيهم، لذلك كلمه في أمر المسلمين الموتورون من عظماء قريش، كعبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية ليبذل مال العير التي جاء بها من الشام في أخذ الثأر فرضي هو وأصحاب العير بذلك، وكان مال العير كما في السيرة الحلبية خمسين ألف دينار بحت مثلها فبذلوا الربح في هذه الحرب فاجتمعت قريش للحرب حين فعل ذلك أبو سفيان بن حرب وخرجت بحدها٤ وجدها٥ وأحابيشها٦ ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف وأخذوا معهم نساءهم التماس الحفيظة وأن لا يفروا فإن الفرار بالنساء عسر والفرار دونهن عار. وكان مع أبي سفيان وهو القائد زوجه هند ابنة عتبة، فكانت تحرض الغلام وحشيا الحبشي الذي أرسله مولاه جبير بن مطعم ليقتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم بعمه طعمة بن عدي الذي قتل ببدر، وقد علق عتقه على قتله. وكان هذا الحبشي ماهرا في الرمي بالحربة على بعد، قلما يخطئ فكانت هند كلما رأته في الجيش تقول له :" ويها أبا دسمة أشف واشتف " تخاطبه بالكنية تكريما له. وذكر الحلبي أنهم ساروا أيضا بالقيان والدفوف والمعازف والخمور.
نزل أبو سفيان بجيشه قريبا من أحد في مكان يقال له " عينين " ٧ على شفير الوادي مقابل المدينة وكان ذلك في شوال من السنة الثالثة، فلما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك استشار أصحابه كعادته أيخرج إليهم ؟ أم يمكث في المدينة ؟ وكان رأيه هو أن يتحصنوا بالمدينة فإن دخلها العدو عليهم قاتلوه على أفواه الأزقة والنساء من فوق البيوت، ووافقه على هذا الرأي أكابر المهاجرين والأنصار، كما في السيرة الحلبية وعبد الله بن أبي، وكان هو الرأي. وأشار عليه جماعة من الصحابة أكثرهم من الأحداث وممن كان فاتهم الخروج يوم بدر بان يخرج إليهم لشدة رغبتهم في القتال فما زالوا يلحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته٨ بعد صلاة الجمعة وكان قد أوصاهم في خطبتها ووعدهم بأن لهم النصر ما صبروا، ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك، وقالوا له استكرهناك ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد فقال " ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين عدوه " ٩ أي لما فسخ العزيمة بعد إحكامها وتوثيقها من الضعف ومبادئ الفشل وسوء الأسوة. وفي سحر يوم السبت خرج بألف من أصحابه واستعمل بالمدينة عبد الله ابن أم مكتوم الأعمى على الصلاة بمن يقي فيها.
فلما كانوا بالشوط بين المدينة وأحد انعزل عنه عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين بنحو ثلث العسكر ( وهم ٣٠٠ ) وقال أطاعهم وعصاني – وفي رواية أطاع الولدان ومن لا رأي له- فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من قومه أهل النفاق والريب، فتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا قومكم ونبيكم، تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا. قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون لم نرجع ولكن نرى أنه لا يكون قتال. وقد كان المسلمون نحو ثلث المشركين الذين خرجوا إليهم فأمسوا وقد ذهب من الثلث نحو ثلثه، وهمت بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج أن تفشلا فعصمهما الله تعالى.
وقد كان خروج المنافقين منهم خيرا لهم كما قال تعالى في مثل ذلك يوم تبوك ( لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ) [ التوبة : ٤٧ ] الآية، وإنما ارتأى عبد الله بن أبي عدم الخروج ليكتفي أمر القتال أو خطره حرصا على الحياة وإيثارا لها على إعلاء كلمة الله. فكان على موافقته للرسول في الرأي مخالفا له في سببه وعلته، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراعي في جميع حروبه التي كانت كلها دفاعا قاعدة ارتكاب أخف الضررين وأبعد الأمرين عن العدوان رحمة بالناس وإيثارا للسلام. وتعزر رأيه المبني على هذه السنة برؤيا رآها قبل ذلك ؛ وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. رأى أن في سيفه ثلمة ورأى أن بقرا تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة فتأول الثلمة في سيفه برجل يصاب من أهل بيته فكان ذلك الرجل حمزة عمه رضي الله عنه- وتأول البقر بنفر من أصحابه يقتلون، وتأول الدرع بالمدينة.
ولكنه على هذا كله عمل برأي الجمهور من أصحابه إقامة لقاعدة الشورى التي أمره الله بها وهو لم يخالف بذلك قاعدة ارتكاب أخف الضررين، بل جرى عليها لأن مخالفة رأي الجمهور ولو إلى خير الأمرين هضم لحق الجماعة وإخلال بأمر الشورى التي هي أساس الخير كله. وإنما كان يكون المكث في المدينة خيرا من الخروج إلى العدو في أحد لو لم يكن مخلا بقاعدة الشورى كما هو ظاهر، فكيف ترك المسلمون هذا الهدي النبوي الأعلى ورضوا بأن يكون ملوكهم وأمراؤهم مستبدين بالأحكام والمصالح العامة يديرون دولابها بأهوائهم التي لا تتفق مع الدين ولا مع العقل ؟ ؟
وسأل قوم من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى وكان في الحقيقة ضلع اليهود مع المشركين، ولم يكونوا في عهودهم بموفين.
ومضى النبي بأصحابه حتى مر بهم في خرة بني حارثة وقال لهم " من رجل يخرج بنا على القوم من كثب- قرب- لا يمر بنا عليهم ؟ " فقال أبو خيثمة أخو بني حارثة بن الحارث : أنا يا رسول الله فنفذ به في حرة قومه بني حارثة وبين أموالهم حتى سلك في مال لمربع بن قيظي وكان رجلا منافقا ضرير البصر. فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قام يحثو في وجوههم التراب ويقول : إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال ابن هشام : وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده ثم قال : والله لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك يا محمد لضربت بها وجهك. فابتدره القوم ليقتلوه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقتلوه فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر ". وفي هذه المسألة من علم النبي بفن الحرب الإرشاد إلى اختيار أقرب الطرق إلى العدو وأخفاها عنه، وذلك يتوقف على العلم بخرت الأرض الذي يعرف اليوم بعلم الجغرافية وإباحة المرور في ملك الناس عند الحاجة إلى ذلك، لتقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. وفيها من رحمته صلى الله عليه وسلم أنه لم يأذن بقتل ذلك المنافق المجاهر بعدائه ؛ بل رحمه وعذره. ولم تكن المصلحة العامة تتوقف على قتله. ولم تكن العرب قبل الإسلام تراعي هذه الدقة في حفظ الدماء، بل قلما تراعيه أمة من الأمم في زمن الحروب.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من جبل أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال " لا يقاتلن أحد حتى نأمر بالقتال " وفي ذلك من أحكام الحرب أن الرئيس هو الذي يفتحها، وما كانت العرب تراعي ذلك دائما لا سيما إذا حدث ما يثير حميتهم، وقد امتثلوا الأمر على استشراف. ولذلك قال بعض الأنصار- وقد رأى قريشا قد سرحت الظهر والكراع في زروع المسلمين - أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب ؟ وفيه من الفوائد ما لا محل لشرحه هنا.
فلما أصبح يوم السبت تعبى للقتال وهو في سبع مائة فيهم خمسون فارسا، وظاهر بين درعين- أي لبس درعا فوق درع- واستعمل على الرماة- وكانوا خمسين- عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو معلم يومئذ بثياب بيض وقال " انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا، وإن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك لا نؤتين من قبلك ". ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أخي بني عبد الدار، وجعل على إحدى المجنبتين الزبير بن العوام وعلى الأخرى المنذر بن عمرو.
ثم استعرض صلى الله عليه وسلم الشبان يومئذ، فرد من استصغره عن القتال وهم ١٧ وأحاز أفرادا من أبناء الخامسة عشرة، قيل لسنهم وقيل لبنيتهم وطاقتهم، ولعله الصواب. فإنه كان قد رد سمرة بن جندب، ورافع بن خديج ولهما خمس عشرة سنة، فقيل له يا رسول الله ؛ إن رافعا رام فأجازه، فقيل له فإن سمرة يصرع رافعا. فأجازه. وروي أنهما تصارعا أمامه ورد عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وعمرو بن حزم وأسيد بن ظهير والبراء بن عازب ثم أجازهم يوم الخندق، وهم أبناء خمس عشرة إذ كانوا يطيقون القتال في هذه السن كما هو الغالب في العرب يومئذ.
وتعبت قريش وهم ثلاث آلاف رجل معهم مائتا فرس قد جنبوها، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل وابتدأت الحرب بالمبارزة.
ولما اشتبك القتال والتقى الناس بعضهم ببعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال ويحرضنهم فقالت هند فيما تقول :
ويهاً بني عبد الدارْ *** ويهاً حماة الأدبارْ
ضرباً بكل بتارْ
إن تقبلوا نعانقْ *** ونفرش النمارق
أو تدبروا نفارقْ *** فراق غير وامقْ١٠
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول عند سماع نشيد النساء " اللهم بك أحول وبك أصول ؛ وفيك أقاتل، حسبي الله ونعم الوكيل " ١١.
وكان أول من بدر من المشركين أبو عامر عبد بن عمرو بن صيفي وكان رأس الأوس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام شرق به وجاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة وخرج من المدينة إلى مكة يؤلب قريشا على قتاله، ويزعم أن قومه إذا رأوه أطاعوه ومالوا معه وكان يسمى الراهب فسماه ال
ثم أكد تعالى هذه الحقيقة وأيدها بقوله :﴿ ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ﴾ فمن كان له ملك السماوات والأرض كان حقيقا بان يكون له الأمر كله في السماوات والأرض، ولا يمكن أن يكون لأحد من أهلهما شركة معه ولا رأي ولا وساطة تأثير في تدبيرهما، وإن كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا إلا من سخره تعالى للقيام بشيء فإنه يكون خاضعا لذلك التسخير، لا يستطيع الخروج فيه عن السنن العامة التي قام بها نظام الكون ونظام الاجتماع، وفي ذلك تأديب من الله تعالى لرسوله وإعلام بان ذلك اللعن والدعاء على المشركين مما لم يكن ينبغي له، ولذلك قال ابن جرير في تفسير الآية " يعني بذلك تعالى ذكره ليس لك يا محمد من الأمر شيء ولله جميع ما بين أقطار السماوات والأرض من مشرق الشمس إلى مغربها دونك ودونهم يحكم فيهم بما شاء ويقضي ما أحب فيتوب على من أحب من خلقه العاصين أمره ونهيه ثم يغفر له ويعاقب من يشاء منهم على جرمه فينتقم منه " الغفور " الذي يستر ذنوب من أحب أن يستر عليه ذنوبه من خلقه بفضله عليهم بالعفو والصفح و " الرحيم " بهم في تركه عقوبتهم عاجلا على عظيم ما يأتون من المآثم ا ه. ولا تنس أن مشيئته المغفرة أو التعذيب جارية على سن حكيمة مطردة كما تقدم غير مرة ( راجع الجزء الثالث ).
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
أقول : ويقوي رأي الأستاذ الإمام أن السياق كان من أول السورة إلى نحو سبعين آية في محاجة النصارى، ثم انتقل إلى اليهود ووردت قصة أحد وما فيها من العبر في سياق الكلام عن اليهود، ثم بعد انتهائها يعود الكلام إلى اليهود سيما فيما يتعلق بأمر المال والنفقات، فلا غروا إذا ذكر في أول الكلام في هذه الغزوة شيء يتعلق بذلك ولكل منهما مناسبة واشتباك بصلة المسلمين باليهود. والحرب مما يستعان عليه بالمال وحال اليهود فيه معلومة. والغرض من هذه الآية الحث على بذل المال في سبيل الله كالدفاع عن الملة والأمة والتنفير عن الطمع فيه، وشرّه أكل الربا أضعافا مضاعفة ولذلك قدم النهي عن هذا الشر على الأمر بذلك الخير تقديما للتخلية على التحلية فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ﴾ هذا أول ما نزل في تحريم الربا وآيات البقرة في الربا نزلت بعد هذه، بل هي آخر آيات الأحكام نزولا. والمراد بالربا فيها ربا الجاهلية المعهودة عند المخاطبين عند نزولها لا مطلق المعنى اللغوي الذي هو الزيادة، فما كل ما يسمى زيادة محرم. قال ابن جرير :" يعني بذلك جل ثناؤه : يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة في إسلامكم بعد إذ هداكم الله، كما كنتم تأكلونه في جاهليتكم. وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل منهم كان يكون له على الرجل مال إلى أجل فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه، فيقول له الذي عليه المال : أخّرْ عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة. فنهاهم الله عز وجل في إسلامهم عنه " ثم ذكر بعض الروايات في ذلك فمنها عن عطاء : كانت ثقيف تداين في بني المغيرة في الجاهلية فإذا حل الأجل قالوا نزيدكم وتؤخرون. وعن مجاهد أنه قال في الآية :" ربا الجاهلية " واعن ابن زيد قال كان أبي زيد ( العالم الصحابي الجليل ) يقول :" إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن : يكون للرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول : تقضيني أو تزيدني. فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك إن كانت ابنة مخاض يجعلها ابنة لبون في ( السنة ) الثانية ثم حقه ثم جذعه ثم رباعياً١ ثم هكذا إلى فوق. وفي العين ( النقود ) يأتي فإن لم يكن عنده أضعفه في العالم القابل ؛ فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مئة فيجعلها إلى قابل مائتين ؛ فإن لن يكن عنده جعله أربع مائة يضعفها له كل سنة أو يقضيه قال : فهذا قوله ﴿ لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ﴾.
فأنت ترى أن هذا الذي فسر به زيد ( رضي الله عنه ) الآية هو الربا الفاحش المعروف في هذا الزمان بالمركب، وترى أن ما قاله ابن جرير ومن روي عنهم من السلف في تصوير الربا كله في اقتضاء الدين بعد حلول الأجل ولا شيء منه في العقد الأول كان يعطيه المئة بمئة وعشرة، أو أكثر أو اقل، وكأنهم كانوا يكتفون في العقد الأول بالقليل فإذا حل الأجل ولم يقض المدين وهو في قبضتهم اضطروه إلى قبول التضعيف في مقابلة الإنساء، وما قالوه هو المروي عن عامة أهل الأثر، ومنه عبارة الإمام أحمد الشهيرة التي أوردناها في تفسير آية البقرة :( الجزء الثالث ) وهي أنه لما سئل عن الربا الذي لا يشك فيه قال :" هو أن يكون له دين فيقول له أتقضي أم تربي ؟ فإن لم يقض زاده في المال وزاده هذا في الأجل " وهذا هو المعروف في الشرع بربا النسيئة.
وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور فإنه قال بعد ذكر أنواع الربا :
" وربا النسيئة هو الذي كان مشهورا في الجاهلية لأن الواحد منهم كان يدفع ماله لغيره إلى أجل على أن يأخذ منه كل شهر قدرا معينا ورأس المال باق بحاله فإذا حل طالبه برأس ماله فإن تعذر عليه الأداء زاده في الحق والأجل. وتسمية هذا نسيئة مع أنه يصدق عليه ربا الفضل أيضا لأن النسيئة هي المقصودة منه بالذات. وهذا النوع مشهور الآن بين الناس وواقع كثيرا. وكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يحرم إلا ربا النسيئة محتجا بأنه المتعارف بينهم فينصرف النص إليه " اه. المراد من كلام ابن حجر ثم ذكر أن الأحاديث صحت بتحريم سائر أنواع الربا.
وما قاله ابن عباس من أن نص القرآن الحكيم ينصرف إلى ربا النسيئة الذي كان معروفا عندهم متعين، وهو ما جرينا عليه هنا وفي سورة البقرة إذ جعلنا حرف التعريف فيه للعهد. وهو المراد أيضا بحديث الصحيحين " إنما الربا في النسيئة " وفي لفظ " لا ربا إلا في النسيئة " ٢ وكان غير واحد من الصحابة يبيح ربا الفضل كأسامة وابن عمر، ومن حرمه حرمه بالحديث لا بنص القرآن، وأما ربا الفضل فإنما حرم لسد الذريعة كما قال ابن القيم، واستدل عليه بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين فإني أخاف عليكم الرماء٣ " ٤.
وقد غفل عن هذا الفقهاء الذين قالوا إن الربا قسمان أحدهما معقول المعنى والآخر تعبدي. أي إن الأول محرم لما فيه من الضرر العظيم وهو ربا النسيئة وقد بينا وجه ضرر الربا في تفسير سورة البقرة بالتفصيل- والثاني لا يعرف سبب تحريمه لأنه ليس فيه ضرر وهو ما يعبرون عنه بالتعبدي أي أنه حرم علينا لنتركه عبادة لله وامتثالا لأمره فقط. وهذا غلط ظاهر. والصواب ما قاله ابن القيم في أعلام الموقعين وهو :
الربا نوعان جلي وخفي. فالجلي حرم لما فيه من الضرر العظيم والخفي حرم لأنه ذريعة إلى الجلي، فتحريم الأول قصد وتحريم الثاني وسيلة. فأما الجلي فربا النسيئة وهو الذي كانوا يفعلونه في الجاهلية مثل أن يؤخر دينه ويزيده في المال وكلما أخره زاد في المال حتى تصير المائة آلافا مؤلفة. وفي الغالب لا يفعل ذلك إلا معدم محتاج فإذا رأى المستحق يؤخر مطالبته ويصبر عليه بزيادة يبذلها له تكلف بذلها ليفتدي من أسر المطالبة والحبس، ويدافع من وقت إلى وقت، فيشتد ضرره، وتعظم مصيبته، ويعلوه الدين حتى يستغرق جميع موجوده فيربو المال على المحتاج من غير نفع يحصل له ويزيد مال المرابي من غير نفع يحصل منه لأخيه فيأكل مال أخيه بالباطل ويحصل أخوه على غاية الضرر. فمن رحمة أرحم الراحمين وحكمته وإحسانه إلى خلقه أن حرم الربا ولعن آكله ومؤكله وكاتبه وشاهديه وآذن من لم يدعه بحربه وحرب رسوله. ولم يجئ مثل هذا الوعيد في كبيرة غيره ولهذا كان من أكبر الكبائر ا ه.
ثم ذكر عقب هذا كلمة الإمام أحمد في الربا الذي لا شك فيه وقد ذكرناها آنفا ويعني بذكرها هنا أن ذلك هو الربا الذي يعد من أكبر الكبائر لا الربا الذي حرم لسد الذريعة كربا الفضل، فإن الفرق بينهما كالفرق بين الزنا والنظر إلى الأجنبية بشهوة أو لمس يدها كذلك أو الخلوة بها ولو مع عدم الشهوة لأن هذه الأشياء ليست محرمة لذاتها بل لسد الذريعة، أي لئلا تكون وسيلة إلى الزنا المحرم لذاته. والوعيد الشديد إنما يكون على المحرم الشديد ضرره كالزنا وأكل الربا المضاعف. ويدل على ذلك أن رجلا جاء النبي صلى الله عليه وسلم آسفا تائبا من ذنب ارتكبه وهو تقبيل امرأة في الطريق وسأله عن كفارة ذلك فأخبره بأن صلاة الجماعة كفارة له أي مع التوبة، قالوا وفي ذلك نزل قوله تعالى :( إن الحسنات يذهبن السيئات ) [ هود : ١١٤ ] ولو كان زنا بها لأقام عليه الحد ولم يرحمه. فقول ابن حجر إن ما ورد من الوعيد على الربا شامل لجميع أنواعه خطأ فإن منها عنده بيع قطعة من الحلي كسوار بأكثر من وزنها دنانير أو بيع كيل من التمر الجيد بكيل وحفنة من التمر الرديء مع تراضي المتبايعين وحاجة كل منهما إلى ما أخذه. ومثل هذا لا يدخل في نهي القرآن ولا في وعيده ولا يصح أن يقاس عليه، كما لا يصح أن يقال إن خلوة الرجل بامرأة لا يشتهيها ولا تشتهيه كالزنا في حرمته ووعيده. وقد صرح النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إنما نهى عن ربا الفضل لأنه يخشى أن يكون ذريعة للربا الذي حرمه الله في كتابه وتوعده عليه بذلك في سورة البقرة، ولا ينافي ذلك تسميته في بعض الروايات الأخرى ربا، فقد أطلق اسم الربا على المعاصي القولية التي لا دخل للمعاملات المالية فيها كالغيبة، ففي حديث البزار بسند قوي- كما صرح به في الزواج – " من أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه " أي غيبته. وحديث أبي يعلى بسند صحيح كما صرح به أيضا " أتدرون أربى الربا عند الله ؟- قالوا الله ورسوله أعلم، قال : فإن أربى الربا عند الله استحلال عرض امرئ مسلم "، ثم قرأ رسول الله ( ص ) :﴿ والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا ﴾ [ الأحزاب : ٥٨ ] وفي معناهما أحاديث أخرى عند أبي داود وابن أبي الدنيا والطبراني والبيهقي. بل فسر بعضهم الربا في قوله :﴿ وما آتيتم من الربا ﴾ [ الروم : ٣٩ ] بالهدية والعطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة.
المحرم لذاته لا يباح إلا لضرورة، كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر، وما كل محرم تلجئ إليه الضرورة. والمحرم لسدّ الذريعة قد يباح للحاجة. قال ابن القيم في أعلام الموقعين٥ :" وأما ربا الفضل فأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة كالعرايا٦ فإنه ما حرم تحريمَ المقاصد ". ثم أفاض القول في حل بيع الحليّ المباح بأكثر من وزنه من جنسه وحقق أن للصنعة قيمة في نفسها. ثم قال٧ :" يوضحه أن تحريم ربا الفضل إنما كان لسد الذريعة كما تقدم بيانه وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة كما أبيحت العرايا من ربا الفضل وكما أبيحت ذوات الأسباب من الصلاة بعد الفجر والعصر وكما أبيح النظر ( أي إلى المرأة الأجنبية ) للخاطب والشاهد والطبيب والعامل من جملة النظر المحرم. وكذلك تحريم الذهب والحرير على الرجال حرم لسد ذريعة التشبه بالنساء الملعون فاعله وأبيح منه ما تدعو إليه الحاجة وكذلك ينبغي أن يباح بيه الحلية المصوغة صياغة مباحة بأكثر من وزنها لان الحاجة تدعو إلى ذلك وتحريم التفاضل إنما كان لسد الذريعة. فهذا محض القياس ومقتضى أصول الشرع ولا تتم مصلحة الناس إلا به أو بالحيل، والحيل باطلة في الشرع " الخ ما قاله وقد أوردناه برمته في المنار ( ص ٥٤٠ م ٩ ).
إنما تعرضت هنا لربا الفضل وهو ليس مما تتناوله الآية الكريمة للتفرقة، ولأن مسألة الربا قد قامت لها البلاد المصرية وقعدت في هذه الأيام واقترح كثيرون إنشاء بنك إسلامي، وألقيت فيها خطب كثيرة في نادي دار العلوم بالقاهرة خالف فيها بعض الخطباء بعضا٨ فمال بعضهم إلى منع كل ما عده الفقهاء من الربا وأنحى بعضهم على الفقهاء ولم يعتد بقولهم ومال آخرون إلى عدم منع ربا الفضل أو ما دون المضاعف فغلا بعضهم وتوسط بعض، ولم يأت أحد بتحرير البحث وإقناع الناس بشيء يستقر عليه الرأي، وفي الليلة التي ختم فيها هذا البحث ألقى كاتب هذا خطابا وجيزا في المسألة قال رئيس النادي حفني بك ناصف في خطبته الختامية إنه فصل الخطاب ورغب إلينا هو ( رئيس النادي ) وغيره أن ندونه، وهذا هو بالمعنى :
إن الله تعالى قد حرم ربا النسيئة الذي كانت عليه الجاهلية تحريما صريحا ونهى عنه نهيا مؤكدا، وورد في الأحاديث الصحيحة تحريم ربا الفضل والنهي عنه. فالبحث في هذه المسألة من وجهين :
الوجه الأول : النظر فيها من الجهة النظرية المعقولة، فنقول : إن كل ما جاء به الإسلام من الأحكام الثابتة المحك
٢ - أخرجه البخاري في البيوع باب ٧٩، ومسلم في المساقاة حديث ١٠١، ١٠٢، ١٠٤، والنسائي في البيوع باب ٥٠، وابن ماجه في التجارات باب ٤٩، والدارمي في البيوع باب ٤٢، وأحمد في المسند ٥/٢٠٠، ٢٠٢، ٢٠٤، ٢٠٦، ٢٠٩..
٣ - أخرجه مالك في البيوع حديث ٣٤، ٣٥، وأحمد في المسند ٢/ ١٠٩- ٤/٤..
٤ - قال ابن القيم بعد أن أورده : والرماء هو الربا. وقال ابن الأثير في النهاية: وفي حديث ابن عمر "إني أخاف عليكم الرماء" يعني الربا والرماء بالفتح والمد الزيادة على ما يحصل ويروى "الإرماء" يقال أرمي على الشيء إرماء إذا زاد عليه كما يقال أربى. ا هـ. فأما حديث ابن عمر الذي أشار إليه في النهاية فقد رواه مالك وعبد الرزاق وابن جرير والبيهقي وأورده في كنز العمال هكذا " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، والرماء الربا". وعزاه بهذا اللفظ إلى من ذكرنا. وأورده بلفظ آخر معزوا إلى مالك فقط عن نافع عن ابن عمر عن عمر موقوفا عليه ولفظه هكذا " لا تبايعوا الذهب بالذهب ولا الورق بالورق إلا مثلا بمثل سواء بسواء ولا تشفوا بعضه على بعض إني أخاف عليكم الرماء" وفيه أن نافعا قال: كان ابن عمر يحدث عن عمر في الصرف ولم يسمع فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قال قال عمر: وذكره. وأما حديث أبي سعيد الذي عزاه ابن القيم إليه فلا أذكر من خرجه من أصحاب الكتب المشهورة وابن القيم حافظ عدل (المؤلف)..
٥ - أول ص ٢٠٣ من الجزء الأول من طبعة الهند..
٦ - العرايا جمع عرية (كقضية ) وهو أن يشتري رطب نخلة أو أكثر بما يخرص به من التمر وهو من بيع المتماثلين في الجنس مع عدم القبض والمساواة لان التمر بدفع مرة واحدة والرطب يجنى بالتدريج وقد رخص النبي في بيعها..
٧ - أواخر تلك الصفحة ( ٢٠٣)..
٨ - منهم الشايخ عبد العزيز شاويش ومحمد الخضري وإسماعيل خليل وعبد الوهاب النجار وكل هؤلاء متخرجون في مدرسة دار العلوم. (المؤلف)..
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
﴿ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ﴾ الذين قست قلوبهم واستحوذ عليهم الطمع والبخل فكانوا فتنة للفقراء والمساكين وأعداء البائسين والمعوزين.
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
﴿ وأطيعوا الله والرسول ﴾ فيما نهينا عنه من أكل الربا وما أمرنا به من الصدقة ؛ ﴿ لعلكم ترحمون ﴾ في الدنيا بما تفيدكم الطاعة من صلاح حال مجتمعكم، وفي الآخرة بحسن الجزاء على أعمالكم، فإن الراحمين يرحمهم الرحمن١ كما ورد في الحديث المرفوع عند أحمد وأبي داود والترمذي وقد رويناه مسلسلا.
قال الأستاذ الإمام قوله " واتقوا النار " وعيد للمرابين بجعلهم مع الكافرين إذا عملوا فيهم عملهم وفيه تنبيه إلى أن الربا قريب من الكفر. وهذا القول بعد قوله ﴿ واتقوا الله لعلكم ترحمون ﴾ تأكيد بعد تأكيد ثم أكده أيضا بالأمر بطاعته وطاعة الرسول فمؤكدات التنفير من الربا أربعة. وقد قلنا من قبل إن مسألة الربا ليست مدنية محضة بل هي دينية أيضا والغرض الديني منها التراحم المفضي إلى التعاون فالمقرض اليوم قد يكون مقترضا غدا، فمن أعان جدير بأن يعان.
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
ثم ذكر جزاء المتقين بعد الأمر المؤكد باتقاء النار اتباعا للوعيد بالوعد وقرنا للترهيب بالترغيب كما هي سنته فقال :
﴿ وسارعوا إلى مغفرة ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين ﴾ المسارعة إلى المغفرة والجنة هي المبادرة إلى أسبابها وما يعد الإنسان لنيلها من التوبة عن الإثم كالربا والإقبال على البر كالصدقة. وقرأ نافع وابن عامر " سارعوا " بغير واو. والمراد بكون عرض الجنة كعرض السماوات والأرض المبالغة في وصفها بالسعة والبسطة تشبيها لا بأوسع ما علمه الناس وخص العرض بالذكر لأنه يكون عادة أقل من الطول. وقال البيضاوي : إن هذا الوصف على طريقة التمثيل. وقال في قوله " أعدت للمتقين " : هيئت لهم وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأنها خارجة عن هذا العالم. ا ه وهو ما احتج به الأشاعرة على من قال من المعتزلة إنها ليست بمخلوقة الآن كما في كتب العقائد. قال الأستاذ الإمام : وقد اختلفوا في الجنة هل هي موجودة بالفعل أم توجد بعد في الآخرة ولا معنى لهذا الخلاف ولا هو مما يصح التفرق واختلاف المذاهب فيه.
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
ثم وصف المتقين بالصفات الخمس الآتية فقال :
١- ﴿ الذين ينفقون في السراء والضراء ﴾ أي في حالة الرخاء والسعة وحالة الضيق والعسرة كل حالة بحسبها كما قال تعالى في بيان حقوق النساء المعتدات :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ﴾ [ الطلاق : ٧ ] والسراء من السرور أي الحالة التي تسر والضراء من الضرر أي الحالة الضارة وروي عن ابن عباس تفسيرهما باليسر والعسر.
وقد بدأ وصف المتقين بالإنفاق لوجهين : أحدهما : مقابلته بالربا الذي نهى عنه في الآية السابقة فإن الربا هو استغلال الغني حاجة المعوز وأكل ماله بلا مقابل والصدقة إعانة له وإطعامه ما لا يستحقه فهي ضد الربا. ولم يرد في القرآن ذكر الربا إلا وقبح ومدحت معه الزكاة والصدقة كما قال :﴿ وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ﴾ [ الروم : ٣٩ ] وفي سورة البقرة :﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾ [ البقرة : ٢٧٦ ].
ثانيهما : أن الإنفاق في السراء والضراء أدل على التقوى وأشق على النفوس وأنفع للبشر من سائر الصفات والأعمال. قال الأستاذ الإمام ما مثاله : إن المال عزيز على النفس لأنه الآلة لجلب المنافع والملذات، ورفع المضار والمؤلمات، وبذله في طريق الخير والمنافع العامة التي ترضي الله تعالى يشق على النفس، أما في السراء فلما يحدثه السرور والغنى من الأشر والبطر والطغيان وشدة الطمع وبعد الأمل، وأما في الضراء فلأن الإنسان يرى نفسه فيها جديرا بأن يأخذ ومعذورا إن لم يعط وإن لم يكن معذورا بالفعل، إذ مهما كان فقيرا لا يعدم وقتا يجد فيه فضلا ينفقه في سبيل الله ولو قليلا. وداعية البذل في النفس هي التي تنبه الإنسان إلى هذا العفو الذي يجده أحيانا ليبذله. فإن لم تكن الداعية موجودة في أصل الفطرة فأمر الدين الذي وضعه الله لتعديل الفطرة المائلة وتصحيح مزاج المعتلة يوجدها ويكون نعم المنبه لها وقد فسر بعضهم الضراء بما يخرج الفقراء من هذه الصفة من صفات المتقين وليس بسديد.
يقول من لا علم عنده : إن تكليف الفقير والمسكين البذل في سبيل الله لا معنى له ولا عناء فيه. وربما يقول أكثر من هذا – يعني أنه ينتقد ذلك من الدين. والعلم الصحيح يفيدنا أنه يجب أن تكون نفس الفقير كريمة في ذاتها وأن يتعود صاحبها الإحسان بقدر الطاقة وبذلك ترتفع نفسه وتطهر من الخسة وهي الرذيلة التي تعرض للفقراء فتجرهم إلى رذائل كثيرة، ثم إن النظر يهدينا إلى أن القليل من الكثير كثير. فلو أن كل فقير في القطر المصري مثلا يبذل في السنة قرشا واحدا لأجل التعليم لاجتمع من ذلك ألوف الألوف، وتيسر به عمل في البلاد كبير فكيف إذا أنفق كل أحد على قدره كما قال تعالى :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ﴾ الخ.
إذا كان الله تعالى قد جعل الإنفاق في سبيله علامة على التقوى أو أثرا من آثارها حتى في حال الضراء وكان انتفاؤه علامة على عدم التقوى التي هي سبب دخول الجنة فكيف يكون حال أهل السراء الذين يقبضون أيديهم ؟ وهل يغني عن هؤلاء من شيء أداء الرسوم الدينية الظاهرة التي يتمرنون عليها عادة مع الناس ؟
٢- ﴿ والكاظمين الغيظ ﴾ قال الراغب : الغيظ أشد الغضب، وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من فوران دم قلبه. وقال الأستاذ الإمام : الغيظ ألم يعرض للنفس إذا هضم حق من حقوقها المادية كالمال أو المعنوية كالشرف، فيزعجها إلى التشفي والانتقام. ومن أجاب داعي الغيظ إلى الانتقام لا يقف عند حد الاعتدال ولا يكتفي بالحق بل يتجاوزه إلى البغي، لذلك كان من التقوى كظمه، وفي روح المعاني : إن الغيظ هيجان الطبع عند رؤية ما ينكر، والفرق بينه وبين الغضب ما يظهر على الجوارح والغيظ ليس كذلك " ا ه والاقتصار في سبب الغيظ على رؤية ما ينكر غير مسلم، أما الكظم فقد قال في الأساس :" كظم البعير جرته ازدردها وكف عن الاجترار... وكظم القربة ملأها وسد رأسها وكظم الباب سده. وهو كظام الباب لسداده. ومن المجاز كظم الغيظ وعلى الغيظ، فهو كاظم. وكظمه الغيظ والغم أخذ بنفسه فهو مكظوم وكظيم :﴿ إذ نادى وهو مكظوم ﴾ [ القلم : ٤٨ ] ﴿ ظل وجهه مسودا وهو كظيم ﴾ [ النحل : ٥٨ ] وما كظم فلان على جرته : إذا لم يسكت على ما في جوفه حتى تكلم به. وغمني وأخذ بكظمي. وهو مخرج النفس وبأكظامي ا ه.
وقال الأستاذ الإمام : أصل الكظيم مخرج النفس.
والغيظ وإن كان معنى له أثر في الجسم يترتب عليه عمل ظاهر فإنه يثور بنفس الإنسان حتى يحمله على ما لا يجوز من قول أن فعل فلذلك سمي حبسه وإخفاء أثره كظما. وقال الزمخشري في الكشاف بعد الإشارة إلى أصل معنى الكظم : ومنه كظم الغيظ وهو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له أثرا. ويروى عن عائشة أن خادما لها غاظها فقالت " لله در التقوى ما تركت لذي غيظ شفاء ".
٣- ﴿ والعافين عن الناس ﴾ العفو عن الناس هو التجافي عن ذنب المذنب منهم وترك مؤاخذته مع القدرة عليها وتلك مرتبة في ضبط النفس والحكم عليها وكرم المعاملة قل من يتبوأها. فالعفو مرتبة فوق مرتبة كظم الغيظ إذ ربما يكظم المرء غيظه على حقد وضغينة.
٤- وهناك مرتبة أعلى منهما وهي ما أفاده قوله عز وجل :﴿ والله يحب المحسنين ﴾ فالإحسان وصف من أوصاف المتقين ولم يعطفه على ما سبقه من الصفات بل صاغه بهذه الصيغة تميزا له بكونه محبوبا عند الله تعالى- لا لمزيد مدح من ذكر من المتقين المتصفين بالصفات السابقة ولا مجرد مدح المحسنين الذي يدخل في عمومه أولئك المتقون كما قيل – فالذي يظهر لي هو ما أشرت إليه من أنه وصف رابع للمتقين كما يتضح من الواقعة الآتية : يروى أن بعض السلف غاظه غلام له فجأة غيظا شديدا فهم بالانتقام منه فقال الغلام " والكاظمين الغيظ " فقال كظمت غيظي. قال الغلام " والعافين عن الناس " قال عفوت عنك. قال " والله يحب المحسنين " قال اذهب فأنت حر لوجه الله. فهذه الواقعة تبين لك ترتب المراتب الثلاث.
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
﴿ ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ﴾ لا يصر المؤمن المتقي من أهل الدرجة الدنيا على ذنبه وهو يعلم أن الله تعالى نهى عنه وتوعد عليه ولا يصر كذلك بالأولى صاحب الدرجة العليا، من أهل الإيمان والتقوى، وهو يعلم أن الذنوب فسوق عن نظام الفطرة السليمة، واعتداء على قانون الشريعة القويمة، وبعد عن مقام النظام العام الذي يعرج عليه البشر إلى قرب ذي الجلال والإكرام. ومثال ذلك من يخضع لقوانين الحكام الوضعية خوفا من العقوبة، ومن يخضع لها احتراما للنظام، وما أبعد الفرق بين الفريقين. قالت رابعة العدوية رحمها الله تعالى :
كلهم يعبدون من خوف نار | ويرون النجاة حظا جزيلا |
أو لأن يسكنوا الجنان فيحظوا | بقصور ويشربوا سلسبيلا |
ليس لي في الجنان والنار حظ | أنا لا أبتغي سواك بديلا |
ومن الجاهلين من يراه فيغتر به ظانا أن الاستغفار باللسان كاف في التوبة ومنافاة الإصرار، وأن الحديث كالمفسر للآية، فيتجرأ على المعصية وكلما أصاب منها شيئا حرك لسانه بكلمة " استغفر الله " مرة أو مرات وربما عاد مئة أو أكثر واعتقد أن ذلك كفارة له. والصواب أن الاستغفار في الحديث عبارة عن التوبة لا عن كون اللفظ كفارة. على أنه لا حجة فيه لضعفه. وراجع بحث الاستغفار في تفسير قوله تعالى :( والمستغفرين بالأسحار ) [ آل عمران : ١٧ ] وأما الآية فقد فهمت معناها وأنها جعلت كلا من الاستغفار وعدم الإصرار أثرا طبيعيا لذكر الله عز وجل بالمعنى الذي بيناه لأهل المرتبتين من المتقين، وحاسب نفسك هل تجدك من الذاكرين ؟
اعلم أن وضع هذه الآيات الواردة في الترهيب والترغيب والإنذار والتبشير في سياق الآيات الواردة في قصة أحد هو من سنة القرآن في مزج فنون الكلام وضروب الحكم والأحكام بعضها ببعض، ومحل بيان سبب ذلك وحكمته مقدمة التفسير، وقد نشير إلى بعضها أحيانا في تفسير بعض الآيات- على أن هذه السنة لا تنافي أن يكون لاتصال كل آية أو آيات بما قبلها وجه وجيه تتقبله البلاغة بقبول حسن كما علم مما سبق.
قال الرازي هنا : اعلم أن من الناس من قال : إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح لهم في أمر الدين وفي أمر الجهاد أتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي والترغيب والتحذير، فقال :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا ﴾ وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية ابتداء الكلام ولا تعلق لها بما قبلها، وقال القفال رحمه الله : يحتمل أن يكون ذلك متصلا بما تقدم، من جهة أن المشركين أنفقوا على تلك العساكر أموالا جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا حتى يجمعوا المال وينفقوه على العسكر فيتمكنون من الانتقام منهم، لا جرم نهاهم عن ذلك ا هـ. والأول قول بعض المعتزلة. ويقال في الثاني : إن المروي في السير أن المشركين أنفقوا في حرب أحد ما ربحوا في تجارة العير التي جاءت من الشام عام بدر كما تقدم، فما أورده الرازي غير وجيه.
قال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآيات وما قبلها أن ما قبلها في بيان أن الله نصر المؤمنين وهم أذلة، وأنهم إنما نصروا بتقوى الله وامتثال الأمر والنهي، ولذلك خذلوا في أحد عند المخالفة والطمع في الغنيمة- وقد جاء هذا بعد النهي عن اتخاذ البطانة من اليهود وبيان أنه لا يضر المؤمنين كيد هؤلاء اليهود ما اعتصموا بالصبر والتقوى- وقد كان من موادة المؤمنين لليهود واتخاذ البطانة منهم أن منهم من رابى كما كانوا يرابون، وكان البعض الآخر مظنة أن يرابي توسلا لجلب المال المحبوب بسهولة. فكان الترتيب في الآيات هكذا : نهاهم عن اتخاذ البطانة من اليهود وأمثالهم من المشركين بشروطها التي هي مثار الضرر، ثم بين لهم ما يتقون به ضررهم وشر كيدهم وهو تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله ؛ ثم ذكرهم بما يدل على صدق ذلك طردا أو عكسا بذكر وقعة بدر ووقعة أحد، ثم نهاهم عن عمل آخر من شر أعمال أولئك اليهود ومن اقتدى بهم من المشركين وأشدها ضررا وهو أكل الربا أضعافا مضاعفة قال : وقد كان ما تقدم تمهيدا لهذا النهي وحجة على أن الربح المتوقع منه ليس هو سبب السعادة وإنما سببها ما ذكر من التقوى والامتثال.
﴿ أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ يعني بقوله ﴿ أولئك ﴾ المتقين الموصوفين بما تقدم من الصفات الخمس، وفيه تأكيد للوعد وتفصيل ما للموعود به. وقيل : هو خبر لقوله ﴿ والذين إذا فعلوا الفاحشة ﴾ الخ. بناء على أنهم قسم مستقل وأن " الذين " مبتدأ لا معطوف على ما قبله. وقد تقدم تفسير ﴿ وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ﴾ فلا نعيده.
وأما قوله عز وجل :﴿ ونعم أجر العالمين ﴾ فهو نص في أن هذا الجزاء إنما هو على تلك الأعمال، التي منها ما هو إصلاح لحال الأمة كإنفاق المال، ومنها ما هو إصلاح لنفس العامل، وكلها مما يرقي النفس البشرية، حتى تكون أهلا لتلك المراتب العلية، أي ونعم ذلك الجزاء الذي ذكره من المغفرة والجنات أجرا للعالمين، تلك الأعمال البدنية كالإنفاق، والنفسية كعدم الإصرار، وإن كانوا يتفاوتون فيه لتفاوتهم في التقوى والأعمال.
هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل :﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ الخ الآيات التي تقدمت. وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال :" إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين ". وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
ذكر في الآيات السابقة خبر وقعة " أحد " وأهم ما وقع فيها مع التذكير بوقعة بدر وما بشروا به في ذلك. وفي هذه الآيات وما بعدها يذكر السنن والحكم في ذلك ويعلم المؤمنين من علم الاجتماع ما لم يكونوا يعلمون، ولذلك افتتحها بقوله الحكيم :﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾.
قال الأستاذ الإمام : إن بعض المفسرين يجعل الآيتين الأوليين من هذه الآيات تمهيدا لما بعدهما من النهي عن الوهن والحزن وما يتبع ذلك وعلى هذا جرى ( الجلال ) كأنه يقول : إن هذا الذي وقع لا يصح أن يضعف عزائمكم، فإن السنن التي قد خلت من قبلكم تبين لكم كيف كانت مصارعة الحق للباطل، وكيف ابتلي أهل الحق أحيانا بالخوف والجوع والانكسار في الحرب ثم كانت العاقبة لهم، فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين للرسل المقاومين لهم، فإنهم كانوا هم المخذولين المغلوبين، وكان جند الله هم المنصورين الغالبين، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا لما أصابكم في أحد.
ثم قال ما مثاله مع إيضاح وزيادة : هذا رأي ضعيف فإن ذكر السنن بعد آيات متعددة، في موضوعات مختلفة تفيد معاني كثيرة. فإن الله تعالى نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين بدت لهم بغضاؤهم وبين هو لهم مجامع خبثهم وكيدهم –ثم ذكر النبي والمؤمنين بوقعة أحد وما كان فيها بالإجمال وذكرهم بنصره لهم ببدر، ثم ذكر المتقين وأوصافهم وما وعدوا به ؛ ثم ذكر بعد ذلك كله مضي السنن في الأمم وأنه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، فذكر السنن بعد ذلك كله يفيد معاني كثيرة تحتاج إلى شرح طويل جدا لا معنى واحدا كما قيل. وإن في القرآن من إفادة المباني القليلة للمعاني الكثيرة بمعونة السياق والأسلوب ما لا يخطر في بال في أحد من كتاب البشر وعلمائهم ومثل هذا مما تجب العناية ببيانه.
يقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز : إن كون القرآن معجزا ببلاغته يوجب علينا أن نجعل أسلوبه الذي كان معجزا به فنا ليبقى دالا على وجه إعجازه كذلك أقول : إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علما من العلوم لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال وقد بينها العلماء بالتفصيل عملا بإرشاده، كالتوحيد والأصول والفقه.
والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يحيل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها. ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد ؛ وفرعت منها الفروع والمسائل، قال : وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها. يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها. لذلك قال وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض. وكذلك كانت علومهم كلها. ولما اختلفت حالة العصر اختلافا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما كانت محتاجة أيضا إلى تدوين هذا العلم. ولك أن تسميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية. سم بما شئت فلا حرج في التسمية.
ثم قال : ومعنى الجملة : انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين والمكذبين فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم. وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه. فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد.
وأقول : السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة أو المثال المتبع. قيل : إنها من قولهم سن الماء إذا والى صبه فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد. ومعنى خلت : مضت وسلفت : أي أن أمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة وغير ذلك قد جرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضاها النظام العام، وليس الأمر أنفا كما يزعم القدرية، ولا تحكما واستبدادا كما يتوهم الحشوية.
جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر :﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ] وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم :﴿ قد خلت سنة الأولين ﴾ [ الحجر : ١٣ ] وقوله في سياق دعوة الإسلام :﴿ وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين أو يأتيهم العذب قبلا ﴾ [ الكهف : ٥٥ ] وقوله في مثل هذا السياق :﴿ فهل ينظرون إلا سنة الأولين ؟ فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ﴾ [ فاطر : ٤٣ ] وصرح في سور أخرى كما صرح هنا بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل وسورة الأحزاب وسورة الفتح.
هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان.
كان الملّيون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله تعالى في خلقه تشبه أفعال الحاكم المستبد في حكومته ؛ المطلق في سلطته ؛ فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقب لأجله غيرهم، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم، لمجرد دخولهم في عنوان معين، وانتمائهم إلى نبي مرسل، وينتقم من بعض الناس لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان.
هذا ما كانوا يظنون في دينهم ويسندونه إلى مشيئة الله المطلقة، من غير تفكر في حكمته البالغة، وتطبيقها على سننه العادلة، فإن نبههم منبه إلى ما يصيبهم بل ما أصاب أنبياءهم من البلاء، قالوا إنه تعالى يفعل ما يشاء، وذلك رفع درجات، أو تكفير للسيئات وأشباه هذا الكلام الذي يشتبه عليهم حقه بباطله، ويلتبس عليهم حاليه بعاطله، وقد كان وما زال علة غرور أصحابه بدينهم، واحتقارهم لكل ما عليه غيرهم.
فجاء القرآن يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سننه في الحرب- مثلا- ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدا أو وثنيا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقا أو نبيا، وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشجوا رأسه، وكسروا سنه، وردّوه في تلك الحفرة، كما بينا ذلك في تفسير الآيات السابقة، وسيأتي بسطه في الآيات اللاحقة، ولكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله تعالى في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها الأمم، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون.
وكأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه وكونها لا تتبدل ولا تتحول كسورة الحجر وبني إسرائيل والكهف والملائكة أو " فاطر " وهي التي ذكرنا بعضها آنفا وأشرنا إلى بعض-أو حفظوه ولم يفقهوه ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي :﴿ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنّى هذا ؟ قل هو من عند أنفسكم ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ] لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل، وأن ما قع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل.
ولما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به، نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى فقال :﴿ فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين ﴾ قال الأستاذ الإمام : أي إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل وينصرون عليهم بالصبر والتقوى : أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب بحسب الزمان والمكان ودرجة استعداد الأعداء، وكان ذلك يجري بأسباب مطردة، وعلى طرائق مستقيمة، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض، وأن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادا يخذل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستَقْرُوا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك وهو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل وقال بعض المفسرين : أي إن لم تصدقوا فسيروا. وهذا قول باطل.
قال : والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضين وتعرف ما حل بهم، هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي. نعم إن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارا، ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه ويرى الآثار بعينه. ولذلك أمر الناس بالسير والنظر
هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل :﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ الخ الآيات التي تقدمت. وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال :" إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين ". وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
ثم أتبع ذلك بقوله :﴿ هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ﴾ قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة تتخلله : كأنه يقول إن كل إنسان له عقل يعتبر به، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها لأن كتابه أرشده إليها، وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ بها. وقد بينا في تفسير الفاتحة أن لسير الناس في الحياة سننا يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة وبعضها إلى الهلاك والشقاء، وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها سواء كان مؤمنا أو كافرا، كما قال سيدنا علي : إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم وخُذلتم بتفرقكم عن حقكم. ومن هذه السنن أن اجتماع الناس وتواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون مع الثبات من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصدهم سواء كان ما اجتمعوا عليه حقا أو باطلا ؛ وإنما يصلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق، وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات. فالفضائل لها عماد من الحق، فإذا قام رجل بدعوى باطلة ولكن رأى جمهور من الناس أنه محق يدعو إلى شيء نافع، وأنه يجب نصره، فاجتمعوا عليه ونصروه وثبتوا على ذلك، فإنهم ينجحون معه بهذه الصفات. ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم بل لا يستمر زمنا طويلا، لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده بل له ما يقاومه فيكون صاحبه دائما متزلزلا، فإذا جاء الحق ووجد أنصارا يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون، فإنه لا يلبث أن يدمغ الباطل وتكون العاقبة لأهله، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير. فالقرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا وكنه استعدادنا لنكون على بصيرة من حقنا، ومن السير على سنن الله في طلبه وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا ونضع الميزان بيننا وبينه، وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
وأقول : إيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة والهدى والموعظة للمتقين خاصة، هو بيان أن الإرشاد عام، وأن جريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم تقيهم وفاجرهم ؛ وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام إذ قالوا : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله لما نيل منه. فكأنه يقول لهم : إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه. فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي كان عليها المسلمون في أحد ويعمل ما عملوا إلا ويُنال منه أي لا يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر التي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم، وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم، والعدوّ مشرف عليهم، إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كرّ عليهم من ورائهم، لا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنازع كما يأتي بيانه. فما ذكر من أن لله تعالى سننا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند.
وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة، فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليها من الوقائع فيستقيمون على الطريقة، وهم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة، لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة. فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات ولينظروا أين مكانهم من هدايتها، وما هو حظهم من موعظتها ؟
أما أنهم لو فعلوا فبدؤوا بالسير في الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها، ثم اعتبروا بحال الأمم القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس بسنن الله، وأبعدهم من معرفة أحوال خلق الله، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم سيرا في الأرض، وأشد منهم استنباطا لسنن الاجتماع، وأعرق منهم في الاعتبار بما أصاب الأولين، والاتعاظ بجهل المعاصرين، فهل يليق بمن هذا كتابهم ؛ أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم ؟ ؟
كلا، إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدى به ويتعظ بمواعظه، ولذلك جعل الهداية والموعظة من شؤون المتقين الثابتة لهم. والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان، كما قال في أول سورة البقرة :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون ﴾ الخ وقد مر وصف المتقين وذكر جزائهم في الآيات التي قبل هاتين الآيتين. وهذا التعبير أبلغ من الأمر بالهدى والموعظة وهو يتضمن الأمر بالثبات فيه والحث على المحافظة عليه لأنه قوام التقوى التي هي قوام الإيمان، ولذلك قال بعده :﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾.
هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل :﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ الخ الآيات التي تقدمت. وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال :" إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين ". وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
﴿ ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين ﴾ : الوهن الضعف في العمل وفي الأمر وكذا في الرأي. والحزن ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب. أي لا تضعفوا عن القتال وما يلزمه من التدبير بما أصابكم من الجرح والفشل في أحد، ولا تحزنوا على من قتل منكم في ذلك اليوم. ويصح أن يكون هذا النهي إنشاء بمعنى الخبر، أي إن ما أصابكم من القرح في أحد ليس مما ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم ولا موجبا لحزنكم وانكسار قلوبكم، فإنه لم يكن نصرا تاما للمشركين عليكم وإنما هو تربية لكم على ما وقع منكم من مخالفة قائدكم صلى الله عليه وسلم في تدبيره الحربي المحكم وفشلكم وتنازعكم في الأمر، وذلك خروج عن سنة الله في أسباب الظفر، وبهذه التربية تكونوا أحقاء بأن لا تعودوا إلى مثل تلك الذنوب فتكون التربية خيرا لكم من عدمها، بل يجب أن تزيدكم المصائب قوة وثباتا بما تربيكم على اتباع سنن الله في الحزم والبصيرة وإحكام العزيمة واستيفاء الأسباب في القتال وغيره، وأن تعلموا أن الذين قتلوا منكم شهداء، وذلك ما كنتم تتمنونه كما سيأتي، فتذكرُه مما يذهب بالحزن من نفس المؤمن. ( وهاتان العلتان قد ذكرتا في الآية التي بعد هذه ) وكيف تهنون وتحزنون وأنتم الأعلون بمقتضى سنن الله تعالى في جعل العاقبة للمتقين، الذين يتقون الحيدان عن سننه، وفي نصر من ينصره ويتبع سننه بإحقاق الحق وإقامة العدل، والمؤمنون أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام، أو الطمع فيما في أيدي الناس، فهمة الكافرين تكون على قدر ما يرمون إليه من الغرض الخسيس. وما يطلبونه من العرض القريب، فهي لا تكون كهمة المؤمن الذي غرضه إقامة الحق والعدل في الدنيا، والسعادة الباقية في الآخرة. أي إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسننه في نظام الاجتماع بحيث صار هذا الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما في ضمائركم وأعمالكم، فأنتم الأعلون وإن أصابكم ما أصابكم. وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن ما أصابكم يعدكم للتقوى، فتستحقون تلك العاقبة وهي علو السيادة عليهم وقيل " إن كنتم مؤمنين " متعلق بالنهي، وجملة " وأنتم الأعلون " حال معترضة، أي فلا تضعفوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين لأن من مقتضى الإيمان الصبر والثبات والرغبة في إحدى الحسنيين- الظفر أو الشهادة- على أن مجموع الأمة موعود بالحسنيين جميعا. وإنما يطلب إحداهما الأفراد.
وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إن الحزن إنما يكون على ما فات الإنسان وخسره مما يحبه، وسببه أنه يشعر أنه قد فاته بفوته شيء من، ، وفقد بفقده شيئا من عزيمته أو أعضائه. ذلك بأن صلة الإنسان بمحبوباته من المال والمتاع والناس كالأصدقاء وذي القربى تكسبه قوة وتعطيه غبطة وسرورا فإذا هو فقد شيئا منها بلا عوض فإنه يعرض لنفسه ألم الحزن الذي يشبه الظلمة ويسمونه كدرا، كأن النفس كانت صافية رائقة فجاء ذلك الانفعال فكدرها بما أزال من صفوها.
وقد يقال هنا : لماذا نهاهم عن الوهن بما عرض لهم والحزن على ما فقدوا في " أحد "، وكل من الوهن والحزن كان قد وقع وهو أمر طبيعي في مثل الحال التي كانوا عليها ؟ والجواب : أن المراد بالنهي ما يمكن أن يتعلق به الكسب من معالجة وجدان النفس بالعمل ولو تكلفا، كأنه يقول : انظروا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق واحكموا أمرهم وأخذوا أهبهم وأعدوا لكل أمر عدته، ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته، إلا وظفروا بما طلبوا، وعوضوا مما خسروا، فحولوا وجوههم عن جهة ما خسرتم، وولوها جهة ما يستقبلكم، وانهضوا به بالعزيمة والحزم، مع التوكل على الله عز وجل، والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه. وإن لكم خير عوض مما فقدتم، وأنتم الأعلون برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين – بدر وأحد – إذ الذين قتلوا منهم أكثر من الذين قتلوا منكم، على كثرتهم وقلتكم، أو جملة " وأنتم الأعلون " معترضة يراد بها التبشير بما يكون في المستقبل من النصر، وهما قولان للمفسرين. وسواء كانت للتسلية أو للبشارة فهي مرتبطة بالإيمان الصحيح لا شائبة فيه، فإن من اخترق هذا الإيمان فوائده وتمكن من سويداته، يكون على يقين من العاقبة، بعد الثقة من مراعاة السنن العامة والأسباب المطردة ولذلك قال ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾. ومثل هذا الشرط كثير في القرآن وهو ليس للشك، وإنما يراد به تنبيه المؤمن إلى حاله ومحاسبة نفسه على أعماله.
قال الأستاذ الإمام في الدرس : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الخميس الماضية ( غزوة ذي القعدة سنة ١٣٢٠ ) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول " لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة " أي لما في الهزيمة في التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء يشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر وأخذ الأهبة، وغير ذلك من الأسباب والسنن.
هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل :﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ الخ الآيات التي تقدمت. وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال :" إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين ". وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
ثم بين تعالى وجه جدارتهم بأن لا يهنوا ولا يحزنوا فقال :
﴿ إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ﴾ : قرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم " قرح " بضم القاف والباقون بفتحها. قال كثير من المفسرين : إن القرح بالفتح والضم واحد فهو كالضعف فيه اللغتان، ومعناه الجرح. وقال بعضهم إن القرح بالفتح هو الجراح وبالضم أثرها وألمها. ورجح ابن جرير قراءة الفتح قال " لإجماع أهل التأويل على أن معناه القتل والجراح فذلك يدل على أن القراءة هي بالفتح وكان بعض أهل العربية يزعم أن القرح والقُرح لغتان بمعنى واحد والمعروف عند أهل العلم بكلام العرب ما قلنا " أي من أن القرح بالفتح يشمل الجرح والقتل، ويؤيده أنه هو الذي حصل. وفي لسان العرب " القرح والقرح لغتان : عض السلاح ونحوه مما يجرح الجسد وقيل القرح الآثار والقُرح الألم ".
أقول : وإذا كان الأصل فيه عض السلاح وتأثيره فلا غرو أن يشمل القتل والجرح. وابن جرير ثقة في نقله عن أهل العربية كنقله عن أهل العلم بالتفسير وغيره. ولكن ليس له أن يمنع كون القراءتين لغتين في هذا المعنى. ونقل الرازي أن الفتح لغة تهامة والحجاز والضم لغة نجد. و " يمسسكم " من المس قال ابن عباس معناه يصبكم. قال الأستاذ الإمام : عبر بالمضارع بدل الماضي فلم يقل " إن يمسسكم قرح " ليحضر صورة المس في أذهان المخاطبين.
أقول : والمعنى إن يكن السلاح قد عضكم وعمل فيكم عمله يوم أحد، فقد أصاب المشركين أيضا مثل ما أصابكم في ذلك اليوم أو في يوم بدر. واعترض على الأول بأن قرح المشركين يوم أحد لم يكن مثل قرح المؤمنين. وأجاب في الكشاف عن هذا فقال : بلى كان مثله ولقد قتل يومئذ خلق من الكفار : ألا ترى إلى قوله :﴿ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ﴾ [ آل عمران : ١٥٢ ] الآية وستأتي، أقول : وهذا هو الذي اخترناه كما تقدم في ملخص القصة أي أن المشركين قد أصيبوا بمثل ما أصيب به المؤمنون يوم أحد ولم يكونوا غالبين. وقال الأستاذ الإمام : إن اعتبار المساواة في المثل من التدقيق الفلسفي الذي لم تكن تقصده العرب في مثل هذه العبارة وهذا القول صحيح على كل تقدير.
﴿ وتلك الأيام نداولها بين الناس ﴾ : الأيام جمع يوم وهو في أصل اللغة بمعنى الزمن والوقت فالمراد بالأيام هنا أزمنة الظفر والفوز. ونداولها بينهم نصرّفها فنديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء، فالمداولة بمعنى المعاورة، يقال داولت الشيء بينهم فتداولوه تكون الدولة فيه لهؤلاء مرة وهؤلاء مرة، ودالت الأيام دارت. والمعنى أن مداولة الأيام سنة من سنن الله في الاجتماع البشري فلا غرو أن تكون الدولة مرة للمبطل ومرة للمحق، وإنما المضمون لصاحب الحق أن تكون العاقبة له، وإنما الأعمال بالخواتيم.
قال الأستاذ الإمام : هذه قاعدة كقاعدة " قد خلت من قبلكم سنن ". أي هذه سنة من تلك السنن، وهي ظاهرة بين الناس بصرف النظر عن المحقين والمبطلين. والمداولة في الواقع تكون مبنية على أعمال الناس، فلا تكون الدولة لفريق دون آخر جزافا وإنما تكون لمن عرف أسبابها ورعاها حق رعايتها. أي إذا علمتم أن ذلك سنة فعليكم أن لا تهنوا وتضعفوا بما أصابكم لأنكم تعلمون أن الدولة تدول. والعبارة تومئ إلى شيء مطويّ كان معلوما لهم، وهو أن لكل دولة سبب، فكأنه قال : إذا كانت المداولة منوطة بالأعمال التي تفضي إليها كالاجتماع والثبات وصحة النظر وقوة العزيمة وأخذ الأهبة وإعداد ما يستطاع من القوة فعليكم أن تقوموا بهذه الأعمال وتحكموها أتم الإحكام. وفي الجملة من الإيجاز وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ما لا يعهد مثله في غير القرآن.
ثم قال عز وجل :﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ أي فعل ذلك ليقيم سنته في مداولة الأيام وليعلم الذين آمنوا من الذين نافقوا و﴿ قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ﴾ أي يميزهم منهم. وقد تقدم ذكرهم في إجمال القصة وسيأتي ذكر لهم في الآيات. فهو معطوف على محذوف تذهب العقول في تعيينه كل مذهب، و تبحث عن حقيقته في كل فج، أو تلتمسه في فوائد قاعدة جعل الأيام دولا بين الناس، وعدم حصر الظفر والنصر في قوم دون قوم، فكل ما وجدته يصلح حكمة وعلة لهذه القاعدة عددته من المطوي المحذوف. وأعمه ما أشرنا إليه آنفا وهو أن يقال في التقدير : وتلك الأيام نداولها بين الناس ليقوم بذلك العدل ويستقر النظام، ويعلم الناظر في السنن العامة والباحث في الحكمة الإلهية البالغة، أنه لا محاباة في هذه المداولة، وليعلم الذين آمنوا منكم، لأن الجهاد الاجتماعي الذي يُدال به قوم على قوم مما يظهر ويتميز به الإيمان الصحيح من غيره.
وقال في الكشاف :" فيه وجهان أحدهما أن يكون المعلل محذوفا معناه : وليتميز الثابتون على الإيمان من الذين على حرف فعلنا ذلك، وهو من باب التمثيل بمعنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت منكم على الإيمان من غير الثابت، وإلا فإن الله عز وجل لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها. وقيل معناه : ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات. والثاني أن تكون العلة محذوفة وهذا عطف عليه، معناه وفعلنا ذلك ( أي مداولة الأيام ) ليكون كيت وكيت ( أي من المصالح ) وليعلم الله. وإنما حذف للإيذان بأن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسلبهم عما جرى عليهم وليبصرهم أن العبد يسوءه ما يجري عليه من المصائب ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه " اه وجعل ابن جرير التقدير هكذا : وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء يداولها بين الناس.
وقد تقدم مثل هذا التعبير في سورة البقرة ووجه الإشكال فيه، وقول الأستاذ الإمام المراد بعلم الله فيه علم عباده وإنهم يفسرونه بعلم الظهور أي ليظهر علمه بذلك، وقال هنا موضحا قول الجمهور : إن المراد بالعلم علم الظهور، قالوا إن العلم بالشيء على أنه سيقع ثابت في الأزل، فإذا وقع ذلك الشيء حصل تغير في ذلك المعلوم فصار حالا بعد أن كان مستقبلا، فهل تعلق العلم به عند الوقوع هو عين تعلقه به من الأزل إلى قبيل وقوعه ؟ قال الحكماء إن الزمن ليس بشيء بالنسبة إلى الله فليس هناك تقدم ولا تأخر ولا متقدم ولا متأخر، فتعلق العلم بالمعلوم واحد في الأزل والأبد. فعلى هذا القول يكون معنى " ليعلم الله " ليظهر علمه للناس بظهور المعلوم لهم، فهو كقوله :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ أي يعلم الناس ذلك ويميزونه.
وأما جمهور المتكلمين فيقولون : إن الله تعالى يعلم كل شيء أزلا وأبدا ولكن تعلق علمه بالأشياء على أنها ستقع غير تعلق علمه بها وهي واقعة، فذلك علم غير ظاهر فيه المعلوم في الوجود وهذا علم ظهر متعلقه ووجد. والمراد بقوله " ليعلم " الثاني. أقول وكنت أقرر هذه المسألة من قبل على هذا الوجه وأعبر تارة بعلم الغيب وعلم الشهادة مفسرا علم الغيب بما لم يوجد فيه المعلوم وعلم الشهادة بما ظهر فيه المعلوم ووجد. وذكرت ذلك للأستاذ في الدرس، فقال : إنهم يريدون بعلم الغيب والشهادة معنى آخر وكنت عازما على مراجعته في ذلك بعد الدرس فنسيت. ثم قال : إن العبارة ظاهرة الصحة وإيهام تجدد العلم الإلهي مدفوع، ولكن ما النكتة في اختيار هذه العبارة وأمثالها كقوله في الآية التي بعد هذه الآية " ولما يعلم الله الذين آمنوا " ولم يبين المراد بعبارة لا إيهام فيها ؟ قال ما نصه :" النكتة بيان أن العلم إذا لم يصدقه العمل لا يعتقد به "، وبيان ذلك أن الإنسان كثيرا ما يتصور الشيء ويحكم بصحته فيرى أنه يعتقده، لكن إذا عرض العمل كذبه في اعتقاده وتبين أنه لم يكن متحققا به وإنما كان صورة انطبعت في مخه مع الغفلة عما يعارضها من سائر عقائده المتمكنة التي لها سلطان على وجدانه وأثر في عمله وأخلاقه وعاداته التي تجري عليها أعماله. مثال ذلك أن بعض الناس تحدثه نفسه بأنه شجاع ويعتقد ذلك لعدم وجود ما يعارضه في نفسه حتى إذا ما عرض له ما تظهر به حقيقة الشجاعة بالفعل من الحاجة إلى ركوب الخطر وخوض غمرات الموت دفاعا عن الحق أو الحقيقة جبن وجزع وظهر غروره بنفسه وانخداعه لوهمه. ومثله من تحدثه نفسه بأنه لقوة إيمانه عظيم الثقة بالله والتوكل عليه، حتى تظهر الحوادث والوقائع أنه هلوع إذا مسه الشر كان جزوعا، وإذا مسه الخير كان منوعا، لا يثق بربه ولا بنفسه. فأراد تعالى إن يرشدنا بقوله " ليعلم " إلى أن العلم لا يكون علما والإيمان لا يكون إيمانا إلا إذا صدقهما العمل وظهر أثرهما بالفعل فكأنه قال ليتبين الذين آمنوا على طريق التمثيل.
أقول : وأظهر من هذا في تقرير هذا الوجه أن يقال : إن علم الله تعالى لا يكون إلا مطابقا للواقع، فما لا يعلمه تعالى هو الذي ليس له حقيقة ثابتة وكل ما له حقيقة ثابتة فلابد أن يكون معلوما له تعالى، فيكون معنى " ليعلم الله الذين آمنوا " ليثبت ويحقق بالفعل إيمانا الذين آمنوا أو صدقهم في إيمانهم. فإنه متى ثبت وتحقق كان الله عالما به على أنه حقيقة ثابتة. فأطلق أحد المتلازمين وأراد به الآخر على طريق المجاز المرسل.
وأما قوله :﴿ ويتخذ منكم شهداء ﴾ ففيه وجهان أحدهما أنه من الشهادة في القتال وهي أن يقتل المؤمن في سبيل الله أي مدافعا عن الحق قاصدا إعلاء كلمته. والثاني أنه من الشهادة على الناس بالمعنى الذي تقدم في قوله عز وجل :﴿ لتكونوا شهداء على الناس ﴾ [ البقرة : ١٤٣ ] والأول هو الذي يسبق إلى الذهن في هذا المقام. وإنما سمى هؤلاء المقتولون شهداء لأنهم يشاهدون بعد الموت من الملكوت ونعيمه ما لا يكون لغيرهم أو لأنهم يبذل أنفسهم في سبيل الله يكونون من الشهداء على الناس يوم القيامة بالمعنى المشار إليه آنفا ولأنه مشهود لهم بالجنة أو لأن الملائكة تشهد موتهم. أقوال.
وقوله :﴿ والله لا يحب الظالمين ﴾ جملة معترضة مسوقة لبيان أن الشهداء يكونون ممن خلصوا لله وأخلصوا في إيمانهم وأعمالهم، فلم يظلموا أنفسهم بمخالفة الأمر أو النهي، ولا بالخروج عن سنن الله في الخلق، وأنه تعالى لا يصطفي للشهادة الظالمين ما داموا على ظلمهم ؛ و في ذلك بشارة للمتقين، وإنذار للمقصرين، فالناس قبل الابتلاء بالمحن والفتن يكونون سواء فإذا ابتلوا تبين المخلص والصادق والظالم والمنافق. وما أسهل ادعاء الإخلاص والصدق إذا كانت آياتهما مجهولة. فبيان السبب مؤدب للمقصرين وقاطع لألسنة المدعين، إلا أن يكونوا مع الأغبياء الجاهلين.
أقول : وفيه أيضا أن أعداءهم من المشركين لا يحبهم الله أن لا يعلمهم معاملة المحب للمحبوب لأنهم يظلمون أنفسهم ويسفهونها بعبادة المخلوقات واجتراح السيئات. ويظلمون غيرهم بالفساد في الأرض ؛ والبغي على الناس، وهضم حقوقهم والظالم لا تدوم له سلطة ؛ ولا تثبت له دولة، فإذا أصاب غرة من أهل الحق والعدل فكانت له دولة في حرب أو حكم ؛ فإنما تكون دوله سريعة الزوال ؛ قريبة الانحلال والاضمحلال ؛ وفيه تعريض أيضا بالمنافقين فإنهم أظلم الظالمين.
هذه الآيات وما بعدها في قصة أُحد وما فيها من السنن الاجتماعية والحكم والأحكام فهي متصلة بقوله عز وجل :﴿ وإذ غدوت من أهلك ﴾ الخ الآيات التي تقدمت. وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة. وقال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال :" إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية بالغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين ". وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
ثم قال تعالى :﴿ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين ﴾ قال في الأساس : محص الشيء محصا ومحصه تمحيصا خلصه من كل عيب ومحص الذهب بالنار خلصه مما يشوبه، ثم قال : ومن المجاز محص الله التائب من الذنوب ومحص قلبه، وتمحصت ذنوبه وتمحصت الظلماء تكشفت قال :
حتى بدى قمراؤه وتمحصت | ظلماؤه ورأى الطريق المُبْصرُ١ |
كل إنسان يحكم لنفسه في نفسه بأمور كثيرة يصدقه فيها الحق الواقع أو يكذبه فالمعتقد حقية الدين قد يتصور وقت الرخاء أنه يسهل عليه بذل ماله ونفسه في سبيل الله ليحفظ شرف دينه ويدفع عنه كيد المعتدين، فإذا جاء البأس ظهر له من نفسه خلاف ما كان يتصور ( وتقدم الكلام في هذه المسألة آنفا ). فالإنسان يلتبس عليه أمر نفسه فلا يتجلى كمال التجلي إلا بالتجارب الكثيرة والامتحان بالشدائد العظيمة، فالتجارب والشدائد كتمحيص الذهب يظهر به زيفه ونضاره. ثم إنها أيضا تنفي خبثه وزغله. كذلك كان الأمر في أحد : تميز المؤمنون الصادقون من المنافقين وتطهرت نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها، فصارت تِبْراً خالصا وهؤلاء هم الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في الغنيمة، والذين انهزموا وولوا وهم مدبرون محص الجميع بتلك الشدة فعلموا أن المسلم ما خلق ليلهو ويلعب، ولا ليكسل ويتواكل، ولا لينال الظفر والسيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات، بل خلق ليكون أكثر الناس جدا في العمل، وأشدهم محافظة على النواميس والسنن.
أقول : وقد تجلى أثر هذا التمحيص أكمل التجلي في غزوة حمراء الأسد إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتبع المشركين إلا من شهد القتال بأحد، فامتثلوا الأمر بقلوب مطمئنة وعزائم شديدة وهم على ما هم من تبريح الجراح بهم كما تقدم بيانه. فليعتبر بهذا مسلمو هذا الزمان وليعلموا ما هو مقدار حظهم من الإسلام والإيمان.
وأما محق الكافرين بالشدائد فليس معناه فناؤهم وهلاكهم وإنما هو اليأس يسطو عليهم وفقد الرجاء يذهب بعزائمهم ( لعدم الإيمان الذي يثبت قلوب أصحابه في الشدائد ) حتى يذهب ما كان قد بقي من نور الفضيلة في نفوسهم فلا تبقى لهم شجاعة ولا بأس ولا شيء من عزة النفس، فيكون أحدهم كالهلاك في المحاق لا نور له، بل يكون وجوده كالعدم، لأنه لا أثر له ولا فائدة فيه، فذلك محقه إذا غُلب على أمره وإذا هو انتصر طغى وتجبر وبغى وظلم، وذلك محق معنوي تكون عاقبته المحق الصوري كذلك لا يثبت للكافرين المبطلين وجود مع المؤمنين الصادقين، وإنما يبقون ظاهرين إذا لم يظهر من أهل الحق والعدل من ينازعهم ويقاوم باطلهم.
الكلام متصل بما قبله، والخطاب فيه لمن شهد وقعة " أحد " من المؤمنين فإنه تعالى أرشدهم في الآيات السابقة إلى أنه لا ينبغي لهم أن يضعفوا أو يحزنوا، وبين لهم حكمة ما أصابهم وأنه منطبق على سننه في مداولة الأيام بين الناس وفي تمحيص أهل الحق بالشدائد، وفي ذلك من الهداية و الإرشاد والتسلية ما يربي المؤمن على الصفات التي ينال بها الغلب والسيادة بالحق ؛ ثم بين لهم بعد هذا أن سعادة الآخرة لا تنال أيضا إلا بالجهاد والصبر فهي كسعادة الدنيا بإقامة الحق والسيادة في الأرض سنة الله فيهما واحدة فقال :
﴿ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين ﴾ : وهذه الآية كالآية ( ٢١٤ ) من سورة البقرة، والمعنى على الطريقة التي اختارها الأستاذ الإمام هناك من أن " أم " للاستفهام المجرد أو للمعادلة أنه تعالى يقول للمؤمنين بعد ذلك التنبيه والإرشاد لسننه وحكمه فيما حصل المتضمن للوم والعتاب في مثل " إن كنتم مؤمنين " وقوله " إن يمسسكم قرح " الخ : هل جريتم على تلك السنن ؟ هل تدبرتم تلك الحكم ؟ أم حسبتم كما يحسب أهل الغرور أن تدخلوا الجنة وأنتم إلى الآن لم تقوموا بالجهاد في سبيله حق القيام، ولم تتمكن صفة الصبر من نفوسكم تمام التمكن، والجنة إنما تنال بهما، ولا سبيل إلى دخولها بدونهما، لو قمتم بذلك لعلمه تعالى منكم وجازاكم عليه بالنصر والظفر في غزوتكم هذه وكان ذلك آية على أنه سيجازيكم بالجنة في الآخرة.
وهذا المختار في معنى " أم " هو ما جرى عليه أبو مسلم الأصفهاني فقد قال الإمام الرازي قال أبو مسلم في " أم حسبتم " أنه نهي وقع بحرف الاستفهام أي يأتي للتبكيت، وتلخيصه لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة ولم يقع منكم الجهاد وهو كقوله :﴿ آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آ منا وهم لا يفتنون ﴾ [ العنكبوت : ١-٢ ] وافتتح الكلام بذكر " أم " التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بن ضربين يشك في أحدهما لا بعينه، يقولون : أزيدا ضربت أم عمرا ؟ مع تيقن وقوع الضرب بأحدهما. قال : وعادة العرب يأتون بهذا الجنس من الاستفهام توكيدا. فلما قال " ولا تهنوا ولا تحزنوا " فكأنه قال : أفتعلمون أن ذلك كما تؤمرون ؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدة وصبر ؟ ا ه المراد منه.
وقد جرينا في هذا على أن نفي العلم هنا بمعنى نفي المعلوم، كنفي اللازم وإرادة الملزوم، وهو أحد الوجوه التي بيناها من قرب من تفسير " وليعلم الله الذين آمنوا " وهو الذي جرى عليه الكشاف هنا، وقال هو " بمعنى لما تجاهدوا لأن العلم متعلق بالمعلوم، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه لأنه منتف بانتفائه. يقول الرجل : ما علم الله في فلان خيرا. يريد ما فيه خير حتى يعلمه. و " لما " بمعنى " لم " إلا أن فيها ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل. تقول. وعدني أن يفعل ولما يفعل. تريد ولم يفعل وأنا أتوقع فعله " ا ه.
وقد اعترضه من لم يفهمه حق الفهم. وقد تقدم أن النكتة في إيثار ذكر العلم وإرادة المعلوم هي الإشعار بأن العلم إنما يكون علما صحيحا بظهور متعلقه بالفعل. وههنا نكتة أخرى خطرت في البال : وهي أن التعبير عن نفي ذلك بنفي علم الله به عبارة عن دعوى مقرونة بالدليل والبرهان، كأنه قال إن كلا من الجهاد والصبر اللذين هما وسيلة إلى دخول الجنة لما يقع منكم أي لم يقع إلى الآن من مجموعكم أو أكثركم بحيث صار يعد في شأن الأمة، فلا ينافي ذلك وقوعه من بعض الأفراد الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخالفوا ولم ينهزموا، إذ لو وقع لعلمه الله تعالى الذي لا يخفى عليه شيء ولكنه لما يعلمه فهو لم يتحقق قطعا. ويؤيد تفسير الآية على هذا الوجه قوله تعالى في آية البقرة :{ أم حسب تم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء ) [ البقرة : ٢١٤ ] أي وإلى الآن لم تصلوا إلى حالهم ولم يصبكم مثل ما أصابهم وقد كانت حالهم تلك مثلا في الشدة. ووجه التأييد أن المنفي هناك هو العمل والحال التي يستحقون بها الجنة.
ثم إن هذا يوافق أحد الوجوه التي تقدمت في تفسير قوله " وليعلم الله الذين آمنوا " من حيث إن المراد بالذوات وصفها فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا " من حيث إن المراد بالذوات وصفها. فالمعنى هناك وليعلم الله إيمان الذين آمنوا –وهنا- ولما يعلم الله جهاد الذين جاهدوا وصبر الصابرين أي واقعين ثابتين. ويصح أيضا أن يكون العلم هنا بمعنى التمييز كما تقدم هناك في وجه آخر ويكون المعنى : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة جميعا ولما يميز الله المجاهدين منكم والصابرين من غيرهم.
والجهاد هنا أعم من الحرب للدفاع عن الدين وأهله وإعلاء كلمته. قال الأستاذ الإمام : ربما قائل يقول إن الآية تفيد أن من لم يجاهد ويصبر لا يدخل الجنة مع أن الجهاد فرض كفاية. ونقول : نعم إنه لا يدخل الجنة من لم يجاهد في سبيل الحق ولكن الجهاد في الكتاب والسنة يستعملان بمعناهما اللغوي وهو احتمال المشقة في مكافحة الشدائد، ومنه جهاد النفس الذي روي عن السلف التعبير عنه بالجهاد الأكبر، وذكر من أمثلة ذلك مجاهدة الإنسان لشهواته لا سيما في سن الشباب، وجهاده بماله وما يبتلى به المؤمن من مدافعة الباطل ونصرة الحق. وقال : إن لله في كل نعمة عليك حقا وللناس عليك حقا، وأداء هذه الحقوق يشق على النفس فلا بد من جهادها ليسهل عليها أداؤها، وربما يفضل بعض جهاد النفس جهاد الأعداء في الحرب ؛ فإن الإنسان إذا أراد أن يبث فكرة صالحة في الناس أو يدعوهم إلى خيرهم من إقامة سنة أو مقاومة بدعة أو النهوض بمصلحة فإنه يجد أمامه من الناس من يقاومه ويؤذيه إيذاء قلما يصبر عليه أحد. وناهيك بالتصدي لإصلاح عقائد العامة وعاداتهم وما الخاصة في ضلالهم إلا أصعب مراسا من العامة.
ومن مباحث اللفظ في الآية ما تقدم بيانه من معنى أم ولما. ومنها أن قوله " ويعلم " منصوب بإضمار " أن " على أن الواو للجمع ؛ كقولهم : لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن أكل السمك وشرب اللبن معا. فالتقدير في الآية على هذا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة والحال أنه لم يتحقق منكم الجمع بين الجهاد والصبر.
بعدما بين تعالى للمؤمنين أن الفوز والظفر في الدنيا ودخول الجنة في الآخرة لا يكونان إلا بالأماني والغرور ؛ ولا ينالان بالمحاباة والكيل والجزاف، بل الجهاد ومكافحة الأيام، ومصابرة الشدائد والأهوال، واتباع سنن الله في هذا العالم- وبعدما بين لهم أن دعوى الإيمان ودعوى الجهاد والصبر لا يترتب عليهما الجزاء بالنصر ودخول الجنة وإنما يترتب ذلك على تحققهما بحسب علم الله المطابق للواقع لا بحسب ظن الناس وشعورهم- بعد هذا وذاك أرشدهم إلى أمر واقع يظهر لهم به تأويل قوله تعالى :﴿ وليعلم الله الذين آمنوا ﴾ وقوله :﴿ ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾ الخ وطريق الجمع بينه وبين شعورهم واعتقادهم ذلك أنهم لم يقصروا في الجهاد والصبر فيتعلمون كيف يحاسبون أنفسهم ولا يتغرون بشعورهم وخواطره فقال :
﴿ ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ﴾
الخطاب لجماعة المسلمين الذين شهدوا وقعة أحد. وقد ذكرنا في تلخيص القصة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه لا يخرج للمشركين بل يستعد لمدافعتهم في المدينة، وكان على هذا الرأي جماعة من كبراء الصحابة وبه صرح عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المنافقين وأن أكثر الصحابة أشاروا بالخروج إلى أحد حيث عسكر المشركون ومناجزتهم هناك وأن الشبان ومن لم يشهد بدرا كانوا يلحون في الخروج. لهذا قال مجاهد : إن هذه الآية عتاب لرجال غابوا عن بدر فكانوا يتمنون مثل يوم بدر أن يلقوه فيصيبوا من الخير والأجر مثل ما أصاب أهل بدر، فلما كان يوم أحد ولي منهم من ولي فعاتبهم الله. وروي نحو ذلك عن غيره منهم الربيع والسدي. وروي عن الحسن أنه قال : بلغني أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون : لئن لقينا العدو مع النبي صلى الله عليه وسلم لنفعلن ولنفعلن، فابتلوا بذلك فلا والله ما كلهم صدق، فأنزل الله عز وجل " ولقد كنتم تمنون الموت " فأطلق الحسن ولم يخص من لم يشهد بدرا وهو الصواب، فإن الذين كانوا يتمنون القتال كثيرون.
قلنا : إن هذه أظهرت للمؤمنين تأويل قوله تعالى في إيمانهم وجهادهم وصبرهم، وعلَّمتْهم كيف يحاسبون أنفسهم ويمتحنون قلوبهم. وبيان ذلك أنهم تمنوا القتال أو الموت في القتال لينالوا مرتبة الشهادة، وقد أثبت الله لهم هذا التمني وأكده بقوله :( ولقد ) فلم يكن ذلك منهم دعوى قولية ولا صورة في الذهن خيالية بل كان حقيقة واقعة في النفس ولكنها زالت عند مجيء دور الفعل. وهذه مرتبة من مراتب النفس في شعورها وعرفانها هي دون مرتبة الكمال الذي يصدقه العمل وفوق مرتبة التصور والتخيل مع الانصراف عن تمني العمل بمقتضاه أو مع كراهته والهرب منه- كما يتوهم بعض الناس أنه يحب ملته ووطنه ولكنه يهرب من كل طريق يخشى أن يطالب فيه بعمل يأتيه لأجلهما، أو مال يعاون به العاملين لهما، أو يكون خالي الذهن من الفكر في العمل أو البذل لإعلاء شأن هذا المحبوب أو كف العدوان أو الشر عنه. فهاتان مرتبتان دون مرتبة من يتصور أنه يحب ملته ووطنه ويفكر في خدمتهما ويتمنى لو يُتاح له ذلك، حتى إذا احتيج إلى خدمته التي كان يفكر فيها ويتمناها وجد من نفسه الضعف، فأعرض عن العمل قبل الشروع أو بعد أن ذاق مرارته وكابد مشقته، وإنما المطلوب في الإيمان ما هو أعلى من هذه المرتبة، المطلوب فيه مرتبة اليقين والإذعان النفسي التي من مقتضاها العمل مهما كان شاقا والجهاد مهما كان عسرا والصبر على المكاره وإيثار الحق على الباطل، وقد تقدم في تفسير ( ليعلم الله ) وتفسير ( وليمحص الله ) من الآيتين السابقتين أمثلة تزيد المبحث وضوحا.
وقد كان في مجموع المخاطبين بالآية عند نزولها من هم في المرتبة العليا، وأولئك هم المجاهدون الصابرون الذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثبات الجبال لا ثبات الأبطال، وهم نحو ثلاثين رجلا، وقد ذكرنا أسماء بعضهم في تلخيص القصة. وإنما جعل الخطاب عاما ليكون تربية عامة، فإن أصحاب المراتب العلية يتهمون نفسهم بالتفصير فيزدادون كمالا.
فهذه الآية تنبه كل مؤمن إلى اتقاء الغرور بحديث النفس والتمني والتشهي وتهديه إلى امتحان نفسه بالعمل الشاق، وعدم الثقة بما دون الجهاد والصبر على المكاره في سبيل الحق، حتى يأمن الدعوى الخادعة، بلْهَ الدعوى الباطلة، وإنما الخادعة أن تدعي ما تتوهم أنك صادق فيه، مع الغفلة أو الجهل بعجزك عنه، والباطلة لا تخفى عليك، وإنما تظن أنها تخفى على سواك.
قد أشرنا إلى أن الظاهر من تمني الموت هو تمني الشهادة في سبيل الله وقول بعضهم أن المراد بالموت الحرب لأنها سببه- وعد بعضهم تمني الشهادة المأثور عن كثير من الصحابة مشكلا، لأنه يستلزم انتصار الكفار على المشركين. ولا إشكال إلا في مخ من اخترع هذه العبارة، فإن الذي يتمنى الشهادة في سبيل الله لا يلقي بنفسه إلى التهلكة ولا يقصر في الدفاع والصدام حتى يقال إنه مكن الأعداء منه ومهد لهم سبيل الظفر بالمؤمنين، وإنما يكون أقوى جهادا وأشد جلادا وأجدر بأن ينصر قومه ويخذل من يحاربهم. ثم إنه لا يقصد لازم الموت والشهادة من نقص عدد المسلمين أو ضعفهم. على أن هذا اللازم إنما يتبع استشهاد الكثير أو الأكثر منهم ومن يتمن الشهادة فإنما يتمناها لنفسه دون العدد الكثير من قومه.
وقال الأستاذ الإمام : إن تمني الشهادة الذي وقع ليس تمنيا مطلقا، وإنما هو تمني من يقال لنصرة الحق أن تذهب نفسه دونه، فإذا هو وصل إلى ما ينبغي من نصرة الحق وإعزازه بانهزام أهل الباطل وخذلانهم فبها ونعمت، وإلا فضل الموت في سبيل إعزاز الحق ورآه خيرا من البقاء من إذلاله وغلبة الباطل عليه. وقال إن الخطاب لمن سبق لهم تمني الموت بعد أن فاته حضور وقعة بدر أو الشهادة فيها لبعض من حضرها، ثم جاءت وقعة أحد فكان منهم من انكسرت نفسه في أثناء الواقعة ووهن عزمه، ومنهم وهن وضعف بعدها عندما ندبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباع المشركين معه في حمراء الأسد. كأنه يقول : يا سبحان الله لقد كنتم تتمنون الموت قبل أن تلاقوا القوم في الحرب، فها أنتم أولاء قد رأيتم ما كنتم تتمنونه وأنتم تنظرون إليه لا تغفلون عنه فما بالكم دهشتم، عندما وقع الموت فيكم ؟ وما بالكم تحزنون وتضعفون عند لقاء ما كنتم تحبون وتتمنون ؟ ومن تمنى الشيء وسعى إليه ؛ لا ينبغي أن يحزنه لقاؤه ويسوءه، فقوله :﴿ وأنتم تنظرون ﴾ للتأكيد، لأن الإنسان يرى الشيء أحيانا ولكنه لانشغاله عنه ربما لا يتبينه فأراد أن يقول إنكم قد رأيتموه رؤية كان لها الأثر الثابت في نفوسكم، لا رؤية من قبيل لمح الشيء مع الغفلة عنه وعدم المبالاة به. قال : وقال بعض المفسرين إن الجملة مستأنفة أي أبصرتموه وأنتم الآن تنظرون وتتأملون فيما رأيتموه وتفكرون في علاقته بشؤونكم، والذي يظهر هو صحة التأويل الأول. يعني أنها مؤكدة.
أقول : وقد جرى صاحب الكشاف والبيضاوي وأبو السعود على أنها حالية وأن معناه رأيتم الموت ناظرين إلى وقوعه بكم، واغتياله لإخوانكم متوقعين أن يحل بكم ما حل بهم، وقال جماعة وهو توبيخ لهم على تمنيهم الموت وإلحاحهم على النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى الحرب. ونقول : إنه تذكير لمن انهزم وعصى منهم بأن ما سبق من تمنيهم الموت لم يكن عن رسوخ ويقين وتفضيل للشهادة ولقاء الله على الحياة وإنما كان فيه شائبة من الغرور والزهو وإرشاد وتوبيخ لهم ولأمثالهم إلى أن يحاسبوا أنفسهم ويطالبوها بالكمال الذي تأتي فيه الأعمال مصدقة لخواطر النفس وتمنياتها كما تقدم شرحه.
تقدم أنه أشيع عندما فرق خالد جمع المسلمين في أحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل. وقال بعضهم في سبب ذلك إن عمرو بن قميئة الحارثي١ لما رمى الرسول بالحجر فشج رأسه وكسر سنه أقبل يريد قتله فذب عنه مصعب بن عمير صاحب راية المسلمين يومئذ حتى قتل، فظن أنه قتل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : قتلت محمدا. فصرخ بها الصارخ حتى سمعها الكثير من المسلمين وفشت في الناس، فوهن أكثر المسلمين وضعفوا واستكانوا من شدة الحزن. وقال بعض الضعفاء ليت عبد الله بن أبي يأخذ لنا من أبي سفيان أمانا. وقال قوم من المنافقين لو كان نبيا لما قتل ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. وفي رواية ابن جرير عن السدي " وفشا في الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل فقال بعض أصحاب الصخرة -أي الذين فروا إلى الجبل فقاموا على صخرة منه- ليت لنا رسولا إلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أمنة من أبي سفيان، يا قوم إن محمدا قد قُتل فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم فيقتلوكم " وقال أنس بن النضر ما يأتي عن قريب وأما المؤمنون الصادقون الموقنون فمنهم من ثبت معه ومن كان بعيدا فرجع إليه، منهم أبو بكر وعلي وطلحة وأبو دجانة الذي جعل نفسه ترسا دونه فكان يقع عليه النبل وهو لا يتحر ك.
قال ابن القيم في بيان حكم هذه الوقعة. هذه الآية كانت مقدمة وإرهاصا بين يدي موت رسول الله ( ص ). وذكرأن توبيخ الذي ارتدوا على أعقابهم بهذه الآية قد ظهر أثره يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فقد ارتد من ارتد على عقبيه وثبت الصادقون على دينه حتى كانت العاقبة لهم.
أقول : ولا ينافي هذه الحكمة كون الوقعة كانت قبل وفاته صلى الله عليه وسلم ببضع سنين- لأن غزوة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة- فإن توطين نفس الأمة الكبيرة على الشيء وإعدادها له لا يكون قبل وقوعه بيوم أو أيام أو شهور بل لابد فيه من زمن يكفي لتعميمه فيها وصيرورته من الأمور المسلمة المشهورة عندها حتى لا يغيب عن الأذهان.
وحاصل المعنى أن محمدا ليس إلا بشرا رسولا قد خلت ومضت الرسل من قبله فماتوا، وقد قتل بعض النبيين كزكريا ويحيى فلم يكن لأحد منهم الخلد، وهو لا بد أن تحكم عليه سنة الله بالموت فيخلو كما خلوا من قبله، إذ لا بقاء إلا لله وحده ولا ينبغي للمؤمن الموحد أن يعتقده لغيره، أفئن مات كما مات موسى وعيسى، أو قتل كما قتل زكريا ويحيى، تنقلبون على أعقابكم، أي تولون الدبر راجعين عما كان عليه، يهديهم الله بهذا إلى أن الرسول ليس مقصودا لذاته فيبقى للناس، وإنما المقصود من إرساله ما أرسل به من الهداية، فيجب العمل بها من بعده، كما وجب في عهده، ولله در أنس بن النضر رضي عنه فإنه في تلك الساعة التي زاغت فيها الأبصار والبصائر، واشتد الكرب حتى بلغت القلوب الحناجر، وقال بعض الضعفاء والمنافقين ما قالوا ؛ قد قال :" يا قوم إن كان محمد قتل فإن رب محمد لم يقتل فقاتلوا على ما قاتل عليه محمد صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء " ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل.
قال في الكشاف :" والانقلاب على الأعقاب الإدبار عما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم به من أمر الجهاد وغيره وقيل الارتداد وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه " وقال الأستاذ الإمام : إن كلمة ( انقلبتم على أعقابكم ) من قبيل المثل تضرب لمن رجع عن الشيء بعد الإقبال عليه، والأحسن أن تكون عامة تشمل الارتداد عن الدين الذي جاهر بالدعوة إليه بعض المنافقين، والارتداد عن العمل كالجهاد ومكافحة الأعداء وتأييد الحق. وهذا هو الصواب.
قال تعالى :﴿ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ﴾ لأنه وعد بأن ينصر من ينصره ويعز دينه ويجعل كلمته هي العليا وهو منجز وعده لا يحول دون إنجازه ارتداد بعض الضعفاء والمنافقين على أعقابهم فإنه يثبت المؤمنين ويمحصهم حتى يكونوا كالتبر الخالص وبهم يقيم دينه ولذلك قال :﴿ وسيجزي الله الشاكرين ﴾ له نعمة عليهم بالقوى العقلية والجسدية وبالإيمان والهداية، القائمين بحقوقها في حياة رسوله وبعد موته على حد سواء، يأتون في كل وقت ما يمكن الإتيان به، لا يألون جهدا ؛ ولا يقصرون في شيء عمدا، إذ لم يكن عملهم لوجه الرسول فيبطل إذا غيبه الموت عنهم، وإنما هو لوجه الله ذي الجلال والإكرام وهو لا يموت ولا يزول.
الأستاذ الإمام : في هذه الآية إرشاد لنا إلى أن لا نجعل المصائب الشخصية دليلا على كون من تصيبه على باطل أو على حق، فإن من الجائز عقلا والواقع فعلا أن يبتلى صاحب الحق بالمصائب والرزايا ؛ وأن يبتلى صاحب الباطل بالنعم والعطايا، كما أن عكس ذلك جائز وواقع. وتعلمنا أيضا أن لا نعتمد في معرفة الحق والخير على وجود المعلم بحيث نتركها بعد ذهابه أو موته وإنما نعتمد على معرفتهما والتحقق بهما والسير على منهاجهما في حال وجود المعلم وبعده. فالله تعالى يقول : عليكم أن تستضيئوا بالنور وتتقلدوا سيف البرهان اللذين جاءكم بهما محمد، وأما ما يصيب جسمه من جرح أو ألم، وما يعرض له من حياة أو موت ؛ فلا مدخل له في صحة دعوته، ولا في إضعاف النور الذي جاء به، فلا معنى إذا لتعليق إيمانكم بحياته أو سلامة بدنه مما يعرض له من حيث هو بشر مثلكم، خاضع لسنن الله كخضوعكم.
أقول : قد غفل عن هذا من أهمل هداية القرآن من المسلمين ( جنسية لا إذعانا ومعرفة ) فتراهم إذا ساء اعتقادهم في رجل كأن خالف تقاليدهم أو أنكر عليهم أهواءهم يتربصون به الدوائر فإذا أصابته مصيبة زعموا أن الله تعالى قد انتقم منه حبا لهم وبغضا فيه ! فإن كان ذلك متهما بالإنكار على من يعتقدون صلاحهم وولايتهم قالوا إنهم قد تصرفوا فيه ! ! ويغفلون عما أصاب النبي في أحد وما أصاب كثيرا من الأنبياء قبله، بل يعمون عما يصيب معتقديهم وأوليائهم في عهدهم. لما حبس الأستاذ الإمام في عاقبة الثورة العرابية قال بعض هؤلاء المغرورين إنه حبس كرامة للشيخ عليش لأنه- أي الشيخ عليش- كان يكرهه. فبلغه ذلك وكان الشيخ عليش محبوسا أيضا فقال : لماذا أكون حبست كرامة له ولم يكن هو الذي حبس كرامة لي لأنه أساء بي الظن وقال السوء لتصديقه في الوشاة النمامين وأنا لم أقل فيه شيئا ؟ السبب في حبس كل منا واحد، فلماذا كان كرامة لواحد وانتقاما من الآخر ؟
ولا يخفى على المؤمن العارف أن هذا الاعتقاد يعارض التوحيد الخالص ولذلك كان من المقاصد في الآية والحكم في سببها تقرير التوحيد ببيان أن الأنبياء والرسل كسائر البشر في الخضوع لسنن الله ونظام خلقه.
قال الأستاذ الإمام في بيان مزايا الإسلام من رسالة التوحيد ما نصه :
" ثم أماط ( أي الإسلام ) اللثام عن حال الإنسان في النعيم الذي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤون بها، ففصل بين الأمرين فصلا لا مجال معه للخلط بينهما. فأما النعم التي يتمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة والرزايا التي يرزأ بها في نفسه فكثير منها كالثروة والجاه والقوة والبنين أو الفقر والضعة والضعف والفقد ربما لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان، وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة أو الفجرة الفسقة وترك لهم متاع الحياة الدنيا إنظارا لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله :﴿ إنا لله وإنا إليه راجعون ﴾ [ البقرة : ١٥٦ ] فلا غضب زيد ولا رضا عمرو ولا إخلاص سريرة ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الزرايا ولا في تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن وضياع السلطان بالظلم، وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر.
أما شأن الأمم فليس على ذلك فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية من تصحيح الفكر وتسديد النظر وتأديب الأهواء وتحديد مطامح الشهوات والدخول إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها ؛ وحفظ الأمانة واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل – ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة ﴿ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ﴾ [ آل عمران : ١٤٥ ] ولن يسلب الله عنها نعمته مادام هذا الروح فيها، يزيد الله النعم بقوته ؛ وينقصها بضعفه حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره، واستبدل الله عزة القوم بالذل ؛ وكثرتهم بالقل ونعيمهم بالشقاء وراحتهم بالعناء وسلّط عليهم الظالمين أو العادلين فأخدهم بهم وهم في غفلة ساهون ﴿ إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل ثم لا ينفعهم الأنين ولا يجديهم البكاء ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجؤوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة برسل الفكر والذكر والصبر والشكر ﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ [ الرعد : ١١ ] ﴿ سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾ [ المؤمنون : ٦٢ ] وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه :" اللهم إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة " على هذه السنن جرى من الأعمال الجليلة كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه ويشق الفلك ببكائه وهو وَلِعٌ بأهوائه ماض في غلوائه وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا ا ه.
أقول : وفي الآية من الهداية والإرشاد أيضا أنه لا ينبغي أن يكون استمرار الحرب وعدمه متعلقا بوجود القائد بحيث إذا قتل ينهزم الجيش أو يستسلم للأعداء بل يجب أن تكون الأعمال والمصالح العامة جارية على نظام ثابت لا يزلزله فقد الرؤساء. وهذا ما عليه نظام الحروب والحكومات في هذا العصر. وقد كان أكثر الناس في العصور القديمة تبعا لرؤسائهم يحيون لحياتهم ويخذلون بموتهم حتى أنهم يرون أن وجود الجيش العظيم بعد فقد القائد كالعدم.
إن الأمة التي تقدر هذه الهداية حق قدرها تعد لكل علم تحتاج إليه ولكل عمل تقوم مصالحها به رجالا كثيرين فلا تفقد معلما ولا مرشدا ولا حاكما ولا قائدا ولا رئيسا ولا زعيما إلا ويوجد فيها من يقوم مقامه ويؤدي لها من الخدمة ما كان يؤديه فهي لا تحصر الاستعداد لشيء من الأشياء في فرد من الأفراد. ولا تقصر القيام بأمر
قال : وفي الآية معنى آخر وهو أنه ما دام محيانا ومماتنا بيد الله فلا محل للجبن والخوف، ولا عذر في الوهن والضعف، وفيها تأكيد لما تقدم بيانه في الآية التي قبلها وهو أن الموت لا يدل على بطلان ما كان عليه من يموت ولا على حقيته، وذكر أن صاحب الكشاف جعل الجملة تمثيلا فنذكر عبارته في حلها قال :
" المعنى أن موت الأنفس محال أن يكون إلا بمشيئة الله فأخرج مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله فيه تمثيلا، ولأن ملك الموت هو الموكل بذلك فليس له أن يقبض نفسا إلا بإذن الله. وهو على معنيين ( أحدهما ) تحريضهم على الجهاد وتشجيعهم على لقاء العدو بإعلامهم أن الحذر لا ينفع، وأن أحدا لا يموت قبل بلوغ أجله، وإن خوّض المهالك، واقتحم المعارك، ( الثاني ) ذكر ما صنع الله برسوله عند غلبة العدو والتفافهم عليه وإسلام قومه له نهزة للمختلس من الحفظ والكلاءة وتأخير الأجل " ا ه قول الكشاف.
وقال أبو السعود : في الجملة كلام مستأنف سيق للتنبيه على خطئهم فيما فعلوا حذرا من قتلهم وبناء على الإرجاف بقتله عليه الصلاة والسلام ببيان أن موت كل نفس منوطة بمشيئة الله إلى أن قال في قوله " إلا بإذن الله- استثناء مفرغ من أعم الأسباب أي وما كان الموت حاصلا لنفس من النفوس بسبب من الأسباب إلا بمشيئته تعالى على أن الإذن مجاز عنها لكونها من لوازمه. أو إلا بإذنه لملك الموت في قبض روحها. وسوق الكلام مساق التمثيل بتصوير الموت بالنسبة إلى النفوس بصورة الأفعال الاختيارية التي لا يتسنى للفاعل إيقاعها والإقدام عليها بدون إذنه تعالى أو بتنزيل اقدامها عليه أو على مبادئه وسعيها في إيقاعه منزلة الإقدام على نفسه للمبالغة في تحقيق المرام. فإن موتها حيث استحال وقوعه عند إقدامها عليه أو على مباديه وسعيها في إيقاعه فلأن يستحيل عند عدم ذلك أولى وأظهر، وفيه من التحريض على القتال ما لا يخفى " ا ه.
أقول : وقد بيّن صاحب الكشاف في غير هذا الموضع أن النفي في مثل هذا التعبير للشأن لا لمجرد الفعل. وهو تفسير مثل " ما كان الله ليفعل كذا " بنحو قوله : ما صح منه وما استقام له. أي ليس ذلك من شأنه الصحيح المعهود ولا من سننه المستقيمة المطردة، ولكنه ( أي صاحب الكشاف ) لم يبيّن ذلك بقاعدة واضحة يجري عليها بتعبير يؤدي المعنى بذاته في كل موضع. وأوضح ما يُقال في هذه التعبيرات وأصحه أنه بيان لكون هذا المنفي ليس من شأن الله ولا من سننه في خلقه. فمعنى ﴿ وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ﴾ ليس من شأن النفوس ولا من سنة الله فيها أن تموت بغير إذنه ومشيئته التي يجري بها نظام الحياة وارتباط الأسباب فيها بالمسببات. وسيأتي مثل هذا التعبير في آيات أخرى من هذا السياق فتؤكد لك أن هذا المعنى العام في مثلها.
وأما قوله :﴿ كتابا مؤجلا ﴾ فهو مؤكد لمضمون ما قبله أي كتبه الله كتابا مؤجلا أي أثبته مقرونا بأجل معين لا يتغير. ومؤقتا بوقت معلوم لا يتقدم ولا يتأخر فالمؤجل ذو الأجل. والأجل المدة المضروبة للشيء قال تعالى :﴿ وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا ﴾ [ الأنعام : ١٢٨ ] ومنه الدين المؤجل الذي ضرب له أجل أي مدة يؤدى في نهايتها وقد يتوهم بعض أصحاب العقول المقيدة، والأفهام الضيقة، أن كون الموت مؤجلا بأجل حدود في علم الله، ينافي كونه بأسباب تجري على سنن الله ؛ وليس لهذا التوهم أدنى شبهة من العقل فيرد بالدلائل النظرية ؛ ولا من الوجود فيفسر بالسنن الاجتماعية ؛ إلا أن كون الموت لا يكون إلا بأجل ؛ أظهر من كونه لا يكون إلا مقرونا بالسبب فإن الناس يتعرضون لأسباب المنايا بخوض غمرات الحروب والتعرض لعدوى الأمراض ؛ والتصدي لأفاعيل الطبيعة ؛ ثم قد يسلم في الحرب الشجاع المقدم ؛ ويقتل الجبان المتخلف. ويفتك المرض بالشاب القوي، من حيث تعدو عداوة الغلام القميء، وتغتال فواعل الحر والبرد الكهل المستوي ؛ وتتجاوز عن الشيخ الضعيف ؛ ولكل عمر أجل ولكل أجل قدر ؛ والأقدار هي السنن التي بها يقوم النظام، والحكم فيها مرتبطة بالأحكام، وإن خفي بعضها على بعض الأفهام.
هذه هي القاعدة الأولى في الآية. وأما الثانية فهي قوله تعالى :﴿ ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها ﴾ وإننا نذكر في تفسير العبارة صفوة ما قالوه ثم نبين القاعدة. قالوا : إنها تعريض بالذين شغلتهم الغنائم يوم أحد فتركوا موقعهم الذي أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه. وإن معناها أن من قصد بعمله حظ الدنيا أعطاه الله شيئا من ثوابها ومن قصد الآخرة أعطاه الله حظا من ثوابها. وصرح الرازي بأنها في معنى حديث " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " ١ الخ الحديث المشهور.
وقال الأستاذ الإمام : هذه قضية أخرى وفيها وجهان :( أحدهما ) أنها رد لاستدلال من استدل بما حل بالمسلمين على أن ما هم عليه غير الحق فهي من هذا الوجه فرع من فروع قوله :﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾ فهو يقول إن لنيل ثواب الدنيا سننا ولنيل ثواب الآخرة سننا، فمن سار على سنن واحدة منهما وصل إليها. فإذا كان المشركون قد استظهروا على المسلمين في هذه المرة فلأنهم طلبوا لعملهم الدنيا وأخذوا له أهبته من حيث قد قصر المسلمون في اتباع السنن في ذلك بمخالفة الرسول كما تقدم. ( والوجه الثاني ) أنه يقول لأولئك الذي ضعفوا وفشلوا وانقلبوا على أعقابهم : ما الذي تريدون بعملكم هذا ؟ إن كنتم تريدون ثواب الدنيا فالله لا يمنعكم ذلك وما عليكم إلا أن تسلكوا طريقه ولكن ليس هذا هو الذي يدعوكم إليه محمد، وإنما يدعوكم إلى خير ترون حظا منه في الدنيا والمعول فيه على ما في الآخرة. فالمسألة معكم بين أمرين إرادة الدنيا وإرادة الآخرة، كل يريد أمرا ولكل أمر سنن تتبع ولكل دار طريق تسلك.
أقول : وسيأتي في هذا السياق قوله تعالى :﴿ منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ﴾ وهو يؤيد الوجه الثاني مما أورده الأستاذ الإمام وفي معناه قوه تعالى :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة نصيب ﴾ [ الشورى : ٢٠ ] وقد تقدم لهذا البحث نظير في تفسير قوله تعالى :﴿ فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ﴾ [ البقرة : ٢٠٠ ] الخ وفيه بيان أن من يطلب الدنيا وحدها ولا يعمل للآخرة عملها فليس له في الآخرة من خلاق، وأن من هدي الإسلام أن يطلب المرء خير الدنيا وخير الآخرة ويقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، فالإنسان يطلب ويريد بحسب سعته معرفته وعلو همته ودرجة إيمانه وله ما يريد كله أو بعضه بحسب سنن الله وتدبيره لنظام هذه الحياة.
وفي سورة الإسراء تفصيل وتقييد في هذه المسألة قال تعالى :﴿ من كان يريد العاجلة عجلنا لها فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ﴾ [ الإسراء : ١٨-٢١ ] ولا تُنسينّ التقاليد الشائعة قارئ هذه الآيات عن سنن الله التي أثبتها في كتابه فيظن أن عطاءه تعالى وتفضيله لبعض الناس على بعض يكون جزافا، بل الإرادة تجري على السنن التي اقتضتها الحكمة ﴿ وكل شيء عنده بمقدار ﴾ [ الرعد : ٨ ] ولإرادة الإنسان دخل في تلك السنن والمقادير ولذلك قال :( من كان يريد ) ( ومن أراد ) فاعرف قيمة إرادتك واعرف قبل ذلك قيمة نفسك فلا تجعلها كنفوس الحشرات التي تعيش زمنا محدودا، ثم تفنى كأن لم تكن شيئا مذكورا.
إنك قد خلفت للبقاء ولك في الوجود طوران طور عاجل قصير وهو طور الحياة الدنيا، وطور أجل أبدي وهو طور الحياة الآخرة، وسعادتك في كل من الطورين تابعه لإرادتك، وما توجهك إليه من العمل في حياتك، فأعمال الناس متشابهة، ومشقتهم فيها متقاربة، وإنما يتفاضلون بالإرادات والمقاصد، لأنها هي التي تكون تارة علة وتارة معلولا لطهارة الروح وعلو النفس وسمو العقل ورقة الوجدان وهي المزايا التي يفضل بها إنسان على إنسان.
يحارب قوم حبا في الربح والكسب، أو ضراوة بالقتل والفتك، فإذا غلبوا أفسدوا في الأرض، وأهلكوا الحرث والنسل، ويحارب آخرون دفاعا عن الحق، وإقامة لقوانين العدل، فإذا غلبوا عمروا الأرض، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فهل يستوي الفريقان، إذا استوى في البداية العملان ؟ وهما في القصد والإرادة متباينان.
يكسب الرجل طلبا للذات، وحبا في الشهوات، فيغلو في الطمع، ويوغل في الحيل، ويأكل الربا أضعافا مضاعفة، حتى يجمع القناطير المقنطرة، فإذا هو يمنع الماعون ويدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين، ولهو إذا سئل البذل في المصالح العامة أشد بخلا، وأكزّ يدا وأقبض كفا ؛ ويكسب الرجل طلبا للتجمل في معيشته وحبا للكرامة في قومه وعشيرته، فيجمل في الطلب ؛ ويتحرى الحلال من الربح، ويلتزم الصدق والأمانة، ويتوقى الغش والخيانة ثم هو ينفق من سعته فيواسي البائس الفقير ويعين العاجز والضعيف. وتكون له اليد في بناء المدارس والمعابد والمستشفيات والملاجئ، فهل يستوي الرجلان وهما في الثروة سيان ؟ وفي ظاهر العمل متشابهان أم يفضل أحدهما الآخر بحسن الإرادة ؟
الإرادة تصغر الكبير وتكبر الصغير. وترفع الوضيع وتضع الرفيع. وبها تتسع دائرة وجود الشخص. حتى تحيط بكرة الأرض بل تكون أكبر من ذلك بما يتبوأ من منازل الكرامة في عالم العقول والأرواح، وإذا كان يريد بعمله دار البقاء فإن وجوده يكون كبيرا بحسب كبر إرادته واسعا بسعة مقصده وبذلك تعلو نفسه على نفوس من أخلدوا إلى الشهوات وكان حظهم من عملهم كحظ الحشرات وغيرها من الحيوانات : أكل وشرب وفساد وبغي من القوي على الضعيف.
قس على هذا وجود من يريد بعمله القرب من الله والتخلق بأخلاقه والتحقق بتجليات أسمائه وصفاته ؛ القرب من الواسع العليم الخلاق الحكيم الرحمان الرحيم بسعة القلب وبسطة العلم وإقامة النظام والحكمة ونصب ميزان العدل وبسط بساط الرحمة، ألا تراه يكون أشرف وجود بشري وأعلاه بحسب إرادته وسنن الله ؟
لست بهذا الرمز إلى
وقول الكشاف " من تغييرات النسب " معناه أن العرب قد تغير الاسم المنسوب كما قالوا في النسبة إلى البصرة بصري بكسر الباء وإلى الدهر دهري بضم الدال. وقال الفراء : الربيون الأولون. وقال الزجاج هم الجماعات الكثيرة واحدها ربي قال ابن قتيبة أصله من الربة وهي الجماعة ويروى مثله عن ابن عباس. وقال ابن زيد الربانيون الأئمة والولاة والربيون الرعية وهم المنتسبون إلى الرب، والأول هو الظاهر المختار. تقدم معنى الوهن والضعف. والاستكانة ضرب من الخضوع هو عبارة عن سكون الإنسان لخصمه ليفعل به ما يريد.
والمعنى : أن كثيرا من النبيين الذين خلوا قد قاتل معهم كثير من المؤمنين بهم. المنتسبين إلى الرب تعالى في وجهة قلوبهم وفي أعمالهم. المعتقدين أن النبيين والمرسلين هداة ومعلمون. لا أرباب معبودون. فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله أي ما ضعف مجموعهم بما أصاب بعضهم من الجرح وبعضهم من القتل وإن كان المقتول هو النبي نفسه لأنهم يقاتلون في سبيل الله وهو ربهم لا في سبيل شخص نبيهم وإنما حظهم من نبيهم تبليغه عن ربهم وبيانه لهدايته وأحكامه ( وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ) [ الكهف : ٥٦ ] وما ضعفوا عن جهادهم ولا استكانوا ولا ولوا بالانقلاب على أعقابهم بل ثبتوا بعد قتل نبيهم كما ثبتوا معه في حياته لأن علة الثبات في الحالين واحدة وهي كون الجهاد في سبيل الله أي في الطريق التي يرضاها الله كحفظ الحق وحمايته. وتقرير العدل وإقامته. وما يتبع ذلك و يلزمه.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب " قُتل معه " ولذلك رسمت الكلمة في المصحف الإمام بغير ألف لتوافق القراءتين أي استشهدوا في القتال معه أو قتلوا كما هو، وزعم بعضهم أنه لم يقتل نبي في الحرب. وهو نفي غير مسلم لا سيما في النبيين غير المرسلين ومن ذا الذي يتجرأ على الإحاطة بالرسل علما والله يقول لنبيه ( ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك ) [ النساء : ١٦٤ ] ومن التفسير المأثور قول قتادة : فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما عجزوا وما تضعضعوا لقتل نبيهم وما استكانوا أي ما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم. وقال ابن إسحاق : فما وهنوا لقتل النبي وما ضعفوا عن عدوهم وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك هو الصبر " والله يحب الصابرين " ا ه. وقد تقدم معنى حب الله للناس في أوائل هذه السورة.
أي وإذا كان يحب الصابرين أمثالهم، فعليكم أن تعتبروا بحالهم، فإن دين الله واحد، وسنته في خلقه واحدة، ولذلك هديتم إلى السنن، وأمرتم بمعرفة عاقبة من سبقكم من الأمم، فاقتدوا بعمل الصادقين الصابرين، وقولوا مثل قول أولئك الربيين.
وإنما جمع لهم بين ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة لأنهم أرادوا بعلمهم سعادة الدنيا والآخرة، وإنما الجزاء على حسب الإرادة. وهذا هو شأن المؤمن كما تقدم آنفا وهو حجة على الغالين في الزهد. وخص ثواب الآخرة بالحسن للإيذان بفضله ومزيته وأنه المعتمد به عند الله تعالى. كذا قالوا. وقال الأستاذ الإمام : ثواب هؤلاء حسن على كل حال ولكن ذكر الحسن في ثواب الآخرة مزيد في تعظيم أمره. وتنبيه على أنه ثواب لا يشوبه أذى. فليس مثل ثواب الدنيا عرضة للشوائب والمنغصات. ولا يعترض على ما أثبته الآية بمثل واقعة الرجيع وبئر معونة٣ من حيث إن من قتلوا هنالك لم يؤتوا ثواب الدنيا فإن إيثار ثواب الدنيا مشروط باتباع السنن والأخذ بالأسباب وفي واقعة الرجيع قد اختلفوا في النزول على حكم المشركين، فكان ذلك تقصيرا منهم. وفي واقعة بئر معونة قد قصروا في الاحتياط إذ أمنوا لمن لا يصح أن يؤمن لهم، فكان ذلك جزاء التقصير وموعظة للمؤمنين ليكونوا دائما حذرين محتاطين غير مقصرين ولا مسرفين.
وقد صرح بما اتفق عليه المفسرون من كون الآيات تأديبا للمؤمنين وتوبيخا لمن فرط منهم ما فرط، والأمر ظاهر كالشمس في الضحى أو أشد ظهورا.
٢ - أخرجه البخاري في الرقاق باب ٣٨..
٣ - الرجيع ماء لهذيل بين مكة وعسفان والواقعة تعد من السرايا أو البعوث وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث نفرا من أصحابه ٦ أو ١٠ إلى قبيلتي العضل والقارة ليقرئوهم ويفقوهم لأنهم ادعوا الإسلام وطلبوا منه ذلك فلما أتوا الرجيع غدروا بهم. أحاط بهم مئتا رجل من هذيل وقالوا لهم: لكم الذمة إن سرتم معنا أن لا نقتل منكم أحدا فقال بعضهم لا ننزل على ذمة كافر فقاتلهم المشركون حتى قتلوهم وأوثقوا الذين نزلوا على عهدهم وساقوهم إلى مكة ليبيعوهم من قريش التي تريد تعذيب كل من تظفر به من المسلمين فامتنع عبد الله بن طارق أحد الموثوقين أن يسير معهم وقال إن لي بهؤلاء – القتلى- أسوة فجرروه وعالجوه فلم يسر فقتلوه وذهبوا بالآخرين، وهم طخبيب بن عدي وزيد بن الدثنة إلى مكة فباعوهما بأسيرين فقتلتهما قريش بمكة. وكان من خبر خبيب أن حبسوه وأهانوه فقال "ما يصنع القوم الكرام هكذا بأسيرهم: فأحسنوا إليه وجعلوه عند امرأة تحرسه وهي ماوية مولاة هجير بن أبي إهاب أحد الثلاثة الذين اشتروه والآخران عقبة وأبو سروعة أخواه لأمه. وكانت ماوية هي وزوجها موهب مولى آل نوفل يحفظانه. قالت كان خبيب يتهجد بالقرآن فإذا سمعه النساء بكين ورققن عليه فقلت له هل لك من حاجة؟ قال لا إلا أن تسقيني العذب ولا تطعميني ما ذبح على النصب (وهي الحجارة التي يذبحون عليها الأصنام- وتخبريني إذا أرادوا قتلي. فلما أرادوا قتله أخبرته. فو الله ما اكثرث بذلك. وقد خرجوا به من الحرم ليقتلوه خارجه واستأذن منهم بأن يصلي ركعتين فصلاهما، وقال لولا أن تروا أن ما بي جزع من الموت لزدت. وأنشأ يقول:
ولست أبالي حين أقتل مسلما | على أي شق كان الله مضجعي |
وذلك في ذات الإله وإن يشأ | يبارك على أوصال شلو ممزع |
.
قال بعض المفسرين : إن هذه الآيات التفات عن خطاب المنافقين الذين وبخهم في الآيات السابقة أن انهزموا وقالوا ما قالوا إلى خطاب المؤمنين الصادقين. وقال الأستاذ الإمام : الخطاب لمن سمع قول أولئك القائلين من المنافقين ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم وهو أخص مما قبله. والمختار على الطريقة التي جرينا عليها في تفسير الآيات السابقة أن الخطاب فيها عام وجه إلى كل من شهد أحد لتكافلهم وكل يعتبر بها بحسب حاله. ويدل عليه الآيات الآتية بعدها فإنها من تتمة الخطاب وفيها تفصيل لأعمالهم ونياتهم وعناية الله بهم مع تقسيمهم إلى مريد للدنيا ومريد للآخرة كما يأتي قريبا.
قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا ﴾ معناه إن تطيعوا الذين جحدوا نبوة محمد ولم يقبلوا دعوته إلى التوحيد والخير كأبي سفيان ومن معه من مشركي مكة الذين دعاكم مرضى القلوب إلى الرجوع إليهم وتوسيط رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بينكم وبين رئيسهم ( أبي سفيان ) ليطلب لكم منه الأمان، أو الذين كفروا بقلوبهم وآمنوا بأفواههم كعبد الله بن أبي وأصحابه الذين خذلوكم قبل الشروع في الحرب ثم دعوكم بعدها إلى الرجوع إلى دينكم، وقالوا لو كان محمد نبينا لما أصابه ما أصابه.
( يردوكم على أعقابكم ) إلى ما كنتم عليه من الكفر ابتداء أو استدراجا. قال الأستاذ الإمام : أي إن طلبتم الأمان منهم وكانت حالكم معهم حال المغلوب من الغالب يتولوا عليكم وتكونوا معهم أذلاء مقهورين حتى يردوكم عن دينكم ( فتنقلبوا خاسرين ) للدنيا والآخرة، أما الأول فبخضوعكم لسلطانهم وامتهانكم بينهم وحرمانهم مما وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات من استخلافهم في الأرض بالسيادة والملك ومن تمكين دينهم وتبديلهم من بعد خوفهم أمنا، وأما الآخر فبما يمسكم في الآخرة من عذاب المرتدين مع الحرمان مما وعد الله المتقين.
وذكر بعضهم لليهود والنصارى في تفسير هذه الآية لا مناسبة له وقد تبعوا فيه ما روي عن الحسن وابن جريج. والمروي عن السدي أن المراد بالذين كفروا أبو سفيان ومن معه من المشركين، وعن علي أنهم عبد الله بن أبي وحزبه وهم الذين دعوا إلى الارتداد كما تقدم وأشرنا إليه آنفا.
قال بعض المفسرين : إن هذه الآيات التفات عن خطاب المنافقين الذين وبخهم في الآيات السابقة أن انهزموا وقالوا ما قالوا إلى خطاب المؤمنين الصادقين. وقال الأستاذ الإمام : الخطاب لمن سمع قول أولئك القائلين من المنافقين ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم وهو أخص مما قبله. والمختار على الطريقة التي جرينا عليها في تفسير الآيات السابقة أن الخطاب فيها عام وجه إلى كل من شهد أحد لتكافلهم وكل يعتبر بها بحسب حاله. ويدل عليه الآيات الآتية بعدها فإنها من تتمة الخطاب وفيها تفصيل لأعمالهم ونياتهم وعناية الله بهم مع تقسيمهم إلى مريد للدنيا ومريد للآخرة كما يأتي قريبا.
﴿ بل الله مولاكم ﴾ لا ينبغي أن تفكروا في ولاية أبي سفيان وحزبه ولا عبد الله بن أبي وشيعته ولا أن تصغوا لإغواء من يدعوكم إلى موالاتكم فإنهم لا يستطيعون لكم نصرا ولا أنفسهم ينصرون، وإنما الله هو المولى القادر على نصركم إذا هو تولى شوؤنكم بعنايته الخاصة التي وعدكم بها في قوله :﴿ فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير ﴾ [ الأعراف : ٣٩ ] وبين لكم أن سنته قد مضت بأنه يتولى الصالحين ويخذل من يناوؤهم من الكافرين ﴿ أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ [ محمد : ١٠-١١ ].
ومن هنا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم جوابه لأبي سفيان حين قال بعد وقعة أحد التي نزلت هذه الآيات فيها " لنا العزى ولا عزى لكم " إذ أمر صلى الله عليه وسلم بأن يجاب " الله مولانا ولا مولى لكم " كأنه تعالى يذكر المؤمنين بقوله هذا النبي عن سنته وبتذكير الرسول لهم به. وإذا كان هو مولاكم ناصركم إذا قمتم بما شرطه عليكم في ذلك من الإيمان والصلاح ونصر الحق. فهل تحتاجون إلى أحد من بعده ﴿ وهو خير الناصرين ﴾ ؟ فإن من يطلق عليهم لفظ الناصر من الناس إنما ينصر بعضهم بعضا بما أوتوا من القوى وما تيسر لهم من الأسباب. وإنما الله هو الذي آتاهم القوى وسخر لهم الأسباب، وهو القادر بذاته على نصر من شاء من عباده بإيتائهم أفضل ما يؤتي غيرهم من الصبر والثبات والعزيمة وإحكام الرأي وإقامة السنن والتوفيق للأسباب. هذا ما ظهر لنا. ويقول المفسرون في مثل هذه العبارة : اسم التفضيل " خير " فيها على غير بابه لأنه لا خير في أولئك الناصرين الذين يعرض بهم. قال الأستاذ الإمام : لا وجه للاعتراض بأن الكافرين لا خير فيهم. فإن التفضيل إنما هو بالنسبة إلى النصر يعني أن نصر الله لعباده المؤمنين خير من نصر الكافرين لمن ينصرونه من أوليائهم.
قال بعض المفسرين : إن هذه الآيات التفات عن خطاب المنافقين الذين وبخهم في الآيات السابقة أن انهزموا وقالوا ما قالوا إلى خطاب المؤمنين الصادقين. وقال الأستاذ الإمام : الخطاب لمن سمع قول أولئك القائلين من المنافقين ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم وهو أخص مما قبله. والمختار على الطريقة التي جرينا عليها في تفسير الآيات السابقة أن الخطاب فيها عام وجه إلى كل من شهد أحد لتكافلهم وكل يعتبر بها بحسب حاله. ويدل عليه الآيات الآتية بعدها فإنها من تتمة الخطاب وفيها تفصيل لأعمالهم ونياتهم وعناية الله بهم مع تقسيمهم إلى مريد للدنيا ومريد للآخرة كما يأتي قريبا.
﴿ سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا ﴾ المتبادر لنا أن الآية تعليل أو تصوير لكونه تعالى خير الناصرين للمؤمنين الموحدين مبينة لبعض وجوهه تبيينا يقبح لهم الشرك ويزيدهم حبا في الإيمان، وبيانه أنه سيحكم في أعدائهم المشركين سنته العادلة، وهي أنه يلقي في قلوبهم الرعب وهو – بضم العين وبه قرأ ابن عامر والكسائي ويعقوب وبسكونها وبه قرأ الباقون- شدة الخوف التي تملأ القلب بسبب إشراكهم بالله أصناما ومعبودات لم ينزل بها سلطانا أي لم يقم برهانا من العقل ولا من الوحي على ما زعموا من ألوهيتها وكونها واسطة بين الله وبين خلقه، وإنما قلدوا في اتخاذها واعتقادها آباءهم الذين اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل، ومن كان كذلك غير مطمئن في دينه ولا متبع للدليل في اعتقاده فهو دائما عرضة لاضطراب القلب واتباع خطرات الوهم، يعد الوساوس أسبابا ويرى الهواجس مؤثرات وعللا، قياسا على اتخاذه بعض المخلوقات أولياء، وجعلهم وسائط عند الله وشفعاء، واعتياده بذلك أن يرجو ما لا يرجى منه خير ويخاف ما لا يخاف منه ضير. فالإشراك قد يكون سببا طبيعيا لوقوع الرعب في القلب وما كان كذلك فإن الله يسنده إلى نفسه وإن لم يذكر السبب لأنه هو واضع الأسباب والسنن، ولكنه قد صرح به هنا ليكون برهانا على بطلان الشرك وسوء أثره، وهذا الوجه المختار في تفسير الآية يوافق قول من جعل الوعيد فيها عاما وليس كل الكفر يثير الرعب بطبيعته. وإنما تلك طبيعة الشرك. وهو اعتقاد أن لبعض المخلوقات تأثيرا غيبيا وراء السنن الإلهية والأسباب.
وصرح كثير من المفسرين بأن قوله تعالى :﴿ سنلقي ﴾ وعد للمؤمنين أنجزه يوم أحد في أول الحرب، ولا يظهر هذا بغير تأويل ولا تقدير إذا كانت الآية قد نزلت قبل القتال. والظاهر أنها نزلت مع ما قبلها وما بعدها عقب القتال وانصراف المشركين. وقال بعضهم : إن الوعد أنجز في غزوة حمراء الأسد. إذا أراد أبو سفيان ومن معه بعد الانصراف من أحد أن يرجعوا لاستئصال المسلمين فأوقع الله الرعب في قلوبهم لما قال لهم معبد ما قال.
قال الأستاذ الإمام : في الآية وجهان ( أحدهما ) أن إلقاء الرعب خاص بتلك الواقعة، ولو كان عاما لشمل غزوة حنين. ولم يكن الكفار فيها مرعوبين. بل كانوا مستميتين، وكذلك نرى أن كثيرا من الكافرين قد حاربوا ولم يصبهم الرعب وهذا الوجه هو الذي عليه مفسرنا ( الجلال ) وكثير من المفسرين.
( والوجه الثاني ) أن الآية بيان لسنة إلهية عامة وهو الحق وبيانه يتوقف على فهم المعنى المراد من لفظ المؤمنين " ولفظ " الكافرين " وهو ما كان عليه المؤمنون والكافرون في الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات. فأما أولئك المؤمنون فهم الذين كانوا في مرتبة من اليقين والإذعان قد صدقها العمل الذي كان منه بذل الأنفس والأموال في سبيل الإيمان الذين عاتبهم الله ووبخهم على تلك الهفوة التي وقعت من بعضهم بما تقدم وما يأتي في هذا السياق من الآيات. وأما أولئك الكافرون فهم الذين دعوا إلى الإيمان، وأقيم لهم على الدعوة الدليل والبرهان، فجاحدوا وعاندوا وكابروا الحق، وآثروا مقارعة الداعي ومن استجاب له بالسيف، وقعدوا له ولهم كل مرصد. فإذا نظرنا في شرك هؤلاء الكافرين وفي حالهم مع أولئك المؤمنين، نجد أن شأنهم معهم كشأن من يرى نور الحق مع خصمه فيحمله البغي والعدوان على مجاحدته من غير حجة ولا دليل يرتاب فيما هو فيه ويتزلزل، فإذا شاهد الذين دعوه ثابتين مطمئنين يعظم ارتيابه ويهاب خصمه حتى يمتلأ قلبه رعبا منهم. هذا هو شأن الكافرين المعاندين مع المؤمنين الصادقين. كأنه تعالى يقول : هذه هي الطبيعة في المشركين إذا قاوموا المؤمنين فلا تخافوهم ولا تبالوا بقول من يدعوكم إلى موالاتهم والالتجاء إليهم.
قال : وبهذا يندفع قول من يقول : ما بالنا نجد الرعب كثيرا ما يقع في قلوب المسلمين ولا يقع في قلوب الكافرين. فإن الذين يسمون أنفسهم مسلمين قد يكونون على غير ما كان عليه أولئك الذين خوطبوا بهذا الوعد من قوة اليقين والإذعان والثبات والصبر وبذل النفس والمال في سبيل الله وتمني الموت في الدفاع عن الحق. فمعنى المؤمنين غير متحقق فيهم وإنما رعب المشركين مرتبط بإيمان المؤمنين وما يكون له من الآثار. فحال المسلمين اليوم لا يقوم حجة على القرآن لأن أكثرهم قد انصرفوا عن الاجتماع على ما جاء به الإسلام من الحق وما كان عليه سلفهم من الإيمان والصفات والأعمال، فالقرآن باق على وعده ولكن هات لنا المؤمنين الذين ينطبق إيمانهم على آياته ولك من إنجاز وعده في هذه الآية وغيرها ما تشاء : وتلا قوله تعالى :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ﴾ [ النور : ٥٥ ] الآية.
قال : وعلى هذا يكون الإشراك سببا للرعب كسائر الأسباب العادية التي ربط الله بها المسببات كالشرب للري والأكل للشبع. فمن وصل إليه الحق تزلزل الباطل في نفسه لا محالة. أقول : ومن تمام التشبيه أن تكون بعض الوقائع التي لا يقع فيها الرعب في قلوب المشركين. كالوقائع التي يشرب فيها المرء ولا يروى لعارض مرضي فسنن الاجتماع كسنن الأجسام الطبيعية لها عوارض وشروط وموانع.
﴿ ومأواهم النار ﴾ أي هي مكانهم الذي يأوون إليها في الآخرة بعدما يصيبهم من الخذلان في الدنيا ﴿ وبئس مثوى الظالمين ﴾ أي والنار التي يأوون إليها بئس المثوى والمقام لهم بسبب ظلمهم لأنفسهم بالكفر والجحود ومعاندة الحق ومقاومة أهله وظلم الناس بسوء المعاملة.
روى الواحدي عن محمد بن كعب قال : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال ناس من أصحابه : من أين أصبنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله هذه الآية ﴿ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ﴾ الآية. ونقول : نعم إن الناس قالوا ذلك كما يعلم من قوله تعالى :﴿ أو لما أصابتهم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتهم أنى هذا ﴾ [ آل عمران : ١٦٥ ] ؟ وسيأتي. ولكن هذا القول ليس سببا لنزول هذه الآية وحدها، وإنما نزلت مع هذه الآيات الكثيرة بعد تلك الواقعة وما قيل فيها.
الوعد المشار إليه في الآية يحتمل أن يكون المراد به ما تكرر كثيرا في القرآن من نصر الله المؤمنين ونصر من ينصره وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد به ما دل عليه قوله تعالى ﴿ بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم ﴾ [ آل عمران : ١٢٥ ] الآية وقال بعضهم : إن المراد به وعد النبي لهم عند تعبئتهم، واختاره ابن جرير وروى فيه عن السدي أنه قال " لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأحد أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال : لا تبرحوا مكانكم إن رأيتمونا قد هزمناهم، فإنا لن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم، وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جبير. ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه علي بن أبي طالب فقال : والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار أو يعجلني بسيفك إلى الجنة، فضربه علي فقطع رجله فسقط فانكشفت عورته فقال : أنشدك الله والرحم يا بن عم. فتركه. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعلي أصحابُه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه.
ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم وحمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهزموا أبا سفيان. فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع. فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر : فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله ثم حمل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تنادوا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم : ا ه أي قتلوا منهم سبعين كما هو معلوم من الروايات المفصلة.
وإنما ذكرنا هنا رواية السدي بطولها لما فيها من التصريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرماة " فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " والتفصيل الذي يعين على فهم الآية وغيرها ومنها أن الرماة لم يعصوا كلهم وإنما أولئك بعض عامتهم وأما الخاصة الراسخون في الإيمان العارفون بالواجب فقد ثبتوا. والمختار عندنا أن المراد بوعد الله هنا ما تكرر في القرآن وإنما قال النبي ما قال للرماة عملا بالقرآن وتأولا له فإنه تعالى قرن الوعد فيه بشروط لا تتم إلا بالطاعة والثبات.
فملخص تفسير الآية هكذا ( ولقد صدقكم الله وعده ) إياكم بالنصر حتى في هذه الواقعة ( إذ تحسونهم ) أي المشركين أن تقتلونهم قتلا ذريعا ( بإذنه ) تعالى أي بعنايته وتأييده لكم ( حتى إذا فشلتم ) ضعفتم في الرأي والعمل فلم تقووا على حبس أنفسكم عن الغنيمة ( وتنازعتم في الأمر ) فقال بعضهم ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون ؟ وقال الآخرون لا نخالف أمر الرسول ( وعصيتم ) رسولكم وقائدكم بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه يحمون ظهوركم بنضح المشركين بالنبل ( من بعد ما أراكم ما تحبون ) من النصر والظفر فصبرتم على الضراء ولم تصبروا في السراء ( منكم من يريد الدنيا ) كالذين تركوا مكانهم وذهبوا وراء الغنيمة ليصيبوا منها ( ومنكم من يريد الآخرة ) كالذين ثبتوا من الرماة مع أميرهم عبد الله بن جبير وهم نحو عشرة وكان الرماة خمسين رجلا. والذين ثبتوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم ثلاثون رجلا أي صدقكم وعده ونصركم على قلتكم وكثرة المشركين واستمر هذا النصر إلى أن فشلتم وتنازعتم وعصيتم فعندما وصلتم إلى هذه الغاية لم تعودوا مستحقين لهذه العناية، لمخالفتكم لسننه في استحقاق النصر الذي وعد به أهل الثبات والصبر فعلى هذا تكون " حتى " للغاية و " إذا " في قوله " حتى إذا فشلتم " ليست للشرط وإنما هي بمعنى الحين والوقت. هذا هو المختار. والوجه الثاني : أنها للشرط وجوابها محذوف تقديره عند البصريين " منعكم نصره " أو نحوه.
وقال الأستاذ الإمام : إن الحكمة في حذف الجواب هنا على القول به هي أن تذهب النفس في تقديره كل مذهب، ومثل هذا الحذف لا يأتي في الكلام البليغ إلا حيث ينتظر الجواب بكل شغف ولهف ولك أن تجعل تقديره : امتحنكم بالإدالة منكم ليمحصكم ويميز المخلصين والصادقين منكم. أقول : وهذا هو صريح قوله ( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) وأبو مسلم قد قال إن هذه الجملة هي جواب " إذا " ولكن اقترن جواب الشرط بثم غير معروف لنا في كلام العرب.
وحاصل المعنى انه بعد أن صدقكم وعده فكنتم تقتلونهم بإذنه ومعونته قتل حس واستئصال صرفكم عنهم بفشلكم وتنازعكم وعصيانكم وحال بينكم وبين تمام النصر ليمتحنكم بذلك أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ويختبر أو لأجل أن يكون ذلك ابتلاء واختبارا لكم يمحصكم به ويميز بين الصادقين والمنافقين ويزيّل بين الأقوياء والضعفاء، كما علم من الآيات السابقة. وقد أسند الله تعالى صرف المؤمنين عن المشركين إلى نفسه هنا باعتبار غايته الحميدة في تربيتهم وتمحيصهم الذي يعدهم للنصر الكامل والظفر الشامل في المستقبل، وأضاف ما أصابهم إليهم في قوله الذي سيأتي في السياق " قل هو من عند أنفسكم " باعتبار سببه وهو ما كان منهم من الفشل والتنازع والعصيان. وقد وعد بعضهم إسناد الصرف إليه هنا مشكلا لا سيما على مذهب المعتزلة الذين تكلفت علماؤهم في تخريجه تكلفا لا حاجة إليه، إذ لا إشكال فيه ولكن المذاهب والاصطلاحات، هي التي تولد لأصحابها المشكلات.
قال تعالى :﴿ ولقد عفا عنكم ﴾ بذلك التمحيص الذي محا أثر الذنب من نفوسكم فصرتم كأنكم لم تفشلوا ولم تتنازعوا ولم تعصوا وقد ظهر أثر هذا العفو في حمراء الأسد كما علم مما مر وما يأتي ﴿ والله ذو فضل على المؤمنين ﴾ فلا يذرهم على ما هم عليه من ضعف يلم ببعضهم. أو تقصير يهبط بنفوس غير الراسخين منهم، حتى يبتلي ما في قلوبهم، ويمحص ما في صدورهم، فيكونوا من المخلصين.
قال الأستاذ الإمام : الغم هو الألم الذي يفاجئ الإنسان عند نزول المعصية وأما الحزن فهو الألم الذي يكون بعد ذلك ويستمر زمنا، أقول والمتبادر أن الغم ألم أو ضيق في الصدر يكون في الأمر الذي يسوءك وإن لم تتبين حقيقته أو سببه أو لا تدري كيف يكون المخرج منه فإن المادة تدل على معنى الخفاء يقولون : غم الشيء إذا أخفاه. وغم عليهم الهلال لم يظهر ولم ير. ورجل أغم الوجه : كثير شعره. ومنه قوله تعالى :﴿ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ﴾ [ يونس : ١٧ ] وفي الأساس " وإنه لفي غمة من أمره : إذا لم يهتد للخروج منه ".
﴿ لكيلا تأسوا على ما فاتكم ﴾ أي لأجل ان لا تحزنوا بعد هذا التأديب والتمرين على ما فاتكم من غنيمة ومنفعة ﴿ ولا ما أصابكم ﴾ من قرح ومصيبة، فإن التربية إنما تكون بالعمل والتمرن الذي به يكمل الإيمان وترسخ الأخلاق قال في الكشاف : ويجوز أن يكون الضمير في ﴿ فأثابكم ﴾ للرسول أي فآساكم في الاغتمام وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يثربكم على عصيانكم ومخالفتكم لأمره وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم لئلا تحزنوا على ما فاتكم من نصر الله ولا على ما أصابكم من غلبة العدو. ا ه.
﴿ والله خبير بما تعملون ﴾ لا يخفى عليه شيء من دقائقه وأسبابه ولا من نيتكم فيه وعاقبته فيكم. ومن بلاغة هذه الجملة في هذه الموضع أن كل واحد من المخاطبين يتذكر عند سماعها أو تلاوتها أن الله تعالى مطلع على عمله عالم بنيته وخواطره فيحاسب نفسه، فإن كان مقصرا تاب من ذنبه وإن كان مشمرا ازداد نشاطا خوف الوقوع في التقصير وأن يراه الله حيث لا يرضى. قال الأستاذ الإمام : يقول فلا تعتذروا عن أنفسكم ولا تخادعوها فإن الخبير بأعمالكم المحيط بنفوسكم لا يخفى عليه من أمركم خافية، وإنما المعول على علمه وخبره لا على أعذاركم وتأويلكم لأنفسكم.
وأما النعاس يوم أحد فقد قيل إنه كان في أثناء الحرب وقيل إنه كان بعدها وقد اتفق المفسرون وأهل السير على أن المؤمنين قد أصابهم يوم أحد شيء من الضعف والوهن لما أصابهم من الفشل والعصيان وقتل طائفة من كبارهم وشجعانهم فكانوا بعد انتهاء الواقعة قسمين : فقسم منهم ذكروا ما أصابهم فعرفوا انه كان بتقصير من بعضهم وذكروا الله ووعده بنصرهم فاستغفروا لذنوبهم ووثقوا بوعد ربهم ( راجع آية ١٣٥ ) ﴿ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله ﴾ وعلموا أنهم إن كانوا قد غلبوا في هذه المرة فإن الله سينصرهم في غيرها حيث لا يعودون إلى مثل ما وقع منهم فيها من الفشل والتنازع وعصيان قائدهم ورسولهم، فأنزل الله عليهم النعاس أمنة أو الأمنة نعاسا، حتى يستردوا ما فقدوا من القوة بما أصابهم من القرح وما عرض لهم من الضعف، والنوم للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة كبيرة وعناية من الله عظيمة، وقد كان من أثر هذا الاطمئنان في القلوب، والراحة للأجسام والتسليم للقضاء، أن سهل على هؤلاء المؤمنين اقتفاء أثر المشركين بعد انصرافهم وعزموا على قتالهم في حمراء الأسد عندما دعاهم الرسول إلى ذلك فاستجابوا له مذعنين.
قال : واتفق الرواة أيضا على أن كثيرا منهم كانوا مثقلين بالجراح فلم يقدروا على اقتفاء أثر المشركين فذلك قوله تعالى :﴿ وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ﴾ فهذه طائفة من المؤمنين الضعفاء ولا حاجة إلى جعلها في المنافقين كما قيل، فإن هؤلاء سيأتي الكلام فيهم. وما من أمة إلا وفيها الضعفاء والأقوياء في الإيمان وغيره. وقد بين ظنهم بقوله :﴿ يقولون هل لنا من الأمر من شيء ﴾ فنلام ان ولينا وغلبنا ؟ يعنون أنه ليس لهم من أمر النصر وعدمه شيء، فإنهم فهموا مما وقع يوم بدر أن النصر وحقية الدين متلازمان وعجبوا مما وقع في أحد كأنه مناف لحقية الدين، وهذا خطأ عظيم، أي فإن نصر الله لرسله لا يمنع أن تكون الحرب سجالا والعاقبة للمتقين. أقول : وسيأتي بيان ما جرى عليه جمهور المفسرين مخالفا لهذا.
﴿ قل إن الأمر كله لله ﴾ لا أمر النصر وحده، أي إن كل أمر يجري بحسب سنته تعالى في خلقه نظامه الذي ربط فيه الأسباب بالمسببات ومنه نصر من ينصره من المؤمنين ﴿ يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا ﴾ أي لو كان أمر النصر والظفر في أيدينا لما وقع فينا القتل ههنا، يقررون رأيهم، ويستدلون عليه بما وقع لهم، غافلين عن تحديد الآجال ولذلك أمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله :﴿ قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ﴾ أي لو كنتم وادعين في بيوتكم في سلم وأمان لخرج من بينكم من انتهت آجالهم، وثبت في علم الله أنهم يقتلون كما يثبت المكتوب في الألواح والأوراق إلى حيث يقتلون ويسقطون من البراز- الأرض المستوية- فتكون مصارعهم ومضاجع الموت لهم، فقتل من قتل لم يكن لأن الأمر ليس كله بيد الله بل لأن آجالهم قد جاءت كما سبق في علم الله.
﴿ وليبتلى الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ﴾ أي يقع ذلك لأجل أن يكون القتل عاقبة من جاء أجلهم منكم ولأجل أن يمتحن الله نفوسكم فيظهر لكم ما انطوت عليه من ضعف وقوة في الإيمان، ويطهرها حتى تصل إلى الدرجات العلى من الإيقان. وقد تقدم تفسير الابتلاء والتمحيص في هذا السياق ﴿ والله عليم بذات الصدور ﴾ أي بالسرائر والوجدانات الملازمة للصدور حيث القلوب المنفعلة بها، والمنبسطة أو المنقبضة بتأثيرها، وقد يخفى ذلك على أصحابها فينخدعون للشعور العارض لها الذي لم يرسخ بالتجارب والابتلاء كما انخدع الذين تمنوا الموت من قبل أن يلقوه.
هذا وإن جمهور المفسرين قد جروا على خلاف ما اختاره الأستاذ الإمام في هذه الطائفة، فقالوا إن المراد بها المنافقون، فهم الذين كانت تهمهم أنفسهم إذ كان هم المؤمنين محصورا فيما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع لبعضهم من التقصير، وكان في غشيان النعاس ونزول الأمنة على المؤمنين من دونهم معجزة ظاهرة لأنه جاء على غير العادة، وهم الذين يظنون في الله ظن مشركي الجاهلية كظنهم أن ظهور المشركين دليل على بطلان دعوة النبي والمؤمنين. وهم الذين يخفون ما في أنفسهم ما لا يبدونه للنبي صلى الله عليه وسلم من الكفر به ويحتجون عليه بألسنتهم بما يعتذرون به عن أنفسهم. ولكن يعارض فهمهم هذا كون الخطاب قبله وبعده للمؤمنين والكلام عن المنافقين سيأتي بعده، وكذا قوله تعالى :﴿ وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ﴾ فإن المصائب إنما تكون بعد الابتلاء والاختبار تمحيصا للمؤمنين كما قال :﴿ ليمحص الله الذين آمنوا ﴾ وبأسا وضعفا للكافرين كما قال :﴿ ويمحق الكافرين ﴾ وتقدم بيانه، إلا أن يجعلوا الخطاب بقوله :﴿ وليبتلي ﴾ لمن خوطبوا بقوله :" ولقد صدقكم الله وعده " ودون من خوطبوا بقوله :﴿ قل لو كنتم في بيوتكم ﴾ إن كان هذا هو الأقرب في الذكر، ولكن هذا تفكيك وتشويش لا ترضاه بلاغة القرآن.
ثم إنه قد يقال : إن ظاهر الآية فيما تحكيه عن الذين قد أهمتهم أنفسهم يوهم المحال على الوجه المختار عند الأستاذ الإمام، من أنهم ضعفاء الإيمان من المؤمنين، إذ يكون مغزى قولهم : إنه ليس لهم من الأمر من شيء عين مغزى قوله تعالى في جوابهم " إن الأمر كله لله " اعتذروا عن تقصيرهم بأنه ليس لهم من الأمر شيء، وأنه لو كان لهم منه شيء لما قتلوا هناك، يعني أن الأمر كله بيد الله وتصرف مشيئته وحده، وهذا عين الإيمان الذي يثبته القرآن، فكيف جعله من ظن الجاهلية ؟ ونقول : إنه تعالى قد بين لنا ظن الجاهلية في قوله :﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم ألا تخرصون ﴾ [ الأنعام : ٨ ] وقد قال قبل هذه الآية :﴿ ولو شاء الله ما أشركوا ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ] وهو يشبه قوله لهذه الطائفة التي ظنت مثل ظنهم " إن الأمر كله لله " فالظاهر أن الذي أثبته في الموضعين هو مثل الذي أنكره عليهم وسماه ظنا لا يوثق به في هذا المقام الذي لا يقبل فيه إلا العلم اليقين. وقال في سورة يس :﴿ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ؟ إن أنتم إلا في ضلال مبين ﴾ [ يس : ٤٧ ] فقد جعل تبرؤ الناس من الكسب والعمل واعتذارهم بمشيئة الله وتفويض الأمر إليه من شأن المشركين والكفار الذين يتخبطون في دياجي الظن ويهيمون في أودية الضلال، مع إثباته لكون الأمر كله لله وحصول كل شيء بمشيئته. وقد نظر في كل طرف من الطرفين من رآه يوافق مذهبه حتى جعل الفخر الرازي الآية التي نحن بصدد تفسيرها هي عين ما عليه الخلاف بين الأشاعرة والمعتزلة في مسألة أفعال العباد وجعل الحجة فيها للأشاعرة.
وتحرير الكلام في هذه المسألة إنه تعالى بين لنا في كتابه ثلاث حقائق وبين لنا ضلال الذين ضلوا فيها واحتجوا بواحدة على بطلان أخرى.
الحقيقة الأولى : إنه تعالى هو خالق كل شيء الذي بيده ملكوت كل شيء وبمشيئته يجري كل شيء، فلا قاهر له على شيء وهو القاهر فوق كل شيء.
الحقيقة الثانية : إن خلقه وتدبيره إنما يجري بحسب مشيئته وحكمته على سنن مطردة ومقادير معلومة، كما أشرنا إلى ذلك في تفسير ﴿ قد خلت من قبلكم سنن ﴾ وفي تفسير كثير من الآيات التي تذكر فيها المشيئة أو السنن الإلهية.
الحقيقة الثالثة : إن في جملة سننه في خلقه وقدره في تدبير عباده أن الإنسان خلق ذا علم ومشيئة وإرادة وقدرة فيعمل بقدرته وإرادته ما يرى بحسب ما وصل إليه علمه وشعوره أنه خير له. والآيات الناطقة بأن الإنسان يعمل وبعمله تناط سعادته وشقاوته في الدنيا والآخرة كثيرة جدا. وهو ليس في ذلك معارضا لمشيئته الله ولا مزيلا لها، بل مشيئته تابعة لمشيئته الله ومظهر من مظاهرها كما قال :﴿ وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ﴾ [ الإنسان : ٣ ] و [ التكوير : ٢٩ ] وقد جرت سنته بأن يشاء لنا أن نعمل عندما يترجح في علمنا أن العمل خير من تركه وأن نترك عندما يترجح في عملنا أن الترك خير من الفعل كما هو معلوم لكل من يعرف ما هو الإنسان.
وإننا نرى الكتاب العزيز يذكر بعض هذه الحقائق الثلاث في بعض الآيات ويسكت عن الأخرى لأن المقام يقتضي ذلك ولكل مقام مقال، ولكنه ينكر على من يجحد شيئا منها جحوده ويبين للناس خطأه وضلاله، كما بين خطأ الذين قالوا " لو شاء الله ما أشركنا " في موضع وبين خطأ من ينكر مشيئته تعالى في موضع آخر. فهو ينكر على من ينكر ما آتاه الله من المواهب والقوى ويكفر له نعمة العلم والإرادة والقدرة لا سيما في مقام الاعتذار عن تقصيره في شكر هذه القوى باستعمالها في الخير والحق، كما ينكر من يغفل عن كونه تعالى هو المنعم بهذه القوى التي يجلب بها الخير عندما تبطره النعمة فينسبها لنفسه وحده وينسى ذكر ربه وشكره. وقد جمع تعالى بين الأمرين في بعض المواضع كقوله في سورة النساء :﴿ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة، وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله، فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا ﴾ [ الناس : ٢٨-٢٩ ].
وقد حرصوا بأن هذه الآيات نزلت في قوم
أما كون الاستزلال قد كان ببعض ما كسبوا فقد قيل : إن الباء في قوله ( ببعض ) على أصلها، وأن الزلل الذي وقع هو عين ما كسبوا من التولي عن القتال. وقيل إنها للسببية، أي إن بعض ما كسبوا قد كان سببا لزلتهم، ولما كان السبب متقدما دائما على المسبب وجب أن يكون ذلك البعض من كسبهم متقدما على زللهم هذا ومفضيا إليه. فإن كان المراد بالذين تولوا الرماة جاز أن يكون المراد بالزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ما كان من الهزيمة والفشل بعد توليهم عن مكانهم طمعا في الغنيمة، ويكون هذا التولي هو المراد ببعض ما كسبوا. ولا يصح هذا التأويل على الوجه الآخر القائل بأن الذين تولوا هم جميع الذين أدبروا عن القتال إلا إذا أريد ببعض ما كسبوا : ما كسب الرماة منهم وهم بعضهم، فيكون المعنى إن الذين تولوا منكم مدبرين عن القتال إنما استزلهم الشيطان بسبب بعض ما كسبت طائفة منهم وهم بعض الرماة، فإنه لولا ذلك لما كر المشركون بعد هزيمتهم وجاؤوا المؤمنين من ورائهم حتى أدهشوهم وهزموهم.
وللسببية وجه آخر ينطبق على كل من القولين في الذين تولوا وهو أن توليهم عن القتال لم يكن إلا ناشئا عن بعض ما كسبوا من السيئات من قبل، فإنها هي التي أحدثت الضعف في نفوسهم حتى أعدتها إلى ما وقع منها. ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى :﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ﴾ [ الشورى : ٣٠ ] فهو بمعنى ما هنا، إلا أنه هنالك عام وهنا خاص بالذين تولوا يوم أحد، فالآيتان واردتان في بيان سنة من سنن الله تعالى في أخلاق البشر وأعمالهم، وهي أن المصائب التي تعرض لهم في أبدانهم وشؤونهم الاجتماعية إنما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، وأن من أعمالهم ما لا يترتب عليه عقوبة تعد مصيبة وهو المعفو عنه، أي الذي مضت سنة الله تعالى بأن يعفى ويمحى أثره من النفس، فلا تترتب عليه الأعمال وهو بعض اللمم والهفو الذي لا يتكرر ولا يصير ملكة وعادة. وقد عبر عنه في الآية التي هي الأصل والقاعدة في بيان هذه السنة بقوله :﴿ ويعفو عن كثير ﴾ ويؤيد ذلك قوله تعالى :﴿ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ﴾ [ الأنعام : ٧١ ] أي بجميع ما كسبوا فإن " ما " من الكلمات التي تفيد العموم. وقد بينا هذه السنة الإلهية في مواضع كثيرة من التفسير وجرينا على أنها عامة في عقوبات الدنيا والآخرة فجميعها آثار طبيعية للأعمال السيئة، وقد اهتدى إلى هذه السنة بعض حكماء الغرب في هذا العصر.
أما قوله تعالى :﴿ ولقد عفا الله عنهم ﴾ فالعفو فيه غير العفو في آية الشورى ذلك عفو عام وهذا عفو خاص. ذلك عفو يراد به أن من سنة الله في فطرة البشر أن تكون بعض هفواتهم وذنوبهم غير مفضية إلى العقوبة بالمصائب في الدنيا والعذاب في الآخرة، وهذا العفو خاص بالمؤمنين يراد به ان ذنبهم يوم أحد الذي كان من شأنه يعاقب عليه في الدنيا والآخرة قد كانت عقوبته الدنيوية تربية وتمحيصا، وعفا الله عن العقوبة عليه في الآخرة، ولذلك قال :﴿ فإن الله غفور رحيم ﴾ لا يعجل بتحتيم العقاب. ومن آيات مغفرته وحلمه بهم توفيقهم للاستفادة مما وقع منهم وإثابتهم الغم الذي دفعهم إلى التوبة حتى تمحص ما في قلوبهم واستحقوا العفو عن ذنوبهم.
لما بين الله سبحانه وتعالى للمؤمنين ان هزيمة من تولى منهم يوم أحد كانت بوسواس من الشيطان استزلهم به فزلوا أراد أن يحذرهم من مثل تلك الوسوسة التي أفسد الشيطان بها قلوب الكافرين، فقال :
﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غزى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا ﴾ أي لا تكونوا مثل هذا الفريق من الناس، وهم الذين كفروا وقالوا لأجل إخوانهم، أو في شأن إخوانهم في النسب أو المودة والمذهب، إذا هم ضربوا في الأرض- أي سافروا فيها للتجارة والكسب- فماتوا، أو كانوا غزى أي غزاة- وهو جمع لغاز من الجموع النادرة ومثله عفَّى جمع عاف- سواء كان غزوهم في وطنهم أو بلاد أخرى فقتلوا : لو كانوا مقيمين عندنا ما ماتوا وما قتلوا. أي ما مات أولئك المسافرون. وما قتل أولئك الغازون، وقرن هذا القول بالكفر مشعر بأن مثله لا ينبغي أن يصدر عن مؤمن لأنه إنما يصدر من الكافرين وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : إن هذا القول مخالف للمعقول مصادم للوجود، فإن من مات أو قتل فقد انتهى أمره وصار قول ( لو كان كذا ) عبثا لأن الواقع لا يرتفع، والحسرة على الفائت لا تفيد، ومن شأن المؤمن أن يكون صحيح العقل سليم الفطرة، ولذلك جعل سبحانه الخطاب في كتابه موجها إلى العقلاء، وبين أن أولي الألباب هم الذين يعقلونه ويتذكرون به ويقبلون هدايته، وقال فيمن لا إيمان لهم :﴿ ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل، أولئك هم الغافلون ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ].
ثانيهما : إن هذا القول يدل على جهل قائله بالدين أو جحوده، فإن الدين يرشد إلى تحديد الآجال وكونها بإذن الله كما تقدم قريبا في تفسير قوله تعالى :﴿ و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا ﴾ فارجع إليه.
والمشهور في كتب التفسير المتداولة أن المراد بالذين كفروا المنافقون الذين تقدم ذكرهم في الآيات : وقال الأستاذ الإمام : يقول بعض المفسرين إن هذا القول وقع من بعض الكفار فعلا فنهى الله المؤمنين أن يقولوا مثله. والمختار أن هذا قول لا يصدر إلا عن كافر فلا يليق مثله بالمؤمنين. وقد سئل في هذا المقام عن مسألة القضاء والقدر، فقال إنني أجيب السائل بمثل ما أجبت به من سألني عن ذلك من غير المسلمين، إذ قال إن هذه العقيدة هي السبب في تأخر المسلمين عن غيرهم من الأمم، فإنهم ينكرون الأسباب ولا يحفلون بها، فقلت له : إن ما ينتقد على المسلمين من ذلك لا يرجع منه شيء إلى الإسلام الخالص، فما قرره فهو الحق الواقع في نفسه الذي لا يمكن لمؤمن ولا ملحد إنكاره. وبين ذلك بذكر أن القضاء عبارة عن تعلق العلم الإلهي بالشيء والعلم انكشاف لا يفيد الإلزام، والقدر وقوع الشيء على حسب العلم، والعلم لا يكون إلا مطابقا للواقع وإلا كان جهلا، أو الواقع غير واقع، وهو محال. وهنا أمران كل منهما ثابت في نفسه : أحدهما أن الله خالق كل شيء وثانيهما أن هذا النوع من المخلوقات الذي يسمى " الإنسان " يعمل أعماله بقصد واختيار، ولكنه غير تام القدرة ولا الإرادة ولا العلم، فقد يعزم على العمل ثم تنفسخ عزيمته لتغير علمه بالمصلحة أو لعجزه عن تنفيذ ما عزم عليه مع بقاء علمه بأنه هو الموافق للمصلحة وذلك لمرض يلم به، أو مانع يحول دون ما أراده، وهذا يقع من الناس كل يوم، ولكنهم قد يغفلون عنه ويغترون بما ينفذ من عزائمهم فيظنون أن الإنسان يفعل ما يشاء.
قال : جاء مصر رجلان من الأوروبيين١ الذين جرت عادة أمثالهم بأن يحددوا مدة سفرهم ومقامهم في كل بلد يزورونه قبل الشروع في السفر، كان مما كتباه في برنامج سفرهما أنهما يقيمان بمصر ستة أيام، فمرض أحدها فاضطر إلى أن يمد في مدة السفر بغير حساب. وهكذا شأن الإنسان : يعزم فيعمل، أو يعجز أو يموت قبل التمكن من العمل، فاختياره في أعماله وقدرته عليها ومعرفته الأسباب وقيامها به، كل ذلك له حدود لا يتجاوزها، فهو لا يحيط علما بأسباب الموت ولا يقدر على اجتناب كل ما يعمل من أسبابه، وما كل سبب يتعرض له يقع، فجميع الذي يصطلون بنار الحرب يعرضون أنفسهم للقتل، وقد يسلم أكثرهم ويقتل أقلهم.
أقول : ويؤخذ من هذا كله أمران أحدهما أن الشيء متى وقع يعلم بعد وقوعه إن لم يكن منه بد. وثانيهما أن الإنسان إذا كان يؤمن بأن لله تعالى عناية به وقد يلهمه إذا هو توجه إليه علم ما يجهل من أسباب سعادته ويوفقه إلى ما يعجز عنه من الأسباب بمحض حوله وقوته، فإنه بهذا الإيمان يكون مع أخذه بالأسباب أنشط في العمل ؛ عند عجزه عنها بعد اليأس والكسل.
﴿ ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم ﴾ أي لا تكونوا يا معشر المؤمنين مثل أولئك الكافرين في اعتقادهم ولا تقولوا مثل قولهم الناشئ عن ذلك الاعتقاد ليكون ذلك منكم سببا لتحسرهم وغمهم بحسب سنة الله تعالى ؛ فإنهم إذا رأوكم أشداء أقوياء لا يضعفكم فقد من فقد منكم، ولا يقعد بكم عن القتال خوف أن يصيبكم ما أصاب أولئك الذين قتلوا ؛ فإنهم يحزنون ويتحسرون، هذا وجه في التعليل متعلق بالنهي نفسه وملخص المعنى عليه : لا تكونوا مثلهم لأجل أن يتحسروا بامتيازكم عليهم إذا يضعفون بفقد من يفقد منهم وأنتم لا تضعفون.
وفيه وجه آخر متعلق بقول الذين كفروا باعتبار الاعتقاد الفاسد الذي نشأ عنه، والمعنى : لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا فيمن ماتوا أو قتلوا ما قالوا، ليكون أثر ذلك القول مع الاعتقاد وعاقبته حسرة في قلوبهم على من فقد من إخوانهم، يزيدهم ضعفا ويورثهم ندما على تمكينهم إياهم من التعرض لما ظنوه سببا ضروريا للموت، فإنكم إذا كنتم مثلهم في ذلك يصيبكم من الحسرة مثل ما يصيبهم، وتضعفون عن القتال كما يضعفون، فلا يكون لكم امتياز عليهم بالبصيرة النيرة التي يرى صاحبها أن الذي وقع هو ما لا بد منه فلا يتحسر عليه، ولا بالإيمان الذي لا يزيد ذلك صاحبه إلا إيمانا وتسليما.
( والله يحيي ويميت ) أي والحقيقة أن الله تعالى يحيي من يشاء بمقتضى سننه في بقاء أسباب الحياة وإن طوى بالأسفار بساط كل بر، ونشر شراع كل بحر، وخاض معامع الحروب، وصارع الأهوال والخطوب، ويميت من يشاء بمقتضى سننه في أسباب الموت وإن اعتصم في الحصون المشيدة ؛ وحرس بالجنود المجندة، ( والله بما تعملون بصير ) فلا يخفى عليه ما تكنون في أنفسكم من الاعتقاد، وما يؤثر في قلوبكم من الأقوال والأحوال ؛ فاحرصوا على أن يكون ترككم لأقوال الكفار ناشئا عن طهارة نفوسكم من وساوسهم.
وقال الأستاذ الإمام : أي إن الحياة والممات بيد الله تعالى وهو ممد الموجودات كلها بما يحفظ وجودها والعالمين بحياتهم وموتهم فلا يليق بالعاقل أن يقول لمن أماته لو كان في مكان كذا لما مات بل كانت حياته أطول قال : وهناك علة أخرى من علل النهي عن مثل ذلك القول وهي ما أفاده قوله تعالى :﴿ ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ﴾.
أقول : وهذا هو المقصود هنا أولا وبالذات، لأن السياق في الحرب. ولذلك قدم ذكر القتل على الموت. فإن القتل هو الذي يقع كثيرا في الحرب والموت يكون فيها أقل، فذكره تبعا، بخلاف الآية الآتية.
وحاصل معنى الآية : أن رب العزة يخبرنا مؤكدا خبره بالقسم بأن من يقتل في سبيله أو يموت، فإن ما ينتظره من مغفرةٍ تمحو ما كان من ذنوبه وسيئاته، ورحمةٍ ترفع درجاته خير له مما يجمع الذين يحرصون على الحياة ليتمتعوا بالشهوات واللذات. إذ لا يليق بالمؤمنين الذين يؤثرون مغفرة الله ورحمته الدائمة على الحظوظ الفانية أن يتحسروا على من يقتل منهم أو يموت في سبيل الله، ويودوا لو يكونوا خرجوا من دورهم إلى حيث لقوا حتفهم. فإن ما يلقونه بعد هذا الحتف خير مما كانوا فيه قبله. وبهذا الذي بينته تظهر نكتة الخطاب في أول الآية والغيبة في آخرها. وكذا تنكير مغفرة ورحمة.
قال الأستاذ الإمام، في معنى الحشر إلى الله تعالى : إنه ليس لله تعالى مكان يحصره فيحشر الناس ويساقون إليه، ولكن الإنسان يغفل في هذه الدار عن الله فينسى هيبته وجلاله، وينصرف عن استشعار عظمته وسلطانه، لاشتغاله بدفع المكاره عن نفسه وجلب اللذات والرغائب لها. وأما ذلك اليوم الذي يحشر له الناس فلا اشتغال فيه بتقويم بنية، ولا التمتع بلذة، ولا مدافعة عدو ؛ ولا مقاومة مكروه، ولا بتربية نفس ؛ ولا تنزيه حس، وإنما يستقبل فيه كل أحد ما يلاقيه من الله تعالى جزاء على عمله لا يشغله عنه شيء، فيكون بذلك راجعا عن كل شيء كان فيه إلى الله تعالى محشورا مع سائر الناس إليه لا يشغله عنه شيء، قال : وإذا كان مصير كل من يموت أو يقتل إلى الله تعالى مهما كان سبب موته أو قتله، ومهما طالت حياته، فالاشتغال بذكر سبب هذا المصير ومبدأه لا يفيد، وإنما الذي يفيد هو الاهتمام بذلك المستقبل والاشتغال بالاستعداد له، وذلك دأب العقلاء من المؤمنين.
الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بمعاملتهم يقول تعالى لنبيه :﴿ فبما رحمة من الله لنت لهم ﴾ قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح : الفاء للتعقيب لأن الكلام في واقعة خالف النبي فيها بعض أصحابه فكان لذلك من الفشل وظهور المشركين ما كان، حتى أصيب النبي صلى الله عليه وسلم مع من أصيب فكان من لينه في معاملتهم ومخاطبتهم ومن رحمته بهم أن صبر وتجلد فلم يتشدد في عتب ولا توبيخ اهتداء بكتاب الله تعالى، فقد أنزل الله عليه آيات كثيرة في الواقعة بين فيها ما كان من ضعف في المسلمين وعصيان وتقصير حتى ما كان متعلقا بالظنون الفكرية والهموم النفسية ولكن مع العتب اللطيف المقرون يذكر العفو والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة وفوائد المصائب وقد كان خُلقه صلى الله عليه وسلم القرآن١ كما ورد في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها.
أقول : كأنه يقول إنه كان من أصحابك يا محمد ما كان، كما دلت عليه الآيات وهو مما يؤاخذون عليه فلنت لهم وعاملتهم بالحسنة، وإنما لنت لهم بسبب رحمة عظيمة أنزلها الله على قلبك وخصك بها فعمت الناس فوائدها وجعل القرآن ممدا لها بما هداك إليه من الآداب العالية والحكم السامية التي هونت عليك المصائب وعلمتك منافعها وحكمها وحسن عواقبها للمعتبر بها :﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾ لأن الفظاظة وهي الشراسة، والخشونة في المعاشرة وهي القسوة والغلظة وهما من الأخلاق المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله ورجيت فواضله بل يتفرقون، ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه، والتحلق حواليه، وإذا لفاتتهم هدايتك، ولم تبلغ قلوبهم دعوتك.
﴿ فاعف عنهم واستغفر لهم ﴾ فلا تؤاخذهم على ما فرطوا واسأل الله تعالى أن يغفر لهم ولا يؤاخذهم أيضا، فبذلك تكون محافظا على تلك الرحمة التي خصك الله بها ومداومة لتلك السيرة الحسنة، التي هداك الله إليها :﴿ وشاورهم في الأمر ﴾ العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم، والخوف والأمن ؛ وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الواقعة ( غزوة أحد ) وإن اخطؤوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم ( المشاورة ) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر. قال الأستاذ الإمام : ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أمر الله تعالى نبيه أن يقرر سنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل فكان صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه بغاية اللطف ويصغي إلى كل قوله ويرجع عن رأيه إلى رأيهم. وليس عندي عن الأستاذ في هذه المسألة غير هذا.
وأقول : الأمر المعرّف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية في سورة الشورى المكية وهي قوله تعالى في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين :( وأمرهم شورى بينهم ) [ الشورى : ٣٨ ] فالمراد بالأمر أمر الأمة الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة، لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي، إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد والعبادات والحلال والحرام مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من وضع البشر، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا بعده. وقد روي أن الصحابة عليهم الرضوان كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النبي صلى الله عليه وسلم في مسائل الدنيا إلا بعد العلم بأنه قاله عن رأي لا عن وحي، كما فعلوا يوم بدر إذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم أدنى ماء من بدر فنزل عنده، فقال الحباب بن المنذر بن الجموح : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة ؟ فقال " بل هو الرأي والحرب والمكيدة " فقال يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه الخ ما قال فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي " وعمل برأيه.
أقام النبي صلى الله عليه وسلم هذا الركن ( الشورى ) في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب ؛ فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون ثم الأنصار بالموافقة. واستشارهم جميعا يوم أحد أيضا كما تقدم. وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر من أمور الأمة إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه فينفذه حتما، ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الأماكن البعيدة عن المدينة. وكان في كل قبيلة أو قرية من أولئك المسلمين رجال أهل المكانة والرأي يمكن أن يقال إنه قد احتيج إلى وضع قاعدة أو نظام للشورى يبين فيه طرق اشتراك أولئك البعداء من مكان السلطة العليا فيها. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يضع هذه القاعدة أو النظام لحكم وأسباب.
ومنها : أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجا وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد، وأن الله سيفتح لأمته الممالك ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك. فكل هذا كان مانعا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعد من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي العصر الذي يتلو عصره إذ تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الإسلام أو في سلطان الإسلام ؛ إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم أن يترك صلى الله عليه وسلم وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى.
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لو وضع قواعد موقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين، ولذلك قال الصحابة في اختيار أبي بكر حاكما : رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ؟ فإن قيل : كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف فيها عند الحاجة بالنسخ والتغيير والتبديل. نقول : إن الناس قد اتخذوا كلامه صلى الله عليه وسلم في كثير من أمور الدنيا دينا مع قوله " أنتم أعلم بأمر دنياكم " ٢ رواه مسلم. وقوله " ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به " ٣ رواه أحمد. وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة والخاصة في مثل ذلك يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه النبي صلى الله عليه وسلم للأمة وإن أجاز لها تغييره بل يقولون : إنه أجاز ذلك لنا تواضعا منه وتهذيبا لنا حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا، ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال. وقريب مما نحن فيه تقديم الإمام أحمد رحمه الله تعالى العمل بالحديث الضعيف والمرسل على القياس وتعليله بما علله به.
ومنها : أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه عليه الصلاة والسلام لكان غير عامل بالشورى وذلك محال في حقه لأنه معصوم من مخالفة أمر الله ؛ ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ ومخالفا لرأيه صلى الله عليه وسلم فهل يرضى صلى الله عليه وسلم أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم، كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها ؟ أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم ؟
بلى، وقد تبين كنه الاستعداد بعد ذلك وأنه كان غير كاف لوضع قانون كافل لقيام المصلحة، ولذلك بادر عمر إلى مبايعة أبي بكر ( رضي الله عنهما ) خوف الخلاف المهلك للأمة وصرح بعد ذلك بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها لا يجوز العود إلى مثلها، وكذلك استشار أبو بكر كبراء الصحابة في العهد إلى عمر فلما علم رضاهم عهد إليه حتى لا يكون للتفرق والخلاف مجال كما يأتي قريبا. ولو كان الصديق رضي الله عنه يعتقد أن الأمة مستعدة لإقامة الشورى على وجهها مع الأمن من التفرق والخلاف لترك لها الأمر ولم يحاول جمع كلمة أولي الأمر منها في حياته على من يراه هو الأصلح حتى يموت آمنا عليها من تفرق الكلمة.
يقول قوم : إن بيعة عمر كانت بالعهد لا بالشورى التي هي الأساس للحكومة الإسلامية بنص الكتاب العزيز، وهذا العهد رأي صحابي لا يصح أن يكون ناسخا للقرآن ولا مخصصا ولا مقيدا له فكيف عمل به جمهور الصحابة واتخذه الفقهاء قاعدة شرعية ؟ إذا أورد هذا السؤال شيعي أو غير شيعي من الباحثين المستقلين على أحد المشتغلين بالفقه يجيبه بناء على قواعده : أنه رأى قبله الصحابة وأجمعوا عليه والإجماع حجة مستقلة يجب العمل بها. ونحن نعلم أن الشيعة والمستقلين بالعلم من غيرهم لا يقنعهم هذا الجواب فهم ينازعون في حصول هذا الإجماع وفي جواز مثله مع النص وكونه في مسألة قطعية لا تقوم المصلحة بدونها، ويقولون على فرض التسليم كيف أقدم أبو بكر على هذا الأمر المخالف للنص ولم يكن مجمعا عليه حينئذ لأنكم تدعون أنه إنما أجمع عليه بعد ذلك ؟
والصواب أن بيعة عمر كانت بالشورى ولكن هذه الشورى حصلت في عهد أبي بكر وهو الذي تولاها بنفسه، كما قلنا آنفا وإنما تعجل ذلك لخوفه على الأمة فتنة التفرق والخلاف من بعده فشاور أهل الرأي والمكانة من الصحابة فيمن يلي الأمر بعده، فرأي الأكثرين منهم يوافقونهم على أن أمثلهم عمر، ورأي بعضهم يخاف من شدته، فكان يجتهد في إزالة ذلك من قلوبهم بمثل قوله : إنه يراني كثير اللين فيشتد. أي لأجل أن يكون من مجموع سيرتهما الاعتدال أو ما هذا مغزاه. حتى أنه تكلف صعود المنبر قبل وفاته وتكلم في المسألة بما أقنع القوم، فعهد إليه في الأمر في حياته فكان ذلك كتوكيل له في مرضه وترشيح له من بعده، وإنما العمدة في جعله أميرا على مبايعة الأمة، والمبايعة لا تتوقف صحتها على الشورى، ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة، فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب المعروف الآن في الحكومة الجمهورية وم
٢ - أخرجه مسلم في الفضائل حديث ١٤١..
٣ - أخرجه أحمد في المسند ٥/١٦، ٢٩٨- ٦/١٢٨..
قد علم مما تقدم أن التوكل إنما يكون مع الأخذ بالأسباب وأن ترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع أو فساد في العقل. فالتوكل محله القلب. والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح. والإنسان مسوق إليه بمقتضى فطرة الله التي فطر الناس عليها ( لا تبديل لخلق الله ) [ الروم : ٣٠ ] ومأمور به في الشرع قال تعالى :( فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) [ الملك : ١٥ ] وقال :( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) [ النساء : ٧١ ] وقال :( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) [ الأنفال : ٦٠ ] وقال :( وتزودوا فإن خير الزاد التقوى ) [ البقرة : ١٩٧ ] –راجع تفسيرها- وقال لنبيه لوط عليه السلام :( فاسر بأهلك بقطع من الليل ) [ هود : ٨١ ] وقال لنبيه موسى عليه السلام :( اسر بعبادي ليلا ) [ الدخان : ٢٣ ] وقال في الحكاية عن نبيه يعقوب لنبيه يوسف عليهما السلام :( يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا ) [ يوسف : ٥ ] وقال حكاية عنه أيضا :( يا بني لا تدخلوا من باب واحد وادخلوا من أبواب متفرقة وما أغنى عنكم من الله من شيء. إن الحكم إلا الله عليه توكلت فليتوكل المتوكلون ) [ يوسف : ٦٧ ] فأمرهم بالحذر مع التنبيه على أنه متوكل على الله والتذكير بوجوب التوكل عليه فجمع بين الواجبين، وبين أنه لا تنافي بينهما، ولا غناء للمؤمن عنهما.
ذلك بأن الإنسان إذا توكل ولم يستعد للأمر ويأخذ له أهبته بحسب سنة الله في الأسباب والمسببات يقع في الحسرة والندم عندما يخيب ويفوته غرضه فيكون ملوما شرعا وعقلا، كما قال تعالى في مسألة الإسراف في المال :( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [ الإسراء : ٢٩ ] وإذا هو استعد وأخذ بالأسباب واعتمد عليها غافلا قلبه عن الله تعالى فإنه يكون عرضة للجزع والهلع إذا خاب سعيه ولم ينل مراده فيفوته الصبر والثبات اللذان يهونان عليه الأمر، حتى لا يدري كيف يستفيد من الخبية ويتدارك أمره فيها، وربما وقع في اليأس الذي لا مطمع معه في فلاح ولا نجاح.
ولذلك قرن الله الصبر بالتوكل في عدة آيات من كتابه- قال تعالى حكاية عن الرسل عليهم السلام في محاجة أقوامهم :( وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون ) [ إبراهيم : ١٢ ] وذكروا أن الله هداهم سبله وهي سننه في الأسباب وأنهم موطنون أنفسهم على الصبر لأنهم متوكلون عليه تعالى. ووصف الذين هاجروا من بعد ما ظلموا بقوله :( الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) [ النحل : ٤٢ ] وقال :( نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) [ العنكبوت : ٥٨ ] فوصفهم بالعمل وأسند إليهم الصبر والتوكل وقال لخاتم أنبيائه ورسله :( فاتخذه وكيلا واصبر على ما يقولون ) [ المزمل : ٩-١٠ ] كما قال له :( ولا تطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكل على الله، وكفى بالله وكيلا ) [ الأحزاب : ٤٨ ] فههنا قرن أمره بالتوكل بنهيه عن العمل بقول من لا يوثق بقوله لأنه يغش ولا ينصح كما أنه قرنه بالأمر المشاورة في الآية السابقة في الآيات التي نحن بصدد تفسيرها أعني قوله " وشاورهم في الأمر " وكل ذلك من اتخاذ الأسباب سلبا وإيجابا.
وجاء ذكر التوكل في مقام ذكر الحرمان من الرزق أو من سعيه، كما جاء في مقام الصبر على إيذاء المعتدين كقوله تعالى :( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) [ الطلاق : ٣ ] وقوله في مقام وجوب نبذ الاغترار بسعة الرزق خشية الغفلة عن الآخرة :( فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون ) [ الشورى : ٣١ ]
وحسبنا هذه الآية في هداية القرآن وتحقيقه في مقام الجمع بين الأسباب والتوكل وأما الأحاديث الشريفة فأصح ما ورد في التوكل منها حديث الذين يدخلون الجنة بغير حساب، وقد رواه أحمد والشيخان وغيرهم من حديث ابن عباس مرفوعا وقد روي بعدة ألفاظ منها " يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، هم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ولا يكتوون وعلى ربهم يتوكلون " ١ رواه الشيخان معا عن عمران بن حصين، والبخاري عن ابن عباس، ومسلم عن أبي هريرة والطبراني عن خباب، وكذا الدارقطني في الأفراد وزاد بعد قوله : ولا يتطيرون " :" ولا يعتافون " ذكره في كنز العمال. وأنت ترى أنه قرن التوكل بترك الأعمال الوهمية دون غيرها فهو لم ينف من الأعمال إلا الاستشفاء بالرقية، وهي ليست من الأسباب الحقيقة للشفاء وإنما يطلبها طلابها عند الجهل بالأسباب والعجز عنها أنها من المؤثرات الغيبية وإنما المطلوب شرعا وطبعا ونقلا وعقلا أن يطلب الشيء من سببه الحقيقي الذي يستوي فيه كل من تعاطاه- وإلا التطير وهو التيمن والتشاؤم بحركات الطير، ونحوه الاعتياف وهو التفاؤل والتشاؤم بالألفاظ كقول الشاعر :
ألا قد هاجني فازددت وجدا *** بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بلحن أعجمي *** على غصنين من غرب وبان
إلى أن قال :
فكان البان أن بانت سليمى *** وفي الغرب اغتراب غير دان
والطيرة والعيافة من سنة الجاهلين التي نسختها السنة النبوية، لأنها من مفسدات الفطرة البشرية، وكذلك الرقية كانت معروفة في الجاهلية : فكان أناس معروفون يرقون اللديغ – والكي بالنار وهو مما كانوا يتداوون به في الجاهلية وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه لأمته ويعده من الأسباب الضعيفة المؤلمة المستبشعة التي تنافي التوكل ولذلك قال " لم يتوكل من استرقى أو اكتوى " ٢ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني من حديث المغيرة بن شعبة.
ويلي هذا الحديث حديث " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير : تغدوا خماصا وتروح بطانا " ٣ رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم، وقال الترمذي : حسن صحيح، وصححه الحاكم أيضا وأقره الذهبي وقد استدل به على أن التوكل يكون مع السعي لأنه ذكر أن الطير تذهب صباحا في طلب الرزق وهي خماص البطون لفراغها وترجع ممتلئة البطون ؛ ولم يقل إنها تمكث في أعشاشها وأوكارها فيهبط عليها الرزق من غير أن تسعى إليه.
وفي الباب حديث الرجل الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم وأراد أن يترك ناقته وفي رواية أنه قال : أأعقلها وأتوكل، أم أطلقها وأتوكل ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم " اعقلها وتوكل " ٤ رواه الترمذي من حديث أنس وأنكره ابن القطان من هذا الطريق. وروي من حديث عمرو ابن أمية الضمري بإسناد جيد أخرجه ابن حبان في صحيحه وفيه : أن الرجل قال : أرسل ناقتي وأتوكل ؟ فذكره. رواه الطبراني في الكبير والبيهقي في الشعب وجعلا القائل عمر نفسه. ورواه ابن خزيمة والطبراني بلفظ " قيدها وتوكل ".
وكلام السلف الصالح في ذلك كثير مستفيض. روي أن رجلا قال للإمام أحمد ( رحمه الله ) أريد الحج على التوكل ؛ فقال له : فاخرج في غير القافلة، قال لا ؛ قال : على جُرُب٥ الناس توكلت. وقد تقدم أن قوله تعالى :( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ) [ البقرة : ١٩٨ ] نزل في تخطئة من قالوا مثل هذا القول. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : قلت لأبي : هؤلاء المتوكلون يقولون نقعد وأرزاقنا على الله عز وجل. فقال : ذا قول رديء وخبيث، يقول الله عز وجل ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ) [ الجمعة : ٩ ] وقال أيضا : سألت أبي عن قوم يقولون : نتكل على الله ولا نكتسب ؛ فقال : ينبغي للناس كلهم أن يتوكلوا على الله ولكن يعودون على أنفسهم بالكسب، هذا قول إنسان أحمق. وروي عن ولده صالح أنه سأله عن التوكل فقال : التوكل حسن ولكن ينبغي للرجل أن لا يكون عيالا على الناس، ينبغي أن يعمل حتى يغني أهله وعياله ولا يترك العمل. قال : وسئل أبي وأنا شاهد عن قوم لا يعلمون، ويقولون نحن متوكلون، فقال : هؤلاء مبتدعة. قال الخلال راوي ما ذكر : وأخبرني المروزي أنه قال لأبي عبد الله : إن ابن عيينة كان يقول : هم مبتدعة، فقال أبو عبد الله : هؤلاء قوم سوء يريدون تعطيل الدنيا. وروي عنه غيره ذلك، ولا سيما في الحث على الكسب وعدم توق الصلة والنوال.
وقال أبو حفص عمر بن مسلم الحداد شيخ الجنيد في التصوف : أخفيت التوكل عشرين سنة وما فراقت السوق، كنت أكتسب في كل يوم دينارا ولا أبيت منه دانقا، ولا أستريح منه إلى قيراط أدخل به الحمام. وقال الغزالي : الخروج عن سنة الله ليس شرطا في التوكل. وأحفظ هذه العبارة عنه أو عن غيره بلفظ " ليس من التوكل الخروج عن سنة الله تعالى أصلا " وهذه أحسن وأصح. وقال في بيان أعمال المتوكلين عند الكلام عن الأسباب المقطوع بها " وذلك مثل الأسباب التي ارتبطت المسببات بها بتقدير الله ومشيئته ارتباطا مطردا لا يختلف كما أن الطعام إذا كان موضوعا بين يديك وأنت جائع محتاج ولكنك لست تمد اليد إليه وتقول أنا متوكل وشرط التوكل السعي، ومد إليه سعي وحركة، وكذلك مضغه بالأسنان وابتلاعه بإطباق أعالي الحنك على أسافله. فهذا جنون محض وليس من التوكل في شيء- ثم قال- وكذلك لو لم تزرع الأرض وطمعت في أن يخلق الله تعالى نباتا من غير بذر أو تلد زوجتك من غير وقاع كما ولدت مريم عليها السلام فكل ذلك جنون، وأمثال هذا مما يكثر ولا يمكن إحصاؤه ".
ثم ذكر أن الأسباب التي لا تعد قطعية مطردة كالتزود للسفر لا يشترط تركها في التوكل ولكنه يجوز ويعد من أعلى التوكل. وكلامه في هذا الباب وأمثاله كالزهد والفقر لا يسلم من نقد وخطأ لمبالغة في الميل إلى الانقطاع عن الدنيا والإقبال على الآخرة و " لن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه " وقد تقدم ذكر إنكار القرآن على من أرادوا أن يحجوا من غير زاد. وسنوفي هذا المقام حقه في تفسير ( لا تغلو في دينكم ) [ النساء : ١٧١ ] ولغلبة هذا الميل على أبي حامد ( رحمه الله ) راج عنده كثير من الأخبار والآثار الواهية والموضوعية، بل راج عنده ما دونها من كلام جهلة المتصوفة وتخيلات الشعراء كقول الشاعر :
جرى قلم القضاء بما يكون *** فسيان التحرك والسكون
جنون منك أن تسعى لرزق *** ويرزق في غشاوته الجنين
فانظر كيف ينسي الإنسان ميله وحبه للشيء علمه وفقهه حتى يستحسن ما يخالفهما، وإلا فإن جهالة هذا الشاعر لا تخفى على من دون أبي حامد علما وفقها، فإن جريان قلم القضاء بما يكون ولا يقتضي كون الحركة والسكون سببين لأن الواقع في كل
٢ - أخرجه بهذا اللفظ أحمد في المسند ٤/ ٢٥١، ٢٥٣، وأخرجه بلفظ :" من اكتوى أو استرقى فقد برئ من التوكل"، الترمذي في الطب باب ١٤، وابن ماجه في الطب باب ٢٣، وأحمد في المسند ٤/ ٢٤٩، ٢٥٣..
٣ - أخرجه الترمذي في الزهد باب ٣٣، وابن ماجه في الزهد باب ١٤، وأحمد في المسند ١/ ٣٠، ٥٢..
٤ - أخرجه الترمذي في القيامة باب ٦٠..
٥ - الجرب، جمع جراب ككتب وكتاب: المراد ما فيها من الزاد..
نزلت هذه الآية في شأن النبي صلى الله عليه وسلم من سياق الحكم والأحكام المتعلقة بغزوة أحد. ولكن اخرج أبو داود والترمذي وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله تعالى :( وما كان لنبي أن يغل ) قد نزل في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض الناس : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها١. وقد ضعف هذه الرواية بعض المفسرين وإن حسنها الترمذي لأن السياق كله في واقعة أحد ورجحوا عليها ما روي عن الكلبي ومقاتل من أن الرماة قالوا حين تركوا المركز الذي وضعهم النبي صلى الله عليه وسلم فيه : نخشى أن يقول النبي صلى الله عليه وسلم " من أخذ شيئا فهو له " وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر، فقال النبي ( صلى الله عليه وسلم ) :" أظننتم أننا نغل ولا نقسم لكم ؟ " ولهذا نزلت الآية. وروى ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير مرسلا عن الضحاك قال :" بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طلائع فغنم غنيمة فقسم بين الناس ولم يقسم للطلائع، فلما قدمت الطلائع قالوا قسم النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقسم لنا فأنزل الله تعالى الآية.
قال الأستاذ الإمام : الصواب أن هذه الآية من متعلقات هذه الواقعة كالآيات التي قبلها وكثير مما يأتي بعدها.
وأصل الغل الأخذ بخفية كالسرقة وغلب في السرقة من الغنيمة قبل القسمة وتسمى غلولا. قال الرماني وغيره : أصل الغلول من الغلل وهو دخول الماء في خلل الشجرة، وسميت الخيانة غلولا لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل. ومن ذلك الغل للحقد والغليل لحرارة العطش والغلالة للشعار. أقول وتغلغل في الشيء دخل فيه واختفى في باطنه، والمعنى : ما كان شأن نبي من الأنبياء ولا من سيرته أن يغل لأن الله عصم أنبياءه من الغل والغلول فهو لا يقع منهم. وهذا التعبير أحسن من قولهم : ما صح ولا استقام لنبي أن يغل أي يخون في المغنم تقدم بيان ما يفيده هذا التعبير من نفي الشأن الذي هو أبلغ من نفي الفعل لأنه عبارة عن دعوى بدليل، كأنه يقول هنا إن النبي لا يمكن أن يقع منه ذلك لأنه ليس من شأن الأنبياء ولا مما يقع منهم أو يجوز عليهم، وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب " أن يُغلّ " بالبناء للمفعول وهو من أغللته بمعنى وجدته غالا أي ما كان من شأن النبي أن يوجد غالا أو بمعنى نسبته إلى الغلول أي ما كان لنبي أن يكون متهما بالغلول. أو من غُل أي ما كان لنبي ان يكون بحيث يسرق من غنيمته السارقون ويخونه العاملون وهذا أضعف مما قبله.
وذهب بعض المفسرين إلى أن الغل أو الغلول المنفي هنا هو إخفاء شيء من الوحي وكتمانه عن الناس لا الخيانة في المغنم، وإن كان ما بعده عاما في كل غلول أو خاصا بالغنيمة فإنه جيء به للمناسبة كما عهد في مناسبات القرآن وانتقاله من حكم إلى حكم أو خبر له حكمة. وذكروا أنه نزل ردا على من رغب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ان يترك النعي على المشركين.
قال الأستاذ الإمام : ومن مناسبة كون الغل بمعنى الكتمان وإخفاء بعض التنزيل ما تقدم من أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بمعاتبة من كان معه في أحد وتوبيخهم على ما قصروا، وذلك مما يصعب تبليغه عادة لأنه يشق على المبلغ والمبلغ، ومن أمره صلى الله عليه وسلم بالعفو والاستغفار لهم ومشاورتهم في الأمر على ما كان منهم، وفي هذا إعلاء لشأنهم ومعاملة لهم بالمساواة في مثل هذه الشؤون، وذلك مما عهد في طباع البشر أن يشق على الرئيس منهم إبلاغه للمرؤوسين ويزداد على ما ذكره الأستاذ الإمام لما تقدم هذا السياق في قوله تعالى له :( ليس لك من الأمر شيء ) عندما لعن أبا سفيان ومن كان معه من رؤوس المشركين. كأنه تعالى يقول إعلاما للناس بما يجب للأنبياء عليهم السلام في أمر التبليغ : ما كان من شأن نبي من الأنبياء أن يكتم شيئا مما أمر بتبليغه وإن كان مما يشق على الناس في حكم العادة ذكره وتبليغه.
ثم قال :( ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة ) أي إن كل من يقع منه غل أو غلول فإنه يأتي بما غل به يوم القيامة. وقد ذهب الجمهور إلى أن المراد بالإتيان بما يغل به الغال أنه يجيء يوم القيامة حاملا له ليفتضح به ويكون مزيدا في عذابه هنالك. وقد جاء في ذلك روايات مختلفة، منها أن يكلف الإتيان به من النار لا أنه يجيء به. ومن هذه الروايات ما لا يصح، ولكن أخرج الشيخان عن أبي هريرة قال " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال : ألا لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول له : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ؛ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ؛ لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت، فيقول : يا رسول الله أغثني، فأقول : لا أملك لك من الله شيئا قد أبلغتك ". ٢
قال بعض العلماء : لا مانع من إمضاء هذا الإتيان على ظاهره وإن غل الإنسان بالعدد الكثير من الإبل والغنم والبقر والخيل والبغال والحمير والأشياء الصامتة فإنها تكون يقوم القيامة على رقبته مهما كثرت.
وروى ابن أبي حاتم أن رجلا استشكل على أبي هريرة حديثه ذاك فقال : أرأيت من غل مئة بعير أو مئتي بعير كيف يصنع بها ؟ فأجاب أبو هريرة فذكر له ما معناه : أن من كان ضرسه مثل جبل أحد فإنه يحمل مثل هذا. وهذا الحديث لا يصح، وجعل بعض العلماء حديث حمل ما يغل به الغال على رقبته من باب التمثيل، شبهت حال الغال بما يرهقه من أثقال ذنبه وفضيحته به مع فقد المعين والمغيث بمن يحمل ذلك عينه على عاتقه ويقصد أرجى الناس لإغاثته فيخذله ويتنصل من إغاثته. وما زال الناس يشتهون الأثقال المعنوية بالأثقال الحسية ويعبرون عنها بالحمل، يقولون فلان حامل أثقال أهله أو أثقال البلد، وفي التنزيل :( اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون ) [ العنكبوت : ١٢-١٣ ] ومثله قوله تعالى :( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ) [ فاطر : ١٨ ] على أن حديث الشيخين لم يذكر فيه أنه تفسير للآية.
وقال الأستاذ الإمام : فسروا الإتيان بما غل به الغال بأنه يحمله وكأنه جعلوا الباء للمصاحبة وليس بمتعين، وقد عدل عنه بعض المفسرين كأبي مسلم الأصفهاني وقال إنه على حد قوله تعالى حكاية عن لقمان :( يا بني إنها إن تلك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير ) [ لقمان : ١١ ] فليس معنى : يأت بها الله إنه يحملها، ولكن معناه أنه يعلم بها أتم العلم لا تخفى عليه مهما كانت مستترة، لأن من يأتي بالشيء لا بد أن يكون عالما به. والمعنى أن الإتيان بالشيء الذي يغله الغال هو عبارة – أو قال كناية- عن انكشافه وظهوره، أي إن كل غلول وخيانة خفية يعلمه الله تعالى مهما خفي ويظهره يوم القيامة للغال حتى يعرفه كمعرفة من أتى بالشيء الذي لذلك الشيء على حد قوله تعالى :( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) [ الزلزلة : ٧-٨ ].
أقول : ولما كان الجزاء يترتب على علم الله بالأعمال وإعلامه العاملين بها يوم الحساب قال بعدما مر ( ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) أي ثم أنه بعد أن يأتي الغال بما غل، كما يأتي كل عامل بما عمل، فيمتثل لديه، كأنه حاضر بين يديه، ينظر إليه بعينه، ( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ) [ آل عمران : ٣٠ ] ومثال الذرة من الخير والشر مرئيا مبصرا، بعد هذا تنال جزاء ما كسبت متوفى تاما لا تنقص منه شيئا ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ! ! ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ) [ الكهف : ٤٩ ].
٢ - أخرجه البخاري في الجهاد باب ١٨٩، ومسلم في الإمارة حديث ٢٤، واحمد في المسند ٢/٤٢٦..
والذي في كتب التفسير المشهورة أن العندية هنا عندية علم وحكم أي هم أصحاب درجات في حكم الله وبحسب علمه بشؤونهم وبما يستحقون. وكلا المعنيين صحيح ولا تنافي بينهما. وقالوا : إن ذكر الدرجات من باب التغليب فتشمل الدركات فالدرجات ما يرتقى عليه وهي للمرتقين من أهل الرضوان، والدركات ما يتدلى فيه وهي للمتدلين من أهل السخط والخذلان، كما قال في الأول :( ورفع بعضهم درجات ) [ البقرة : ٢٥٣ ] وفي الثاني :( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) [ النساء : ٤٤ ].
قال الراغب : الدرك كالدرج لكن الدرج يُقال اعتبارا بالصعود والدرك اعتبارا بالحدور. ولهذا قيل درجات الجنة ودركات النار. ولتصور الحدور في النار سميت هاوية. ( قال ) والدرك ( بسكون الراء ) أقصى قعر البحر، والمعنى أن الناس يتفاوتون في الجزاء عند الله كما يتفاوتون هنا في العرفان والفضائل، في الجهل والرذائل، وما يترتب على ذلك أو يترتب عليه ذلك من الأعمال الحسنة والقبيحة. وهذا التفاوت على مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا من الرفيق الأعلى في الدرجات العلى الذي كان يطلبه النبي صلى الله عليه وسلم من ربه في مرض موته، إلى الدرك الأسفل الذي ورد في سورة النساء، وذكر آنفا. وهي الدرجات لا تكون في الآخرة عطاء مؤتنفا وكيلا جزافا وإنما تكون أثرا طبيعيا لارتقاء الأرواح وتدليها هنا بالأعمال ولذلك قال بعد ذكرها ( والله بصير بما يعملون ) فهو لا يغيب عنه شيء من أعمالهم، وما لها من التأثير في تزكية نفوسهم، التي يترتب عليها الفلاح في ارتقاء الدرجات وفي تدسيتها التي تترتب عليهاالخيبة في هبوط الدركات، ( قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) [ الشمس : ٩-١٠ ] فتحصيل الدرجات إنما يكون في هذه الدار، والتمتع بها يكون في دار القرار، أما الدرجات في الدنيا فقد ورد فيها قوله تعالى :( أهم يقسمون رحمة ربك ؟ نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة بك خير مما يجمعون ) [ الزخرف : ٣٢ ] وقوله تعالى :( وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم ) [ الأنعام ١٦٥ ] وليست هذه الدرجات بوسيلة ولا مقصد مما نحن فيه وإنما هي درجات ابتلاء وامتحان يظهر بها التفاوت بين أفراد الإنسان.
وأما درجات الآخرة فهي المرادة بقوله تعالى بعد ذكر توسيع الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض ( انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض، وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) [ الإسراء : ٢١ ] وأما وسائلها التي قلنا إن هذه آثارها وهي المعارف والأعمال، فمنها قوله عز وجل :( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) [ المجادلة : ١١ ] وقوله :( نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم ) [ يوسف : ٧٦ ] وقوله سبحانه :( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء ) [ الأنعام : ٨٣ ] فهذه كلها درجات العلم والحجة، ومنها قوله في ربط درجات العمل بدرجات الجزاء ( وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة ) [ النساء : ٩٥ ] ومنها بعد ذكر الجزاء ( لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما يعملون ) [ الأنعام : ١٤٢ ]. وقوله :( ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى ) [ طه : ٧٥.
فحسبنا هذه الآيات مبينة لما قلناه من كون درجات الجزاء في الآخرة على حسب درجات الارتقاء بالعلم والعمل في الدنيا. وأن هذه الدرجات لا يمكن أن يعلمها إلا من أحاط بكل شيء علما، فلا يخفى عليه أثر ما من آثار الأعمال في النفس ولا عاطفة من عواطف الإيمان في القلب ولا حقيقة من حقائق العلم في العقل، ولا يعزب عنه شيء من تفاوت الناس في ذلك ؛ فدرجات ارتقاء الأرواح لها في علمه تعالى نظام دقيق أدق من نظام ميزان الحرارة والبرودة ومن ميزان الرطوبة ومن ميزان ثقل السائلات في درجاتها العليا والسفلى. وما أشبه هذه الموازين بالموازين الطبيعية التي تعرف بها سنن الله تعالى في الكون، وإن سنته تعالى في نفوس الناس لا تقل عن سنته في غيرها نظاما واطرادا، وإن بين عليا الدرجات وسفلاها درجة أدنى أهل النار عقوبة، وأدنى أهل الجنة مثوبة، ولهذا كله قال بعد ذكر الدرجات إنه بصير بما يعملون. وليس عندي في الآية شيء عن الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى إلا ما تراه قريبا في تفسير الآية التالية وهي :﴿ لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ﴾.
ثم وصفه بأوصاف أخرى أكد بها المنة ( أولها ) أنه من أنفسهم أي من جنسهم أي العرب. ووجه هذه المنة الخاص، التي لا تنافي كونه صلى الله عليه وسلم رحمة عامة، هو أن كونه منهم يزيد في شرفهم ويجعلهم أول المهتدين به، لأنهم أسرع الناس فهما لدعوته، والنعمة العامة قد ذكرت في آيات أخرى كقوله تعالى :( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ويمكن أن يستدل على هذا التخصيص بالعرب دعوة إبراهيم صلى الله عليه وسلم التي تقدمت في سورة البقرة ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) [ البقرة : ١٧٩ ] الخ الأوصاف المذكورة هنا. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بأنفسهم ههنا البشر لا العرب.
أقول : وهذا القول ضعيف وإن وجب الإيمان بكون جميع الأنبياء من البشر. أما ضعفه فمن وجوه :( أحدها ) ان المراد بالمؤمنين في الآية من كانوا متصفين بالإيمان عند نزولها في عقب غزوة أحد وهم من العرب. ( ثانيها ) : موافقة دعوة أبوية إبراهيم وإسماعيل عليهم الصلاة والتسليم وإنما دعوا أن يكون النبي من ذريتهما وذرية إسماعيل هم العرب المستعربة كما هو مشهور. ( ثالثها ) : موافقة آية سورة الجمعة التي في معنى هذه الآية :( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) [ الجمعة : ٢ ] والأميون هم العرب. ( رابعها وخامسها ) : ما يأتي قريبا في تفسير " ويعلمهم الكتاب " وما يأتي في تفسير وصفهم بالضلال المبين. ( سادسها ) : أن العرب هم الذين تلا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه آيات الله وباشر بنفسه تزكيتهم وتعليمهم وهم الذين حملوا دعوته إلى غيرهم من الناس وقد نص العلماء على أن الإيمان بكون النبي صلى الله عليه وسلم من العرب شرط في صحة الإسلام والإيمان لا بد من تلقينه لكل من يدخل في كل هذا الدين، ومن جحده بعد العلم به يكون مرتدا عن الإسلام. ثم صار ينشر الدعوة كل قوم قبلوها واهتدوا بها فصح قوله تعالى :( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ) [ سبأ : ٢٨ ] وقوله :( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) [ الأنبياء : ١٠٧ ].
الوصف الثاني قوله ( يتلو عليهم آياته ) قال الأستاذ الإمام : الآيات هي الآيات الكونية الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته وتلاوته عبارة عن تلاوة ما فيه بيانها، وتوجيه النفوس إلى الاستفادة منها والاعتبار بها، وهو القرآن كقوله عز وجل في أواخر هذه السورة :( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) [ آل عمران : ١٩٠ ] وقوله في سورة البقرة :( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون ) [ البقرة : ١٦٤ ] ومنها ما لم يذكر فيه كلمة " الآيات " كقوله تعالى :( والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها ) [ الشمس : ١-٢ ] الخ.
الوصف الثالث والرابع قوله تعالى :( ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ) قال الأستاذ تزكيته إياهم في تطهيرهم من العقائد الزائغة ووساوس الوثنية وأدرانها والعقائد هي أساس الملكات ولذلك نقول إن العرب وغيرهم كانوا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ملوثين في عقولهم ونفوسهم. أقول : قد سبق عنه في تفسير آية ( البقرة : ١٢٩ ] أن المراد بالتزكية تربية النفوس وأنه صلى الله عليه وسلم كان مربيا ومعلما، وأراد بقوله إن العقائد أساس الملكات : إن من لم يتزك عقله ويتطهر من خرافات الوثنية وجميع العقائد الباطلة لا تتزكى نفسه بالتخلي عن الأخلاق الذميمة والتحلي بالملكات الفاضلة، فإن الوثني من يعتقد أن وراء الأسباب الطبيعية التي ارتبطت بها المسببات منافع ترجى ومضار تخشى من بعض المخلوقات وأنه يجب تعظيم هذه المخلوقات والالتجاء إليها ليؤمن ضرها، وينال خيرها، ويتقرب بها إلى خالقها وأن من يعتقد هذا يكون دائما أسير الأوهام، وأخيذ الخرافات، يخاف في موضع الأمن ويرجو حيث يجب الحذر والخوف، وتتعدى قذارة عقله إلى نفسه فتفسد أخلاقها، وتدنس آدابها، فتزكية النفس لا تتم إلا بتزكية العقل ولا تتم تزكية العقل إلا بالتوحيد الخالص.
قال الأستاذ الإمام : أما تعليمهم الكتاب فمعناه أن هذا الدين الذي جاء به قد اضطرهم إلى تعلم الكتابة بالقلم وأخرجهم من الأمية لأنه دين حث على المدنية وسياسة الأمم. أقول : كان أول حاجتهم إلى تعلم الكتابة وجوب كتابة القرآن وقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كتبة للوحي وكتبوا له كتبا دعا بها الملوك والرؤساء إلى الإسلام وكان يأمرهم بتعلم الكتابة. ثم كان ذلك يكثر فيهم على قدر نماء مدنيتهم وامتداد سلطتهم قال : وأما الحكمة فهي أسرار الأمور وفقه الأحكام وبيان المصلحة فيها والطريق إلى العمل بها ذلك الفقه الذي يبعث على العمل، أو هي العمل الذي يوصل إلى هذا الفقه في الأحكام. أو طرق الاستدلال ومعرفة الحقائق ببراهينها لأن هذه الطريقة هي طريقة القرآن. وسنته في العقائد وكذا في الآداب والعبادات وقد مرت الشواهد الكثيرة على ذلك وسيأتي ما هو أكثر وأغزر إن شاء الله تعالى.
( وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) أي وإنهم كانوا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم في ضلال بين واضح : وأي ضلال أبين من ضلال قوم مشركين يعبدون الأصنام ويتبعون الأوهام أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فيعرفوا كنه ضلالتهم وحقيقة جهالتهم، فضلالهم أبين من ضلال أهل الكتاب، كما هو ظاهر لأولي الألباب.
بعد تبرئة الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلول وبيان ما بعث لأجله عاد الكلام إلى كشف الشبهات التي عرضت للغزاة في واقعة أحد والرد على المنافقين بيان ضلالهم في أقوالهم وأفعالهم. قال تعالى :( أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا ) قال المفسرون : إن الاستفهام الأول للتقريع و " لما " بمعنى " حين " المصيبة ما أصابهم يوم أحد من ظهور المشركين عليهم وقد تقدم بيانه. والمشهور أن معنى إصابتهم مثليها هو كونهم قتلوا في بدر سبعين من المشركين وأسروا سبعين والمشركون لم يقتلوا منهم يوم أحد غير سبعين رجلا. فجعل الأسرى في حكم القتلى للتمكن من قتلهم، وقال بعضهم إن المراد بالمصيبة الهزيمة وبالمثلين هزيمة المؤمنين للمشركين يوم بدر وهزيمتهم إياهم يوم أحد. ويحتمل أن يكون ما نالوه يوم أحد من المشركين في أول الأمر هو مثلي ما ناله المشركون منهم في ذلك اليوم بعد ترك الرماة مركزهم وإخلائهم ظهور المسلمين لخيل المشركين راجع :( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) [ آل عمران : ١٥٢ ].
وأما قولهم : أنى هذا ؟ فهو تعجب منهم، أي من أين جاءنا هذا المصاب. قال الأستاذ الإمام، الكلام لتعجبهم وبيان لمنة الله تعالى عليهم حتى في واقعة أحد فإن خذلانهم فيها لم يبلغ مبلغ ظفرهم في بدر، بل كان نصرهم هناك ضعفي انتصار المشركين هنا كأنه يقول : لماذا نسيتم فضل الله عليكم في بدر فلم تذكروه ؟ وأخذتم تعجبون مما أصابكم في أحد وتسألون عن سببه ومصدره ! وقال المفسرون : إن سبب تعجبهم مما أصابهم هو اعتقادهم أنهم لا بد أن ينتصروا وهم مسلمون يقاتلون في سبيل الله وفيهم رسوله. وقد تقدم كشف هذه الشبهة في تفسير الآيات السابقة. وقد ذكر هنا تعجبهم ليبني عليه هذا الجواب وما فيه من الحكم لأولي الألباب، وهو :
( قل هو من عند أنفسكم ) فإنكم أخطأتم الرأي بخروجكم من المدينة إلى أحد وكان الرأي ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم من البقاء فيها، حتى إذا ما دخلها المشركون عليهم قاتلوهم على أفواه الأزقة والشوارع، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من سطوح المنازل، وروي هذا عن الربيع، ثم إنكم فشلتم وتنازعتهم في الأمر وعصيتهم الرسول طمعا في الغنيمة ففارق الرماة منكم موقعهم الذي أقامهم فيه لحماية ظهوركم بنضح عدوكم بالنبل إذا أراد أن يكر عليكم من ورائكم. هذا المتبادر المشهور والمعقول المعنى الموافق لقاعدة كون العقوبات آثارا لازمة للأعمال وروي عن عكرمة ويروى عن الحسن أن ما حصل يوم أحد من المصيبة كان عقابا على أخذ الفداء عن أسرى بدر الذي عاتب الله عليه نبيه بقوله :( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ) [ الأنفال : ٦٧ ] الخ، وقووه بما رواه ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه والنسائي عن علي رضي الله عنه قال :" جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا محمد إن الله تعالى قد كره ما فعل قومك في أخذهم الأسارى وقد أمرك ان تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فتضرب أعناقهم وإما أن يأخذوا منهم الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فذكر لهم ذلك فقالوا يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ فداءهم، نتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره. فقتل منهم يوم أحد سبعون رجلا عدة أسارى أهل بدر. وأقول : ما أرى أن هذا يصح عن علي رضي الله عنه فإنه بعيد عن المعقول. وكيف يصح والمأثور ان أخذ الفداء كان من رأي النبي صلى الله عليه وسلم ورأي أبي بكر رضي الله عنه وحاشا لهما ان يرضيا بأخذ مال يعاقبون عليه بقتل سبعين مؤمنا ! ! وقد تقدم لنا بحث كون العقوبات آثارا طبيعية للأعمال فليرجع إليه من شاء.
( إن الله على كل شيء قدير ) لا يعجزه تنفيذ سننه بعقاب المسيء وإثابة المحسن وإقامة النظام العام في الكائنات، يربط الأسباب بالمسببات، فلا يشذ عن ذلك مؤمن ولا كافر، ولا بر ولا فاجر، قال الأستاذ الإمام بناء على كون وجه تعجبهم هو وجود الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم : أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفع أمة خالفت السنن والطبائع فلا تغتروا بوجودكم معه، مع المخالفة لله وله، فهو لا يحميكم مما تقتضيه سنن الله فيكم.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى :( أو لما ) فيه وجهان أحدهما أن همزة الاستفهام قدمت على الواو لأن لها الصدارة والواو عاطفة للجملة الاستفهامية. وثانيهما أن الواو عاطفة لما بعدها على محذوف قبلها هو الجملة الاستفهامية والتقدير : أأخطأتم الرأي في الخروج إلى أحد وفعلتم ما فعلتم من الفشل والعصيان ولم تبالوا بذلك وتفكروا في عاقبته ولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا تعجبا منه واستغرابا ؟ وقدر بعضهم غير ذلك.
وقال غيره : إن النافقاء حجر اليبروع يحفره في الأرض ويرققه من أعلاه فإذا رابه شيء فخاف على نفسه دفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق منافق لأنه يضمر الكفر في باطنه فإذا فتشه رمى عنه ذلك الكفر وتمسك بالإسلام. وكذا وجهه الرازي ولك أن تقول لأنه يلجأ للإسلام ويحتمي به فإذا رابه منه شيء خرج منه إلى الكفر. وقول أبي عبيدة أظهر هذه الأقوال. وسيأتي من أوصافهم ما يظهر به وجه التسمية كقوله تعالى :( الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم ؟ وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ! ! ) [ النساء : ١٤١ ].
والمعنى وليعلم حال الذين نافقوا، أيْ وقع منهم النفاق في هذه الواقعة ولم يقل المنافقين كما قال المؤمنين لأن النفاق لم يكن صفة ثابتة لهم كثبوت إيمان المؤمنين، فإن منهم من تاب بعد ذلك وصدق في إيمانه. أي ليظهر علمه بذلك فيترتب عليه مقتضاه من العبرة بسوء عاقبة المنافقين حتى فيما ظنوه حزما وتوقيا للمكروه واحتياطا في الأمر كالعبرة بحسن عاقبة الصادقين حتى فيما ظنوه شرا وسوءا وكرهوا حصوله.
أما قوله تعالى :( وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله أو ادفعوا ) فمعناه أن هؤلاء الذين نافقوا قد دعوا إلى القتال على أنه في سبيل الله أي دفاع عن الحق والدين وأهله ابتغاء مرضاة الله وإقامة دينه لا للحمية والهوى ولا ابتغاء الكسب والغنيمة، أو على أنه دفاع عن أنفسهم وأهلهم ووطنهم فراوغوا وحاولوا، وقعدوا وتكاسلوا ( قالوا لو نعلم قتالا لاتبعناكم ) أي لو نعلم أنكم تلقون قتالا في خروجكم لاتبعناكم ولكننا نرى أن الأمر ينتهي بغير قتال، نزل ذلك في عبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه الذين خرجوا من المدينة في جملة الألف الذين خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجعوا من الطريق وهم ثلاث مئة ليخذلوا المسلمين ويوقعوا فيهم الفشل وقد تقدم ذكر ذلك في مجمل القصة عند الشروع في تفسير الآيات الواردة فيها.
قال تعالى :( هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان ) أي أقرب إلى الكفر منهم إلى الإيمان يوم قالوا ذلك القول لظهور صفته فيهم وانطباق آيته عليهم. فإن القعود عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الوطن والأمة عند هجوم الأعداء من الفرائض التي لا يتعمد المؤمن تركها كما يعلم من الآيات الكثيرة في هذا السياق وغيره ومنها ما هو صريح في جعله من الصفات التي حصر الإيمان في المتصفين بها كقوله عز وجل :( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون ) [ الحجرات : ١٥ ].
قال الأستاذ الإمام : ليس قوله " يومئذ " للاحتراس بل لرفع شأن هذا اليوم الذي حصل فيه التمييز بين الفريقين وقال إنهم أقرب إلى الكفر ولم يقل إنهم كفار مع علمه بحالهم تأديبا لهم ومنعا للتهجم على التكفير بالعلامات والقرائن. أقول : يعني أن هذا الذي صدر منهم وإن كان من شأنه ألا يصدر إلا من الكافرين لا يعد بحد ذاته كفرا صريحا في حكم الظاهر لاحتمال العذر والتأويل، ولو سجل عليهم به ظاهرا لوجب أن يعاملوا معاملة الكفار، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم بعد ذلك معاملة المؤمنين حتى أنه صلى على جنازة رئيسهم عبد الله بن أبي بعد بضع سنين من واقعة أحد، وحينئذ فضحهم الله تعالى في سورة التوبة بعد ما كان من ظهور كفرهم ونفاقهم في غزوة تبوك وأنزل عليه ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله ) [ التوبة : ٨٤ ] فحاصل معنى عبارة الأستاذ الإمام أنه تعالى كان يعلم أنهم يبطنون الكفر وأن امتناعهم عن الجهاد عمل من أعمال الكفر ولكنه لم يصرح به في الآية بل صرح بما يومئ إليه تأديبا عسى أن يتوب منهم من لم يتمكن الكفر في قلبه ومنعا للناس من الهجوم على التكفير. فليعتبر بهذا متفقهة زماننا الذين يسارعون في تكفير من يخالف شيئا من تقاليدهم وعاداتهم وإن كان من أهل البصيرة في دينه وإيمانه والتقوى في عمله ولم يكونوا على شيء من ذلك.
وقوله تعالى :( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ) جملة مستأنفة مبينة لحالهم في مثل قولهم هذا أي إن الكذب دأبهم وعادتهم يصدر عنهم على الدوام والاستمرار ليستروا بذلك ما يضمرون، ويؤيدوا به ما يظهرون، وهل يكون نفاق بغير كذب ؟ وفي تقييد القول بالأفواه توضيح لنفاقهم بمخالفة ظاهرهم لباطنهم وفي التنزيل آيات أخرى في بيان حالهم هذه. قال ( والله أعلم بما يكتمون ) من الكفر والكيد للمسلمين وتربص الدوائر بهم فهو يبين في كل حين من مخبآت سرائرهم ما تقتضيه الحال وتقوم به المصلحة ثم هو الذي يعاقبهم به في الدنيا والآخرة.
ومن مباحث اللفظ في الآية أن قوله تعالى :( وقيل لهم تعالوا قاتلوا ) فيه وجهان أحدهما أنه عطف على " نافقوا " وهو الظاهر المتبادر، والثاني أنه استئناف وقوله قبله ( وليعلم الذين نافقوا ) قد تم به الكلام السابق. قالوا فالواو في قوله :( وقيل لهم ) هي التي يسمونها واو الاستئناف على هذا القول. وقد قال الأستاذ الإمام في هذه الواو ما حاصله : وقد خلط بعضهم في الكلام عن هذه الواو لعدم فهم المراد منها وليس هو بمعنى الاستئناف المشهور وإنما تأتي لوصل كلام بكلام آخر مباين للأول تمام المباينة من جهة ذاته، ومرتبط به من جهة السياق والغرض، ففي مثل هذه الحال إذا فصل الثاني من الأول يكون في الفصل البحت وحْشةٌ على السمع وإيهام للذهن أن الغرض الذي سبق له الكلام قد انتهى فيجيء المتكلم بالواو ليستمر الأنس بالكلام في الغرض الواحد ويظل الذهن منتظرا لغاية الفائدة والغرض منه فكأن المتكلم عند نطقه بالجملة المستأنفة بالواو للانتقال من جزء من كلامه قد تم إلى جزء آخر يراد به مثل ما يراد مما قبله، يقول : هذا جزء من الكلام يثبت غرضي ويبين مرادي وثم جزء آخر منه وهو كذا. وهذا الشرح مبني على كون الجملة المستأنفة لا اشتراك بينها وبين ما قبلها بوجه ما وإنما يقرنها بها السياق والغرض، وفيها رأي آخر وهو أنها عطف على معنى خفي فيما قبلها غير مذكور ولا معين وإنما ينتزع من الكلام انتزاعا، فلما كان كذلك لم يقولوا إن الواو فيها عاطفة إذ لا معطوف عليه في الكلام وقالوا للاستئناف مراعاة لصورة اللفظ.
ومنها أن اللام في قوله " للكفر " و " للإيمان " متعلقة " بأقرب " على أنها بمعنى " إلى " فإن المستعمل في صلة القرب حرفا " إلى " و " من " يقال قرب منه وقرب إليه. وقال بعضهم : إنه يتعدى باللام أيضا.
قال الأستاذ الإمام : هذا وصف آخر من أوصاف المنافقين جاء في سياق التقريع المتقدم. وقدم القول فيه على القعود عن القتال لأنه أقبح منه، فإن القعود ربما كان لعذر أو التمس الناس له عذرا واللوم فيه على فاعله وحده لأن إثمه لا يتعداه إلى غيره. وأما هذا القول الخبيث فإنه أدل على فساد السريرة وضعف العقل والدين، وضرره يتعدى لما فيه من تثبيط همم المجاهدين، أقول : ويدل على إصرارهم ما اجترموه من التثبيط والنهي حين انفصل ابن أبي بأصحابه من العسكر مؤيدين ذلك بالاحتجاج على أنهم فعلوا الصواب وقد دحض الله تعالى حجتهم بقوله لنبيه ( قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) قال الأستاذ الإمام أي أن هذا القول في حكمه الجازم يتضمن أن علمهم قد أحاط بأسباب الموت في هذه الواقعة، وإذا جاز هذا فيها جاز في غيرها، وحينئذ يمكنهم درء الموت أي دفعه عن أنفسهم ولذلك طالبهم به وجعله حجة عليهم. وقد يقال : إن فرقا بين التوقي من القتل بالبعد عن أسبابه وبين دفع الموت بالمرة، فالموت حتم عند انتهاء الأجل المحدود وإن طال والقتل ليس كذلك فكيف احتج عليهم بطلب درء الموت عن أنفسهم ؟
قال : وهذا اعتراض يجيء من وقوف النظر فكل يعلم ولا سيما من حارب أنه ما كل من حارب يقتل فقد عرف بالتجربة أن كثيرين يصابون بالرصاص في أثناء القتال ولا يموتون وأن كثيرين يخرجون من المعمعة سالمين ولا يلبثون بعدها أن يموتوا حتف أنوفهم كما يموت كثير من القاعدين عن القتال. فما كل مقاتل يموت، ولا كل قاعد يسلم، وإذا لم يكن أحد الأمرين حتما سقط قولهم وظهر بطلانه. وأقول : إنه ذكر في المسألة كلاما آخر لم أكتبه في وقته ولم أفرغ له بعده حتى نسيته. وكل من سمع كلام من لاقوا الحروب يعجب من كثرة الوقائع التي يسلم فيها المخاطرون ويهلك الحذرون.
بين سبحانه وتعالى حال المنافقين في قعودهم عن القتال في سبيل الله والدفاع عن الحقيقة وتثبيطهم لإخوانهم قبل القتال وبعده وقولهم فيمن قتلوا إنهم لو أطاعوهم لما قتلوا وبين أفنهم وفساد رأيهم في التوقي من الموت بعدم القتال والدفاع وهو في الحقيقة من أسباب الهلاك لا من أسباب السلامة – وبعد هذا كله أراد أن يبين حال من يقتل في سبيل الله وأنه لا يكون بحيث يظن أولئك السفهاء في موتهم فقال عز وجل :
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا ) أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث ابن عباس ( رضي الله عنه ) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن مقيلهم قالوا يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا- وفي لفظ – قالوا من يبلغ إخواننا أننا أحياء في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله تعالى أنا أبلغهم عنكم فأنزل الله هؤلاء الآيات " ١ واخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه وغيرهما من حديث جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) قال : لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " يا جابر ما لي أراك منكسرا ؟ " فقلت يا رسول الله استشهد أبي وترك عيالا ودينا فقال :" ألا أبشرك بما لقي الله به أباك " ؟ قلت بلى. قال " ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحا وقال : يا عبدي تمن علي أعطك : قال : يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الرب تعالى. قد سبق مني أنهم لا يرجعون. قال أي رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية " ٢. قالوا ولا تنافي بين الروايتين لجواز وقوع الأمرين ونزول الآية فيهما معا. وأقول : إن الآية متصلة بما قبلها متممة له فإذا صح الخبران فهما من جملة وقائع غزوة أحد التي نزل فيها هذا السياق كله والمعنى : لا تحسبن يا محمد أو أيها السامع لقول المنافقين الذين ينكرون البعث أو يرتابون فيه فيؤثرون الدنيا على الآخرة " لو أطاعونا ما قتلوا " أن من قتلوا في سبيل الله أمواتا فقد فقدوا الحياة وصاروا عدما. وقرأ ابن عامر قتلوا بضم القاف وتشديد التاء للمبالغة.
( بل ) هم ( أحياء عند ربهم يرزقون ) في عالم غير هذا العالم هو خير منه للشهداء وغيرهم من الصالحين، ولكرامته وشرفه أضافه الرب تعالى إليه فهذه العندية عندية شرف وكرامة لا مكان ولا مسافة. وقيل عندية علم وحكم. وإذا كان الأمر كذلك فليس يضير أولئك الذين قتلوا في سبيل الله قتلهم، وليس ما صاروا إليه دون ما كانوا فيه. فلو فرضنا أن الخروج إلى القتال سبب مطرد للقتل لا يتخلف كما يوهم كلام المنافقين لما صح أن يكون مثبطا للمؤمن عن الجهاد عند وجوبه بمثل مهاجمة المشركين للمؤمنين في أحد أو بفتنة المسلمين عن دينهم ومنعهم من الدعوة إليه وإقامة شعائره، وهو ما كان عليه جميع مشركي العرب في زمن البعثة. فكيف والخروج إلى القتال هو سبب للسلامة في الغالب، لأن الأمة التي لا تدافع عن نفسها يطمع غيرها فيها فإذا هاجمها الأعداء ظفروا بها ونالوا ما يريدون منها.
وقد ذكرنا الخلاف في هذه الحياة في تفسير قوله تعالى :( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أمواتا بل أحياء ولكن لا تشعرون ) [ البقرة : ١٥٤ ] وأن المختار فيها أنها حياة غيبية لا نبحث عن حقيقتها ولا نزيد فيها على ما جاء به خبر الوحي شيئا فلا نقول كما قال متكلمي المعتزلة أن المراد بقوله " بل أحياء " أنهم سيكونون أحياء في الآخرة، فإن ظاهر الآية أنهم أحياء مذ قتلوا ؛ ولا تخصيص في قولهم للشهداء ولا يتفق مع ما يأتي، ولا بقول من قال : إنهم أحياء بحسب الذكر وطيب الثناء كما يقال " من خلف مثلك ما مات " وقال الشاعر :
يقولون إن المرء يحيا بنسله | وليس له ذكر إذا لم يكن نسل |
فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي | فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلو |
وجملة القول إن بعضهم يقول إن هذه الحياة مجازية وبعضهم يقول إنها حقيقة ومن هؤلاء من يقول إنها دنيوية ومنهم من يقول إنها أخروية ولكن لها ميزة خاصة ومنهم من يقول إنها واسطة بين الحياتين. وقد تقدم أن المختار عندنا عدم البحث في كيفية هذه الحياة وذكرنا في آية البقرة بحث ما ورد من كون أرواحهم تكون في حواصل طير خضر فراجعه.
٢ - أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٣، باب ١٨، وابن ماجه في المقدمة باب ١٣..
هذا ما روي في وجه الاستبشار عن ابن جريج وقتادة. وروي عن السدي أن الشهيد يؤتى بكتاب فيه ذكر من يقدم عليه من إخوانه يبشر بذلك فيسر ويستبشر كما يستبشر أهل الغائب بقدومه عليهم في الدنيا. واختار أبو مسلم والزجاج أن الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم هم إخوانهم الذين لا يحصلون فضيلة الشهادة فلا ينالون مثل درجتهم وأن استبشارهم بهم يكون عند دخولهم الجنة بعد القيامة قبلهم فيرون منازلهم فيها ويعلمون أنهم من أهلها، وإن فاتتهم درجة الشهادة لا سيما إذا كان المراد بالذين من خلفهم من جاهد مثلهم ولم يقتل ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى، وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما ) [ النساء : ٩٥- ٩٦ ] والآية الآتية تؤيد كون المراد بمن خلفهم بقية المجاهدين الذين لم يقتلوا.
وقوله :( ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ) بدل اشتمال من الذين لم يلحقوا بهم، أي يستبشرون بهم من حيث إنه لا خوف عليهم. فالخوف والحزن على هذا منفيان عن الذين لم يلحقوا بهم. أو الباء للسببية والمعنى بسبب أنه لا خوف عليهم الخ وحينئذ يحتمل أن يكونا منفيين عنهم أنفسهم، أي أن الفرح والاستبشار يكونان شاملين لهم بحالهم وبحال من خالفهم من إخوانهم بسبب انتفاء الخوف والحزن عنهم هم حيث هم. كما يحتمل أن يكون المراد نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم أيضا. والمختار عندي أن المراد بنفي الخوف والحزن نفيهما عن الذين لم يلحقوا بهم ممن قاتل معهم ولم يقتل وأن الآية الآتية مفسرة لذلك. والخوف تألم من مكروه يتوقع والحزن تألم من مكروه وقع. وتقدم تفسير هذا التركيب في الجزء الأول راجع تفسير ( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) [ البقرة : ٦٢ ]. وقد قيل إن المراد بالخوف والحزن ما يكون في الدنيا وقيل بل المراد ما يكون في الآخرة. ويجوز أن يكون المعنى أنه لا خوف عليهم في الدنيا من استئصال المشركين لهم أو ظفرهم بهم ثانية ولا هم يحزنون في المستقبل البعيد عندما يقدمون على ربهم في الآخرة. فاعرض هذا على الآيات الآتية إلى قوله :( فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين ).
وقال الأستاذ الإمام : ذكر في الآية السابقة استبشارهم بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله ثم ذكر هنا أنهم يستبشرون بنعمة من الله وفضل. فالذي آتاهم من فضله مجمل تفصيله ما بعده وهو قسمان فضل عليهم في إخوانهم الذين وراءهم وفضل عليهم في أنفسهم، وهو نعمة الله عليهم وفضله الخاص بهم في دار الكرامة، وقد أبهمه فلم يعينه للدلالة على عظمه وعلى كونه غيبا لا يكتنه كنهه في هذه الدار. ثم اختتم الكلام بفضله على إخوانهم كما افتتحه به وترك العطف لتنزيل الاستبشار الثاني منزلة الاستبشار الأول حتى كأنه هو وليس عندي في ذلك عنه غير هذا.
وقوله :( للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ) جملة ابتدائية على الوجه الأول وخبرية على الوجهين الآخرين مما تقدم. وقد يقال إن أولئك الذين استجابوا لله ولرسوله في تلك الحالة هم خيار المؤمنين وكلهم من المحسنين المتقين فما معنى قوله " منهم " ؟ وأجابوا عن ذلك بأن " من " هنا للتبيين لا للتبعيض، وأن الوصف بالإحسان والتقوى للمدح والتعليل لا للتقييد، واختار الأستاذ الإمام قول من قال إن " من " للتبعيض وقال في محلها لأن من المؤمنين الصادقين من لم يخرج معه صلى الله عليه وسلم إلى " حمراء الأسد " أي وهم من الذين لا يضيع الله أجرهم ولكنهم لا يستحقون الأجر العظيم الذي استحقه الذين خرجوا معه وهم مثقلون بالجراح ومرهقون من الإعياء إلى استئناف قتال أضعافهم من الأقوياء.
أقول فالضمير في قوله " منهم " راجع على هذا القول للمؤمنين لا للذين استجابوا. وهو لا يظهر إلا إذا جعلنا قوله " الذين استجابوا " منصوبا على المدح والجملة المدحية معترضة. قل الأستاذ : وثم وجه آخر وهو أنه وجد في نفوس بعض المؤمنين بعد أحد شيء من الضعف فهذه الآيات كلها تأديب لهم. ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم للخروج لبوا واستجابوا له ظاهرا وباطنا، ولكن عرض لبعضهم عند الخروج بالفعل موانع في أنفسهم أو أهليهم فلم يخرجوا فأراد من " الذين أحسنوا واتقوا " : الذين خرجوا بالفعل، وهم بعض الذين استجابوا. والإحسان أن يعمل الإنسان العمل على أكمل وجوهه الممكنة والتقوى أن يتقي الإساءة والتقصير فيه. أقول : وهذا الوجه أظهر الوجوه وأحسنها.
ومما أشار إليه الأستاذ ما رواه ابن إسحاق أنه لما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلب العدو " وأن لا يخرج معنا إلا من حضر يومنا بالأمس " كلمه جابر بن عبد الله بن حرام فقال يا رسول الله إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال يا بني لا يبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة لا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي فتخلف على أخواتك فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم. فليعتبر المسلمون بهذه الآيات التي وردت في أولئك الأبرار الأخيار الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله وكيف جاء وعدهم بالأجر مقرونا بوصف الإحسان والتقوى. وأنى يعتبر المغرورون المسيئون، الذين هم عن صلاتهم ساهون، والذين هم للزكاة مانعون، والذين يبخلون بأنفسهم فلا يبذلونها في سبيل الحق ولا يتعبون، والذي يقولون الكذب وهم يعلمون، والذين يتولون المبطلين وينصرون، ويشاقون أهل الحق ويخذلون، ويحسبون أنهم على شيء، ألا إنهم هم الكاذبون، والله يعلم ما يسرون وما يعلنون.
وعدنا أبا سفيان وعدا فلم نجد | لميعاده صدقا وما كان وافيا |
فأقسم لو وافيتنا فلقيتنا | لأبت ذميما وافتقدت المواليا |
تركنا به أوصال عتبة وابنه | وعمرا أبا جهل تركناه ثاويا |
عصيتم رسول الله أف لدينكم | وأمركم الشيء الذي كان غاويا |
وإني وإن عنفتموني لقائل | فدى لرسول الله أهلي وماليا |
أطعناه لم نعدله فينا بغيره | شهابا لنا في ظلمة الليل هاديا |
( فزادهم إيمانا ) أي فزادهم قول الناس لهم إيمانا بالله وثقة به من حيث خشوه ولم يخشوا الناس الذين خوّفوا منهم بأنهم جمعوا لهم الجموع واعتمدوا على نصره ومعونته وإن قل عددهم وضعف جلدهم، فإنه هو العزيز القوي، وذلك من شأن المؤمنين كما جاء في الآية الثانية من الآيتين التاليتين. وكان من قوة إيمانهم وزيادته أن أقدموا وهم عدد قليل قد أثخنوا بالجراح على محاربة الجيش الكبير. فالزيادة كانت في الإذعان النفسي، والشعور القلبي، وتبعتها الزيادة في العمل، بعد ذلك القول الدال على ما انطوت عليه النفس من اليقين بوعد الله ووعيده، والشعور بعزته وسلطانه، فلولا ذلك لم يكن لهم حول ولا قوة على تلك الاستجابة والإقدام على ما كاد يكون وراء حدود الإمكان، فمن يقول إن الإيمان النفسي لا يزيد ولا ينقص فقد نظر إلى الاصطلاحات اللفظية لا إلى نفسه في إدراكها وشعورها وقوتها في الإذعان وضعفها.
قالوا : إن التصديق لا يعتد به ويكون إيمانا صحيحا إلا إذا وصل إلى درجة اليقين، فإذا نزل عن مرتبة اليقين كان ظنا أو شكا. وليس الظن إيمانا يعتد به والشك كفر صريح. ونقول : إن الظن الذي لا يغني من الحق شيئا ولا يعد إيمانا صحيحا هو ما لوحظ فيه جواز وقوع الطرف المخالف أي ما لوحظ فيه طرفان متقابلان. أحدهما أن هذا الأمر ثابت وثانيهما أنه يحتمل احتمالا ضعيفا أن لا يكون ثابتا، فإن جزم الذهن بأنه ثابت فلم يتصور الطرف المخالف، وهو عدم الثبوت كان جزمه هذا إيمانا، وإن لم يكن ناشئا عن برهان مؤلف من المقدمات اليقينية في عرف علماء المنطق على طريقتهم أو غير طريقتهم، ولا ملاحظا فيه استحالة الطرف المخالف. وأكثر المؤمنين بالله ورسله والمؤمنين بالجبت والطاغوت في هذه المرتبة من الإيمان، ويصح أن يطلق على أهلها لفظ " الموقنين ".
ولو كان الإيمان لا يصح إلا ببرهان منطقي على إثبات قضاياه واستحالة ضدها لما تصور أن يرتد أحد عن الإسلام بعد دخوله فيه، لأن اليقين بهذا المعنى لا يمكن الرجوع عنه، وإن أمكن مكابرته ومجاحدته باللسان، ولذلك قال الأستاذ الإمام :" الرجوع عن الحق بعد اليقين فيه كاليقين في العلم كلاهما قليل في الناس " يعني بذلك اليقين المنطقي الذي تنتهي مقدماته إلى البديهيات. ولكن الردة ثابتة نقلا ووقوعا. قال تعالى :( من كفر بالله من بعد إيمانه ) [ النحل : ١٠٦ ] وقال تعالى :( إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ) [ النساء : ١٣٨ ].
هذا وإن لليقين مراتب ودرجات يعلو بعضها بعضا وحصرها بعضهم في ثلاث : علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين. فالارتقاء من درجة إلى أخرى زيادة في نفس اليقين. ويروى عن أمير المؤمنين علي رضي الله عنه أنه قال :" لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا " وهذا القول مبني على أن اليقين يقبل الزيادة في نفسه ومن أيقن بأن فلانا طبيب ماهر لأنه رآه نجح في معالجة بعض المرضى يضعف يقينه إذا رآه خاب في معالجة آخرين ويزداد إذا رآه ينجح آونة بعد أخرى، ولا سيما في معالجة الأمراض الباطنية التي يعسر تشخيصها.
ثم إن فائدة الإيمان إنما تكون بإذعان النفس الذي يحرك فيها الخوف والرجاء وغيرهما من وجدانات الدين التي يترتب عليها ترك المنكر المنهي عنه وفعل المعروف المأمور به، ولولا ذلك لم يكن للدين فائدة في إصلاح حال البشر. وهل يقول عاقل إن الإذعان والخوف والرجاء من الأمور التي لا تقبل الزيادة والنقصان ؟ أما أنه لو كان إذعان جميع المؤمنين في درجة واحدة لتساووا في الأعمال، ولكنهم متفاوتون فيها تفاوتا عظيما كما هو ثابت بالمشاهدة، فثبت أنهم متفاوتون في منشأها من النفس وهو الإذعان، الذي يقوى ويضعف بالتبع للإيمان، وهذا عين قبول الزيادة والنقصان.
ومن هنا تفهم معنى إدخال السلف الصالح الأعمال في مفهوم الإيمان، فإن كل اعتقاد له أثر في النفس يتبعه عمل من الأعمال، فهي سلسلة مؤلفة من ثلاث حلقات يحرك بعضها بعضا، والإمام الغزالي يعبر عنها بالعلم والحال والعمل، فيقول : إن العلم بأن كذا يرضي الله تعالى أو كذا يسخطه مثلا يحدث في النفس حالا يترتب عليها فعل ما يرضيه ويقتضي مثوبته ؛ وترك ما يسخطه ويقتضي عقوبته ؛ ويقول إن ترتب بعضها على بعض واجب. وعبارته : إن العلم يوجب الحال والحال يوجب العمل. فارجع إليه في كتاب التوبة وغيره من كتب المجلد الرابع من الإحياء.
وأما زيادة الإيمان بزيادة متعلقاته وهي المسائل التي يؤمن بها المؤمن التي يعبر عنها بشعب الإيمان فهي ظاهرة لا تحتاج في بيانها إلى شرح طويل. فإن هذه المسائل لا يمكن أن تتلقى إلا بالتدريج فكلما تلقى المؤمن مسألة منها ازداد إيمانا. وليس هذا خاصا بالكافر الذي يدخل في الإسلام فإن الناشئ بين المؤمنين مثله في ذلك. وليست المسائل التي تزيد الإنسان معرفتها إيمانا محصورة في النصوص التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن القرآن هدانا إلى التفكر والنظر في ملكوت السماوات والأرض لنزداد إيمانا ونعتبر ونستفيد، وذلك يفتح لنا أبوابا من العلم بالله وسننه لا نهاية لها. فكل ما نهتدي إليه في بحثنا ونظرنا من أسرار الكائنات، وسنن الله تعالى في المخلوقات. فإنا نزداد به علما بالله وإيمانا بقدرته وحكمته البالغة، وقد قال سبحانه لأقوى الناس إيمان وأوسعهم علما به وبسننه ( وقل رب زدني علما ) [ طه : ١١٤ ].
وكذلك آيات القرآن تزيد من يتلقاها إيمانا كلما تلقى شيئا منها وقد يتدبرهاا لمؤمن بعد العلم بها بأيام أو سنين، فيفهم منها ما لم يكن يفهم فيزداد إيمانا. قال تعالى :( وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا ؟ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ) [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ] وقال علي رضي الله عنه حين سئل هل خصهم النبي صلى الله عليه وسلم بشيء : لا إلا أن يؤتي الله عبدا فهما في القرآن.
وليس هذا النوع من زيادة الإيمان هو المراد من الآية التي نحن بصدد تفسيرها وإنما المراد به النوع الأول وهو الزيادة في أصل اليقين والإذعان، المؤثر في الوجدان فهي من قبيل قوله تعالى :( ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ) [ الأحزاب : ٢١ ]
( وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) أي وقالوا معبرين عن إيمانهم حسبنا الله أي هو كافينا ما يهمنا من أمر الذين جمعوا لنا. وحسبنا بمعنى محسبنا، فهو من أحسبه إذا كفاه كما قالوا. " ونعم الوكيل " الذي توكل إليه الأمور، هو فإنه لا يعجزه أن ينصرنا عليهم، على قلتنا وكثرتهم، أو يلقي الرعب في قلوبهم، ويكفينا شر بغيهم وكيدهم وقد كان الأمر كذلك، فإن الله تعالى ألقى الرعب في قلب أبي سفيان وجيشه على كثرتهم فولوا مدبرين، وأعز الله بذلك رسوله والمؤمنين.
ومن مباحث البلاغة في الآية الإيجاز في قوله :( فانقلبوا ) فإنه يدل على أنهم خرجوا للقاء العدو وأنهم لم يلقوا كيدا فلم يلبثوا أن انقلبوا إلى أهليهم، ومثل هذا الحذف الذي يدل عليه المذكور بمجرد ذكره كثير في القرآن، كقوله تعالى :( فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) [ الشعراء : ٦٣ ] أي فضربه فانفلق. وقوله تعالى بعد ذكر مناجاة موسى عليه السلام له في أرض مدين وإرساله تعالى إياه إلى فرعون وجعل أخيه وزيرا له وأمرهما بأن يبلغا فرعون رسالته ( قال فمن ربكما يا موسى ) [ طه : ٥٠ ] ؟ أي قال فرعون لما بلغاه الرسالة : إذا كان الأمر كما تقولان فمن ربكما يا موسى. فقد فهم من هذا الجواب أن موسى وهارون عليهما السلام صدعا بأمر ربهما وهبا إلى فرعون فبلغاه ما أمرهما الله تعالى بتبليغه إياه.
قال الأستاذ الإمام : في الآية التنبيه إلى الموازنة بين أولياء الشيطان من مشركي مكة وغيرهم وبين ولي المؤمنين القادر على كل شيء، كأنه يقول : عليكم أن توازنوا بين قوتي وقوتهم ونصرتي ونصرتهم، فأنا الذي وعدتكم النصر وأنا وليكم ونصيركم ما أطعتموني وأطعتم رسولي. وفي هذا المقام شبهة تعرض لبعضهم : يقولون إن تكليف عدم الخوف من تكليف ما لا يستطاع ولا يدخل في الوسع، فإن الإنسان إذا علم أن العدد الكثير ذا العدد العظيمة يريد أن يواثبه وينزل به العذاب بأن رآه أو سمع استعداده من الثقات فإنه لا يستطيع أن لا يخافه، فكان الظاهر أن يؤمروا بإكراه النفس على المقاومة والمدافعة مع الخوف لا أن ينهوا عن الخوف.
والجواب : أن هذه الشبهة حجة الجبناء فهي لا تطوف إلا في خيال الجبان، فإن أعمال النفس من الخوف والحزن والقرح يتراءى للإنسان أنها اضطرارية وأن آثارها كائنة لا محالة مهما حدث سببها، والحقيقة أن ذلك اختياري من وجهين أحدهما : أن هذه الأمور تأتي بالعادة والمزاولة ولذلك تختلف باختلاف الشعوب والأجيال فمن اعتاد الإحجام عند الحاجة إلى الدفاع يصير جبانا والعادات خاضعة للاختيار بالتربية والتمرين ففي استطاعة الإنسان أن يقاوم أسباب الخوف ويعود نفسه الاستهانة بها، وثانيهما : أن هذه الأمور إذا حدثت بأسبابها. فالإنسان مختار في الإسلاس لها والاسترسال معها حتى يتمكن أثرها في النفس وتتجسم صورتها في الخيال ومختار في ضد ذلك وهو مغالبتها والتعمل في صرفها وشغل النفس بما يضادها ويذهب بأثرها أو يتبدل به أثرا آخر مناقضا له. فهذا الأمر الاختياري هو مناط التكليف، كأنه يقوله إذا عرضت لكم أسباب الخوف فاستحضروا في نفوسكم قدرة الله على كل شيء وكونه بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه، وتذكروا وعده بنصركم وإظهار دينكم على الدين كله وأن الحق يدمغ الباطل فإذا هو زاهق، وتذكروا قوله :( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ) [ البقرة : ٢٣٩ ] ثم خذوا أهبتكم وتوكلوا على ربكم فإنه لا يدع لخوف غيره مكانا في قلوبكم ا ه بتصرف منه. إن مقول " كأنه يقول " من عندي لأنني لم أكتب ما قاله رحمه الله فيه، وإنما تركت له بياضا لأكتبه في وقت الفراغ ثم نسيته، ومراده أن الوجه الأول إنما يتعلق به الاختيار في التربية التدريجية والثاني يتعلق به الاختيار فورا في كل وقت. وقد قلت في هذا المعنى شعرا في الحزن من مرثية نظمتها في أيام التحصيل وهو :
أطبيعة ذا الحزن ليس يشذ عن | ناموسه فرد من الأفراد |
أم ذاك مما أوجبته شرائع ال | أديان من هديٍ لنا ورشاد |
أم ذلك العقل السليم قضى على | كل الشعوب بهذه الأصفاد |
كلا، فليس الأمر ضربة لازب | لكنه ضرب من المعتاد |
فاخلع سرابيل العوائد إن تكن | ليست بنهج العقل ذات سداد |
وتقلد الحزم الشريف كصارم | كيما تنافح جيشها بجهاد |
من تدبر هذه الآية حق التدبير علم أن المؤمن الصادق لا يكون جبانا فالشجاعة وصف ثابت للمؤمنين إذا شاركهم فيه غيرهم فإنه لا يدرك فيه مداهم ولا يبلغ شأوهم. ومن بحث عن علل الأشياء يرى أن علة الجبن هي الخوف من الموت والحرص على الحياة، وكل من الخوف والحرص مما لا يتسع له قلب المؤمن كقلب غيره. قال تعالى في سياق الكلام على اليهود ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ؛ ومن الذين أشركوا، يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) [ البقرة : ٩٦ ] ولا يزال العالم كله يشهد أن الجيش الإسلامي أشجع جيوش الملل كلها هذا مع ما مني به المسلمون من ضعف الإيمان والجهل بالإسلام " هذا وما فكيف لو ".
لما كان ما كان من فوز المشركين في أحد وما أصاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين، أظهر بعض المنافقين كفرهم وقالوا لو كان محمدا نبيا ما قتل وغير ذلك مما سبق نقل بعضه، وما سارع هؤلاء في إظهار ما يسرون من الكفر وتثبيط المؤمنين عن نصر الإيمان إلا لظنهم أن المسلمين قد قضي عليهم، وقد كان هذا مما يحزن النبي صلى الله عليه وسلم فكان من تسلية التنزيل له في هذا السياق قوله عز وجل :
( ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر ) كما كان يسليه عما يحزنه من إعراض الكافرين عن الإيمان أو طعنهم في القرآن، أو في شخصه صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى :( ولا يحزنك قولهم، إن العزة لله جميعا ) [ يونس ٦٥ ] وقوله :( فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ) [ الكهف : ٦ ] وقوله :( فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ) [ فاطر : ٨ ] أو المراد من السياق تسليته صلى الله عليه وسلم عما ساءه وحزنه من اهتمام المشركين بنصرة شركهم ومعاودتهم للقتال بعد أحد في حمراء الأسد أو بدر الصغرى لولا خذلان الله لهم.
وقد روي القول بتفسير الذين يسارعون في الكفر بالمنافقين عن مجاهد وكذا قال في الذين اشتروا الكفر بالإيمان في الآية التالية لهذه الآية وقيل هم المرتدون خاصة. وروي عن الحسن أن الذين يسارعون في الكفر هم الكفار قالوا المسارعة فيه هي الوقوع فيه سريعا. وقال الأستاذ الإمام : المسارعة في الكفر هي المسارعة في نصرته والاهتمام بشؤونه والإيجاف في مقاومة المؤمنين، وما كل كافر يسارع في الكفر فإن من الكافرين القاعد الذي لا يتحرك لنصرة كفره ولا لمقاومة المخالف له فيه. والمسارعون المعنيون هنا هم أولئك النفر من المشركين كأبي سفيان ومن كان معه من صناديد قريش، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بهم المنافقون ورووا في ذلك روايات في سبب النزول. وإنما يأتي هذا لو قال :" يسارعون إلى الكفر ".
( إنهم لن يضروا الله شيئا ) أي إنهم لا يحاربونك فيضروك بذلك وإنما يحاربون الله تعالى ولا شك في ضعف قوتهم وعجزها عن مناوأة قوته عز وجل فهم لا يضرون بذلك إلا أنفسهم. أقول : وقد بين هذا بقوله ( يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة ) أي إنهم على حالة من فساد الفطرة تقتضي حرمانهم من نعيم الآخرة بسنة الله وإرادته فلا نصيب لهم فيها ( ولهم عذاب عظيم ) فوق عذاب الحرمان من نعيمها ولم يقيد هذا العذاب بكونه في الآخرة فهو أعم كما هو ثابت وقوعا ونقلا بمثل قوله تعالى في المنافقين :( سنعذبهم مرتين ) [ التوبة : ١٠١ ] فقوله :( إنهم لن يضروا الله ) تعليل للنهي عن الحزن وقوله :( يريد الله ) الخ بيان لكونهم يضرون أنفسهم ولا يضرونه تعالى، وجعله الأستاذ الإمام تعليلا آخر، إذ قال ما مثاله : فإن كنت تحزن عليهم رحمة بهم وشفقة عليهم لأن النور بين أيديهم وهم لا يبصرون، والهداية قد أهديت إليهم وهم لا يقبلون، وتطمع في هدايتهم وترجوها وكلما رأيت منهم حركة جديدة في الكفر، حدث لك حزن جديد- فعليك ألا تحزن أيضا.
هذا ما عندي عن الأستاذ الإمام وتركت بياضا في دفتر المذكرات عنه لأتم فيه ما قاله ثم نسيته، ولعل معناه أن هؤلاء ممن طبع الله على قلوبهم وختم على سمعهم وأبصارهم فلم يبق في نفوسهم استعداد ما للإيمان فلا مساغ للحزن من حالهم. ولكن هذا لا ينطبق إلا على من ماتوا على الكفر. فالأظهر أن الآية في مردة المنافقين وإلا فهي في مجموع من كان مع أبي سفيان لا جميعهم.
والقول الأول أشد اتفاقا مع قوله تعالى :( إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضروا الله شيئا ولهم عذاب أليم )
قال : وقد يعرض لبعض الأفكار وهم في هذا المقام، ويجول فيها صورة ما يتمتعون به من اللذات والقوة، وإمكان نيلهم من المؤمنين إذا أذنبوا كما نالوا منهم يوم أحد بذنبهم وتقصيرهم، فيقول الواهم : آمنا وصدقنا أن هؤلاء سيعذبون في الآخرة ولا يكون لهم نصيب من نعيمها ؛ ولكن أليسوا الآن متمتعين بالدنيا ؟ أليس لهم فيها من القوة ما تمكنهم من الاعتداء علينا ؟ وقد كشف هذا الوهم قوله تعالى :( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين )
هذا ما عندي عن الأستاذ الإمام في معنى الآية متصلا بما قبله. وقرأ حمزة " تحسبن " بالتاء على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من يحسب، وفتح سين بحسب في جميع القرآن هو ابن عامر وعاصم وكسرها الباقون. والإملاء والتخلية بين العامل وعمله ليبلغ مداه فيه من قولهم : أملى لفرسه. إذا أرخى له الطول ليرعى كيف شاء أي : لا تحسبن يا محمد هؤلاء الذين كفروا إملاءنا لهم خير لأنفسهم. فقوله :" إنما نملي لهم " بدل من المفعول، أو لا يحسبن هؤلاء الذين كفروا أن إملاءنا لهم خير لأنفسهم، فإن الخير ليس في الإمهال وإرخاء العنان للإنسان ليعمل بحسب استعداده ما يشاء، فإن هذه سنة الله في جميع البشر يعملون باختيارهم ما يشاؤون في دائرة الإمكان، وإنما يكون الخير للإنسان في الإملاء وطول الأجل، مع التمكين من العمل، إذا كان يزداد فيه عملا صالحا ينتفع به في نفسه بارتقائها في الأخلاق العالية ؛ والصفات الفاضلة، وينفع به الناس في تهذيب أنفسهم، وتحسين معيشتهم، وهؤلاء الكافرون من المنافقين والمشركين وأمثالهم لا يزدادون بجهلهم وسوء اختيارهم إلا إثما يضرهم في أنفسهم، بالتمادي في مكابرة الحق، والاسترسال في الفسق، وتأييد سلطان الشر في الخلق، فاللام في قوله :" ليزدادوا إثما " هي التي يسمونها لام العاقبة والصيرورة، أي لتكون عاقبتهم بحسب السنة العامة في الخلق ازدياد الإثم فإنهم بمقتضى كفرهم وباطلهم يقاومون أهل الحق من المؤمنين، وكلما عمل الإنسان على شاكلته قويت بالعمل، والإثم داعية الإثم، كما أن الخير يمد بعضه بعضا، فما من خليقة ولا شاكلة في الإنسان إلا ويزيدها العمل بمقتضاها قوة ورسوخا في نفسه فهذه سنة من سننه تعالى في طباع البشر.
وقد يرد هنا إشكالان أحدهما : أن من الكافرين من يعمل الخير فإذا طال عمره ازداد منه. وهذا شيء ثابت بالنظر والاختبار، ونصوص القرآن التي تحكم بالضلال على الكثير أو الأكثر وإذا أطلقت الحكم أو عممته أتبعته باستثناء الأقل كما تقدم ذلك في التفسير. ثانيهما : أن من الكفار من إذا أملي له يظهر له في أثناء عمله بكفره أنه مخطئ فيتوب ويؤمن ويعمل الأعمال الصالحة. فالقاعدة التي ذكرت في ازدياد الاعتقاد والخلق قوة ورسوخا بالعمل غير مطردة وإطلاق الآية غير ظاهر في جميع الكفار.
وإننا نحل الإشكالين كليهما بالمسائل الآتية حلا لا مرية فيه لمن تدبرها :
الأولى : أن الكلام في الذين ثبت كفرهم في علم الله وأنهم لا يرجعون عنه لأن تربيتهم وسيرتهم التي كانوا عليها مذ كانوا رانت على قلوبهم وأحاطت بهم خطيئاتهم الناشئة عنها حتى لم يبق للهداية طريق إلى نفوسهم.
الثانية : أن ما ذكر من ازديادهم إثما بالإملاء لهم هو شأنهم من حيث هم كافرون فهم من هذه الحيثية لا يزدادون على تمادي الزمان إلا إثما بعداوة النبي والمؤمنين وصدهم عن سبيل الله ومن تاب منهم وآمن لا يصدق على الإملاء له أنه من الإملاء للذين كفروا.
الثالثة : أن في كل أمة مهما كان دينها أناسا تغلب عليهم سلامة الفطرة وحب الفضيلة فهم يعملون الخير وإن غلب الشر والفساد على من حولهم من قومهم وهؤلاء إذا دعوا إلى الدين الحق دعوة صحيحة لا يسارعون في مجاحدته ومعاداة الداعي وإيذائه بل هم الذي يسارعون إلى الإيمان به عندما يظهر لهم صدق دعوته وقد يثبتون قبل ذلك وإنما الكفر الحقيقي هو جحود الحق بعد ظهور حجته كما قال تعالى :( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ) [ النساء : ١١٤ ] ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم ) [ محمد : ٣٢ ] فهؤلاء المراد بالذين كفروا في الآية.
الرابعة : أن من يستثنيهم القرآن من الحكم على الأمم التي يصفها بالكفر لا يستثنيهم في عمل السوء والشر فقط بل يستثنيهم من الكفر نفسه أيضا فكما قال في أهل الكتاب ( ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) [ الأعراف : ١٥٨ ] وقال :( ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ) [ الأعراف : ١٥٨ ] وقال ( منهم أمة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون ) [ المائدة : ٦٩ ] – قال فيهم أيضا ( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم : قلوبنا غلف. بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا ) [ النساء : ١٥٤ ].
الخامسة : قد كان كثير من أولئك الكافرين المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه مؤمنين بالقوة والاستعداد وكان إيمانهم يظهر حينا بعد حين عندما تتم أسبابه، كما كان كثير من المؤمنين معه في الظاهر، كافرين في الباطن، وكانت نواجم الكفر تبدو منهم آنا بعد آن، كما ظهر منهم يوم أحد- وما العهد بتفسير الآيات التي نزلت فيها ببعيد- وكما ظهر يوم الأحزاب وفي غزوة تبوك التي فضحهم الله تعالى فيها كما سيأتي في تفسير سورة الأحزاب وسورة التوبة إن شاء الله تعالى- فالله تعالى يحكم على الشيء بحسب الواقع ونفس الأمر، ولا تنس المسألة الأولى من هذه المسائل.
ثم إن في الآية من مواضع العبرة أن من شأن الكافر أن يزداد كفرا بطول العمر والتمكن من العمل على شاكلته وبحسب استعداده، ويقابله أن المؤمن كلما طال عمره كثرت حسناته، وازدادت خيراته، فعسى أن يتخذ هذا ميزانا من موازين الإيمان ومحاسبة النفس، فإنه مما يذهب بالغرور، ويخرج الذي فقهه من الظلمات إلى النور.
ومن مباحث اللفظ أن قوله :" أنما " الأولى المفتوحة الهمزة كتبت في المصاحف متصلة أن فيها بما اتباعا للمصحف الإمام، ويجب بحسب فن الرسم فصلها. و " ما " هذه مصدرية على ما جرينا عليه في تفسير الآية. وقيل موصولة وهي مع صلتها في تأويل مصدر، وهو لا يصح حمله على " الذين " إلا بتأويل كتقدير مضاف أو حال. وذهب صاحب الكشاف إلى ترجيح البدلية، وقالوا فيه إن البدل ما يستغنى به عن المبدل منه وهنا لا يصح الاستغناء. وأجاب الزمخشري بأن عدم الاستغناء متعين في المعنى لا في اللفظ. وذكر ذلك الأستاذ الإمام وقال : والحق أنه يتسامح في أن المصدرية وما دخلت عليه ما لا يتسامح في المصدر نفسه ولا حاجة في الآية إلى تقدير.
كانوا يصلون ويمتثلون كل ما يأمرهم به النبي صلى الله عليه وسلم ومنه إرسال السرايا المعتاد مثلها ولم تكن فيها مخاوف كبيرة على الإسلام وأهله ولذلك كان يختلط فيها الصادق بالمنافق بلا تمييز إذ التمايز لا يكون إلا بالشدائد. أما الرخاء واليسر وتكليف ما لا مشقة فيه كالصلاة والصدقة القليلة فكان يقبله المنافقون كالصادقين لما فيه من حسن الأحدوثة مع التمتع بمزايا الإسلام وفوائده ؛ وربما خدع الشيطان المؤمن الموقن بترغيبه في الزيادة من أعمال العبادات السهلة ولا سيما إذا كان داخلا في دين جديد لما في ذلك من الرياء والسمعة، والاستواء في الظاهر مدعاة الالتباس والاشتباه.
الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين وفي ذلك فوائد كثيرة منها أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق لما يغلب عليه من حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال، فإذا عرفه اتقى ذلك- ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تربهم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها.
هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس وأما الأفراد فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم فإن المؤمن الصادق قد يغتر بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد.
فلما كان هذا اللبس ضارا بالأفراد والجماعات ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب فتظهر الخفايا وتبلى السرائر حتى يرتفع الالتباس ؛ ويتضح المنهج السوي للناس.
قد يخطر في البال أن أقرب وسيلة لرفع اللبس هي أن يطلع الله المؤمنين على الغيب فيعرفوا حقيقة أنفسهم، وحقائق الناس الذين يعيشون معهم، ولكن الله تعالى أخبر أن هذا ليس من شأنه ولا من سنته كما أن ترك الالتباس والاشتباه ليس من سنته فقال :( وما كان الله ليطلعكم على الغيب ) وإنما لم يكن من شأنه إطلاع الناس على الغيب لأنه لو فعل ذلك لأخرج به الإنسان عن كونه إنسانا فإنه تعالى خلق الإنسان نوعا عاملا يحصل جميع رغائبه ويدفع جميع مكارهه بالعمل الكسبي الذي ترشده إليه الفطرة وهدي النبوة، ولذلك جرت سنته بأن يزيل هذا اللبس ويميز بين الخبيث والطيب بالابتلاء بالشدائد وما تتقاضاه من بذل الأموال والأرواح في سبيله التي هي سبيل الحق والخير لا سبيل الهوى كما ابتلى المؤمنين في واقعة أحد بجيش عظيم، وابتلاهم باختيار الخروج لمحاربته، وابتلى الرماة منهم بالمخالفة وإخلاء ظهور قومهم لعدوهم، ثم ابتلاهم بظهور العدو عليهم جزاء على ما ذكر حتى ظهر نفاق المنافقين، وزلزال ضعفاء المؤمنين، وثبات كلمة الموقنين.
( ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء ) أي يصطفيهم فيطلعهم على ما شاء من الغيب وهو ما في تبليغه للناس مصلحة ومنفعة لهم في الإيمان كصفات الله تعالى واليوم الآخر وبعض شؤونه والملائكة. وهذا هو الغيب الذي أمر المكلفون بالإيمان به ومدحوا عليه في مثل قوله تعالى :( آلم. ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ) [ البقرة : ١-٣ ] أقول : والدليل على كون المراد أن من يجتبيهم من رسله يطلعهم على ما شاء أن يبلغوه لعباده من خبر الغيب هو مثل قوله تعالى :( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ) [ الجن : ٢٦-٢٨ ] وعلى هذا يكون قوله تعالى :( فآمنوا بالله ورسله ) متضمنا للإيمان بما أخبر به رسله من خبر الغيب ( وإن تؤمنوا وتتقوا فلكم أجر عظيم ) أي إن أنتم آمنتم بما جاؤوا به من خبر الغيب وقرنتم بالإيمان تقوى الله تعالى بترك المنهيات وفعل المأمورات بقدر الاستطاعة فلكم أجر عظيم لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه.
لزُّ التقوى ههنا مع الإيمان في قرن وترتيب الأجر عليهما معا هو الموافق للآي الكثيرة في الذكر الحكيم، وهي أظهر وأشهر وأكثر من أن ينبه عليها بالشواهد كلما ذكر شيء منها.
وقد ذهب وهم بعض الناس إلى أن الآية تدل على أن من اجتباهم الله من رسله يعلمون الغيب كله واستثنى بعضهم علم الساعة لكثرة ما ورد من الآيات التي تنفي علمها عن نبينا صلى الله عليه وسلم، وزعم بعضهم أن الله تعالى أطلعه على علم الساعة قبل وفاته. وكل ذلك من الجرأة على الله تعالى والقول عليه بغير علم :( قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك، إن اتبع إلا ما يوحى إلي، قل هو يستوي الأعمى والبصير ؟ أفلا تتفكرون ) [ الأنعام : ٥٠ ] هذا ما أمر الله خاتم رسله أن يبلغه خلقه وهو ما أمر به من قبله من الرسل كما قال حكاية عن نوح على نبينا وعليه الصلاة والسلام :( ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك ) [ هود : ٣١ ] فهم كانوا ينفون أن يكونوا متصرفين في خزائن الله بالإعطاء والمنع وأن يكونوا يعلمون الغيب وأن يكونوا ملائكة أي من غير جنس البشر. وأمر الله نبيه أن يستدل على عدم معرفته الغيب بقوله :( ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) [ الأعراف : ١٨٧ ] وقال عز وجل :( وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ) [ الأنعام : ٥٩ ] يقولون إنه لا يعلمها غيره بعلم ذاتي استقلالي، ونقول إذا أجزنا لأنفسنا أن نقيد كل ما حكاه الله عن نفسه فإن ذلك يفضي إلى تعطيل جميع صفات الألوهية بالتأويل، فيجب أن نقف عند حدود النصوص في أمر الغيب لأنه لا يعرف بالقياس، ولا مجال فيه لعقول الناس، وسيأتي لهذا البحث مزيد بيان في سورة الأنعام وغيرها إن شاء الله تعالى.
قال الأستاذ الإمام : هذا كلام جديد مستقل لا يتعلق بواقعة أحد لا على سبيل القصد ولا على سبيل الاستطراد، فقد جاء في سياق القصة آيات في شؤون الكافرين في أنفسهم وما يليق بهم من الخزي والعقوبة ونحو ذلك تذكر للمناسبة ثم يعود الكلام إلى ما يتعلق بالواقعة، وقد انتهى ذلك بالآيات التي قبل هذه الآيات، وأما هذه وما بعدها إلى آخر السورة فهي في ضروب من الإرشاد وذلك لا يمنع أن يكون بينها وبين ما قبلها تناسب، بل التناسب فيها ظاهر. وأقول : إن الوجه في وصل هذه الآيات بما قبلها هو أن الكلام قبلها كان في وقعة أحد وما كان فيها من شأن المنافقين، وكان الكلام قبلها في حال اليهود، وقبله في حال النصارى مع الإسلام بمناسبة الكلام في أول السورة في التوحيد والكتاب العزيز واختلاف الناس فيه.
فلما انتهى ما أراد الله بيانه في هذا السياق ومنه أنه أيد دينه وأعز حزبه حتى أنه جعل خطأهم في الحرب مقيدا لهم –عاد إلى بيان حال اليهود وإقامة الحجة عليهم فقال :
( ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم ) قال الإمام الرازي اعلم أنه تعالى لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات المتقدمة شرع ههنا في التحريض على بذل المال في الجهاد، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل ببذل المال في سبيل الله. ا ه.
وحسبك ما علمت من وجه اتصال الآيات كلها بما قبلها.
قرأ حمزة " تحسبن " بالمثناة الفوقية على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل حاسب، وفي الكلام تقدير أي لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم. وقرأ الباقون " يحسبن " بالمثناة التحتية، والتقدير على هذه القراءة : ولا يحسبن الذين يبخلون بكذا بخلهم خيرا لهم. أولا يحسبن أحد، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم بخل الذين يبخلون بكذا خيرا لهم. وإعادة الضمير على مصدر محذوف لدلالة فعله أو وصف منه عليه كثير في كلام العرب. ومنه قوله تعالى :( اعدلوا هو أقرب للتقوى ) [ المائدة : ٩ ] أي العدل وقال الشاعر :
إذا نهي السفيه جرى إليه | وخالف والسفيه إلى خلاف١ |
هم الملوك وأبناء الملوك هم | والآخذون به والسادة الأول٢ |
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن الآية نزلت في أهل الكتاب الذين كتموا صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونبوته، فالبخل على هذا هو البخل بالعلم وبيان الحق. وروي عن الصادق وابن مسعود والشعبي والسدي وغيرهم أنها نزلت في مانعي الزكاة وقال الأستاذ الإمام : أكثر المفسرين على أن المراد بما آتاهم الله من فضله المال وأن البخل به هو البخل بالصدقة المفروضة فيه، وعدم التصريح بذلك من ضروب إيجاز القرآن، فكثيرا ما يترك التصريح بالقول لأنه مفهوم من السياق والقرائن دالة عليه، واللبس مأمون. فلا يخطر ببال أحد أن الوعيد هو على البخل بجميع ما يملك الإنسان من فضل ربه عليه، فإن الله أباح لنا الطيبات والزينة في نص كتابه والعقل يجزم أيضا بأن الله لا يكلف الناس بذل كل ما يكسبون وأن يبقوا جائعين عراة بائسين. وذهب آخرون إلى أن ذلك هو العلم وأن الكلام في اليهود الذين أوتوا صفات النبي صلى الله عليه وسلم فكتموها. والأولى أن تبقى على عمومها فإن المال من فضل الله، وكذلك العلم والجاه والناس مطالبون بشكر ذلك، والبخل على الناس به كفر لا شكر.
قال : والحكمة في ترك النص على أن البخل المذموم هنا هو البخل بما يجب بذله مما يتفضل الله به على المكلف هي أن في العموم من التأثير في النفس ما ليس للتخصيص، وهذه السورة متأخرة في النزول وكانت أكثر الأحكام إذا أنزلت مقررة فإذا طرق سمع المؤمن هذا القول تذكر فضل الله عليه وأن عليه فيه حقا للناس وأن هذا الخطاب يذكر به سواء منه ما هو معلوم معين وما ليس بمعلوم ولا معين بل هو موكول إلى اجتهاده الذي يتبع عاطفة الإيمان. وإنما نفى أولا كونه خيرا ثم أثبت كونه شرا مع أن الثاني هو الظاهر الذي لا يمارى فيه لأن المانع للحق إنما يمنعه لأنه يحسب أن في منعه خيرا له لما في بقاء المال في اليد مثلا من الانتفاع به بالتمتع باللذات ودفع الغوائل والآفات، وتوهم التمكن من قضاء الحاجات.
فإن قيل : إن التحديد كان أوضح وأنفى للإيهام، قلنا : إن القرآن كتاب هداية ووعظ يخاطب الأرواح ليجذبها إلى الخير بالعبارة التي هي أحسن تأثيرا لا ككتب الفقه وغيره من كتب الفنون التي تتحرى فيها التعريفات الجامعة المانعة. وكتاب هذا شأنه لا يجري على السنن الذي لا يليق إلا بضعفاء العقول الذين فسدت فطرهم بالتعاليم الفاسدة ( يعني تلك التعاليم التي تشغل الأذهان بعبارتها الضيقة وأساليبها المعقدة فلا ينفذ إلى القلب شيء مما يعتصر منها ولذلك قال ) وإن مثل هذه العبارة المطلقة التي تخطر في البال بذل كل ما في اليد- وتكاد توجبه لولا الدلائل الأخرى- تحدث في النفس أريحية للبذل تدفعها إلى بذل الواجب وزيادة عليه.
وأقول ؛ إن هذه العبارة الأخيرة مبنية على القول بأن المراد بما يبخل به هو المال، فإذا جرينا على القول الآخر المختار وهو أنه يعم المال والعلم والجاه وكل فضل من الله على العبد يمكنه أن ينفع به الناس، يمكننا أن نجعلها من قبيل المثال ونقول إن التحديد في بيان ما يجب بذله للناس من الجاه والعلم متعذر ؛ إذا فرضنا أن ما يجب تحديد بذله في المال متيسر، وبهذا كانت الآية شاملة لما لا يتأتى تفصيله إلا بصحف كثيرة وكان الجواب أظهر، والإيجاز أبلغ في الإعجاز وأكبر.
أقول : ويؤيد العموم في قوله " بما آتاهم الله " العموم في الجزاء على ذلك البخل في قوله :( سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة ) ولم يقل سيطوقون زكاتهم أو المال الذي منعوه. أما معنى التطويق فقد يكون من الطاقة فيكون بمعنى التكليف أي سيكلفون ذلك في الآخرة فلا يجدون إليه سبيلا كقوله ؛ ( ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون ) [ القلم : ٤٢ ] وقد يكون من الطوق أي سيجعل ما بخلوا به طوقا في أعناقهم يوبقون بما يلزمهم من الجزاء عليه فلا يجدون عنه مصرفا. وسيأتي نحو ذلك في المأثور. وقال الأستاذ الإمام : إن الآية لم تبينه ولا أشارت إلى كيفيته فإن ورد في صحيح الأحاديث ما يبينه اتبع الوارد بقدره لا يزاد عليه ولا ينقص منه، ووجب الإيمان به عند من صح عنده على أن من خبر الغيب الذي أمرنا بالإيمان به لمحض الاتباع. وذهب بعض المفسرين إلى أن معناه أنهم يحملون تبعة أموالهم، يقال : طوقني الأمر أي ألزمني إياه فحاصل المعنى على هذا : أن العقاب على البخل لزام لا مرد له.
أقول : فسر بعضهم التطويق بحديث أبي هريرة عند البخاري والنسائي " من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع ( ثعبان معروف ) أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة فيأخذ بلهزمتيه ( أي شدقيه ) يقول أنا مالك أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية٣. وفي رواية للنسائي " إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه أو يطوقه يقول أنا كنزك أنا كنزك " ٤ وهناك روايات عند ابن جرير وغيره ليس فيها لفظ التمثيل ولا التخييل وما ذكرناه أصح وابن عباس رضي الله عنهما لا يقول بهذا التفسير لأن الآية عنده في البخل بالعلم لأنها نزلت في بخل اليهود بإظهار صفات النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم.
وروى ابن جرير من طريق محمد بن سعد عنه أنه قال " قوله سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة : ألم تسمع أنه قال يبخلون ويأمرون الناس بالبخل يعني أهل الكتاب يكتمون ويأمرون الناس بالكتمان " وروي عن مجاهد أنه قال في تفسيرها " سيكلفون أن يأتوا بمثل ما بخلوا به من أموالهم يوم القيامة ". ولقول مجاهد وجه في اللغة أشد ظهورا على قول ابن عباس في الآية أي يكلفون بيان ما كتموا، ففي لسان العرب " وطوقتك الشيء كلفتكه، وطوقني الله أداء حقك قواني " وذكر ذلك وجها في الآية وفي حديث بمعناها قبل هذه العبارة فقال بعد أن أورد قولهم تطويقه الشيء بمعنى جعله طوقا له " وقيل : هو أن يطوق حملها يوم القيامة فيكون من طوق التكليف لا من طوق التقليد " أقول : وأما تفسيره طوقني الله أداء حقك بقواني فهو من طاقة الحبل وهي إحدى قواه لا من الطوق والمختار ما قلناه أولا.
( ولله ميراث السماوات والأرض ) أي إن له وحده سبحانه جميع ما في السماوات والأرض مما يتوارثه الناس، فينقل من واحد إلى آخر لا يستقر في يد، ولا يسلم التصرف فيه لأحد، إلى أن يفنى جميع الوارثين والموروثين، ويبقى المالك الحقيقي وهو الله رب العالمين، أو معناه أنه هو الذي ينقل كل ما يورث إلى من يشاء من عباده فقد يدخر المرء مالا لولده فيجعله الله بسننه في نظام الاجتماع متاعا لغيرهم كأن يموتوا قبل والدهم أو يضيعوا ما جمعه لهم بالإسراف فيه ويبقون فقراء، كأنه يقول ما بال هؤلاء الباخلين بما أعطاهم الله من فضله وإحسانه لا يفيضون بشيء منه على عياله مغترين بتصرفهم الظاهر فيه، وملكهم الانتفاع به، ذاهلين عن مصدره الذي جاء منه، وعن مرجعه الذي يعود إليه، فإن لاح في خاطر أحد منهم أنه يموت ويفنى لم يخطر له إلا أن له وارثا يرث ما يتمتع هو به كأولاده وذي القربى، فكأنه يبقى في يده فليعلم هؤلاء أن الوارث الذي ينتهي إليه التصرف فيما يتركه الهالكون، هو المالك الحقيقي الذي أعطى أولئك الهالكين ما كانوا يتمتعون وذلك يشمل المال وغيره.
الأستاذ الإمام : العبارة تبين أن كل ما يعطاه الإنسان من مال وجاه وقوة علم فإنه عرض زائل وصاحبه يفنى ويزول ولا معنى لاستبقاء الفاني ما هو فان مثله بل عليه أن يضع كل شيء في موضعه الذي يصلح له، ويبذله في وجوهه اللائقة به أي فهو بذلك يكون خليفة الله في إتمام حكمته في أرضه، ومحسنا للتصرف فيما استخلفه فيه.
( والله بما تعلمون خبير ) قرأ ابن كثير وأبو عمرو " يعملون " بالمثناة التحتية والباقون بالمثناة الفوقية أي لا يخفي عليه شيء من دقائق عملكم ولا مما تنطوي عليه الصدور من الهوى فيه والنية في إتيانه فيجزي كل عامل بما عمل على حسب تأثير عمله في نفسه.
٢ - يروى البيت:
هم الملوك وأبناء الملوك لهم | فضل على الناس في الآلاء والنعم |
٣ - أخرجه البخاري في الزكاة باب ٣، وتفسير سورة ٣، باب ١٤، والنسائي في الزكاة باب ٢٠، ومالك في الزكاة حديث ٢٢..
٤ - أخرجه النسائي في الزكاة باب ٢٠، وأحمد في المسند ٢/ ٩٨، ١٣٧، ١٥٦، ٢٧٩، ٣٥٥، ٣٧٩، ٤٨٩..
قال الأستاذ الإمام : هذا كلام جديد مستقل لا يتعلق بواقعة أحد لا على سبيل القصد ولا على سبيل الاستطراد، فقد جاء في سياق القصة آيات في شؤون الكافرين في أنفسهم وما يليق بهم من الخزي والعقوبة ونحو ذلك تذكر للمناسبة ثم يعود الكلام إلى ما يتعلق بالواقعة، وقد انتهى ذلك بالآيات التي قبل هذه الآيات، وأما هذه وما بعدها إلى آخر السورة فهي في ضروب من الإرشاد وذلك لا يمنع أن يكون بينها وبين ما قبلها تناسب، بل التناسب فيها ظاهر. وأقول : إن الوجه في وصل هذه الآيات بما قبلها هو أن الكلام قبلها كان في وقعة أحد وما كان فيها من شأن المنافقين، وكان الكلام قبلها في حال اليهود، وقبله في حال النصارى مع الإسلام بمناسبة الكلام في أول السورة في التوحيد والكتاب العزيز واختلاف الناس فيه.
( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال " دخل أبو بكر بيت المدارس فوجد يهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، فقال أبو بكر : ويحك بافنحاص اتق وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيا عنا لما استقرض منا كما يزعم صاحبكم وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيا عنا لما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : يا رسول قال قولا عظيما يزعم أن الله تعالى شأنه فقير وهم عنه أغنياء. فلما قال ذلك غضبت لله تعالى مما قال فضربت وجهه. فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك، فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر هذه الآية. وأنزل في أبي بكر وما بلغه من الغضب :( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) -الآية الآتية بعد آيات-
وأخرج ابن المنذر عن قتادة أنه قال : ذكر لنا أنها نزلت في حيي بن أخطب لما أنزل الله ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة ) قال سيقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقير الغني، وأخرج الضياء وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل الله تعالى :( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا ) فقالوا يا محمد : فقير ربك يسأل عباده القرض ؟ فأنزل الله الآية. فالظاهر أن هذه المجازفة في القول قد وقعت من غير واحد من يهود وما يقوله البعض ويجيزه الجمع يسند إلى القائلين والمجيزين جميعا والظاهر أنهم قالوا ذلك تهكما بالقرآن ورواية فنحاص ليس لها مناسبة ظاهرة.
سمع الله قول هؤلاء المجازفين لم يفته ولم يخف عليه فهو سيجزيهم عليه، فهذا التعبير يتضمن التهديد والوعيد كما يتضمن قوله " سمع الله لمن حمده " البشارة والوعد بحسن الجزاء وكما يتضمن قوله :( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما ) [ المجادلة : ١ ] مزيد العناية وإرادة الإشكاء والإغاثة، ذلك بأن قولك سمعت ما قال فلان يشعر بما لا يشعر به قولك علمت بما قال : والسمع هو العلم بالمسموعات خاصة بوجه خاص. وذهب بعض من كتب في علم الكلام إلى أن سمع الباري تبارك وتعالى يتعلق بجميع الموجودات، لا يختص بالكلام أو بالأصوات، وهو رأي تنكره اللغة ولا يعرفه الشرع وليس للرأي أو العقل أن يتحكم في صفات الله تبارك وتعالى بنظرياته وأقيسته. ومن فائدته التعبير بسمع الله لكلام عباده مراقبتهم له في أقوالهم، ولا تتحقق هذه الفائدة بخصوصها على رأي ذلك المتكلم.
( سنكتب ما قالوا ) وعيد لهم على ذلك القول قالوه استهزاء بالقرآن. قرأ حمزة " سيكتب " بالياء المضمومة أي سيكتب قولهم هذا ويثبت عند الله تعالى فيعاقبهم عليه لأنه لا يفوته. وقرأ الباقون بالنون. قال الأستاذ الإمام قال مفسرنا كغيره أي نأمر بكتابته وغفلوا عن قوله :( وقتلهم الأنبياء بغير حق ) فإنه كان من سلفهم فما معنى التعبير عن كتابته بصيغة الاستقبال ؟ لا بد من تفسيره بوجه يصح في الأمرين، ولكن ضعف المسلمين في لغة القرآن هو الذي أوقعهم في هذا الضعف في الفهم والضعف في الدين وتبع ذلك الضعف في كل شيء. ولا يقال – كما زعم بعض المجاورين- إن الفعل إذا أسند إلى الله تعالى يتجرد من الزمان فإن الكلام في اختلاف التعبير. والمعنى الصحيح لهذه الكلمة " سنعاقبهم على ذلك حتما " فإن الكتابة هنا عبارة عن حفظه عليهم، ويراد به لازمه وهو العقوبة عليه. والتوعد بحفظ الذنب وكتابته وإرادة العقوبة عليه شائع مستعمل حتى اليوم فلا يحتاج إلى دقة نظر. ولفظ الكتابة آكد من لفظ الحفظ لما فيه من معنى الاستتباب وأمن النسيان. وإنما ضم قتل الأنبياء- وهو أفظع جرائم هذا الشعب- إلى الجريمة التي سيق الوعيد لأجلها لبيان أن مثل هذا الكفر والتدهور ليس بدعا من أمرهم فإنه سبق لهم أن قتلوا الهداة المرشدين بعد ما جاءوهم بالبينات، فهم يجرون في هذا على عرق وليس هو بأول كبائرهم، وللإيذان بأن الجريمتين سيان في العظم واستحقاق العقاب ( كما قال صاحب الكشاف ).
وأما إضافة القتل إلى الحاضرين فقد تقدمت حكمته في سورة البقرة ويشير إليه قول المفسرين إنهم يعدون قتلة لرضاهم بما فعله سلفهم وهذا تحويم حول المعنى الذي أوضحناه هناك، وهو أن الأمم متكافلة في الأمور العامة إذ يجب على الأمة الإنكار على فاعل المنكر من أفرادها وتغييره أو النهي عنه لئلا يعشو فيها فيصير خلقا من أخلاقها أو عادة من عادتها فتستحق عقوبته في الدنيا كالضعف والفقر وفقد الاستقلال، كما تستحق عقوبته في الآخرة بما دنس نفوسها ولذلك لعن الله تعالى الذين كفروا من بني إسرائيل بما عصوا وكانوا يعتدون وبين سبب ذلك بقوله :( كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه ) [ الأنعام : ٨٢ ].
ذلك بأن من أقر فاعل المنكر فلم ينهه ولم يسخط عليه تكون نفسه مشاكلة لنفسه تأنس به ثم لا يلبث أن يفعل المنكر ولو بعد حين ما لم يكن عاجزا عن ذلك بسبب من الأسباب الحسية، كضعف الجسم أو قلة المال أي أن مثل هذا لا يترك المنكر لأنه رذيلة تدنس نفس فاعلها فيكون بعيدا من الخير غير مستحق لرضوان الله عز وجل. قال الأستاذ الإمام : وثم وجه آخر يجعل إسناد المنكر إلى مقره والراضي به إسنادا قريبا من الحقيقة وهو أن عدم النهي عن المنكر هو السبب في انتشاره وشيوعه لأن الميالين إلى المنكر لو علموا أن الناس يمقتونهم ويؤاخذونهم عليه لما فعلوه إلا ما يكون من الخلس الخفية. ولذلك كان الساكت على المنكر شريك الفاعل في الإثم- قال- كل هذا ظاهر فيمن يفعل المنكر في زمنه ولا ينكره، وأما من يقع المنكر من قومهم قبل زمنهم كاليهود الذين نزلت هذه الآية وأمثالها فيها كقوله " فلم قتلتموهم " ؟ فهم يتفقون مع من سبقهم في علة الجريمة ومبعثها من النفس وهو عدم المبالاة بالدين وقد كان هذا الخلف متفقين مع من سبقهم في الأخلاق والسجايا وينتسبون إليهم انتساب حسب وتشرف أي فهم جديرون بأن يكونوا على شاكلتهم.
وأقول : إن المتأخر ربما كان أضرى بالشر من المتقدم لتمكن داعية الشر من نفسه بالوراثة والقدوة جميعا. وقد حاول غير واحد من اليهود قتله صلى الله عليه وسلم كما كان آباؤهم يفعلون بل هم الذين قتلوه، فإنه مات بالسم الذي وضعته له اليهودية في الشاة بخيبر فقد ورد في الحديث أنه قال لعائشة في مرض موته " يا عائشة ما زلت أجد ألم الطعام الذي أكلت بخيبر، فهذا أوان وجدت انقطاع أبهري " ١ رواه البخاري في صحيحه. وفي رواية لغيره من حديث أبي هريرة " ما زالت أكلة خيبر تعاودني كل عام حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري " ٢.
الأستاذ الإمام : إن الله تعالى نبهنا بهذا الضرب من التعبير إلى أن المتأخر إذا لم ينظر إلى عمل المتقدم بعين البصيرة ويطبقه على الشريعة فيستحسن منه ما استحسنت ويستقبح ما استهجنت ويسجل على المسيء من سلفه إساءته وينفر منها، فإنه يعد عند الله تعالى مثله وشريكا له في إثمه ومستحقا لمثل عقوبته فعليكم باتخاذ الوسائل لإزالة المنكرات الفاشية ولا بد في ذلك من بذل الجهد، وإعمال الروية والفكر، وما علينا الآن في مثل هذه البلاد، إلا الحيلة في بذل النصح والإرشاد، بأي ضرب من ضروبه، وكل أسلوب من أساليبه.
( ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) وقرأ حمزة " ويقول "، قال الأستاذ الإمام : الذوق عبارة عن الشعور بالألم أو ضده فمعنى ذوقوا تألموا. أما كيفية القول فلا نبحث فيها وإنما نعلم أن الله تعالى يوصل هذا المعنى إليهم.
أقول : وزعم بعض المستشرقين أن هذا الاستعمال لم يكن معروفا عند العرب قبل القرآن وأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذه من التوراة. وهو زعم باطل وبمثله يستدلون على اقتباس النبي من كتبهم، فقد روي أن أبا سفيان قال لما رأى حمزة عليه رضوان الله مقتولا ( ذق عقق ) أي ذق عاقبة إسلامك أيها العاق لدين آبائك ولمن ثبت عليه من قومك فلم يدخلوا في الإسلام. نعم إن أصل الذوق وهو ما يكون باللسان لمعرفة طعم الطعام ثم توسعوا فيه فاستعملوه في غير ذلك من المحسوسات كقولهم ( ذقت القوس ) إذا جذبت وترها لتنظر ما شدتها. وقولهم ذقت الرمح إذا غمزتها قال ابن مقبل :
يهززن للمشي أوصالا منعمة | هز الشمال ضحى عيدان يبرينا٣ |
أو كاهتزاز رديني تذاوقه | أيدي التجار فزادوا متنه لينا |
فذوقوا كما ذقنا غداة محجَّرِ | من الغيظ في أكبادنا والتحوُّبِ٤ |
٢ - أخرجه البخاري في المغازي باب ٨٣، والدارمي في المقدمة باب ١١، وأحمد في المسند ٦/١٨..
٣ - البيتان من البسيط، وهما في ديوان ابن مقبل ص ٣٢، ٣٢٨، ولسان العرب (ذوق)، (عدن)، وأساس البلاغة (ذوق)..
٤ - البيت من الطويل، وهو لطفيل الغنوي في ديوانه ص ٣٢، ولسان العرب (حوب)، (حجر)، (ذوق)، ومقاييس اللغة ٢/١١٣، والتنبيه والإيضاح ٢/ ١٠٣، ومجمل اللغة ٢/١١٦، وتهذيب اللغة ٥/ ٢٦٩، وكتاب الجيم ١/ ٢٠٥، وجمهرة اللغة ص ٢٨٦، ١٠١٨، والأغاني ١٣/ ٣٤٠، وتاج العروس (جوب) (حجر). ولعل قول المؤلف: قال ابن طفيل خطأ من الناسخ أو خطأ مطبعي..
قال الأستاذ الإمام : هذا كلام جديد مستقل لا يتعلق بواقعة أحد لا على سبيل القصد ولا على سبيل الاستطراد، فقد جاء في سياق القصة آيات في شؤون الكافرين في أنفسهم وما يليق بهم من الخزي والعقوبة ونحو ذلك تذكر للمناسبة ثم يعود الكلام إلى ما يتعلق بالواقعة، وقد انتهى ذلك بالآيات التي قبل هذه الآيات، وأما هذه وما بعدها إلى آخر السورة فهي في ضروب من الإرشاد وذلك لا يمنع أن يكون بينها وبين ما قبلها تناسب، بل التناسب فيها ظاهر. وأقول : إن الوجه في وصل هذه الآيات بما قبلها هو أن الكلام قبلها كان في وقعة أحد وما كان فيها من شأن المنافقين، وكان الكلام قبلها في حال اليهود، وقبله في حال النصارى مع الإسلام بمناسبة الكلام في أول السورة في التوحيد والكتاب العزيز واختلاف الناس فيه.
( ذلك بما قدمت أيديكم ) أي ذلك العذاب الذي تذوقون مرارته أو حرارته بسبب ما قدمتم في الدنيا من الأعمال. عبر عن الأشخاص بالأيدي لأن أكثر الأعمال تزاول بها، وليفيد أن ما عذبوا عليه هو من عملهم حقيقة لا مجازا. فإن نسبة الفعل إلى يد الفاعل تفيد من إلصاقه به ما لا تفيده نسبته إلى ضميره لأن الإسناد إلى اليد يمنع التجوز، فمن المعهود أن يقال : فلان فعل كذا إذا أمر به أو مكن العامل منه وإن لم يباشره بنفسه ومتى أسند إلى يده تعين أن يكون باشر فعله بنفسه، وإن لم يكن من عمل الأيدي ويدخل في قوله ( بما قدمت أيديكم ) جميع ما كان منهم من ضروب الكفر والفسوق والعصيان.
( وأن الله ليس بظلام للعبيد ) أي، ذلك العذاب إنما يصيبكم بعملكم وبكونه تعالى عادلا في حكمه وفعله لا يجور ولا يظلم، فيعاقب غير المستحق للعقاب ولا يجعل المجرمين كالمتقين والكافرين كالمؤمنين، فلو كان سبحانه ظلاما لجاز أن لا يذوقوا ذلك العذاب على كفرهم به واستهزائهم بآياته وقتلهم لأنبيائه بأن يجعلوا مع المقربين في جنات النعيم وإذا لكان الدين عبثا :( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أن نجعل المتقين كالفجار ) [ ص : ٢٨ ] ( أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ؟ ساء ما يحكمون ) [ الجاثية : ٢١ ] ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) [ القلم : ٣٥ ] فالاستفهام الإنكاري في هذه الآيات يدل على أن ترك تعذيب أولئك الكفرة الفجرة هو من المساواة بين المحسن والمسيء ووضع الشيء في غير موضعه وناهيك به ظلما كبيرا. فبهذا كله تعلم أن استشكال عطف نفي الظلم على جرائمهم في غير محله والمبالغة في صيغة " ظلام " لإفائدة أن ترك عقوبة مثلهم يعد ظلما كبيرا أو كثيرا.
قال الأستاذ الإمام : يعني أن هذه العقوبة عدل منه سبحانه وأشار بصيغة المبالغة ( ظلام ) إلى أن مثل هذه التسوية لا تصدر إلا ممن كان كثير الظلم مبالغا فيه. وقال غيره : إنه لما كان القليل من الظلم يعد كثيرا بالنسبة إلى رحمته الواسعة عبر في نفيه بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة.
قال الأستاذ الإمام : هذا كلام جديد مستقل لا يتعلق بواقعة أحد لا على سبيل القصد ولا على سبيل الاستطراد، فقد جاء في سياق القصة آيات في شؤون الكافرين في أنفسهم وما يليق بهم من الخزي والعقوبة ونحو ذلك تذكر للمناسبة ثم يعود الكلام إلى ما يتعلق بالواقعة، وقد انتهى ذلك بالآيات التي قبل هذه الآيات، وأما هذه وما بعدها إلى آخر السورة فهي في ضروب من الإرشاد وذلك لا يمنع أن يكون بينها وبين ما قبلها تناسب، بل التناسب فيها ظاهر. وأقول : إن الوجه في وصل هذه الآيات بما قبلها هو أن الكلام قبلها كان في وقعة أحد وما كان فيها من شأن المنافقين، وكان الكلام قبلها في حال اليهود، وقبله في حال النصارى مع الإسلام بمناسبة الكلام في أول السورة في التوحيد والكتاب العزيز واختلاف الناس فيه.
( الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ) أي أولئك هم الذين قالوا في الاعتذار عن عدم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أن الله عهد إلينا في كتابه التوراة أن لا نؤمن لرسول يدعي أنه مرسل من الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
قال المفسرون : إنهم أرادوا شيئا كان شائعا عندهم، وهو أن يذبح القربان من النعم أو غيرها فيوضع في مكان معين فتأتي نار بيضاء من السماء لها دوي فتأخذه أو تحرقه. وروى ابن جرير عن ابن عباس أن الرجل منهم كان يتصدق بالصدقة فإذا تقبل منه نزلت عليه نار من السماء فأكلته. أي أكلت ما تصدق به. هذا ما أورده وردوه بأن هذا القربان إنما كان يوجب الإيمان لأنه معجزة لا لذاته إذ هو كغيره من المعجزات.
أقول : إن القربان في عبادة بني إسرائيل كان على قسمين دموي وغير دموي. فالقرابين الدموية كانت تكون من الحيوانات الطاهرة كالبقر والغنم والحمام، وغير الدموية هي باكورات المواسم والخمر والزيت والدقيق. والقرابين عندهم أنواع منها المحرقات والتقدمات وذبائح السلامة وذبائح الخطيئة وذبائح الإثم. وكانوا يحرقون المحرقات بأيديهم، وقد جاء في الفصل الأول سفر اللاويين في ذلك ما نصه :
١-ودعا الرب موسى. وكلمه من خيمة الاجتماع قائلا.
٢-كلم بني إسرائيل وقل لهم إذا قرب إنسان منكم قربانا للرب من البهائم فمن البقر والغنم تقربون قرابينكم.
٣-إن كان قربانه من البقر فذكرا صحيحا يقرب إلى باب خيمة الاجتماع يقدمه للرضا عنه أمام الرب.
٤-ويضع يده على رأس المحرقة فيرضى عنه للتكفير عنه.
٥-ويذبح العجل أمام الرب ويقرب بنو هارون الكهنة الدم ويرشون الدم مستديرا على المذبح الذي لدى باب خيمة الاجتماع.
٦- ويسلخ المحرقة ويقطعها إلى قطعها.
٧- ويجعل بنو هارون الكاهن نارا على المذبح ويرتبون حطبا على النار.
٨-ويرتب بنو هارون الكهنة القطع مع الرأس والشحم فوق الحطب الذي على النار التي على المذبح.
٩-وأما أحشاؤه وأكارعه فيغسلها بماء ويوقد الكاهن الجميع على المذبح محرقه وقود رائحة سرور للرب.
ثم ذكر تفصيل قربان الغنم بصنفيه الضأن والمعز والطير وهو صنفان أيضا الحمام واليمام بنحو ما تقدم كما بين بقية أنواع القرابين. فمن هنا تعلم إنهم كانوا يوقدون النار بأيديهم ويحرقون بها القرابين المحرقات ولكن اليهود كانوا يلقون إلى المسلمين أخبارا من خرافاتهم أو مخترعاتهم ليودعوها كتبهم ويمزجوها بدينهم، ولذلك نجد في كتب قومنا من الإسرائيليات الخرافية ما لا أصل له في العهد القديم ولا يزال يوجد فينا من يقدس كل ما روي عن أوائلنا في التفسير وغيره ويرفعه عن النقد والتمحيص ولا يتم تمحيص ذلك إلا لمن اطلع على كتب بني إسرائيل.
أما الأستاذ الإمام فقد ذكر ما قاله المفسرون في القربان، ثم قال : ويجوز وهو الأظهر أن يكون معنى " حتى يأتينا بقربان تأكله النار " أن يفرض علينا تقريب قربان يحرق النار. فقد كان من أحكام الشريعة عندهم أن يحرقوا بعض القربان وقد أمر الله تعالى نبيه أن يرد عليهم فقال :( قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين ) في زعمكم إنكم لا تؤمنون بي لأني لم آمر بإحراق القرابين أي إنكم لم ترضوا بعصيان أولئك الرسل فقط بل قسوتم عليهم وقتلتموهم.
قال الأستاذ الإمام : لا ريب أن هذا لم يقع منكم إلا لأنكم شعب غليظ الرقبة ( بذا وصفوا في التوراة التي في أيديهم ) وأنكم قساة غلف القلوب لا تفقهون الحق ولا تذعنون له. وهذا مبني على ما قلناه من اعتبار الأمة باتفاق أخلاقها وصفاتها وعادتها العامة كالشخص الواحد ؛ وكان هذا المعنى معروفا عند العرب فإنهم يلصقون جريمة الشخص بقبيلته ويؤاخذونها به ولو بعد موته. ويدلنا هذا على أن الجنايات والجرائم مرتبطة في حكم الله تعالى بمناشئها ومنابعها فمن لم يرتكب الجريمة لأن آلاتها وأسبابها غير حاضرة لديه لا يكون بريئا من الجريمة إذا كان منشؤها والباعث عليها مستقرا في نفسه، وهذا المنشأ هو التهاون بأمر الشريعة وعدم المبالاة بأمر الحق والتحري فيه.
قال الأستاذ الإمام : هذا كلام جديد مستقل لا يتعلق بواقعة أحد لا على سبيل القصد ولا على سبيل الاستطراد، فقد جاء في سياق القصة آيات في شؤون الكافرين في أنفسهم وما يليق بهم من الخزي والعقوبة ونحو ذلك تذكر للمناسبة ثم يعود الكلام إلى ما يتعلق بالواقعة، وقد انتهى ذلك بالآيات التي قبل هذه الآيات، وأما هذه وما بعدها إلى آخر السورة فهي في ضروب من الإرشاد وذلك لا يمنع أن يكون بينها وبين ما قبلها تناسب، بل التناسب فيها ظاهر. وأقول : إن الوجه في وصل هذه الآيات بما قبلها هو أن الكلام قبلها كان في وقعة أحد وما كان فيها من شأن المنافقين، وكان الكلام قبلها في حال اليهود، وقبله في حال النصارى مع الإسلام بمناسبة الكلام في أول السورة في التوحيد والكتاب العزيز واختلاف الناس فيه.
( فإن كذبوك ) بعد أن جئتهم بالبينات الناصعة، والزبر الصادعة، والكتاب الذي ينير السبيل، ويقيم الدليل، فلا تأس عليهم، ولا تحزن لكفرهم، ولا تعجب من فساد أمرهم، فإن هذه سنة الله في العباد، وشنشنة من سبق من هؤلاء من آباء وأجداد :( فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير ) فأقاموا على أقوامهم الحجة ببيناتهم، وهزوا قلوبهم بزبر عظاتهم، وأناروا بالكتاب سبيل نجاتهم، فما أغنى ذلك عنهم من شيء لما انصرفت قلوبهم عن طلب الحق وتحري سبيل الخير فالآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وبيان لطباع الناس واستعدادهم.
والزبر جمع زبور من زبرت الكتاب إذا كتبته مطلقا أو كتابة عظيمة غليظة قاله الراغب أو متقنة كما في لسان العرب، فهو بمعنى الكتب والصحف يقال : زبرت الكتاب بمعنى كتبته، وبمعنى قرأته أو بمعنى المواعظ الزاجرة : قال في اللسان. وزبره يزبره بالضم نهاه وانتهره وفي الحديث " إذا رددت على السائل ثلاثا فلا عليك أن تزبره " ١ أي تنهره وتغلظ له في القول والرد. والزبر بالفتح الزجر والمنع : ا ه وأصل معنى الزبر القطع ومنه زبر الحديد قطعه ؛ ويوشك أن تكون الزبر هنا المواعظ والكتاب المنير جنسه أي الكتب الأربعة أو الزبر صحف الأنبياء والكتاب المنير الإنجيل.
الكلام في الآيتين مستقل ووجه اتصال الآية الأولى منهما بما قبلها هو أن في التي قبلها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب اليهود وغيرهم له ببيان طبيعة الناس في تكذيب الأنبياء السابقين وصبر أولئك على المجاحدة والمعاندة والكفر. وفي هذه تأكيد للتسلية، كما قال الإمام الرازي من حيث إن الموت هو الغاية وبه تذهب الأحزان ومن حيث إن بعده دارا يجازى فيها كل بما يستحق. وقال الأستاذ الإمام : إنها تسلية أخرى، كأنه يقول لا تضجر ولا تسأم لما ترى من معاندة الكافرين فإن هذا منته، وكل ما له نهاية فلا بد من الوصول إليه، فالذي يصير إليه هؤلاء المعاندون قريب فيجازون على أعمالهم ولا تنتظر أن يوفوا جزاء عملهم السيئ كله في هذه الدار كما أن أجرك على عملك لا توفاه في هذه الحياة، فحسبك ما أصبت من الجزاء الحسن وحسبهم ما أصيبوا وما يصابون به من الجزاء السيئ في الدنيا. واعلم أنه لا يوفى أحد جزاءه في هذه الدار لأن توفية الأجور إنما تكون في الآخرة.
قال : ويصح وصلها بما قبلها من قوله تعالى :( ولا تحسبن الذين يبخلون ) الخ أي إن أولئك البخلاء الذين يمنعون الحقوق وأولئك المتجرئين على الله والظالمين لرسله والذين عاندوا خاتم النبيين – كل أولئك سيموتون كما يموت غيرهم ويوفون أجورهم يوم القيامة- وكذلك لا يحسبن أحد من المؤمنين الذين يقاومون هؤلاء ويلقون منهم في سبيل الإيمان ما يلقون أنهم يوفون أجورهم في الدنيا، كلا إنهم إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.
أقول : إن الكلام في الآيتين هو تصريح بما في ضمن الآية السابقة من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه والتفات إلى خطابهم فإن توفية الأجور متبادرة في الخير، فهذه الآية تمهيد لما بعدها ليسهل على المسلمين وقع إنبائهم بما يبتلون به.
ثم قال تعالى :( كل نفس ذائقة الموت ) والمعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو أن كل حي يموت، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين، لذلك قال الأستاذ الإمام : لكلمة " نفس " استعمالات يصح في بعض المواضع منها ما لا يصح في موضع آخر، والمتبادر هنا أن المراد بالنفس ما به الحياة المعروفة في الحيوان، ولا يصح أن تكون هنا بمعنى الذات أي فيقال :( إنه يدخل في عمومها البارئ تعالى لإضافة لفظ النفس إليه عز وجل ) واستشكلوا موت النفس مع أنها باقية لأنها تبعث يوم القيامة وإنما يبعث الموجود ولو عدمت النفس لما صح أن يُقال إنها تبعث. وإنما كان يُقال توجد. وأجابوا عنه بأن كونها باقية لا ينافي كونها تذوق الموت فإن الذي يذوق هو الموجود والميت لا يذوق لأن الذوق شعور فالحالة المخصوصة التي هي مفارقة الروح للبدن إنما تشعر بها النفس. وأما البدن فلا شعور له لأنه يموت. ومن العبث والجهل البحث في تعريف الموت فالموت هو الموت المعروف لكل أحد. وهناك جواب آخر أبسط من هذا واظهر وهو أن الخطاب هنا على العرف المعهود في التخاطب المتبادر لكل عربي وهو أن كل حي يموت.
( إنما توفون أجوركم يوم القيامة ) وفاه أجره أعطاه إياه وافيا بالعمل لم ينقصه منه شيئا ومهما نال الإنسان من أجر على عمله في الدنيا فإنه لا يوفاه إلا في الآخرة. والقيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين في الحياة التي بعد الموت. واستدل بالآية من ينكر عذاب القبر ونعيمه أي ما تذوقه هذه النفوس في البرزخ الذي بين هذه الحياة القصيرة وتلك الحياة الطويلة وهو ينسب إلى المعتزلة ولكن الزمخشري وهو من أساطينهم يرد استدلالهم، قال في الكشاف : فإن قلت فهذا يوهم نفي ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار١، قلت كلمة التوفية تزيل هذا الوهم لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور ا ه.
( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز ) زحزح عن النار نحي وأبعد عنها واختطف دونها قبل أن تلتهمه قال في الكشاف الزحزحة تكرير الزح وهو الجذب بعجلة. والذي لا يزال يسبق إلى فهمي من معناها أنه الإزاحة بعد الإزاحة أي التنحية بعد التنحية. جعل الذي يهم بمواقعتها مرة بهد مرة ( لما في نفسه من الشوائب التي تجذب إليها ) فينحى عنها في كل مرة :( بغلبة تأثير حسناته المضاعفة على سيئاته ) إلى أن يدخل الجنة فائزا فوزا عظيما. وذكر الفوز مطلقا غير متعلق به شيء يفيد أنه الفوز العظيم الذي يشمل كل ما يطلبه المرء من سلامة من مكروه، وفوز بمحبوب، وناهيك بالسلامة من النار، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار.
الأستاذ الإمام : ذكر توفية الأجور ثم بين ذلك بأبلغ عبارة موجزة إيجازا معجزا فأعلم أن هنالك جنة ونارا وأن من الناس من يلقى في تلك ومنهم من يدخل في هذه وأبان عظيم هول النار وشدتها بالتعبير عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها وأن مجرد الزحزحة عنها فوز كبير. وفيه إيماء إلى أن أعمال الناس سائق لهم إلى النار لأنها حيوانية في الغالب حتى لا يكاد يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يكون زحزح عما كان صائرا إليه من السقوط في النار أما هؤلاء المزحزحون فهم الذين غلبت في نفوسهم الصفات الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم وفي أعمالهم وجاهدوا في الله حق جهاده حتى لم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله في عمل من الأعمال.
أفاد هذا الإيجاز كل هذه المعاني ولم يحتج في هذه الآية إلى مثل ما ذكر في آيات أخرى من وصف الجنة والنار لما يقتضيه السياق هنالك من الإطناب والتعريف بشيء من أمور عالم الغيب. وعبر بالفاء في قوله :( فمن زحزح ) للترتيب وبيان السبب. كذا كتبت عنه وكتبت بجانبه :( وفيه نظر ) ولعلي كنت أريد مراجعته فيه فنسيت. والظاهر أن هذا الفاء عاطفة، وفيها معنى الترتيب دون السبب، وما بعدها تفصيل لتوفية الأجور.
( وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ) الدنيا صفة للحياة وهي مؤنث الأدنى والمتاع ما يتمتع به أي ينتفع به زمنا ممتدا امتدادا طويلا أو قصيرا لأنه من المتوع وهو الامتداد يُقال متع النهار ومتع النبات إذا ارتفع وامتد ويُقال للآنية متاع قال تعالى :( ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع ) [ الرعد : ١٧ ] وقال في إخوة يوسف :( ولما فتحوا متاعهم ) [ يوسف : ٦٥ ] وهو الأوعية بما فيها من الميرة والطعام. والغرور الخداع وأصله إصابة الغرة أي الغالة ممن تخدعه وتغشه. قال في الكشاف شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغر حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته.
الأستاذ الإمام : الحياة الدنيا هي السفلى أو القربى، والمراد منها حياتنا هذه أي معيشتنا الحاضرة التي نتمتع فيها باللذات الحسية كالأكل والشرب أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة. هذه الحياة هي أقرب الحياتين وأدناهما وأحطهما وهي على كل حال متاع الغرور، لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها فهو يتعب لما لا يستحق التعب ويشقى لتوهم السعادة ويتعب نقدا ليستريح نسيئة. والعبارة جاءت بصيغة الحصر فهي تشمل حياة الأبرار الذين يصرفون أعمالهم في نفع الناس حبا بالخير وتقربا إلى الله عز وجل من حيث هم متمتعون فيها إما من حيث إن لذتهم فيما هم فيه قهرية وإما على معنى انها لا بقاء لها أو يُقال إن ما كان من عمل الخير والطاعة ليس من متاع الدنيا والحصر بحسب ما عليه الغالب.
وأقول : حاصل معنى الجملة أن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغر الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف الحقيقية والأخلاق المرضية التي ترقى بروحه فتعدها لسعادة الآخرة فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها في نفسه فإن أي نوع منه قد يشغله وينسيه نفسه، وإن لم يكن الاشتغال به ضروريا ولا من حاجات المعيشة المعتدلة. أما ترى المغرمين فيها باللعب واللهو كالشطرنج والنرد وما في معناهما وهو كثير في هذا الزمان –كيف يسرفون في حياتهم، ويفنون أعمارهم بين جدران بيوت اللهو كالقهاوي والحانات. وكل حزب بما لديهم فرحون، لأنهم مغرورون مخدوعون، إلا من وفقه الله لصرف معظم زمنه في علم يرقى به عقله وعبرة تتزكى بها نفسه وعمل صالح ينتفع به، وينفع به عباد الله تعالى مع النية الصالحة والقلب السليم، وما أحسن وصية الحلاج الأخيرة لمريده قبيل قتله " عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك ".
وليس لمتاع الدنيا غاية ينتهي العامل إليها فتسكن نفسه ويطمئن قلبه بل المزيد منه يغري بزيادة الإسراف في الطلب ؛ فلا ينتهي أرب منه إلا إلى أرب قال الشاعر :
فما قضى أحد منا لبانته | ولا انتهى أرب إلا إلى أرب |
الكلام في الآيتين مستقل ووجه اتصال الآية الأولى منهما بما قبلها هو أن في التي قبلها تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عن تكذيب اليهود وغيرهم له ببيان طبيعة الناس في تكذيب الأنبياء السابقين وصبر أولئك على المجاحدة والمعاندة والكفر. وفي هذه تأكيد للتسلية، كما قال الإمام الرازي من حيث إن الموت هو الغاية وبه تذهب الأحزان ومن حيث إن بعده دارا يجازى فيها كل بما يستحق. وقال الأستاذ الإمام : إنها تسلية أخرى، كأنه يقول لا تضجر ولا تسأم لما ترى من معاندة الكافرين فإن هذا منته، وكل ما له نهاية فلا بد من الوصول إليه، فالذي يصير إليه هؤلاء المعاندون قريب فيجازون على أعمالهم ولا تنتظر أن يوفوا جزاء عملهم السيئ كله في هذه الدار كما أن أجرك على عملك لا توفاه في هذه الحياة، فحسبك ما أصبت من الجزاء الحسن وحسبهم ما أصيبوا وما يصابون به من الجزاء السيئ في الدنيا. واعلم أنه لا يوفى أحد جزاءه في هذه الدار لأن توفية الأجور إنما تكون في الآخرة.
قال : ويصح وصلها بما قبلها من قوله تعالى :( ولا تحسبن الذين يبخلون ) الخ أي إن أولئك البخلاء الذين يمنعون الحقوق وأولئك المتجرئين على الله والظالمين لرسله والذين عاندوا خاتم النبيين – كل أولئك سيموتون كما يموت غيرهم ويوفون أجورهم يوم القيامة- وكذلك لا يحسبن أحد من المؤمنين الذين يقاومون هؤلاء ويلقون منهم في سبيل الإيمان ما يلقون أنهم يوفون أجورهم في الدنيا، كلا إنهم إنما يوفون أجورهم يوم القيامة.
أقول : إن الكلام في الآيتين هو تصريح بما في ضمن الآية السابقة من التسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن اتبعه والتفات إلى خطابهم فإن توفية الأجور متبادرة في الخير، فهذه الآية تمهيد لما بعدها ليسهل على المسلمين وقع إنبائهم بما يبتلون به.
( لتبلون في أموالكم وأنفسكم ) قال الرازي : اعلم أنه تعالى لما سلى الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله :" كل نفس ذائقة الموت " زاد في تسليته بهذه الآية فبين أن الكفار بعد أن آذوا الرسول والمسلمين يوم أحد فسيؤذونهم أيضا في المستقبل بكل طريق يمكنهم من الإيذاء بالنفس والإيذاء بالمال. والغرض من هذا الإعلام أن يوطنوا أنفسهم على الصبر وترك الجزع وذلك لأن الإنسان إذا لم يعلم نزول البلاء عليه فإذا نزل البلاء شق ذلك عليه أما إذا كان عالما بأنه سينزل فإذا نزل لم يعظم وقعه عليه.
أقول : وعبارة الكشاف خوطب المؤمنون بذلك ليوطنوا أنفسهم على ما سيلقون من الأذى والشدائد والصبر عليها حتى إذا لقوها وهم مستعدون لا يرهقهم ما يرهق من تصيبه الشدة بغتة فينكرها وتشمئز منها نفسه.
الأستاذ الإمام : يصح اتصال هذه الآية بما قبلها من قوله تعالى :( ولا تحسبن الذين يبخلون ) الآيات فإن فيها ذكر البخل بالمال وذكر حال اليهود وهذه تذكر البلاء بالمال وما سيلاقي المؤمنون من أولئك اليهود وغيرهم. ويصح أن يكون على ما قاله بعضهم متصلا بما هو قبل ذلك من أول واقعة أٌحد إلى هنا، كأنه يقول : إن ما وقع من الابتلاء في الأنفس والأموال والطعن في تلك الواقعة ليس آخر الابتلاء بل لا بد أن تبلوا بعد ذلك بكل هذه الضروب منه وتجري فيكم سنته تعالى في خلقه، فلا تظنوا أنكم جلستم على عرش العزة واعتصمتم بالمنعة وأمنتم حوادث الكون فإنه لا بد أن يعاملكم الله تعالى، كما يعامل الأمم معاملة المختبر المبتلي لا ليعلم ما لم يكن يعلم من أمركم فهو علام الغيوب، بل ليميز الخبيث من الطيب من بعد، كما ماز الكثيرين في واقعة أحد.
قال : والابتلاء في الأموال يفسر بفرض الصدقات وبالبذل في سبيل الله- وهو كل ما يوصل إلى الخير –وبالحوائج والآفات وهذا الجمع أولى مما ذهب إليه بعضهم من تخصيصه بالأول وبعضهم من تخصيصه بالثاني. والابتلاء في الأنفس يكون بتكليف بذلها في سبيل الله وبموت من يحب الإنسان من الأهل والأصدقاء ( أقول : وكذا الابتلاء بالمصائب البدنية كالأمراض والجروح ) والابتلاء بالتكليف هو أهم الابتلاءين. وذلك أن الله تعالى لم يكفل للمسلمين الحفظ والنصر والسيادة لأنهم مسلمون وإنما يكلفهم الجري على سنته تعالى كغيرهم فلا بد لهم من الاستعداد للمدافعة دائما وذلك يقتضي بذل المال والنفس. ومن هنا تعلم غلط الذين يفسرون الابتلاء بالمال والأمر ببذله والجهاد به- كل ذلك بالزكاة وما الزكاة إلا نوع من أنواع الحقوق التي جعلها الله في المال وهي كثيرة تشمل كل ما به صلاح الأمة ورفع شأنها من الأعمال وكل ما يدفع عنها الأعداء، ويرد عنها المكاره والأسواء ( يعني كالأعمال التي تعمل للوقاية من الأمراض والأوبئة ) ومن ذلك الابتلاء في المدافعة عن الحق سواء كان بالمال أو بالنفس فهو يوطن نفوسهم على الأخذ بالاحتياط في الأمور العامة والاستعانة عليها بالمال وتحمل المكاره ويحذرهم من الشره والطمع في المال حتى إذا طمعوا أو قصروا في الاحتياط كما وقع لهم في أحد علموا أنهم ما أصيبوا إلا بما كسبت أيديهم أو قصرت فيه هممهم فلا يتعللون، ولا يقولون كيف أصبنا ونحن مسلمون.
وقدم ذكر المال لأنه هو الوسيلة التي يكون بها الاستعداد لبذل النفس فبذل المال يحتاج إليه قبل بذل النفس أو لأن الإنسان كثيرا ما يبذل نفسه دفاعا عن ماله فالذين قالوا إن المال شقيق الروح لاحظوا الغالب ومن غير الغالب أن يقدم الإنسان ماله على نفسه. علمنا أن فائدة الابتلاء هي تمييز الخبيث من الطيب وأما الإخبار به ففائدته التعريف بالسنن الإلهية وتهيئة المؤمن لها وحمله على الاستعداد لمقاومتها فإن من تحدث له النعمة فجأة على غير استعداد ولا سعي ترجى هي من ورائه تدهشه وتبطره، وربما تهيج عصبه فيقع في داء أو يموت فجأة، وكذلك من تقع به المصيبة فجأة على غير استعداد يعظم عليه الأمر ويحيط به الغم حتى يقتله في بعض الأحيان أما المستعد فإنه يكون ضليعا قويا.
أقول : يعني أنه يحمل البلاء بلا تبرم ولا سآمة فإن ظفر لا يفرح فرح البطر الفخور، وإن خسر لا يشقى شقاء اليؤوس الكفور، فهذا الإعلام تربية من الله لعباده المؤمنين، فما بالهم في هذا العصر عن التذكرة معرضين ( أفلم يدبروا القول أن جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين ) [ المؤمنون : ٦٨ ]. هذا وإن الزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل غزوة بدر الأولى، والظاهر أن هذه الآيات نزلت في السنة الرابعة بعد غزوة بدر الآخرة كما يأتي. فالظاهر أن المراد بالابتلاء فيها بالمال هو الحاجة والقلة كما حصل في غزوة الأحزاب ثم في غزوة تبوك ﴿ راجع تفسير ( ولنبلونكم بشيء من الخوف ) [ البقرة : ١٥٥ ] ج ٢ تفسير ﴾ وتقرأ بيانه لنا بعد خمسة أسطر.
وأما قوله :( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ) فهو ابتلاء آخر وقد نزلت هذه الآية بعد أن كان المشركون وأهل الكتاب ملئوا الفضاء بكلامهم المؤذي للرسول والمؤمنين ؛ فلما صرّح الكتاب بهذا وهو ما ألفه المسلمون واعتادوه ؟ بل قال الأستاذ الإمام : إن مثل هذا يدخل في الابتلاء في الأنفس وإنما خصه بالذكر لأنه من الأهمية بمكان.
أقول : نبه بهذه العبارة على عظم شأن هذا النبأ وليس عندي شيء عنه في سببه والمراد منه ولا أذكر أنني رأيت ذلك في شيء من الكتب التي اطلعت عليها فيجب الرجوع في ذلك إلى التاريخ، أي سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فإذا تذكرنا أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر الآخرة التي سبق ما ورد فيها من الآيات بعد الكلام في غزوة أحد وغزوة حمراء الأسد- وتذكرنا أن ذلك كان في شعبان من سنة أربع وتذكرنا ما كان في سنة خمس من حديث الإفك وقذف عائشة الصديقة برأها الله تعالى- ومن تألب اليهود ونقض عهدهم ومحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم حتى أجلاهم وأمن شر مجاورتهم إياه بالمدينة- ومن تألبهم مع المشركين وجمع الأحزاب من الفريقين وزحفهم على المدينة لأجل استئصال المسلمين- وما كان في ذلك من البلاء الشديد والجوع الديقوع والحصار الضيق الذي قال الله فيه كله :( إذ جاؤوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا ) [ الأحزاب : ٩ ] إذا تذكرنا هذا كله علمنا أن الآية تمهيد له وإعداد للمسلمين لتلقيه لعل وقعه يخف عليهم ولذلك قال :( وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) يعني إن تصبروا على البلاء الكبير الذي سيحل بكم في أموالكم وأنفسكم وعلى ما تسمعون من أهل الكتاب والمشركين من الأذى وتتقوا ما يجب اتقاؤه في الاستعداد لذلك قبل نزوله ومكافحته عند وقوعه، فإن ذلك الصبر والتقوى من معزومات الأمور، أي الأمور التي يجب العزم عليها، أو مما عزم الله أن يكون، أي من عزمات قضائه التي لابد من وقوعها.
ومن تدبر هذا علم ضعف رواية ابن أبي حاتم وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنه أن الآية نزلت فيما كان بين أبي بكر وفنحاص وقد سردنا الرواية من عهد قريب فإن هذه الوصية المؤكدة للمؤمنين كافة وما سبقها من التمهيد أكبر من ذلك وإن حسنها من رواها، ويرجح ما اخترناه في الآية السابقة من كونها في المؤمنين لا في الكافرين. وفي رواية عند عبد الرزاق عن عبد الرحمن بن كعب أن الآية نزلت في كعب بن الأشرف فيما كان يهجو به النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهذه أضعف من الأولى فإن كعب ابن الأشرف قتل قبل غزوة أحد وكفى الله المسلمين كيده وقوله.
قال الأستاذ الإمام : الصبر هو تلقي المكروه بالاحتمال وكظم النفس عليه مع الروية في دفعه ومقاومة ما يحدثه من الجزع، فهو مركب من أمرين دفع الجزع ومحاولة طرده، ثم مقاومة أثره حتى لا يغلب على النفس، وإنما يكون ذلك مع الإحساس بألم المكروه فمن لا يحس به لا يسمى صابرا وإنما هو فاقد للإحساس يسمى بليدا، وفرق بين الصبر والبلادة، فالصبر وسط بين الجزع والبلادة، وما أحسن قرن التقوى بالصبر في هذه الموعظة وهي أن يمتثل ما هدى الله إليه فعلا وتركا عن باعث القلب. وذلك من عزم الأمور أي التي يجب أن تعقد عليها العزيمة وتصح فيها النية وجوبا محتما لا ضعف فيه.
وجه الاتصال بين الآية الأولى من هذه الآيات وما قبلها هو أن الآيات التي قبلها كانت في أهل الكتاب وقد تقدم أنه تعالى ذكر أحوال النصارى منهم ومحاجتهم في أول السورة ثم ذكر بعض أحوال اليهود قبل قصة أحد، ثم عاد إلى بيان بعض شؤونهم بعدها فكان منه ما في هذه الآية، وهو كتمان ما أمروا ببيانه واستبدال منفعة حقيرة به لم يفصل بينه وبين ما قبله فيهم إلا بآيتين قد عرفت حكمة وضعهما في موضعهما.
وقال الرازي : اعلم أن في كيفية النظم وجهين :
( الأول ) أنه تعالى لما حكى عن اليهود شبها طاعنة في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأجاب عنها أتبعه بهذه الآية، وذلك لأنه تعالى أوجب عليهم في التوراة والإنجيل على أمة موسى وعيسى عليهما السلام أن يشرحوا ما في هذين الكتابين من الدلائل الدالة على صحة دينه وصدق نبوته ورسالته، والمراد منه التعجب من حالهم، كأنه قيل كيف يليق بكم إيراد الطعن في نبوته ودينه مع أن كتبكم ناطقة ودالة على أنه يجب عليكم ذكر الدلائل الدالة على صحة نبوته ودينه.
( الثاني ) : أنه تعالى لما أوجب في الآية المتقدمة على محمد صلى الله عليه وسلم احتمال الأذى من أهل الكتاب، وكان من جملة إيذائهم للرسول عليه الصلاة والسلام أنهم كانوا يكتمون ما في التوراة والإنجيل من الدلائل الدالة على نبوته فكانوا يحرفونها ويذكرون لها تأويلات فاسدة، فبين أن هذا من تلك الجملة التي يجب فيها الصبر ا ه. وقد علمت ما هو المراد بالأذى في تفسير الآية السابقة.
وقال الأستاذ الإمام : وجه الاتصال بين هذه الآية وما قبلها هو أن ما ذكر في الآية السابقة من البلاء الذي يُصاب به المؤمنون إنما يصابون به لأخذهم بالحق ودعوتهم إليه ومحافظتهم في الشدائد عليه، فناسب بعد ذكر ذلك البلاء الذي أخبر الله به المؤمنين ووطن عليه نفوسهم ليثبتوا أو يصبروا أن يذكر لهم مثل الذين خلوا من قبل إذ أخذ عليهم الميثاق ببيان الحق فكان من أمرهم ما استحقوا به الوعيد المذكور في الآية. فهو يذكر المؤمنين بذلك كأنه يقول لهم إنكم إذا كتمتم ما أنزل عليكم يكون وعيدكم كوعديهم.
قال تعالى :( وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ) أي اذكروا إذ أخذوا الله الميثاق عليهم بلسان أنبيائهم. قال الأستاذ الإمام : ولا نقول في التوراة لأن القرآن لم يقل بذلك ولا بعدمه، فليس لنا أن نقيد برأينا ما أطلقه ونزيد عليه بغير علم. ( لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) أي أكد عليهم إيجاب البيان أو التبيين. وفيه معنى التكثير والتدريج كما يؤكد على المخاطب أهم الأمور بالعهد واليمين، فيقال له الله لتفعلن كذا. فقراءة من قرؤوا بتاء الخطاب حكاية للمخاطبة التي أخذ بها الميثاق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية ابن عياش بالمثتاة التحتية " ليبيننه للناس ولا يكتمونه " لأنهم غائبون. وقد تقدم بيان معنى أخذ الميثاق في الآية ٨١ من هذه السورة ( راجع الجزء الثالث ).
روي عن سعيد بن جبير والسدي أن الذي أخذ عليهم الموثق ببيانه هو محمد صلى الله عليه وسلم، وعن الحسن وقتادة أنه الكتاب الذي أوتوه، وهو الظاهر المتبادر ويدخل فيه البشارة بالنبي صلى الله عليه وسلم. قال الأستاذ الإمام وتبيينه هو أن يوضحوا معانيه كما هي ولا يؤولوه ولا يحرفوه عن مواضعه التي وضع لتقريرها ومقاصده التي أنزل لأجلها حتى لا يقع في فهمه لبس ولا اضطراب. وههنا أمران : العلم بالكتاب على غير وجهه وهو نتيجة عدم البيان، وعدم العلم به بالمرة وهو نتيجة الكتمان. وقد يُقال إن الظاهر المتبادر في الترتيب هو أن ينهى عن الكتمان أولا ثم يأمر بالبيان، لأن البيان إنما يكون مع إظهار الكتاب فلماذا عكس ؟ والجواب عن هذا أن القرآن قدم أهم الأمرين لأن المخالفة في الأول وهو الكتمان تقتضي الجهل البسيط وهو الجهل بالدين، وفي الثاني تقتضي الجهل المركب وهو اعتقاد ما ليس بدين دينا، والجهل البسيط أهون لأن صاحبه يوشك أن يظفر بالكتاب يوما فيهتدي به ويعرف الدين، وأما الجهل المركب وهو فهمه على غير وجهه فيعسر زواله بالمرة فيكون صاحبه ضالا مع وجود أعلام الهداية أمامه.
قال : والعبرة في ذلك ظاهرة عندنا وفي أنفسنا، فإن كتابنا وهو القرآن العزيز لم يوجد كتاب في الدنيا حفظ كما حفظ ونقل كما نقل ونشر كما نشر، فإن الجماهير من المسلمين قد حفظوه عن ظهر قلب من القرن الأول إلى هذا اليوم وهم يتلونه في كل مكان، حتى أنك تسمعه في الشوارع والأسواق ومجتمعات الأفراح والأحزان وفي كل حال من الأحوال، ولكنهم تركوا تبيينه للناس فلم يغن عنهم عدم الكتمان شيئا فإنهم فقدوا هدايته حتى أنهم يعترفون بأن المسلمين أنفسهم منحرفون عنه، وأن القابض على دينه كالقابض على الجمر- ويعترفون بأن الغش قد عم وطم، ويعترفون بارتفاع الأمانة، وشيوع الخيانة الخ الخ. وكل هذا من نتائج ترك التبيين.
قال : ولهذه التعمية وهذا الاضطراب في فهم الكتاب أسباب، أهمها ما كان الخلاف بين العلماء من قبل، لاسيما في القرن الثالث، فقد انقسمت الأمة إلى شيع وذهبت في الخلاف مذاهب في الأصول والفروع وصار كل فريق ينصر مذهبه ويحتج بالكتاب. يأخذ ما وافقه منه ويؤول ما خالفه، واتبعهم الناس على ذلك ورضي كل فريق من المسلمين بكتب طائفة من أولئك المختلفين، حتى جاءت أزمنة ترك فيها الجميع التحاكم إلى القرآن وتأييد ما يذهبون إليه به وتأويل ما عداه ( أقول بل وصلنا إلى زمن يحرمون فيه ذلك ولا يرون فيه للقرآن فائدة تتعلق بمعناه بل كل فائدته عندهم أن يتبرك به ويتعبد بألفاظه ويستشفى به من أمراض الجسد دون أمراض القلب والروح ) حتى صرنا نتمنى لو دامت تلك الخرافات فإنها أهون من هجر القرآن بتاتا، فإن الناس قد وقعوا في اضطراب من أمر دينهم حتى صاروا يحسبون ما ليس بدين دينا وحتى أن العلماء يرون المنكرات فلا ينكرونها، بل كثيرا ما يقعون فيها أو يتأولون لفاعليها ولو بينوا للناس كتاب الله لقبلوه.
وأقول : إن الذين تصدوا لتبيين القرآن في الكتب وهم المفسرون لم يكن تبيينهم كاملا كما ينبغي وكان جمال الدين يقول :" إن القرآن لا يزال بكرا " وأن لي كلمة ما زلت أقولها وهي أن سبب تقصير المفسرين الذين وصلت إلينا كتبهم هو عدم الاستقلال التام في الفهم، وما كان ذلك لبلادة ؛ وإنما جاء من أمور أهمها الافتتان بالروايات الكثيرة، وتغلب الاصطلاحات الفنية في الكلام والأصول والفقه وغير ذلك، ومحاولة نصر المذاهب وتأييدها١.
ثم أقول : إن البيان أو التبيين على نوعين أحدهما تبيينه لغير المؤمنين به لأجل دعوتهم إليه وثانيهما تبيينه للمؤمنين به لأجل إرشادهم وهدايتهم بما أنزل إليهم من ربهم وكل من النوعين واجب حتم لا هوادة فيه ولا يشترط فيه ما اشترطه بعض الفقهاء من الاستفتاء والسؤال، إذ زعموا أن العالم لا يجب عليه التصدي لدعوة الناس وتعليمهم إلا إذا سألوه ذلك، والقرآن حجة عليهم وهذه الآية آكد في الإيجاب من قوله تعالى في هذه السورة :( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) [ النساء : ١٠٤ ] الذي تقدم تفسيره في هذا الجزء. فإن الأمر وإن كان هناك للوجوب لأن الأصل فيه ذلك على قول جمهور الأصوليين وأكد بقوله :( وأولئك هم المفلحون ) إلا أن التأكيد فيه دون تأكيد أخذ الميثاق عنا وما فيه من معنى القسم ثم ما يليه من تصوير ترك الامتثال بنبذ الكتاب وبيعه بثمن قليل ومن الذم والوعيد على ذلك إذ قال :
( فنبذوه وراء ظهورهم ) النبذ الطرح وقد جرت كلمة نبذه وراء ظهره مجرى المثل في ترك الشيء وعدم المبالاة به والاهتمام بشأنه، كما يقال في مقابل ذلك " جعله نصب عينيه- أو – ألقاه بين عينيه " أي اهتم به أشد الاهتمام بحيث كأنه يراه في كل وقت فلا ينساه ولا يغفل عنه، وفيه تنبيه إلى كون هذا هو الواجب الذي كان عليهم أن يقوموا فيه فيجعلوا الكتاب إماما لهم ونصب أعينهم لا شيئا مهملا ملقى وراء الظهر لا ينظر إليه ولا يفكر في شأنه، وكذلك كان أهل الكتاب ( منهم ) الذين يحملونه كما يحمل الحمار الأسفار فلا يستفيد مما فيها شيئا ( منهم ) الذي يحرفونه عن مواضعه ( ومنهم ) الذين لا يعلمون منه إلا أماني يتمنونها أي قراءات يقرؤونها أو تشهيات يتشهونها. وتقدم بيان ذلك في سورة البقرة وسيأتي في مواضع أخرى.
ثم بين تعالى جريمة أخرى من جرائمهم في الكتاب فقال :( واشتروا به ثمنا قليلا ) أي أخذوا فائدة دنيوية قليلة لا توازي عشر معشار فوائد بيان الكتاب والعمل به فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء. وهذا الثمن هو ما كان يستفيده الرؤساء من المرؤوسين وعكسه كما تقدم في سورة البقرة وفي هذه السورة ومنه ما يتقرب به العلماء إلى الحكام وأجور الفتاوى الباطلة وسيأتي بعض التفصيل فيه والعبرة به.
وقد أرجع بعضهم كالزمخشري الضمير في قوله :( فنبذوه ) وقوله :( اشتروا به ) إلى الميثاق. وجرى مثل ذلك على لسان الأستاذ الإمام في الدرس ونقله عنه بعض الطلاب، ولعله سهو، فإن هذه الآية بمعنى آية البقرة :( إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ) [ البقرة : ١٧٣ ] الآية وهي صريحة في الكتاب. فيراجع تفسيرها في الجزء الثاني وفي معناها آيات أخرى منها قوله :( فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ) [ الأعراف : ٧٩ ] ومنها في خطاب بني إسرائيل :( ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ) [ البقرة : ٤١ ] فيراجع تفسيرهما في الجزء الأول.
وورد في هذه السورة ( آل عمران ) بيع العهد والإيمان واشتراء الثمن القليل بهما في الكلام على اليهود، قال تعالى :( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ) [ آل عمران : ٧٧ ] الآية وتراجع في الجزء الثالث والعهد يأتي بمعنى الميثاق ويطلق بمعنى ما عهد الله به إلى الناس في وحيه من الشرائع كقوله عز وجل :( ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان ) [ يس : ٦٠ ] الآية. وقوله :( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين ) [ البقرة : ١٢٥ ] الآية. فالعهد بهذا المعنى يراد به المعهود به فيكون بمعنى الكتاب وهو المراد في الآية المذكورة آنفا [ آل عمران : ٧٧ ] ولذلك أفرد العهد وعطف عليه الأيمان لأن العهد واحد وإن اشتمل على أحكام كثيرة وهو الكتاب والإيمان تعتبر كثيرة بكثرة من أخذت عليهم.
وجملة القول أن الضمير في قوله :( فنبذوه ) وقوله :( واشتروا به ) هو ضمير الكتاب لا الميثاق كما قيل.
الأستاذ الإمام : نبذوا الميثاق لم يفوا به، إذ تركوا العمل بالكتاب. والثمن القليل الذي اشتروه به لم يبينه القرآن لأنه ظاهر في نفسه ومعروف من سيرتهم وهو عبارة عن التمتع بالشهوات الدنية واللذائذ الفانية، فكان أحدهم يجد في العمل بالكتاب والتزام الشريعة مشقة
وأخرج الشيخان أيضا من حديث أبي سعيد الخدي أن رجلا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه وفحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فزلت هذه الآية.
وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عن زيد بن أسلم أن رافع بن خديج وزيد بن ثابت كانا عند موان فقال مروان : يا رافع في اي شيء أنزلت هذه الآية« لا تحسبن الذي يفرحون بما أتوا » قال رافع أنزلت في ناس من المنافقين كانوا إذا خرج النبي صلى الله عليه وسلم اعتذروا وقالوا ما حبسنا عنكم إلا شغل فلوددنا لو كنا معكم. فأنزل الله فيهم هذه الآية وكأن مروان أنكر ذلك فجزع رافع من ذلك فقال لزيد بن ثابت : انشدك الله هل تعلم ما أقول ؟ قال نعم.
قال الحافظ ابن حجر يجمع بين هذا وبين قول ابن عباس : بأنه يمكن أن تكون نزلت في الفريقين معا. قال وحكى الفراء أنها نزلت في قول اليهود نحن اليهود نحن أهل الكتاب الأول الصلاة والطاعة ومع ذلك لا يقرون بمحمد. وروى ابن أبي حاتم من طرق عن جماعة من التابعين نحو ذلك ورجحه ابن جرير، ولا مانع أن تكون نزلت في كل ذلك انتهى من لباب النقول. وقد أخرج هذه الروايات غير من ذكرناهم أيضا.
وقد وجهها بعض من قال إنها نزلت في اليهود بغير ذلك الوجه الخاص في رواية الصحيحين عن ابن عباس، ومما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس في ذلك أنه قال : هم أهل الكتاب أنزل عليهم الكتاب فحكموا بغير الحق وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فرحوا بأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله، وهم يزعمون أنهم يعبدون الله ويصلون ويطيعون الله. وروي عن الضحاك أنهم فرحوا بما أتوا من تكذيب النبي والكفر به وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا وهو قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه ونحن أهل الصلاة والصيام. وهذا وجه وجيه وهو الذي اختاره ابن جرير وبمثل هذا العموم يوجه نزولها في المنافقين.
الأستاذ الإمام : كان الكلام في أهل الكتاب لتحذير المسلمين من مثل فعلهم في سياق الحض على الاستمساك بعروة الحق وحفظه والدعوة إليه إذ أخذ على أولئك الميثاق فقصروا فيه وتركوا العمل بالكتاب وتبيينه للناس واشتروا به ثمنا قليلا فاستحقوا العقاب من الله تعالى. بعد هذا بين في هذه الآية حالا آخر من أحوال أولئك الغابرين ليحذر المؤمنين منه لأنهم عرضة له وهو أنهم كانوا يفرحون بما أتوا من التأويل والتحريف للكتاب ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم أئمة يقتدى بهم وهذا فرح بالباطل، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب ومفسروه وعلماؤه ومبينوه والمقيمون له، وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وإنما فعلوا نقيضه إذ حولوه عن الهداية إلى ما يوافق أهواء الحكام وأهواء سائر الناس يطلبون بذلك حمدهم. بين الله هذه الحال في أسلوب عجيب بين فيه حكما آخر وهو أن هؤلاء الفرحين المحبين للمحمدة الباطلة قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه وعلماء كتابه وأنهم أبعد الناس عن عذابه وأقربهم من رضوانه فبين الله كذب هذا الحسبان ونهى عنه وسجل عليهم العذاب.
أقول : إن هذه الآية على عمومها مبينة لشيء من الثمن الذي استبدلوه بكتاب الله وكونه بئس الثمن، وهو أمران " أحدهما " فرحهم بما أوتوه من الأعمال فرح غرور وخيلاء وفخر على أن منه نبذ كتاب الله بترك العمل به وعدم تبيينه على وجهه إما بتحريفه عن مواضعه ليوافق أهواء الحكام أو أهواء الناس، وإما بالسكوت عنه والأخذ بكلام العلماء السابقين تقليدا بغير حجة إلا ادعاء أنهم كانوا أعلم بالكتاب وأنهم إن خالفوا بعض نصوصه فلا بد أن يكون عندهم دليل أوجب عليهم ذلك " وثانيهما " حب المدح والثناء بالباطل فإنهم يتبعون أهواء الحكام والناس في الدين ويحبون أن يحمدوا بأنهم يبينون الحق لوجه الله لا تأخذهم فيه لومة لائم فإن الحاكم أو غير الحاكم إذا احتاج إلى عمل يرضي به هواه وشهوته مما يحظره عليه الدين فلجأ إلى العالم فعلمه حيلة شرعية يسلم بها من نقد الناقدين وذم المتدينين فلا شك أنه يحمد ذلك العالم ويطريه بأنه العالم التقي المحقق، لا مكافأة له فقط بل يرى من مصلحته أن يعتقد الناس العلم والصلاح في مفتيه ليأخذوا كلامه بالقبول.
وقد علمنا من الثقات أن الحكام منذ كانوا يتواطؤون مع كبار شيوخ العلم وشيوخ الطريق المحترمين عند العامة على تعظيم كل فريق منهم للآخر فرؤساء الحكام يظهرون للعامة احترام العلماء والاعتقاد بولاية كبار شيوخ أهل الطريق فيقبلون أيديهم عند اللقاء وربما أهدوا إليهم بعض الهدايا، والمشايخ من العلماء وأهل الطريق يظهرون للعامة احترام أولئك الحكام ويشهدون بقوة دينهم وشدة غيرتهم على الإسلام والمسلمين ووجوب طاعتهم في السر والجهر- يقولون- وإن ظلموا وجاروا لأنهم مسلطون من الله عز وجل ! ! فهكذا كان الظالمون المستبدون وما زالوا يستفيدون من الدين بمساعدة رجاله ويتفق الرؤساء من الفريقين على إضاعة حقوق الأمة وإذلالها لهم ليتمتعوا بلذة الرياسة ونعيمها فيفرحون بما أتوا من ضروب المكايد السياسية والاجتماعية، والتأويلات الدينية ؛ التي ترفع قدرهم، وتخضع العامة لهم، ويحبون أن يحمدوا دائما بأنهم أنصار الدين وحماته، ومبينو الشرع ودعاته، وإن نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، وتوجهوا إلى كتب أمثالهم وأشباههم، وكانت الأمة لا تزداد كل يوم إلا شقاء بهم ؛ حتى سبقتها الأمم كلها بسوء سياستهم، ولو أنهم أقاموا الكتاب كما أمروا بالبيان له والعمل به وإلزام الحكام بهديه لما عم الفسق والفجور وصارت الشعوب الإسلامية دون سائر الشعوب حتى ذهبت سلطتها وتقلص ظلها عن أكثر الممالك التي كانت خاضعة لها ؛ وهي تتوقع نزول الخطر بالباقي وهو أقلها.
وقد كان الأمراء والسلاطين فمن دونهم من كبراء الحكام هم الذين يخطبون ود العلماء والمتصوفة ويستميلونهم إليهم وهؤلاء يتعززون، فيستجيب للرقية بعضهم ويعتصم بالإباء والتقوى آخرون ؛ ثم انعكست الحال، وضعف سلطان التقوى أمام سلطان الجاه والمال، فصار رجال الدين، هم الذين يتهافتون على أبواب الأمراء والسلاطين، فيقرب المنافقون، ويؤذى المحقون المتقون، وتكون مراتب الآخرين، على نسبة قربهم من أحد الطرفين.
هذا ما أحببت التذكير به في تبيين العبرة بالآية في سياسة الأمة وعمل رؤساء الدين والدنيا الذين يفرحون بأعمالهم وإن ساءت ويحبون أن يحمدوا بالشعريات الكاذبة التي راجت سوقها في هذا العصر بالصحف المنتشرة المعروفة بالجرائد فالكثير منها قد أتقن هذه الجريمة – مدح السلاطين- والأمراء والرؤساء بما لم يفعلوا – حتى اطمأنوا باعتقاد السواد الأعظم أن سيئاتهم حسنات ؛ وحتى بطلت فائدة المحمدة الصحيحة وحب الثناء بالحق والشكر على العمل فانهد بذهاب هذه الفائدة ركن من أركان التربية والإصلاح القومي والشخصي، فإن حب الحمد غريزة من أقوى غرائز البشر التي تنهض بالهمم وتحفز العزائم إلى الأعمال العظيمة النافعة رغبة في اقتطاف ثمار الثناء عليها ؛ فإذا كان الإنسان يدرك هذا الثناء الذي يستحقه العاملون بدون أن يكلف نفسه عناء العمل للأمة ونفع الناس بكذب الجرائد في حمده والثناء عليه بالباطل قعدت همته ووهت عزيمته وأخلد إلى الراحة أو اشتغل بالعمل للذته فقط.
فإذا كان العالم الذي ينتمي إلى الأمراء والسلاطين وينال الحظوة عندهم لا يوثق بعلمه ولا بدينه- كما تقدم بيانه والاستدلال عليه بالأحاديث والآثار- فأصحاب الجرائد أولى بعدم الثقة بأخبارهم وآرائهم إذا كانوا كذلك. وأنى للعوام المساكين فهم هذا وإدراك سره والجهل غالب ؛ والغش رائج والناصح المخلص نادر ؟ وقد صارت حاجة الملوك والأمراء المستبدين إلى حمد الجرائد توازي حاجتهم إلى حمد رجال الدين في غش الأمة أو تزيد عليها ولذلك يغدقون عليهم النعم ويقربونهم ويحلونهم بالرتب وشارات الشرف التي تعرف بالأوسمة أو النياشين. كما يحرص على إرضائهم كل محبي الشهرة بالباطل من الأغنياء والوجهاء.
لولا أن حب المحمدة بالحق على العمل النافع من غرائز الفطرة التي يستعان بها على التربية العالية لما قيد الله الوعيد على حب الحمد بقوله :" بما لم يفعلوا " فهذا القيد يدل على أن حب الثناء على العمل النافع غير مذموم ولا متوعد عليه وهذا هو الذي يليق بدين الفطرة بل جاء في الكتاب الحكيم ما يدل على مدح هذه الغريزة كقوله تعالى لنبيه :( ورفعنا لك ذكرك ) [ الشرح : ٤ ] وقوله في القرآن :( وإنه لذكر لك ولقومك ) [ الزخرف : ٤٤ ] نعم إن هناك مرتبة أعلى من مرتبة من يعمل الحسنات ليحمد عليها وهي مرتبة من يعملها حبا بالخير لذاته وتقربا به إلى الله تعالى.
على أن المدح بالحق لا يخلو في بعض الأحوال من ضرر في الممدوح كالغرور والعجب وفتور الهمة عن الثبات والمواظبة على العمل الذي حمد عليه وهذا هو سبب النهي عن المدح في حديث أبي بكرة عند أحمد والشيخين وغيرهم قال : إن رجلا ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فأثنى عليه رجل خيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم " ويحك – وفي رواية ويلك- قطعت عنق صاحبك- بقوله مرتين- إن كان أحدكم مادحا لأخيه فليقل أحسبه كذا وكذا إن كان يرى أنه كذلك – وحسيبه الله، ولا يزكي على الله أحدا " ٦ وفي رواية عند الطبراني في المعجم الكبير زيادة " والله لو سمعها ما أفلح " نعم يحتمل أن تكون عبارة ذلك المادح مما يستنكر من قبح الإطراء وأن يكون ذلك الممدوح بها ممن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم استعداده للغرور بما يقال فيه فوقائع الأحوال موضع للاحتمالات لما فيها من الإجمال كما هو مشهور ولكن قل من يسلم من الاغترار بالمدح لا سيما إذا كان إطراء، وقلما يكون الإطراء حقا وقلما يلتزم المطرون الحق ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب " ٧ رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث المقداد بن الأسود وبعضهم وغيرهم عن أنس وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله " ٨ رواه البخاري من حديث ابن عمر.
ثم أعود إلى المسألة الأولى فأقول : إن الفرح بالعمل من شأن المغرورين وليس المراد به هنا ارتياح نفس العامل وانبساطها لما يأتيه من العمل الذي يرى أنه محمود كما فهم مروان، وإنما هو فرح البطر والغرور الذي يتبعه الخيلاء والفخر كما أشرنا إلى ذلك، وهو ما نبه عليه القرآن في فائدة المصائب تصيب المؤمنين بقوله عز وجل :( لكيلا تأسوا على
قال الأستاذ الإمام في بيان وجه اتصال الآية الأولى بما قبلها : إنها جاءت بعد أفاعيل أهل الكتاب وغيرهم مع المؤمنين فهي تدل على أن أولئك المجاهدين لو كانوا يتفكرون في خلق السماوات والأرض لكفوا من غرورهم ولعلموا أنه يليق بحكمته تعالى أن يرسل إلى الناس رسولا من أنفسهم، ولكنه جعل الآية مطلقة موجهة إلى أولي الألباب ليطلق النظر لكل عاقل.
وقال الرازي : اعلم أن المقصود من هذا الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق، إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الأحكام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إنارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والإلهية والكبرياء والجلال، فذكر هذه الآية ا ه.
أقول : وقد بينا في وجه اتصال هذه السورة بما قبلها عند الابتداء بتفسيرها أن كلا منها مفتتحة بذكر الكتاب و شؤون الناس فيه و مختتمة بالثناء على الله عز وجل ودعائه.
و قد ذكروا سببا لنزول هذه الآيات على عدم تعلقها بالحوادث، فقد أخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال " أتت قريش اليهود، فقالوا : بم جاءكم موسى من الآيات ؟ فقالوا : عصاه ويده بيضاء للناظرين، وأتوا النصارى فقالوا : كيف كان عيسى ؟ قالوا كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى فأتوا النبي فقالوا ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، فدعا ربه فنزلت هذه الآية ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ) فليتفكروا فيها. ا ه من لباب النقول. وأنت لا ترى المناسبة قوية بين الاقتراح وبين الآية إلا من حيث إن مراد القرآن الاستدلال بآيات الله في الكائنات على حقية ما يدعو إليه النبي صلى الله عليه وسلم من عبادة الله وحده دون الخوارق والآيات الكونية. وقد ورد الرد على هؤلاء المقترحين في كثير من السور المكية. وسيأتي تفسيرها في مواضعه إن شاء الله تعالى.
وقد تقدم تفسير ما في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار من الآيات على وحدانية الله تعالى بوحدة النظام في ذلك، وعلى رحمته بما فيها من المنافع والمرافق للعباد، فليراجع في تفسير آية ( إن في خلق السماوات ) [ البقرة : ١٦٤ ] الخ ج ٢ تفسير.
وقال الأستاذ الإمام هنا : السماوات ما علاك مما تراه فوقك، والأرض ما تعيش عليه، والخلق التقدير والترتيب لا الإيجاد من العدم، كما اصطلح عليه في علم الكلام، فذلك لا يتضمن معنى النظام والإتقان وهو ما هي عليه في الواقع ونفس الأمر. وبعد ما ذكر خلق السماوات والأرض لفت العقول إلى أمر مما يكون في الأرض وهو اختلاف الليل والنهار، فإن هذا الاختلاف قائم بنظام في طول الليل والنهار وقصرهما وتعاقبهما، وهذا أمر عظيم سواء كان سببه ما كانوا يعتقدون من أنه حادث من حركة الشمس أو ما يعتقدون الآن من أن سببه حركة الأرض تحت الشمس. ومن الحكم في ذلك ما نراه في أجسامنا وعقولنا من تأثير حرارة الشمس ورطوبة الليل وكذا في تربية الحيوان والنبات وغير ذلك ولو كان الليل سرمدا والنهار سرمدا لفاتت.
وهذه الآيات تظهر لكل أحد على قدر علمه وفهمه وجودة فكره فأما علماء الهيئة فإنهم يعرفون من نظامها ما يدهش العقل. وأما سائر الناس فحسبهم هذه المناظر البديعة والأجرام الرفيعة وما فيها من الحسن والروعة. وخص أولي الألباب بالذكر مع أن كل الناس أولي ألباب لأن من اللبّ ما لا فائدة فيه كلب الجوز ونحوه إذا كان عفنا. وكذا تفسد ألباب بعض الناس وتعفن، فهي لا تهتدي إلى الاستفادة من آيات الله في خلق السماوات والأرض وغيرهما. وإنما سمي العقل لبا لأن اللب هو محل الحياة من الشيء وخاصته وفائدته، وإنما حياة الإنسان الخاصة به هي حياته العقلية وكل عقل متمكن من الاستفادة من النظر في هذه الآيات والاستدلال بها على قدرة الله وحكمته ولكن بعضهم لا ينظر ولا يتفكر وإنما العقل الذي ينظر ويستفيد ويهتدي هو الذي وصف أصحابه بقوله تعالى :{ الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم )
ثم إن ذكر الله تعالى لا يكفي في الاهتداء إلى الآيات ولكن يشترط مع الذكر التفكير فيها فلا بد من الجمع بين الذكر والفكر فقد يذكر المؤمن بالله ربه ولا يتفكر في بديع صنعه وأسرار خليقته ولذلك قال ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ).
أقول : قد يتفكر المرء في عجائب السماوات والأرض وأسرار ما فيهما من الإتقان والإبداع والمنافع الدالة على العمل المحيط والحكمة البالغة والنعم السابغة والقدرة التامة وهو غافل عن العليم الحكيم القادر الرحيم الذي خلق ذلك في أبدع نظام، وكم من ناظر إلى صنعة بديعة لا يخطر في باله صانعها اشتغالا بها عنه، فالذين يشتغلون بعلم ما في السماوات والأرض هم غافلون عن خالقهما ذاهلون عن ذكره يمتعون عقولهم بلذة العلم ولكن أرواحهم تبقى محرومة من لذة الذكر ومعرفة الله عز وجل فمثلهم كما قال الأستاذ الإمام : كمثل من يطبخ طعاما شهيا يغذي به جسده ولكنه لا يرقى به عقله، يعني أن الفكر وحده وإن كان مفيدا لا تكون فائدته نافعة في الآخرة إلا بالذكر، والذكر وإن أفاد في الدنيا والآخرة لا تكمل فائدته إلا بالفكر، فيا طوبى لمن جمع بين الأمرين واستمتع بهاتين اللذتين ؛ فكان من الذين أوتوا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، ونجوا من عذاب النار في الآخرة، فتلك النعمة التي لا تفضلها نعمة، واللذة التي لا تعلوها لذة، لأنها هي التي يهون معها كل كرب، ويسلسل كل صعب، وتعظم كل نعمة، وتتضاءل كل نقمة، تلك اللذة التي تتجلى مع الذكر في كل شيء فيكون في عين ناظره جميلا، وفي كل صوت فيكون في سمع سامعه مطربا فلسان حال الذاكر، ينشد في هذا التجلي قول الشاعر الذاكر :
من كل معنى لطيف أجتلي قدحا | وكل حادثة في الكون تطربني |
( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ) أي يقول الذين يجمعون بين التذكر والتفكير، معبرين عن نتيجة جمع الأمرين، والتأليف بين المقدمتين : ربنا ما خلقت هذا الذي نراه من العوالم السماوية والأرضية باطلا، ولا أبدعته وأتقنته عبثا، سبحانك وتنزيها لك عن الباطل والعبث بل كل خلقك حق مؤيد بالحكم، فهو لا يبطل ولا يزول، وإن عرض له التحول والتحليل والأفول، ونحن بعض خلقك لم نخلق عبثا، ولا يكون وجودنا من كل وجه باطلا، فإن فنيت أجسادنا، وتفرقت أجزاؤنا، بعد مفارقة أرواحنا لأبداننا، فإنما يهلك منا كوننا الفاسد، ووجهنا الممكن الحادث، ويبقى وجهك الكريم ؛ ومتعلق علمك القديم. يعود بقدرتك في نشأة أخرى، كما بدأته في نشأة الأولى، فريق ثبتت لهم الهداية، وفريق حقت عليهم كلمة الضلالة، فأولئك في الجنة بعملهم وفضلك، وهؤلاء في النار بعملهم وعدلك، ( فقنا عذاب النار ) بعنايتك وتوفيقك لنا، واجعلنا مع الأبرار بهاديتك إيانا ورحمتك بنا.
قال الأستاذ الإمام في تفسير " ربنا ما خلقت هذا باطلا " الخ : هذا حكاية لقول هؤلاء الذين يجمعون بين تفكرهم وذكر الله عز وجل ويستنبطون من اقترانهما الدلائل على حكمة الله وإحاطة علمه سبحانه بدقائق الأكوان التي تربط الإنسان بربه حق الربط. وقد اكتفى بحكاية مناجاتهم لربهم عن بيان نتائج ذكرهم وفكرهم، فطي هذه وذكر تلك من إيجاز القرآن البديع وفيه تعليم المؤمنين كيف يخاطبون الله تعالى عندما يهتدون إلى شيء من معاني إحسانه وكرمه وبدائع خلقه، كأنه يقول : هذا هو شأن المؤمن الذاكر المتفكر يتوجه إلى الله في هذه الأحوال، بمثل هذا الثناء والدعاء والابتهال، وكون هذا ضربا من ضروب التعليم والإرشاد، لا يمنع أن بعض المؤمنين قد نظروا وذكروا وفكروا ثم قالوا هذا أو ما يؤدي معناه، فذكر الله حالهم وابتهالهم، ولم يذكر قصتهم وأسماءهم، لأجل أن يكونوا قدوة لنا في عملهم، وأسوة في سيرتهم، أي لا في ذواتهم وأشخاصهم، إذ لا فرق في هذا بيننا وبينهم.
قال : أما معنى كون هذا الخلق لا يكون باطلا فهو أن هذا الإبداع في الخلق، والإتقان للصنع، لا يمكن أن يكون من العبث والباطل ولا يمكن أن يفعله الحكيم العليم لهذه الحياة الفانية فقط، كما أن الإنسان الذي أوتي العقل الذي يفهم هذه الحكم، ودقائق هذا الصنع، وكلما ازداد تفكرا، ازداد علما، حتى أنه لا حد يعرف لفهمه وعلمه، لا يمكن أن يكون وجد ليعيش قليلا ثم يذهب سدى، ويتلاشى فيكون باطلا، بل لا بد أن يكون باستعداده الذي لا نهاية له قد خلق ليحيا حياة لا نهاية لها، وهي الحياة الآخرة التي يرى كل عامل فيها جزاء عمله، ولهذا وصل الثناء بهذا الدعاء، ومعناه : جنبنا السيئات، ووفقنا للأعمال الصالحات، حتى يكون ذلك وقاية لنا من عذاب النار، وهذه هي نتيجة فكر المؤمن.
قال : ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر مع الذكر إلى بقاء العالم واستمراره لأن نظامه البديع لا يمكن أن يجعله العليم الحكيم باطلا ( أي لا في الحال ولا في الاستقبال ) وبعد أن يدعوا ربهم أن يقيهم دخول النار في الحياة الثانية، يتوجهون إليه قائلين( ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته )
أقول : والمراد بأولي الألباب الموصوفين بما ذكره على هذا هم السابقون من أصحابه ومن تبعهم في ذلك له حكمهم. وسيأتي عند ذكر الهجرة ما يرجح هذا.
وقال الأستاذ : وسماع النداء يشمل من سمع منه مباشرة في عصره ومن وصلت إليه دعوته من بعده. ويحتمل أن يكون قولهم " فآمنا " مرادا به إيمان جديد غير الإيمان الذي استفادوه من التفكر والذكر، وهو الإيمان التفصيلي الذي أشرنا إليه آنفا. ويحتمل أن يكونوا سمعوا دعوة الرسول أولا وآمنوا به، ثم نظروا وذكروا وتفكروا فاهتدوا إلى ما اهتدوا إليه من الدلائل التي تدعم إيمانهم فذكروا النتيجة ؛ ثم اعترفوا بالوسيلة، ولا ينافي ذلك تأخير هذه عن تلك في العبارة كما هو ظاهر.
( ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا ) تفيد الفاء في قوله " فاغفر " اتصال هذا الدعاء بما قبله وكون الإيمان سببا له، والمراد بالإيمان الإذعان للرسل في النفس والعمل لا دعوى الإيمان باللسان مع خلو القلب من الإذعان الباعث على العمل. ولأجل هذا استشعروا الخوف من الهفوات والسيئات فطلبوا المغفرة والتكفير. وقال بعض المفسرين : إن المراد بالذنوب هنا الكبائر وبالسيئات الصغائر.
قال الأستاذ الإمام : وعندي أن الذنوب هي التقصير في عبادة الله تعالى وكل معاملة بين العبد وربه، والسيئات هي التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم بعضا. فالذنب معناه الخطيئة. وأما السيئة فهي ما يسوء، فاشتقاقها من الإساءة يشعر بما قلناه، وغفر الذنوب عبارة عن سترها وعدم العقوبة عليها البتة، وتكفير السيئات عبارة عن حطها وإسقاطها فكل من الطلبين مناسب لما ذكرناه من المعنيين ( وتوفنا مع الأبرار ) أي أمتنا على حالتهم وطريقتهم، يقال أنا مع فلان أي على رأيه وسيرته ومذهبه في عمله. والأبرار هم المحسنون في أعمالهم.
أقول : راجع في الأبرار تفسير قوله ٢/ ١٧٥ ( ليس البر ) [ البقرة : ١٧٥ ] وقوله ( ولكن البر من اتقى ) [ البقرة : ١٩٠ ] وتفسير الغفران والمغفرة ج ٢ تفسير ) أما الذنب فقد قال الراغب : إنه في الأصل الأخذ بذنب الشيء ( بالتحريك ) يقال ذنبته أي أصبت ذنبه ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا بذنب الشيء، ولهذا يسمى الذنب تبعة اعتبارا لما يحصل من عاقبته وجمع الذنب ذنوب ا ه.
أقول : وهو بهذا المعنى يشمل كل عمل تسوء عاقبته في الدنيا والآخرة من المعاصي كلها، سواء منها ما يتعلق بحقوق الله عز وجل وما يتعلق بحقوق العباد، ومنه ترك الطاعات الواجبة. وأما السيئة فهي الفعلة القبيحة التي تسوء صاحبها أو تسوء غيره سواء كان ذلك عاجلا أو آجلا، فهي عامة أيضا وضدها الحسنة. قال الراغب : والحسنة السيئة ضربان أحدهما بحسب اعتبار العقل والشرع نحو المذكور في قوله تعالى :( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ) [ الأنعام : ١٦٠ ] وحسنة وسيئة بحسب اعتبار الطبع وذلك ما يستخفه الطبع وما يستثقله نحو قوله ( فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ) [ الأعراف : ١٣١ ] وقوله ( ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) [ الأعراف : ٩٥ ] ا ه.
كان الأستاذ الإمام حمل السيئة على ما يسوء من معاملة الناس أخذا من مثل قوله تعالى :( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أولئك لهم عذاب أليم ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور ) [ الشورى : ٤١-٤٢ ] فالآيات صريحة في معاملات الناس بعضهم مع بعض، ويمكن ادعاء أن ما ورد من ذكر الحسنات والسيئات في مقام الجزاء في الدارين وكذا في الآخرة فقط يحمل على هذا. ومثله ما ورد من السيئات في مقابلة العمل الصالح على الإطلاق ولكن ذلك خلاف الظاهر المتبادر.
وقال الأستاذ الإمام : على رسلك معناه لأجل رسلك أي لأجل اتباعهم والإيمان بهم. فجعل الكاف للتعليل ولا أذكر هذا لغيره هنا. ثم ذكر ما قيل من استشكال هذا السؤال منهم مع إيمانهم بأن الله لا يخلف الميعاد، واختار في الجواب عنه : أن هؤلاء قوم هداهم النظر والفكر إلى معرفة الله تعالى واستشعار عظمته وسلطانه وإلى ضعف أنفسهم عن القيام بما يجب من شكره والقيام بحقوقه وحقوق خلقه، فطلبوا المغفرة والتكفير والعناية الإلهية التي تبلغهم ما وعد الله من استجابوا للرسل ونصروهم وأحسنوا اتباعهم ؛ وهو ما أشرنا إليه آنفا ولذلك قالوا ( ولا تخزنا يوم القيامة ) أي لا تفضحنا وتهتك سترنا يوم القيامة بإدخالنا النار التي يخزى من دخلها كما تقدم في الآية التي قبل ما قبل هذه.
ونقل الرازي عن حكماء الإسلام أن المراد بالخزي هنا العذاب الروحاني، لأنهم طلبوا الوقاية من النار من قبل وهو العذاب الجسماني، واستنبط من الابتداء بطلب النجاة من العذاب الجسماني، وجعل طلب النجاة من العذاب الروحاني آخرا وختاما أن العذاب الروحاني أشد. ويعنون بالعذاب الروحاني الحرمان من الرضوان الأكبر بكمال العرفان الإلهي الذي ذكره الله تعالى في قوله ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر ذلك هو الفوز العظيم ) [ التوبة : ٧٢ ] ولكن طلب النجاة من الخزي لا يدل على ما ذهبوا إليه. وأما كلمة ( إنك لا تخلف الميعاد ) فهي ثناء ختم به الدعاء. ولا شك أن الوعد يصيبهم إذا قاموا بما ترتب هو عليه من الإيمان والعمل الصالح فإن الوعد كما قال الرازي :" لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم بل إنما يتناولهم بحسب أوصافهم ".
وقد قال تعالى في الوعد بسيادة الدنيا ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) [ النور : ٥٥ ] الآية وقال فيه ( إن تنصروا الله ينصركم ) [ محمد : ٧ ] وقال في الوعد بسعادة الآخرة ( وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات ) [ التوبة : ٧٢ ] الآية وقد ذكرت كلها آنفا، وفي معناها آيات كثيرة ؛ فكل من الوعدين مترتب على الإيمان وعمل الصالحات، ولكن المحرفين لدين الله يجعلون كل جزاء حسن للأفراد بحسب ذواتهم أو ذوات غيرهم من الصالحين الذين يدعونهم ويتوسلون بهم.
أقول : وفيه وجه آخر، وهو أن كلا منهما صنو وزوج وشقيق للآخر. وفي معنى ذلك حديث " النساء شقائق الرجال " ١ قالوا : أي مثلهم في الطباع والأخلاق كأنهن مشتقات منهم ؛ أو لأنهن معهم من أصل واحد. ووجه ثالث : أنه بمعنى حديث " سلمان منا " وحديث " ليس منا من دعا إلى عصبية " فمعنى " منا " : على طريقتنا وما نحن عليه لا فرق بيننا وبينه. وهذه الآية ترفع قدر النساء المسلمات في أنفسهن عند الرجال المسلمين. ومن علم أن جميع الأمم كانت تهضم حق المرأة قبل الإسلام تعدها كالبهيمة المسخرة لمصلحة الرجل وشهوته وعلم أن بعض الأديان فضلت الرجل على المرأة بمجرد كونه ذكرا وكونها أنثى، وبعض الناس عد المرأة غير أهل للتكاليف الدينية، وزعموا أنها ليست لها روح خالدة، - من علم هذا قدر هذا الإصلاح الإسلامي لعقائد الأمم ومعاملاتها حق قدره، وتبين له أن ما تدعيه الإفرنج من السبق إلى الاعتراف بكرامة المرأة ومساواتها للرجل باطل. بل الإسلام السابق. وإن شرائعهم وتقاليدهم الدينية والمدنية لا تزال تميز الرجل على المرأة. نعم إن لهم أن يحتجوا على المسلمين بالتقصير في تعليم النساء وتربيتهن ؛ وجعلهن عارفات بما لهن وما عليهن ؛ ونحن نعترف بأننا مقصرون تاركون لهداية ديننا حتى صرنا حجة عليه عند الأجانب وفتنة لهم. وأما ما يفضل به الرجال النساء في الجملة من العلم والعقل وما يقومون به من الأعمال الدنيوية الذي ربما كان سببه ما جرى عليه الناس من أحوال الاجتماع، وكذا جعل حظ الرجل من الإرث مثل حظ الأنثيين لأنه يتحمل نفقتها ويكلف ما لا تكلفه، فلا دخل لشيء من ذلك في التفاضل عند الله تعالى في الثواب والعقاب والكرامة وضدها، بل سوى الله تعالى بين الزوجين حتى في الحقوق الاجتماعية إلا مسألة القيام والرياسة فجعل للرجال عليهن درجة كما تقدم في سورة البقرة.
الأستاذ الإمام : لم يكتف بربط الجزاء بالعمل حتى بيّن أن العمل هو الذي يستحقون به ما طلبوا من تكفير السيئات ودخول الجنة فقال ( فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم ) ذكر الإخراج من الديار بعد الهجرة من باب التفصيل بعد الإجمال فالهجرة إنما كانت وتكون بالإخراج من الديار، وتستتبع ما ذكر في قوله ( وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا ) من الإيذاء والقتال، وقرئ وقتلوا بتشديد التاء للمبالغة فمن لم يحتمل القتل بل والتقتيل في سبيل الله تعالى ويبذل مهجته لله عز وجل فلا يطمعن بهذه المثوبة المؤكدة في قوله ( لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ) ومثل هذه الآيات الكثيرة الواردة في صفات المؤمنين كقوله تعالى ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا ) [ الحجرات : ١٥ ] الخ وقوله ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) [ الأنفال : ٨ ] الخ وقوله ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) [ المؤمنون : ١ ] الآيات، وقوله ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) [ الفرقان : ٦٣ ] الآيات، وقوله ( إن الإنسان خلق هلوعا ) [ المعارج : ١٩ ] الآيات، وقوله ( العصر ) [ العصر : ١ ] الخ السورة وغير ذلك.
قال : هكذا يذكر الله تعالى صفات المؤمنين لينبهنا إلى أن نرجع إلى أنفسنا ونمتحنها بهذه الأعمال والصفات فإن رأيناها تحتمل الإيذاء في سبيل الله حتى القتل فلنبشرها بالصدق منها والرضوان منه تعالى وإلا فعلينا أن نسعى لتحصيل هذه المرتبة التي لا ينجى عنده غيرها. وإنما كلف الله المؤمنين الصادقين الموقنين المخلصين هذا التكليف الشاق لأن قيام الحق مرتبط به، وإنما سعادتهم- من حيث هم مؤمنون بقيام الحق وتأييده، والحق في كل زمان ومكان محتاج إلى أهله لينصروه على أهل الباطل الذين يقاومونه. والحق والباطل يتصارعان دائما ولكل منهما حزب ينصره فيجب على أنصار الحق أن لا يفشلوا ولا ينهزموا، بل عليهم أن يثبتوا ويصبروا، حتى تكون كلمته العليا، وكلمة الباطل هي السفلى، ( قال ) وانظر إلى حال المؤمنين اليوم تجدهم يتعللون بأن هذه الآيات نزلت في أناس مخصوصين كأنهم يترقبون أن يستجيب الله لهم ويعطيهم ما وعد المؤمنين من غير أن يقوموا بعمل مما أمر به المؤمنين ولا أن يتصفوا بوصف مما وصفهم به من حيث هم مؤمنون وما علق عليه وعده بمثوبتهم، بل وإن اتصفوا بضده وهو ما توعد عليه بالعذاب الشديد، وهذا منتهى الغرور.
وأقول : إن هذه الصفات تجتمع وتفترق، فمن المهاجرين من ترك وطنه مختارا ولم يخرج منه إخراجا، بل من الصحابة من هاجر مستخفيا لئلا يمنعه المشركون. ولكن قد يقال إنهم إذا لم يكونوا أمروهم بالهجرة أمرا. وأخرجوهم من ديارهم قسرا. فإنهم قد ضيقوا عليهم المسالك. حتى ألجؤوهم إلى ذلك. ومنهم من أوذي ولم يخرجه المشركون ولا مكنوه من الخروج. وراجع بعض الكلام في إيذاء مشركي مكة للمسلمين ( في ج ٣ تفسير ) وفي الحديث أن الهجرة دائمة لا تنقطع حتى تمنع التوبة أي إلى قبيل قيام الساعة.
وأما قوله " وقاتلوا وقتلوا " فقد قرأه حمزة بعكس الترتيب في اللفظ " وقتلوا وقاتلوا " وقالوا فيه إن الواو لا تفيد ترتيبا، ولأن المراد إن الكفار كانوا هم البادئين فلما قتل من المؤمنين أناس قاتلوا الكفار. وشدد ابن كثير وابن عامر تاء " قتلوا " للمبالغة كما جاء في كلام الأستاذ الإمام. وقد كان المشركون يقتلون كل من قدروا على قتله من المسلمين إلا أن يكون له من يمنعه من قريب وولي.
وقد راجعت بعد كتابة ما تقدم تفسير الفخر الرازي فإذا هو يقول : والمراد من قوله الذين هاجروا الذين اختاروا المهاجرة من أوطانهم في خدمة الرسول ( ص ). والمراد من الذين أخرجوا من ديارهم الذين ألجأهم الكفار إلى الخروج. ولا شك أن رتبة الأولين أفضل لأنهم اختاروا خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم وملازمته على الاختيار فكانوا أفضل. وقوله " وأوذوا في سبيلي " أي من أجله وسببه. وقاتلوا وقتلوا لأن المقاتلة تكون قبل القتال. قرأ نافع وعاصم وأبو عمرو وقاتلوا بالألف أولا وقتلوا مخففة والمعنى أنهم قاتلوا معه حتى قتلوا. وقرآ ابن كثير وابن عامر وقاتلوا أولا وقتلوا مشددة قيل التشديد للمبالغة وتكرر القتل فيهم كقوله " مفتحة لهم الأبواب " وقيل قطعوا، عن الحسن. وقرأ حمزة والكسائي وقتلوا بغير ألف أولا وقاتلوا بالألف بعده وفيه وجوه- الأول إن الواو لا توجب الترتيب كما في قوله " واسجدي واركعي " – والثاني على قولهم : قتلنا ورب الكعبة. إذا ظهرت أمارات القتل أو إذا قتل قومه وعشائره- والثالث بإضمار قد أي قتلوا وقد قاتلوا ا ه.
وأقول إن كلمة " وقاتلوا " رسمت في المصحف الإمام بغير ألف ككلمة " وقتلوا " والرازي لا يعني بقوله قرأ نافع... " قاتلوا " بالألف إن الكلمة رسمت أو ترسم بالألف في المصحف وإنما ذلك للتوضيح يعني قرؤوا بالفعل المشتق من المقاتلة والحكمة في اختلاف القراءات هنا إفادة المعاني المختلفة باختلافها ومثل هذا كثير.
أما قوله تعالى ( ثوابا من عند الله ) فمعناه لأكفرن عنهم سيئاتهم وأدخلنهم الجنات أثيبهم بذلك ثوابا من النوع العالي الكريم الذي عند الله لا يقدر عليه غيره.
والثواب اسم من مادة ثاب يثوب ثوبا أي رجع، يقال تفرق عنه أصحابه ثم ثابوا إليه وفي المجاز ثاب إليه عقله وحلمه إذا كان خرج عن مقتضى العقل والحلم بنحو غضب شديد ثم سكت عنه غضبه. ومنه جعل البيت الحرام مثابة للناس، فإنهم يعودون إليه بعد مفارقته، ولذلك قال الراغب : الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله فيسمى الجزاء ثوابا تصورا أنه هو هو، ألا ترى كيف جعل الله تعالى الجزاء نفس الفعل في قوله ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ) [ الزلزلة : ٧ ] ولم يقل جزاءه والثواب يقال في الخير والشر، لكن الأكثر المتعارف في الخير، وعلى هذا قوله عز وجل ( ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب ) ا ه المراد.
وأقول : إن لفظ الثواب والمثوبة حيث وقع وما في معناه من ذكر الجزاء بالعبارات التي تدل على أنه عين العمل كل ذلك يؤيد المسألة التي أخذنا على نفسنا إيضاحها وإثباتها وكررنا القول فيها بعبارات وأساليب كثيرة، وهي أن الجزاء أثر طبيعي للعمل أي إن للإعمال تأثيرا في نفس العالم تزكيا فتكون بها منعمة في الآخرة أو تدسيها فتكون معذبة فيها بحسب سنة الله تعالى، فكأن الأعمال نفسها تثوب وتعود، وليس أي الجزاء أمرا وضعيا كجزاء الحكام بحسب قوانينهم وشرائعهم. وقد أشار إلى هذا المعنى بعض المدققين من العلماء لا سيما الصوفية كالغزالي ومحيي الدين بن عربي. وإذا فقه الناس هذا المعنى زال غرورهم ولم يعتمدوا في أمر ما يرجون من نعيم الآخرة ويخشون من عذابها إلا على ما أرشدهم إليه كتاب الله من العمل الصالح دون أشخاص الصالحين وتسمية أنفسهم " محاسيب عليهم " ودعائهم والاستغاثة بهم.
وقال الإمام الرازي في المسألة الأولى من المسائل المتعلقة بالآية :" وفي الآية تنبيه على أن استجابة الدعاء مشروطة بهذه الأمور ( أي العمل الصالح مع المهاجرة واحتمال الإخراج من الوطن والإيذاء في سبيل الله أي سبيل الحق والخير والقتل والقتال فيه ) فلما كان حصول هذا الشرط عزيزا كان الشخص المجاب الدعاء عزيزا ".
وقال في المسألة الخامسة : اعلم أنه ليس المراد أنه لا يضيع نفس العمل، لأن العمل كما وجد تلاشى وفني. بل المراد إنه لا يضيع ثواب العمل، والإضاعة عبارة عن ترك الإثابة، فقوله " لا أضيع " نفي للنفي فيكون إثباتا فيصير المعنى إني أوصل ثواب جميع أعمالكم إليكم. إذا ثبت ما قلنا فالآية دالة على أن أحدا من المؤمنين لا ي
أقول : قد علم مما تقدم أن بعض المفسرين قالوا إن المراد بقوله تعالى في الآيات السابقة :( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ) ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر وأننا اخترنا أن المراد ذلك وما وعد من ثواب الآخرة. وعلى هذين القولين ربما يستبطئ بعض المؤمنين إيتاءهم الوعد المتعلق بالنصر والتغلب على الكافرين الظالمين كما يدل قوله تعالى :( حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ) [ البقرة : ٢١٤ ] فجاءه قوله تعالى :( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ).
( لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ) الآية تسلية لهم وبيانا لكون الإملاء للكافرين واستدراجهم لا يصح أن يكون مدعاة ليأس المؤمنين ولا حجة للمنافقين الذين قالوا عند الشدة :( ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) [ السجدة : ١٢ ] فهذا وجه في اتصال هذه الآية بما قبلها في ترتيب الآيات الشريفة.
وقال الإمام الرازي : اعلم أنه تعالى لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة والكفار كانوا في النعم، ذكر الله تعالى في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدة.
وقال الأستاذ الإمام : كان الكلام في أولي الألباب المؤمنين، وقد علمنا أن الله تعالى يستجيب لهم بالأعمال، فالعبرة بالعمل ومنه المهاجرة وتحمل الإيذاء في سبيل الله وبذل النفس في القتال حتى يقتلوا، وبذلك يستحقون ثواب الله تعالى. ثم ذكر حال الكافرين للمقابلة وربط الكلام بما قبله بالنهي عن الاغترار بما هم فيه من نعيم وتمتع، كأنه يقول : على المؤمن أن يجعل مرمى طرفه ذلك الثواب الذي وعدته فهو النعيم الحقيقي الباقي وهذا الذي فيه الكافرون متاع قليل فلا تطلبوه ولا تحفلوا به. يسهل بهذا المسلمين ما كلفوه من تحمل الإيذاء والعناء في إقامة الحق.
أقول : أما معنى الآية فهو : لا يغرنك أيها المخاطب المؤمن أو لا يغرنك يا محمد ( قولان ) تقلبهم، قالوا وما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هذا فالمراد به أمته، فروي عن قتادة أنه قال : والله ما غروا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى قبضه الله. ومعنى غره أصاب غرته فنال منه بالقول أو العمل شيئا مما يريد وهو غافل عن ذلك لم يفطن لما في باطن الشيء مما يخالف الظاهر. قال الراغب : والغرة ( بالكسر ) غفلة في اليقظة والغرار غفلة مع غفوة. وأصل ذلك من الغر ( بالفتح ) وهو الأثر الظاهر من الشيء ومنه غرة الفرس وغرار السيف أي حده. وغر الثواب أثر كسره وقيل : اطوه على غره، وغره كذا غرور كأنما طواه على غره ا ه. فالأظهر أن الغرور مأخوذ من الغرة ( بالكسر ) أي الغفلة ويقرب منه أو يتصل به أخذه من غر الثوب ( بالفتح ) وهو أثر طيه الذي يعبر عنه بالثني والكسر. وجمع الغر على غرور، قال في الأساس " واطوه على غروره أي مكاسره " والمراد اطوه على طياته الأولى ليبقى على ما كان عليه ومنه غرارة الصغار ( بالفتح ) أي سذاجتهم وقلة تجاربهم يُقال فتى غر وفتاة غر ( بالكسر ) وقيل إن الغرور مأخوذ من الغرار بالكسر وهو من السيف والسهم والرمح حدها قالوا غره أي خدعه وأطعمه بالباطل كأنه ذبحه بالغرار. وفيه مبالغة وبعد.
وحاصل معنى النهي عن الغرور : أن تقلب الذين كفروا في البلاد آمنين معتزين لا ينبغي أن يكون سببا لغرور المؤمن بحالهم وتوهمه أن هذا شيء يدوم لهم، فإن هذا من إبقاء الأشياء على ظاهرها من غير بحث عن أسبابها وعللها. والغوص على بواطنها ودخائلها. كما يطوى الثوب على غره وكما ينظر الغر إلى ظواهر الأشياء دون بواطنها. ومن اكتنه حالهم الاجتماعية علم أن تقلبهم في البلاد وتمتعهم بالأمن والنعمة فيها ليس قائما على أساس متين، ولا مرفوعا على ركن ركين. وإنما هو من قبيل حركة الاستمرار لمحرك من الباطل سابق لم يكن له معارض، فإذا عارضه ما عليه المؤمنون من الحق لا يلبث أن يزول بالنسبة إلى مجموعهم. وأما من يموت من أفرادهم على فراش نعيمه ولم ينسأ له في أجله إلى أن يظهر أمر المؤمنين فما يستقبله من عذاب الآخرة أعظم مما ناله من نعيم الدنيا. والنتيجة أن ذلك كما قال :( متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد ).
قيل : إن الآية نزلت في مشركي مكة إذ كانوا يضربون في الأرض يتجردون ويكسبون على حين لا يستطيع المسلمون ذلك لوقوف المشركين لهم بالمرصاد وإيقاعهم بهم أينما ثقفوهم، وعجز هؤلاء عن مقاومتهم إذا خرجوا من دارهم للتجارة وغير التجارة. ويروى أن بعض المؤمنين قال إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت الآية، وقال الفراء : كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت هذه الآية في ذلك.
( لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلا من عند الله ) قالوا إن بيان النزل ما يهيأ للضيف النازل وقيل : أول ما يهيأ له وخصه الراغب بالزاد. قال الفراء نصب " نزلا " على التفسير كما تقول : هو لك هبة وبيعا وصدقة. وإذا كانت الجنات نزلا وهي النعيم الجسماني فلا جرم يكون التعميم الروحاني رضوان الله الأكبر أعظم من الجنة ونعيمها أضعافا مضاعفة. وقد وعدهم هذا الجزاء على التقوى التي يتضمن معناها ترك المعاصي وفعل الطاعات. ثم أشار إلى أن النعيم الروحاني يكون بمحض الفضل والإحسان للأبرار فقال :( وما عند الله ) من الكرامة الزائدة على هذا النزل الذي هو بعض ما عنده وأول ما يقدمه لعباده المتقين ( خير للأبرار ) وأفضل مما يتقلب فيه الذين كفروا من متاع فان، بل ومما يحظى به المتقون من نزل الجنان. وهذا الذي قلناه أولى من القول بأن ما عند الله للأبرار هو عين ذلك النزل الذي قال إنه من عنده، لأن نكتة وضع المظهر وهو قوله تعالى :( وما عند الله ) موضع المضمر الذي كان ينبغي أن يعبر به لو كان هذا عين ذاك تظهر على هذا ظهورا لا تكلف فيه. وبه ينجلي الفرق بين الذين اتقوا وبين الأبرار، فإن الأبرار جمع بار أو بر وهو المتصف بالبر الذي بيّنه الله تعالى في سورة البقرة بقوله :( ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر ) [ البقرة : ١٧٥ ] وقد أشرنا إليه في آيات الدعاء القريبة ( راجعه ثانية في ج ٢ تفسير ) فشرح البر بما ذكر في تلك الآية يؤيد ما ذكره الراغب من أنه مشتق من البر ( بالفتح ) المقابل للبحر وأنه يقيد التوسع في فعل الخير فهو إذا أدل على الكمال من التقوى التي هي عبارة عن ترك أسباب السخط والعقوبة، وتحصل بترك المحرمات وفعل الفرائض من غير توسع في نوافل الخيرات. وذكر جزاء المؤمنين بقسميهم – الذين اتقوا والأبرار – بلفظ الاستدراك للتنصيص على ما ذكرناه من المقابلة بينهم وبين الذين كفروا كما قلنا.
ونقول إنها تشمل النجاشي وغيره من اليهود والنصارى الذين صدق عليهم ما فيها من الصفات، وكذا المجوس على القول بأنهم أهل كتاب كما روي عن علي رضي الله عنه، ولكن لا نعرف أحدا منهم أسلم في عهد التنزيل إلا سلمان الفارسي رضي الله عنه، على أنه كان قد تنصر قبل إسلامه. ثم راجعت الرازي فإذا هو يقول : واختلفوا في نزولها فقال ابن عباس وجابر وقتادة نزلت في النجاشي حين مات وصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال المنافقون إنه يصلي على نصراني لم يره قط. وقال ابن جريج وابن زيد نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل نزلت في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فأسلموا. وقال مجاهد نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم، وهذا هو الأولى لأنه لما ذكر الكفار بأن مصيرهم إلى العقاب بين فيمن آمن منهم بأن مصيرهم إلى الثواب ا ه.
وقال الأستاذ الإمام : إنه بعد أن بيّن حال المؤمنين وما أعد لهم من الثواب، وذكر حال الكافرين وما أعدّ لهم من العقاب، ذكر فريقا من أهل الكتاب، يهتدون بهذا القرآن، وكانوا مهتدين من قبله ما عندهم من هدى الأنبياء، وذكر من وصفهم الخشوع لله، وما كل من يدعي الإيمان بالكتاب خاشع لله. وهذا الخشوع هو روح الدين وهو السائق لهم إلى الإيمان بالنبي الجديد، وهو الذي حال بينهم وبين أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا. وهذا الثمن يعم المال والجاه ؛ فإن منه التمتع بما كانوا فيه من ذلك وإن صعبا على الإنسان أن يترك ما ألفه. وخص هؤلاء بالذكر على كونهم من المؤمنين الذين وعدوا بما تقدم ذكره في مقابلة الكافرين لأجل القدوة بهم في صبرهم على الحق في الدين السابق والدين اللاحق. وذكر إيمانهم بصيغة التأكيد لأن أهل الكتاب- بغرورهم بكتابهم وتوهمهم الاستغناء بما عندهم من غيره كانوا أبعد الناس على الإيمان وكان من الغرابة بعد ذلك العناد ومكابرة النبي صلى الله عليه وسلم وحسده على النبوة والتشديد في إيذائه أن يؤمن بعضهم إيمانا صحيحا كاملا. ولهذا كان المؤمنون منهم قليلين وكانوا من خيارهم علما وفضلا وبصيرة. وإننا نرى علماءنا الأذكياء في هذا العصر قلما يرجعون عن عقيدة أو رأي في الدين جروا عليه وتلقوه عن مشايخهم وقرؤوه في كتبهم، وإن كان باطلا وخطأ ظاهرا.
وفي هذه الآية تأييد لكون حال المؤمنين على ما كانوا عليه من ضيق خيرا من حال الكافرين على ما كانوا عليه من سعة، كأنه يقول انظروا إلى حال الأخيار من أهل الكتاب كيف لا يحفلون بذلك المتاع الدنيوي. بل يؤثرون عليه ما عند الله تعالى. فهذا من باب المثل والأسوة للمسلمين.
أقول : وصفهم بخمس صفات :
إحداها : الإيمان بالله، يعني الإيمان الصحيح الذي لا تشوبه نزعات الشرك ولا يفارقه الإذعان الباعث على العمل، لا كمن قال فيهم ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقرة : ٨ ] ولا من قال فيهم :( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) [ يوسف : ١٠٦ ].
ثانيها : الإيمان بما أنزل إلى المسلمين وهو ما أوحاه الله إلى نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقدمه على ما بعده لأنه العمدة الذي عليه العمل وله الهيمنة والحكم الفصل في الخلاف لثبوته باليقين ؛ وعدم طروء الضياع عليه والتحريف.
ثالثها : ما أنزل إليهم وهو ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائهم. ولا ينافي ذلك ضياع بعض ونسيان بعض وطروء التحريف بالترجمة والنقل بالمعنى على البعض الآخر، فإن المراد هو الإيمان به إجمالا واتباع ما أرشد إليه القرآن فيه تفصيلا، والقرآن هو العمدة فلا يعتد بإيمان من خالفه بعد العلم به على ما سيأتي قريبا. وقد تقدم بيان حكم القرآن في التوراة والإنجيل في تفسير الآية الأولى من هذه السورة فراجعه ( ج ٣ تفسير ).
رابعها : الخشوع وهو ثمرة الإيمان الصحيح الذي يعين على اتباع ما يقتضيه الإيمان من العمل. فالخشوع أثر خشية الله تعالى في القلب تفيض على الجوراح والمشاعر فيخشع البصر بالسكون والانكسار، ويخشع الصوت بالمخافتة والتهدج، كما يخشع غيرهما.
خامسها : وهي أثر لما قبله، عدم اشتراء شيء من متاع الدنيا بآيات الله كما هو فاش في أصحاب الإيمان التقليدي الجنسي من علماء ملتهم، ويقع مثله من أمثالهم في سائر الملل، وقد تقدم بيانه في هذه السورة وما قبلها.
قال تعالى :( أولئك لهم أجرهم عند ربهم ) أي أولئك المتصفون بما ذكر من الصفات لهم أجرهم اللائق بهم عند ربهم الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الحق، أي في دار الرضوان التي نسبها الرب عز وجل إليه تشريفا لها ولأهلها. بخلاف الذين ليس لهم مثل هذه الصفات من أهل الكتاب المغرورين بأنفسهم وسلفهم عنادا حملهم على كتمان الحق الذي هو نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون أنه الحق. فأولئك هم الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار، فإن كل من بلغته دعوة محمد صلى الله عليه وسلم وظهرت له حقيتها كما ظهرت لهم وجحد وعاند كما جحدوا وعاندوا فلا يعتد بإيمانه بالأنبياء السابقين وكتبهم. ولا يكون إيمانه بالله تعالى إيمانا صحيحا مقرونا بالخشية والخشوع، ولذلك لا يخشاه في مكابرة الحق والإصرار على الباطل. ولا ينافي هذا ما في آية :( إن الذين آمنوا والذين هادوا ) [ البقرة : ٦٢ ] من الإطلاق لأن تلك الآية فيمن لم تبلغهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على حقيقتها ولم تظهر لهم حقيتها كالذين كانوا قبله.
( فإن الله سريع الحساب ) يحاسب الخلق كلهم في وقت واحد قصير بما يكشف لهم من تأثير أعمالهم في نفوسهم، بحيث يتمثل لهم فيها كل عمل سبق منهم كالصور المتحركة التي تمثل الوقائع في هذا العصر. وقد سبق تقرير ذلك.
ثم ختم سبحانه السورة بهذه الوصية للمؤمنين لأنها هي التي تتحقق بها استجابة ذلك الدعاء وإيفاء الوعد بالنصر في الدنيا وحسن الجزاء في الآخرة فقال :( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ).
أقول : فالمصابرة والمرابطة وهي الرباط بمعنى مباراة الأعداء ومغالبتهم في الصبر وفي ربط الخيل كما قال :( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ) [ الأنفال : ٦٠ ] على الأصل الذي قرره الإسلام من مقاتلتهم بمثل ما يقاتلوننا به. فيدخل في ذلك مباراتهم في هذا العصر بعمل البنادق والمدافع والسفن والآلات البحرية والبرية والهوائية، وغير ذلك من الفنون والعدد العسكرية، ويتوقف ذلك كله على البراعة في العلوم الرياضية والطبيعية، فهي واجبة على المسلمين في هذا العصر لأن الواجب من الاستعداد العسكري لا يتم إلا بها. وقد أطلق لفظ المرابطة عند المسلمين على الإقامة في ثغور البلاد وهي مداخلها على حدود المحاربين لأجل الدفاع عنها إذا هاجمها الأعداء فإن هؤلاء يقيمون فيها ويقومون في أثناء ذلك بربط خيولهم وخدمتها وغير ذلك مما يحتاج إليه من الاستعداد.
وقال الأستاذ الإمام في الوصية بالتقوى : يكثر الله تعالى من هذه الوصية ومع ذلك نرى الناس قد انصرفوا عنها بتة حتى صار التقي عند الناس هو الأهبل الذي لا يعقل مصلحته ولا مصلحة الناس. ولا شيء أشأم على التقوى من فهمها بهذا المعنى.
التقوى أن تقي نفسك من الله أي من غضبه وسخطه وعقوبته، ولا يمكن هذا إلا بعد معرفته ومعرفة ما يرضيه وما يسخطه. ولا يعرف هذا إلا من فهم كتاب الله تعالى وعرف سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وسيرة سلف الأمة الصالح، مطالبا نفسه بالاهتداء بذلك كله. فمن صبر وصابر ورابط لأجل حماية الحق وأهله، ونشر دعوته، واتقى ربه في سائر شؤونه، فقد أعد نفسه بذلك للفلاح والفوز بالسعادة عند الله تعالى.
وأقول : إن الفلاح هو الفوز والظفر بالبغية المقصودة من العمل، وقد يكون ذلك خاصا بالدنيا كما في قوله تعالى حكاية عن فرعون :( وقد أفلح اليوم من استعلى ) [ طه : ٦٤ ] وقد يكون خاصا بالآخرة كقوله حكاية عن أهل الكهف :( ولن تفلحوا إذا أبدا ) [ الكهف : ٢٠ ] ويكون مشتركا بين الدارين. وعندي أن أكثر وعد القرآن المؤمنين من هذا النوع. وإرادة الفلاح الدنيوي من الآية التي نفسرها ظاهرة، فإن الصبر ومصابرة الأعداء والمرابطة والتقوى كلها من أسباب الفوز على الأعداء في الدنيا، كما أنها مع حسن النية وقصد إقامة الحق والعدل- الذي هو شأن المؤمن- من أسباب سعادة الآخرة. وهذه الأعمال كلها اختيارية داخلة في مقدور الإنسان. ولذلك أمر بها فعمله إذا هو سبب فلاحه.
فنسأل الله تعالى أن ينيلنا ما أرشدنا إليه وأقدرنا على أسبابه من سعادة الدارين.